الواضح في أصول الفقه فصل
مطلق صيغة النهي يقتضي التحريم، وبه قال أصحابُ الشافعي (1).
قالت الأشعريةُ: لا يقتضي التحريمَ، بل نقف حتى ترد دلالة تدل
على ذلك.
فصل
في دلالة مذهبنا
قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إذا أمرتكم بأمرٍ فأتوا
منه ما استَطَعتُم، وإذا نَهيتكم فانتهوا" (2)، وروى ابن عمر
قال: كُنّا نُخابِر أربعينَ عاماً لا نرى به بأساً -ورُوي: لا
نرى بذلك بأساً- حتى أخبرنا رافع بن خديج أن النبيَّ - صلى
الله عليه وسلم - نهى عن ذلكَ، فتركناها (3). والظاهرُ
__________
(1) وهو المقرَّر عند الأئمةِ الأربعة، فاذا أطلقت صيغةُ
النهيِ فهي للتحريم، انظر "الرسالة" ص (217)، (343)،
"البرهان": 1/ 283 "المسوَّدة" ص (80)، "التمهيد"1/ 362، "كشف
الأسرار"1/ 256 "شرح تنقيح الفصول" ص 168.
(2) تقدم تخريجه في 2/ 549
(3) تقدم تخريجه في الصفحة (220) من هذا الجزء.
(3/233)
أنْ لا قرينةَ ولا دلالةَ؛ لأن الأصلَ
النفيُ إلى أن يقومَ دليلُ الإثبات على قرينةٍ كانت أو دلالة.
ومنها: أنَّ الوقوفَ توقّع، والصيغةَ اقتضاءٌ وطلبٌ بالكفّ،
والأعلى إذا اقتضى الأدنى بالكفّ، اقتضى استدعاؤه طاعتَه لا
محالة، واشتراط الرتبة عندهم لإيجابِ الطاعةِ، إذ لا معنى
لاشتراطها (1) إلا ليكون استدعاءً مطاعاً.
ومنها: ما أجمعَ عليه أهلُ اللغةِ: أن السيّد إذا نَهى عبدَه
عن فعلٍ فارتكبه، حَسُن تأديبُه وعقوبتُه، ولولا وجوبُ التركِ
وتحريمُ المخالفةِ للنهي ما حسنُت عقوبتُه، ألا ترى أن
السَّؤالَ والرغبةَ لماّ لم يوجبا على المسؤولِ الإجابةَ، لم
يحسُن ذمُّه على منعِ الإجابة.
فصل
في ذكر شُبهتهم
قالوا: هذه الصيغةُ مُترددة محتملة الكراهةَ والتنزيهَ،
وتحتملُ الحَظرَ والتحريمَ، فلا تُرجحُ إلى أحدِ محتمليها إلا
بدلالةٍ، فوجب التوقفُ إلى حينِ قيامِ دلالةِ الترجيحِ،
كالألوان المشتركة، مثل: لون، وجَون، وشَفَق (2)، فيقال: بل هي
موضوعة للتركِ الجزمِ الواجبِ، ولهذا اعتبر لها في كونها نهياً
أن تصدر عن المطاعِ، وليس ذلك بإجماعنا قرينة، لكنّه شريطةٌ،
وإنما يحطّ عن رتبةِ التحريمِ إلى التنزيه بدلالة، فهي كألفاظِ
الحقائق، كبَحر وشُجاع، وحمار لا يخرج عن الماءِ الكثيرِ
الواقف، والحيَّة، والنَهاق إلى العالِمِ، والسَّخيَّ،
والبليدِ، والمِقْدامِ إلا بدلالة، وفارق الأسماءَ المشتركة؛
لأنها ليست في أحد المعاني أظهر ولهذا لا يحسُن ضربُ العبد
ولومُه على توقفِه
__________
(1) في الاصل: "لاشتراكها"، ولعل المثبت هو الصواب.
(2) يطلق الشفق على الحُمرة التي ترى بعد مغيب الشمس، وعلى
البياض الباقي في الأفق الغري "اللسان": (شفق).
(3/234)
لاستعلامِه أيُ لونٍ وجَوِن وشَفق؟ ويحسُن
تأديبه على التخلفِ عن التركِ، مع استدعائه من الأعلى للأدنى.
فصل
والنهيُ يقتضى النَهي والمبادرةَ إلى التركِ لِما نُهي عنه،
والكف عنه عقيب، وجودِ الصيغة وعلمِ المنهي بها، كما ذكرنا في
الأمر ويقتضي الاستدامةَ ما لم تقمْ دلالةٌ.
قال أبو بكر الأشعري (1): لا يقتضي بمطلقهِ فوراً ولا تكراراً،
كما قال في الأمر (2).
فصل
يجمع أدلّتنا
وفيما قدّمنا من الدلائلِ في الأمرِ كفايةٌ، لكن نَخُصُّ
النَّهيَ بما يليقُ به:
فمنها: أن الكف المستدعى إذا تراخى عن صيغة النهي تراخياً
يخرُج عن المبادرةِ بالتركِ، كان المتعقبُ للنهي استدامةَ
الفعل المستدعى تركه، ومن قيل له: لا تفعلْ، فاستدام ما نُهي
عنه مع إمكانِ الخروجِ منه، والكف عنه سُمَّي: عاصياً، كما أنه
إذا بادر بالتركِ سُمّي: طائعاً.
ومنها: أنَ الوقتَ الذي يلي النَّهي قد اتفق فيه اجتماعُ
الطاعةِ والمصلحةِ، ومتابعةُ أمرِ الآمر، ولو أراد التأخيرَ
للترك، لأخّر الاستدعاء، فلا وَجْه للتراخي مع تكاملِ شروط
التكليف.
