الواضح في أصول الفقه

فصل
الأمرُ من جهةِ الله سُبحانه لا يقفُ على مصلحةِ المأمورِ، ويجوزُ أن يأمرَه بما يعلمُ أنه لايعودُ بصلاح حاله.
هذا يَنبني على أصولٍ لنا في أصولِ الدياناتِ، وبهذا قال الفقهاءُ أجمع، خلافاً للمعتزلة ومن وافقهم في تلك الأصولِ في قولهم: لا يأمرُ إلا بما فيه المصلحةُ.
والأمرُ عندهم يقتضي الإرادةَ، ولا يريدُ اللهُ عندهم بعباده إلا ما فيه الأصلحُ لهم ديناً ودُنيا.
والكلامُ في هذا الفَصل يشيرُ إلى تلك الأصولِ، فنذكر فيه بحسب ما يحتمل هذا الكتابُ إن شاء الله.

فصل
يجمع أدلتنا
فمنها: أنه لو تخصص أمرُه بالأصلحِ لما أمر إبليسَ وفرعونَ (2) ومن كانت حالُه حالَهما في التخلفِ عن الطاعةِ واعتمادِ المخالفة، إذ قد كشفت عاقبةُ أمرِه سبحانه لهم عن الوبَالِ واللعنِ والإيعادِ عند (3) التَخلف، والتخليدِ في العذاب عند المؤاخذةِ والمجازاةِ، وقد أبانَ لنا عن الأصلح في بعضِ ما قصد فيه الأصلحَ، فأبانَ عن قَتلِ
__________
= والنسائي 6/ 226، 227، وابن ماجه (2878)، وابن حبان (4690). والسَبق: هو المال المشروط للسابق على سبقه والمراد من النصل: السهم، ومن الخف: الإبل، ومن الحافر: الفرس
(1) في الأصلإ "وفوات" والمثبت هو الجادة.
(2) انظر 2/ 481 التعليق رقم (1).
(3) تحرفت في الأصل إلى: "عن".

(3/214)


الغلامِ في حقِ الخَضِرِ لما أنكره وأكبره موسى عليه السلام، بأنه كان في المعلومِ أنه لو بَلَغَ لكفَر وكَفر أبويه (1)، فقد أعطى ذلك أنه لما أرادَ حِفظَ عاقيته وعاقبةِ أبويه، أمَرَ بالأصلحِ لهم، وهو قتلُه صغيراً، فما كان من هذا فقد كشف النظر عن مرادِه سبحانه منه، وهو الأصلحُ، فأما إبليس حيث طلبَ الإنْظار وخَطَب طولَ الإعمار، أجابه سبحانه فقال: {قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)} [الأعراف: 15]، فلو كان أمرُه لإصلاحه وصلاحِ عاقبته لما أجابه إلى الإبقاء، وقد كشفت العاقبة أنَ إنظارَه الذي أجابه الحق إليه وَبالٌ عليه وعلى من اتبعه، فلو كان اللهُ سبحانه أرادَ حفظَه عن الفسادِ، وأرادَ به الصلاح، وبغيرِه ممَن علم أنه يغويَه؛ لفَعلَ في حَقَه ما فعلَه في حق طفلِ الخَضِر، فعُلمَ أنه مُطلقُ الأمرِ والمشيئةِ بفعل الأصلح لمن شاءَ، وفي حقَ من شاء، ويأمرُ من لا يُريد صلاحَه بما شاء، فهذا طريق مَهْيَعٌ قد ملأ كتابه الكريم بأمثاله:
قال في حقّ قومٍ: {وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ} [التوبة: 46]، وأبان عن عِلّة الكراهة، فقال: {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ} [التوبة: 47]، فأبان عن علةِ عاقبتهِم [وتثبيطهم] (2) عن الخروج لمصلحةِ جيشِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، لما أرادَ بجيشه الأصلحَ.
وقال في حق قومٍ: {إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178]، وأطال أعمارَ المنافقين على ما كانوا عليه من التخذيلِ للمسلمين، وتَتع عوراتهم، ومكاتبةِ المشركين، وإيقاعِ الأراجيفِ على السَّرايا، وجميع ما أخبر اللهُ عنهم في كتابه في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ} [التوبة: 101]، وقولهم: {لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ}
__________
(1) وذلك في قوله تعالى: {وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا}، سورة الكهف، الآية: 80.
(2) زيادة يستقيم بها المعنى.

(3/215)


[التوبة: 81] وقوله: {لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ} [الأحزاب: 60] ... الى أمثال ذلك، فَعُلم أنَ الله سُبحانه يَفعلُ الأصلحَ ويَعتمدُه في حقِّ من شاء، فأما أن يُشترط الأصلحُ في أمره، ويقف أمرُه عليه، فمتى ذهبَ إليه ذاهب مَنَعته هذه الآيُ وما شَهدت به أحوال بَعضِ المكلفينَ المأمورينَ من كونِ الأوامِر والنواهيِ والتكاليفِ عادت بوَبالهِم في فسادِ عاقبتهم وفسادِ الأمةِ بهم.
وهذه شَذْرَةٌ كافيةٌ في مثلِ هذا الكتاب، إذ ليس بموضوع في أصول الديانات، لكنّه في أصولِ الفقه.

