الواضح في أصول الفقه فصل
إذا قال الصحابي: أمَرَ رسولُ الله بكذا، أو نهى رسولُ الله عن
كذا. كان حُكمُ هذا القول منه حُكمَ أمرِ النَّبي صلى الله
عليه وسلم وقولي: افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا.
وحكى القاضي أبو الحسنِ الخَرَزي (3) أن مذهب داودَ أنه لا
يَثبت بذلك حكم أمرِه ونهيه الواجبين، حتى تُنقل إلينا
ألفاظُه.
__________
(1) هو من يصيبه حرُّ الشمس، ومنه قوله تعالى: {وَأَنَّكَ لَا
تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى} أي لا يُؤذيك حرُّ الشمس.
"اللسان": (ضحا).
(2) في الأصل: "منعناه"، والمثبت أنسب للسياق.
(3) هو أبوالحسن عبد العزيز بن أحمد الخَرزي -نسبة إلى بيع
الخرز- إمام أهل الظاهر في عصره، قدم من شيراز في صحبة الملك
عضد الدولة. قال أبو عبد الله الصيمري فيه: ما رأيتُ فقيهاً
أَنْظَر منه ومن أبي حامد الإسفراييني. "الأنساب للسمعاني" 5/
87 - 88، و "شذرات الذهب" 3/ 137.
(3/218)
وحُكي عن ابنِ بيان القصار الداودي أنه
قال: ليس هذا مذهبَ داود، بل يَجوز الاحتجاجُ به (1).
فصل
يجمع أدلتنا على ما ذهبنا إليه (2)
فمنها: أنَ أصحابَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ورضوانه
عليهم، أعرفُ بألفاظِه ومعاني أقواله، فإذا قالوا: أمرَنا. وهم
عارفون بالأمرِ، ونَهانا. وهم عارفون بالنَهي، صارَ ذلك
كقولهم: قالَ رسولُ الله: افعلوا كذا، ولا تفعلوا كذا.
فاشتراطُنا في حقهم نقلَ ألفاظِه إلينا تَعاطٍ (3) عليهم؛ لأنَ
خبر هذا القول منا: اذكروا لنا لفْظَه، عساه لا يكون أمراً ولا
نهياً، وقد وقع لكم أنه أمر ونهيٌ. ولا أسمجَ من ذلك ولا
أقبحَ.
والذي يوضّحُ هذا الدليلَ: أنهم لما رَووا عن النبي - صلى الله
عليه وسلم - أنه رجمَ ماعزاً لما زنَى (4)، وقَطَع [يَدَ] سارق
رِداءِ صَفوان (5)، وسَها فَسجد (6)، كان ذلك منهم كقوله:
رجمتُ
__________
(1) ما قرره ابن حزم في كتابه "الإحكام": أنه إذا قال الصحاب:
امرنا بكذا، فليسَ هذا إسناداَ، ولا يقطع على أنه عن النبي صلى
الله عليه وسلم، ولا ينسبُ إلى أحد قول لم يروَ أنه قاله، ولم
يقم برهان على أنه قاله. انظر "الإحكام في أصول الأحكام" 2/
72.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "إليها".
(3) التعاطي: الجراءة على الشيء، وتناول ما لا يحق ولا يجوز
تناوله. "اللسان": (عطا).
(4) حديث رجم ماعز تقدم تخريجه في الصفحة (108)
(5) حديث قطع يد سارق رداء صفوان بن أمية، أخرجه الدارمي 2/
172، والنسائي 8/ 69، والطبراني (7366) و (15978) و (11703)،
من حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: جاء صفوان بن أمية إلى
النبي صلى الله عليه وسلم برجلِ سرق رداءه من تحت رأسه وهو
نائم، فلم ينكر ذلك الرجل، فامر به رسول الله صلى الله عليه
وسلم أن يُقطع، فقال صفوان: في هذا يقطع؟! قال: "فهلاّ قلتَ
هذا قبل أن تاتيني؟! " وأخرجه ابن ماجه (2595)، والطبراني
(7338) (7341) من حديث صفوان بن أمية مع اختلاف في اللفظ.
(6) حديث سَهْو رسولِ الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة
وسجوده فيها، أخرجه أحمد 4/ 427، مسلم =
(3/219)
ماعزاً لما زَنى، وقطعتُ يدَ سارقِ رداءِ
صفوان، وسجدتُ حين سَهَوت.
ومما يوضِّحُ الدليلَ أيضاً: أنَ أصحابَ رسولِ الله صلى الله
عليه وسلم قَبِلَ بعضُهم من بعضٍ مثلَ هذا قبولهم لألفاظ رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - المسموعةِ منه.
