الواضح في أصول الفقه

فصل
يجوز تقديمُ الأمرِ على وَقتِ الفعلِ
خلافاً لبعضِ المتكلَمين [القائلين] (1): لا تكونُ صيغةُ الأمر قبلَ وقتِ الفعل أمراً، بل تكونُ إعلاماً (2).

فصل
يجمع أدلّتنا
فمنها: أنه لا يُنكِر أحدٌ من أهلِ اللغة قولَ القائلِ لِعبده: سافِر في غَدٍ، وائتني بالطعام عشيةً. ولا يُنكرُ أن يقولَ: أمرتُ عبْدي بكذا في غدٍ. وقول العبد: أمرني سَيدي أن أفعل ذلك غداً.
فهدْا في الأمرِ في الشاهدِ، وأمرُ الله سبحانه بالمشيء قبلَ وقته ظاهرٌ في كتابه، قال سبحانه: {فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ} [محمد: 4]، {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فهذه كلُّها أوامرُ بأفعال مُستقبلة.

فصل
[جامع] (3) لشُبَههم
قالوا: إذا تقدمت صيغةُ الأمرِ على وقتِ الفعل، كانت إشعاراً وإعلاما، ولا يكونُ أمراً، ويكون تقديرُ قولِ القائل: افعل في غدٍ كذا: سآمرمك غداً أن تَفعل كذا.
فيقالُ: الإعلامُ إنما هو صيغةُ إخبارٍ، مثل قوله سبحانه إخباراً عن إبراهيم:
__________
(1) ليست في الأصل، وأثبتت لاستقامة العبارة.
(2) انظر "العدة"2/ 401 - 402.
(3) ليست في الأصل، وأثبتت لاستقامة العبارة.

(3/198)


{إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى} [الصافات: 102]، هذا إشِعارٌ، فأما: افعلْ كذا غداً، فهو صيغةُ الأمرِ، وإذا وُجِدَتْ صيغةُ الأمرِ من الأعلى للأدنى، فلا وجه لِقولنا: إنها إشعار على أنَ الإشعارَ مُنْدرجٌ فيها، وكُلُّ استدعاءٍ بالفعلِ، فهو إشعارٌ لِصاحبه بأنه مُستدعى منه ذلك (1) الفعل.
ومنها: أنَّ تقديمَ الأمرِ قبل وقت الفعل يُعطي الإعلامَ بأنه سَيبقى إلى ذلكَ الوقتِ، فلو قال له في رجب: صُمْ شهرَ رمضان، اندرجَ في أمره علمُه بأنَّ تلكَ المدة مِن عُمره، وإذا عَلِمَ حياتَه من جهةِ الله سُبحانه هذه المدَّة، ففي (2) إعلامِه بالإبقاء هذه المدَّة مفسدتان كبيرتان (3 [أولاهما: الإغراء بارتكاب المعصية، والثانية: تسويف التوبة] 3).

فصل
في الأجوبة عن شُبَههم
فمنها: أنه غيرُ ممتنع أن يقعَ الإعلامُ في طيِّ الأمر كما إذا أمره في وقتِ الفعل بصلاةِ الركعاتِ المتضمنة لأوقات تَتَراخى عن الأمرِ وقتَ الأمر.
ومنها: أنَ دعوى المفسدتين؛ الإغراء والتسويف باطلةٌ (4)، بل فيه مصلحتان بطاعتين يُتَلقى بهما الأمر العزم والاعتقاد، وَيَمْتدانِ إلى حين الفعل، والإغراءُ إن كان حاصلاً بالأمرِ المتقدم، فيجبُ أن لا يخاطَب بعبادةٍ تمتد، كصيامِ شهرين متتابعين في الكفارة؛ ولأنَ صومَ شهرِ رمضان في أصلِ الفريضة، فلما جازَ الأمرُ بعملٍ يطولُ ويقصر بَطَلَ ما عوَّلوا عليه من ذَريعةِ الإغراء بالمعصية، والتسويفِ بالتوبة؛ ولأنَّ
__________
(1) عرفت في الأصل إلى:"دليل".
(2) في الأصل: "وفي"، والفاء أنسب لاستقامة العبارة.
(3 - 3) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مقدرحسب المعنى.
(4) في الأصل: (باطلٌ) والجادة ما أثبتناه.

