الواضح في أصول الفقه

فصل
في حرف (إنما) هل يقتضي نفياً وإثباتاً؟
مثل قوله: "إنَما الولاءُ لمن أعتق" (1)، قال شيخُنا رضي الله عنه في كتابِ "العُدة": يقتضيى إثباتَ (2) الولاءِ للمعتق، ودليلُه يعطي أن لا ولاءَ لمن لم يُعتق، وقال كثير من المتكلمين: لا يقتضي يسوى إثبات الحكمِ دون نفيه عما عداه. وقال الجُرجاني: يعطي ذلكَ من طريقِ اللفظِ، فيكون حرف (إنما) أفاد الأمرين جميعاً: إثباتَ الولاءِ للمعتقِ ونفيه عن غيره، ووافقه على ذلك القاضي أبو حامد (3) -من أصحاب الشافعي- مع نفيه لدليلِ الخطابِ (4).
وجْه قول أصحابنا: أنه أضافه إلى جهةٍ، فلا يقتضي النفيَ عن غيرها لفظاً، كما قال: الولاءُ لمن أعتَقَ، أو قال: إنَ الولاءَ لمن أعتَق. فإنه يقتضي إثباتَ الولاءِ للمعتقِ، فلا وجهَ لنفيه عن غيرِه من جهةِ النُطقِ، لكن بدليلِ النطقِ عندَ من أثبته، أو دليلٍ آخر عند من لم يرَ للنطق دليلاً.
فمن قيل: (إنما) للحصر بدليل قوله تعالى: {إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ} [النساء: 171] فأفادت إثباتَ الإلهية له سبحانه، نفيها عن غيره.
قيل: من طريقِ النُطقِ لم تُفِد، لكن بدلالةِ التوحيدِ، كقوله: اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ، فلا نُسلم أنَ اللفظَ أفادَ نفيَ الإلهيةِ عن غيره، بل دليلهُ هو دليلُ العقلِ، هو العامل.
يُعارِض هذا قوله تعالى: {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ} [الرعد: 7] ومعلوم أنه اقتضى إثبات الإنذار له صلى الله عليه وسلم، ولم يُفد نفي الإنذار عن غيره، فتقابلا، وكان ما ذكرنا من الدليل مُعَوّلاً عليه، إذ ليسَ في حرف (إنما) ما يعطي النفي، بل ما أفادت إلا الإثبات.
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة (278) من هذا الجزء.
(2) في الأصل: "نفي"، والمثبت من "العدة" 2/ 478 - 479.
(3) تقدمت ترجمته في الصفحة (18) من هذا الجزء.
(4) انظر "البحر المحيط" 2/ 325.

(3/297)


فصل
الواو لا تقتضي الترتيب على قول أصحابنا (1).
يشهدُ لذلكَ من قولهم فيمن قال لامرأتِه التي لم يَدخل بها: أنتِ طالقٌ وطالقٌ، يقعُ بها طلقتان. ولو قال: أنتِ طالقٌ فطالقٌ، أو: ثمَ طالقٌ، وقعت واحدةً، حيثُ كانت الفاءُ مرتَبةً معقِّبةً، وهو قولُ أصحابِ أبي حنيفةَ ومالكٍ، واختلفَ أصحابُ الشافعيِّ على مذهبين (2)؛ فقال بعضُهم مثلَ قولنا وقولِ أصحاب أبي حنيفة ومالك، وقال بعضُهم: تَقتضي الترتيب. [وهو قول] (3) ثعلب (4)، وأبي عمر الزاهد (5) غلام ثعلب.
__________
(1) وهو قول جمهور اللغوبين والنحوبين والأصوليين، انظر "العدة" 1/ 194، و"التمهيد" 1/ 100، و"شرح الكوكب المنير" 1/ 229، و"القواعد والفوائد الأصولية" ص 130 - 137 و"مغني اللبيب" 2/ 354، وانظر ما تقدم في الصفحة (114) من الجزء الأول.
(2) المشهور عندَ الشافعية أنها تقتضي الترتيبَ، وهو قولُ بعض الكوفيين، منهم ثعلبُ، والفراء، وأبو عمر الزاهد، ومن البصريين؛ قطرب وعيسى بن عيسى الربعي، انظر "مغني اللبيب" 2/ 354، و"التمهيد في تخريج الفروع على الأصول" للإسنوي ص 208، و"البرهان" 1/ 181، و"البحر المحيط" للزركشي: 2/ 253.
(3) زيادة يستقيم بها المعنى.
(4) تقدمت ترجمته في الجزء الأول، الصفحة: 164.
(5) هو أبوعمر محمد بن عبد الواحد بن أبي هاشم البغدادي، المعروف بالبارودي الزاهد غلام ثعلب، صحب أبا العباس ثعلب فعرِفَ به، ونسِبَ إليه، كان أحد أئمة اللغة المشاهير المكثرين، صنف كتاب "فائت الفصيح"، و"شرح الفصيح"، و"تفسير أسماء الشعراء". توفي سنة (345 هـ). انظر "تاريخ بغداد" 2/ 356 - 359، و"وفيات الأعيان" 4/ 329 - 333، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 508 - 513.

(3/298)


فصل
في دلائلنا
فمنها: ماروي أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: ما شاء الله وشئت، فقال: "أسِيَّانِ أنتما؟! قل: ما شاءَ اللهُ ثم شئتَ" (1)، فلو كانت الواو مرتَّبة، كما أن (ثم) مرتَّبةً؛ لكان قد نقله من حرفٍ إلى مثلِه، فلم يبقَ للنقلِ وجْه، إلا أنَه نقلَه من جمعٍ إلى ترتيبٍ وتقديمٍ لاسمِ الله تعالى رتبةَ المقدم وتأخير المؤخَر بحرفٍ يحصُرُ الترتيب.
ومنها: أنها لو كانت تقتضي الترتيب، لجاز أن تجعل في جواب الشرط كما جعلت الفاء، فإذا قال: إن دخل زيا الدار فأعطِه درهماً، أبدله بقوله: وأعطِه درهماً، فلما لم تدخُل مَدْخَلها، بطلَ أن تكونَ للترتيب.
ومنها: أنَ اللهَ سبحانه أدخلَ الواوَ فيما لا يحتمل الترتيب، فقال: {وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ} [الأعراف: 161] وقال: {ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ} {البقرة: 58}، ولو اقتضت الترتيب لما أخّر ما قدَّمَه في أحدِ حرفيه، كما لا يجوزُ أن يقالَ: قلنا ادخلوا البابَ ثم قولوا حطة، ثم ادخلوا، وكقول الشاعِر:
__________
(1) أخرج أحمد 5/ 384، وأبوداود (4980) من حديث حذيفةَ عنِ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: "لا تقولوا: ماشاءَ الله وشاءَ فلان، ولكن قولوا: ماشاء الله، ثم شاء فلان".
وأخرجَ النسائي من حديث قُتيلة الجُهَنية أنَ يهودياً أتى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: إنكم تُنَدِّدون وإنكم تشركون وتقولون: ما شاء الله وشئتَ، وتقولون: والكعبةِ، فأمرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أرادوا أن يحلِفُوا أن يقولوا: ورب الكعبة، ويقولون: ما شاء الله ثم شئتَ. "سنن النسائي" 7/ 16.
وأخرج ابن ماجه من حديث ابن عباس قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئتَ، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئتَ". "سنن ابن ماجه": (2117).

(3/299)


ومَنهلٍ فيه الغُرابُ مَيْتُ ... كأنه من الأجونِ زَيْتُ
سَقَيتُ منه القومَ واستقيتُ (1)
ومعلومٌ أنه استقى ثم سقا.
ومنها: أن الواوَ لو اقتضت الترتيبَ لما حَسُن أستعمالُها فيما لا يحتملُ الترتيبَ، وأجمعنا على جوازِ قولِ القائلِ من أهلِ اللغةِ: اشترك زيد وعَمرو ولا يحسنُ أن يقول: اشترك زيدٌ ثم عمرو ورأيت زيداً وعمراً معاً، ولا يحسن أن يقول: رأيتُ زيداً ثم عمراً معاً، ولو كانت تقتضي الترتيبَ، لكان أيضاً كاذباً في خبره، حيث أخَّر في خبرِه المقدمَ في رؤيته.
ومنها: أنَ الواوَ تدخلُ في الاسمينِ المختلفين مثل زيدٍ وعمروٍ، بدلاً من التثنية في الاسمينِ المتفقين، مثل الزَيدينِ، حيث لم تمكن التثنيةُ مع الاختلافِ، وأمكنت مع الاتفاقِ، ثم إنَّ التثنية في المتفقينِ لا تقتضي ترتيباً، كذلكَ الواوُ في المختلفين، ويشهدُ لتساويهما أنه لم يمكن التثنية في زيدٍ وعمروٍ فابدلهما بقوله: رأيتُ زيداً وعمراً رأيتهما، وبقوله: معاً، فعلمت أن التثنيةَ والعطفَ في الاسمينِ المتفقينِ والمختلفينِ ما
__________
(1) قال أبوعبيد البكري في "سمط اللآلي في شرح أمالي القالي": هذه الأشطار قد نسبها قوم إلى العجَّاج، ونسبها آخرون إلى أبي محمد الفَقْعسي، وكذلك قال يعقوب إنها للحذلمي، والأشطار بتمامها:
ومنهلٍ فيه الغرابُ ميْتُ ... كأنَه مِنَ الأجونِ زيتُ
سقيتُ منه القومَ واستقيتُ ... وليلة ذات ندى سريتُ
ولم يلتني عن سراها ليتُ ... ولم تصرني كِنَةٌ وبيتُ
وجمةٍ تسألني أعطيتُ ... وسائلٍ عن خَبَري لويتُ
فقلت لا أدري ولا دريتُ
والمنهل: هو الماء، والأجون: جمع آجن: وهو الماء المتغير الطعم واللون. انظر "سمط اللآلي" 1/ 201، "الأمالي" 2/ 244، "لسان العرب" 9/ 271.

(3/300)


اختلفا إلا في عدم الإمكانِ، فلم يمكن التثنيةُ في المختلفين، فأبدلوا التثنيةَ بالواوِ الجامعةِ، وأكدوها بقولهما: معاً, إو بقولهما: رأيتُهما.

فصل
في أسئلتهم
فمنها: أنَ النبي صلى الله عليه وسلم إنما نقلَه من الواوِ إلى (ثمَّ) (1)، وليسَ حرفُ (ثمَّ) كالواو؛ لأنَّ (ثم) تعطي المُهلةَ والتراخي، وليس ذلكَ للواو فما نقله من جمعٍ إلى ترتيب، ولا من ترتيب إلى مثله، [بل نقله] (2) من ترتيبٍ مطلقٍ إلى ترتيبٍ بنوعِ تراخٍ ومُهلةٍ.
ومنها: أنَّ قولَه: معاً، أخرجت الواوَ عن ترتيبها بعدَ أن كانت قبل القرينةِ تقتضي الترتيبَ بظاهرِها.

فصل
في الجواب عن السؤالين
أمَّا الخبرُ؛ فإنه قال فيه: "أسيّانِ أنتما"؟، ومعَ الرُّتبةِ لا يكونُ قولُه يعطي أنهما سيانِ؛ لأنَّ من رتَّب رتبة ما، فما سوَّى، حتى لو قال: ماشاءَ الله فشئت، لم يكن جاعلاً لاسمِ اللهِ واسمهِ سيين لما قرن به من حرفِ الرتبةِ والتقديمِ، فلما قال: "أسيانِ أنتما"؟ عُلِمَ أنه لم يأتِ بحرفٍ يعطي نوعَ ترتيبٍ وتقديمٍ.
وأمَّا قولُه: إنَّ (معاً) قرينةٌ، فلِمَ لم تُخرج هذه القرينةُ حرفَ (ثمَّ) عن ظاهرِه؟ ويحسُنُ ضمها إليه، فيقولُ: رأيتُ زيداً ثم عمراً معاً. فيعطي الجمعَ، ويحسُنُ القولُ، فلما لم يحسُنْ في حرفِ (ثمَ) ولا عَمِلَ فيه إلا إفسادَ الكلامِ، وحَسُنَ في الواو عُلِمَ أنه كشفَ بقوله: (معاً) عما تضمنته اللفظةُ من الجمعِ.
__________
(1) يعني في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "قل ماشاء الله ثم شئت".
(2) ما بين حاصرتين زيادة يستقيم بها المعنى.

(3/301)


وممَّا سألوه على بقيَّة طُرُقِنا في المسألةِ أن قالوا: يجوزُ أن لا يُجعلَ جواباً للشرطِ، ويقتضي الترتيبَ (1كحرفِ (ثمَّ) لا يحسنُ جواباً للشرط ويقتضي الترتيب 1)، إنما لم يجعل الجواب جواباً للشرط.
ومنها: أنَ استعمالها في عدةِ مواضعَ للجمع لا للترتيب (2) لا يمنع من كونِها موضوعةً للترتيب كحرفِ (ثمَّ)، قد ورد لا بمعنى الترتيب، قال الله سبحانه: {فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ} [يونس: 46]، والمرادُ به: واللهُ شهيد، إذ شهادةُ الله لا يتقدمُها شيء، فتَترتب عليه. وقالَ الشاعرُ:
كَهزِّ الرُدَينيَّ تَحتَ العجاجِ ... جَرى في الأنابيبِ ثم اضطَرب (3)
ومعلومٌ أنَّ الاضطرابَ لا يتأخر عن الاهتزازِ، ولا يترتبُ عليه، وإنَّما أراد به: واضطرب.

فصل
في الجواب عنهما
فالجواب عن الأوَّلِ منهما: أنَّ (ثمَّ) إنما لم يحسُن أن تقَع جواباً للشرطِ؛ لأنها تقتضي المهلةَ والتراخي، ومن حكمِ الجزاءِ أن لا يتأخرَ عن الشرطِ، كما لا يتأخرُ عن
__________
(1 - 1) مكرر في الأصل.
(2) في الأصل: "لا للجمع للترتيب"، ولعل المثبت هو الصواب.
(3) البيتُ من قصيدةِ طويلةٍ لأبي دُؤاد الإيادي، وصفَ فيها فرسَه، ومطلعها:
وقد أَغتدي في بياضِ الصَّباح ... وأعجاز ليلٍ مولي الذَنَبْ
بطِرْف يُنازعني رأسُهُ ... سَلوف المقادة محض النسبْ
طواه القنيص وتَعْدَاؤه ... وإرشاش عِطفَيْه حتى شسبْ
كهَز الرُّدَيني بينَ الأكف ... جرى في الأنابيب ثم اضطربْ
وقوله: كهز الرُّديني، أي: اهتز في القياد، وقوله: جرى في الأنابيب أي: جري اهتزازه في أنابيبه. "شرح أبيات مغني اللبيب"، عبد القادر البغدادي: 3/ 54.