ومن ذلك: أنَ رافعَ بن خَديج روى لابنِ عُمر أن النبي صلى الله
عليه وسلم نَهى عن المُخابَرةِ (1)، فَعمِل بخبره وترك
المخابرةَ هو وجميع من كان يعملُ بها بعد أربعين عاماً تعاملوا
بها فيها.
ومن ذلكَ أيضاً: ما رواه أبو الدَرداء أن النبي - صلى الله
عليه وسلم -، نهى عن بَيع كان باعه معاويةُ (2)، فتركَه. ولم
يطلب ابن عُمَر ولا معاويةُ من رافعٍ ولا ابى الدرداءِ لفظَ
النبي - صلى الله عليه وسلم -، ثقةً بمعرفتهما بأمرِ رسولِ
الله ونهيه، فنحنُ أحقُ بقبولِ ذلكَ وتركِ تعاطينا على أصحابِ
رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.
__________
= (574)، وأبوداود (1018)، والنسائي 3/ 26، وابن ماجه (1215)،
وابن خزيمة (1054)، والبيهقي 2/ 359، وابن حبان (6654) عن
عمران بن حُصين: أنَ رسول الله صلى الله عليه وسلم سَلم في
ثلاثِ ركعات من العَصرِ فقال له الخِرباقُ: يا رسولَ الله،
أنسيتَ أم قَصُرت الصلاةُ؛ فقال صلى الله عليه وسلم: "أصدق
الخِرباقُ؟ " فقالوا: نعم، فقامَ فَصلى ركعة، ثم سجدَ سجدتين،
ثم سلم.
وأخرجه أحمد 1/ 379، وابن أبي شَيبة 2/ 25،- والبخاريُّ (401)،
ومسلم (572)، وأبوداود (1020)، والبيهقي 2/ 335، والدارقطني 1/
375، وابن حبان (2662)، عن عبد الله بن مسعود قالْ صلى رسول
الله صلاةً، فلما سلم، قيل له: يا رسول الله، أحدَث في الصلاة
شيء؟ قال: "لا وما ذاك؟ " قالوا: صليتَ كذا وكذا، قال: فثنى
رجله واستقبل القبلةَ، وسجد سجدتين ثم سلم.
(1) أخرج أحمد 3/ 465، ومسلم (1547)، والنسائي 7/ 48، وابن
ماجه (2450)، والطبراني (4248) و (4249) و (4250) و (4251) و
(4252) و (4253)، أن ابن عمر رضي الله عنهما قال: كنا نُخابر
ولا نرى بذلك بأساً حتى سمعنا رافع بن خديج يقول: نهى رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، فتركناه لقوله. والمخابرة:
المزارعة.
(2) أخرج النسائي 7/ 279 في البيوع عن عطاء بن يسار أن معاوية
باع سقايةً من ذهب أو وَرِقٍ بأكثر من وزنها، فقال أبوالدرداء:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا إلا مِثلاً
بمثلٍ.
(3/220)
ومنها: أنَّ الراوي يجبُ تصديقُه فيما
يرويه عن رسولِ الله صلى الله عليه وسلم، فإذا لم نعمل بقوله:
أمَرنا بكذا، ونهانا عن كذا. كُنّا تاركين لتصديقه فيما رواه،
وذلك غيرُ سائغ بالإجماعِ.
ومنها: أنَّ المعنى الذي اشترطَ له المخالفُ نقل ألفاظِ رسول
الله - صلى الله عليه وسلم - إنما هو ليتحققَ أنه أمر حقيقة
ونهي حقيقة.
وكما أنَّ معاني الألفاظ قد تختلف باختلاف الصيغ، كذلك تختلف
باختلاف دلائلِ الاحوالِ والأسبابِ التي وردت عليها، وكان يجب
أن نعتبر نقلَ الأحوالِ والأسباب، لا سيما وبعضُ الناسِ يعتقدُ
قَصر الجواب على السببِ والحالِ الذي خرجَ الكلامُ عليه
ولأجله، فلمَّا لم نعتبر ذلك لم نعتبر نقلها، واكتفينا بقوله:
أمَرَنا ونهانا.
فصل
في توجيه أسئلتهم على أدلّتنا
فمنها: أنَ ألفاظَه صلى الله عليه وسلم قد تخرجُ مَخْرج
النَدْب، وبعضُهم يعتقدُه أمراً، وبعضُهم لا يعتقده أمراً،
وتخرجُ مخرجَ التنزيه، فينقُله الناقلُ نَهياً على الإطلاقِ.
