الواضح في أصول الفقه فصل
إذا ورد الأمرُ بهيئةٍ في فعل، ودل الدليلُ على كون الهيئةِ
مسنونةً أو مستحبةً مندوبةً، لا يَخرج المأمور بايقاعِ الهيئةِ
فيه عن كونه واجباً.
مثالُه: قول النبي - صلى الله عليه وسلم - للقيط بن صَبِرَة:
"وبالِغْ في الاستنشاق إلا أن تكونَ
__________
(1) في الأصل: "يولي"، ولعل الصواب ما أثبتناه.
(3/211)
صائماً" (1)، وقوله صلى الله عليه وسلم في
المشي بينَ الصفا والمروة: "اسعَوا، فإن الله كتبَ عليكم
السَّعي" (2)، وقوله للخاتِنة: "أشَمِّي ولا تُنهِكي" (3)،
فإنَ هاتين الهيئتين مندوبتان، والاستنشاقُ وأصلُ المشي بين
الصفا والمروةِ جميعاً واجبان (4)، خلافاً لأصحابِ أبي حنيفة
(5)، حكاه الجُرجاني وأنه يكونُ الاستنشاقُ وأصلُ المشي بين
الصفا والمروة غيرَ واجبين.
فصل
في ذكر حجتنا على ما ذهبنا إليه
أنَ الأمرَ بالسعيِ والمبالغةِ قد دلا على الأمرِ بأصلِ المشي،
وأصلِ الاستنشاق، فلما قامت دلالة الندبِ على نفيِ الوجوبِ
للهيئتين، بقيَ الأصل مأموراً به أمراً مطلقاً،
__________
(1) أخرجه الشافعي في "مسنده" 1/ 30، 31، وأحمد 4/ 211،
وأبوداود (142)، (143)، (2366)، والترمذي (38)، (788)،
والنسائي 1/ 66، 79، وابن حبان (1054) من حديث لقيط بن صبرة.
(2) أخرجه أحمد 6/ 421 - 422 والشافعي 1/ 352، والطبرأني في
الكبير 24/ (529) و (576) و (813)، والدارقطني 2/ 255 - 256،
والحاكم 4/ 70. من حديث حبيبهَ بنت أبي تجراة.
(3) رواه أبوداود (5271). ومعنى أشفي ولا تُنهكي: أي اقطعي
بعضَ النواة ولا تَسْتأصليها.
والنهك هو المبالغة في الضرب والقطع. وقد شبه القطع اليسيرَ
بإشمام الرائحة، أي: لا تبالغي في استقصاء الختان."النهاية" 5/
137.
(4) اختلفت الرواية عن أحمد في السعي، فرويَ عنه أنه ركن لا
يتمُّ الحجُّ إلأ به، ورويَ أنه ستة لا يجب بتركه دمٌ.
وقال القاضي أبويعلى: هو واجبٌ وليس بركن، إذأ تركه وجب عليه
دم، وهذا ما رجَّحه صاحب "المغني" وهو رأيُ الحنفية.
انظر "المغني" 5/ 239، و"البناية" 3/ 509.
(5) رأيُ الحنفية ان الطوافَ من واجبات الحج، لا من أركانه.
وهو قول ابن عباس، وعبد الله بن الزبير وعروة بن الزبير والحسن
البصري، وعطاء، ومحمد بن سيرين ومجاهد.
انظر "البناية على الهداية" 3/ 509.
(3/212)
والأمرُ المطلقُ يقتضى الوجوبَ، فصار
بمثابةِ لفظِ العموم إذا تَعقَبه لفظ يقتضي إخراجَ بعضِه، بقي
الباقي على ظاهرِه في الاستغراقِ لما عدا ما أخرجه الخصوص.
فصل
في شُبَههم
قالوا: المنطوقُ به نفسُ المبالغةِ والسعي، وقد قام الدليلُ
على نفيِ وجوبهِ، فغيرُ المنطوقِ به في الأمرِ لا وجهَ لكونه
واجباً، وزيادته على رتبةِ المنطوق به.
فيقال: إنَ قولَه في الاستنشاقِ يعطي الأمرَ به، ولم يقمْ على
الأمرِ به دلالةٌ تحطُّه عن رتبةِ الإطلاق، كما إذا قال: حُتيه
في غسلكِ له (1)، وأوتر في الاستجمارِ (2)، يكون مضمناً للأمرِ
بالأصلِ، وليس في الأصلِ ما يحطه عن مرتبتهِ من الإطلاق.
فصل
إذا كنّى اللهُ سبحانه عن العبادةِ ببعض ما فيها من أركانِها
وتوابعِها، دل على وجوبِه فيها، وكونِ ذلك الشيء من لوازمها
وفروضِها، مثل قوله تعالى: {وَقُرْآنَ الْفَجْرِ} [الإسراء:
78] لما كنى عن الصلاة به، دل على وجوبه فيها، وكذلك قوله:
{لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} إلى قوله:
{مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ} [الفتح: 27]، فكنَى عن الحج بحلقِ
الرأس، فدل على وجوبه فيه، والأصل في ذلك أنَ العرب لا تكني عن
الشيء إلا بأخص الأشياء به، تقول: عندي كذا وكذا رقبةٌ، وتحتي
كذا وكذا فرجٌ، قال النبي صلى الله عليه وسلم: "لا سَبقَ إلا
في خُف أو حافرِ أو نَصْل" (3)، ويقول القائل: لي كذا وكذا
__________
(1) كما في قوله صلى الله عليه وسلم: "حتية، ثم اقرصيه" وقد
تقدم تخريجه في الصفحة (38) من الجزء الأول.
(2) أخرج أحمد 4/ 313، 339، 340، والترمذي (27)، والنَسائي 1/
41، وابن ماجه (406)، والحاكم 1/ 158، وابن حبان (1436) من
حديث سلمة بن قيس أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال:"
إذا توضأت فاستَنْثر وإذا استَجْمرت فأوتر".
(3) أخرجه أحمد 2/ 256، 358، 425، 474، وأبوداود (2574)،
والترمذي (1700)،=
(3/213)
وَقفة، ويريدون به حجّةً، لما كان الوقوفُ بفواتهِ فواتَ (1)
الحج، ويدركُ بإدراكهِ، هذا دأبهم. |