الواضح في أصول الفقه

فصل
والنهيُ إذا كان في غيرِ العبادة، ولا لمعنى في عَينِ المنهي عنه، بل في غيره، كالصلاةِ في الثوبِ المغصوبِ والدارِ الغصْب، والبيعِ وقتَ النداءِ، منعَ الصحة، كما لو كان النهيُ لمعنى فيه.
وبهذا قال جماعة من المعتزلةِ، خلافاً لأكثر الفقهاءِ والأشعرية في قولهم: الصلاةُ

(3/250)


صَحيحة (1)، والبيع صحيح (2)،

فصل
في دلائلنا
فمنها: ما تقدّم من قول النبيّ صلى الله عليه وسلم:" مَن عَمِلَ عَمَلاَ ليس عليه أمْرُنا فهو ردّ" (3)، فكيف بعملٍ عليه نهيه (4)؟ ولا خلاف بيننا أنه منهي عن الصلاةِ في البقعةِ والثوبِ الغصبِ، وظاهرُ الخبرِ يقتضى أن يكون ردّاً، والردُّ ضدّ القبول، وما اعتد به لا يكون ردّاً ولا مردوداً، فَعُلم أنه لا يُعتدُ بها، فإن أعادوا تلك الأسئلةَ، فعليها تلك الأجوبة.
ومنها: أنَ الله سبحانه لما أمَر بالصلاةِ، أمرَ بها مشروطةَ بالسترة والتمكينِ والاستقرارِ على بُقعةٍ، ونهى عن الاستتارِ بالغَصبِ والاستقرارَ على الغصبِ، فإذا لابسَ النهيَ في الشرطين كان عديمَ الستارة والبقعةِ حكما وكأنه صلّى عرياناَ مُعلَّقاً، ونحرِّره فنقول: إن السُّترةَ من شروطها الشرعيةُ، والاستتارُ بالمغصوب يخلُّ بالشرط المعتبر وقد أجمعت الأمةُ على أن الإخلالِ بالشرطِ المعتبرِ شرعاً يُخل بصحةِ العبادة، فصار ككشفِ العورةِ مع القدرةِ على السُّترةِ.
ومنها: أن الصلاةَ عبادةٌ وقربة، فإذا صلّى واستتَر على وجهٍ منهي عنه، فلا قربةَ؛ لأجلِ أنه عاصٍ بالاستتارِ بالغصبِ، وإذا خرجت الصلاةُ عن القُربةِ خرجت عن الواجبِ عليه المخاطبِ به [و] (5) إنما خوطب بصلاةٍ يَستتر فيها بالحلالِ، وإذا لم
__________
(1) فهم يقولون بصحتها ولكن مع الإثم، فيسقط الفرض بالصلاة في الأرض المغصوبة أو الثوب المغصوب، ولكنه يكون عاصياً بمقامه فيها، أو لبسه له، انظر "المجموع" 3/ 164، و"العدة" 2/ 441، و"البرهان" 1/ 283 - 295 و"المحصول" 2/ 291.
(2) ولكن مع الحرمة والإثم، انظر "المجموع" 4/ 500.
(3) تقدم تخريجه في الصفحة (162) من الجز الأول.
(4) هكذا العبارة في الأصل.
(5) ليست في الأصل.

(3/251)


يكن قد أتى بما وجبَ عليه، كانت الصلاةُ في ذمته بقاءٌ على حكم الأصل.
ومنها: أن الأصلَ المستقرَّ فيما بين العلماءِ أجمع، أنَ النهي لا يقفُ على معنى يخصُّ العين، سواء كان في المعاملاتِ أو العباداتِ، بل وجدناهم حكموا بإبطالِ بيع الخنزيرِ والميتةِ والدمِ لمعنى في الذات (1)، وحكموا بإبطال بَيعْ الصّيْدِ في حق المحرِم وفي الحرمِ (2)، والمنعُ يرجع إلى ذات المحرِمِ والبقعةِ لا إلى عين الصّيْد، وحكموا بإبطالِ الصّومِ والحجِّ بالردّةِ، وإن كان النهيُ عن الردّةِ لا يختصّ الصومَ والحجَّ، بل الردّةُ منهيٌ عنها قبل الإحرامِ، وقبل التلبّسِ بالصيامِ، وبعْدَ الخروجِ منهما، وصارت الردّةُ في إبطالهما بمثابةِ ما يخصّهما من المبطلاتِ، كالوطءِ في الحجِ، والأكلِ في الصومِ، وهذا يدُلُّ على أنَّ السُّترةَ النَّجسةَ التي لا يُنهى عنها إلا لأجلِ الصّلاةِ، والسترةَ المغصوبةَ التي ينهى عنها في الصلاةِ وخارجَ الصلاة، سواءفي المنع مِن الاعتدادِ بالصلاة.
ومنها: أنَّ أهلَ اللغةِ أجمعوا على أن القائلَ لعبْده: امضِ برسالتي إلى فلان، وقف في خدمتي وقتَ كذا، ولا تلبسْ من الثيابِ إلا ما كسوتُك به، ولا تركب إلا الدابّة التي خَصصتكَ بها حين مُضِيِّكَ في رسالتي إلى فلان. أنه أمره أمرأ على صفةٍ مشروطٍ بشرطٍ، وأنه لو مضى في الرسالةِ على غير الدابّة، وخدمَة في غير ما كساه به لم يكن ممتثلاً أمرَه، بل مخالفاً، وأنه بمثابةِ من وقف في خدمتِه عُرياناً، ومضى في رسالتِه ما شياً، فكذلكَ ها هنا -حيث قالَ له الشرعُ: صلِّ مستتراً، ولا تَستتر
__________
(1) لحديث جابر قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم فتح مكة:"إنَ الله ورسوله حرما بيع الخنازير وبيعَ الميتة وبيع الأصنام". أخرجه أحمد 3/ 326، والبخاري (2236) و (4633)، ومسلم (1581)، وأبوداود (3486)، وابن ماجه (2167)، والترمذي (1297)، والنسائي 7/ 309 - 310، وابن حبان (4937).
(2) ذلك أنهم اعتبروا صيد المحرِم في حكم الميتة لا يجوز أكله. انظر "المغني" 5/ 139، و"كشاف القناع" 2/ 502 - 514 و" البناية شرح الهداية" 7/ 723، و"القوانين الفقهية" ص (137).

(3/252)


بالغصبِ، ومتمكِّناً من الأرض، ولا تَعتَمدْ على بقعةٍ مغصوبةٍ -لايكون لأمر الله ممتثلاً، فبقيت الصلاةُ المأمورُ بها على ما كانت مُشغِلةً لذمته، غيرَ خارج من عُهدتها.

فصل
في أسئلتهم
فمنها: أن الصلاةَ تكبير وقراءة وركوع وسجود بنية القربةِ إلى الله سبحانه، والاستقرارُ والسترُ بالغصبِ وعلى الغصب ليس بقربةٍ، والأصلُ الأذكارُ والأفعالُ، فلِمَ أبطلتم ما وقَع قربةً وهو الأقصدُ والآكدُ بما لم يقع على وجهِ القربةِ، وما مثلكم إلا مثلُ قائلٍ بإحباطِ أعمالِ القُرَبِ والطاعاتِ بإعمالِ المعاصي والمخالفاتِ، وذلك مذهبُ المعتزلةِ، وليس بمذهبٍ لكم.
ومنها أن قالوا: النهيُ عن الاستتارِ بالغصبِ والكونِ في الدارِ الغصبِ نَهي لا يختصُّ الصلاة، ولهذا ينهى عنها قبلَ الدخولِ في الصلاةِ، وبعد التحللِ من الصلاة، فصار غصبُ السترةِ والبقعةِ كغصبِ ثوبٍ يجعلُه في كُمِّه ويصلي معه، ودارٍ يغصبها فيودِعُها أهلَه ورحلَه ويصلي في غيرها، لا يمنعُ صحةَ الصلاةِ والاعتدادَ بها، كذلكَ في مسألتنا.

فصل
في الأجوبة عما قالوه
أما إقرارهم بأنَّ الاستقرارَ والاستتارَ غير (1) قُربة بل (2) مَعصية، فكافٍ في إبطالِ العبادة. إذ الله سبحانه أوجبَ أن تكونَ الصلاةُ كلُّها بشروطِها وأركانِها قربةً إليه، فإذا كان بعضُها قربةً، وبعضُها معصيةً، فهم المطالبون بالدلالةِ على صحةِ الصلاةِ،
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "عن".
(2) تحرفت في الأصل إلى: "بين".

(3/253)


وإجزائها، والاعتدادِ بها؛ لأن المخاطبَ بجُملةٍ كلُّها يجب أن تقَع قُربةً (1)، وإذا أتى ببعضها لم يكُ مطيعاً ولا ممتثلاً ولا محصِّلاً لِما كُلِّفَه. فكذلكَ إذا تقرب ببعضها لم يكُ متقرِّباً بما كُلِّفه، لا سيما وليس ينفصلُ بعضُ الصلاةِ عن بعضٍ في الصحةِ والفسادِ، بخلافِ الطاعةِ المفردة عن الطاعة الأخرى، كالصومِ مع الصلاةِ، لا تبطل إحداهما ببطلانِ الأخرى، وبخلافِ المعصية المنفردةِ لا تَبطل بها العبادةُ؛ لأنَّ العبادةَ كملَت بشروطها، فأمَّا إذا كانت المعصيةُ في أبعاضِها، لم تكمل، وصار كالتركِ لعبادةٍ لا تُبطل ما فعله المكلَّف من عبادة أخرى، ولو تركَ بعض أركان العبادةِ لم تفسد بما بقي منها، لارتباطِ بعض أفعالها وأركانِها بعضه ببعض.
وأما تعويلهم على أنَّ النَهي لا يختص الصلاةَ، فباطلٌ بكشف العورةِ لا يختص النهيُ عنه الصلاةَ، بل كشفُها بمحضرٍ من الناسِ يُبطلها، وإن كان لو كشفها خارجَ الصلاةِ كان عاصياً، وكذلكَ الوطءُ في حق المعتدّةِ والصائمةِ، لا يختصّ الإحرام (2)، ولو أحرمت كان الوطءُ مبطلاً لإحرامِها على معنى قولكم: لا يختصّ الصلاةَ. أنه يعُمّ خارجَ الصلاة وداخلها، ولا يمتنع أن يكون عاصياً به خارجَ الصلاة، مُبطلاً للصلاةِ بفعله داخل الصلاة، كما أن السجودَ للشيطانِ أو الصنمِ محظورٌ خارجَ الصلاةِ، مبطلٌ لها إذا فعلَه أو نواه في الصلاة.

فصل
في جمع شُبَههم
فمنها: أنَهم زعموا أنَ الصلاةَ جنس ومعنى غيرُ الغَصْب؛ لأنَّ الصلاةَ حركاتُ المصلّي وسكناتُه وأذكارُه، والغصب متناولٌ لأجزاءِ الدار وذاتِها وأبعاضِها، فأين الصلاةُ من الغصب؟
__________
(1) بعدها في الأصل: "ومقرباً"، ولا تستقيم العبارة بها.
(2) هكذا في الأصل. ولعل الصواب: "المحرمة"

(3/254)


ومنها: أن الإنسانَ لا بُد له من مُستقَرٍ يستقرُّعليه، سواء مَلكه أو ملكَ غيرَه، فصاربمثابةِ الفضاءِ حالَ قيامه، لما لم يكن بُدٌ من فضاء يقوم فيه وتنتشرُ قامتُه فيه، لا جَرَم لا فرقَ بين انتشار قامتِه في هواءِ ملكِه، أو هواءِ ملك غيره.
ومنها ما تعاطاه بعضُهم، وقال: إنَّ الكونَ في الدارِ على وجْهِ التعدّي والغصبِ، والصلاةَ طاعة في نفس وقُربة، وهي منفصلة من الغصبِ، والدليلُ على انفصالِه عنها أنه قد يفعل الكونَ في الدار من لم يكن مُصلّياً.
ومنها ما احتج به فيَ الشيخُ الإمامُ أبو سَعد المتولِّي (1) -رحمه الله- بمجلس قاضي القضاة الدامغاني (2) -رضي الله عنه- بمجلس النظر بدارٍ بنَهرِ القَلاَّئين (3)، فقال: أجمعنا على أنَّ العبدَ الآبقَ عن سيده غاصبٌ لنفسه، وهو يُصلّي بجملته وأجزائه، وأجمعنا على صحةِ صلاتِه مع كونه مصلياً بذاتِه وأركانِه المغصوبةِ، فصلاةُ غير العبدِ الآبقِ، الحر المالكِ لنفسه وأجزائه وأعمالِه إذا صلى في بقعةٍ مغصوبةٍ، أوْلى أن تصحّ صلاتُه.
__________
(1) هو أبوسعد عبد الرحمن بن مأمون بن علي النيسابوري المتولّي، أحد الأئمة الشافعية الرفعاء، له عدة مصنفات منها "مختصر في الفرائض"، و"كتاب في الخلاف"، و"مصنف في أُصول الدين" توفي سنة (478 هـ)، "طبقات السبكي" 5/ 106، "طبقات الإسنوي" 1/ 305 - 306، "سير أعلام النبلاء" 18/ 585.
(2) هو أبوعبد الله، محمدُ بن علي بن محمد بن حسن بن عبد الوهاب بن حسويه الدامغاني الحنفي، ولدَ بدامغان سنة (398 هـ) سكنَ بغداد ودرسَ بها فقه أبي حنيفة، وتولى قضاءَ القضاة وانتهت إليه الرئاسة في مذهب العراقيين، توفي سنة (478 هـ). "تاريخ بغداد" 3/ 109، "الفوائد البهية" 182 - 183، "سير أعلام النبلاء"18/ 485.
(3) جمع قَلاء، للذي يقلي السمك، وهي محلةٌ كبيرةٌ ببغداد في شرقي الكرخ، نُسب إليها عدد من العلماء من بينهم أبوالبركات عبد الله بن المبارك الأنماطي النَّهري توفي سنة (538 هـ)، انظر "مُعْجَم البلدان" 5/ 322 - 323.