(3/199)


فيما وضعه الله، وشَرَعه مِن الزجرِ عن المعاصي بالحدودِ في الدنيا، والوعيدِ بعذاب الآخرةِ، والترغيبِ في تركها بالثوابِ الدائم، كفايةً (1) عن كتمِ الأجلِ وإبهامِ مُدَّة العمر.
ومنها: أنه لو كان علمُ (2) ما يدفع التَسويف واجباً فِعلُه بالمكلَّف، لوجبَ أن لا يعلَمَ ولا يشعرَ بقبول التَّوبة؛ لان الثِّقةَ بقبولها إغراء بالمعاصي، فإنَ من كان دأبُه قبولَ العُذر وغُفرانَ الجُرْمِ لمكانِ الاعتذار، أغْرى الناسَ بالإساءة إليه.

فصل
ويجوزُ أن يامر اللهُ بعبادةٍ في وَقتٍ مُستقبل، ويُعلِمَ المكلفَ المأمورَ بها بذلك قبلَ مجيءِ الوقتِ.
خلافاً للمعتزلة في قَولهم: لا يجوزُ أن يُعلِمَه بذلكَ قبل مجيء الوقت (3).

فصل
في دَلائلنا
فمنها: أنَ المصلحةَ تكون في إعلامهم ذلك (4 [لكي يتوب المسيء إليه، وإن صحة المشيئة المطلقة] 4) لا يمتنعُ معها ذلك، كما لم يمتنع تعليقها على شروطٍ وإعلامُه بتلك الشروط.
ومنها: ان المطلقَ من الأمر أضعفُ، والمعين (5) بوقتٍ آكَدُ، ولهذا لو أمرَ عبدَه أمراً مُطلقاً، لم يَحسُن لومُه وعِتَابُه على تَركِه في وقتٍ، ولو عَيّنَهُ بوقتٍ حَسُنَ تأديبه
__________
(1) في الأصل: "وكفاية"، والصواب ما أثبتناه.
(2) في الأصل: "على"، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3) انظر "المعتمد" 1/ 166، و"العدة" 2/ 403.
(4 - 4) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مقدربحسب المعنى.
(5) تحرفت في الأصل إلى:" المعنى".

(3/200)


على تركِه في ذلك الوقتِ.
فإذا جازَ الأمرُ المطلقُ، فا لمعلق أولى أن يجوز.

فصل
في شُبهةِ المخالف
وهي المتقدمةُ في الفصل الذي قبله (1)، وقد سبق الجوابُ عنها بما فيه كِفاية.

فصل
ذَكَرَ أصحابُنا أنه يجوز أن يقال: إن بعضَ الواجبات أوجبُ من بعضٍ، ونَصَر ذلك شيخُنا الإمامُ أبو يَعلى ابن الفَرّاء (2) رضي الله عنه، وبَناه على ما نَصره من الروايةِ عن أحمدَ كرَّمَ اللهُ وجهه، أنَ الفرضَ أعلى مِن الواجب (3).
وقد نصرتُ أنا: أنَ الفرضَ والواجبَ سَواء.
ومذهبُ شَيخنا رضي الله عنه قال [به] (4) أصحابُ أبي حنيفة حيث وافقونا في رواية. إن الفرضَ آكدُ من الواجب.
وظاهرُ مذهب أصحابِ الشافعي أن الوجوبَ لا يَتفاضل، حيث قالوا: إنَ الفرضَ والواجبَ سواء (5).
__________
(1) يقصد بالفصل المتقدم أنه يجوزتقديم الأمر على وقتِ الفعل، وقد سبق فيه بيانُ شُبهةِ المخالف ودفعها. انظر الصفحة 198 - 199.
(2) تقدمت ترجمته في الصفحة (277) من الجزء الأول.
(3) انظر "العدة" 2/ 404 - 405.
(4) ليست في الأصل ولا بد منها لاستقامة العبارة.
(5) تقدمَ تفصيل المسألة وبيانُ الآراء فيها في الصفحة (163) من هذا الجز.