ومنها: أنَ استدعاءَ التركِ يجب أن لا يُهْمَل، بل يجبُ أن
يقابلَ باعتقاد وجوبِ
__________
(1) يعني الباقلاني، وتقدمت ترجمته في الصفحة (124) من الجز
الأول.
(2) وهذا الرأي هو ما رجَّحه الفخر الرازي في "المحصول" 2/
282، وما ساقه ابن عقيل من الأدلة كافٍ في بيان مرجوحية هذا
الرأي، وانظر تفصيل المسألة في "العدة" 2/ 428، و"التمهيد"1/
363، و"البحر المحيط" 2/ 240.
(3/235)
التركِ والعزم عليه، فلا يقتضى تأخيرَ
المقصودِ بالعزمِ والاعتقادِ، والذي يوضحُ هذا أنه يحسُن من
المستدعي للتركِ أن يقتضي بالتعجيلِ، ويلومَ على التأخيرِ مع
إزاحةِ العللِ، واجتماعِ شروطِ التكليف فيما كلفه من الكف،
ويُعاقِبَ على التخلفِ عنه ما لم تَقم دلالةُ التخييرِ بين
التقديمِ والتأخير.
ومنها: أنَ الصيغة استدعاء للترك، وليس معها قرينة تدُلّ على
التوسعةِ والفُسْحَة في التراخي، فهي بكونها استدعاء جازمة على
المكلف بتركِ ما نهى عنه، ودوامه.
ومنها: أنَ النهي، كمنعِ الحالف نفسَه باليمين، ولو حلفَ أن لا
يفعلَ، لم يختلف العلماءُ أنّه متى لم يتعقب الكَف والامتناعُ
يمينَه حَنِثَ وكان مخالفاً بفعله قولَه، واليمينُ على الترك
منع لنفسه بالقَسم، فإذا كان منعُه لنفسه يُوجبُ الفورَ
والتكرارَ، ومن خالف حَنِثَ، فأمرُ الله سبحانه له بالكفِّ
أولى أن يقتضى البِدارَ والفور.
ومنها: أنَّ النَهيَ مما لا يثبتُ في الذمّة ويكون نَسيئةً
(1)، فلا وجه للتأخير؛ إذ لا يكون تاركاً مع عدم التزامِ
التركِ وقطع استدامته، وإلا فلا يُسمى تاركاً ولا مُطيعاً، ولا
يمتنعُ أن لا يكونَ المنعُ من الجميع، لكن يكونُ الأصلُ تركَ
أحدهما، ومتى تركَ أحدَهما لم يكن فعلُ الآخر مفسدة، كالجمعِ
بين الأختين، يقالُ له: إما أن تتزوج هذه أو هذه. والفسادُ
بالجمع، وتَزوجُ إحداهما (2) وتركُ الأخرى ليس بمفسدةٍ.
فصل
في شُبههم
قالوا: ليس لزمانِ الترك في الصيغة ذكر ولا للتكرارِ والدوامِ
ذكر وإنما نتلقى الأحكامَ الشرعية من الصِّيغ، وإذا لم يكن في
الصيغِ ذلك أوقفنا القولَ بوجوبِ الفورِ
__________
(1) في الأصل: "نسبة"، والمقصود هو التأخير فلعل المثبت هو
الصواب.
(2) في الأصل: "أحدهما"، وهو خطأ.
(3/236)
والدوامِ على دلالةٍ زائدةٍ على الصيغةِ.
فيقالُ: قد بينا أنَ الاستدعاءَ للتركِ يقتضى الاستجابةَ دونَ
الإهمال، كما استدعت الاعتقادَ والعزمَ، وكما أنه إذا ترك
تَلَقيها بعزمٍ واعتقاد، كان مهمِلاً، كذلك إذا تلقّاها بدوامِ
الفعلِ الذي أُمِرَ بالكف عنه، حَسُنَ (1) أن يُخْلَعَ عليه
اسم عاصٍ، حَسَبَ ما يُسمّى بالبدارِ طائعاً، ويكون تاركاً
للاستجابة مع إزاحةِ العلة من غير إذنٍ في التركِ، ولا توسعةٍ
في اللفظ، وإطلاقُ الاستدعاءِ للعبدِ المُزاحِ العلّةِ تقتضي
الجزمَ في الأمرِ، والمهلةُ لا تَجيءُ إلا بنوعِ توسعةٍ تقترنُ
باللفظ، أو دلالةٍ تَتبعُ أو تشفعُ اللفظَ، ولهذا لم يُخيَّر
الحالفُ على تركِ الشيء بين تَعجيلِ تركهِ أو تأخيرِه، ولا بين
استدامتِه أو قطعِه وتركِه.
فصل
إذا نهى عن شيئينِ أو أشياءَ بلفظِ التخييرِ، مثل قوله: لا
يكلِّمْ زيداً أو عمْراَ، ولا تأكلْ رُطباَ أو تَمراً، لا
تعاشرْ فاسِقاً أو خليعاً. فَظاهرُ كلام صاحبنا رضي الله عنه
أنه على التَخيير، وهو قولُ أصحابِ الشافعي.
وفائدتُه عندنا: أنه يجب ترك أحدِهما لا بعينه، ويجوزُ فعلُ
أحدِهما، ولا يجوزُ الجمعُ بين فعلهما.