ومن الناسِ من يعتقدُ أنَّ الإباحةَ والإطلاقَ أمرٌ، ومن
الناسِ من يعتقدُ أنَّ الأمرَ بعد الحَظْر أمرٌ، وبعضهم يعتقده
إطلاقاً وإباحة، فلا يكون طلبُ الألفاظِ منا تعاطياً عليهم،
لكنْ استعلاماً منهم لنبين الأمرَ على ما نعتقده نحن بالدليل،
دونَ تقليدهم.
ومنها: أنه قد يأمرُ الشخصَ بالأمرِ لمعنى يخصّه، وينهاه
لمعنيّ يخصه، فلا يكونُ نهياً عاماً ولا أمراً عاماً.
فيقالُ: إنَّ هذه المذاهبَ حادثة، ولم يكن هذا الاختلافُ في
زمن الصحابةِ، فيُحتاج أن ينقلَ أنها كانت في وقتهم ليصحَّ
السؤال.
على أنَّ إطلاقَ الأمر لا يُحملُ إلا على الإيجابِ، ولو كان
الاختلافُ موجوداً في
(3/221)
وقتهم وعصرهم لوجَب (1) أن يُنْبىء على أي
وجهٍ أمرهم؛ لما نعلمه من اختلافِ مذاهبِ الناسِ في الصيغة.
فصل
إذا قال الصحابي: أُمرنا بكذا، أو: من السنَةِ كذا، أو: نُهينا
عن كذا. فهو راجع إلى النَبي - صلى الله عليه وسلم - وأمرِه
ونَهَيه وسُنّتِه (2).
وإن قال التابعي ذلك، فهو كا لمرسل، فهو حجّة في إحدى
الروايتين عن أحمدَ رضي اللهُ عنه.
واختلفَ أصحابُ أبي حنيفة في ذلك:
فحكى أبو سُفيان عن أبي بكر الرازي أنه لا يرجعُ ذلك إلى أمْرِ
النَبي ونَهيه، ولا سُنته؛ فلا يحتجُ به، وحكى غيره من أصحابهِ
أنه يرجعُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم، مثل قولنا.
واختلف أصحابُ الشافعي، وذهبَ أكثرُهم إلى مثل ما حكيناه عن
صاحبنا، وأنه يُضاف إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وذهب أبو
بكر الصيرفي (3) إلى أنه لا يُضاف إلى سُنّة النبي وأمره
ونَهيه (4).
فصل
يجمع أدلّتنا على أنَّه حجّة
فمنها: أنَ الأمرَ والنهيَ والسنةَ، الأصل الذي صدرت عنه إنما
هو السفيرُ عن الله تعالى، ومن دونه إنما هو مُبَلغٌ ومُخبرٌ،
فإذا أطلقتْ هذه الألفاظُ وجبَ أن
__________
(1) في الأصل "الوجوب"، والمثبت أنسب لسياق العبارة.
(2) انظر "العدة" 3/ 991، و"المسودة": 294.
(3) تقدمت ترجمته في الجزء الأول، الصفحة: 186.
(4) انظر "المسودة": 294.
(3/222)
ترجعَ إليه، وإنما سُنةُ غيره وأمرُ غيره
يُعلم بالتقييد والدلالةِ والقَرينةِ، يوضّحُ هذا: ما رُويَ عن
أنسٍ أنه قال: إنَ بلالاً أُمر أن يَشْفَعَ الأذان ويُوتر
الإقامَة (1).
ولم يقُل أحد (2) ولا سأل: مَن الآمر له؟ لحملهم ذلك (3) على
الأمر المعهود المعقول، وهو أمر الشارع دون غيره.
وصار ذلك بمثابةِ ما لو قال بعضُ خَدمِ السلطانِ: أمرَ
وتَقدَمَ، أو أمَرنا وتقدَم إلينا، أو نَهانا. فإنه لا ينصرفُ
ذلك إلا إلى أمر السلطانِ ونَهيهِ وتقدُمه، دون أتباعِه
وحواشِيه وخدمِه، كذلك النَبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابِه
يجبُ أن ينصرف الأمرُ إليه دونَهم.
ومنها: أنه لا خلافَ أنه لو قال قائلٌ: أُرخص، أو رُخّص في
كذا، لرجعَ ذلك إلى ترخيصِ النَبي صلى الله عليه وسلم، كذلكَ
إذا قيل: أُمِرنا، وُنهينا؛ لأن الترخيص والأمرَ والنَهي جميعَ
ذلك تشريعٌ.