(3/201)


فصل
والذي لحظتُه من هذه المسألةِ: أن القائلَ بتفاضلِ الوجوب، إنما سلكَ خلافاً في عبارة، وإلا فنفسُ ما أرادَ بقوله: أوجب. يقتضى موافقتنا في المعنى (1)، فإنهم وافقوا في أنَ الواجبَ استدعاءُ الأعلى مِن الأدنى على وجهِ الحتمِ والتضييقِ، ورسموه بأنه ما عوقب على تركِه، وهذا أمر لا يقبل التزايدَ والتفاضلَ، وإلا فما هو إلا بمثابةِ قولنا: سائغ وجائز ولازم، وفي الخبر صادق وكاذبٌ، وفي الصفات: عالم، فإن ذلك كُله لما انتظمه حد واحدٌ، فكان حقيقة واحدةً، لا يقال: أعلمُ، وأصدقُ، وأكذبُ، فكما لا يمكنُ أن تكون معرفةُ المعلوم على ما هو به، والخبرُ بالأمرِ على ما هو به أمراً يتزايدُ، كذلك الاستدعاءُ المضيقُ المحتومُ لا يقبل التزايدَ، وقد صرَّحوا بأنهم لا يريدون بقولهم: أوجبُ. إلا أنَ العِقابَ على تركه أشد، وهذا أمر يرجعُ إلى المقابلةِ، وذلك لا يُعطي تزايدَ الشيءِ في نفسه، بدليلِ أنَ بعضَ المخبرين إذا أخبرَ بقدومِ ولدٍ كان غائباً، واَخر أخبر بمولدِ ولدٍ كان حَمْلاً، وكان العطاءُ والمنحةُ على أحدهما أوفى بحسب بِشْرِ المُخبَرِ بذلك، لم يَجُز أن يقال: إن أحدَهما أخبرُ من الآخر ولا أصدقُ،
__________
(1) بذلك ينتهي المصنف إلى أن من فرَّقَ بين الفَرضِ والواجبِ، ومن ساوى بينهما، متفقون انتهاء على أنَ الأوامرَ الملزمة ليست على درجةٍ واحدة من حيث الثواب، فالاختلاف بين الفريقين مجردُ اختلاف في التسمية، ولا مُشاحَّة في الاصطلاح.
إلأ أنَه يؤخذ على ابن عقيل في ذلك: أنَ أثر الاختلاف بين الفرضِ والواجبِ ليس مقصوراً على زيادةِ ثوابِ الفرضِ على ثوابِ الواجبِ، بل هناك آثار أُخرى ذكرها الحنفية، منها: أنَ المكلف إذا ترك فرضاً كالركوع والسجود في الصلاة بطلت صلاته، ولا يسقط في عمد ولا سهو, ولا تبرأ الذمة إلا بالإعادة. أما إذا تركَ واجبٌ فإنَ عمله صحيح، ولكنه ناقص يحتاج إلى تَتْميم، كاشتراط الطهار في الطوافِ، فإئه واجبٌ لا فرض، فإذا لم تتحقق الطهارةُ أثناءَ الطوافِ، فلا يكون الطوافُ فاسداً، وإنما هو ناقصٌ، وتكملته إما بإعادتِه طاهراً، إذا كان بمكة، أو يَجبر النقصان بالدَّمِ، إذا رَجع إلى أهله.
انظر"أُصول السرخسي" 1/ 111 - 113.

(3/202)


وكذلك العلمُ بالله سبحانه أكثرُ ثواباَ من العلم بأن أبا بكرِ كان الخليفة بعدَ رسولِ الله بطريق استحق به الخلافة، والعقابُ على جحد الصانع أكبرُ مِن العقابِ على جحدِ خلافةِ أبي بكر ولا يقال: إنَ العالِمَ بالصانع أعلمُ من [العالمِ] أن أبا بكر كان الخليفةَ،. وإذا كان القائلون بذلك لم يُفسروا قولهم: أوجب، إلا أن الثوابَ عليه أكثر، حصل الوفاقُ منهم فيما أردنا، وأن الواجبَ حقيقة لا تتزايدُ، والوجوبُ أمر لا يقبل الزيادةَ في نفسه من حيث كونُهُ استدعاء مخصوصاً من شخص مخصوص (1 [بل تتزايد المقابلة] 1)، فلا نُنكرُ أنَ المقابلةَ على الإيمانِ بالله بالثوابِ تتضاعفُ على المقابلةِ على فعلِ الصلاة، وأن المقابلةَ بالعقابِ على تركِ الصلاة لا تَبلغُ مبلغ العقابِ على تركِ الاعتقادِ، فلا طائلَ في الاختلافِ في العباراتِ مع الاتفاقِ في المعنى، وما صار ذلك إلا بمثابةِ من قال: إن زيداً أعلمُ من عمروٍ بالنَّسبِ أو النحوِ ... لا يكونُ (2) إلا مرفوعاَ، والمفْعولَ مَنْصوباً أوفى من علمِ عمروٍ به؟ وأنَ علمَ زيدٍ بالماءِ النجس لا يزيلُ نجساَ ولا حَدثاَ أوفى مِن علمِ عمرو به؟ فقال: لا بَل أُريدُ أن زيداً يَعلمُ من أنساب العربِ ودقيقِ النحوِ وغرائبِ مسائله، ومِن مسائل الفِقه أوفى مما (3) يعلم عمرو, وأنَ الملَك يقابله على علمِه بأوفى جائزةِ من عمرو.
قلنا: قد وافقتَ فيما أردنا، وفيما عليه أجمعنا، فلا نَمنعُ من تفسير قولك: أعلمُ، مِن المجازِ والاستعارةِ بما أردت.
__________
(1 - 1) طمسٌ في الأصل، وما بين معقوفين مقدرحسب المعنى.
(2) العبارة هنا غيرسليمة، ولعل الناسخ أسقط بعضها، ويظهر أن تقديرها كالآتي:"وما صار ذلك إلّا بمثابة من قال: إن زيداً أعلم من عمرو بالنسب أو النحو أو الفقه، فيقال له: أتريد أن علم زيد بأن الفاعل لا يكون إلّا مرفوعاً .. " والله أعلم.
(3) في الأصل: "ما"، والمثبت هو الصواب.