(3/255)


فصل
في الأجوبة عن شُبَههم
أمَّا الأولى: ودعواهم أنَ الغصبَ يتناولُ الدارَ عَينها وأجزاءها. فإنها دعوى بعيدةٌ؛ لأن المالكَ من الآدميين لا يملكُ عينَ شيء عند الفقهاءِ أجمعَ، وإنما يملكُ التصرّف بالتقلبِ فيها، والإكوانِ، وإيقاعِ الآثارِ في سطحها وأعماقها، فأما الأجزاءُ والأعيانُ، فاللهُ سبحانَه المنفردُ بها، حتى إنَ المعتزلةَ منهم قالوا: بأنَّ الأعيانَ لا يملكها مالكٌ، لا القديمُ ولا غيرُه، حيث جعلوا الملكَ: القدرةَ، والقدرةُ لا تتسلّط على الموجوداتِ، حتى إنَ الحيوان يختصّ ملكُ الآدميِ فيه بأفعالٍ مخصوصةٍ وآثار مخصوصة، وهي ما لا يضر بالحيوان إضراراً بَيناً، ولا يملكون تحميلَه ما لا يطيق، ولا ضربَه لغيرِ حاجة، ولا إخصاءه، ولا تَبْتيكَ آذانه، ولا كيَّه، والله مالك ذلك فيه، فالقدْر الذي يملكه المالك يتسلط عليه الغاصب، وهل يَنتهي ملكُ المالكِ للدارِ في صلاته فيها إلى أدنى من الكونِ بحركاتِه وسكناتِه، وركوعهِ في هوائها، وسجوده على أرضِها، فالقدْر الذي ينتهي تسلّط المالكِ وتصرّفُه ينتهي إليه تصرفُ الغاصبِ، والصلاة بأكوانٍ مخصوصةٍ وبحركاتٍ مخصوصة في قرارِ الدارِ وهوائها، فأينَ انفصالُ الغصبِ عن الصلاة؟
ولأنَّ الغاصبَ بحركاتِه وسَكناتِه ومضيه في الجهاتِ حالَ صلاتِه مستمتع بالدارِ كاستمتاعِ مالكها، ثم إنه بذلك مانع صاحبَها من الانتفاعِ بمثلِ انتفاعِ الغاصبِ، فلا يمكنه الصلاةُ في المكانِ الذي يُصلي فيه الغاصبُ، ولا إشغالُه بوضع عدل ولا شيءٍ يملأ تلك البقعةَ من الدار فقد بان بأنه غاصب بالصلاةِ مكانَ الصلاة وهواءها بكلِ كونِ يفعله وجهةٍ يملؤها بذاتِه وأعضائِه وحركاتِه وسكناته.
والذي يوضحُ ذلكَ ما قال الفقهاء: إن من كان له شجرة، فخرجت أغصانها، وبَسَقت إلى هواء دار جاره، أو غَرقت عروقُها إلى بئرِ جارِه، كان باستدامة ذلك

(3/256)


عاصياً ومتعدّياً، ووجبَ رفعُ ذلك عن هواء جاره وأعماقِ داره، كما يجب رفعُ الأمتعة التي يضعها في الهواءِ والقرار.
وأمَّا قولُهم: إن المصلي لا بُدّ له من بقعةٍ في صلاته؛ وغير صلاته؛ لأنه جسم لا بُدّ له من مكان يكون فيه ويعتمد عليه، فلا يختصُّ ذلكَ بصَلاتِه. فإنه كلامٌ ركيكٌ، لأنه كما لا يختضُ الكونُ بالصلاةِ فيها، بل يكونُ فيها ولا صلاة، فإنه لا يصلي فيها ولا بحصولِ الكونِ فيها، وكونُه فيها في صلاة ليس يغيرُ لكونه في غير صلاة، كما أنَ كونَه فيها قاعداً لا يكونُ غيرَ كونه فيها قائماً، وكونُه فيها على كلا الحالين من حيث كونه شاغلاً للمكان لا يختلفُ ولا يتغايرُ، وإنما انضمّ إلى كونه نيّةُ الصلاةِ، فلا يخرجُ عن كونه غاصباً بالكونِ في صلاةٍ كان أو في غيرِها، ولو كان الكونُ في الدارِ غير مصلٍ، مع كونه مصلياً خلا من ضدّين لما صحَ أن يجتَمع كونُه في الدار مصلياً؛ لأنَّ ذلك يوجبُ اجتماعَ الأضدادِ.
وأما شبهةُ المتولّي -رحمه الله- فكان جوابي عنها بالمجلسِ الذي أوردها فيه: أنَ الآبقَ عبْدٌ في غير أوقاتِ الصلوات، فأمَّا أوقاتُ الصلوات، فإنه لا حقَ للسيد فيها على العبد؛ لأنه لا يملكُ فيها استخدامَه بشيء من الخدمة، ولا تعويقَه، ولا يكونُ في ذلكَ الوقتِ غاصِباً لنفسِه، ولا آبقاً عن سيّده، فصارت صلاةُ الآبق في أوقاتِ الفرائضِ المقتطعةِ من ملكِ السيّد وحقه بمثابة بيتٍ يخضُ الغاصبَ ملكُه في الدارِ المغصوبة، إذا صلّى فيه كانت صلاتُه صحيحةً بخروجِه عن الغصب. والذي تَحقق غَصبُه لنفسه فيها من الصلواتِ تكون عندنا باطلةً، وهي النافلةُ، والعبدُ بين شريكين إذا تَهايَأهُ سَيّداه، لم يكن في شُغلِه بخدمةِ أحدِهما عاصياً، فيكف بمالك العينِ معه مالكُ الرِّق إذا كان في طاعته لم يكن عاصياً.

(3/257)


فصول
القول في فحوى الخطاب ودليله
فصل
في فحوى الخطاب
وهو التنبيه والأولى، وذلك مثل قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23] {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ ......} [آل عمران: 75].
فهذا مما لا خلاف فيه بين جمهورِ أهلِ العلم إلا ما شذَّ عن بعضِ أهلِ الظاهر.
حكاه أبو القاسم الخَزري (1) عن داود، وحُكِيَ عن قوم أنه مستفادٌ من اللفظِ.
والصحيحُ عندنا: أنه مستفادٌ من فحوى اللفظ.
وقال أصحاب الشافعي: إنه قياس واضحٌ، وقيل: قياسٌ جلي (2).
فالدلالةُ على العملِ به وأنه دليلٌ معمولٌ به؛ أن النهيَ عن الأعلى حاصلٌ بذكرِ النهي عن الأدنى، وأن الأمانةَ على الأعلى دلالة على الأمانةِ على الأدنى، وأن نفيَ الأمانةِ على الأدنى دلالة على نفيِ الأمانة [على] (3) الأعلى، وقد قالَ به واحتجَّ من لا
__________
(1) هو عيَّاش بن الحسنِ بن عياش أبوالقاسمم القاضي، المعروف بابن الخَزَري- نسبة إلى الخَزَر وهم صنفٌ من الترك -سمع القاضي المحاملي، وابنَ مخلد، وابنَ الأنبار كان من الذين وقَّعوا محضر الطعن في نَسبِ العُبيديين سنة (402 هـ). انظر "تاريخ بغداد" 12/ 279، "الإكمال" 2/ 201، "المنتظم" 7/ 256 "توضيح المشتبه" 2/ 322.
(2) انظر "المحصول" 5/ 121، و"البحر المحيط" 4/ 7.
(3) ليست في الأصل.

(3/258)


يقول بالمعنى، وهم أهلُ الظاهر.
ومثاله من السنة: نهيُ النبي صلى الله عليه وسلم عن التَّضحية بالعوراء (1)، تنبيهاً على النهي عن التضحية بالعَمياء، فهذا مثاله في الأمرِ والنهي، ومن التنبيه في باب الإخبار، قوله تعالى: {وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا} [النساء: 77]، {وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا}} [الأنبياء: 47]، {وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا} [النساء: 124]، فذكر القليلَ تَنبيهاً على الكثيرِ، نافياً للظلم عن نفسِه سبحانه.

فصل
في الدلالةِ على الاحتجاجِ به
فمن ذلكَ: أن هذا ظاهر من لغةِ العربِ، وأنَّ العبد المنهي عن إعطاءِ زيد حبة، لا يحسنُ أن يَستفهِم سيّدَه الناهي له؛ فهل أُعطيه قيراطاً لما في القيراط من الحبَّات؟
وكذلكَ إذا قال: لا تَقل لأبيكَ أُفٍّ، لا يحسُنُ أن يقول: فهل تَفسح لي في ضربِه أو انتهارِه؟ لِما في الضربِ والانتهارِ من الأذية المتضاعفةِ على أذيّة التبرّمِ والضجَرِ؟ ومن جَحدَ ذلك سفَّهَ أهل اللغة، وأسقط حُكمَ الخطابِ.
ومنها: أنَ المنعَ من التأفيفِ لأجلِ الأذى بالتضجُّر بهما، لا لأجل مجرَّد اللفظةِ، والمفهومُ من التضجّر الأذى، وفي شتمِ الأبوينِ وسبهما ما يزيدُ على التضجُّر والتبرُّم، فكان منهياً عنه.
ومنها: أن هذا مما يتساوى في فهمِه النساءُ والسوقةُ، ولا يقف على المتميزين من
__________
(1) ثبتَ ذلك بحديث البراءِ بن عازب، أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أربعٌ لا يُضحَّى بهنَ: العوراءُ البيّن عَوَرها، والمريضةُ البين مرضُها، والعرجاءُ البين ظَلَعُها، والعَجْفاءُ التي لا تُنْقي".
والظلَع: العرجُ، والعجفاءُ: الهزيلةُ، والتي لا تُنقى: هي التي لا نِقْي لعظامها -وهو المخ- من الضعف والهزال. أخرجه الترمذي (1497)، والنسائي 7/ 215 - 216، والبيهقي 9/ 274، والحاكم 4/ 223، وابن حبان (5919) و (5921)، (5922).

(3/259)


أهلِ اللغة، ولا أربابِ الاستنباطِ، فإذا قال قائل: لا تَقْذِ (1) عينَ بعير زيدٍ، ولا تمكن القَرْنَاءَ من غَنمك من نَطح الجماء (2) من غنمه. عُلم مبادرةَ [من] (3) هذا اللفظِ أنه قصدَ حسم مواد الأذايا بذكره أدناها، ألا ترى أنه لا يحسنُ بعد ذلك أن يقول: واقلع عَينيه، أو اضرب عنقَه، أو اذبح مواشيه، بل يكون في ذلك على غايةِ المناقضةِ في وصيّته.
ومنها: أنَّ هذا موضوعٌ عند أهلِ اللغةِ، كوضع الأسماءِ للمسمَّيات (4) حتى إن الواحدَ منهم إذا أرادَ النهيَ أو رَفْعَ المنةِ رَفَعَ قَذاةَ (5) من الأرضِ أو مَدرةً (6)، فقال: لا تَظلم زيداً بمثلِ هذه، ولا تتلبس من مال فلانٍ بهذه. فيسبق إلى فهمِ كُل سامعٍ أنه أراد نهيَه عَمّا (7) زاد عليها ورفع المنّة بما زاد عليها، فهذا وضعُ القومِ ولُغتهم.
فإن قيل: إنما نفهم ذلك فيما بيننا بالمعهودات من الأحوالِ والقرائِن، فأما في حقِّ الله سُبحانه، فلا عهدَ بيننا وبينه، بل قد يكون ناهياً عن الأقل قُبحاً إلى الأشدَ الأكثر مثل قوله: ولا تُعطِش ناقَتك ولا بقرتَك، ولا تَنْتِف ريشةَ دجاجتِك، ولاتخرم أذنَ بعيرك، واختِنْ وَلدَك، واذبَح ناقَتك تَقرُّباً إليّ، أغفِر لك بأوَّل قطرةِ تَقطر من دَمِها.
فما يُؤمِنَّا نحن أن نأخذَ النهي عن الأعلى بالنهي عن الأدنى بعد هذا؟ بل الجمودُ على حكمِ الأصلِ إلى أن تردَ دلالةٌ أولى وأحرى.
__________
(1) القذى: ما يقع في العين فيؤذيها. "اللسان": (قذى).
(2) الجماء: هي التي لا قرن لها.
(3) ليست في الأصل.
(4) تحرفت في الأصل إلى: "المسمات".
(5) القَذاة: هي ما يقع في العين والماء والشراب، من تراب أو تبنٍ أو غير ذلك. "اللسان": (قذى).
(6) المدَرَة: هي قطعة الطين. "اللسان": (مَدر).
(7) في الأصل: "فما".

(3/260)


فيقال: الأصلُ في اللغةِ ذلك، وفي المعقولِ فإذا ورد إباحة بما هو أشدّ الأذايا.
كان تَحكُّماً معقولاً، فَنحنُ نعملُ بظاهرِ اللفظ إلى أن تَرِدَ دلالة تُخرجُ عنه بتحكمٍ شرعي.
ومنها: أنَّ القصدَ من الكلامِ التفاهمُ وإيصالُ ما في نفسِ المتكلم إلى مخاطِبه ومكالمِه، فاذا عوَّل على مجرد اللفظ دون دلائلِ الأحوالِ والمقاصدِ المطويّة في الأقوال (1)، وهل يخفى [على] (2) عاقل من أهل اللغة إذا قيل له: لا تعبس في وجْهِ فلان. أنه قصد بذلكَ صيانتَه عن أذيَّته بما فوق التعبيسِ من هُجْرِ الكلامِ وخشنِ الفعالِ، وما يزيدُ على أذيَّة التعبيس.
ومنها: أنَّ قائلاً لو قال لأمير سريَّة: إذا ملكتَ البلدَ، فلا تُطْفىء فيه سراجَ، بقّالٍ، ولا تَسلبهم حَبْلاً ولا عقالاً، وقد نبّه النبي صلى الله عليه وسلم بمثلِ ذلك، فقال في اللُّقَطةِ: "احفَظ عِفاصَها ووِكاءَها" (3)، وقال في الغنائم: "أدّوا الخَيْطَ والمِخْيَطَ، من سرق عصا فعليه ردّها" (4)، عَقَلَ منه ما يزيدُ على إطفاءِ السراجِ وغَصب العقالِ، وبما في
__________
(1) لم يرد جواب إذا، والمعنى مفهوم من السياق.
(2) ليست في الأصل.
(3) أخرجه أحمد 116/ 4 وه / 193، ومسلم (1722)، وابن ماجه (2507)، وأبوداود (706)، والترمذي (1373)، والطبراني (5237)، والبيهقي 6/ 192 و 193، وابن حبان (4895) من حديث زيد بن خالد الجهني قال: سئل رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عن اللقطة، فقال:"عرِّفها سنَة، فإن لم تعرف، فاعرف عِفاصها، ووِكاءها، ثمَّ كلها، فإن جاء صاحبها، فأدَّها إليه".
والعِفاص: الوعاء الذي تكون فيه النفقة، من جلد أو خرقة أو غير ذلك.
والوِكاء: هو الخيط الذي يشدُ به الكيس أو الصرة.
"النهاية في غريب الحديث" 3/ 263، و5/ 222.
(4) أخرجه أحمد 2/ 184، ومالك في"الموطأ" 2/ 458، وأبوداود (2694)، وابن ماجه (2850)، وابن حبان (4855) من حديث عبادة بن الصامت، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:" أدو الخِياط والمِخيَط، فمنَ الغُلولَ عاو ونار وشنار على أهله يوم القيامة". =

(3/261)


الصرّة الملتقطةِ من الدنانيرِ والدراهمِ وراءَ الوكاءِ والعِفاصِ، وأداءِ الثيابِ والرحالِ من الغنائم، ورد الأجذاعِ والأخشابِ المغصوبةِ، حتى لو قالَ الآمرُ بذلك بعد هذا: ولا تَحفَظ ما وراء الوِكاءِ والعفاصِ، ولاتُطفىء سراج بقالٍ وانْهَبْ ما في دُكّانه من الأمتعةِ والمالِ. عُدَ مُناقضاً في كلامه، واستُهجنَ ذلك منه، وما ذاك إلا لأنَّ المفهومَ من كلامه الفَحوى الذي أوضحناه، وإنما قصدَ بهذا أهلُ اللُّغة الاستقصاءَ، ألا ترى أنه إذا قال: ما أنفقتُ من مالِ فلانٍ ألفَ دينار لم يمنع ذلك أن يكونَ قد أنفقَ ما دونها، وإذا قال: ما أنفقتُ من ماله حبّةً. أعطانا ذلك وأفادنا أنه لم يُنفق ما فَوقها.

فصل
في الدلالةِ على من زعَم أنَ الحكمَ فيه مستفاد من طريق اللفظ: أنه ملفوظ بالنهي عن الأذِية الزائدةِ على التبرّمِ بالتأفيفِ.
فنقولُ: إنَ الملفوظَ به إنما هو النهي عن التأفيفِ، فهذا منصوصٌ، والمفهومُ من اللفظِ نفيُ الأذى الزائدِ على أذيةِ التأفيفِ، وهذا نوعُ استدلالٍ، والمنصوصُ الملفوظُ لا يحتاجُ إلى استدلالِ، ولولا ما سبقَ من علمِ القصْدِ من طريقِ العُرفِ نفيَ الأذايا لما عُقِلَ منه إلا النهيُ عن نَفسِ الحَرْفَين (1)، وهي الملفوظُ بها، وإنما دلالةُ العرف أرشدت إلى النهي عما زادَ عليها، ولربما قاربَ القياسَ، ولهذا ذهب الشافعي رضي الله عنه إلى أنه قياسى جلي، وقيل: قياسى واضحى، فإنه يلمحُ ما في التأفيفِ من التضجر، وينظر إلى ما في السبّ والانتهارِ من زيادةِ الأذى بهما، فيجعلُ التأفيفَ أصلاً تُردُّ إليه كل أذيةٍ مساويةٍ له، فيكون قياساً، وكُل أذيّة تَزيد عليه تكون تنبيهاً، وذلك أوضحُ الأقيسة.
__________
= أما الزيادة التي ذكرها المصنف: "ومَن سرق عصا فليردها" فلم نقف عليها في كتب السنة التي بين أيدينا.
(1) يعني كلمة: أُف.