فصل
في إفراد شُبههم
فمنها: أنَ الأصلَ براءةُ الذمة، فلا تُشغَل بلفظٍ يترددُ بين
أمرٍ يوجِب شَغلَها، وبين أمرٍ لا يوجب شَغلَها.
ومنها: أنَ السنةَ، والأمرَ، والنَهيَ قد ينصرفُ إلى غير سنَةِ
النبي صلى الله عليه وسلم، فإنَ النبيّ صلى الله عليه وسلم
قال: "عَليكمْ بسنَتي وسُنّةِ الخلفاءِ الراشدينَ من بعدي"
(4)، وقال: "مَن سَنَّ
__________
(1) أخرجه أحمد 3/ 103، والبخاري (605)، ومسلم (378)،
والنَسائي 2/ 3، وأبوداود (508)، وابن حبان (1675)، والبيهقي
في "السنن" 1/ 413، والدارمي 1/ 271، وابن خزيمة (375).
(2) في الأصل: "لأحد"، والمثبت من "العدة" 3/ 995.
(3) في الأصل: "على ذلك"، ولا داعي لها.
(4) تقدم تخريجه في الجز الأول، صفحة: 280.
(3/223)
سُنّةً حَسَنة كان له أجرُها وأجرُ من
يَعملُ بها إلى يومِ القِيامة" (1). وقد رُوي عن عليًّ كَرَّم
اللهُ وجهه أنه قال: جَلَدَ رَسولُ الله في الخمرِ أربعينَ،
وجَلَدَ أبو بكرِ أربعين، وجلدَ عُمرُ ثمانين، وكُلٌّ سُنَّة
(2). فسوّى بين فعلِ النبي وفعْلِهم في تسميته سُنّةَ، فإذا
ثبت هذا لم نَعلم إلى ماذا أشارَ الصحابيُّ إلى سنةِ رسول الله
أو سُنّةِ الخلفاءِ بَعده؟ فلا وَجه لجعْل ذلك حجّةً مع هذا
الترددِ والاشتراكِ.
ومنها: أنَ الصحابي قد يَجتهدُ يستنبطُ الحادثةَ، فيؤديه
اجتهادهُ إلى حكم، ويُضيفُ ذلكَ إلى رسولِ الله صلى الله عليه
وسلم، تقيسُ (3) على ما سمعَ منه، ويستنبطه مما (4) أخذ عنه،
وإذا احتُمل هذا؛ لم يَجُز أن يُجعل سنة مُسْنَدةً، كما لو
قال: هذا حُكمُ الله تعالى. لم يَجُز أن يُضافَ إلى القرآن.
فصل
في أجوبتنا عن شُبههم
إنَ الأصلَ براءةُ الذمةِ يتغير بالشَغلِ بالظاهر ولا نَحتاج
فيه إلى أكثر من الظاهر الموجبِ لِغلبةِ الظنّ، كخبرِ الواحدِ؛
غايةُ ما يقتضي الظن وينتقلُ به عن الأصلِ، وهو البراءة إلى
الشَغْلِ، والظاهرُ ها هُنا أنَ السنّة إذا اطلقت انصرفت إلى
سُنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأمرُ والنهيُ ينصرف
إلى أمرِه ونَهْيه من الوجه الذي ذكرنا.
__________
(1) أخرجه أحمد 4/ 357، 358 - 359، ومسلم (1017)، والترمذي
(2675)، وابن ماجه (253)، والنسائي 5/ 75 - 77، والطبراني
(2375)، والبيهقي 4/ 176.
(2) أخرجه عبد الرزاق (13545)، وأحمد (624) ومسلم (1707)،
وأبود اود (4481)، وابن ماجه (2571)، والنسائي في "الكبرى"
(5269) (5270).
(3) في الأصل: "لا يقيس"، والمثبت هو الصواب.
(4) حرفها الناسخ في الأصل إلى: "ما".
(3/224)
وأمّا قولهم: إنَ السنةَ لفظٌ يشترك. غير
صحيح؛ لأنها في الأصل اسم لما وُضع ليُحتَذى ويُتبع، والاتباعُ
في الأصل إنما هو للشارعِ دون أصحابه وأتباعه. وأما ما ورد به
الحديث: "عليكم بسُنَتي وسُنةِ الخلفاء"، فتلك سُنة مقيّدة،
وكلامُنا في السُنّةِ المطلقةِ، وحكمُ المطلقِ الذي نحنُ فيه
يخالفُ حُكم المقيّد، بدليلِ سائرِ الألفاظِ من الأوامر
والنواهي.