وقالت المعتزلةُ: يقتضى المنعَ منهما ومن كُل واحدٍ منهما إذا
أمكن الجمعُ، (2 مثل اعتباره ذكرنا 2)، فأمَّا إن كانا ضدَّين،
كحركةٍ وسكونٍ، وصومٍ وإفطارٍ، فلا، إذ لا اجتماعَ لهما، وفي
إحالتهما ما يمنع دخولَ النهي عنهما على المكلف حسب قولهم في
المخيرات في باب الأمر أن جميعَها مأمورٌ بها وواجبة، وهو
اختيارُ أبي عبد الله الجُرجاني من أصحابِ أبي حنيفة، غير
أنّهم أوجبوا هناكَ تركَ الجميع، ولم
__________
(1) في الأصل: "وحسن" وحذفت الواو لتستقيم العبارة.
(2 - 2) كذا العبارة في الأصل.
(3/237)
يوجبوا هناك فعلَ الجميع (1).
ولا يمتنع أن لا يكون المنعُ من الجميع، لكن يكون الأصلح ترك
أحدهما، ومتى تُرِكَ أحدُهما لم يكن فعلُ الآخر مَفسدةً،
كالجمع بين الأُختين، يقال له: إما أن تتزوجَ هذه أو هذه.
والفسادُ بالجمعِ والتزويج لإحداهما وترك الأخرى ليس بمفسدة.
فصل
في أدلّتنا
فمنها: أنَ حرفَ (أو) يدخلُ في الخبر فَيعطي الشك، مثل قول
القائل: رأيتُ زيداً أو عَمْراً. ويدخل في الأمرِ فيعطي
التخيير، مثل قوله: أكرِم خالداً أو بَكراً.
والنهيُ والأمرُ في المعنى سواءٌ، من حيث إنَ كُل واحدٍ منهما
طلبٌ واستدعاء، إلا أن الأمرَ طلبُ الفعلِ، والنهيَ طلبُ
الترك، فالمستدعَى يختلف، فإذا لم يقتضِ الأمرُ بحرفِ التَخيير
الجمعَ بين فعلِ الأمرين، كذلكَ النهيُ بلفظِ التخييرِ لا
يقتضي الجمعَ بين ترك المخيرين جميعاً.
ومنها: أنَّ قوله: لا تَصَّدَّق من مالي بدرهمٍ أو دينارٍ، ولا
تركبْ من ظهري فَرساً أو حماراً. يحسُن تفسيرُه بالنهي عن
التَّصدّق بهما وبكلِّ واحدٍ منهما، ويحسُن أن نفسرَه بالنهي
عن التصدُّق بواحدٍ منهما لا بعينه، ويصحُّ بأن نقول: تصدق
بأيهما شئتَ، واترك الصدقةَ بأيهما شئت، واركب أيَّهما شئت،
واترك ركوبَ أيهما شئت.
وإذا كانا محتَملين، فالأخذُ بالأقل والأدنى بيقين لا يرتقى
إلى الأكثرِ والأعلى إلا بدلالةٍ.
__________
(1) انظر "المعتمد" 1/ 169.
(3/238)
فصل
في شُبَههم
فمنها: أن حَرْف (أو) إذا وردَ في النَّهي لم يقْتضِ التخيير
بل الجمعَ، بدليل قوله تعالى: {وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا
أَوْ كَفُورًا} [الإنسان: 24]، وجبَ [عَدمُ] (1) طاعةِ الآثمِ
والكفورِ معاً، ولم يكن معناه: لا تُطع آثماَ وَحده إن شئت، أو
كفوراً وحده إن شئت.
ومنها: أن قالوا: ما كان مَنهياً عنه مع غيره، كان منهياً عنه
مع إفراده، كسائرِ المحظورات.
ومنها: أنه لا ينهى عن شَيئين على سبيلِ التخيير إلا وهما في
معلومهِ متساويان في القُبح، ولا يجوز بالحكيم أن يُخير بين
قَبيحين، كما لا يجوزُ أن يُخير بين حَسَنٍ وقبيح، ويَتَخرَّج
من هذه الطريقة أنهما إذا تساويا في القُبح، وكان واجب الترك
لقبحه، ساواه الآخرُ في وجوبِ التركِ لقُبحه، وكذلك إذا كانَ
تركُ أحدهما مصلحةً، وفعلُه مفسدة، وجب أن يكونَ الآخرُ مثله
في كونِ تركه مصلحةَ وفعلهِ مفسدةَ، وفارقَ المخيرين في الأمر
لأنَ غايةَ ما يوجبُ التخيير تَساويهما في الحُسْنِ، وليس يجب
فعلُ كلَّ حَسَن، وكذلك وجبَ فعلُ أحدهما دونَ أن يجب فعلهُما.
ومنها: أنَ الله سبحانه وضعَ الأوامر على ضربين؛ أحدُهما: إذا
فعله البعض نابَ عن الكل، وهي فريضةُ الكفايات، ولم يَضع نهياَ
عن شيءٍ يجعل بتركِ واحدٍ مع إصرارِ الباقين مُسْقِطاً (2)
لمأثمِ الارتكابِ لذلك النهي في حق الباقين، وما ذاكَ إلا لأنَ
التساوي لا القبحِ يوجب هجرانَ الكُل، والتساوي في الحُسْن لا
يوجب فعلَ الكُلّ.
__________
(1) زيادة لا بد منها لاستقامة العبارة.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "مسلطاً".
(3/239)
ومنها أن قالوا: في المنعِ منهما احتياطٌ
حتى لا يُواقَع المحظور والاشتباهُ أبداً يوجبُ الاحتياطَ
بالفعل الزائد، والتركِ الزائد، لئلا يواقَع الحظر وذلك بمثابة
اشتباهِ أُخته أو بنته بالأجانب، أو المسلوخةِ الميتة
بالذكِيّة (1)، أو اشتبهت الصلاةُ المنسيَّةُ بغيرها، فإنَ ذلك
يوجبُ تركَ الجميع، وفعلَ الجميع للاحتياطِ، كذلك ها هنا.