(3/302)


النداءِ، فإذا تأخرَ وتراخى صارَ كامِلاً مبتدأً لا جواباً، كذلكَ يخرجُ أن يكونَ مع التراخي والمهلةِ جزاءٌ. فأما الواو فلا تقتضي المهلةَ، فإذا قال: ضربني وضربتُه.
يحسُنُ أن يقولَ: عقيب ضربه، كما يحسنُ أن يقولَ في الفاءِ، ولا يحسُنُ أن يقولَ في (ثمَ) ذلكَ، فإذا كانت (1) مفارقةً لـ (ثمَّ) في المهلةِ والتراخي المُخرِجِ للجزاءِ عن مقتضاه، ثم لم تقم مقام الفاءِ، ولا كانت بدلاً عنها، عُلِمَ أنها لا تقتضي الترتيبَ.
وأمَّا الجوابُ عن الثاني منهما، فغيرُ لازم؛ لأنَّنا لا نمنعُ أن تستعملَ استعارة ومجازاً، لكن الأصل الحقيقةُ، فلا يجوز أن يرد الاستعمال للحقائقِ لأجلِ ورودِ ذلك مجازاً واستعارةً، ما هذا إلا بمثابةِ من استدل بقوله تعالى: {فَكُلُوا مِنْهَا}
[الحج:28]، وذلك دليل على أنه لا يؤكلُ جميعُ الهدي والأضحيةِ، فيقول له قائلٌ: أليسَ قد قال اللهُ تعالى: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} [الحج: 30]، و {قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ} [النور: 30]، وليس المرادُ به البعض، فإنا لا نترك حقيقةَ حرفِ التبعيض فيما استدللنا بهِ لأجلِ المجازِ الواردِ في ذلك، بل نَحتاجُ إلى دليلٍ يدلُّ على أنَ ما ذكرناه مجازٌ واستعارةٌ.

فصل
في شُبههم في مسألةِ "الواو"
فمنها: ما روى عديُّ بنُ حاتمٍ أنَ رجلاً خطبَ عندَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فقال: من يُطعِ اللهَ ورسولَه فقد رَشد، ومن يَعصهما فقد غَوى. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:"بئسَ الخَطيبُ أنتَ، قل: ومَن يعصِ اللهَ ورسولَه فَقد غوى" (2). فلو كانت الواوُ التي نقلَه إليها للجمعِ؛ لكان قد نقلَهُ من جمعٍ إلى مثلِه، وذلكَ لا يليقُ بمنصبه.
ومنها: ما روي عنه صلى الله عليه وسلم انه بدأ بسَعيه بين الصَّفا والمروة، وقال: "نبدأ بما بَدأ اللهُ
__________
(1) يعني الواو.
(2) تقدم تخريجه في 2/ 25.

(3/303)


به " (1)، وأراد بذلك قوله تعالى: {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ} [البقرة: 158]، وهذا نص منه على أنها للترتيب، فإن الذي يناسبه من الفعلِ ترتيب، فبدأ فعلاً بما بدأ الله به قولا ومنها: ما رُويَ أن عبدَ بني الحَسْحَاس (2) أنشد عُمرَ رضي الله عنه:
عُميرةَ وَدِّع إن تَجهزتَ غادياً ... كَفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهياً (3)
فقال له عمر لو قدمتَ الإسلام على الشيب لأجزتك. فدل على أن الواوَ رتَّبت الشيبَ على الإسلامِ.
ومنها: ما رُويَ أنَ رجلاً قال لابن عباس: كيف تقدِّمُ العمرةَ على الحج وقد قدم اللهُ الحج على العمرة؟ فقال ابنُ عباس: كما قُدمَ الدينُ على الوصية، وقد قدم اللهُ الوصيه على الدين (4)، يعني بذلك قوله: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ}
__________
(1) أخرجه مالك 1/ 372، ومسلم (1218)، وأبوداود (1905)، وابن ماجه (3074)، والترمذي (862)، والنسائي 5/ 239. من حديث جابر.
(2) هو سُحَيم عبدُ بني الحَسْحاس، من الشعراء المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية والإسلام، كان أسودَ أعجميا أنشد عمر رضي الله عنه من شعره، وقُتل في خلافة عثمان رضي الله عنه، انظر "الأغاني" 22/ 326، "الاصابة" 3/ 250 - 252، "خزانة الأدب" 2/ 102 - 106.
(3) ورد هذا البيت في مطلع قصيدة لسُحيم. انظر "ديوانه" صفحة: 16، وأورده ابن حجر في "الاصابة" 3/ 251:
وَدع سُليمى إن تجهزت غادياً ... كفى الشيبُ والإسلامُ للمرءِ ناهياً.
(4) ورد هذا الاثر من غير احتجاج عبد الله بن عباس بقوله تعالى: {مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء: 11]، في مسند أحمد (2360) ط مؤسسة الرسالة عن كريب مولى ابن عباس قال: قلت لابن عباس: يا أبا العباس، أرأيت قولك: ما حج رجل لم يَسق الهديَ معه ثم طاف بالبيت، إلا حَل بعمرة، وما طاف بها حافي قد ساق معه الهديَ، إلا اجتمعت له عمرة وحجة، والناسُ لا يقولون هذا. فقال: ويحك، إن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - خرجَ ومن معه من أصحابه لا يذكرون إلا الحج، فأمر رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - من لم يكن معه الهدي، أن يطوف بالبيتِ ويحل بعمره، فخعلَ الرجلُ منهم يقول: يا رسول الله، إنما هو الحجُ، فيقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إنه ليس بالحج، ولكنْها عُمرةٌ".

(3/304)


[النساء: 12]، وهذا كلُهُ يدل على أنهم فهموا من التقديمِ في اللفظِ التقديمَ في الحكمِ.
ومنها: أنَ المهاجرين احتجوا على الأنصارِ في بابِ الخلافةِ من جملة ما احتجوا به أن الله بدأ بنا فقال: {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} (1) [التوبة: 117]، والعرب تبدأ بالأهمِّ فالأهمِّ، ولهذا قَدَّم الفقراء في أصنافِ الزكاةِ (2)، لكونِهم أمسَّ حاجةً من غيرِهم من الأصنافِ.
ومنها: أنَ كل فطنٍ من أهلِ اللغةِ يعلمُ أنَ رجلاً لو كاتب غيرَه بكتابٍ، وذكر فيه أنه قد أنفذه على يدي رسولين، وبدأ بذكرِ أحدِهما في الكتابِ، عَلمَ المكتوبُ إليه وسبقَ إلى فهم كل عالمٍ باللغةِ أنَ أكرمَهما عليه وعندَه من بدأ بذكره، وإن كان اسمُ الثاني معطوفاً على الأول بالواو.
ومنها: أنَ المعنى نَتيجةُ اللفظِ، واللفظُ في أحدِهما سابق، فكان المعنى سابقاً.

فصل
في الأجوبة عنها
أما الأولى: فإنَّ إنكارَ النبي صلى الله عليه وسلم على الخطيبِ الجمعَ بينَ اللهِ ورسوله على وجه التثنية، فهي أبلغُ من الجمعِ بالواو وإن كانت الواوُ شريكتَها في الجمعِ، ولهذا قالَ سبحانه: {وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ} [التوبة: 62]، ولم يقل: يرضوهما، وطلبَ
__________
(1) لم نقف فيما بين أيدينا من كتبِ السنة والسيرة التي روت خبر سقيفة بني ساعدة، على استدلال المهاجرين على الأنصار بهذه الآية. وانظر خبر السقيفة عند أحمد (390) ط مؤسسة الرسالة، والبخاري (3668)، وابن حبان (414)، وسيرة ابن هشام 4/ 306 - 312.
(2) في قوله تعالى في سورة التوبة، الآية (60): {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ....} الآيه.

(3/305)


رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما ذكره الله في كتابه، وهاء الكناية في التثنية والجمع أبلغُ من الجمعِ با لواوِ.
وأمَّا قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "نبدأ بما بدأ اللهُ به".
فلا خلافَ ان اللهَ بدأ بالصفا قولاً، ولكن عطفَ عليه بالواوِ الجامعةِ لا بحرفٍ مرتِّب، ومن عادةِ العربِ أن تبدأ نطقاً بالأهم، فلا يتحقق الترتيبُ إلا بحرفِ التراخي أو التعقيبِ الذي لا يصحُ أن ينطبقَ عليه الجمعُ، وها هنا يحسنُ أن ينطبقَ عليهما قولُ القائلِ: معاً، فدلَّ على أنها عاطفة جامعة لا مرتِّبةٌ.
وأما قول عُمر لشاعرِه: لو قدَّمت الإسلامَ؛ لأجزتك.
إنما طلب منه تقديمه لفظاً؛ لأنَّ الأهمَّ يجبُ أن يُبدأ به لفظاً، وإن كان مجموعاً بما بعده.
قال شيخُنا الإمام أبو القاسم الأسدي (1): على هذا؛ ليس في قولِ عمرَ ما يعطي أنه قدم الشيبَ، بل يعطي أنه لم يقدِّم الإسلام، وبينهما واسطة، وهو أنَه جَمَع، ومن جمع بين الإسلامِ والشيبِ، فما قدّم الإسلامَ، فأوقف جائزتَه على تقديمهِ الإسلامَ.
وأما قولُ ابنِ عباس: كما قدّم الدَّينَ على الوصية.
فالمراد به: لدلالةٍ دلتني على تقديمِ العمرةِ فعلاً على الحجِّ، كما دلَّت [على] (2) تقديم الدَّين فعلاً على الوصية، ولعل الدليلَ قوله تعالى: {فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ} [البقرة: 196]، وكان يتمتع، فيقدمُها بهذه الدلالةِ كما قدم الدين على
__________
(1) هو عبد الواحد بن علي بن عمر العكبري، أبوالقاسم الأسدي، من الشيوخ الذين أخذ عنهم ابن عقيل النحو والأدب، وكانت له معرفة باللغة والنسب وأيام العرب، توفي سنة (450 هـ).، "تاريخ بغداد" 11/ 17،"المنتظم" 8/ 236.
(2) ليست في الأصل.

(3/306)


الوصيَّةِ بالإجماعِ، ودليلُ الإجماعِ أنَّ الدَّين حق هو مرتَهنٌ به، والوصيَّة تبرُّعٌ.
وأما احتجاجُ المهاجرين على الأنصار بتقديمِ ذكرِهم في كتابِ الله حيثُ قال: {وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ} [التوبة: 117].
فلعمري إنها مَزيّة وحجّة في البداية بذكرهم، لكن ما أراد به الترتيبَ، بدليل أنه قد رُوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال يوم بُنيان المسجد وهو يحمل اللّبن:
"لاعيشَ إلاعيشُ الآخرة ... فاغفر للأنصارِ والمهاجرة" (1)
ولو عُقِلَ منها الترتيب، لما خالفَ ترتيب القرآن.
وأما قولُهم: إنه يسبقُ إلى فهم كل سامعٍ تبجيلُ من يسبق بذكر اسمه أولاً.
فلعمري إنه أرادَ وقصدَ تعظيمَ شأن البادىء بذكره، فهو كما قالوا، غيرَ أنه لا يعطي الترتيبَ، بدليلِ أنه لو قال: قد أنفذتُ بصاحبيِّ زيد وعمرو. وعمرو مقدّم عليه أو قبلَه، جازَ ولم يعد مناقضاً، ولو قال: بعثتُ إليكَ بزيدِ فعمرو ثمَ عمراً قبلَه.
عُدّ مناقضاً.
وأما قولهم: إن [المعنى] (2) نتيجة الَّلفظ، فالمعنى الذي هو نتيجةُ الَّلفظِ: فعلُ واحدٍ بعدَ واحدٍ، وهذا هوَ الترتيبُ.
فيقالُ: المعنى مفارقٌ اللفظَ؛ فإنه إذا قَدَم ذِكرَ أحدِهما، وعَطفَ عليه الآخَر ثم قال: مَعاً. صحَّ القولُ وجاز وإن لم يكن ذلكَ مُتحقِّقاً في المعنى، بحيث تقعُ الفعلانِ معاً.
__________
(1) أخرجه بهذا اللفظ ابن سعد في "الطبقات" 1/ 239 - 240، وأخرجه البخاري (9306)، وعبد الرزاق (9743) بلفظ:
"اللهم إن الأجر أجر الآخرة ... فارحم الأنصاروالمهاجرة"
(2) زيادة يقتضيها السياق.

(3/307)


فصل
في الباء
وهي عند أصحابنا للإلصاق (1)، فإذا قلتَ: مررتُ بزيدٍ، وكتبتُ بالقلم، ومسحتُ برأسي [فإن الباء تُلصق المرور بزيدٍ، والكتابةَ بالقلم، والمسحَ بالرأس] (2).
ولا تدخل للتبعيضِ، ولذلكَ يقولُ القائلُ: استعنتُ بالله، وتزوَّجت بامرأةٍ. ولا يُراد به
البعضُ. وكذلكَ قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لا نكاحَ إلا بوليٍّ وشهودٍ" (3). وقال أصحابُ
الشافعي في أحدِ الوجهين: إذا دخَلَت على فعلٍ متعدٍّ يتعدّى بغيرِ الباءِ إقتضت التبعيضَ (4)، وذلك مثلُ قوله: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} [المائدة: 6].
__________
(1) الباءُ في أصل وضعها تفيدُ الإلصاق، إلا أنها قد ترد لمعنى آخر بقرينة؛ فمن معانيها: التعدية: كقوله تعالى: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17].
الاستعانة: كقوله تعالى: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ} [البقرة: 45].
السببية: نحو قوله تعالى: {فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ} [العنكبوت: 40].
المصاحبة: نحو قوله تعالى: {قد جاءكم الرسولُ بالحق} [النساء: 170]، أي مع الحق.
انظر "القواعد والفوائد الأصولية": 140 - 143، "التمهيد" لأبي الخطاب 1/ 112، "العدة" 1/ 200، "الكتاب" لسيبويه 4/ 217.
(2) ما بين الحاصرتين ليس في الأصل، واستدركناه من "العدة" 1/ 200 - 201.
(3) أخرجه الدارقطني 3/ 220، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه.
وأخرجه بلفظ: "لا نكاح إلا بولي وشاهدي عدل"، البيهقي في "السنن" 7/ 124، وابن حبان (4075)، وابن حزم في "المحلى" 9/ 465 من حديث عائشة رضي الله عنها.
وأخرجه الدارقطني 3/ 221 - 222 من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. وفي الباب من حديث جابر وأبي هريرة رضي الله عنهما.
(4) هذا الوجهُ هو ما نصره واختاره الرازي في "المحصول"، والبيضاوي في "المنهاج" جاء في المحصول: "الباءُ إذا دخلت على فعل يتعدى بنفسه كقوله تعالى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ} تقتضي التبعيض، وأجمعنا على أنها إذا دخلت على فعل لا يتعدى بنفسه كقولك: كتبتُ بالقلم، ومررت بزيد، فمنها لا تقتضي إلا مجردَ الإلصاق، "المحصول" 1/ 379. وانظر "البرهان" للجويني 1/ 180، و"البحر المحيط" 2/ 267.