وأمّا قول علي عليه السلام: وكُل سُنّة. أرادَ به سنةَ النبي
صلى الله عليه وسلم؛ لأن الزيادةَ على الأربعين تعزير (1)،
لأمرِ لمحه عمر أوجبَ التعزير وعلي قال: إنه إذا سَكِرَ هَذى،
وإذا هَذَى افترى، فحُدوه حَدَ المفتري (2). وحد المفتري
سُنّةُ النبي - صلى الله عليه وسلم -.
وأمَّا قولهم: إنما أضافه إلى رسولِ اللهِ لأنه مستنبطٌ من
لفظِه، فالظاهرُ أنَ السنة ما تُلقِّفَ من لفظِ رسول الله دونَ
ما استُنبط، ولهذا قال لمعاذ: "بِمَ تَحكُم"؟ قال: بكتابِ
الله، قال: "فإنْ لَم تَجِد"؟ قال: بسُنةِ رسولِ الله، قال:
"فإنْ لَم تجِدْ"؟ قال: أجتهدُ رأيي (3). والنَّبي أقرَّه على
أنّه إذا لم يَجدْ في سُنتِه اجتهدَ، ولو كان استنباطُه (4)
سنةً، لما كانَ قولُه: "فإن لم تجد" يكون جوابه ما هو سُنّة،
لم يبقَ إلا أنَ السنّة ما كان ملفوظاً به من الأحكامِ،
والمستنبطُ له اسم يخصُّه.
فصل
ويصح أن يقارِنَ الأمرُ الفعلَ حالَ وجودِه ووقوعه من
المكلَّف، وليس من شرطِ صحة الأمر تقدُّمه على الفعل، وإذا
تقدّم على الفعل، كان أمراً عندنا على الحقيقة
__________
(1) في الأصل: "تعزيراً"، والمثبت هو الصواب.
(2) رواه الدارقطني 3/ 166، والحاكم 4/ 375، والبيهقي 8/ 320.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة: (5) من الجزء الثاني.
(4) تحرفت في الأصل إلى: "إسقاطه".
(3/225)
أيضاً، وإن كان في طَيِّه إيذانٌ وإعلامٌ
على ما بَينّا في أمر المعدوم (1).
وبهذا قال كافّةُ سَلفِ هذه الأمّة وعامةُ الفقهاءِ.
وذهبت المعتزلةُ بأسرها إلى إحالة مُقارنةِ الأمرِ وجودَ
الفعلِ، وأنّه لا بُدّ من تقدُّمِه، ثم اختلفوا فيما يتقدم به
هل بوقتٍ أو بأوقاتٍ كثيرة، على مذهبين: فبعضهم جوز تقدُمَه
بأوقاتٍ كثيرةٍ، وهم الأكثرون، وبعضهم جَوزَ تقدُمَه بوقتٍ
واحدٍ فقط، وبعضهم علق تقديمَه بأوقاتٍ على المصلحةِ، وعلق
بعضهم جواز تقديمه بأوقاتٍ أن يكونَ في تلك الأوقاتِ كلها
تتكامل شُروط التكليفِ، من العملِ والصحّةِ والسلامةِ (2).
فصل
في جمع أدلتنا على ذلك
فمنها: أنه مقدورٌ عندنا في تلك الحالِ؛ لأنَ الاستطاعة مع
الفعل، وكما يصحُّ تناولُ القدرةِ له، فكذلكَ يصحُّ تناولُ
الأمرِ له، حتى إنَ بعضَ من قال بقولنا زعمَ أنَ الأمرَ لا
يكون حقيقةً إلا إذا قارنَ وجودَ الفعلِ، ومتى تقدم على وجودِه
كانَ إيذاناً وإعلاماً، وعندنا يكون بالتقدمِ، إيذاناً وأمراً
حقيقةً، فصار المقارنُ أمراً لا شائبةَ فيه، وإذا أردنا كشفَ
ذلكَ أخرجناه إلى النطقِ، ومعلوم أنَ الشارعَ في الفعلِ مع
شروع الآمرِ في الأمرِ إذا تقدمه الإعلامُ بأنه سيأمره، صحَ
ذلك، فليس في وقوعِ الفعلِ المأمورِ به مع الأمر إحالةٌ (3).
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة (177) من هذا الجزء.
(2) انظر "المسودة": 55.
(3) انظر "المسودة": 56.
(3/226)
فصل
في شُبَه المعتزلة
فمنها: أن الفعل غير مقدور في حال وجوده، ومُحال أمر العبد بما
ليس في مقدوره.