(3/203)


فصل
في إيرادِ ما يجوزُ أن يتعلَّقَ به في ذلك
وهو أن كثرةَ الثوابِ من الله، والمجازاةِ من الآدمي على امتثالِ بعض الأوامر، وشدَّة (1) العقاب على تركه، مما يُستدلّ به على قوة عناية الآمرِ به، وشدة حثّه عليه، وفي حقّ الآدمي يدلُ على توفير دَواعيه إلى إيقاعه، فإذا كان دليلاً على ذلك، وكان الاستدعاءُ بحسب حال المستدعي وشدّةِ إيثاره، دَل ذلك على أن الاستدعاءَآكدُ وأحثُّ من الأشَد ألماً (2 [أوعقوبة على فعله والإتيان به، وخفَّت عقوبت] 2) على تركه له، وهذا معلومٌ فيما بيننا، فيصيرُ من باب قولنا: أحبُّ وأحسنُ وأبغضُ وأقبحُ، ولا خلافَ أنه يَحسُنُ أنْ يقال: ألظلمُ أقبحُ من الرَّبا، حيث كان القَهرُ، والغصْبُ أخذُ مالِ الغيرِ على سخطٍ منه، وإيلام وإيجاع لقلبه، وأخذُ الربا أخذُ ماله باختيارٍ منه، والشركُ بالله تعالى أقبحُ من عقوقِ الوالدين وأفحشُ. ويجوز أن يستدلَّ على ذلك؛ بأنَّ العقابَ على هذا (3) التخليد، والعقابَ على ذلك (4) مُنقطع، والزنى في حقِّ المحصَنِ أعظمُ جريمةً من السرقة، حيثُ كان حدُّ هذا قطعَ جارحةٍ، وعقوبةُ ذاكَ إزهاقَ النفس بأوجعِ فعلٍ وآلةٍ.
هذا جميعهُ لا يُعطي التزايدَ في نفسِ الاستدعاء؛ لأنه إذاً لم يقبَّحْ في الإخلال بواحدٍ منهما، ولا يُعاقَب على الإخلال بكلّ واحدِ منهما، وكان سُبحانه لو رفع العقابَ رأساً والثوابَ لما ارتفع صحة قوله: أوجبتُ وحَتَّمْتُ، وصحَ أن نَقولَ: الاستدعاءُ بنفسه حقيقةٌ معقولةٌ، وكذلك تزايدُ المقابلةِ لا يَدُلّ على قوة الاستدعاءِ.
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "شد".
(2 - 2) طمسٌ في الأصل، وما بين معقوفين مقدرحسب المعنى.
(3) يقصد الشركَ بالله.
(4) يعني عقوق الوالدين.