ومنها قولهم: وجدنا أهلَ اللغة يريدون بذلك النَهيَ عنهما،
فإذا قالوا: لا تُطع زيداً أو عمراً. فا لمراد به: لا تُطعهما.
فصل
يجمع الأجوبةَ لنا عن شُبههم
فأما الآيةُ، فلا حجّةَ فيها؛ لأنَ الدلالةَ قامت على أنَ
طاعةَ الآثمِ والكفورِ جميعاً محظوران محرَّمان، فإن طاعةَ
الآثمِ إذا اطلقت إنما ظاهرُها في إثمه، والكفورِ في كفرِه،
كقولِ القائل: لا تطع الظالم. والمرادُ به: في ظلمِه، إذ قد
انعقد الإجماعُ على وجوبِ طاعةِ الآثم والكفورِ إذا أمر بالبرّ
والإيمانِ لا الإثمِ والكُفْر فإن الفاسقَ يجوزُ أن يأمرَ
بالمعروفِ وينهى عن المنكر وتجب طاعتُه.
وكلامُنا في التخيير بين منهيين، لم تقم الدلالةُ على النهيِ
عنهما جميعاً لعلةٍ توجب الجمعَ بينهما، فخرجت الآيةُ عما نحنُ
فيه مختلفون.
وأمَّا قولُهم: ما كان منهيّاً عنه مع غيرِه، ووجَب تركُه مع
ذلك الغيرِ وجب تَركُه بانفراده. فباطل؛ لأنه يجوزُ أن يخُصَّ
اللهُ سبحانه الحظر بالجمعِ دون التفرقةِ، ولهذا حرمَ الجمعَ
بين الأختين، وبين المرأةِ وخالتها، ولا يحرمُ الإفرادُ
لأحداهُما بالعقد، وكذلك الجمعُ بين الدفعة الرابعةِ وما قبلها
في الوضوءِ إساءة وظُلم على ما جاء في الحديث (2)،
__________
(1) أي: الذبيحة المذكاة.
(2) رواه أحمد 2/ 180، والنسائي 1/ 88، وابن ماجه (422)،
والبيهقي 1/ 79، من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده (عبد
الله بن عمرو بن العاص) قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله
عليه وسلم =
(3/240)
ولو فرق ذلك بتجديد مستأنَف أتى به بعدَ
الوضوءِ الأول كان رابعةَ في المعنى، لكن لما لم يَجمع جاز؛
ولأنه إذا جمع بينهما أبطل حُكمَ التخيير وإذا أفردَ أحدَهما
بالفعلِ، والآخرَ بالترك، كان عاملاً بالتخيير.
وأمَّا تعلُّقهم (1) بتساويهما في القُبح، وكُلُّ قبيحٍ يجبُ
تركُه، وتعلقُهم (1) بالمصلحةِ والمفسدةِ فغيرُ صحيح؛ لأنه قد
قدَّمنا أنه لا قبيحَ إلا ما قبحه الشرعُ، ولا حَسَنَ إلا ما
حسنه الشرعُ، وإذا خَيَّر الباري بين تركِ أحدِهما أو الآخرِ
على البدلِ علمنا أنه إنما خَيّره لعلمِه بأنه لا تتركُ إلا ما
قبحَ عنده وفي معلومِه، ولا يفعلُ إلا الحسنَ عنده وفي
معلومِه، كما قلنا في الأمر وأنّه لا يختارُ إلا فعلَ الأصلحِ
عند الله والواجبِ، فبِتخييره علمنا أنه إنما خيّره لعلمه بأنه
لا يختار إلا الواجبَ عنده والأصلحَ الذي لا فساد فيه، وهذا
مساهلة في النظر وإلا فالأصل الذي نعتمده أن الأمرَ والنهيَ لا
يختصّ الأصلحَ، وقد دلَّلنا على ذلك بما فيه كفايةٌ.
وأما تعلقُهم في تركِ الجميع بالاحتياطِ، فباطلٌ بالتخيير بين
شيئين في الأوامر فإنه لا يجبُ فعلُ المخيرين جميعاً احتياطِ،
كذلك لا يجبُ تركُ المخيرين في النهي احتياطاً، ولأنَ
الاحتياطَ إنما يقعُ في الأفعال، ولسنا نمنعُ التاركَ للمخيرين
جميعاً، إنما نمنعُ من التمذهبِ بذلكَ والاعتقادِ له،
والاعتقادُ في الاحتياطِ لا يصحُ؛ لأنَ اعتقادَنا ليس بمحظورِ
بمنزلةِ اعتقادِ ما ليس بواجبٍ واجباً، وكاعتقاد ما هو محظورٌ
مباحاً.
وأمَّا قولُهم: قد يكون في الأمرِ ذلك بدليلِ فرضِ الكفاية،
فلا مثله في النهي؟ ففرضُ الكفاية هو الحجّةُ؛ لأنه نهى أهلَ
القريةِ كلهم عن إهمالِ أمر الميِّت في تجهيزه والصلاة عليه،
فاذا خرجَ أحدُهم عن حكمِ النهي سقطَ المأثمُ عن الكُل، ثم
__________
= يسأله عن الوضوء فأراه ثلاثاً ثلاثاً، قال: "هذا الوضوء، فمن
زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم".
(1) في الأصل: "تعلقها"، والمثبت أنسب للمعنى.