وهذا أصل نخالفُهم فيه، وقد استوفاه أصحابُنا ومن وافَقهم في
أصلِ الدياناتِ، وأنَ الاستطاعةَ مع الفعلِ، وصحة تكليف ما لا
يُطاقُ لعدمِ الاستطاعةِ، ونفي صحته مع الإحالة.
ومنها: انه لو كان مَقدوراً حالَ حدوثه، لكانَ مقدوراً حالَ
بقائه، لكونه موجوداً في الحالين؛ أعني حالَ وجودِه وبقائِه.
ومنها: أن مقارنَة الأمرِ للفعلِ في حالِ وقوعهِ تُحيلُ معناه
وتُبطلُه؛ لأن فائدته (1) كونُه دلالةً على المأمورِ به،
وتمييزه له ليقصِدَ بفعلِه التقربَ، وأن يكون حثاً وترغيباً في
الفعل، ومحالٌ ترغيبُ المأمورِ وحثُّه على واقعٍ موجود، وإنما
يُرغَبُ فيه قبل إيقاعه ليوقِعَهُ على وجه ما أُمِرَ به، وكذلك
مُحالٌ أن يُستدلّ بالأمر على واقعٍ موجودٍ، وإنما يكون دلالةً
على أمرٍ يُميزه من غيره من مقدوراتِه ليقصدَ به دون غيرِه،
وذلكَ غير مُتأتٍ في الواقعِ الموجودِ.
ومنها أن قالوا: أيُّ فائدةٍ في تعلُّقِ الأمرِ به حالَ
وقوعِه؟ وزعموا أنه لا فائدةَ فيه، والأمرُ إذا خلا من فائدةٍ
كان لَغواً.
__________
(1) في الأصل: "فائدة"، والمثبت أنسب للسياق.
(3/227)
فصل
في الأجوبة عن شُبَههم
أما الأولُ؛ فلا نُسلمُه؛ لأنَ حالَ وجوده عندنا حالى مقدورة
وأما إلزامنا حال بقائه على حالِ حدوثه؛ فباطلٌ؛ لأنَّه حال
حدوثه مفعول ومتعلق بفاعلٍ، وحالَ بقائه غيرُ مفعولٍ ولا
متعلِّق بفاعلٍ، وكما يصحُ عندنا وعندَهم تعلقُ الإرادةِ
بالفاعل في حالِ حدوثه وإن كانَ موجوداً فيها، ولم يصح تعلقُها
به حالَ بقائِه، فبطلَ أن يكونَ حالُ الحدوثِ كحالِ البقاء.
وأمَّا دعواهم أن مقارنَته تُحيلُ معناه من حيثُ إنه دلالةٌ،
وبكونه موجوداً استغنى عن دلالةٍ.
فيقالُ لهم: إنَ الأمر أمران، وللأمرِ الواحدِ حالتان، يكونُ
في إحداهما دلالةً على الفعلِ، وترغيباً فيه، وحثاً عليه، وهي
حالةُ تَقدُّمِه على المأمورِ به، وحالةٌ يخرجُ عن ذلك، وهي
حالةُ مُقارَنتهِ (1) للمأمور به. وأما إذا كان أمرين،
فالمتقدِّمُ منهما دلالةٌ وترغيب، والمقارِنُ للفعلِ خارجٌ عن
ذلك، وقد يخرجُ الشيءُ عن كونه دليلاً لتغير حالِ المدلولِ،
كما أنَّ الخبرَ بما سيكون خَبرٌ (2) بمستقبل حالِه، وإذا كان؛
خرجَ عن كونه دليلاً على أنه سيكون.
وأما طلبُهم الفائدةَ في مقارنَته حالَ (3) وقوعِه.
فيقالُ: فائدتُه أنها حال يكون فيها مفعولاً ومقدوراً، ويصح
فعله، ويصح تركُه على البدلِ من وقوعهِ، وليصيرَ لمصادفته له
حَسَناً طاعة حال وقوعِه وقُربةً؛ لأنه لو
__________
(1) حرفها الناسخ في الأصل إلى: "مقارنة".
(2) في الأصل: "خبراً"، والمثبت هو الصواب.
(3) في الأصل: "وحال"، والصواب حذف الواو.
(3/228)
وقع في حالة غير مصادفٍ للأمر لصارَ
بمثابةِ وقوعِه مع النسخِ للأمرِ به في خروجهِ عن كونه حَسَناً
طاعةً؛ ولأنه إذا كان الأمرُ هو المُؤثِّر في كونه قُربةً
حَسَناً، وجبت مفارقته له، كما يجبُ ذلك في الإرادة المؤثِّرة
في كونه كذلك؛ لأنَّ ما وُجِدَ قبل الشيء لا يؤثرُ في حكمٍ له
في حالِ وجوده، فصحّ ما ذكرناه، واللهُ أعلم.