(3/308)


فصل
في دلائلنا
فمنها: أن الباءَ موضوعة لإلصاقِ الفعلِ بالمفعولِ به، يدل على ذلكَ قولُهم: مررتُ بزيدٍ، وكتبتُ بالقلمِ، وطفتُ بالبيتِ، فتفيدُ الباءُ إلصاقَ الفعلِ بالمفعولِ به.
ومنها: أنَ الباءَ لو كانت فيما لا يتعدى بها من الأفعالِ تقتضي التبعيضَ لما حسُنَ عطفُ العمومِ عليها، ومعلومٌ أنَكَ تقولُ: مسحتُ برأسه كُلِّه. ويحسنُ أنك تقول: امسحوا برؤوسكم كُلّها وجميعِها. ولا يحسنُ أن تقولَ: امسح ببعض رأسك كُلِّه وجميعِه.
ومنها: أنه لا يحسنُ دخولُ الاستثناءِ على ما دخلت عليه الباءُ الموجبةُ المتعدِّيةُ، مثل قوله: امسحوا برؤوسكم إلا ثُلثها. ولو كانَ يقتضى البعضَ المهملَ، لما جاز أن يدخلَ عليه الاستثناءُ المقدر؛ لأن الاستثناءَ إنما يخرجُ ما لولاه لكانَ داخلاً، وإذا قال: امسحوا برؤوسكم. وكان كقوله: امسحوا ببعضِ رؤوسكم. فلا نعلمُ دخولَ بعضٍ يُستثنى منه الثلثُ، إذ لا نعلم مقدارَ البعضِ المستثنى منه،

فصل
في شُبههم
فمنها: أن قالوا: إن أهلَ اللسانِ فرقوا بين قولِ القائل: أخذتُ ثوبَ فلانٍ وركابَه، وبين قوله (1): أخذتُ بثوبِه وركابِه. فيحملون الأولَ الخالي من الباءِ على أخذِ الجميعِ، والثاني المقيدَ بالباءِ على الأخذِ بالبعضِ، ويقولونَ: مسحتُ برأسِ اليتيمِ، ومسحتُ يدي بالمنديلِ. فلا يُعقلُ إلا البعضُ.
__________
(1) في الإصل: "قولهم".

(3/309)


فصل
في الجواب عنها
إنَ المرادَ بقوله: أخذتُ بثوبِه وركابِه. أي: علِقتُ بهما، والتعلُّقُ بدلالةِ الحالِ في أنَّ الإنسانَ لا يتعلَقُ بجميعِ القميصِ ولا بجميعِ الركابِ، ولا يمسحُ برأسِ اليتيم إلا للرحمةِ والحنوِّ والإشفاقِ، دون التعميم بِدلائلَ وقرائنَ منعت التعميمَ، فأمَّا أن تكونَ الباءُ أفادت باطلاقِها التبعيضَ، فلا؛ ألا ترى أنه يقولُ: وقفتُ بعرفة، وبالدارِ، وبالربعِ. ولا يحسُنُ أن يقولَ: وقفتُ عرفةَ، ووقفتُ الدار كما لا يحسُنُ أن يقولَ: وقفتُ زيداً. بل: وقفتُ بزيدٍ. ويكونُ المراد بإطلاقِ اللفظِ إلصاقَ الوقوفِ بالدارِ, وعرفةَ، كذلكَ قولُه: مسحتُ برأسي. يعطي الإلصاقَ.
ومن أحوالِ الواوِ (1): أن تقع بدلاَ من الباءِ، والباقي القسمُ، فتقولُ: والله. بدلاً من قولك: بالله.
ومن أحوالها (2): وقوعها موقعَ رُب، قال الشاعر:
ومَهْمَهٍ مُغْبرَّة أرجاؤهُ (3)
مكان قوله: رُبَّ مهمهٍ.
ومن أحوالها: أن تقعَ موقعَ أو، قال الله تعالى: {أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [فاطر:1]، {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ} [النساء: 3]، والمراد به: أو ثلاث أو رُباع، فهذه أحوالُ الواوِ.
__________
(1) تقدم الكلام على "الواو" في الصفحة: 298، وما أورده المصنف هنا تتمة لما سبق.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "حوالها".
(3) البيتُ لرؤبة بن العجاج، وتمامه: "كانَ لونَ أرضهِ سماؤه". وهو في "تأويل مشكل القرآن" لابن قتيبة: 197، و"شرح شواهد المغني" للسيوطي 1/ 971، بهذا اللفظ، وورد في ديوان رؤية: 3، وفي "اللسان": (عمى) بلفظ:
وبلدٍ عاميةٍ أعماؤه ... كان لون أرضه سماؤه

(3/310)


فصل
في حروف شتى
فمنها: (الفاءُ)، وهي للترتيبِ على وجه التعقيبِ؛ لأنها تقعُ للجزاء والجزاءُ لا يقعُ إلا متأخراً عن الشرط.
قال سيبويه (1): إذا قال: رأيتُ زيداً فعمراً، يجب أن تكون رؤيته لعمروٍ عقيبَ رؤيته لزيدٍ (2).
ومنها: (ثم)، وهو حرف للفصلِ والترتيبِ على وجْهِ التراخي والمهلةِ (3)، فكأنها تزيدُ على الفاءِ بنوعِ مهلةِ وتَراخٍ، وقد جعل أصحابُنا الدلالةَ على أنَ إمساكَ المُظاهرِ لزوجتِه لا يكون عَوْداً فيما نطق به لمَن (4) ظاهرَها: قولَه تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا} [المجادلة: 3]، فاقتضى ذلك المهلةَ والتراخي، وذلكَ في العزمِ على الوطء، أشبه بإمساكها زوجَة؛ لأن الإمساك يتعقبُ، والعزمَ يتراخى.
ومنها: حرفُ (أو)، وهو إذا دخلَ على الخبرِ اقتضى الشك، مثل قولِ القائِل: رأيت زيداَ مقبلاً، أو عمراً. فيكونُ ذلكَ دليلاَ على شكه في الرؤية لأحدِهما على التعيين والتحقيقِ.
وإذا دخلت على الأمرِ والاستدعاء [اقتضت] (5) الإباحةَ والإطلاقَ والتخييرَ, فإذا قالَ: كُلْ لحماً أو تمراً، أو اشترِ لي خُبزاً أو لحماً إو ادخُل الدارَ أو المسجد. كان
__________
(1) "الكتاب" 3/ 43.
(2) انظر ما تقدم في الصفحة (78) من الجزء الأول.
(3) خلافاً لأبي عاصم العبادي من الشافعية، ولبعض النحاة، انظر "مغني اللبيب": 158، و"جمع الجوامع مع شرحه" 1/ 345.
(4) في الأصل: "من".
(5) ساقطة من الأصل.

(3/311)


ذلكَ تخييراً للمفعولِ (1) بين المذكورين. وإذا دخلت على النهي، فقد ذكرنا أنَّ المذهبَ أنَها للنهي عنهما، وذكرنا الدلالةَ بعد ذكرِ الخلاف، وتكلمنا على شبهةِ المخالفِ بما أغنى عن الإعادة ها هنا (2).
__________
(1) في الأصل: "للعقول".
(2) انظر ما تقدم في الصفحة (237) من هذا الجزء.

(3/312)


[العموم] (1)
فصل
العمومُ: صيغةٌ تدل بمجردها على أنَ مرادَ النطقِ بها: شمولُ الجنسِ والطبقةِ مما ادخلَ عليه صيغة من تلكَ الصيَغ (2).
وإنما تنكبتُ ما سلكه الفقهاء من قولهم: للعمومِ. لما قدمتُ في الأمر والنهي (3)، وأنَ من قالَ بأنَ الكلامَ هو عينُ الحروفِ المؤلفةِ، لا يحسنُ به أن يقولَ: للعمومِ صيغةٌ؛ لأنَّ الصيغةَ هي للعمومِ، فكأنه تقول: العمومُ عموم. وإنما يحسُنُ ذلكَ ممن قالَ: الكلامُ قائم في النفسَ (4)، فالصيغةُ له لا هُو.
وقد شرحت في بدءِ كتابي هذا تقاسيمَ ألفاظِه وصِيغِهِ (5)، وإنما الكلامُ ها هنا في أصلِه دونَ تفاصيله، هذا مذهبُنا، نص عليه صاحبُنا، وبهِ قالَ الفقهاءُ؛ أبو حنيفةَ، ومالك، والشافعيُّ، وداودُ.
وقالت الأشاعرةُ: ليس للعمومِ صيغة، وما يرد من ألفاظِ الجموعِ لا يحملُ على
__________
(1) زيادة ليست في الأصل.
(2) وهو مذهب جمهور الفقهاء والأصوليين، حيث قالوا بأنَ للعموم صيغةٌ تخصُّه، ويعرف هذا المذهب بمذهب أرباب العموم. انظر تفصيل المسألة في"العدة" 2/ 485، و"التمهيد" 2/ 6، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 108، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 465، و"البرهان" 1/ 321، و" تلقيح الفهوم في تنقيح صيغ العموم" ص (105)، و"البحر المحيط" للزركشي 3/ 17، و"الفصول في الأصول" للجصَّاص 1/ 99، و"الإحكام في أصول الأحكام" لابن حزم: 1/ 338.
(3) انظر ما تقدم في باب الأمر في الصفحة (450) من الجز الثاني، وفي باب النهي في الصفحة (230) من هذا الجزء.
(4) وهو قول الأشاعرة.
(5) انظر الصفحة (91) من الجز الأول.

(3/313)


عمومٍ ولا خصوصٍ إلا بدلالةٍ تدلُّ على ذلكَ (1).
وقال بعضُ الأصوليين: إن ورد ذلكَ في الخبرِ؛ فلا صيغةَ له، وإن كانَ في الأمرِ والنهي؛ فله صيغة تحملُ على الجنسِ (2).
وقال بعضُ المتكلمين: تحملُ ألفاظُ الجمعِ على أقل الجمعِ، ويُتَوقفُ في الزيادةِ
على ذلكَ إلى أن يقومَ الدليلُ عليه. وهو قول أبي هاشم (3)، وابنِ (4) شُجاعٍ الثلجي (5).

فصل
في دلائلنا من الكتاب على إثبات أنَّ (6) الصيغة دالّةٌ بمجردها على الاستغراق
فمنها: قوله تعالى: {وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]، تمسّكاً بقوله تعالى: {فَاسْلُكْ فِيهَا} [المؤمنون: 27]، وقوله: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود: 40]، فأجابه الباري سبحانَه عن ذلكَ جوابَ تخصيصٍ لا جوابَ نكيرٍ عليه ما تعلّق بهِ من العمومِ، فقال: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]، فدلَّ على [أن] (7) اللفظةَ عموم، ولولا دليلٌ أخرجَ ابنه من أهلِه؛ لكانَ داخلاً تحتَ اللفظِ.
ومنها: أنه لما نزلَ قولُه تعالي: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]،
__________
(1) "الإحكام" للآمدي 2/ 200، و"البحر المحيط" 3/ 22.
(2) "الإحكام" للآمدي 2/ 201، و"إرشاد الفحول": 116.
(3) هو عبد السلام بن محمد الجبائي، من رؤوس المعتزلة، توفي ببغداد سنة (321) هـ. "تاريخ بغداد" 11/ 55.
(4) تحرفت في الأصل إلى: "أبي".
(5) هو أبوعبد الله محمد بن شجاع الثلجي، تقدمت ترجمته في الجزء الثاني، الصفحة: 109.
(6) وردت (أن) في الأصل بعد (من)، ولا يستقيم المعنى بذلك، والصواب ما أثبتناه.
(7) زيادة يستقيم بها المعنى.

(3/314)


قال ابن الزِّبعرى (1): لأخصمَنَّ محمداً. فجاء إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، فقالَ: قد عُبِدت الملائكةُ، وعُبدَ المسيحُ، أفيدخلون النارَ (2)؟! فأنزل الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101)} [الأنبياء: 101]، فاحتجَّ بعمومِ اللفظِ، ولم يُنكر النبي - صلى الله عليه وسلم - تعلُّقَه بذلك، وأنزلَ اللهُ سبحانه جوابَ ذلكَ مما دل على تخصيم، لا منكراً لتعلُّقِه، فعُلِمَ أنَ العمومَ مقتضى هذه الصيغةِ.
ثم إنَّ عبد الله بن الزِّبَعرى هَداه اللهُ إلى الإسلامِ، واعتذرَ إلى رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - بقصيدةٍ، قالَ فيها:
أيامَ تأمُرني بأغْوى خُطَةِ ... سَهْم وتَأمُرني بها مَخْزومُ
فاليومَ آمنَ بالنبيِّ محمدِ ... قَلبي ومُخطىء هذه مَحرومُ
فَاغفِرْ-فِدى لكَ والديَّ كلاهُما- ... ذَنبي فإنَّك راحِمٌ مَرحومُ (3)
ومنها: قولُه تعالى في قصةِ إبراهيمَ: {وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ
__________
(1) هو عبد الله بن الزّبعرى بن قيس بن عدي، أبوسعد القرشي الشاعر كانَ من أشدِّ الناسِ عداوة للرسول - صلى الله عليه وسلم - في الجاهلية. أسلمَ بعد الفتحِ، وحسن إسلامه، واعتذر إلى رسول الله وقبل عُذْرَهُ. انظر ترجمته في: "الاستيعاب" 3/ 901، و"الإصابة" 2/ 355 - 303. و"أسد الغابة" 3/ 239 - 240، و"طبقات فحول الشعراء"1/ 233 ومابعدها.
(2) أخرج الطبراني في "الكبير" (12739) من حديث ابن عباس: لما نزلت: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} قال عبد الله بن الزِّبعرى: أنا أخصم لكم محمداً، فقال: يا محمد، أليسَ فيما أنزلَ اللهُ عليك: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ}؟ قال: "نعم"، قال: فهذه النَصارى تعبد عيسى، وهذه اليهود تعبد عزيراً، وهذه بنو تميم تعبد الملائكة فهؤلا في النار؟! فأنزل الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} وذكره القرطبي في التفسير 11/ 343، والسيوطي في "الدر المنثور" 5/ 679.
(3) الأبيات في "سيرة ابن هشام" 4/ 62، و"الاستيعاب" 3/ 953 - 904، و"الإصابة" 2/ 300، والأول والثالث في "طبقات فحول الشعراء"1/ 243.