(3/241)
إنه لا يُمنعُ الإفصاحُ بمثل هذا، وهو أن
يقولَ الطبيبُ: لا تأكلْ سَمكاً أو لبناً، معناه: اترك لي في
حميتك أكلَ أحدِهما، ولا أكلّفكَ تركَهما معاً، بل يكفيك
هجرانُ أحدهما، بَلى لا أُسوغ لك جمعَهما. وكذلكَ في بابِ
الصغائر مع الكبائر؛ الكُل قبيحٌ ومكروه، وبهجرانِ الكبائرِ
تُمحقُ الصغائرُ بالتكفيرِ، ولو فَعَلَ الجميعَ لم يَنْحَبِطْ
واحدٌ منهما، وكان مأثمُهما حاصلاً.
وفي باب الطبائعِ والطبِّ؛ يقولُ الطبيبُ: لا تأكل سَمَكاً
ولبناً، فلا يُعطي ذلك تحريمَ كُلِّ واحدٍ على الانفراد،
ويحرمه الطبيبُ مع الاجتماعِ لما يجدُ من المفسدة باجتماعهما.
وأمَّا دعواهم أنَ أهل اللغة يُريدون الجميع من الأمرين، فدعوى
لا برهانَ عليها، وإن اعتمدوا ذلكَ في موضعٍ، فبدلالةٍ تدلُّ
من حالٍ أو قرينةٍ.
فصل
إطلاق النهي يقتضي فساد المنهي عنه
وبهذا قال الجمهورُ من أصحابِ مالكٍ والشافعيِّ وأبي حَنيفة،
منهم الكَرخيُّ (1)، وعيسى بن أبان (2)، وجميعُ أهلِ الظاهر،
وقوم من المتكلمين، كما أن الأمر به يدل على صحته وإجزائه،
وذهب أبو بكر القفال (3) -من أصحاب الشافعي- إلى أنه لا يقتضي
الفساد، وهو مذهبُ المعتزلةِ وأكثرِ المتكلمين من الأشاعرةِ
(4) وغيرِهم، ثم
__________
(1) يعني أبا الحسن الكرخي، تقدمت ترجمته في الصفحة (87) من
الجزء الثاني.
(2) عيسى بن أبان بن صَدَقة، تقدمت ترجمته 2/ 295.
(3) تقدمت ترجمته في الصفحة (44) من الجزء الثاني.
(4) انظر "البرهان" 1/ 238، و"المستصفى" 2/ 24.
(3/242)
اختلفوا في فساده من أي جهة، فقال بعضهم:
من جهة اللغةِ واللسانِ. وقال بعضهم: من جهة الشرعِ دون موجَبِ
اللغة.
فصل
يجمعُ أدلّتنا من جهةِ السنّة على أنه يقتضي الفساد
فمنها: ما روت عائشة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال:
"مَنْ عَمِلَ عَملاً ليس عليه أمرُنا فهو رَد"، وفي لفظٍ: "من
أحدثَ في أمرِنا ما ليسَ منه فهو رد"، وروي: "من أدخل في ديننا
ما ليس منه فهو ردّ" (1)، والردُّ غير المقبول ولا الصحيح.
ومنها: أنَ الصحابةَ رضي الله عنهم استدلوا على فسادِ العقود
بالنهي عنها، فمن ذلك: ما روي أن ابن عمر احتجَ في فسادِ نكاح
المشركات بقوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ
حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221] واحتجاجُهم في فسادِ عقود
الرَّبا بقوله صلى الله عليه وسلم: "لا تَبيعوا الذهبَ
بالذهبِ، ولا الوَرِقَ بالوَرِق، ولا البُرَّ بالبُرَّ، ولا
الشعيرَ بالشعيرِ، ولا التَمرَ بالتمرِ، ولا الملحَ بالملحِ،
إلا سواءً بسواء، عيناً بعينٍ، يَداً بيدٍ" (2)، فتعلقوا في
فساد العقودِ بظواهرِ الألفاظِ في النهي.
فصل
في أسئلتهم على هذه السنن
فمنها: قولُهم: هذه أخبارُآحادٍ مظنونةٌ، لا يجوزُ أن تُثبَتَ
بها الأصولُ المقطوعةُ، كما لا تُثْبَتُ بها أصولُ الدياناتِ.
ومنها: أنَ ألفاظَها لا تعطي ما تريده، ولو لم تكن آحاداً، بل
لو كانت تواتراً ما أفادت الإفسادَ؛ لأنه يُحتمل أن يكون أراد
بقوله: "فهو "رَدٌّ": ليس بمقبولٍ؛ لأنَ الرّدَّ
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة (162) من الجز الأول.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة (58) من الجز الثاني.
(3/243)
ضدُّ القبول، ونحن نقول: إنَ العملَ على
الوجْه المنهيَّ لا ثوابَ فيه، لكنه صحيح بمعنى أنه ليس بعاطلٍ
ولا باطلٍ، بلى إن كانت عبادةً سقطَ بها الفرضُ، ولا ثوابَ،
وإن كان عقداً صحَ من حيث المِلكُ ونقلُ العوضِ والمُعوّضِ إلى
المتعاوضين، لكن عليه مأثم ارتكاب النهي، فهذا معنى الرد، فأما
الإفساد، فلا وجه له، ولا يعطيه لفظُ الردّ.
ومنها: أنه يُحتملُ: من عمل العملَ الذي ليس عليه أمرُ الشرع،
فالفاعلُ لذلك رد، وهو أقربُ إلى حرف هو، وكأنه قال: فالعامل
رد بمعنى مردود، والعربُ تُسمّي الفاعلَ بالفعل، وأنشدونا:
تَرعى إذا غَفَلت حتى إذا ادَّكَرت ... فإنما هي إقْبالٌ
وإدبارُ (1)
يعني: فهي مُقبلةٌ مدبرة، ويريد به الغزالة التي اصطيدَ
خِشْفُها، ترعى عند نيسانها إياه، فإذا ادّكرته صارت مُقبلةً
لطلبه ومُدبرة تذكراً له.