(3/262)


فصل
والدلالةُ على أنه ليس بقياسٍ: أنَّ القياسَ والمعنى: أخذُ الحكمِ للفرعِ من أصلٍ وجدت فيه علّةُ الحكم، كتحريمِ النبيذِ لاجتماعِه والخمر (1) في الشدّةِ المطرِبةِ، فأما الأولى فإنه إثباتُ حكمٍ لبعضٍ، والبعضُ من جملة الكُل، كإفاضة الحكمِ على الأكثرِ لوجودِه في الأقلِ ليس بمعنى، بل مفهومُ الخطابِ ذاكَ في الكُل والبعضِ، وما شملَه حكمٌ من طريق النطقِ لم يكن قياساً كالعموم.

فصل
في شُبهةِ من لم يجعل الدلالةَ إلا نفسَ اللفظِ دون ما زادَ عليه
قالوا: المسموعُ الذي قرعَ سمعَ المكلَّف هو النهيُ عن التأفيفِ، وما عداه ليس بمسموعٍ من الشرعِ، فبقينا فيه على حكمِ الأصلِ، وهو الإباحةُ، وبقي المنعُ كسائر الألفاظِ.
وأما شبهةُ من جعلَ ذلك دلالةً من طريقِ اللفظِ دون فحواه، أن قال: إذا قال: لا تظلم أحداً بحبةٍ من مالهِ ولا تؤذه (2) بالتَّقْطيبِ في وجهه. فإنه قد نهاه عن الظلمِ بالدينار لأنَّ في الدينارِ ستين حبّةً، وفي الأذيَّة بالسبِّ أضعافَ الأذيَّةِ بالتقطيبِ، فصارَ بمثابةِ قولِ القائلِ في قَسَمه: واللهِ لا أكلتُ لفلان لُقمة، ولا رويتُ من مائه بشربةٍ أو بجُرعةٍ. فإنه يكونُ حالفاً على الامتناعِ من أكلِ الرغيفِ وشربِ الماءِ الكثيرِ؛ لأنَّ في ذلك الماءِ الكثيرِ أضعافَ الجرعة، فهي جُرعٌ كثيرةٌ، فتدخل الجرعةُ في الماءِ الكثيرِ واللقمةُ في الرغيفِ.
وأما شبهةُ من قال: إنه قياس. أنَّ النهيَ عن التأفيفِ احتاجَ المجتهدَ إلى
__________
(1) في الأصل: "للخمر".
(2) في الأصل "تؤذيه".

(3/263)


استخراجِ ما كان النهيُ عنه لأجله، فوجدَه الأذى بالتضجّر ولَحَظَ ما في الشتمِ والسب من الأذى والضربِ، فوجده أكثَر فعلم أنَ تعليقَ الحكمِ عليه بعلةِ الأذى من طريق الأولى، وهذا هو القياسُ.

فصل
في الجوابِ عن شُبههم
أمَّا قولُهم: إنَ الشتمَ ليس بملفوظٍ به، وليس الملفوظُ به سوى التأفيفِ، فبقي ما عداه من السبِّ والشتمِ على مقتضى الأصلِ، فإنه ليس سوى التأفيفِ، لكن لأجل ما يلحقُ به من التأذي والتألّمِ بالتبرمِ والتضجّر وذلك يعمُ بالمعقولِ كُلَّ أذى يلحقهما من جهته، وهذا عادةُ القومِ ولسانُهم، يقولُ الرجلُ منهم إذا أراد رفعَ السنَة عنه: والله لا شربتُ لك الماءَ من عَطشٍ. فيُعقل من ذلك أنه منَع نفسه من الانتفاعِ بما له، وجعلَ شربَ الماء حَسماً لمادةِ السنِنِ, حيث منعَ نفسَه بما لايُلحِقُ فيه كبيرَ منَةٍ.
وأما قولُ من جعلَه تبعاً من طريقِ اللفظِ، وأنه إذا منعَ من الظلمِ بحبةٍ كان مَنعاً من القيراط لِما فيه من الحبات، فهذا قد يردُ فيما لا يتحققُ فيه المنهيُ عنه، مثل النهي عن التأفيف، وهو قولٌ، فلا يدخلُ فيه الفعلُ؛ وهو الضربُ، وإنما يدخلُ فيه أذيّة الضربِ، وليس للأذية ذكر، لكن للمعنى من اللفظ، فالدينارُ والقيراطُ، وإن كان فيهما عدةُ حبات، إلا أن له اسماً يخصه يخرجُ به عن اسمِ الحبّةِ، دخلت من طريقِ غير اللفظِ، فيقول القائل: لم آخذ حبةً لكن ديناراً، وما سلّمتُ على زيدٍ، لكن سلمتُ على أهل القرية، وإنْ كان فيهم زيد، فللتخصيص حُكم غير التعميم والشمول.
فأما الجوابُ عن شُبهةِ من قال بأنه قياس، وقولهم: إن المعنى الملحوظَ المفهومَ من التأفيفِ هو الأذى، بما في طَيِّه من التبرُمِ والتضخرِ-فلما (1) رأى أنَ في الانتهارِ
__________
(1) في الأصل إلى: "فكما".

(3/264)


والسبِّ والضربِ من الأذى والإضرارِ ما يُوفي على التَّضجرِ، أثبتَ الحكمَ في المسكوتِ عنه بما عقَله من علّةِ المنطوقِ به، وهذا هو القياسُ بعينهِ -فليس بلازمٍ؛ لأنَّ هذا لغة وليس بقياسٍ؛ لأنَّ العرب إذا أرادت تركَ التطويلِ والمبالغةَ في الاختصارِ نبَّهت، فأتت بالتنبيهِ على ما زاد عليه، فإذا أرادت إزالةَ المنَّة قالت له: لا تَشرب له الماءَ من عطشٍ. فاكتفت بذلك عن ذكرِ أسباب المننِ، وإذا أرادت وصفَ إنسانٍ بالخَوَرِ والجُبنِ قالت: فُلان تُبكيه اللَّحظةُ (1) وتفزِعه اللفْظَة، ولهذا يوصل بقولها فضلاً عما زاد عليه. والذي يكشفُ ذلك أنَّ المعنى والقياس يحسنُ فيه الاستفهامُ ولا يحسنُ في الأولى الاستفهامُ، فإذا قال السيدُ لعبدِه: لا تَشرب لزيدٍ ماءً من عطشٍ.
فقال العبدُ: فآكُل من طعامِه؟ وأقبلُ عطاياه وهِباتِه؟ وإذا قال له: لا تَقُلْ لأبيكَ الكبيرِ الذي خَلفه الكِبرُ عندك: "أُفٍّ"، فقالَ الولدُ: هل أشتمه أو أضربه؟ لم يحسن ذلك، كما لو قالَ: لا تؤذِه بنوعٍ من أنواعِ الأذايا. وبمثله لو قال: لا تَبعِ الحِنطَةَ بالحنطةِ متفاضلاً، حَسُن أن يقولَ: فهل أبيعُ الشعيرَ بالشعيرِ متفاضلاً؟
فإن قيل: هذا القَدرُ لا يُعطي إلا أن التَنْبيهَ أوضَحُ وأكشفُ معنى، وهو عندنا قياسٌ جَليّ، فله رتبةٌ على القياسِ الخَفي.
قيل: هذا إقراو بأنه يسبقُ إلى الأفهامِ، ودعوى أنه قياس تسمية، وإلا فالقياسُ لا يُفهمُ إلا بأدنى فكرةٍ، وهذا يُعلمُ منه ما ذكرناه بأوَّلِ وهلةٍ وأسرعِ بادرة.
فمن قيل: لو كانَ مُستفاداً من اللفظِ؛ لكفاني يمينُ المنكرِ إذا ادعي عليه دينارٌ أن يقول: لا يَستحق علي حبةً. ولما احتاجَ أن يقولَ: لا يَستحق عينَ ما ادَعاه ولا شيئاً منه. عُلم أنَ ذكرَ الحبةِ ليس يستفادُ به الإنكارُ والنفيُ لفظاً، إذ لو كانَ كذلك؛ لكانَ قولُه: لا يَستحق عَليَّ حبَّةً. قائماً مقام قوله: لا يَستحق علي ما ادّعاه ولا شيئاً منه.
قيل: لم يكن هذا، لأنه ليس بمستفادٍ من طريقِ فحوى اللفظِ لا المعنى؛ لكن
__________
(1) لحظ إليه: نظر بمؤخرة عينيه من أيِّ جانب كان، يميناً أو شمالا "اللسان": (الحظ).

(3/265)


لأنه ليس بنص ولا يُكتَفى في دَفعِ الدعوى إلا بالنصِّ دون الظاهرِ، ولهذا لا يقبل في يمينِ المدَّعي: فواللهِ إني لصادق فيما ادَّعيته عليه. ولا يكفي في يمينِ المنُكِر ووالله إنه لكاذبٌ فيما ادّعاه عليَّ. كُل ذلك طلباً للنص الصريحِ دون الظاهر.

فصل
للخطاب دليلٌ هو حجّةٌ شرعيةٌ ودلالةٌ صالحةٌ لإثباتِ الحكمِ (1) وهو ضَربٌ من ضروبه، غير أنَ الأصلَ تعليقٌ على شرطٍ، وتعليقٌ على غايةٍ، وتعليقٌ على اسم، والكُل عندنا حجّةٌ معمولٌ به.
وعلته من البابِ: أنَّ الشيءَ إذا كان له وصفان فُعلِّق الحكمُ على أحدِ وصفيه مثل النَّعَم؛ منها سائمةٌ وعاملةٌ، فنقول: في سائمة البقرِ زكاة، فيجمع هذا القولُ نصاً ودليلاً، فالنصُّ: وجوبُ الزكاةِ في السائمةِ، والدليلُ: سقوطُ الزكاةِ في المعلوفةِ والعاملةِ، فهذا صورةُ المسألةِ في هذا الضربِ الذي هو تعليقُ الحكمِ على الوصفِ، وبهذا قال صاحبنا رضي الله عنه في عدةِ مواضع، فهذا أشدُّ الناسِ قولا به، وكذلك الشافعيُّ رحمة الله عليه، والأكثرون من أصحابِه، إلا ابنَ سُرَيج (2) والقَفّال (2)، فإنهما قالا: ليس بحجةٍ. وكذلك القاضي أبو حامد (3) منهم، وهو مذهب أبي الحسن
__________
(1) ويسمَّى مفهومَ المخالفة، وهو أن يثبت الحكمُ في المسكوتِ، على خلاف ما ثبتَ في المنطوقِ. انظر "العدة" 2/ 448. و"البرهان"1/ 449، و"المستصفى" 2/ 191، و"التمهيد": 2/ 189، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 723، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 489.
(2) تقدمت ترجمته في الصفحة (44) من الجزء الثاني.
(3) هو أبوحامد أحمد بن بشر بن عامر المَرْوَرُّذِي، شيخُ الشافعية أخذَ الفقه عن أبي إسحاق المروزي، تولى قضاء البصرة، وعنه أخذ فقهاؤها توفي سنة (362 هـ). انظر "طبقات السبكي" 3/ 12، "طبقات الفقهاء" للشيرازي: 114، "سير أعلام النبلاء" 16/ 166.

(3/266)


الأشعري، وأبي بكر الباقلاني وأكثرِ المعتزلة، وإلى ذلك ذهب أبو الحسن التميمي (1) من أصحابنا، وهو مذهب مالك وكثير من أصحابه، وقول داود أيضاً، وأما أصحابُ أبي حنيفة فقالوا: ليس بحجةٍ (2)، ثم اختلفوا إذا عُلق الحكمُ بشروطٍ، فقال الجُرجاني: لا يدلُّ على أنَ ما عداه بخلافِه. وقال غيرُه: يدل على أنَ ما عداه بخلافِه. وقال قومٌ منهم: إن عُلِّق على غايةٍ دل على أن ما بعدَ الغاية بخلافِ ما قبلَها، نحو قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وقوله: {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، وقداختلف أصحابُ الشافعي في تعليقه على الاسم، هل يدُلّ على أنَ ما عداه بخلافه؟ على مذهبين (3).

فصل
في جمع دلائلنا
فمنها: أنَّ هذا هو الموضوعُ المستفيضُ المعروفُ من لغة العربِ، وقد رواه أبو عُبَيد (4) والشافعي. فأما أبو عبيد؛ فانه ذكر ذلك في قول النبي صلى الله عليه وسلم: "ليُّ الواجدِ يُحل
__________
(1) تقدمت ترجمته في الصفحة (26) من الجز الأول.
(2) انظر "تيسير التحرير" 1/ 99، "أصول السرخسي"1/ 255.
(3) والراجح المعتمد عند الشافعية أنَه لا مفهوم لفَقب، وممَّن قال بمفهوم الفَقب من الشافعية أبوبكر الدقاق، وتبعه في ذلك بعض الشافعية، انظر"البرهان" 1/ 453، "البحر المحيط" 4/ 24، "حاشية العطار على جمع الجوامع" 1/ 333.
(4) أبوعُبيد القاسم بن سَلآَم بن عبد الله، أخذ العلمَ عن شريك بن عبد الله وسفيان بن عيينه، وله تصانيف في اللغةِ والحديثِ والقراءات والفقه؛ منها "الغريب المصنف" في علم اللسان، "والناسخ والمنسوخ" و "الأموال" وكتاب "فضائل القرآن" توفي بمكة سنة (224 هـ) انظر "تاريخ بغداد" 12/ 453 - 416، "وفيات الأعيان" 4/ 60 - 63 "شذرات الذهب" 2/ 54، 55 "سير أعلام النبلاء" 10/ 490.