(3/204)


وقد تعلّق بَعضهم بأنَ معنى أوجب، أن يكونَ: لا يتم (1) فعلُ أحدِ الواجبين، إلا بأن يتقدمه فرائضُ قبلَه، مثل تقدمِ وجوبِ النظرِ والاستدلالِ على المعرفةِ بالله سبحانه، بخلافِ فروعِ الإيمانِ وفرائضه، وهذا ليس بصحيحٍ؛ لأنَ كونَ أحدِ المأمورين أكبرَ عناءً، وأشقَ تحصيلاً يُعظِمُ وجوبَ غيرِه مع وجوبِه، وذلك لا يرجعُ إلى تعلقه، كما أنَ بعض المعلوماتِ تحتاجُ في حصولِ العلم بها إلى مقدمات يشق تحصيلها، وإذا انتهينا إلى العلمِ من حيث تعلقُه بالمعلومِ على ما هو به، تساوت فيه العلومُ وانطبقَ عليه حد واحد حتى شمل الشاهدَ والغائبَ، وجميعُ ما تعلقوا به في ذلك يرجعُ إلى ما وراءَ الحقيقةِ، وذلك لا يُعطي صحةَ دخولِ لفظة: أفعل، ألا ترى أن من كَذبَ على اللهِ وعلى رسوله كان آكدَ عقاباً، وأكبرَ مأثماً ممن كذبَ على أبيه أو صديقهِ أو عَدُوَّه، ثم لا يقال: إنه أكذب فيما أخبر به من الخبرِ الذي وقع منه على خلافِ مخبَره، وكذلكَ من صدق رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فيما أخبرَ به عنِ الله كان أكثرَ ثواباً ممّن صدق أبا هريرة في حديث غسل اليدين عند القيامِ من نوم الليل قبل غَمسِهما (2). ولا يقالُ: أحدُهما آكد تصديقاً.

فصل
مُفيد في بيانِ أمثالِ هذا الفصل، يَستريح بمعرفته المناظِرُ من كدّ المخالفةِ
والمقاولةِ، استفدناه من مشايخِ عصرِنا الذين لازمنا مجالسَهم.
وهو: أنَ المسألةَ الجاريةَ يجبُ أن يُحقَقَ مرادُ المفتي فيها، فإن وقَع للمجتهد الآخرِ ما وقع للمفتي الأولِ من المعنى؛ استراحا من الجدالِ، وإن خالفَه في اللفظِ
__________
(1) مكررة في الأصل.
(2) في الأصل: "غسلهما" ولعل الصواب ما أثبتناه، والمصنف يعني حديث أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "إذا استيقظ أحدكم في منامه، فلا يغمسَنَ يدَه في إنائه حتى يغسلها، فإنَه لا يدري أينَ باتت يدُه". تقدم تخريجه في 2/ 37.

(3/205)


دون المعنى؛ اجتهدَ في حصولِ الموافقةِ في اللفظ الذي لا يكونُ فيه إبْهام ولا ترددٌ، فأكثرُ ما يجيء الخلافُ بين المتفقين في المعنى من جهة تعلّقِ أحدِهما بلفظٍ متردد وتعلّقِ الآخر بلفظ خاص (1 [غير مشترك يقع به الوهم] 1).
مثال ذلك: أن القائل: أبو ذَر أصدق أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والماءُ أطهرُ من الخل، والوترُ أسنُّ من ركعتي الفجر، والجبالُ أسكنُ من الأرض، والثلجُ أروى من الماء، ومُسيلمةُ أكذبُ من جميع العرب، وإلى ما شاكلَ ذلك، فلا يزال الجدالُ بينهما حتى ينتهيَ النظرُ منهما إلى غايةٍ وهو أن تقول: ماذا تريدُ بقولك: أفعل؟ وهل هو مثل قولك: الخل أحمض من غيره؟ فإن قال: نعم، ذاك أريد. قال له: فأصْدَقُ وأطْهَرُ لا يتحقق فيه التزايد؛ لأن الصدقَ، الخبر المطابقُ لمخبَره، فحين زادَ أو نقصَ خرجَ عن أن يكون صدقاً، وكذلك قولُنا: طاهرٌ، والذي ليس فيه منع من الصلاةِ معه، ولا يجب تجنبه، والخل والماءُ لا يتفاضلان، والكذبُ: الخبرُ عن الشيء على خلافِ ما هو عليه، ومسيلمةُ وغيره في ذلك سواء، فتضطره إلى أن يقول: إنما أردنا بأصدَق: أنه أكثر صدقاً، وأكذبَ بمعنى: أكثر كذباً، فيزولَ الخلافُ، فالعاقلُ من أراح نفسَه عن هذا من أول وهلاتِ السؤال والجوابِ، فتقول: ما معنى قولك: أصدقُ، وأطهرُ، وأوجبُ، وأعلمُ؛ فإذا قال (2): ما يعطي التزايد في غير التعلّق، زال الخلافُ، فاهتمَ بذلك تَسْترح (3) من كثيرٍ من الجدالِ مع غير أربابِ التحقيق.