(3/229)
فصول المناهي
فصل
النهيُ: صيغة، ولا تَقل: للنهي صيغةٌ، كما ذكَر شيخنا (1)
وغيرُه ممّن قالَ: للأمرِ صيغةٌ، وقد استوفيتُ ذلكَ في بابِ
الأوامرِ، لأنَّ المعتزلةَ والأشاعرةَ قالوا ذلك.
لأنَّ المعتزلةَ تقول: الأمرُ والنهيُّ: الإرادةُ والكراهةُ،
فالصيغةُ لهما لا هما.
والأشاعرةُ تقول: الأمرُ والنهيُ معنى واحدٌ قائم في النفس،
والصيغةُ لذلك المعنى، وحكايةٌ له ودلالةٌ عليه.
فأمَّا أصحابُنا، فإنني تأملتُ المذهبَ، فإذا به يحكمُ بأنَّ
الصيغتين أمرٌ ونَهي، فهذا تحقيقٌ يجبُ أن نعلَمه قبل الشروعِ
في المسألة.
والصيغةُ: قولُ الأعلى لمن دونه: لا تَفعلْ. وقالَ شيخُنا (1)
رضي اللهُ عنه: والصيغةُ دالّةٌ بنفسها عليه. يَعني على النهي،
وهذا أيضاً اتّباعٌ لقولِ المتكلمين، وإلا فليس لنا نهيٌ عن
الصيغة تدل الصيغةُ عليه، بل المنهي قول وصيغةٌ، والشيءُ
لايدلُّ على نَفسه.
وقالت المعتزلة: ليست الصيغةُ نَهياً، ولا لأجل الصيغة، وإنما
يكونُ نهياً بكراهةِ الناهي، كما قالوا: يكون أمراً بإرادةِ
الآمر.
وقالت الأشاعرةُ: لا صيغة للنهي بل هو معنىً في النفس (2).
__________
(1) في "العدة" 2/ 425.
(2) هذا ما نُقِلَ عن أي الحسنِ الأشعري، وليس هو مذهب
الأشاعرة، بدليل ما صرح به الجويني صاحب "البرهان" بقوله:
"والمختار الحقُّ أنَ الصيغَة المطلقة تتضمن جزم الاقتضاء فى
الانكفاف عن المنهيِّ عنه" انظر: "البرهان" 1/ 238.
(3/230)
فصل
في جمعِ دلائلِنا على ذلك
فمنها: أنَ البناءَ على أصلِنا، وأنَ الكلامَ هو الحروفُ
والأصواتُ الموضوعةُ للتفاهم لما يَسْنَحُ من الأعراضِ
والدَواعي الحاصلةِ في النفس، ولهذا قسَّمه أربابُ اللسانِ
أقساماً؛ فقالوا: هو أمر ونهيٌ، فالأمرُ: افعلْ، والنهيُ: لا
تفعلْ، وهو من الأسماءِ المتعدية، قالوا: كلّمتُ فلاناً،
وكلّمني زيدٌ، وناديتُ عمْراً، وأمرتُ خالداً، ووعدتُ بَكراً،
وتواعدتُ خالداً. وما في النفس لا يتعدّى، وكذلك الكراهةُ في
النفسِ، وهي متعلقةٌ بالفعلِ المكروهِ تعلقَ البعض للمبعوضِ،
والنهيُ يتعلق على المنهي تعلُّقَ استدعاءِ التركِ منه للمعنى
المكروه أو المنهيِ عنه.
ورأيُنا: أنَ الآفةَ المانعةَ من الكلامِ المفسدةَ له هي
الخَرَسُ، وما تعلقت إلا بفسادِ آلات النطقِ، كما لا يُسمّى
العمى إلا لفسادِ أداةِ (1) النظر، والطرَش لفسادِ أداةِ (1)
السمعِ، فلما قيل في الذي فَسدت أدواتُ نطقه: أخْرَس. دلنا ذلك
على أنَّ المتكلمَ هو من صحَت منه الصيغةَ المخصوصةُ، فالكلامُ
إذاً هو: الحروفُ والأصواتُ، والنهيُ شيءٌ منه، فكان هو
الصيغةَ المخصوصةَ دون المعنى في النَفس والإرادة.