(3/267)


عِرضَه وعُقوبَتَه" (1)، والواجِد هو الغني، وليه: مَطْلُهُ، وهو بعينه في معنى قوله عليه الصلاة والسلام: "مَطْلُ الغَني ظُلم" (2)، قال أبو عبيد: أراد أن مَنْ ليس بواجدٍ لا يَحلُّ ذلك منه. وقال غيره: وعرضُه يَحِل بالمطالبة، وعقوبتُه بالحَبْس، ومَطل غير الغنيَّ ليس بظلم.
وقال أيضاً في قوله عليه الصلاة والسلام: "لأنْ يمتلىء جوفُ أحدِكم قَيحاً خيرٌ له من أن يَمتلىءَ شِعراً" (3)؛ وقد قيلَ له: إنما أرادَ بهِ الهجاءَ من الشعرِ وسب الناس أو ما هُجيَ بهِ الرسولُ صلى الله عليه وسلم. فقال: لو كانَ ذلك هو المرادَ، لكان لا معنى لتعليقِ ذلك بالكثرةِ، وتعليق التحذيرِ منه والنهيِ عنه بامتلاءِ الجوف منه؛ لأنَّ قليلَ الهجاءِ ككثيره، يعني بذلكَ أن ما دون ملءِ الجوفِ لا يتعلّق الذّمُ به (4)، فقد فهم أبو عبيد من تعليقِ الذَم عليه بامتلاءِ الجوف أن ما دون ذلك بخلافِه، وأنَّ قليلَ الهجاءِ وكثيرَه
__________
(1) أخرجه أحمد 4/ 222، 388، 389، وأبوداود (3628)، وابن ماجه (2427)، والنسائي 7/ 316 - 317، وابن حبان (5089)، والطبراني (7249)، والحاكم 4/ 102، والبيهقي 6/ 51، من حديث عمرو بن الشريد بن سويد الثقفي، عن أبيه. واللَّي: هو المطل.
والواجد: هو الغني.
(2) أخرجه أحمد 2/ 260، 463، والبخاري (2287) و (2288) و (2400)، ومسلم (1564)، وأبوداود (3345)، وابن ماجه (2403)، والترمذي (1308)، وابن حبان (5053) و (5090)، والبيهقي 6/ 70. من حديث أبي هريرة، أنَ الرسولَ - صلى الله عليه وسلم - قال:" مطل الغني ظلم، وإذا أُتْبعَ أحدُكُم على مليءٍ، فليتبع".
(3) أخرجه أحمد 2/ 288، 355، 391، 480، والبخاري (6155)، ومسلم (2257)، وأبوداود (5009)، وابن ماجه (3759)، والترمذي (2851)، وابن حبان (5777) و (5779) من حديث اْبي هريرة، بلفظ: "لأن يمتلىء جوفُ أحدكم قيحاً حتى يَريَه خيرٌ من أن يمتلىء شعراً".
وقوله: يريَه هو من الوَرْي، وهو داء يفسد الجوف.
(4) انظر (غريب الحديث) لأبي عبيد 1/ 36 - 37.

(3/268)


غيرُ مراد بهِ، وقول أبي عبيد حجّةٌ في باب اللغة.
ومنها: أنَّ النبيَ صلى الله عليه وسلم عَقلَ من القرآن ذلك، حيثُ نزلَ قولُ الله تعالى: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"والله لأزيدنَ على السبعين" (1)، فعقَل أنَ ما زاد على السبعينَ بخلافها.
ومنها: قولُ ابنِ عباس في امتناعِه من حجبِ الام إلى السدسِ، وأنَ ما دون الثلاثِ وأقل الجمعِ لا يحجبُ الأم (2)، فعقَلَ أن ما دونَ أقل الجمعِ بخلافِ حكمهِ في الحجبِ به، وخالفَ الصحابةَ في توريثِ الأخت مع البنتِ (3)، واحتجَّ بقوله تعالى: {إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ} [النساء: 176] وهذا استدلالٌ بدليلِ الخطابِ؛ لأنه أخذ من قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} أنه إذا كان له، فليسَ للأختِ النصفُ الذي فُرضَ لها، والبنتُ ولد فلم تكن الأخت معها وارثةً، وهذا دليلُ النطق، وقد أخذ به (4)، وقال أيضاً: لا ربا إلا في النسيئةِ لقول النبي - صلى الله عليه وسلم -:
__________
(1) أخرجه أحمد 1/ 16، والبخاري (1366) و (4671)، والترمذي (3097)، والنسائي 4/ 67 - 68، وابن حبان (3176) بلفظ: "لو أعلم أني إن زدت على السبعين يغفر له لزدت عليها".
وورد بلفظ: "لأزيدن على السبعين" رواه الطبري 14/ 395 وعبد الرزاق في "تفسيره" 2/ 284.
وورد بلفظ: "سازيده على السبعين"، أخرجه البخاري (4670) و (4672).
(2) أخرج هذا الأثر عن ابن عباس: الطبري في التفسير 8/ 40، والبيهقي 6/ 227، والحاكم في المستدرك 4/ 335.
(3) أخرجه عبد الرزاق 10/ 255، والبيهقي 6/ 233.
(4) وهذا بخلاف ما قرره جمهور الفقهاء من أن الأختَ مع البنتِ تكون عصبة، لحديث عبد الله ابن مسعود عن النبي - صلى الله عليه وسلم -: أنه قضى في ابنة، وابنة ابن، وأخت قال: "لابنة النصف، ولابنة الابن السدس، وما بقي فللأخت".
أخرجه أحمد 1/ 389، 428، 440، 463 - 464، والبخاري (6736) و (6742)، أبوداود (2890)، وابن ماجه (2721)، والترمذي (2093).

(3/269)


"إنما الربا في النسيئة" (1)، فأجازَ البيع نقداً ولم يجعل في النقدِ رباً لكونه دليلَ النص على النسيئة، وهو من فصحاء الصحابةِ وترجمانُ القرآن.
ومنها: قولُ الأنصار لا غُسلَ بالتقاء الختانين من غير إنزال، واعتمدوا في ذلك قولَ النبي صلى الله عليه وسلم: "الماءُ من الماء" (2) ومعلومٌ أن هذا نص فى غيرِ موضع الخلاف؛ لأن إيجابَ الغسل لأجلِ إنزالِ الماء لم يخالفهم فيه أحد، لكن دليلُ هذا النص: ولا ماءَ من غير ماء، معناه: ولاغُسلَ بالماءِ على من لم ينزل الماءَ، فبه عملِوا، وعليه عوَّلوا.
ومنهم من قالَ بوجوبِ الغسلِ مع الإكسالِ من غيرِ إنزالٍ، وأجابَ بأنَّ خبر: "الماءُ من الماءِ" منسوخٌ (3)، ومعلومٌ أنهم لم يريدوا نسخَ المنصوصِ؛ لأنَّ "الماء من الماء" متفقٌ على بقاءِ حكمِه، لكن أرادوا بالمنسوخِ دليلَه، فقد بأن أنَّ هذا اتفاقٌ منهم على القولِ بدليلِ الخطابِ، إذ لو لم يقولوا به أغناهم عن ذلكَ كلهِ قولُهم: نحن قائلون بأنَّ الماءَ من الماءِ، ويبقى من التقاءِ الختانين من غيرِ إنزالٍ على مُقتضى
__________
(1) ورد هذا الحديث بألفاظ مختلفة، فأخرجه بلفظ: "لا ربا إلاّ في النسيئة"، البخاري (2178) و (2179)، والنسائي 7/ 281.
وأخرجه بلفظ: "الربا في النسيئة" مسلم (1596)، والبيهقي 5/ 280.
ورواه بلفظ: "إنما الربا في النسيئة" ابن ماجه (2257)، والنسائي 7/ 281.
والذي ثبت عن ابن عباس رجوعه عن الإفتاء بجواز ربا الفضل، حيث قال: (كنت أفتي بذلك حتى حدثني أبوسعيد الخدري، وابن عمر أنَ النبي - صلى الله عليه وسلم - نهى عنه، فأنا أنهاكم عنه".
رواه البيهقي 5/ 281.
(2) تقدم في الصفحة 36 من الجزء الثاني.
(3) جاء ذلك في حديث أبى بن كعب أنه قال: "إنما كان الماء من الماء رخصة في أول الإسلام ثم نهي عنها" أخرجه أحمد 5/ 115 و116، وعبد الرزاق (951) وابن أبي شيبة 1/ 89، وأبوداود (215)، والترمذي (110)، وابن حبان (1173)، والبيهقي 1/ 165.

(3/270)


الأصل، وهو براءةُ الذمّة من إيجابِ الغسلِ.
ومنها: قولُ يَعلى بن مُنْيَةَ لعُمر بن الخطاب رضي الله عنه: كيف نَقْصُر وقد أمِنَا؛ وقول عمر: عجبتُ مما عجبتَ منه، فسالتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، فقال: "صَدقةٌ تصدق اللهُ بها عليكم، فاقبلوا صَدَقته" (1) فعقلا من قوله تعالى: {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]، جوازَ قصر الصلاة عند الخوف، وعقلا من دليله وجوبَ إتمامها عند الأمنِ، بخلافِ حكمِ ما تَناوله الشرط.
ومنها: ان النبي صلى الله عليه وسلم امتُدح بقوله: "أُوتيتُ جَوامع الكَلِم، واختُصِرت لي الحِكمة اخْتِصاراً" (2)، فإذا قال: (في سَائمة الغَنَم الزَّكَاة)، وكانت السائمةُ والمعلوفةُ والعواملُ عنده سواء، كان هذا تطويلاً للكلام لغير فائدة.
ومنها: أن نقولَ: معلومٌ أنه لو قال: (في الغنمِ الزكاةُ)، كان الحكمُ هو إيجابَ الزكاةِ عاماً في جميعِ الغنمِ، فإذا قال: (في سائمةِ الغنم)، صارَ مخرجاً بهذا القولِ ما لولاه لكان داخلاً في الحكم، فصار كالتخصيصِ والاستثناءِ.
فنقول: نيطَ باللفظِ ما لو اختزل عمَّ، فاقتضى نَفياً وإثباتاً كالمستثنى مع المستثنى منه، والعمومِ مع التخصيصِ، والغاية على من يسلمها ويقولُ: إنَ تعليقَ الحكم بالغاية (3) يدُل على مخالفةِ ما بعدها لما قبلها في نفي الحكمِ عنه، وتعليقِ الحكمِ على الشَرطِ على من يسلِّمه منهم على ما حكيناه عن بعضِهم، ويكشفُ هذا بأنّ
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الثاني الصفحة (26).
(2) أخرجه الدارقطني 4/ 144 - 145 من حديث ابن عباس بلفظ: "أعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الحديث اختصاراً" والصحيح الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "بعثت بجوامع الكلم" أخرجه البخاري (2977) و (6998) و (7013) و (7273)، ومسلم (523) وأحمد 2/ 250 و 264، والترمذي (1553)، والنسائي 6/ 3 - 4.
(3) في الأصل: "الغاية" بدون الباء.

(3/271)


قائلاً لو قال: أعطِ بني تَميم، أو وصَّيت لبني تميم كذا وكذا من مالي. ثم نسق الكلامَ بأن قال: المشايخ. ثم نسق الكلام بأن قال: الشُجعانِ القُراءِ. فإنه لو سكت على الأول لعم العطاءُ والإمضاءُ بما وصَّى به جَميعهم، فلما نسق الكلامَ الأول بصفةٍ بعد صفةٍ خرجَ منهم من ليس بشيخٍ شُجاعٍ قارىءٍ، وبقيَ منهم من اجتمعَ فيه الخصالُ الثلاثُ، كالخصوصِ والاستئناءِ.
ومنها: أنه لو قال: يُحرمُ من الرضاعِ خمسُ رضعاتٍ، وطهورُ إناءِ أحدِكم إذا ولغَ الكلبُ فيه أن يَغسلَه سَبعاً. وكانَ ما دون الخمسِ يُحرمُ، وما دون السبعِ يُطَهر خرج أن تكون الخمسُ محرمةً، والسبعُ مُطهرة لإناء إذا صورنا أن الستة تُطهر والأربع تُحرم، جاءت السابعةُ إلى محل طاهرٍ فلم تعمل في تطهيره، وجاءت الرضعةُ الخامسةُ إلى مَحل محرَمٍ، فلم تؤثر فيه تحريما ولا يجوزُ أن يسقط حكمُ دليلِ النطقِ إذا كان مُسقِطاً للمنطوقِ به.
ومنها: أنَ العربَ إذا قالت للعبدِ: اشتر لي عبداً أسودَ، وإذا قامَ زيدٌ فاضربه. كان ذلكَ نَهياً للعبدِ عن شراءِ الأبيضِ، وضربِ زيدٍ حالَ قعودِه قبل قيامِه، ولا يعرفُ في لُغتِها أن تُقَيدَ الشراء بالأسود، والأبيضُ والأسودُ عندها سواء ولا تُقَيِّد الضَّرب بالقيامِ، والقُعودُ والقِيامُ عندها سواء؟! فعلى هذا؛ إذا قال اللهُ سبحانه: {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ} [المائدة: 95]، {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93]، كان تقييدُه بالعمدِ مقيداً للحكم بالتقييدِ ونافياً له عما عُدِمَ فيه التقييدُ، وهو صفةُ العَمْدِ، وقوله في المطلقات: {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [الطلاق: 6]، فاقتضى ذلك أن البوائنَ الحواملَ لا نفقةَ عليهن، وعلى هذا لغةُ العربِ لا نَعرفُ سوى ذلك.
ومنها: لنفي الحكم عما عدا المشروط قوله تعالى: {إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ

(3/272)


بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا} [الحجرات: 6]، فلا يكون لذكرِ الفِسق فائدةٌ إذا لم نعمل بدليلِ اللفظِ، وأنه إذا جاء عدل بنبأ عَملنا به، ولم نتوقف على العملِ بخبر وشَهادتِه، والعربُ على ذلك؛ فإن القائلَ منهم إذا قال لعبدِه: إذا جاءني زيدٌ مُعتذِراً؛ فأكرمه، وإذا جاء عمرو زائراً، فاخْدُمه. كانَ ذلكَ مُوجِباً بصريحِ الشرطِ إكرامَ زيدٍ إذا جاء معتذراً، وخدمة عمروٍ إذا جاء زائراً، ومُسقِطاً عنه الإكرام والخدمةَ مع عدمِ الشرطين اللذين ذكرهما.
ومنها: في الدلالةِ على أنَ ما بعدَ الغايةِ مخالف لما قبلها؛ لأنها نهايةُ الحكمِ والسببُ الذي يُنتهى إليه، فلو كان [ما] (1) بعدَ الغاية كما قبلها؛ لخرجت عن أن تكون غاية، ولهذا لا يحسُن أن يقولَ لعبدهِ: اضرب المذنبَ من عبيدي حتى يتوب.
وهو يريدُ: واضربه بعدَ أن يتوب. ولهذا لا يحسُنُ أن يصَرِّحَ فيقول: واضربه بعد التوبةِ؛ لأنه يخرجُ ذكرُ الغاية في البيان (2) أن يكون مفيداً، ويصح أيضاً أن يقولَ القائلُ لغيره: لا أعطيك شيئاً من مالي حتى تتوبَ، وإذا تبتَ فلا اعطيك شيئاً حتى تَخرجَ عن حيز ما يَتخاطب به الناسُ إلى الَّلغوِ والعَبث.

فصل
فيماوجَّهوه من الأسئلةِ على جميع أدلّتنا
فمنها: أنَّ دعواكم أن ذلك لغةُ العرب، فليس يثبت بما ذكرتموه عن أبي عُبيدٍ والشافعي؛ لأنهما لم يرويا ذلك عن العَرب، بل، قالاه برأيهما وظنهما، وقد يظنان ذلكَ وتكون اللغةُ بخلافِ ما ظنَاه من العربِ ومن النبي صلى الله عليه وسلم، إذ ليسا معصومَين، ولو رَوياه فليس في وُسعهما روايته عن جميع العرب، بل عمَّن وقع لهما، ولو كان لغةً موضوعةً لاتنقل إلينا تواتراً لا يحصُلُ معه خلاف، فكلامهما يَدُل على أنهما قالاه
__________
(1) زيادة يستقيم بها المعنى.
(2) في الأصل: "البين"،.