فصل
في الزائد على ما يتناوله المأموربه
كتطويلِ الركوعِ والقراءةِ، هل يكونُ حكمُه حكمَ الأصل؛ أو يكونُ له حكمُ النَفل؟
الذي إختاره شَيخنا رضي الله عنه -وهو الصحيحُ عندي- أن الزيادةَ نافلة،
__________
(1 - 1) طمس في الأصل، وما بين معقوفين مقدرحسب المعنى.
(2) مكررة في الأصل.
(3) في الأصل: "تستريح" والجادة ما أثبتناه.

(3/206)


سواء كان المأمورُ به واجباً أو سنة، وبهذا المذهب قال أصحابُ الشافعي (1)، وأبو عبد الله الجُرجاني (2) من أصحاب أبي حنيفة، وأبو بكر الباقلاني، وذهب أبو الحسنِ الكرخي (3) إلى أنَ جميعه على حكم الأصلِ من الوجوبِ والسنةِ (4).
وقد خرجَ شيخُنا الإمامُ -رضي الله عنه- من كلامِ أحمدَ ما ذكر أنه يعطي مذهبَ أبي الحسن، وأنَ (5) الزيادة كالمزيد، فقال: لأنه استحب للإمام أن ينتظر على المأمومِ في الركوعِ بما لا يَشُقّ على المأمومين. قال شيخنا (6): فلو لم يحكم بأن إطالةَ الركوعِ واجبة، لم يصح إدراكُ المأموم للركعة؛ لأنه يُفضي إلى أن يكونَ المفترضُ تابعاً للمتنفل، وهذا عندي لا يدلّ على هذا المذهب، بل يجوزُ أن يكونَ يُعطي أحدَ أمرين: إما جوازُ ائتمامِ المفترضِ بالمتنفِّلِ، وليس بمستبعد مع حديث معاذ (7)، وهي رواية عنه.
ويحتملُ أن يجريَ مجرى الواجبِ في باب الاتباع خاصة، ولهذا يُسقطُ الاتباع
__________
(1) المستصفى 1/ 73.
(2) تقدمت ترجمته في الصفحة (173) من هذا الجزء.
(3) تقدمت ترجمته في الجزء الثاني الصفحة (87).
(4) انظر "العدة" 2/ 411.
(5) في الأصل: "إلى" ولعل المثبت أنسب لاستقامة العبارة.
(6) في "العدة" 2/ 411.
(7) عن جابر بن عبد الله، قال: كان معاذ بن جبل يُصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم يرجع إلى قومه، فيؤمهم، أخرجه أحمد: 3/ 299، و358 و369، والبخاري (700) و (701) و (705)، ومسلم (465)، والنسائي: 2/ 97، 102، 172، وأبوداود (600).
ووجه الدلالة في هذا الحديث: جوازُ صلاةِ المفترضِ خلفَ المتنفلِ؛ لأنَ معاذاَ كان يؤدي فرضَه مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، ثم يرجعُ إلى قومِه فيؤمهم، فتكون صلاتُه بهم نفلاً له، وفريضةً لهم.

(3/207)


بعضَ الواجب، ويُوجبُ ما ليسَ بواجب، وهو المأمومُ المسافرُ إذا اتَّبع الحاضرَ وجبَ عليه الإتمام، وإن كان فرضُه القصر، والمرأةُ والعبدُ والمسافرُ يصفُون الجمعة بحكمِ المتابعةِ، وليس فرضاً لهم، والمسبوقُ تسقطُ عنه القراءةُ وقيامُ الركعة بحكمِ المتابعة.