ومنها: أنَ قولَه: "من أدخل في ديينا ما ليس فيه -أو منه- فهو
ردٌّ" لا يعود إلى أصلِ العمل، ولا أصلِ الدين، لكن إن أدخل في
الصلاةِ التفاتاً، أو في الوضوء كدفعةٍ رابعة، أو في الحصى
زيادةً على السبعين، فذلك الزائد رد، وكذا نقول، فأمَّا أصلُ
الصلاة، وأصلُ الطهارة، ورمي الجمار فلا يعطي اللفظُ أن يكون
رداً. ومنها: أنَ ذهابَ الصحابة إلى الإبطال بقرائنَ اقترنت
بالفاظِ النهي لا بمجرّد النهىّ, وذلك محتمل، فنحمله عليه
بدلائلنا التي نذكرها.
فصل
في الأجوبةِ عن أسئلتهم
فأمَّا قولُهم: إنه من أخبارِ الآحاد المتلقّاةِ بالقبول،
ومثلُ ذلك يصلح لإثبات أصول الديانات عندنا، فكيف بأصول
يُسوَّغ فيها الاجتهاد؟
__________
(1) البيت للخنساء، وقد تقدم في الصفحة (205) من الجزء الأول.
(3/244)
على أنَّ هذه الأصول-أعني أصول الفقه- ليست
في رتبةٍ يطلب لها القَطْعياتُ من الأخبارِ والدلائلِ؛ لأنها
مسائلُ اجتهادٍ، والذي يكشفُ عن انحطاطِ رتبةِ أصلِ الفقه عن
رتبةِ أصولِ الديانات، أنَ المخالِفَ لنا فيها لا نكفِّره ولا
يُكَفرنا، ولا نُفَسِّقُهُ ولا يُفَسِّقُنا، ولا نبَدِّعُه ولا
يُبَدَّعنا، لكن نُخَطِّئه، وانحطاط رتبتهِ على هذا الوجه
يحطُّه عن رتبةِ الدلالةِ [في] (1) الثبوت، كالبيِّناتِ؛
يُعتبرُ للعقوباتِ والدماء ما لا يُعتبر للأموالِ، فتَنْحَط
بيّنةُ المال إلى شاهدٍ وامرأتين، وشاهدٍ ويمين، من ظاهر
العدالة، ولا يُكتفى في الزِّنى إلا بأربعةٍ من الشهودِ
الذكورِ المبحوثِ عن عدالةِ باطنهم.
وأما قولُهم: الرَّدُ ضدُ القبول. فقد رضينا بهِ؛ لأنَّ الصحيح
من العباداتِ لا يكونُ إلا مقبولاً، ولا يكونُ مردوداً إلا
ويكونُ باطلاً، وإنما يلزمُ ذلك من يقول: إنَ الصلاة في الدار
المغصوبةِ والسُّترةِ المغصوبةِ صحيحةٌ غيرُ مقبولة. وعندنا لا
يُعتد بعبادةٍ يعتريها أو يعتري شرائِطها نَهيُ الشرع.
على أنَّ الردَّ قد يقعُ على الإبطالِ، يقالُ في النظر رددتُ
عليه كلامَه، وهذه بينة
مَردودةٌ، وكتابُ الرد على أهل البدع، يَعني به (2) إبطالَ
مذاهبهم.
وأما قولُهم: الذي ليس من ديننا هو ما أُدخِلَ على العبادةِ من
الأفعالِ المنهيّ عنها، كالالتفاتِ في الصلاةِ، والسُترةِ
بالغصْبِ، وهما جميعاَ ليسا من ديننا- ليس بصحيح؛ لأنَّ الصلاة
في الثوبِ المغصوبِ، والدارِ الغصبِ، ومع الالتفات ليس من
ديننا، وبيعٌ بشرطٍ فاسدٍ ليس من ديننا، كما أن الشرطَ
والاستتار بالغصب، والالتفاتَ في الصلاةِ ليس من ديننا.
وأمَّا قولُهم في الحكم بإفساد العقودِ إنْ قرائنُ اقترنت. لا
يَصح؛ لأنه لو كانت هناك قرائنُ عن الألفاظِ لما قَنعَ المحتج
بإيرادِ الألفاظ مجردةً عنها؛ لأنَّ عادةَ المحتجِّ
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "يعتريه".
(3/245)
أن يَستقصي في إقامة الدلالةِ، ويذكرَ كُل
معنىً تقوم له به الحجةُ، ولكانوا ينقلونه للحفظِ على العصرِ
الثاني والثالثِ؛ لئلا يُفضيَ إلى تضييعِ الشرعِ.
فصل
في جمعِ أدلّتنا من طريقِ النظرِ بعد الأثر
فمنها: أنَ الأمرَ بالعبادةِ على طريقِ الإيجابِ شَغْلُ
الذمّةِ بعبادةٍ لا على وجهٍ منهيًّ عنه، فإذا أتى بها على
الوجهِ المنهيَّ عنه لم يَحصُل فراغُ ذمته منها؛ لأنه أتى
بغيرها، فصار بمثابةِ من أُمر بالصلاةِ فأتى بالصوم، وكما أنَ
الصلاةَ غيرُ الصوم فالعبادة (1) على الوجه المنهيَّ غيرُ
العبادة على غير الوجهِ المنهيّ.
ومنها: أنَ الحكمَ بصحةِ العبادة وإجزائها طريقهُ أمرُ الشرع،
والإتيان بها على وجهِ النهي لم يَتناوله الأمر فلا يحكم له
بالصحَةِ والإجزاء؛ لأنَّ الصحّة والإجزاءَ حكمان شرعيان، فلا
يحصلان بفعلٍ واحدٍ إلا على وجهِ الأمرِ الشرعيّ.