فصل
فيما تعلقوا به لِمذهبهِم
قالوا: القولُ والفعلُ إذا خَلا من فائدة كان عبثاً، وقد نزَه اللهُ سبحانه نفسَه عن العبثِ وعن الباطل، فقال: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ ....} إلى قوله: {إِلَّا بِالْحَقِّ} [الدخان:38 - 39]، وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]، {إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56]، فمن تنزه عن فِعلٍ يخلو من نفع به، [قادر] (1) على التنزيه لنفسه عن فعل هو محضُ مَضَرة لا فائدةَ فيه.
والأمرُ أحدُ أقسامِ كلامِه سبحانه، لا يخلو أن يكونَ إما لنفعٍ، أو دفعِ ضررٍ, والله سبحانه مُنزهٌ عن ذلك، لم يبقَ إلا أنه أمرَ العبادَ لنْفعهم ودفعِ الضررِ عنهم، وذلك هو الأصلحُ الذي نشيرُ إليه، وإذا خلا من اجتلابِ النفعِ لهم الموفي على مَشقَّة التكليف، أو دفعِ المضار عنهم تعطلَ عن فائدة، وكلُّ قولٍ تعطّلَ من فائدةٍ كان لغواً، كما أن كُل فعلٍ تعطَّل من فائدةٍ كان عَبثاً، والله سُبحانه منزّه عن العبثِ عقلاً وشرعاً، حيثُ قال سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}
__________
(1) زيادة يستقيم بها المعنى.

(3/216)


[الحجر 85]، وفي لفظٍ آخرَ {لاعبين} [الدخان: 38]، وقال: {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا} [المؤمنون: 115]، {مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقّ} [الدخان: 39]، {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)} [الأنبياء: 107]، وإذا بطلَ أن يكون لمعنىً يعودُ إليه، وبطل أن لا يكون لمعنى رأساً؛ لأنه [سبحانه منزه] (1) عن العَبث، لم يبق إلا أنه لنفعِهم ودفعِ الضررِ عنهم، وذاك هو الأصلحُ الذي نشيرُ إليه.

فصل
في جوابهم عما تعلقوا به من الشبهة
فيقال: نحنُ نخالفكم في هذا الأصل، ولا نطلبُ لأفعالِه وأقوالِه الفوائدَ، بل نقول: إنَ القولَ والفعلَ الصادرين (2) عن الله سبحانه يصدرانِ عن إرداةٍ مطلقةٍ وتصرّفٍ في أعيانِ مُلكه، وقد يصدرُ عنه ما لو صدَر من خلقِه لكان مَذموماً مُسْتَهجناً، ويصدرُ عنه حسناً، كأمرِه لمن يعلمُ أنه لا يُطيع، وخلقِه لمن يعلم [أنه لا يعمل] (3) إلا بالبغي، وإمدادِه بالقوى والأموالِ وطولِ الأعمار وكلِّ شيءٍ يكون به [من] (4) الشَّرِّ أقربَ وعن الخير أبعدَ، ولو صدرَ هذا من الواحدِ منّا بأن أخرجَ عبداً من حَبسٍ كان مانعاً له، أو حل قيداً كان مُعوّقاً له عن الفسادِ مع علمه بأنه لا يَتصرّفُ بعد إطلاقه إلا فيما يعود بفسادِ حاله وأحوال العباد، فإنه يكون جميعُ ما يَتطرّقُ من ذلك العبدِ منسوباً إليه، ويكونُ مذموماً عليه، وهذا موجود في تكليفِ الله مَنْ كَشفَ الغيبُ عن فَسادِه وإفسادِه، وهو بريءٌ من كل لائمةٍ، حاكم غير مَحكوم عليه، على أنه القادرُ على النَفعِ المحض الذي وَعَدَ به أهلَ الجنة، وما فعله مع كونه قادراً عليه من غَير تقديمِ بُغْضِ الدنيا ومِحَنِ التَّكاليف ومَشاقِّها، وكل من قدرَ على
__________
(1) ما بين معقوفين ليس في الأصل، ولابدمنه لاستقامة العبارة.
(2) في الأصل "الصادران" والصواب ما أثبتناه.
(3) ما بين معقوفين ليس في الأصل، ولابدمنه لاستقامة العبارة.
(4) ساقطة من الأصل.

(3/217)


نَفعِ غيرِه منّا بغيرِ تقديمِ مضرةٍ لا تَعودُ إليه بنَفعٍ، ولا دفع ضررٍ، فلم يفعل به ذلك النفعَ إلا بتقديم ضررٍ وتكليفِ مَشاق، فَقد بَخَسَ ذلك الحَيَّ حقَّه، كمن قدرَ على إسقاءِ العطشانِ جُرعةً أو شربةً من الماء، أو المُضْحي (1) بإظلاله بظلِّ جداره، أو المتخبِّط في ظلمةِ الليل بضَوءِ نارِه، فلم يفعل من ذلك كله شيئاً، بل منعه منه مع الغَناءِ والقدرةِ والعلم بصدق الحاجة، فإنه يكون على الغايةِ من استحقاق الذمّ.
والجنَّة عنده سبحانه كتلك الشربة، وذلك الظِلّ، وذلك الضياء، وقد مَنعناها (2)، مع القُدرةِ وأحال بيننا وبَينها بمحنِ الدُّنيا وبَلاوي التَّكليف، وأخطارٍ حجبت أكثرنا عنها.
وفيما قدّمنا من أنَّ اللهَ سُبحانه قد أمرَ أوامرَ كثيرةً على غير وجهِ الأصلح للمأمور كفايةٌ، والله أعلم.