(3/273)


اجتهاداً؛ لأنهما قالا: لو كان العادمُ كالواجدِ، لم يكن لتقييده بالواجدِ معنىً. قالوا: على أنَّ ما ذكرناه يقابلُه ما رُويَ عن الأخفش (1) أنه قالَ: قولُ القائلِ: ما جاءني غير زَيد. لا يدُل على مجيء زيد، بل يَدُلّ على نفي مجيء غيره، دونَ إثبات مجيئه.
فيقال: أبو عبيد ذكرَ ذلك في كتب اللغةِ، ولم يذكره في كتب الأحكامِ، وليسَ في اللغةِ اجتهادٌ، إنما هي نقل، وقولُ الأخفشِ لا يقابِلُ قولَ أبي عُبيد؛ لأنَّ الأخفشَ نحويٌ، ولم يكن من المبرزين في اللغة، وأبو عُبيد إمامٌ في اللغة، وله "غريبُ المصنف" وغيرُه من كتب اللغة.
ومنها: أن قالوا: الرواية عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لأزيدنّ على السبعين (2) "، فإنه من أخبارِ الآحادِ التي لا يثبتُ بمثلها هذا الأصلُ؛ ولأنه يبعد من سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ودِقةِ فهمِه أن يسمعَ اللهَ سبحانه يبعدُه ويُؤيسه من المغفرة للمنافقين بقوله: {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} [التوبة: 80]، ثم يقول: {إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [التوبة: 80]، ويقصد أنَّ التكثير من الاستغفار لا يَنفع ولا يُسمع، فيلج ويُلحُ حتى يقول: لأزيدنّ، هذا يخرج مجرى العنادِ الذي لا يليق به ديناً ولاخُلقاً.
على أنه لو زاد لكانت زيادتُه استصلاحاً للمنافقين الأحياءِ بالاجتهاد في الشفاعةِ من أقاربهم، ويجوزُ أن يقصدَ الاستصلاح بنوعٍ من الإلحاحِ في السؤال لا لأجل أنه عَقَل من ذلك النطقَ، إذ الزيادةُ على السبعين قد تنفعُ وتستجابُ.
قالوا: وقد قال عمر رضي الله عنه: إن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لو علمتُ إذا زدتُ على
__________
(1) هو سعيد بن مسعدة المجاشعي البلخي، أبوالحسن الأخفش الأوسط، النحوي اللغوي، أخذ العربية عن سيبويه، وصنف كتاب "الاشتقاق" و"معاني الشعر" وغيرهما، توفي سنة (215 هـ). "سير أعلام النبلاء" 10/ 256، "إنباه الرواة" 2/ 36.
(2) تقدم في الصفحة 269.

(3/274)


السبعينَ أن يَغفِرَ اللهُ لهم لزدتُ" (1) فبطل أن يكون تعلق بالدليلِ، وإنما علق ذلك بوجودِ طريق يعلم به أن الزيادةَ على السبعينَ تنفعهم، فيقال: إن هذا ذكره يحيى بن سلام في تفسيرِه المعروف عن قتادة قال: لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قد خَيرَني ربي" فوالله لأزيدهم على السبعين، وفي لفظٍ آخر: "ولأستغفرن لهم" (1)، فأنزل الله عز وجل في سورة المنافقين: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، وكونُه من أخبارِ الاَحادِ لا يمنعُ ثبوتَ الأصلِ به؛ لأنه ينحطُّ عن الأصولِ القطعيةِ إلى كونه من مسائلِ الاجتهاد.
وأما قولُهم: إنه لا يُظن بالنبي ذلك. فهذا رد للأخبار بالاستدلال، ولا يجوزُ ذلك؛ لأنَّ السُنَنَ تأتي بالعجائب، وهي من أكبر الدلائل لإثبات الأحكامِ.
والمحققونَ من العلماءِ يمنعون رد الأخبارِ بالاستدلال كما روى أصحابُ أبي حنيفة خبرَ القَهقهةِ، وأنَ ضريراً دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فوقع في زُبيةٍ (2)، فضحكَ قومٌ في الصلاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لما سلم: "مَنْ ضَحكَ قَرقَرةً فليُعد الوضوءَ والصلاةَ" (3).
فقيل لهم: هذا الخبرُ بعيدٌ عن الصحة؛ لأنَّ أصحابَ رسول الله موصوفون بالرأفةِ والرحمةِ والعدالةِ، فيكف يضحكون في مسجدِ الرسولِ في الصلاةِ معه من أعمى يوجبُ سقوطُه الرحمةَ والرقةَ دون الضحك؟!
فقال المحققون: الخبر مرويٌ، فلا يُردُّ بالاستدلالِ، واستدلوا في ذلك بأنَّ بيِّنةً لو شهدت على رجلٍ صالحٍ معروفٍ بالخيرِ بعيدٍ من الشَّر بأنه أتلفَ مالَ إنسان أو غصَبه، لم يَجُزْ أن تُرَّد شهادتُهم بالاستبعاد لها، لمكان صلاحِ المشهودِ عليه وديانته،
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 269.
(2) الزبية: هي الحفرة. "النهاية" لابن الأثير 2/ 295.
(3) تقدم تخريجه في الجزء الثاني، الصفحة: 103.

(3/275)


وكذلك لما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13)} [النجم:13] النبيُ صلى الله عليه وسلم رأى ربّه بعين رأسه مرّتين (1)، فقالت عائشةُ: لقد قَف (2) شعري مما قال ابن عباس، والله تعالى يقول: {لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ} (3) [الأنعام: 103]، فردّت خبرَ ابن عباس بالاستدلال، فلم يعوِّل أهلُ التحقيقِ على ردها ذلك، لأنه سمع ما لم تَسمع، وروى ما لم تعلم، فوجب قبولُ روايته دون الاستدلالِ عليه، على أنَ الغُفران لهم ليس بمحالٍ في العقلِ، بل يجوزُ ذلك، ولو أراد الله أن يَغفِرَ لهم بشفاعتِه وبغيرِ شفاعتِه لفَعَل، كما قبل شفاعَته في تأخير العذابِ عنهم مع كفرهم، وأزال عنهم ما كان من عذاب الأممِ قبلهم، وكما قَبل شفاعتَه بالإذن في زيارةِ أمّه، ومنعه من الاستغفار لها (4)، وقوله: "لأزيدنّ"، ليس على طريق العِناد والإلحاح، لكن لما جوز أن تكون الزيادةُ مقبولةً، أقدم عليها طمَعاً في إجابته.
والذي يوضِّح أن اللفظ لم يقصد به الإياس: أنه أنزل بعد ذلك في سورة
__________
(1) الذي صحَ عن ابن عباس أنه قال: "قد رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه". أخرجه ابن خزيمة في "التوحيد" ص (200)، والترمذي (3280)، والبيهقي في "الأسماء والصفات" ص (442)، (443)، والطبراني في "الكبير" (10727)، وابن حبان (57).
وصحَّ عنه أنه قال: "رآه بفؤاده" أخرجه مسلم (176)، والترمذي (3275)، و (3276)، و (3277).
(2) في الأصل: "وقف". ويقال: قَف شعره، إذا قام فزعاً."اللسان": (قف).
(3) أخرجه أحمد 6/ 49،50، والبخاري (4612) و (4855) و (7380)، ومسلم (177)، والترمذي (3278) وابن حبان (60).
(4) ولقد جمع الإمام ابن حجر بين قول ابن عباس وبين قول عائشة رضي الله عنهما بأن يُحملَ إثباتُ ابن عباس على رؤية القلب، ويحُمل نفي عائشة على رؤية البصر انظر "الفتح" 8/ 608.
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "استأذنت ربي أن أستغفر لأمَّي فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها فأذن لي". أخرجه مسلم (976)، وأبوداود (3234)، وابن ماجه (1572)، والترمذي (1054)، والنسائي 4/ 90.

(3/276)


المنافقين قوله: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ} [المنافقون: 6]، فدلّ على أن الإياس لم يتقدّم، وأن السبعين أبقت مكاناً للرجاء، فلما سلك الشفاعة بمقتضى الرجاءِ أنزلَ ما أوجب الإياس، رافعاَ لحكم الأوّل.
ومنها: أن قالوا: أما الصحابةُ رضوان الله عليهم لم يرجعوا إلى دليلِ الخطابِ، لكن أخذوا في إيجاب الغسل، وإرثِ الأختِ مع عدم البنت، والمنعِ من بيعِ النسيئة، وقصرِ الصلاة، وكان عملهم في ذلك بالخطاب، ثم إنهم عوَّلوا فيما ليس فيه نطقٌ بدليلٍ غير دليل الخطاب، وهو استصحابُ حالِ الأصلِ وأن لا غُسلَ ولا وارثَ ولا ربا ولا قصرَ إلا بدليلٍ يوجبُ ذلك، وهذا أحدُ الأدلة، لكنه دليلٌ يفزع إليه المجتهد عند عدم الأدلّة.
فيقالُ: إنَ القومَ ما تعلقوا في ذلكَ إلا بالنطق فيما نُصَّ فيه على الحكمِ، وبدليلِ خطابِه، ولا أحدٌ منهم عوَّل على استصحابِ حكم البراءة، ألا ترى أن يَعلى بن مُنْيةَ قال لعمر فما بالُنا نَقصرُ وقد أمنّا، والله تعالى يقول: {إِنْ خِفْتُمْ} [النساء: 101]، فذكرَ الأمنَ والخوفَ، فالخوفُ تعلُّقٌ بالشرط، والأمنُ تعلق بدليلِ النطقِ لعدمِ القصدِ. وقالوا في قوله: "الماءُ مِنَ الماء" (1) رخصةٌ ونسخ، وإنَما أرادوا دليلَ خطابِه؛ لأنَّ النطقَ [ليس] (2) بمنسوخ باجماعِ، ولو أرادوا البقاءَ على الأصلِ لما ذكروه بالنسخ؛ لأنَّ النسخَ ضدُّ البقاء؛ لأنَّ البقاءَ على حكمِ الأصلِ تمسُّك بثابت، والنسخُ رفعٌ، فدل على أن التعلق كان منهم بدليل الخطابِ دون استصحابِ الحالِ؛ لأنه لم يُذكر منهم الأصلُ ولاعُوَّل عليه.
ومنها: أن قالوا: هذا قولُ آحادِ منهم، ويجوزُ أن يكونَ قالوه باجتهادِهم، فلا يكون حجةَ على من خالفهم، ولأنَ تعلُّق ابن عباس بنفيِ الربا في النقدِ كان بأمرٍ
__________
(1) تقدم تخريجه في 2/ 36.
(2) زيادة يقتضيها السياق.

(3/277)


يخرجُ (1) عن دليل الخطاب (2)؛ لأنَّ اللفظَ المرويَ على وجهين يقتضيان النفيَ والإثباتَ، لأنه قال: إنما. وإنما للحصر، والحصرُ إثبات ونفي، كقوله: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [سورة النساء: 171]، "إنما الولاءُ لمن أعتق" (3)، {إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ} [الأنعام: 36]،وفي لفظ آخر عن النبي صلى الله عليه وسلم: "الا ربا إلا في النَّسيئة" (4) فيكون تعلقُ ابنِ عباس بهذا دون دليل الخطاب.
فيقال: إن المحَتجَّ والمحَتجَّ عليهم جَمٌّ غفير وخلق كبير، وجرى بينهم في ذلك ما لو كان أمراً خارجاً عن اللغةِ لردّه السامعُ، ولما تعلَّق به المستدلُّ، وهم في اللغة مشتركون، وهي نقل لا مدخلَ للاجتهاد فيها. وإنما الاجتهاد في الأحكامِ، ولم نتعلّق نحنُ بمذاهبهم لكن باحتجاجهم.
وأمَّا (إنما) فهي للإثباتِ، والنفيُ مأخوذٌ من قبل الدليلِ لا الصيغةِ، والروايةُ التي تتضمّنُ الاستثناءَ.
وقوله: "لا ربا إلا في النسيئة" غيرُ معروفٍ في أصل، ولعل الراوي ظنَّ، أو حمل (إنما) على ذلك، فرواه بالمعنى (5).
ومنها: أن قالوا: إنَّ قوله: اشترِ لي عبداً أسود، واضرب زيداً إذا أذنب. أن المعقولَ من ذلك إيقافُ الفعل على الشرط، وهو السوادُ في العبد، والذنبُ للضرب، فأمَّا نفيه، فإنه لم يكن للمخالفةِ بين السوادِ والبياضِ، والذنبِ والتوبةِ من جهة اللفظ، غير أنَّ شراءَ العبدِ الأبيضِ، وضربَ المذنبِ بعد التوبةِ بقيَ على حكمِ
__________
(1) مكررة في الأصل.
(2) انظر ماتقدم في الصفحة: 115.
(3) أخرجه أحمد 6/ 42، 175، والبخاري (1493) و (5284)، و (6717) و (6751)، والنسائي 5/ 107 - 108.
(4) تقدم تخريجه في الصفحة: 270.
(5) انظر ما تقدم في الصفحة 270 من بيان اختلاف روايات حديث ابن عباس.

(3/278)


الأصلِ، وأنه لا يجوزُ الشراءُ مع عدمِ الإذنِ، ولا الضربُ مع عدمِ الأمرِ بهِ، وإن حَسُنَ العتبُ؛ فإنما حَسُنَ على الضربِ بغيرِ أمرٍ، وشراء الأبيضِ بغيرِ إذنٍ، لا لأنه خالفَ مقتضى اللفظِ ودليلَه.
فيقال: إنَ كونَ الأصل صالحاً للتمسّك به والتعويلِ عليه لا يمنع كونَ دليلِ النطقِ عاملاً غير معطَل، كما أنَ فحوى الخطاب عاملٌ في منعِ الضربِ والشتمِ للوالدين في قوله: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ} [الاسراء: 23]، وإن كان الأصلُ في إيجابِ شكر الوالدِ وكلِّ منعمٍ كافياً وصالحاً، ولم يُعطِّل فحوى خطابه في منع التأفيف.
وكذلكَ نصُّ الشرع على الأعيانِ في تحريمِ التفاضلِ، يصلُح قصرُ الحكمِ عليها دون التعليل، كما قال أهل الظاهر (1)، لكنَّا لم نعطلها على استنباطِ التعليل حتى عَدَّينا الحكمَ إلى أمثالهِا، وكُل مشاركٍ لها فيما يلوحُ لنا أنه علّية حُكم، كما يحسنُ أن يعاتبَ العبدَ إذا اشترى الأبيضَ، وإذا ضربَ بعد التوبة، ويَجعل علّية عَتبه عَدم إذنه له.
يحسنُ أيضاً أن يقول له: لو كانَ الأبيضُ عندي والأسودُ سواءً، لما خصصتُ الأمرَ بالأسودِ، ولولا أني أكره شراءَ الأبيضِ، لما قيدتُ أمري بشراء الأسودِ، ولو كان التائبُ عندي كالمذنبِ، لما قيدتُ الضربَ بالذنب، والتعلُّقُ باستصحابِ الأصلِ تعطيل لدليلِ النطق مع إمكانِ إعماله.
كما أنَّ حرف (إلا) في بابِ الاستثناءِ قد يجيء بمعنى الواو العاطفةِ، وإذا أطلق لا يخرجُ عن إعمالِه في إخراجِ بعضِ الجملةِ المستثنى منها، وكذلكَ العمومُ قد يجيءُ بمعنى الخصوص، ويُحملُ على عمومِه باطلاقِه. كذلك دليلُ الخطابِ، وهو ظاهر من لغتهم، فلا يُعدل عنه إلى البقاءِ على حكمِ الأصل.
ومنها: أن قالوا: المستثنى والمستثنى منه يشتملُ على لفظين، إثبات، وهو قوله: عشرة، ونفي، وهو قوله: إلا درهمان. وكذلك التخصيصُ، قوله: اقتلوا المشركين،
__________
(1) انظر" الإحكام" لابن حزم 7/ 185.