فصل
يجمعُ أدلّتنا على ما نصره شيخُنا واخترناه
فمنها: أنَّ الركوعَ الذي يقعُ عليه الاسمُ مُجزىء تبرأ به الذّمة عن عهدةِ الأمرِ، فإذا انحنى معتدلاً، وقال على وجه التأني: سبحانَ ربيَ العظيم، حَسُن أن يقولَ له الفقيهُ الذي يُعلِّمه الصلاة: حَسْبُك، وحَسُن أن يقولَ له: أجزأكَ هذا القدرُ من الركوعِ، فارفع، وحسُنَ منه أن يقول: قد أتيتُ بما وجبَ في، والزائدُ يَحْسُن نفيُ الوجوب عنه.
فنقول: وما يجبُ عليك الزيادةُ على هذا، فقد دلَّ عليه السلبُ والإثباتُ، وإذا كان ذاك القدرُ هو الواجبَ، فماذا بعد الواجبِ إلا النفلُ، إذ لو كان ما زادَ واجباً؛ لكانت الذمّةُ لاتبرأ قبل فعله.
ومنها: أن نُجوَّزَه دليلاً قياساً، فنقول: ما سَقطَ به الفرضُ كان جميعَ الواجب، كما لو انفرد عن زيادةٍ، وبفرضِ الكلامِ في الزيادةِ، فنقولُ: غيرُ معاقَبٍ على تركه، أو غيرُمأثومٍ بتركه، فلا يكون واجباً كسائرِ النوافل.
ومنها: أن خصيصةَ النفلِ موجودة بلا في هذهِ الزيادة، وهي أنَ المكلف مخير بين فعلها وتركِها لا إلى بدل ينوبُ عنها، وكُل ما خُيِّر المكلفُ بين فعلِه وتركِه على الإطلاق، فهو النَفل، والحكمُ بمشاركته للفرض مع تخصصِه وتَميّزهِ بخصيصةِ النفل لاوجهَ له.
ومنها: أنَ الزيادةَ على ضَربين:

(3/208)


زيادةٌ هي تطويل الفعلِ والقولِ وامتدادُه على وجهٍ يجزىء منه البعضُ.
وزيادةٌ هي فعل مثلهِ منفصلة عنه على وجْه التكرار، ثم إن المنفصلة عنه على الخلافِ المعروفِ، (1 فا لمصلي لصلاة الظهر والفجر دفعتين، يكون بالثانية متطوعاً أم بإحداهما 1)؟ فلا يختلف الناس أنهما غير واجبتين جميعاً، فيجب أن يكون الامتداد والزيادة المتصلة في الركوع والقراءة كذلك، ولا فرق بينهما.

فصل
في اعتراضهم على أدلتنا
قالوا: ليس إذا سقطَ الفرضُ ببعضِه دل على أنَ الواجبَ ذلك البعضُ، الدليلُ عليه: أنَ فروضَ الكفايات إذا قامَ بها رجُلٌ من أهلِ المحلةِ أو القريَة، سقطَ الفرضُ عن الباقين، ثم إذا فعلَ الكُل ذلكَ الفرضَ كان كُفُه فرضاً، هذا في الأشخاصِ، وأمَّا في الأفعالِ؛ فالمسافرُ يسقط فرضُه بركعتين، ولو صلاها، فإنه كان الكلّ واجباً.
فيقال: إنَ الفرض يتناولُ أهلَ القرية، ولهذا لو تطابقوا على التَّركِ عمَّهم الإثمُ، وفي مسألتنا لو كان عادته تطويلَ الركوع، فتركَ أصلَ الركوع، أو تطويلَ القراءة، فتركَ أصلها أثمَ مأثمَ التاركِ لما يقع عليه الاسم، ولا يأثم مأثمَ من ترك ركوعاً وجب عليه مطوَّلاً ممتداً.
ولأنه ليس في فرضِ الكفايةِ واحدٌ يُشارُ إليه بالفريضةِ بل الوجوبُ تناول الكُلَّ، وجُعل البعض قائماً مقامَ البعض، وفي مسألتنا: الفرضُ من ذلك معين مقدَّرٌ بما يقعُ عليه اسمُ الركوعِ المطمئنِّ فيه، فذاكَ تخصَّص بالفرضِ، وما زاد تخصَّص بالنفلِ كتخصُّصِّه بخصائصِ النَّفل.
وأما المسافرُ؛ فإنه رُخِّص له في تركِ البعض، فإذا رد الرخصةَ رجع الفرضُ إلى
__________
(1 - 1) ورد في هامش الأصل، دون الإشارة إلى مكانه في المتن، ولعله كما أثبتناه.