وربما عبرنا عنه بعبارةٍ أُخرى، وهو أنَّ المنهيَّ عنه لا يكون
مفروضاً ولا مندوباً ولا مباحاً، فلا وجَه لوقوعه صحيحاً؛
لأنَّ الصحة لا تخلو من أحد هذه الأحكام الثلاثة.
ومنها: أنَ الأمرَ يفيْدُ صحّةَ المأمورِ وجوازَه، فيجبُ أن
يكونَ النهيُ يفيدُ حظرَ المنهيَّ وفسادَه؛ لأنَّ الحظرَ
والفسادَ ضدُّ الصحةِ والجواز فإذا أوجبَ الأمرُ معنى، أوجب
ضدُ الأمر -وهو النهيُ- ضد ذلك المعنى.
فصل
في أسئلتهم على أدلتنا
فمنها: أن قالوا: إنَ دعواكم أن ما منع من دخولِ الإيجابِ
والإجزاء والإباحةِ تحتَ الفعلِ المنهيَّ عنه مع الصحةِ دعوى
لا برهانَ عليها، وما أنكرتم على من قال:
__________
(1) في الأصل: "العبادة"، والصواب ما أثبتناه.
(3/246)
إن الصحّة حُكم مفرد عن هذه الأحكامِ، وقد
شهدَ لانفراده صحةُ الصلاةِ في الدارِ المغصوبةِ، والسترةِ
المغصوبةِ، والتوضىء بماءِ مغصوب، والاستنجاءِ بحجرِ مغصوب،
والذَّبحِ بسكّينِ مغصوبة، وصحّةُ الطلاق ونفوذُه مع النهي عنه
حالَ الحيض، والطُّهرِ المُجامَعِ فيه (1). هذا كُله تحصلُ
الصحةُ فيه مع وجودِ النهي وعدمِ الإيجابِ والإباحةِ وقد ساوى
المنهيَّ عنه المأمورَ به في الأصول، ولم يتحصّل نقيضُه في باب
النهي.
ومنها: أن قالوا: إنَ الصحةَ حكم شرعي، والإيجابَ والندبَ
والإباحةَ أحكام شرعيةٌ، وليس من حيث تساوت في كونِ جميعها
أحكاماَ للشرع يجب تساويها في انتفاءِ بعضِها بانتفاء بعضٍ،
بدليلِ أنَ الصلاةَ مع السترة الغصْبِ وفي البقعةِ الغصبِ ليست
المأمور بها من طريق الإيجابِ ولا الإباحةِ، ولم تَنتف الصحةُ
لانتفاءِ الإيجاب لها على وجه النهي، وانتفاءِ الإباحة لها على
تلك الصفة المنهيَّ عنها.
فصل
في أجوبة أسئلتهم
فمنها: أنَّ دَعوانا صحيحةٌ؛ لأنَّ الله سُبحانه قال للمكلَف:
صَلِّ الظهرَ مُستَتراً، متمكِّناَ على الأرض، ولا تجعل
سُترتكَ مغصوبةَ، ولاتَستتر بالغَصبِ، ولا تُصلِّ في
__________
(1) لحديث نافع أن ابن عمر حدثه أنَه طلق امرأته تطليقةَ وهي
حائض، فاستفتى عمرُ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن عبد
الله طلق امرأته وهي حائض، فقال: "مُرْ عبدَالله، فليراجعها،
ثم ليمسكها حتى تطهر من حيضتها هذه، فإذا حاضت أخرى، فطهرت،
فمن شاء فليطلقها قبل أن يجامعها، وإن شاء فليُمسكها".
أخرجه أحمد 2/ 43، 51، 54، 79، 124، 130، والبخاري (4908)،
(5251)، (5258)، (5332)، (5333)، ومسلم (1471)، وأ بوداود
(2180)، (2184)، وابن ماجه (2019)،والزمذي (1175)، (1176)،
والنسائي 6/ 137 - 138، 141،142، 212 - 213 وابن حبان 10/ 77،
مع زيادة في اللفظ عند بعضهم.
(3/247)
مكانٍ مَغْصوبٍ، صار كأنه قال له: صَلِّ في
سُترةٍ مخصوصة بالحِل والإباحةِ، وْبقعةٍ مباحة، فإذا تركَ
هذين الشرطين في أمره سبحانه، وارتكب الأمرين المنهيَّ عنهما،
غيرَ فاعل للصلاةِ مستتراً، ولا معتمداً على بقعةٍ مُعَلقاً،
ومَن صلى بهذه الصفة لم تصح صلاته.
وإنما استشهدنا بنفسِ الغصبِ لتحقق المذهب به منا (1)، ويُوضح
منعنا لما ادَّعَوه من الصحة وانفصالِ النَهي عن الاعتداد،
وإنما ينفصل النهي عن الفعل في النَهي عن المعلق بالفعل
المأمور به، كقوله: صل ولا تغصب أموالَ الناسِ. فلا جَرمَ لو
صلَّى صلاةً تمت في شروطها لم تمتنع صحتُها بارتكابِ الغَصْب،
فأما إذا كان النهيُ راجعاً إلى شرطِ العبادةِ، والشرطُ داخلاً
تحت الأمرِ بها حيثُ كانت مأموراً بها بشرائِطها، فإذا تحقق
النهيُ في شرطٍ أوجَبَ اختلالُ ذلكَ الشرطِ أن (2) لا يَحصلَ
امتثالُ المأمورِ بالسترِ بما نُهيَ عنه من السَتر فيصير
عادماً للستر ومن أعدمَ شرطاً من الشروط الداخلةِ تحت الأمرِ
بالعبادةِ، فما أتى بالعبادةِ بشروطِها، فامتنعت الصحةُ لهذا
المعنى، فقد عاد استشهادُهم إلزاماً، فكان آكدَ من إيرادِه على
وجه المنع، والله أعلم.