(3/279)


وهذا لفظُ إثباتِ الحكمِ، وهو القتلُ، وقوله: لا تقتلوا أهل الكتابِ، لفظُ تخصيص، وكلاهما قد جمعَ النفيَ والإثباتَ.
فأمَّا في مسألتنا؛ فأنه لم يوجد منه إلا قوله: "في سائمةِ الغنمِ الزكاةُ" (1)، ولم يتعرض لنفي الزكاةِ عن المعلوفةِ ولا العاملةِ، فأين هذا من التخصيص والاستثناءِ؟ فيقال: لا فرقَ بين التخصيص بهذا الإثبات، وبين التخصيصِ بالفاظِ النفيِ، وذلك أنه إذا قال: اقتل المشركين. عمَّ كل مشرك، فاذا قال: وتجنب قتلَ أهلِ الكتابِ، وكُف عمن له شبهةُ الكتابِ. فمنه يخرج من العمومِ من يقيد بوصفِ الكتابِ وشبهةِ الكتابِ، بصريحِ النهيِ عن قتلهم القاضي على عمومِ أهلِ الشرك.
وفي مسألتنا إذا قال: الزكاةُ في الغنم والبقر. عم الكُل، فاذا قال: السائمة، خرجت المعلوفة، وإذا قال: وصيتُ بثلثي لبني تميم، عمَّ جميعَهم بالوصية بثلثِه، فإذا قال عقيب ذلك: المشايخِ القُرّاء الشجعانِ تَمحقَ (2) بكل وصف ذكره ذلك العمومٍ، حتى بقي أوصياؤه (3) هم الجامعون للشيخوخةِ والشجاعةِ والقراءةِ، فكلما زادَ وصفا، أخرجَ قوماَ منهم، حتى صار كأنه قال: إلا الأميينَ الجبناءَ الشبابَ. فهما في المعنى سواء، وإن اختلفا في الصيغةِ، فحرفُ إلا للإخراج، وتقييدُه بالوصفِ أو الشَّرط أو الغاية للإخراجِ المندرجِ في الإثباتِ.
وليس من حيثُ لم يأتِ بحرفِ الإخراج، لا يعمل التقييدُ بالصفاتِ والشروطِ والغايات عملَ لفظِ الإخراج، كما أنَ فحوى الخطاب إنما هي عن التأفيفِ، ولم يتعرض للضربِ والشتم نطقاً، لكنه عُقِلَ من نهيه عن الأدنى نهيُهُ عن الأعلى، كذلك يُعقل من تقييدهِ بالشَوم في باب الزكاة، وتقييد السيدِ من العربِ إذا أمر عبده
__________
(1) تقدم تخريجه في الجزء الأول، الصفحة: 37.
(2) اى: بطل وذهب
(3) تحرفت في الأصل إلى: "صبيانه".

(3/280)


بشراء الخبزِ بالسميذِ، والتمر بالجيدِ، واللحم بالطري، نفيُ الزكاة عن العواملِ والمعلوفة، ونهيُ العبدِ عن شراء الخبزِ الخُشار (1)، والتمرِ الرديء، واللحمِ البائت.
وكذلك نهيُه عن قَضاء القاضي وهو غضبان ليس فيه ذكرُ الجوعِ والعطشِ والحزنِ والهم، ولا في الأعيان المنهيَّ عن التفاضل فيها ذكرُ الأرز والذُّرَةِ والعَدَسِ، لكن لما عُقِلَ منه الحكمُ مع شغلِ القلبِ المانعِ من إعطاءِ الحكمِ حقه من الاجتهادِ، والطُعمُ في الأعيانِ أو القوت أو المكيل عُدَّيَ الحكمُ إلى ما شاركَ المنطوقَ في المعنى المعقولِ، وكذلكَ العاقلُ المكلفُ لا يقيد التَمر بالجودةِ، والخبزَ بالنقاءِ، واللحمَ بالطراوة إلا وله رغبةٌ في تلكَ الأوصافِ، ورغبةٌ عن أضدادها، وكراهةٌ لما خالفها.
ومنها: أن قالوا: المستثنى والمستثنى منه جملةٌ واحدةٌ، كالابتداءِ والخبرِ بقولهم: عشرةٌ إلا درهمان. أحدُ اسمي الثمانية، فهو كقولهِ: زيْدٌ قائمٌ، وعمروٌ منطلقٌ. فأما في مسألتِنا، فمن قوله: "في سائمة الغنمِ زكاةٌ" (2)، ليس هو مع تقدير وليس في العواملِ زكاةٌ جملةً، ولا ثَبتَ ذلك في اللغةِ، فيقالُ: بل دليلُ النطقِ مع النطقِ كالجملة، فلما قال: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، كان من فحوى اللفظ: فضربه، فانفلق، وكذلك قولُه: اشترِ تمراً جيداً، وخبزاً سميذاً، (3 كان ذلك مع تقدير نهيه 3) عن الرديء كالجملة الواحدة، فالنطقُ مع دليلهِ كالابتداءِ مع خبره، والتنبيهِ مع المنبَّه عليه، ولا فرق بينهما عندنا.

فصل
جامعٌ لِشُبَههم
فمنها: أنه لو كان للخطابِ والنطقِ دليلٌ في الشرعِ لما جاز أن ينخرم، فيوجدُ دليل الله سبحانه عارياَ من مدلوله، فلما تعطَل خطابُ كثيرٍ من خطابِ الشرع عن
__________
(1) في الأصل الخشكار ولعل المثبت هو الصواب، والخشار الرديء من كل شيء. "اللسان" (خشر).
(2) تقدم تخريجه في الجز الأول، الصفحة: 37.
(3 - 3) في الأصل: "كان مع ذلك كان مع تقدير نهيه"، ولعل المثبت هو الصواب.

(3/281)


مدلول ما ادعيتموه دليلاً، بطلَ كونُه دليلاً على (1) الحكم، ومعلوم أنَ من تتبعَ آيات الكتابِ العزيزِ وجَدَ كثيراً من ذلك معطلاً عن الحكم، مثل قوله تعالى: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33]، وقوله: {لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً} [آل عمران: 130]، {وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا} [النساء: 6]، فهذه النواهي كلُها منعت ما يتناوله النطقُ، ولم ينتفِ الحكمُ بانتفائها، فلا يجوز قتلُ الأولادِ لا لخشية الإملاقِ، ولا أكلُ الربا اليسير ولا أكلُ مال اليتيم لا على وجه الإسرافِ، فبطل الاعتمادُ على دليلِ النطق، إذ لوكان دليلاً على أحكامِ الشرعِ لما وُجِدَ متعطلاً عن مدلوله.
فيقالُ: إنه إنما خرجَ الدليلُ ها هنا عن إيجابِ حكمهِ لما قامَ من الأدلةِ (2) على تعطيلهِ، فصارَ النهيُ عن إكراهِ الإماءِ على الزنى، والإذنُ لهُن في الزنى، وإهمالُ أمرهنَّ، وتركُ نَهيهنَّ عن الزنى سواء في التحريمِ، لمكان الإجماعِ كالمنطوق. وليسَ إذا خرج دليلُ الخطابِ عن العملِ به، وتعطَّل عن مدلوله بدلائلَ أخرجته عن ذلكَ يُمنعُ من كونه دليلاً مع عدمِ قيام الأدلّةِ على إخراجهِ عن كونه دليلاً، كما أنَّ العمومَ والظاهرَ معمول بهما ما لم تقم دلالة تصرفُ العمومَ إلى الخصوصِ، والظاهرَ إلى غير الظاهرِ، فإذا قامت الدلالةُ خرجَ عمَّا وُضِعَ له، ودلَّ عليه، فكان حكمُه مع الإطلاقِ العملَ به والمصيرَ إليه.
ومنها: قولُهم: لو كان تقييدُه بالصفةِ والشرطِ يقتضى المغايرةَ، وأنَ قوله: "في سائمة الغنمِ زكاةٌ"، بمعنى: وليس في معلوفها زكاة، لما حَسُنَ أن يجمع بينهما أعني: بين ما أوجَبه الدليلُ وبين ما أوجبه النطقُ، كما لم يحسُن الجمعُ بين ما أوجَبهُ النطقُ في
__________
(1) في الأصل: "دليلاً أنه على" ولا تستقيم العبارة بها.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "لا دلالة"

(3/282)


الفحوى وبين ما نبه عليه، وهو أن يقولَ: لا تقل لهما أف، واشتمهما، واضربهما، ولما حسُن ها هنا أن يقول: في سائمة الغنم ومعلوفتها زكاة، وفي سائمةِ البقرِ وعواملِها زكاة، دل على أنَ إثباتَ الزكاةِ في السائمةِ ما اقتضت نفيَها عن العوامِل والمعلوفةِ، ولا المخالفةَ بين حكمِها.
فيقالُ: إنَ دليلَ الخطابِ يدُل على المخالفةِ من طريقِ الظاهرِ لا الصريحِ، كالعمومِ يدلّ على الاستغراق، والأمرُ المطلق يَدُلّ على الندبِ عندهم أو الوجوبِ، على اختلافٍ بينهم من طريق الظاهر ولو قام الدليلُ على تخصيص العموم وكونِ الأمر على خلافِ ما وُضِعَ له واقتضاهُ في الظاهر لَصَح وجاز كذلك ها هنا. على أنه يبطل بتعليقِ الحكمِ على الغايةِ عند من سلَّمَها، فإنَّه يحسُن أن يقولَ: ثم أتمّوا الصيامَ إلى الليل إلى الفجر ثم لم يدل ذلكَ على أنَ الغايةَ إذا أُطلقت لا تقتضي أنَ ما قبلها مخالفٌ لما بعدها.
ومنها: قولهم: إنَ إثباتكم الحكمَ بدليلِ الخطابِ لا يخلو أن يكونَ بالعقل، ولا مجالَ له في هذا؛ لأنه وضع واصطلاح من جهةِ العربِ، والأوضاعُ والاصطلاحيةُ لا مجالَ للعقلِ فيها، كالنقودِ المصطلَحِ على التعاملِ بها، فكذلك الخطابُ بالأقوالِ المصطلحِ على التخاطبِ بها، أو يكونَ إثباتكم له بالنقل، فالنقلُ تواتر وآحاد، ولو كان تواتراً (1) لعلمناه كما علمتم؛ لأنه يوجبُ العلمِ الضروري الذي لا يقعُ فيه الخلافُ ولا يسوغُ، كاصطلاحِ القومِ المنقولِ إلينا من طريقِ التواترِ من سائرِ الصيغِ الموضوعةِ للتخاطبِ استدعاءً للأفعالِ ونهياً عنها، وألفاظِ الذم والمدحِ والخبرِ والنداءِ والتراخي وسائِر موضوعاتهم، ولما (2) وقَع الخلافُ في هذا؛ عُلمَ أنه ليس بمتواترِ ولا معلومِ.
__________
(1) في الأصل: "تواتر".
(2) في الأصل: "كما"، والمثبت أنسب لاستقامة المعنى.

(3/283)


ولئن كان من طريقٍ الآحادِ؛ فليس ذلك صالحاً لإثباتِ الأصولِ، لكونِ الآحاد توجبُ الظنَّ، فلا تثبتُ بها إلا الأحكامُ في مسائلِ الفروعِ خاصةً.
فيقالُ: بل أثبتناه بما رويناه عن ساداتِ الصحابةِ وأهل اللغة، وليس بتواترِ قطعي، ولا هذه الأصولُ قطعيةٌ، بل هي مسائلُ اجتهادية يسوغُ فيها الخلافُ، ولذلك لم يُفَسق المخالفُ فيها، ولا يُكَفر، وإنما يُخَطَّأ كما يُخَطأ في الفروعِ. على أنه يقلَبُ عليكم، فيقالُ في جميع هذهِ المسائل: كيف ذهبتم إليها وليس طريقُها العقل ولا نقْلُها تواتر؟ إذ لو كان تواتراً لما وقعَ الخلافُ، فكل جوابٍ لكم، وكُلُّ مخالف لنا فيها هو جوابُنا، وليس إلا ظواهرُ الاستعمالِ بالنقلِ الذي ظاهرُه الصحةُ والسلامةُ، وجماعةُ العُلماء يقبلونَ في أصولِ اللغةِ روايةَ الواحدِ، كالأصمعي (1)، والخليل (2)، وأبي زيد (3)، وأبي عبيدة (4) وأمثالِهم، ولا يُستقصى في النقلِ إلى الحدّ الموجبِ للقطع.
ومنها: أن قالوا: لو كان تعليقُ الحكمِ على الصفةِ موجباً لنفيه عما عداها، لوجَب أن لا يحسُنَ الاستفهامُ، فلما حَسُنَ استفهامُ من قيل له: إذا قتلت الصيدَ عمداً فعليكَ الجزاءُ، وإذا كانت لك غنمٌ سائمة فعليك الزكاةُ في الأربعينَ منها، ولا تَقْتل
__________
(1) هو عبد الملك بن قريب بن عبد الملك، أبوسعيد البصري الأصمعي، اللغوي الإخباري، صنف "غريب القراَن"، و"الأمثال" و"المقصور والممدود" وغيرها، توفي سنة 216 هـ.
"سيرأعلام النبلاء" 10/ 175، "بغية الوعاة"2/ 112.
(2) تقدمت ترجمته في الجزء الأول، الصفحة: 270.
(3) هو أبوزيد سعيد بن أوس بن ثابت بن بشير كان حجة في اللغة، حتى قال فيه بعض العلماء:
إنه يحفظ ثلثي اللغة. مات سنة (215 هـ). "تاريخ بغداد" 9/ 77. "سير أعلام النبلاء" 9/ 494.
(4) هو أبوعبيدة مَعْمَر بن المثُئى البصري النحوي، كان من بحور العلم في العربية، صنَف ما يقارب مائتى مصنف، منها:" مجاز القراَن" و" غريب الحديث" و" مقتل عثمان" ولد سنة (110 هـ) وتوفي سنة (209 هـ). "إنباه الرواة" 3/ 276، و"سير أعلام النبلاء" 9/ 445.

(3/284)


ولدَكَ خشيةَ إملاقٍ. بأن يقول: بأن قتلته خطأً؟ وإنْ كانت أغنامي معلوفةً؟ وإن قتلتُ ولدي مَلَلاً للأولادِ لا خوفَ الإملاق؟ علمَ أنه ليس التعليقُ للحكمِ على الصفةِ غيرَ موجبٍ نفيَه عما ليس فيه تلك الصفة، فإنَّ الموضوعاتِ لا يحسُن فيها الاستفهامُ، ألا ترى أن الفحوى لا يحسنُ فيه ذلك لما كان موضوعاً، فلو قيل له: لا تَقُلْ لأبيكَ أف. فقال: أفأضربه وأشْتمه؟ أو قِيلَ له: لا تاخذ من مالِ فلان ذَرَّةً.
فقال: فهل آخذُ مالَه كُلَّه؟ لم يُعدَّ (1) هذا مُستفهِماً بلغة العرب ولا عارفاً بها، فيقال له: حسن الاستفهام إنما لكونه طلباً للأوضحِ والأجلى، حتى إنهم ما استقبحوا استفهامَ من قال: دخلَ السلطانُ البلد، هل دخل بنفسِه أم عسكره؟ واستفهامَ من قال: رأيتُ السَبُعَ في هذا الطريقِ، أرأيتَ الأسدَ نفسَه أم أثَره؟ كلُّ ذلك لدخولِ المجاز والاستعارةِ، وإن كانَ الأصلُ الحقيقةَ، وها هنا قد يدخلُ التقييدُ بأحدِ وصفيِ الشيءِ ليدلَّ على المخالفةِ، ويجوزُ أن يكونَ قد خصَّ أحدَ وصفيهِ بالحكمِ للشرفِ والفضيلةِ لحُسنِ الاستفهامِ ليزولَ هذا الاحتمالُ ويخالفَ نفسَ النطق الذي هو قوله: "في سائمةِ الغنمِ زكاةٌ" (2)، إذ لا تردَّد ولا احتمالَ فيه.
ولسنا نقولُ: إنَ دليلَ الخطاب في رتبةِ النصوصِ والأوضاعِ الجليّة. وليس رتبةُ دليلِ الخطابِ بأدنى من معنى الخطابِ؛ لأنَّ جمهور العلماء يسقطونه بمعنى الخطاب إلا ما شذَّ من المذاهب.
ثم معنى الخطابِ يحسُنُ معه الاستفهامُ، فماذا قال: لا تشرب الخمر؛ لأنه يوقع العداوةَ والبغضاءَ، ولا تَبع الحنطةَ بالحنطة متفاضلاً؛ فإنه طعامٌ. حَسُنَ أن يقولَ: فهل أشربُ النبيذَ؟ وأبيعُ الأرزَّ بالأرز متفاضلاً؟ اولا ينكر أحد استفهامه ذلك، ولا يدلّ ذلكَ على أنَّ المعنى ليس بمعَوَّل عليه ولا يحتجُ به.
__________
(1) مكررة في الأصل.
(2) تقدم في الجزء الأول، الصفحة: 37.