(3/209)


أصله، وهو الوجوبُ في أصل الوضع، فلهم أن يقولوا، أعني أصحابَ ابي الحسن الكرخي: إنَّ من أصلنا أنَّ الشروع في العباداتِ يجعلُها واجباً؛ لأنَّ الشروعَ كالنذر، فالزيادةُ عبادةٌ قد شرعَ فيها، تَنقل الكلام إلى ذلكَ الأصلِ.

فصل
يجمع شُبَههم
فمنها: أنَّ الاسم يقع على آخرِ (1) الفعل، كوقوعه على أوَّله أو على الفاتحةِ، وما زاد نُوقِع عليه اسمَ الواجبِ المأمورِ به، وهو الركوعُ والقراءةُ حيث وقعَ على جميعه اسمُ القراءةِ والركوعِ.
ومنها: أنَّ الزيادةَ على المنهى جُعِلَ محظوراً مثلَه، وما زيدَ على الشرطِ جُعِلَ كالشرطِ، والزائدَ على عددِ الجُمَع مِمَّن (2) لا تَجبُ عليه الجمعة اقتصر عليه حكمُ الجمعةِ في حصولِ الإجزاء عن الظّهر وبيانُ الشرط، أنه لو سرقَ النَّباشُ اللَّفائِف غير المعتَبرة وتمَّ بها النصابُ، قُطعَ وجُعل في حُكم المعتبرة، وكذلك الستْرةُ الثانيةُ إذا كانت غَصباً حصلَ الإجزاءُ والاكتفاءُ بواحدة، وأثَّرَت الثانية في الإبطالِ، كما لو كانتا مَغصوبتين (3).
فيقال: ذاك تساوى المأثم، فالإثمُ على جميعه، وها هنا لا مأثمَ على تركهِ جَميعه بل على تركه بعضه، وذاكَ لا يُجبرُ على فعلِ الزائدِ وعلى تركهِ، وهنا يُجبَرُ مَن فعلَه وتركَه. ولأنهم قالوا: يقطعُ بالنصابِ فيما زادَ عليه، ولا يتعلقُ الوجوبُ بالأوقاصِ (4)
__________
(1) في الأصلِ "أجزاء".
(2) في الأصل: "من".
(3) المقصودُ بذلك: أنه إذا كانت إحدى سُترتي المصلي مغصوبة، أثرت في إبطال الصلاة، كما لو
كانتا مغصوبتين.
(4) الأوقاص: جمع وَقص، وهو ما بين فريضتي الزكاة، كالزيادة على الخمسِ من الإبل إلى التسع، وعلى العشرِ إلى أربعَ عشرة. انظر "النها ية في غريب الحديث": 5/ 214.

(3/210)


الزائدةِ على نصابِ الزكاةِ.
ومنها: أنَّ الإنسانَ لو قال لوكيله: تصدّق من مالي. فتصدّقَ بالقليلِ، كان بحكمِ الأمرِ، وإن تصدّقَ بالكثير فكذلك، وما ذاكَ إلا لأنَ الكثيرَ والقليلَ يتساويانِ في وقوعِ اسم الصدقةِ عليهما.

فصل
في الأجوبةِ عن ذلك
أمَّا دعواهم أن آخره كأوَّله، غيرُ صحيح؛ لأن آخرَه امتازَ عن أوله بالحكمِ المخصوصِ، وهو التخييرُ بين فعلهِ وتركهِ، وبسُقوطِ المأثم على تركه، والأولَ اختص بخصيصةِ الواجب من حيثُ العقابُ على تركهِ وانحتامُ فِعلِه، فتميزه بالمعنى يربي (1) على شمولِ الاسمِ ووقوعه عليه.
وأمَّا الوكيلُ، فلا نُسلِّم، بل إذا أطلقَ له الصدقةَ وقعَ على أيسرِ يسير، ولأنه هو المتحققُ من ذلك، وما زادَ يحتاجُ إلى دلالةٍ وتصريحٍ، ولو سُلِّم؛ فإنَ العادةَ فيما بيننا أنه لو أرادَ المقدارَ ذكره، ولو أرادَ البعضَ لَخَصَّصَهُ، فلمَّا لمْ يُقدَّر دلَّ على أنه وَكَلَهُ إلى اختيارِ الوكيلِ، فكانت العادةُ هي الموجبةَ لتعميمِ الصدقةِ، وليس بيننا وبين الله سبحانه عُرف، فكان الواجبُ هو ما يقع عليه الاسمُ دونَ ما لا تَتحقق فيه الشركةُ للواجب.