فصل
يجمعُ شبَههم في النهي، وأنه لايقتضي فسادَ المنهيِّ عنه
فمنها: أن قالوا: لو كان النهيُ علّةً للفساد لما جاز أن
ينفردَ عنه معلوله؛ لأن العللَ أبداً تستتبع أحكامَها، فلما
ثبت في الشرعِ نواهي لا تُوجبُ الفساد، وتجتمعُ معها الصحّةُ،
بطلَ أن يكونَ النهيُ موجباً للفساد. ومما يشهدُ لهذه الدعوى
وأنَ لنا
__________
(1) انظر حكم الصلاة في الموضع المغصوب في مذهب الإمام أحمد في
"المغني"، 2/ 477، و"المبدع" 1/ 394.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "إذ".
(3/248)
نهياَ لا يتبعهُ الفسادُ؛ الطلاقُ حالَ
الحيضِ -مَنهيٌ عنه، وهو صحيحٌ، واقعٌ، نافذٌ، مزيلٌ للملك عن
الأبْضاع، تترتب عليه الأحكامُ من انقضاء العِدَدِ، وإباحةِ
المطَّلقةِ للأزواجِ-، والبيعُ عند النداءِ إلى الجمعةِ،
والذَّبحُ بالسَّكين المغصوبةِ، والوضوءُ بالماءِ المغصوبِ.
ومنها: أنه لو كان النهيُ يقتضى الفسادَ لكان إذا تناول ما ليس
بفاسدِ أن يكون مجازاً، فلما كان حقيقةَ، وإن لم يوجب الفسادَ،
عُلمَ أنه لم يسلب مقتضاه، وهو الفسادُ، بل انعدم الزائدُ على
مقتضاه الذي يَثبُتُ بالدليلِ، وينتفي بانتفاء الدليل.
ومنها: أنَ القولَ بالفسادِ يوجب إعادةَ الفعل، وليس في اللفظ
ما يقتضي الإعادةَ، وإنما يعطي وجوبَ الفعلِ فقط، فمدّعي وجوبِ
الإعادةِ يحتاجُ إلى دلالة من غيرِ اللفظ.
ومنها: أنَ الفسادَ صفةٌ زائدة على الحظرِ والتحريمِ، والذي
اقتضاه اللفظُ استدعاءَ التركِ والكف، فمدّعي زيادةِ هذا
الوصفِ يحتاج إلى أمرِ يزيد على اللفظِ، وهي دلالة تُوجبُ
الفسادَ.
فصل
في الأجوبةِ عن شُبههم
أما قولُهم: لو كان مُقتضاه الفسادَ لما انفصلَ عنه، كالمعلولِ
مع علتِه.
لا يلزمُ؛ لأنه إنما يَنفصل عنه بدلالةٍ، وانفصالُه عنه
بدلالةِ لا يمنعُ كونَه من مقتضاه، كالتحريمِ، فإنه قد ينفصلُ
عن النهيِ بدلالةِ، ولا يدُلّ على أنه ليس من مقتضاه، (1 كما
نَجدُ نَهياَ، ولا يوجب تَحريماً 1)، كما نجد نَهياً ولا يوجبُ
فساداً، فما يلزمُنَا في انفصالِ الفسادِ عنه يَلزمكم في
انفصالِ التحريمِ عنه، ويبقى بعد خروجِ الفسادِ بالدليلِ
كالعمومِ المخصوص بالدليل.
__________
(1 - 1) مُكرَّر في الأصل.
(3/249)
وأما استشهادُهم بالبَيْعِ وقتَ النداءِ، وغيرِ ذلك من
المسائلِ، فلا نُسلمه، بل جميعُ ذلك يقتضي الفَساد.
وأمَّا قولُهم: وَجَبَ إذا انفصلَ عنه الفسادُ أن يبقى مجازاً.
ليس بلازم، فإنه لم ينتقل عن جميع موجَبه، وإنما انتقل عن بعض
موجَبه، فصار كالعموم الذي إذا خرج بعضه بقي حقيقةً فيما بقي.
فإن قيل: فما تقولُ إذا قامت الدلالةُ على نقلِه عن التحريم؛
قيل: يبقى نهياً حقيقةً على التنزيه، كما نقول: إذا قامت
دلالةُ الأمرِ على أنَّ الأمر ليس على الوجوب بقي أمراً.
وأما قولُهم: ليس في الصيغةِ ما يوجب القضاءَ، فالإتيانُ به
على وجه النهي أعدمه شرطاً، فلم تبرأ الذمةُ عن الفعلِ، فكان
على وجوبه.
فالإعادة من ها هنا استفيدت لا من نفسِ الصيغةِ؛ لأنه لمّاَ
أتى به على وجهِ النَهي، جعلناه كأنه لم يأتِ به ولا خرجَ عن
عهدتِه.
وأما قولُهم: إنَ الفسادَ صفة زائدة على النهي.
فالصحّةُ من مقتضى متابعةِ الشرع ولا متابعةَ مع النهي، فلم
يبقَ إلا عدمُ الصحة، وليس بين الصحةِ والفسادِ واسطةٌ، فاذا
أوجبَ الدليلُ عدمَ الصحّة، وجب الفسادُ لا محالةَ، وليست
أمراً زائداً على النَهي؛ لأن النهيَ منعٌ، وما أمرَ اللهُ به
فلم يأمرُ به على وجهِ النهي، فالمفعولُ غيرُ مأمور، فلم يعتد
به كفعل آخر غير المأمورِ به. |