(3/315)


بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ} [العنكبوت: 31 - 32] ففهِم إبراهيمُ من قولهم: أهل هذه القرية. إهلاكَهم على العمومِ، حيث ذكر لوطاً، وأجابت الملائكةُ بالتخصيص، واستثنوا أقرانه من جملةِ المهلكين، واستَثنوا امرأتَه من جملةِ الناجين، فهذه الآياتُ كلُها قد بانَ بها أنَّ. العمومَ ثابت بهذهِ الصيغِ، وأنها صيغٌ موضوعةٌ بمجرّدها.

فصل
فيما وجَّهوه من الاعترأض على هذه الآيات
فمنها: قولُهم: إنَ هذه الصيغَ صالحة للعمومِ متهيئةٌ له، فإذا قام الدليلُ على مرادِه منها ثبتَ العمومُ، وبالصلاح يحسُن ما وُجه عليها من الاعتراض، ومنها: أن قالوا: بَعد دلائلَ قامت بان المراد بها العموم، لا بمجردها؛ لأن الألفاظَ المسموعةَ يقارنها حالَ السماعِ لها والتلقِّي لصيَغِها دلائلُ أحوالٍ، وشواهدُ تدلُّ على مراد اللافظ بها، وقصدِ منها، وترِدُ إلينا ساذجةً خاليةً من تلك الدلائلِ والشواهدِ، وهذا أمرٌ يعلمه كلُّ أحدٍ من ألفاظِ اللافظِين.
فيقالُ: لو كانَ ذلك لأجلِ صلاحِها للعمومِ؛ لكان ما وجّهوه سؤالاً واستفهاماً.
فأمَّا قول عبد الله بن الزبعرى: لأخْصمنَّ مُحمداً. فليس هذا حداً لصلاحيةٍ، بل كان غاية ما يقول: لأسألنَّ محمداً، فمن كانَ مرادُه كذا، قلتُ: كذا. فلما أقدمَ على ذلك إقدامَ الخصومةِ، وتقريرَ المناقَضةِ، عُلم أنه ما تعلق عليه إلا بمقتضى اللفظِ، دون الصلاحية فقط.
وأما نوحٌ؛ فإنه اقتضى وجعلَ ذلك وعداً (1)، ولا ويقدِمُ نبيٌ كريمٌ على الاقتضاءِ
__________
(1) أي فهم من قوله تعالى: {قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [هود: 40]، الوعد بنجاة جميع أهله، لعموم الصيغة.

(3/316)


بصلاحيةِ مجردة، بل بمقتضى ووضع.
وإبراهيمُ قال: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32]، ولم يقل: أيَهلِكُ لوطٌ في جملةِ أهلِها؟! والباري سمَّاه بذلك مجادلاً لا سائلاً، فقال سبحانه: {فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74)} [هود: 74]، والمجادِلُ هو المحتج دونَ المستعلِمِ.
وأمَّا دَعواهم مقارنةَ دلائلِ أحوالٍ وشواهدَ؛ فذلكَ توهم لا يتحققُ إلا بدلالةٍ، وما هذا القولُ إلا كدعوى (1) خصوصِ وَردَ ولم (2) يُنْقَل، ودعوى صارت لظاهرِ لفطٍ مَنقولٍ من غَيرِ نَقَلةٍ، ونسخِ نص من غير نَقلِ ناسخِه، فنحنُ متمسّكون بمطلق اللفظِ إلى أن تقومَ دلالةٌ بما ادّعاه الخصم.

فصل
في دلائلنا من إجماعِ الصحابةِ على ذلك قولاً (3) وعملاً
فمنها: احتجاجُ عمرَ على أبى بكرٍ في قتاله ما نعي الزكاةِ: كيف تُقاتِلهم وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرتُ أنْ أُقاتِلَ الناسَ حتى تقولوا: لا إله إلا الله، فإذا قالوها عصموا منّي دِماءَهم وأموالهم" (4)؟، فلم ينكِرْ عليه احتجاجَه بذلك، بل عَدَل إلى
__________
(1) في الأصل: "الدعوى".
(2) في الأصل: "لم" بدون الواو
(3) مكررة في الأصل.
(4) أخرج أحمد 2/ 423، 528، والبخاري (1399)، و (6924) و (7284)، ومسلم (20)، وأبوداود (1556) والترمذي (2610)، والنسائي 5/ 14 و6/ 5 و7/ 77، 78، وابن حبان (216)؛ من حديث أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: لما توفي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وكان أبو بكر رضي الله عنه بعده، وكَفَر من كَفر من العرب، قال عمر يا أبابكر كيف تُقاتل الناسَ، وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "أُمرت أن أقاتل الناسَ حتى يقولوا: لا إله إلا الله، فمن قال: لا إله إلا الله، عصَمَ مني ماله ونفسه إلأ بحقِه، وحسابُه على الله"؟ قال أبوبكر رضي الله عنه: والله لأقاتلنَّ =

(3/317)


التعلُّق بالاستثناء" وهو قوله: "إلا بحقّها"، والصحابةُ متوفّرونَ، وبتلك القصة مهتمونَ، ولا أحدَ أنكرَ ذلك التعلُّقَ بالعمومِ، ولا أنكرَ جوابَ أبي بكر عنه بالتخصيص.
ومنها: احتجاجُ فاطمةَ بنتِ رسولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وسلامُه عليها بعمومِ آية المواريثِ: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11] على أبي بكر الصدّيق لما مَنعها ميراثَها من أبيها، فلم يُنكر احتجاجَها بالآية، بل عَدلَ إلى ما رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم من دليلِ التخصيص، وقوله: "نحنُ مَعاشِرَ الأنبياء لا نُورَث، ما تَركنا صَدَقة" (1).
ومنها: لما اختلفَ علي وعثمانُ في الجمعِ بينَ الأختين (2)، فقال عثمانُ: يجوزُ، واحتجَّ بعمومِ قوله: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ} [المؤمنون: 6]، وقال
__________
= من فرَّق بين الصلاة والزكاة، فإنَّ الزكاة من حَقِّ المالِ، ووالله لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدونه إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لقاتلتهم على منعها. قال عمر: فوالله ما هو إلاّ أن رأيتُ أنَ الله قد شرح صدر أبي بكر للقتال، عرفتُ أنَّه الحق.
وحديث: "أُمرت أن أقاتل الناس حتى .. " تقدم تخريجه في 1/ 190.
(1) رواه من حديث أبي بكر رضي الله عنه: أحمد 1/ 4 و6 و9 و10، والبخاري (3093) و (3712) و (4036) و (4241) و (6726)، ومسلم (1759)، وأبود اود (2963)، النسائي 7/ 132.
ورواه من حديث عائشة رضي الله عنها أحمد 6/ 145 و 262، والبخاري (6727)، ومسلم (1758)، ومالك في "الموطأ" 2/ 993.
ورواه من حديث أبي هريرة مالك في "الموطأ" 2/ 993، والبخاري (6729)، ومسلم (1760)، بلفظ: "لا يَقتسم ورثتي دنانير, ما تركتُ بعد نفقةِ نسائي ومُؤنةِ عُمَّالي، فهو صدقة".
(2) المقصود بالأختين هنا، الأختان المملوكتان، قال ابن عباس رضي الله عنهما: أحلّتهما آية، وحرَّمتْهما آية. ومقصوده: أحلتهما اَية: {إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ}، وحرَّمتهما =

(3/318)


علي: لا يجوز واحتجّ بعموم قوله: {أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ} (1) [النساء: 23]، ومنها: ما احتجَّ به من كان يُبيح شُربَ الخمر ممن لم يعرف النسخَ، بقوله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (2) [المائدة: 93] ولم ينكر سائرُ الصحابةِ ذلكَ، وإنما بينوا لقائل هذا أنه منسوخ (3).
وروي عن عثمان (4) أنه لما سمع قولَ الشاعر
ألا كُلُّ شَيءٍ ماخَلا اللهَ باطِلُ ... وكُلُّ نَعيمٍ لامَحالةَ زائلُ (5)
__________
= آية: {وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ}. "سنن البيهقي" 7/ 164، و"سنن سعيد بن منصور" 1/ 396، 397.
وانظر تفصيل المسألة وأقوال الصحابة والفقهاء فيها في "المغني" 9/ 537 - 538.
(1) أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 587، والدارقطني 3/ 281، والبيهقي 7/ 163، وابن أبي شيبة 4/ 169، 170.
(2) تأوَّل هذه الآية، وحملها على عمومها، وفهمَ منها إباحة جميعِ المطعومات، قدامةُ بن مظعون، عاملُ عمرَ بن الخطابِ، على البحرين، حيث استدل بهذه الآية على منع إقامة حدِّ شرب الخمر عليه، ورد عمر -رضي الله عنه- اجتهاده هذا، وقال له: أخطأتَ التأويل، إنّك إذا اتقيت، اجتنبتَ ما حرَّم الله عليك. انظر"مصنف عبد الرزاق" (17576) و"سنن البيهقي" 8/ 316.
وذكر الدارقطني 3/ 166، القصة عن رجل من المهاجرين لم يُسمه.
(3) تابع ابن عقيل شيخه أبا يعلى في القول بأن الآية منسوخة، كما في "العدة" 2/ 495. وفي ذلك نظر فالآية نزلت بعد آية تحريم الخمر ومعرفة سبب نزولها يوضح عدم النسخ، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: لما نزل تحريم الخمر قالوا: يا رسول الله كيف بإخواننا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ فنزلت: {لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا}. أخرجه أحمد 1/ 234، والترمذي (3052)، والطبراني (11730)، والحاكم 4/ 143، والبيهقي في "شعب الإيمان" (5617).
(4) هو عثمان بن مظعون الصحابي رضي الله عنه.
(5) البيت للبيد بن ربيعة العامري، وهو في "ديوانه": 256، وفي "الشعر والشعراء"1/ 297.

(3/319)


فقال: كذبتَ، نعيمُ أهلِ الجنَةِ لا يزولُ (1). وهذا كُلُه أخذٌ بالعموم وتجويز للقول به.

فصل
فيما وجّهوه من السؤال على هذه الدلائل
فمنها: أن قالوا: هذه أخبارُ آحادٍ، لا يثبتُ بمثلِها هذا الأصلُ.
ومنها: أنه يَحتملُ أنَّ كلَّ صيغةٍ من هذهِ الصِّيغِ دلَّت عليها دلالةٌ، أو قارنتها قرينةٌ دلَّت على إرادةِ العمومِ بها والاستغراقِ.
فيقال: هي وإن كانت آحاداً في آحاد القضايا، إلا أنها تواترٌ في أصلِ استعمالهم العموماتِ، واحتجاجهِم بها، فصارَ ذلك كشجاعةِ عليٍّ، وسخاءِ حاتِم، وفصاحةِ قُسٍّ، وما ورد في جُزئياتِ سِيَرهم وآحادِ أخبارِهم آحاد، وأصلُ ذلك فيهم تواترٌ.
على أنَّ هذه الأحاديثَ متلقاةٌ بالقبولِ، فهي في حكمِ التواتر ولأنَ ما نحنُ فيه ليس بأصلٍ قطعيٍّ حتى تُطلبَ له أدلةٌ قطعيةٌ، بخلافِ أصولِ الدياناتِ، ولهذا يسوغُ فيه الخلافُ، ولم نُفَسق مخالفنا فيها.
وأمَّا دعوى القرائنِ، فلو كانت لنُقلت، كما نُقِلَ أصلُ الصيغِ والألفاظِ، ولا يجوزُ الإخلالُ بالقرائِن مع كونِ الألفاظِ تتغيرُ بها أحكامُها (2).

فصل
في دلائلِنا من غير الآي والأخبارِ
فمن ذلكَ: ان أهلَ اللغةِ قد ثبت كونُهم حُكماءَ علماءَ، ودل على ذلكَ ما نُقلَ عنهم وَظهرَ منهم من الأوضاعِ الحكيمةِ (3)، ومعلومٌ أنَّ العمومَ المستغرِقَ لجميعِ
__________
(1) "السيرة النبوية" لابن هشام 2/ 9، "الإصابة" 2/ 457.
(2) انظر"العدة" 2/ 496 - 497.
(3) في الأصل: "الحكية".

(3/320)


الجنسِ قد عُلِمَ وعُرِفَ، وبهم حاجةٌ إلى أن يضعوا له صيغةً، كما وضعوا لجميعِ المسمَيات من الأسماءِ، وكما وضعوا للخبرِ، والاستخباير، والتمني، والترخي، والنداءِ، وجميعِ ما احتاجوا إليه، وضعوا له لفظاً يُنبىءُ عنه ويدل عليه، ومعلومٌ شدةُ حاجتِهم إلى التعبيرِ عن الجموعِ والأعدادِ في أمرِ دينهم ودنياهم، فكيفَ يُنسبونَ إلى الغفلةِ عن الوضعِ للعمومِ صيغة تخصُّه؛ ولا لفظ أحق بذلكَ من الألفاظِ التي حصرناها، والضيغ التي سطَرناها في صدرِ كتابِنا هذا (1). فثبتَ أنها هي الموضوعةُ للعمومِ، المقتضيةُ للاستغراقِ والشمولِ.

فصل
في الأسئلة محلى هذه الطريقةِ
فمنها: أنَ هذا إثباتُ لغةٍ باستدلالٍ، وليس للغةِ طريقٌ سوى النقلِ، ولا نقلَ يعطي ما ذكرتم. وفي طريقتكم هذه سَوْرَة (2) على العرب، وإيجابٌ عليهم أن يضعوا، وما وضعوا، وليسَ ذلكَ بواجبٍ عليهم، ولاهم معصومون (3) في الوضعِ، بحيثُ لا يخلون بما ينبغي منه.
ومنها: أنهم قد وضعوا ألفاظاً كثيرةً صالحةً له، وتأكيداتٍ تنبىءُ عنه، ودلائلَ أحوالٍ تدُلُّ علي الألفاظِ الصالحة بأنَّ المرادَ بها العمومُ. وفي ذلكَ غنىً عن الوضعِ المقتضي للعمومِ.
ومنها: أنَّهم قد أغفلوا أشياء، فلا نَأمنُ أن يكونَ هذا من جملةِ ما أعْفلوه. فمن ذلكَ؛ أنهم وضعوا للفعل الماضي: ضربَ، وللمستقبلِ: يضربُ وسيضربُ، ولم يضعوا
__________
(1) انظر ما تقدم في 1/ 35.
(2) في الأصل: "مسورة"، ولم يتضح معناها، ولعل المثبت هو الصواب، والسورة: السطوة، يقال: سورة السلطان: سطوته واعتداؤه."اللسان": (سور).
(3) في الأصل: "معصومين".