(3/285)


ومنها: أنه لو كان تعليقُ الحكمِ على ذي صفةٍ يَدُلُّ على نَفي الحكمِ عن غير الموصوفِ بها؛ لوجبَ أن يكونَ الخبرُ عنه يدُلُّ على نفي الخبرِ عن غير الموصوفِ بها، حتى لو قال القائل: قامَ السودُ، أو: رَعَت السائمةُ في العُشبِ، ودخل زيدٌ العالمُ، يُوجب نفي القيام عن البيضِ ونفي الرعيِ عن العواملِ، وعدمَ دخولِ غيرِ العالمِ من الأزيادِ، وكذلك الإشارةُ إلى شخص بحكم من الأحكامِ كان يجبُ أن تقتضيىَ الإشارةُ إليه نفيَ الحكمِ عن كل شخصٍ لم تقع الإشارةُ إليه بذلك الحكمِ.
ألا ترى أنَّ الاستثناءَ والتخصيصَ لما تعلَّق عليه الحكمُ في الأمرِ والنهيِ تعلق عليه في الخبرِ، فلا فرق بين قولِ القائلِ: اقتل (1) المشركين، ولا تقتل أهلَ الكتاب.
وبين قوله: قتَلَ المشركين ولم يقتل أهلَ الكتاب. ولابين قوله: ادفع إلى زيدٍ عَشرة إلا درهمين. وبين قولي: دفعت إلى زيد عشرة إلا درهمين.
فيقال: كذلكَ نقول في الخبرِ، وفي الاسمِ العلمِ كالاستثناءِ والتخصيصِ سواء، فهذا هو المذهبُ، وكذلكَ إذا أشار إلى الحكمِ إما تزكيةً وإما تضحيةً إلى ماشيةٍ بعينها أو حيوانٍ بعينه دلَّ على نفي التزكية والتضحية عن غيره.
على أنَّا لو وسعنا الكلامَ بالتسليم، لكان التمييز (2) واضحاً بين الخبرِ عنه وتعليق الحكمِ عليه، وذلكَ أن المخبِرَ ليس من شرطِ إخبارِه أن يكونَ محيطاً بعلمِ من قام ومن لم يقم، ومن زكَّا، ومَن لم يُزك، ومن دخلَ الدارَ، ومن لم يدخل، بل يجوزُ أن يكونَ عالماً بما أخبرَ به فقط، فكذلكَ إذا قال: زَيدٌ قام. لم يُحكم عليه بأنه يتضمّن كلامُه أن عَمْراً لم يقم. و: دخلَ العالمُ. أن الجاهلَ لم يدخل، فأمَّا إذا قالَ: اشترِ لي خبزاً سَميذاً، أو لحما طرياً، ورُطَباُ جنياً وهو يعلمُ أن الخُشْكارَ من الخبزِ، والبائتَ من اللحم والرطب يُباعُ ويُبتاعُ، علمنا أنه تنكَّبَ ذكرَ ذلكَ على بصيرة لكراهتِه له، فصارَ النفيُ
__________
(1) في الأصل: "اقتلوا".
(2) في الأصل: "الخبر" ولعل المثبت أولى.

(3/286)


مدرجاً في الإثبات.
وعلى أنَ اللغة عندكم لا تثبتُ قياساً، وهذا قياس منكم لدليل النطقِ في الأمرِ والنهي على دليلِ النطق في بابِ الإخبار.
ورأيتُ من استبعدَ ممانعةَ الخبرِ في بعضِ مجالسِ النَظر، فقلت له: كثير من الأمورِ في النفوسِ يَتَغطى بفورةِ النَظرِ والعَصبية (1) لا يُظهِرُه إلا جِنْسُه، وأنا أعلمُ الآن أنَّ قائلاً لو قال: أصحابُ الشافعي فقهاءُ، أو: فلان إمامٌ فى الفقهِ. وفي الحاضرين أصحابُ أبي حنيفة وغيرُهم، وغير المشارِ إليه بالإمامة في الفقه، عَظمُ ذلك عليهم وعندهم، كأنه قال: وليس غيرهمُ كَهُم في الفقه. ما ذاكَ إلا لأنَّ النفوس قد شعرت بأنَ الأسماءَ والإشاراتِ والصفاتِ في الأخبارِ والأحكامِ إذا نيط بها مَدحٌ أو تعظيمٌ أوخبرٌ يتضمن فَضيلةً كان مقتضياً للمخالفة.
ومنها: أن قالوا: إنَ الأسماءَ والصفاتِ إنما وضعت لتمييز المسمَّيات، والخبرُ بأنَّ زيداً قامَ أو أن زيداً عالمٌ، وضعَ للإعلامِ بقيامهِ وقضلِه، فأمَّا أن يكونَ وُضع لنفي الفَضلِ والقيام عن غيرِه فلا، ومُنكِرُ هذا مكابرٌ للغة وأهلِها.
فيقالُ: المنعُ لهذا أمر ظاهرٌ لا يمكنُ جحدُه، وذلكَ أنَ الصحابة- رضي الله عنهم- والفقهاءَ بعدَهم عَقَلوا ذلك فيمن خاصمَ رجلاً فقال: ما أنا بزانٍ، ولا أمي -بحمْدِ الله- زانيةٌ. فقومٌ قالوا: رجلٌ مدحَ نفسَه وأمَّه، ومنهم من قال: هو قاذفٌ لمخاصمهِ (2). وهو
__________
(1) مكررة في الأصل.
(2) وممَا وردَ في ذلك، أنَ رجلين استثا في عهدِ عمرَ -رضي الله عنه- فقال أحدُهما: ما أُمي بزانية، وما أبى بزانٍ، فشاورَ عمرُ القومَ، فقالوا: مدحَ أباه وأُمه، فقال: لقد كان لهما من المدحِ غيرُ هذا، فضربَه، أخرجه ابن ابى شيبة 9/ 538، وعبد الرزاق 7/ 425، والبيهقي 8/ 252، و"الموطأ"2/ 829، 830، والدارقطني 3/ 209.

(3/287)


مذهبُنا ومذهبُ مالكٍ (1)، وما ذاكَ إلا لأنهم عقَلوا من إضافتِه نفيَ الزنى وإثباتَ العفةِ لنفسِه وأمَّه إثباتَ الزنى في حقِّ مخاصِمه وحق أمه، فكيف يُدعى أنه علِى خلافِ اللغةِ، وأن قائلَه مكابرٌ؟
وهَب أنها وُضِعت للتمييز فلِمَ منعتُم أن يختضَ بذلكَ دونَ غيرِه؟ فليس ذلك مانعاً من أن يندرجَ فيها غيرُ التمييز من المخالفةِ بينها وبين غيرِها في الحكمِ الذي عُزيَ إليها وعُلِّقَ عليها.
ومنها: أن قالوا: لو كان للخطابِ دليلٌ لكانَ مستنبَطاً من اللفظِ، إذ ليس في نفسِ اللفظِ ولا عينِ النطقِ، وما كان مستنبطاً من النُطقِ لم يجز تخصيصه كالعللِ، وقد أجمعنا على تخصيصه، فكم من حكم عُلقَ على أحدِ وصفي الشيءِ، ولم يقتضِ نفيَ ذلكَ الحكمِ عما انتفى عنه ذلك الوصفُ، وبينوا ذلكَ في مواضعَ، كقوله: {وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} [النور: 33] {وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ} [الأنعام: 151] {خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ} [الإسراء: 31].
فيقالُ: ليسَ بمستنبطٍ، وإنما هو معلومٌ من اللفظِ والتقييدِ، وليس كل ما لم يكن مَنطوقاً بهِ يكون مستنبطاً، ألا ترى أنَ الفحوى عندنا وعندَ أصحابِ ابى حنيفة ليس بمستنبط، ولا هو منطوق به، وكذلك المقدرات مثل قوله: {اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ} [الشعراء: 63]، تقديره: فضربَه، فانفلق، وكُل مقدر ليس بمنطوقٍ به،
__________
(1) ورد عن الإمام أحمد روايتان في الحد في التعريض بالقذف: الرواية الأولى عن حنبل: لا حد عليه، وبه قال عطاء، وعمرو بن دينار وقتادة، والثوري، والشافعي، وأبوثور وأصحاب الرأي.
الرواية الثانية: أنَ عليه الحد، وبه قال مالك.
والذي رجحه ابن قدامة في "المغني": أنه إذا لم يكن ذلك في حال الخصومة، ولا وجدت قرينة تصرف إلى القذف؛ فلا شكَّ أنه لا يكون قذفاً.
وقد ذكر أن الإمام أحمدَ رجع عن وجوبِ الحدِّ في التعريض، انظر"المغني" 12/ 393.

(3/288)


وأجري مجرى المنطوق، ولم يكن مستنبطاً.
ومنها: أن قالوا: لو كان تعليقُه على صفةٍ تدلُّ على نفيه عما لم تثبت فيه تلك الصفةُ، لما وضعت له عبارةٌ تخصه، فلما حَسُنَ أن يقول: في السائمة زكاة، وليس في المعلوفة زكاة. دل على أن العبارةَ التي تَخصه هي المقيّدةُ دونَ المنطوقِ.
فيقال (1): ولِمَ إذا كان له وضع من جهةِ الصريحِ لا يكونُ له وضع دون الصراحةِ والنص، ونحن نعلمُ أنه قد وضعَ للنهي عن الضربِ والشتمِ عبارةٌ تخصه، ولم يُمْنَع ذلك بثبوتِ فحوى الخطاب، بل في الآية نفسها. {وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الاسراء: 23] وقد دخل في النهي عن التأفيفِ، ثم صُرحَ به مقيداً ما أفاده النهي، قال سبحانه: {فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا} [الإسراء: 23]، والانتهارُ مستفاد من طريق الأوْلَى بالنهي عن التأفيفِ لو لم ينه عنه بلفظ يَخُصّه، ثم إنه نَهى عنه بلفظٍ يخصّه، فقال: {وَلَا تَنْهَرْهُمَا}، كذلكَ ها هنا لا يمتنع أن يكونَ مثلَه.
ومنها: أن قالوا: الصفاتُ وُضِعت للتمييز بين الأنواعِ، كما وُضعَت الأسماءُ للتمييزِ بين الأجناسِ والأشخاصِ، ثم تعليقُ الحكم على الاسمِ لا يقتضى نفيَه عمَّا عداه، وكذلك تعليقُه على الصفةِ.
فيقال: إنَا لا نُسلم الأسماءَ، بل حُكمُها وحكمُ الصفاتِ سواء، وهو مذهبُنا ومذهب أبي بكر الدقاق (2) -من أصحابِ الشافعي-.
وإن سلَّمنا توسعةَ النظر فالفرق بينهما من وجوه:
أحدُها: هو أنَ الجمعَ بين الأجناسِ المختلفةِ في الحكمِ الواحدِ دأبُ العربِ، فيقولُ القائلُ منهم: اشترِ لي لحماً وتمراً وخبزاً، ولا يراها تقيِّد الاسمَ بصفةٍ، والموصوفُ
__________
(1) في الأصل: "قال".
(2) تقدمت ترجمته في الجزء الأول الصفحة: 188.

(3/289)


بتلك الصفةِ وضدُّها عندها واحد، فإنها لا تقول: اشتر لي تمراَ بَرْنياً. والبَرنى والمعقليُّ عندها سواء، ولاتقول: اشترلي لحماً مشوياً. والمشوي والنيء عندها سواء.
على أنَ تعلق الحكمِ على بعضِ الأسماء لا يمنعُ تعليقَه بغيرها من الأسماءِ، ألا ترى أنه إذا أوجب الزكاة في الغنمِ، ثم أوجبها في البقرِ، لم يمنع تعلقها بالبقرِ تعلُّقَها بالغنمَ، وتعليقُ الحكمِ على أحدِ وصفي الشيءِ يمنعُ تعليقَه بضد ذلكَ الوصفِ، ألا ترى أنه إذا علَّق الزكاةَ على سائمةِ الغنمِ ثم أوجبها في المعلوفةِ، يخرج أن يكونَ الوجوبُ متعلَّقاً بالسائمةِ، وبقيت الزكاةُ معلَّقةً على الاسمِ وحده؛ ولأنَ تعليقَ الحكمِ بالاسم لا يقتضى تخصيص اسمٍ عامٍ، والتخصيصُ لا يكونُ إلا بما يقتضي المخالفَةَ، كالاستثناءِ والغايةِ، ولأنَ الاسمَ لا يجوزُ أن يكونَ علّةَ في الحكمِ، فتعلق الحكمِ عليه لا يقتضي المخالفةَ، والصفةُ يجوز أن تكونَ علةَ الحكمِ، فتعليق الحكمِ عليها (1) يَقتضي المخالفةَ.
ومنها: أن قالوا: لو كانَ تعليقُ الحكمِ على أحدِ وصفيِ الشيءِ ينفيه عما عُدِمَ فيه ذلكَ الوصفُ، لكانَ إذا قال: في سائمةِ الغنمِ زكاةٌ، كما يوجِبُ نفيَها عن المعلوفةِ يوجبُ نفيَها عن سائمةِ البقرِ والإبلِ؛ لأنَّ المعنى الذي يوجبُ نفيَ الزكاةِ عن العواملِ والمعلوفةِ هو تقييدُه بالسومِ، وكان يجبُ لما (2) قيِّدَ بالغنم أن يوجِبَ نفيَ الزكاةِ عن غيرها من البقرِ والإبلِ.
فيقال: إنّا على ما نصرنا من أن الاسمَ كالصفةِ كذلكَ نقولُ لو لم يَرد نُطقٌ يخصُّ الإبلَ والبقرَ لإيجابِ الزكاة، وإنما ورودُ النطقِ لإيجابِ الزكاةِ في سائرِ الأنعامِ منَع من العملِ بدليلِ خطابِه في أصولها، ونفي دليل الخطاب في وصفها، وقد أشارَ إليه صاحبُنا أحمد رضي الله عنه لما سُئل عن حديث بَهزِ بن حكيم عن أبيه عن جدّه عن
__________
(1) في الأصل: "عليه".
(2) في الأصل: "كما".