ومنها: أنّا رأينا أهلَ اللغةِ يُسمون الناطقَ بهذه الصيغِ:
متكلماً، والكاف لأدواتِ النطق ساكتاً، فالسكوتُ والخرسُ
المضادان للكلام، قاما بمُخْتَل (2) الحروف والأصواتِ، فدل ذلك
على أنه هو الكلام.
ومنها: أنهم استحسنوا تأديبَ العبدِ المخالفِ قولَ سيّده له:
لا تفعل. وسمّوه بذلك: عاصياً ومخالفاً، فمدعي أنَ ذلك كان
لمعنىً وراءَ الصيغةِ، يحتاج إلى دليلِ، والموضوعُ للكف
والزجرِ عن الفعلِ هو هذه الصيغة من الأعلى للأدنى: لا تَفعل.
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "ذات".
(2) في الأصل "بمجمل"، ولعل المثبت هو الصواب.
(3/231)
فإحالةُ النهي على غيرها تَوهُّم، وصرفُ
استحسانِ تأديبِ العبْد إلى ما وراءها دعوى لا برهانَ عليها.
فصل
فيما تعلقوا به من الشُبَه
فمنها: قولُ المعتزلة: لا فرقَ بين قولِ القائل: لا تَفعلْ
كذا. وبين قوله: أكره منكَ أو لكَ أن تفعل كذا.
ومنها: قولُ الأشاعرةِ والمعتزلةِ: إن هذه الصيغةَ مشتركةٌ؛
لأنها قد تردُ للنزاهةِ، والحظرِ، والكف، وللتهديد، وللتخفيف،
وإسقاطِ التكليفِ، فلا تُحمل على بعض موضوعاتها إلا بدلالةٍ،
وصار كسائِر الألفاظِ المشتركة من اللون، والجَون (1)، والعَين
(2)، والقُرْء (3).
فصل
في الأجوبةِ عمَّا تعلقوا به
منها: أنَا لا نُسلّم أنها مشتركةٌ، بل هي موضوعةٌ في أصلِ
وضعِها لاستدعاء التركِ والكفّ عن الفعلِ المنهيِّ عنه، وقولُ
القائلِ: أكرهُ منكَ ذلكَ. خبر، جوابه: صدقتَ، أو كذبتَ،
وجوابُ الأمر عصيتَ، أو أطعتَ، وليس بمشتركٍ بين ما ذكرت،
وإنما يُصرفُ إلى غيره بدلالةِ حالٍ أو قرينةٍ كالبحر
والشجاعِ، والأسدِ، والحمارِ أسماءٌ موضوعةٌ لحقائقَ مخصوصةٍ،
ولا تُصرفُ إلى غيرها من الأشياءِ المستعارَةِ إلا بدلالةٍ،
كالعَالِم والسَخِيَّ يُسمَّى بحراً بدلالةٍ، والرجلُ البليدُ
لا يُسمى حماراً إلا
__________
(1) لفظ الجَون إذا أُطلِقَ تنازعته عدةُ معانِ، فهو يُطلقُ
على الأسودِ المشرَب حُمرةَ، وعلى الأحمرِ الخالص، وعلى
الأبيض. "اللسان": (جون).
(2) يُطلقُ لفظ العَين على عدة معان على سبيل الحقيقة؛ منها:
حاسة البَصر والرؤية، وينبوع الماء الذي يَنبع من الأرض ويجري،
والجاسوس، والشريف في قومه. "اللسان": (عين).
(3) لفظ القرء إذا أطلق تردد بين الطهرِ والحَيض. "اللسان":
(قرأ).
(3/232)
بدلالةٍ، والرجلُ المقدِمُ على الحرب بثباتِ قلبٍ يُسمَّى
أسداً، كذلكَ صرفُ هذه عن الكف إلى غيره بدلالةٍ. وفارقَ
الأسماءَ المشتركةَ، فإنها لم توضع لواحدٍ منها، ولهذا لا
يحسُن لومُ العبْدِ وتوبيخُه عند التوقف عن قولِ السيد: أصبغ
ثوباً لوناً. إلى أن يُبيّنَ له أيِّ الألوان يصبُغه، ويحسُن
لومُ العبد إذا لم يبادر إلى الكف عما نهاه عنه.
ولأنَّ قولَه: أكره، يصلحُ أن يكونَ علةً للنهي، فيقول: لا
تَفعل؛ لأني أكره ذلك.
وعلّةُ النهي غَير النهي، ألا ترى أنه يحسُنُ أن يقول: فإني
أسْتَضِرُّ بفعلك فلا تفعله، أو يتأذى به فُلان؛ فلأنَ هذه
كُلها عللُ النهي لا عينُ النهي. |