(3/321)


للحالِ اسماً يعبَّر به عنها.
وكذلكَ الطعومُ والأرايح (1)، لم يضعوا لكُلِّ طعمٍ ولا لكلِّ ريح اسماً.

فصل
في الأجوبةِ على الأسئلةِ
فمنها: أن يقالَ: ليس إثبات لغةٍ إلا بالنقلِ، لكنا دللنا على ان المنقولَ من ألفاظِ (2) العموم هو الموضوعُ؛ ولأنَّ القرائنَ ودلائلَ الأحوالِ (3) إنما تكونُ فيما بيننا، فأمَّا اللهُ سبحانَه؛ فلا دلائلَ أحوالٍ ولا قرائنَ بينَنَا وبينَه تدل على العمومِ من اللفظ الصالحِ له.
ومنها: أنَ دعواهم: ما وُضِعَ من التأكيداتِ الدالةِ على العمومِ، فالتأكيداتُ من أدلّ الدلائل (4) لنا على أنَ المؤكد موضوع يقتضى [العموم] (5)، لأنَّ التأكيدَ إنما يحكي (6) المؤَكد، فأما أن يجددَ التأكيدُ اقتضاءً لم يكن في اللفظ، فلا.
فقوله تعالى: {فَسجدَ الملائِكَةُ}، لو لم يُعطِ العمومَ، لما كان في قوله: {كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر 30] ما يعطي (7)، وإن كان الأوّل غير مُقتضٍ، فالثاني مثلُه، لم يبقَ
__________
(1) في "اللسان": (روح): وجمع الريح أرواح، وأراويح جمع الجمع، وقد حكيت: أرياح وأرايح، وكلاهما شاذ.
(2) في الأصل: "الألفاظ".
(3) في الأصل: "الأقوال".
(4) في الأصل: "الدليل".
(5) زيادة يستقيم بها السياق.
(6) هكذا في الأصل، وفي "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 14: "لأن التأكيد لا يدل إلاّ على ما دل عليه المؤكَد".
(7) انظر "إعراب القرآن" للنحاس 2/ 194، و7/ 158.

(3/322)


إلا أنَّ الوضع حاصلٌ في الجميعِ، وإنما أُكدَ الأولُ بالثاني، والثاني بالثالثِ، وليس شيءٌ من قرينةِ تقترن بالصيغ التي نقول: إنها موضوعة، إلا وفي الصيغة ما يغني عنها.
ومنها: أنَ دعواهم أنَهم أغفلوا أشياءَ، فليس كذاكَ، بل دقَقوا في النوع الذي ظنَ المخالفُ أنَهم أغفلوه، حتى قالوا: حامض وحُلو ولما تركَبَ بينهما: مُزٌ. فوضعوا لما تركَبَ بين حلاوةِ وحموضةِ اسماَ، لكن قنعوا في بعض الأرايحِ والطُّعومِ بالإضافةِ، والإضافةُ كافية، فإنَ الله سبحانَه سمَّى نفسَه بأسماءَ مشتقةِ من أفعالِه؛ كخالقٍ ورازقٍ، ومن صفاتِه؛ كعالمٍ وقادرٍ، ومن أسمائِه ما هي إضافة كقولهِ: {ذُو الْعَرْشِ} (1) و {الطَوْلِ} (2)، وفي بعض الكتبِ: أنا اللهُ ذو بَكَة (3)، فالإضافاتُ مسميات، فقالوا للجنسِ: حلوَّ، فشملوا به طعم العسلِ والرطبِ، وقالوا: رائحة ذكيَّةٌ. فعموا بها ريحَ العودِ والكافورِ، ثم خَصصوا الرائحةَ بمحلها، والطعمَ بمحله،
__________
(1) وذلك في قوله تعالى: {رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ}، سورة غافز الآية 15، وفي قوله تعالى: {ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ}، سورة البروج، الآية 15.
(2) وذلك في قوله تعالى: {غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ} ,سورة غافر, الآية3.
(3) أخرج عبد الرزاق في "المصنف" (9219)، عن الزهري: (بلغني أنهم وجدوا في مقام إبراهيم ثلاثة صفوح، في كل صفح منها كتاب، في الصفح الأول: أنا الله ذو بكة، صنعتها يوم صنعت الشمس والقمر، وحففتها بسبعة أملاك حنفاء، وباركت لأهلها في اللحم واللبن، ومكتوب في الصفح الثاني: أنا الله ذو بكة، خلقت الرحم، وشققتُ لها من اسمي، من وصلها وصلته، ومن قطعها بَتَتُّهُ. وفي الصفح الثالث: أنا الله، خلقت الخير والشر، فطوبى لمن كان الخير على يده، وويل لمن كان الشر على يده".
وأخرج نحوه عن مجاهد (9220) و (9221).
وهو في "المطالب العالية" 1/ 335، و" جامع الأحاديث القدسية"1/ 373، و"أخبار مكة" للأزرقي 1/ 78، و "البداية والنهاية" 2/ 327.

(3/323)


فقالوا: حلاوةُ العسلِ، وحلاوةُ الرطبِ، وريحُ الكافورِ، وريحُ المسكِ. فما أغفلوا ولا أهملوا.
وعندكم أنَّهم لم يضعوا صيغةً للعمومِ، بل صارَ للعموم ما قرنوا به قرينةً، أو دلَّت عليه دلالةُ حالٍ، والعمومُ أصلٌ من الأصولِ، والأسماءُ المفردةُ دونَه، فلا يُظَن بهم أنهم وضعوا للجزئيِّ وأغفلوا الكُلي، وفي اسمِ الجنسِ من المطعومِ ما أغفلوه، بل وضعوا له اسم إضافةٍ إلى محله، وهو أحدُ أقسام الأوضاعِ والأسماءِ الدالة على المسمّياتِ، ولأنَ الأرايحَ كثُرت واختلفت، فجازَ أن يعتمدوا فيها على الإضافةِ إلى محلها، والعموم أصل، فلا حاجة بهم إلى إغفالِه، ثم إنَّ ها هنا صيغٌ تشهدُ بأنها موضوعةٌ للعمومِ، فلا نعطلُها ونحوجُها إلى قرائنَ ودلائلِ أحوال.

فصل
ومن الدلائل المشاهَدة لمذهبِنا: أنّا وجدنا أهل اللغة قد وضعوا للواحدِ لفظاً يخصُّه، وللاثنينِ لفظاً يخصُّهما؛ وهي التثنيةُ، وللجمع لفظاً يخصُّه، فقالوا: رجلٌ، ورجلانِ، ورجالٌ. كما وضعوا للأعيان المختلفةِ في الصّورِ ألفاظاً تخصّها، فقالوا: أتانٌ، وفرسٌ، وحمارٌ، وما وضعوا هذه الأسماءَ الخاصةَ إلا للفرقِ والتمييز بين المسمَّيات، فلو كانَ لفظُ الجْمعِ محتملاً للاثنين، لما كان للوضع معنىً.
ومن وجهٍ آخر وهو أنَّهم لما لم يُغفلوا اسمَ التوحيدِ والتثنية والجمعِ، فلا يجوزُ أن يُغفلوا اسماَ يضعونه للشمولِ والعمومِ الجامعِ للجنسِ الذي تحتَه العدد (1) المخصوص.
قالوا: ليسَ في لفظِ الواحدِ والاثنينِ، والفرس والحمارِ ما يخلطُ التأحيدَ بالتثنية، ولا النَّهاقَ بالصَهَّال، وفي الجمعِ نوعُ شركةٍ ظاهرةٍ، وهو (2) أنه يقعُ على الأقل والأكثرِ
__________
(1) فى الأصل: "للعدد".
(2) مكررة في الأصل.

(3/324)


إلى غيرِ غايةٍ، فإنَّ قولَنا: رجالٌ. يقعُ على ألفٍ، لو فُسِّرَ بها، كما يقعُ على ثلاثةٍ، فجاءت الشركةُ في الجمعِ، فصاركسائر الأسماءِ المشتَركةِ.
فيقال: لنا مُتَيقَّنٌ أقل؛ وهو الثلاثة، فلا توقُعَ للشَّركةِ إلا في محلِّ الاشتباهِ، وهو ما زادَ على الثلاثةِ، كما يعطي الحمارُ والشجاعُ حقيقتَه عند الإطلاقِ، فيتركُ المجازُ والاتساعُ لما تقومُ عليه الدلالةُ لنقلِه عما وُضِعَ له.

فصل
ومن دلائلنا: أنَّا أجمعنا وإياهم على أنَ الاستئناءَ حُبسَ دخولُه عل هذهِ الصيغِ الموضوعةِ عندنا للعموم، فقالت العربُ: جاء بنو تميمٍ إلا زيداً (1)، ومن دخل داري فأكرِمْهُ إلا المجرمَ، وأعطِ فقراءَ بني تميم إلا الجبناءَ، واذبَحْ إبلي إلا العجافَ. وهذا يدُلّ على أنَّ الصيغَة موضوعةٌ للعمومِ؛ لأن الاستثناء إنما يُخرجُ ما لولاه لدخلَ تحتَ اللفظِ.
يوضِّحُ ذلكَ في الأعدادِ قولُهم: لهم عليَّ عشرةُ دراهمَ إلا درهماً (2). فيكونُ بالالستثناءِ إقرارٌ بتسعةٍ، ولولاه لدخلَ العاشر فإذا بانَ بدخولِ الاستئناءِ أنَّه لولاهُ لكانَ داخلاً شاملاً؛ عُلمَ بذلكَ أنه مع عدمِ الاستثناءِ موضوعٌ للشمولِ والعمومِ.
والذي يكشفُ عن هذا: أنَّ الاستثناءَ لم يحسُن من غيرِ الجنسِ لما لم يكن داخلاً تحتَ عمومِ اللفظِ، فاستقبحَ أن تقولَ: رأيتُ الناسَ إلا حماراً. فلمّا حسُنَ أن يخرجَ بالاستثناءِ كل اسمٍ من الجنسِ المذكورِ في الصِّيغة؛ عُلِمَ أنَّ الصيغةَ شملت، وأنَّ الجنسَ بآحادِه دخلَ، فَحَسُنَ الاستثناءُ لمكانِ اقتضاءِ دخوله (3).
__________
(1) في الأصل: "زيد".
(2) في الأصل: "درهم".
(3) انظر "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 20 - 22.

(3/325)


فصل
فيما وجَّهوهُ على هذهِ الدلالةِ
فقالوا: ولِمَ قَصرتم الاستثناءَ على ذلكَ؟ وما أنكرتم أن يكونَ تسلط للاستثناءِ على هذهِ الجملةِ، لصلاحيتها للعمومِ دون اقتضائها، ونحنُ لا نمنعُ أنها بالإطلاقِ صالحةٌ، وإنما نمنعُ أن تكونَ تقتضي العمومَ وليس فيما ذكرتم من الاستثناءِ ما يَدُلُّ على أكثرَ من الصلاحية.
فيقالُ: هذا غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الاستثناءَ لا يُخرجُ إلا ما اقتضاه اللفظُ؛ لأنه مأخوذٌ من قولهم: ثنيتُ عِنانَ فَرسي. إذا صَرفه. وقيل: إنه مأخوذ من تثنية خبرٍ بعد خَبر، فإنَّ قولَه سبحانه: {لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ} [العنكبوت: 32]، خبرٌ بنجاةِ لوطٍ، [وقوله:] (1) {إلا امرأتَه} خبر بإهلاكها، وأيُّهما كان اقتضى دخولَ المستثنى في (2) اللَّفظ حتى يصرفه عنه في قولِ بعضِهم، فيثني الخبرَ بعد الخبرِ في قولِ البعضِ. ولأنَّه لو كان حَسُنَ الاستثناءُ، لجواز أن يكونَ داخلاً في اللفظ، لوجَب أن يصحَّ من النكراتِ، كما يصحُّ من المعارِف المقتضيَة للجنسِ، فلما لم يحسُن ذلكَ في النكراتِ، بَطلَ ما ذكروه (3).

فصل
في دلالةٍ لنا أيضاً
هي (4): أنَه لو قال لرجل: من عندَك؛ حسُنَ أن يجيبَ بكل واحد من جنسِ العقلاءِ، حتى لو استوعبَ الجميعَ لكان ذلكَ جواباً، ولو لم يكن اللفظُ عامَّاًشاملاً لجميعِ الجنسِ،
__________
(1) زيادة يستقيم بها السياق.
(2) في الأصل: "من"، والمثبت أنسب لسياق العبارة.
(3) انظر "العدة" 2/ 500.
(4) في الأصل: "هو".

(3/326)


لما صار مُجيباً بكلِّ واحدٍ من الجنسِ؛ لجوازِ أن يكونَ المسؤولُ عنه غيرَ الذي أجابَ به.
ألا ترى أنَه لو أجابَه بواحدٍ من جنسِ البهائمِ لما كان مجيباً له، لمّا لم يك داخلاً تحت السؤال بحرف (مَن).
قالوا: إنما حَسُن ذلك؛ لأنَّ اللفظَ يَصلُحُ لكلِّ واحدٍ منهم (1) لا لأنَّ اللفظَ شاملٌ لهم من طريقِ الاقتضاءِ.
قيلَ: اللفظُ يصلحُ لما أجابَ به ولغيرِه، فيجبُ أن لا يصح الجوابُ حتى نعلَم مرادَ السائلِ.
يدلُّ عليه: أنه لو قالَ: من دخلَ الدارَ فله درهمٌ، أو من ردَّ عبدي الآبقَ فله درهمٌ. يستحقّ كل من وجدَ ذلكَ منه العطاءَ، فدلَّ على أنَ اللفظَ يقتضي الكل.
ومن أدلتِنا: أنَ للعمومِ تأكيداً، وللخصوص تأكيداً، وقد اتفقنا على أنَّ تأكيدَهما يختلفُ في أصل الوضعِ، لا بقصدِ ولا إرادةٍ، لاختلافهِما، فكذلكَ يجبُ أن يكونَ أصلُ المؤكَدهين اللذين أحدُهما عام، والآخرُ خاصّ مختلفَينِ في أصل الوضعِ، لا بالقصدِ إلى ذلكَ، ولا بالإرادة له، وقد ثبتَ أنَّ في حق التأكيدِ أن يكونَ كقول المؤكَّد ومطابقاً لمعناه، ومتى لم يكن كذلكَ خرج عن كونه تأكيداً.
والذي يوضحُ ذلكَ من المثالِ: أنَّ القائلَ لو قالَ: ضربتُ زيداً كلهم أجمعينَ أكْتَعين (2)، أو أكرمتُ عَمْراً أجمعَين كلَّهم سائرهم. لم يكن قولاً صحيحاً في اللغةِ، و [كان] (3) خارجاً عن قانونِها، ولا يجوزُ أن يقولَ: ضربتُ القومَ أو الرجالَ نفسَه أو عَينه. وإنما القولُ الجائرُ في ذلكَ، المسموعِ من أهلِ اللغةِ: ضربتُ زَيداً نفسَه،
__________
(1) في الأصل: "منكم".
(2) أكتعين: ردف لأجمعين، ولا تأتي إلا على إثرها، تقول: رأيت القوم أجمعين أكتعين، ورأيت
المال جمعاً كتعاً، واشتريت هذه الدار جمعاء كتعاء."اللسان": (كتع).
(3) في الأصل:"ولا"، والمثبت هو المناسب لاستقامة العبارة.