(3/290)


النبي صلى الله عليه وسلم: "في كُل إبلٍ سائمةٍ" (1)، هل يدخل فيه أنه لا تكون إلا في السائمةِ، ولا تدخلُ فيه العواملُ؟ فقال: أجل، لا تكونُ في العوامل، لا تكون إلا في السائمةِ. فعمَّ بسقوطِ الزكاةِ في غيرِ السائمةِ من كُلِّ نوع (2).
ومنها: أن قالوا: لو كان للخطابِ دليل لجازَ أن يبطلَ حكمُ الخطابِ، ويبقى حكمُ الدليلِ، كما بطلَ حكمُ الدليلِ وبقي حكم الخطاب، وذلكَ مثل قولهِ صلى الله عليه وسلم:"أيّما امرأةٍ نكَحت نَفْسَها بغيرِ إذْنِ وَليها، فَنِكاحُها باطلٌ" (3)، دليلُه: أنها إذا نكحت نفسَها بإذنه، فنكاحُها صحيح، وكذلكَ قولُه: "لا تُحرَّمُ الرضعةُ والرضعتانِ، ولا الإملاجَةُ ولا الإمْلاجتان" (4)، دليلُه: أنَ الثالثَة تُحرم، وعندكم لا يصحُ نكاحُها بنفسِها عن إذن وليّها (5)، ولا يحرم من الرضاعِ
__________
(1) حديث بهز بن حكيم عن أبيه عن جده -معاوية بن حيدة القشيري- قال: سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "في كل سائمة إبل في كل أربعين بنتُ لبَونٍ" أخرجه أحمد 5/ 2و4، وأبوداود (1575)، والنسائي 5/ 25، والحاكم 1/ 397 - 398.
(2) انظر قول أحمد -رضي الله عنه- في "المغني"4/ 12، و"المبدع في شرح المقنع "2/ 311، و"حاشية الروض المربع شرح زاد المستقنع" 3/ 189 - 190.
(3) تقدم تخريجه في الجزء الثاني، الصفحة: 147.
(4) عن عائشة رضي الله عنها أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرِّم المصة والمصتان"، أخرجه أحمد 6/ 95 - 96، ومسلم (1450)، وأبوداود (2063)، والنسائي 6/ 101، وابن ماجه (1941)، والدارقطني 4/ 172، وابن حبان (4228).
وعن أُمِّ الفضل أنَ النبي صلى الله عليه وسلم قال: "لا تحرم الرضعة أو الرضعتانِ، أو المصةُ أو المصتان" أخرجه مسلم (1451)، والنسائي 6/ 100 - 101، وابن ماجه (1940)، وابن حبان (4229). ولفظه عند النسائي وابن حبان: "لا تحرَّم الإملاجة ولا الإملاجتان".
(5) انظر "المغني"9/ 345 - 346 و"المبدع شرح المقنع" 28/ 7 - 29 ووجه المنع من الأخذِ بدليلِ الخطابِ في قوله صلى الله عليه وسلم:"أيما امرأةٍ نكحت بغيرِ إذنِ وليها فنكاحُها باطلٌ"؛ لعبارة الخطاب في قوله صلى الله عليه وسلم: "لا نكاح إلأ بولي"، وعبارة الخطاب مقدَمة على دليل الخطاب عند التعارض.

(3/291)


الثلاثُ (1)، فبطلَ دليلُ الخطابِ، وعملتم بالنطقِ فيهما، حيث بطلتم النكاحَ بغيرِ إذنِ الولي، ولم تُحرَّموا بالرضعةِ والرضعتين.
فيقالُ: إنما نأخذ بدليلِ الخطابِ مع عدمِ النصّ، وإسقاط حكمِ الدليل الأضعف بوجودِ الأقوى لا لخروجِ الأضعفِ عن الاستدلالِ به مع عدم الأقوى، وهذا حكمُ تراتيبِ الأدلةِ، وذلك كالعمل بالقياس مع عدمِ السنةِ، واطّراحه مع وجودها، بخلاف ما يوجبُه القياسُ. وفي مسألتنا لولا حديثُ عائشةَ رضي الله عنها في الخمسِ رضعات (2)، لحرمنا بالثلاثِ، ولنا في الثلاثِ رواية أنها تحرَّم، فلا يبطلُ الدليلُ رأساً، كما لم يبطل النطق، لكننا تكلمنا على الأسَد، ولنا رواية في تزويجِ المرأةِ نفسها (3)، على أنَ أكثر ما في هذا انقطاع النطقِ عن الدليل، والدليلِ عن النطقِ.
ومنها: أن قالوا: ليس في كلامِ العربِ كلمة تدلّ على شيئين متضادين، وعندكم أن هذا اللفظَ يَدُلُّ على إثبات الحكمِ ونفيه، وهذا خلاف اللغة.
__________
(1) انظر "المغني" 11/ 309 - 312 و" المبدع " 8/ 166 وقد ورد عن الإمام أحمد ثلاثُ روايات في عدد الرضعات المحرمات:
الرواية الأولى: أنَ الذي يتعلق به التحريم خمسُ رضعات فصاعداً، وهذا الرأي هو المعتمد في المذهب.
الرواية الثانية: أنَ قليلَ الرَضاعةِ وكثيره يُحرم.
الرواية الثالثة: لا يثبتُ التحريمُ إلا بثلاثِ رضعات.
(2) حديث عائشة: قالت:"نزل القرآن بعشرِ رضَعات معلوماتِ يحرِمن، ثمَ نُسِخن بخمسِ رَضعات معلوماتِ، فتوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهنَ فيما يقرأ من القرآن". أخرجه الدارمي 2/ 157، ومسلم (1452)، وأبوداود (2562)، والترمذي 3/ 446، والنسائي 6/ 100، وابن حبان (4221) و (4222)، والبيهقي 7/ 454.
وقول عائشة:"فتوفي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن"، أردت به قرب عهد النسخِ من وفاةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم. وانظر ما تقدم في الجز الأول، الصفحة: 247.
(3) وهي روايةٌ مرجوحة غير معتمدة في المذهب. انظر "المغني" 9/ 345 - 346، و"المبدع شرح المقنع" 7/ 28 - 29.

(3/292)


فيقال: يبطلُ بالأمرِ بالشيء، فإنه يُعقل منه النهيُ عن ضِده، ويبطل بلفظ الغاية يثبتُ الحكم إليها ينفيه (1) عما عداها.
وفيما ذكرناه كفاية، والدلائلُ تأتي بالعجائب، فلا وجه لإنكارِ الشيء المتحد إذا قامت عليه دلالة، ولو لم يكن فى لغة العرب سواه.

فصل
في الدلالة على أن تعليق الحكمِ على الاسم يدلُّ على أنَّ ما عداه بخلافه (2)
أنَ الاسمَ وضِعَ للتمييز بين المسمَّيات، كما وضعتا الصفةُ لتمييز الموصوفِ بصفتهِ عن الموصوفات، فاذا قال: ادفع ديناراً إلى زيد، واشترِ لي شاةً بدينار كان في حصولِ التمييز بمثابةِ قوله: اشترِ لي خبزاً سَميذاً، ورطَباً جنياً، وادفع إلى زيد ديناراً جيداً.
ثم إن تعليقَ الحكمِ على الصفةِ يدل على نفيه عما تنتفي عنه تلكَ الصفة، كذلكَ إلاسمُ، ولا فرقَ بينهما.
فان قيل: الصفةُ يجوز أن تكونَ علةً للحكم، والاسمُ لا يجوزُ أن يكونَ علةً للحكمِ.
قيل: لا نُسلّم؛ لأنَّ أحمدَ نصَّ على التعليلِ بالأسماء في أحكامٍ عدةٍ، مثل الماء والتراب في الطهارة (3)، لأنَّ عللَ الشرعِ أماراتٌ على الأحكام غيرُ موجباتٍ، ولا بدْعَ
__________
(1) في الأصل: "نفيه".
(2) تسمَّى هذه المسألة بمفهوم الاسم، أو مفهوم اللقب، وهو حجة عندَ الإمام أحمد وأصحابه، وخالفَ في ذلك جمهور الأصوليين.
انظر "المعتمد" 1/ 148، و"البرهان" 1/ 453 - 454 و"الإحكام" 3/ 137، و" شرح تنقيح الفصول" ص. 27، و"العدة" 2/ 475 - 477، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 509 - 511، و"التمهيد" 2/ 202 - 210.
(3) انظر "العدة" 2/ 465 و 475

(3/293)


أن يكون الاسم أمارة.
فإن قيلَ: يجوزُ أن يكونَ الاسمُ وغيرُه منوطاً بهما حكمٌ واحدٌ كقوله: اشتر خبزاً وتمراً، وأكرم زيداً وعَمْراً. فإذا قال: أكرِم زيْداً، وسكت، لم يدُل ذلك على نفي كرامةِ عمروٍ، فأمَّا إذا قال: اشترِ خبزاً سميذاً، عُقِلَ من ذلك أنه ليس الخُشار عنده كالسميذ مع تقييده بالصفةِ المذكورةِ.
قيل: يحسُنُ أن يقولَ: اشترِ سَميذاً أو خُشاراً، كما يقول: أكرم زيداَ أو عَمراً، وإذا قال: أكرم زيدأ وسكتَ عن عمروٍ، دل على أنه ليسَ عمرو عنده كزيدٍ، كما أنه إذا قالَ: اشترِ خبزاً سميذاً وسَكت عن الخُشارِ، لم يكن ويقيدُم (1) بالسميذِ، والخُشارُ عنده والسميذُ سواءٌ.

فصل
ذكر أصحابُنا عن أحمدَ رضي الله عنه أنه جعلَ الفِعْلَ دليلاً (2)، وأخذوه من قوله في رواية حنبل: لا يُصلَّى على القبر بعد شهر على ما فعل النبي صلى الله عليه وسلم على قَبرِ أم سَعد (3)، فجعل صلاته على قَبر أم سعدٍ بعدَ شهرٍ دليلاً على المنعِ من الصلاةِ على القبرِ بعد شهر، وليسَ في الخبرِ ما يدلُّ على ذلك (4)؛ لأننا لا علمَ لنا، ماذا كان يَفْعلُ لو علمَ بموتها أوصادفَ قبرَها بعد الشهر، بخلافِ ما لو قال: صلوا على القبرِ شهراً، فإنه يُعقلُ منه المغايرةُ بين ما بينَ ذلكَ، وبين ما يزيدُ عليه من المدّةِ، فأمَّا فعلُه لذلكَ
__________
(1) في الأصل: "تَقييده"،.
(2) انظر "العدة" 2/ 478.
(3) أخرجه الترمذي (1038)، والبيهقي 4/ 48 من حديث سعيد بن المسيّب مرسلاً: "أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى على أُمَّ سعد بعدَ موتِها بشهر". قال البيهقي: هو مرسلٌ صحيح. وأخرجه البَيهقي من حديث ابن عباس موصولاً أنه قيلَ للرسول صلى الله عليه وسلم: لو صَليْتَ على أُم سعد، فصلى عليها وقد أتى لها شهر وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم غائباً. "السنن الكبرى" 4/ 48 - 49.
(4) انظر "المسودة": 353.

(3/294)


فلا يدلُّ، وعساه لوصادفَ القبرَ بعدَ شهرين أيضاً لصلَّى، ومن الذي أعلَمنا أنه كان لا يصلِّي؟ وأيُّ دلالةٍ في الفعلِ على نفي الفعل لو زادَ على الشهرِ؟ وإنما كان يعطي هذا نفيَ الصلاةِ بعد الشهرِ أن تقومَ دلالَة على النهي عن الصلاةِ على القبر, ثم يصلي بعد شهرٍ ويتركُ الصلاةَ على كلِّ قبر عُثرَ عليه بعد مضيِّ زيادةٍ على الشهر, فتجوزُ الصلاةُ على القبرِ بعدَ الشهرِ, ويبقى ما زادَ على الشهرِ على مقتضى الأصلِ من النهي والتركِ، والأفعالُ إذا تكررت على نمطٍ واحدٍ صارَ لها بالدوامِ والعادةِ حكمُ الصيغةِ، مثلُ نقدِ البلد، وتركِ الأكل من الصيدِ، إذ لا يصيرُ الفعل وصفاً إلا بالدوامِ، فأما الصيغةُ، فإنها وضِعت على ما وردت بهِ وضعاً مستقراً، فما تُلُقِّيَت إلا من وَضعٍ استقرَّ وثبتَ.
فوِزانُه: دوامُ فعله صلى الله عليه وسلم على النمطِ الذي ذكرنا، ومن الذي تقدِر أن يقولَ على النبي صلى الله عليه وسلم أنه [لو] (1) اشعِرَ بموتِ مقبورٍ بعد شهرين ما كان يصلي عليه، حيثُ صلى على ميِّتٍ أُشعرَ به بعد شهرٍ.
والدلالةُ على ذلكَ وأنَّ الأفعالَ لا دليلَ لها: أن إنساناً لو رأيناه يأخذ خُبزاً سميذاً، ورُطَباً جنياً، ويبتاعُ عَبداً أسودَ، لم يُستدل بذلكَ على أنه لا يأكلُ الخُشارَ ولا الرطبَ البائتَ، ولا يبتاعُ العبدَ الأبيضَ؛ لأنا نُجوَّز أن يكونَ أكَلَ ذلكَ حين ذاكَ؛ لأنه لم يجد سواه، واشترى الأسودَ للمصادفةِ أو الحاجةِ، فأما إذا قال لوكيله: اشترِ لي خبزاً سميذاً، ورُطَباً جنياً، وعَبداً أسود؛ دل ذلك على أن غيرَ الموصوفاتِ بتلك الصفاتِ ليست عنده مساويةً لما قيَّده بالصفات.
ويحتملُ أن تكون دلالةً لأصحابنا ما وقعَ لي؛ وهو أنَّ الصلاةَ في أصل الوضح قبلَ الدفنِ، فإذا دُفن يحتاجُ إلى دليلٍ، فلما صلّى النبي صلى الله عليه وسلم قيل: بقي ما بعدَ ذلكَ على مقتضى الأصلِ، لكن لا يكونُ هذا عَملاً بدليلِ الخطابِ، بل باستصحابِ الحالِ.
__________
(1) زيادة يقتضها السياق.

(3/295)


فصل
وإنَّما كان يوجدُ من الفعلِ دليل إذا استَمَر من النبي - صلى الله عليه وسلم - الصلاةُ على كُل قبرٍ كان دَفْنه منذ شهر, فاذا أُشْعِرَ بميت دُفِنَ منذ مدةِ تزيد على الشهرِ لم يصل، فيقالُ ذلك لِما استمر من تركِ الصلاةِ على كل قبر دُفِنَ صاحبه من مدةِ تزيدُ على الشهر ومن صلاتِه على كُل من دُفِنَ منذ شهر فيكونُ ذلكَ استدلالاً صحيحاً.

فصل
ويمكنُ أن يكونَ الفعل تنبيهاً (1)، وقد أشارَ اللهُ سبحانَه في قوله: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] فنبّه بأداء قنطارِ على أداء دينار (2)، وبعدمِ أداءِ الدينارِ على الخيانةِ أو الجحدِ للقنطارِ وهذا فعل، وهو أمثل، (3) أن يرى النبي - صلى الله عليه وسلم - يتجنبُ البصقةَ في المسجدِ، فيخرجُ البصاق إلى خارجِ المسجدِ ويعودُ، أو يبصقُ في طرفِ ثوبِه، فيكونُ تنبيهاً على المنعِ من البولِ في المسجدِ، أو يَراه يَتوقى البصقَ نحوَ القبلةِ، فيكونُ في ذلك تنبية على التوقّي لاستقبالِ القبلةِ بالبولِ والغائطِ، كقوله: "لا تبصقوا في المسجدِ ولا إلى القبلةِ" (4)، فإنه يكونُ تنبيهاً على النهي عن البولِ في المسجدِ وإلى القبلةِ.
__________
(1) في الأصل: "تنبيه".
(2) في الأصل: "فنبه بأداء دينار على أداء قنطار" والمثبت من "المسودة": 348، وهو المناسب لسياق الآية.
(3) زيادة يتم بها المعنى.
(4) لم يرد بهذا اللفظ، وإنما أخرج عبد الرزاق (1692)، وأحمد 3/ 176 و273 و278 و291، والبخاري (412) و (413) و (1214)، ومسلم (551)، وابن حبان (2267): من حديث أنس بن مالك أن نبيَّ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان أحدكم في صلاتِه، فلا يتفل عن يمينه، ولا بين يديه، فإنّه يناجي ربه، ولكن عن يساره أو تحت قدَمِه".
وأخرج عبدُ الرزاق (1681)، وأحمد 3/ 58، 88، 93، والبخاري (458) و (409) و (410) و (411)، ومسلم (548)، وابن ماجه (761)، والنَسائي 2/ 51 - 52، وابن حبان (2268)، من حديث أبي هريرة وأبي سعيد الخدري أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قالْ "لا يتنخَمَنَّ أحدكم في القبلةِ، ولا عن يمينِه، وليبصق عن يسارِه أو تحت رجله اليسرى".

(3/296)