(3/327)


وضربتُ القومَ كلهم أجمعينَ، أو سائرَهم أكتَعينَ.
وإذا كان كذلك: ثبتَ أنَّ للعمومِ لفظاً يخصُّه، وللخصوصِ لفظاً يخصُّه، كما أنَّ للواحدِ لفظاً يخصُّه، وللاثنينِ لفظاً يخصهما، وللثلاثة لفظاً يخصّها، فصارَ العمومُ والخصوصُ في الوضعِ كالأعدادِ من الآحادِ والتثنياتِ والجموعِ، لكل قدرِ منها لفظٌ يخصُّه (1).

فصل
فيما وجّهوه من الأسئلةِ على هذهِ الأدلة
فمنها: المنعُ من القاعدةِ (2)، وأنه قد يؤكَد لا بما اقتضاه المؤكَّد.
من ذلك: قول القائل من العرب: كلُّ رجلِ ضَربني ضربتُه، وسائرُ من أكرمني أكرمتُه. ولفظة سائرُ وكلُّ للجميعِ، وقوله: أكرمتُه، وضربتُه. إنما رجع إلى الواحد، ولا جَمع فيه أصلاً، فقد قوبلَ الجمعُ والعمومُ بالواحدِ، وأكِّدَ بما لا جَمْع فيه.
قال اللهُ سبحانَه تصديقاً لهذا في اللغةِ، ودليلاً على أنّه أصل فيها: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، {كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38)} [المدثر: 38] , {كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ} [آل عمران: 185] وكُلّ صالح للعمومِ عندنا، وموضوعٌ عندكم، وقد أُكِّد برجل، ونفس وإنسانٍ، وليس فيه جمعٌ رأساً، بل هو لفظٌ للواحدِ.
ومنها: أن قالوا: نُقِلت الدلالةُ على عكسِ ما أردتم، وأنها لما حَسُنَ أن يُعطفَ عليها أجمعين وأكتعين، عُلم أن كُل وسائرَ لا يعطي ولا يقتضي الشمولَ والعمومَ، إذ
__________
(1) انظر "العدة"2/ 497، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 17 - 20.
(2) يعني أن التأكيد لا يكون إلاّ بما يكون به المؤكَّد وما يقتضيه.

(3/328)


لو كانت تقتضي ذلكَ لما احتيجَ إلى ثانٍ (1) منها، وثالثٍ؛ لأنَّ كل صيغةٍ من هذهِ لا تُفيد إلا ما أفادت الأولى, فهو كقولِ القائلِ: رأيتُ ثلاثةَ أنفسٍ وواحداً، أو واحداً وواحداً وواحداً. لمّا كانت الثلاثةُ موضوعةً لا جَرمَ لم يحسُن أن تؤكَّد بما ذكرنا من عطفِ الآحادِ عليها، وكذلكَ لو قال القائلُ: أعطه عشرةَ دراهم؛ تسعةً [ودرهماً، أو] (2) ثمانيةً ودرهمين. لم يكن ذلك مفيداً؛ لاستغنائنا بكونِ الأوَّلِ موضوعاً لهذا العددِ المخصوصِ.
ومنها: أن قالوا: استشهادكم بالتأكيدِ وألفاظِه غفلةٌ منكم؛ لأنَّ الخلافَ في كُلِّ لفظٍ أوردتموه مؤكَّداً كان او مؤكِّداً، فلا يقتضى شيء من ذلكَ الشمولَ والعمومَ، بل هوصالحٌ، فَلمكانِ (3) الصلاحية التي فيه عُطف عليه مايَصلحُ له، فأمَّا الاقتضاءُ فإنما هو مجرَّد دعوى وزيادة على الصلاحية، ولا دلالةَ (4) لكم عليها، وإنما أرادَ عطفَ شيءٍ على شيءٍ ليبلغَ بذلك إلى غايةٍ، هي العلمُ بأن قصدَه الاستغراقُ، فيقولُ: أكرِم كُلَّ العلماءِ، فقيرَهم وِغنيَّهم شيخَهم وشأبَّهم، قاصيَهم ودانيَهم، حتى ينتهيَ إلى الغاية، فيعلمَ المقولُ له أنَّ قصدَ المتكلَّم: عمومَهم وشمولَهم بالإكرامِ.

فصل
في الأجوبةِ لنا عن أسئلتهم
فأمَّا الأوّلُ: ومنعهُم أنَّ التأكيدَ لا يكونُ إلا بما يكون كالمؤكِّد، وما يقتضيه. فغيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ الأمرَ في ذلك أظهرُ وأشهر فإنَّ القائلَ من أهلِ اللغةِ يقولُ: دخلَ السلطانُ نفسه. وإن كان اسمُ السلطانِ لا يقعُ على غيرِه، ولا وُضعَ إلا للمسلطِ
__________
(1) في الأصل: "ثالث".
(2) زيادة يستقيم بها السياق.
(3) في الأصل: "فلما كان".
(4) في الأصل: "دالة".

(3/329)


بالحقِّ، لكن أكَّد الحقيقةَ بالحقيقةِ، لما قد يُستعانُ في ذلكَ من المجازِ، وأنَّه قد يقالُ: دخلَ السلطانُ البلدَ. وإن كانَ الداخلُ إليه عسكرُه أو رَحلُه وثَقَلُه (1)، وكذلكَ قولُهم: قد سكنَ زيدٌ الدارَ الفلانيةَ. ويُراد به نفسه، ويحسُنُ أن يقالَ: سكنها بنفسِه.
دفعاَ لتوهُّمِ الاستعارةِ في ذلكَ، وأن يكونَ سكنها بمعنى أنه نَقل إليها رحله وأهلَه، وإن لم ينتقل بنفسِه، فهذا الأمرُ لا يجحدُه إلا مُكابرٌ أو جاهلٌ باللغةِ.
وأمَّا قولُهم: كُل مَن أكرمني أكرَمْتُه. ولم يقل: أكرمتهم؛ لأنَّ كُلّ ها هنا دخلت بمعنى: أيّ النَاسِ أكرمني أكرمتُه. والوحدةُ ها هنا أبلغُ من الجمعِ؛ لأنَّ قوله: كُل مَن لفظةُ كُلّ معطوفٌ عليها (مَن)، ومعطوفٌ عليها: كل نفسٍ، وكل إنسانٍ، فعاد التأحيدُ إلى التأحيدِ، ولا يحسُنُ: كل نفسٍ بما كسبوا، وكُلّ نفسٍ ذائقون الموت، وإن جاز فالتأحيدُ أحسنُ مساغاً، كقوله: {رَهِينَةٌ} و {ذَائِقَةُ}، وأكرمتُه إلى لفظِ الواحدِ؛ لأنَه أبلغُ؛ لأنَّ إكرامَ الواحدِ من الكُل مع دخولِ الكُل على الآحاد يعطي إكرامَ (2) الكُل والآحادِ، وأن تكونَ كلُّ النفوسِ وآحادها رهينةً وذائقةً للموت، فصار المعنى: أيُ النفوسِ كَسَبت؛ فهي رهينة بكسبها، وأيُ الرجال أكرمني أكرمته.
وأمَّا قولهم: إنَ التأكيدَ يعطي ضدَّ ما أردتم، وإنه لو اقتضى اللفظُ الأولُ العمومَ لما احتيج إلى الثاني، ولما حَسُن عطفُه. فغلطٌ؛ لأنَّ التأكيدَ إنما دخلَ لنفي التوسع، والمجازِ، ولَّما كان أهلُ اللغةِ قد يتوسّعونَ بالمجارِ فيقولون في حق المعظَيم: جاءني كلُّ بني تميم. والمرادُ: أكثرُهم، والمجازُ لا يؤكَّد، أدخُلوا التأكيدَ لدفعِ التجوز والتوسع، فقالوا: أجمعينَ، أكتعينَ، أبْصعين، حتى لا يبقى توهُّمٌ للمجازِ والتوسُعِ، مثلُ قولهم: حمارٌ نهَاق ذو أربع. يُزيلونَ بالتأكيدِ توهُّمَ الرجلِ البليدِ.
والذي يدُلُّ على أنَ التأكيدَ يعطي ما ذكرنا: أنه لا يحسنُ أن نقولَ: رأيتُ زيداً
__________
(1) الثقل: متاع المسافر وحشمه."اللسان": (ثقل).
(2) في الاصل:"أكرم"، والمثبت أنسب للسياق.

(3/330)


غيره. ولا يقالُ: إلا نفسَه وعينَه؛ لأنَّ النفسَ والعينَ هى حقيقةُ زيدٍ.
ولانُسَلِّمُ قولهَم: لا يحسن تأكيدُ الاعدادِ. بل اذا قالَ ما يؤكدُ الأعدادَ حَسُنَ قال الله تعالى. {فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} [البقرة: 196]، {وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً} [الأعراف: 142]، فقد بان تجويز التأكيد فى الاعداد؛ التفصيل بالجملة، فكذلكَ يحسُنُ أن تُؤكد الجملة بالتفصيل، فإذا حسن أن يقال: عشرةٌ وثلاثون: أربعون، وثلاثةٌ وسبعةٌ: عشرةٌ. عطفاً وتأكيداً، كذلك يحسُنُ ان يقال: عشرةٌ، ثمَّ يقال: ثمانيةٌ واثنان. قياساً كانَ -فنحن نقول به، وأنَّ اللغة تثبتُ قياساً، وسنذكره في موضعه إن شاءَ الله (1) - أو استقراءً.
وأمَّا قولهم: إنَ العطف للجمل المتساوية، وإنَّ المتساويةَ كلها مختلفٌ فيها، غيرُ مقتضيةٍ (2)، وإنما قصدوا بذلك بيان قصدهم وأنَّه الشمولُ، فصار بذلك الاستقصاءِ (3) مفيداً لاْ بنفس الصيغة. فغيرصحيح؛ لأنَّه اذا كان كل لفظ وصيغة من هذهِ الألفاظِ والصيغ لاتفيدُ الشمولَ، لم يكن اجتماعها مفيداً، فصيغةُ كُل، وجميع، وسائر وأجمعين، وأكتعين، كلُّ واحدةٍ منها لا تفيد عندكم، ولا تقتضي العموم، فكيف يجلبُ اجتماعها علماً المعلوم؟ وهل هذا إلا بمثابة من قال: رأيتُ معظمَ بني تميم، أكثرَ بنى تميم، أظهر بنى تميم؟ لم يعط ذلك تكرارُ الجميع، بل البعضَ، لكن الأكثرَ فقط فما أظهر التكرارُ تعميماً، حيث لم يكن فى الصيغة الأولى والثانيةِ والثالثةِ تعميم، فكيف يدعى العلم بالعموم بتكرار: كل؛ وسائر, وجميع؟ وكلُّ صيغةٍ منه على حدِّها لا تعطى ذلك ولا تقتضيه.
__________
(1) سبق وذكر المصنف ذلك فى الجزء الاولى:364و397
(2) يعني أنها غيى مقتضية للعموم.
(3) في الأصل: "بالاستقصاء".

(3/331)


فصل
فيما استدل به بعضُ من وافَقنا، وأخرجه مخرجَ الاستبعادِ لمذهبِ الخصمِ، وليسَ بالمعتمد، لكن في ذكرِه فائدةٌ ليتحرَّز من الاعتمادِ عليه.
فمن ذلك: قولُهم: إذا كان الباري قد كلَّفنا أمراً وحُكماً يشملُ الجنسَ ويستغرقُ الطبقةَ، ولم يكن قد وَضعَ للعمومِ صيغةً ترد في كتابه ولا على لسانِ رسوله - صلى الله عليه وسلم -، والباري ليس بعاجزٍ عن أن يضعَ لذلك صيغةً نعقلُ بها ذلك، فلا وجهَ لذلك، فلم يبق إلا أنه قد وَضعَ لذلكَ صيغةً تقتضيه، كما كلَّف أحكاماً تعمُّ الجنسَ وتستغرق الطبقةَ (1).
ومن ذلكَ: ما قالوا: أليسَ جبريلُ سمِعَ ألفاظاً صالحةً للعموم، ونزلَ بها على الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، فبماذا علِمَ؟
وجوابُ القومِ عن هذا سهلُ المتناوَل؛ لأنهم يقولون: إنَ مثلَ هذا لا يمنعُ كونَ الصيغِ صالحةً غيرَ مقتضية، وإنَّ الاعتماد في حصول العموم بها ما يتبعها من قرائنِ الألفاظِ، ورمزِ اللِّحاظِ، ودَلائلِ الأحوالِ، وشواهدِ الأقوالِ التي تجعلُ الألفاظَ كالنصوصِ بارتفاعِ الاحتمالِ، ولو جازَ أن يكونَ هذا رافعاً للاحتمال، جالباً للاقتضاء في هذه الألفاظِ؛ لكانت الصيغُ المشتركةُ، كالقرءِ والشَّفقِ، لا يجوزُ أن تردَ ويجعلَ نفي تجويزِ ورودِها هذه الدلالة.
فيقالُ: إذا كانت الصيغةُ مُترددة (2) بينَ الأحكامِ، أو الأعيانِ، أو الأوقاتِ المختلِفةِ بل المتضادَّةِ، فكيفَ يكون ترجيحُ بعض (3) محتملاتِها؟ فلمَّا جازَ ورودُها، وكانَ الاعتمادُ في ترجيحها إلى بعضِ محتملاتها على القرائنِ لها ودلائلِ الأحوال
__________
(1) انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 206.
(2) في الأصل: "المتردد".
(3) في الأصل: "بعضها".

(3/332)


المرجِّحة لأحدِ محتملاتها، كذلكَ هذه الصيَّغُ. وأكثرُ من هذا المتشابهُ الذي أوهمَ التشبيهَ، وبعضُه الاختلافَ والمناقضَة، وأحالَ سبحانه في ذلكَ على عِلمِ المتأوَّلين أو تسليمِ المُحكِمين (1).
وأمَّا ما يَسمعه جبريلُ من الوحي، فإنَّ اللهَ سبحانَه يضعُ في نفسِه (2) ما يعملُ عملَ القرائنِ في حقنا ودلائلِ الأحوالِ.
فالمعتمِدُ على مثلِ هذهِ الطرقِ سريعُ الانقطاعِ؛ لأنَه كالمعوِّلِ في دليلِه على استعظامِ خَصْمِه طريقاً يوضِّحه ليحصلَ فهمُ العمومِ والشمولِ، فإذا أوضَح طريقاً صالحاً لتفهيمهِ ذلكَ، انقطعَ الكلامُ وصارَ كقائلٍ يقولُ لغيرِه: من أينَ علمتَ كذا؟ فإذا قالَ له: من طريقِ كذا. وذكرَ جهةً صالحةً لحصولِ العلمِ، سقَطَ الكلامُ.
فينبغي للعاقلِ أن يتوقّى مثلَ هذه الطرقِ، فإنَ مصرعها وَخيم، وانقطاعَ المعتمدِ عليها سريعٌ.
وكما ينبغي للمصنف أن يُرشدَ إلى الأدلةِ النافعةِ، ينبغي أن يُحذرَ من هذه الطرقِ المضرَّة، ليقعَ بتصنيفه تمامُ النَفع إن شاءَ الله.
__________
(1) يعني قوله تعالى: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ} [آل عمران: 7]
(2) أي: في نفس النبي فى - صلى الله عليه وسلم -.

(3/333)


فصل
يجمع أدلّة المخالف في هذا الفصل (1)
فمنها قولُهم: لو كانَ للعمومِ صيغةٌ موضوعةٌ تَقتضيه، لم يخلُ أن تكون ثابتةً بدليلِ العقلِ أو النقلِ، والعقلُ؛ فلا مجالَ له في إثباتِ اللغاتِ، والنقل؛ فلا يخلو من آحادٍ، ولا تَصلحُ لإثباتِ هذا الأصلِ؛ لأنها توجبُ الظنَّ، وهذه الأصولُ طريقُها القطعُ، أو يكون النقلُ تواتَر؛ فيجبُ أن يشيعَ خبرُه ويستبينَ أمرُه، حتى يكونَ العلمُ القطعيُّ به حاصلاً، والاتفاق عليه واقعاً، فلمَّا بطلت (2) دعوى وضعِ صيغةٍ للعمومِ، إذ لم يبقَ لها طريقٌ تثبتُ به، فيقالُ: هذا ينقلبُ عليكم في إثباتِكم الاشتراكَ في هذهِ الصيغِ والألفاظِ بين الخصوصِ والعموم.
قلنا: لا تجدون (3) عنه انفكاكاً؛ لأنه لا يخلو ثبوتُ الاشتراكِ فيها عنْدكم أن يكون عقلاً، ولا مدخلَ لأدلةِ العقلِ فيما هذا سبيلُه من الوضعِ، أو نقلاً، فلا يخلو أن يكونَ تواتراً قطعياً فكانَ يجبُ أن نشتركَ وإياكم في علمِه، ويشيعَ خبرهُ شياعَ جميع ما نُقِلَ تواتراً، وإن كان آحاداً، فالآحادُ لا يثبت بها ما طريقهُ العلمُ.
على أننا أثبتناه بنقلٍ يجري مجرى التواتر، وهو ما ذكرناه من النقلِ الذي رضيتم إثباتَه للصلاحية، وتَنكَّبتم منه الوضعَ والاقتضاءَ، وعَقَلنا نحنُ منه الوضعَ والاقتضاءَ بما أغْنانا ذِكره عن (4) الإعادة (5).
__________
(1) تنظر هذه الأدلة في "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 26 - 44، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 109 - 112، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 483 - 484، و"الفصول في الأصول" للجصَّاص 1/ 99، و"المستصفى" 2/ 34، 36، 45 - 48.
(2) في الأصل: "بطل".
(3) محرفت في الأصل إلى: "تحذرون".
(4) في الأصل: "من".
(5) انظر ما تقدم في الصفحة 320 وما بعدها.

(3/334)


وقد تكرَرَ طلبُكم في هذا التواترِ الذي يزيلُ الشك ويقطعُ الخلافَ، وليس هذا من أصول الدينِ بشيءٍ، إذ لو كان (1) مما لا يثبتُ إلا بالأدلةِ القطعية، لما سوَّغ الفقهاءُ لإجماعهم الخلافَ فيه، كما لم يسوغوه في أصول الديانات، ولكفّروا مخالفَهم أو فسَّقوه، كما اعتمدوا في أصولِ الديانات.

فصل
في شبههم
فمنها: أن قالوا: إنَ هذه الألفاظَ والصيغَ تردُ والمرادُ بها الكُلّ، وتردُ والمرادُ بها البعضُ، فإذا جاءت مطلَقة بغيرِ دلالةٍ ترجحها، ولا قرينةٍ تقرنها إلى أحدِ الأمرين، بقيت على التردُّدِ؛ فلا تقتضي أمراً معيَّناً؛ فوجبَ الوقفُ، فإنَّ حَمْلَها على أحدِ محمليها بغير دلالةٍ حَزْرٌ وتَخْمين. وبمثلِ هذا لا تثبت الأحكامُ، ولا تُشغلُ الذِّمَم، وما صارت إلا بمثابة الأسماءِ المشتركَة، مثل: جَون، ولَون، وقرء، وعَين، وشَفق، لا يحملُ على أحدِ محتملاته: البياضِ أو الحمرةِ، أو الطهر أو الدَّمِ، إلا بدلالةٍ، ولا مذهبَ في ذلكَ قبل ورودِ الدلالةِ أو مُصاحَبةِ القرينةِ إلا الوقفُ، كذلك ها هنا.
فيقال: ليسَ إذا حصلَ الاستعمالُ فيهما يمنعُ من كونِ الإطلاق ينصرف إلى أحدِهما، لكونه حقيقةً فيه دونَ الآخرِ، كالبحرِ، والحمارِ، والجوادِ والشُّجاعِ، فيستعملُ في غيرِ الماءِ الكثيرِ والرجلِ العالمِ أو الكريمِ، والحمارِ في النَّهَّاق والرجلِ البليدِ، والشجاع في الحيَّة والرجل المقُدِم على الحرب، وصيغُ (2) العمومِ تُستعملُ في البعضِ مجازاً، بدليلٍ، وتنصرفُ إلى الأصولِ الموضوعةِ لها والاستغراقِ والشمولِ.
والجوابُ عن المشتركِ: أنه لم يوضع لأحدِ تلكَ الأشياءِ بعينه، والكل، والجميعُ،
__________
(1) في الأصل: "كانت".
(2) في الأصل: "صيغ".

(3/335)


وسائرُ، وأنَّى (1) موضوع للاشتمال والاستغراق، ولهذا لو قال له: اذبَح كلَّ غَنمي.
حسُنَ شروعُه في الذَّبح ماراً في استئصالها بالذبحِ، إلا أن تقومَ دلالةُ النَّهي، ولا يَحْسُن لمن قيل له: اصبغ ثوبي لوناً. أن يشرعَ في صبغهِ أسودَ إلى أن يُنْهى، فهل يقفُ حتى يُبَيِّن له أيَّ الألوانِ أراد؟!
قال بعضُ الأئمةِ في النظر هذا الجوابُ غيرُ صحيح؛ لأنَّ المجازَ إنما يُستعملُ فيما يقربُ من الحقيقةِ بنعوعٍ من صفاتِ الحقيقةِ يقرب إليها، كالبلادةِ في الحمار والفيضِ في الكريمِ، والعالمِ يقرِّبه من البحرِ, وعلى ذلك في جميع الاستعارات.
فأمَّا استعارةُ الضدِّ والتجوُّزِ به، فلا؛ ألا ترى أنهم لا يستعيرون للبخيلِ بحراً؛ لأنه إلى جانبِ الجمودِ، واليُبسِ، وهي ضد الرطوبة والفَيضِ والذَّوبِ، ولا يستعملُ الحمارُ للفَطِن الذكيَّ؛ لأنه على ضدَّ البليدِ.
قال: ومن وجْهٍ آخر: وهو أنه لا يصحُّ على مذهبِ من يقولُ: إنَ المخصوصَ من العمومِ يَبقى ما بقي منه حقيقةً، ولا يكونُ مجازاً، فلا ينطبقُ الجوابُ على ما أشارَ إليه من أسماءِ الحقائقِ إذا انتقلت إلى المجاز بدلالةٍ.
فيقال: إنَّ دعواكَ أنَّ العرب لا تستعملُ الاستعارةَ في الضدِّ لا تصحُ، فإنها قد سمت الضريرَ: بَصيراً (2)، واللسيعَ: سليماً (3)، والمَخوفَ من الطرقِ: مفازةً، وهذا
__________
(1) في الأصل:"أن"، ولعل المثبت هو الصواب، فأنى: صيغة من صيغ العموم، وهي تفيد عموم الأحوال. انظر "العقد المنظوم في الخصوص والعموم" للقرافي، تحقيق أحمد الختم عبد الله. صفحة:311.
(2) وورد هذا الاستعمال في حديث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال: "اذهبوا بنا إلى بني واقف نعود ذلك البصير" وكان محجوب البصر أخرجه البزار (1920)، والطبراني في "الكبير" (1534)، والبيهقي في "السنن" 10/ 200، والطحاوي "شرح مشكل الآثار" (4356).
ولقد بيَّن الطحاوي سبب تسمية الأعمى بالبصير فقال: إن الأعمى قد يقال له: بصير، لبصره بقلبِه ما يبصر به، وإن كان محجوب البصر. "شرح مشكل الأثار" 11/ 146.
(3) وشاهد ذلك ما ورد في حديث أبي سعيد الخدري قال: "كنّا في مسير لنا، فنزلنا فجاءت جاريةٌ=

(3/336)


استعمالُ الاسمِ في ضدِّ ما وضعَ له.
وإن قال قائلٌ: إنَّ الباقي من العمومِ حقيقةٌ، فلا نلزمه؛ لأنَّ الصيغةَ موضوعةٌ للاستغراقِ في أصلِ الوضعِ، وما تحتَ الاستغراق في كُلِّ لفظٍ شاملٍ لاثنين فصاعداً من الجنسِ، فهي عمومٌ في ذلكَ القدر؛ لأنها لم تُصرف إلى غيرِ ما وُضعت له؛ لأنَّ الشمولَ للكلِّ، والشمول للجملة التي تحت الكُلّ ليست غيراً ولا خلافاً، بخلافِ صيغةِ الحمار, إذا أريد بها: الرجلُ البليدُ، فإنها موضوعةٌ للنَّهَّاقِ في الأصلِ، والبليدُ غيرُ النَّهَّاقِ.

فصل
ومن شبهاتِهم: أنَّ استعمالَ هذه الصيغِ في البعضِ أكثرُ من استعمالِها في الكُّلِّ.
يقول القائلُ: جمعَ الأميرُ التجارَ, وحشر الصنَّاعَ، وغسلتُ ثيابي، وأسرجتُ دوابِّى، وتصدقتُ بمالي أو بدراهمي، وصرمتُ نَخلي، وجاءني بنو تميم. وكلُّ ذلكَ مستعملٌ في البعضِ، وقلَّ أن يستعملَ في الكُلِّ، ومُحالٌ أن يكونَ اللفظُ للكُلِّ وموضوعاً للاستغراق، ثم يكون استعماله في المجازِ أكثر كالحمارِ والبحرِ والأسَدِ والشجاعِ، لما كانت حقائقَ أصليةً كان استعمالُها فيما وضعت له أكثرَ من استعمالها فيما استعيرت له.
فيقال في (1) جوابهم: إنَّ كثرةَ الاستعمالِ لا تدلُّ على الحقيقة، وقِلَتَه لا تدل على المجاز بدليلِ أنَّ (2) الاستعمال لاسمِ الغائطِ، والعَذِرَةِ، والراويةِ، والشُّجاعِ، ثم
__________
= فقالت: إنَّ سيد الحيِّ سليمٌ, وإنّ نفرنا غُيَّب، فهل منكم من راق .. " الحديث، أخرجه البخاري (5007)، ومسلم (2251).
وسليم هنا بمعنى: لسيع، وسمي سليماً؛ لأنه مُسْلَمٌ لما به، أو أُسْلِمَ لما به. "لسان العرب": (سلم).
(1) في الأصل: "من".
(2) هكذا في الأصل، ولعل حذفها أولى لاستقامة العبارة.

(3/337)


الغائط والعذرة تُستعملان في الخارج من الإنسان، والراوية تستعمل في المزادة، أو الحيوانِ الحامل لها، والشُّجاع في الرجل المقدامِ، وإن كان ذلك موضوعاً لغيره؛ فالغائطُ للمطمئنِ من الأرضِ، والعَذرةُ لفِناءِ البيت، والشجاع للحيّة المخصوص (1).
وكثرة الاستعمال أمر تَجددَ، فلا يُخرجُ الوضعَ عن أصله، كما يكثرُ استعمالُ الفلوسِ في بعضِ البلادِ، والأخْبار والإبرِ يسم والأقْطان، ولا تَخرجُ الدراهمُ والدنانيرُ عن كونِها أثمانَ الأشياءِ. ويُكثر أهل البوادي أكلَ الهَبيدِ (2) والعِلْهِزِ (3)، وإن كان الطعامُ إذا اطلقَ ينصرفُ إلى غيرِ ذلكَ من الأطعمةِ الموضوعةِ في الأصلِ للطّعمِ.

فصل
ومن شُبَههم: قولهم: أجمعَ (4) القائلونَ بالعموم، والذاكرونَ له على حُسنِ الاستفهام عن مُراد اللافظِ بهذهِ الصيغِ والألفاظِ: ما الذي أردتَ بقولك: اصرِمِ النخلَ، واذبح الغنَم، وأكرِم من زارنا، واضرِبْ من عَصانا، وتصدَّق (5) بدراهِمنا؟ وهل أردتَ العمومَ واستغراقَ كُلِّ النخيلِ، وذبحَ جميعِ الشياهِ حتى لا يبقى منها واحدة؟ أم أردتَ البعضَ أو الأكثرَ؟ ولو كان ذلك موضوعاً للاستغراقِ لما حسُنَ الاستفهامُ.
__________
(1) هكذا في الأصل.
(2) الهبيد: هو الحنظل أو حَبّه، كانت العرب تتخذ منه طعاماً عند الضرورة، تأخذ حب الحنظل وهو يابس، وتجعله في موضع وتصب عليه الماء وتدلكه، ثم تصب عنه الماء، وتفعل ذلك أياماً حتى تذهب مرارته ثم يدقُّ ويُطبخ. "اللسان": (هبد).
(3) العِلْهِز: وبّرٌ يُخلط بدماء الحَلَم، كانت العرب في الجاهلية تأكله في الجدب."اللسان": (علهز).
(4) في الأصل: "الجميع" والمثبت أنسب للسياق.
(5) تحرفت في الأصل إلى:"صدق".

(3/338)


ألا ترى أن صيغ الأسماء للأجناس لما كانت موضوعة لأعيانٍ مخصوصة لم يحسُن فيها الاستفهامُ، فلو قالَ: اذبح غَنَمي، واصرِم نَخلي، وتصدَّق بدارهمي. فقال: فهل تريدُ بالغنم الإبلَ، وبالنخيل الكرومَ، وبالدراهمِ الزعفرانَ؟ لماّ كانَ موضوعاً لتلكَ الأعيانه لم يحسُن الاستفهامُ فيه.
فيقالُ في جوابِهم عن ذلكَ: إن جوازَ الاستفهامِ لايقف على غيرِ الموضوعِ، بل يحسُنُ أيضاً في الموضوعِ حقيقةً (1)، لينفيَ باستفهامِه ما يعتري اللفظَ من التجوّز والاتساعِ والاستعارةِ، ألا تراه لو قال: دخلَ السلطانُ البلدَ. حسُنَ أن يقولَ: نفسُه أم عسكَرُه؟ وإذا قال: رأيتهُ (2) مُقبلاً. حَسُن أن يقول: عَيْنه أو موكبَه؟ وإذا قالَ: ناطحتُ جبلاً، ولقيتُ بحراً، ورأيتُ حماراً. حَسُن أن يُستعلمَ: أمتَجوِّزٌ هو أم مُحِّق؟ فيقالُ: خاصمتَ رجلاً عظيماً, ولقيتَ رجلاَ كريماً, ورأيتَ رجلاً بليداً، أم نطحَك جَبَلٌ من حَجر, ولقيتَ ماءً غزيراً، ورأيتَ حيواناً نَهّاقاً؟
وإذا كان الاستفهامُ موضوعاً لزوال الالتباسِ، والإلباسُ حاصلٌ من حيثُ دَخَلَ الكلامَ التوسُّعُ والمجاز؛ لم يبقَ في الاستفهام دِلالةٌ على أنَ العمومَ لا صيغةَ له من حيثُ حَسُن فيه ودخلَ عليه؛ ولأنَ العمومَ صيغةٌ موضوعةٌ، لكنها ظاهرٌ, والاستفهام لطلبِ النصّ الذي هو الغاية التي لا تحتمل.

فصل
ومن شبههم أيضاً: أن قالوا: لو كان اللفظُ موضوعاً للاستغراقِ حقيقةً، لكان استعمالُه في البعض مجازاً، كما أنه لما كان استعمال لفظِة (حمار) حقيقةً في الحيوانِ النَّهَّاق، كان استعمالُها في الرجلِ البليدِ مجازاً، فلما كانت في الاستغراقِ حقيقةً، وفي البعض حقيقةً، عُلِمَ أنها إلى الاشتراكِ أقربُ منها إلى الوضعِ للعمومِ والشمولِ.
__________
(1) في الأصل: "الحقيقة"، والمثبت من "العدة"2/ 507.
(2) في الأصل "رأيت".

(3/339)


فيقالُ لهم: إنما لم يصِر مجازاً؛ لأنَهُ غيرُ مستعمَلٍ في غير، بل ما بقي منه صالحٌ للشمولِ لما بقي من العددِ، وذلكَ لا يُسمى مجازاً، كما إذا قال: له علي عشرةٌ كان حقيقةً في هذا العددِ المخصوصِ، فإذا قال: إلا درهمين. كان حقيقةً في الثمانية، ولا يقال: إنه مجازٌ في العشرةِ، وإنما المجاز ما استُعملَ في غيرِه، استعمالِ الحمارِ في الرجلِ البليدِ، إذ لم يكن هو ولا بعضه (1).

فصل
ومن شُبههم فيها: أن قالوا: لو كانَ اللفظُ للعمومِ لما جازَ أن يردَ، والمراد به [البعض لا] (2) العموم، كما في أسماءِ الأجناسِ والأنواعِ والأعيانِ، فلما وردَ هذا اللفظُ والمرادُ به البعضُ، بطَلَ أن يكونَ موضوعاً للكُلّ.
ألا ترى أن العلَّةَ لما كانت مقتضية للحكم لم يجُز أن تردَ في غيرِه (3) مُقتضية له بحالٍ.
فيقالُ: نقولُ بموجب دليلكَ، وأنه لا يردُ للبعضِ بمطلقه، وإنما يردُ للبعضِ بقرينةٍ أو دلالةٍ، وليس ذلكَ مانعاً من الوضع كأسماءِ الأجناسِ التي عوَّلتَ عليها في الاستشهادِ، فإنَ الدلالةَ تصرفُها إلى غيرِما وُضِعت له.

فصل
ومن شمبههم فيها: أن قالوا: لو كان اللفظُ موضوعاً للكل، ثمَ وردَ ما يدُل على أنّه اريدَ به البعضُ، لكان كذباً، كما إذا قال: عشرة. ثم بان أنه رأى خمسة عَشر فإنه يكون كذباً كذلك ها هنا، فلما لم يكن تبيانُ التخصيص كذباً، دل على أنه ليس
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 208، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 35 - 36.
(2) في الأصل: "إلا"، والمثبت هو المناسب لصحة المعنى.
(3) في الأصل: "غير" ولا يستقيم بها المعنى.

(3/340)


بموضوع للاستغراق.

فصل
في الأجوبة عن هذا
فمنها: أنه يبطل به إذا قال: اقتل عشرةَ أنفسٍ. ثم خصَّ بعضَهم، فإنَّ اللفظَ يتناول العشرةَ، ثم تَخصيصه لم يوجب الكذبَ.
على أنَّ كلامَ صاحبِ المتبرعِ يُجمَعُ بعضُه إلى بعضٍ، كالجملةِ الواحدةِ، فيصيرُ كالاستثناءِ مع المستثنى منه، فإنه لو قال: له علي عشرة إلا درهمين (1)، لم يكن كذباً، كذلك ها هنا.
والذي يوضح هذا: أن كلامَ صاحبِ الشرعِ يُبنى بعضُه على بعض كالمجموع (2)، فإنه يُطلق الأمرُ في الشرعِ إطلاقاً، ثم يردُ بعد ذلك النسخُ، فلا يُعدُّ بداءً (3)، وإن كان في غيرِ ألفاظِ صاحبِ الشرع يُعد بَداءً، فكذلكَ لا يُعَدّ التخصيص فيه كذباً.

فصل
ومن شُبههم: أن قالوا: لو كانَ اللفظ موضوعاً للاستغراقِ، لما جازَ تخصيصُ الكتاب بأخبارِ الآحادِ والقياس، فإنه لا يجوز إسقاطُ حكم القُراَنِ المقطوع بخبر واحد وقياسٍ مظنونٍ، كالنسخِ.
فيقال: ليس التخصيصُ إسقاطَ اللفظِ كُلّه، وإنما تخرجُ به بعضُ الأحكامِ ويبقى بعضها، ويتبين به أنَّ هذا الذي كان المرادَ به، فلا يكونُ إسقاطاً لحكمِ الكتابِ، بل بياناً للمراد بالكتابِ، فهو كصرفِ ظاهرِ اللفظِ، كالأمرِ والإيجابِ
__________
(1) في الأصل: "درهمان"، وهوخطأ.
(2) في الأصل: "كالجموع".
(3) البداء لغةً: الظهور، واصطلاحاً: ظهور الرأي بعد أن لم يكن. "التعريفات": 43.

(3/341)


يُصرفُ إلى الندبِ بخبرِ الواحدِ والقياسِ، بخلافِ النسخِ الذي هو رفعٌ وإسقاطٌ (1).

فصل
ومن شُبههم فيها: أن قالوا: حملُ هذهِ الصيغِ على العمومِ يوجبُ التضادَّ؛ لأنه يعطي الخصوصَ كما يعطي العُمومَ، والكُل والبعضُ، والعمومُ والخصوصُ، متضادان، وليس في اللغةِ ذلك.
فيقال: الصيغةُ التي تفيدُ العمومَ ليست هي الصيغةَ المفيدة للخصوص، لأنَّ التي تعطي العمومَ هي الصيغةُ المجرَّدة المطلقةُ، والصيغةُ التي تفيدُ الخصوصَ هي المقيَّدةُ بقرينةٍ، أو الموجبة للبعضِ بدلالةً (2).

فصل
والدلالةُ على فسادِ مذهبِ من حمل صيغة العموم على أدنى الجمعِ (3)، ما تَقدَّم من الآي، والأخبار واحتجاجِ الصحابةِ بعضهِم على بعضٍ بالآيِ والأخبار (4)، ولا أحدَ منهم تعلَّق بأقلِّ الجمعِ ولا ذكرَه.
ومنها: أنه يحسُن أن يُستثنى من هذه الصَّيَغِ والألفاظِ الثلاثةُ والأكثر, ومحالٌ أن تكونَ الصيغةُ موضوعةً لثلاثةٍ، ويُستثنى جميعُها وأكثر منها.
وفي علمِنا أنَه يحسن أن يقولَ: أحضر بني تميم، واقتل المشركين إلا ثلاثةً، فلانٌ وفلانٌ وفلانٌ. وكذلكَ لو قال: إلا عشرةً. ولو كانت الصيغةُ بإطلاقِها تقتضي الثلاثةَ، لما جازَ استثناءُ الثلاثةِ، كما لو قال: اقتل ثلاثةً من المشركينَ إلا ثلاثةً.
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 509، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 39.
(2) انظر "العدة" 2/ 508.
(3) ينسب هذا الرأي إلى أبي هاشم الجبّائي، ومحمد بن شجاع الثلجي كما ذكر المصنف في الصفحة:314.
(4) انظر ما تقدم في الصفحة 314 وما بعدها.

(3/342)


ومنها: أن للجمع لفظاً هو أخصُّ من صيغِ العمومِ، فلو أريدَ به أو وُضِعَ له، لأتى بذلك اللفظِ. فالخاصُّ: اقتل جماعةً من المشركينَ، واقتل مشركين، واقتل ثلاثةً.
فأمَّا: اقتلوا المشركين. فهذا هو صيغةُ الكل والاستغراقِ.
ومنها: أنَه لو كان الواجبُ حملَ العمومِ على الأقل لحُمِلَ على الواحِد، فإنه كما يرد والمراد به الثلاثة، قد يردُ والمرادُ به الواحدُ، قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] والمرادُ به واحد (1)، وقال تعالى: {وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا}. إلى قوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 9 - 10] فأفضى الكلامُ إلى أنَّ الطائفة تقع على الواحدِ، إذ جعل الطائفتين اثنين. ونون الجميعِ تقعُ على العظيمِ، قال اللهُ تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} [الحجر: 9]، وهو الواحدُ حقيقةً، فكانَ يجب على كُل من اعتمدَ على أقلِّ ما يُستعملُ في لفظِ الجمعِ أن يعتمدَ على الواحدِ، فإنه أقل من الثلاثةِ، وقد كتب عُمرُ إلى سعدٍ: إني قد أنفذتُ إليكَ بألفي رجل (2)، وإنما أنفذَ إليه القعقاعَ وألفَ فارسٍ، فسمَّي القعقاعَ ألفاً، وهو واحد.
ومنها: أنَ لفظَ الجمعِ يُفارقُ لفظَ العموم من وجهين:
أحدهما: أن صيغةَ العمومِ آيتها الألفُ واللاّم، وإذا كان له مع وكيله دراهمُ، فقال له: تصدَّق بدراهم. اقتضى ذلك الثلاثةَ فما زاد، وإذا قال: بالدراهمِ، رجع إلى
__________
(1) مقصوده بذلك: أن لفظ "الناس" الأول الوارد في الآية أريد به نُعيم بن مسعود الأشجعي
رضي الله عنه وهو واحد. وهذا تفسير مجاهد وعكرمة. انظر: "زاد المسير في علم التفسير"1/ 504
(2) لم أقف عليه في الكتب التي ترجمت للقعقاع، والوارد أن عمر رضي الله عنه كتب إلى سعد بن أبي وقاص:" إني أمددتك بألفي رجل: عمرو بن معد يكرب وطُليحة بن خويلد" انظر "الإصابة"، 3/ 20.

(3/343)


المعهود كُلِّه، أو الجنس، وقوله: دراهم. لفظُ تنكيرٍ.
والوجهُ الثاني: أنَه لا يحسُنُ دخولُ الاستثناءِ على قولنا: دراهم. ولا على [ما] (1) جمعه تنكير ويدخلُ على لفظِ العموم، وهذا يَدُلّ على الفرق بين اللَّفظتين.

فصل
في جمع شُبَههم
فمنها: أن قالوا: الثلاثةُ متحقِّقٌ فيها الجمعُ والشمولُ، فحملنا إطلاقَ اللفظ على المتحقق من الجمعِ، ولم نَرتقِ إلى ما زادَ على المتحقِّق؛ لأنه مشكوكٌ فيه، فلا بُدَّ من دلالةٍ توجبُ لنا الارتقاءَ إليه، والحملَ عليه.
فيقالُ: هذا يوجبُ حملَه على الواحدِ؛ لأنه أقلُّ ما وردَ فيه لفظُ الجمعِ (2) من الوجْه الذي قدَّمنا، على أن الثلاثةَ لا تُستعملُ في الكُل والجميعِ إلا بدلالةِ وقرينة، ولهذا لا يُعقلُ من قولِ القائلِ: اقتُلْ المشركين، وأكرِم المسلمين. ثلاثة من هؤلاء، ولا من هؤلاء إلا بدلالة تَحملُه بأقلّ بادرة على الثلاثة، [وإلا كان ذلك] (3) حطّاً على اللغةِ.
ودعوى الشك في الزيادةِ بعيدٌ، لأنها أصلُ الوضع، فكيف نسلِّم لكم أن اليقينَ الثلاثة، وأن الزيادة مشكوكٌ فيها؟ بل عليكم الدلالةُ على دعواكم الشكَّ، ولن تجدوا لذلك دليلاً، فإنَّ الانحطاطَ إلى الثلاثةِ عن الاستغراقِ عندنا، هو الذي يحتاجُ إلى دليلِ. ولأنه لو جازَ أن يقتَصر على الثلاثةِ في العموماتِ والصيغِ للكلِّ والجميعِ؛ لجازَ أن يقتصر على الثلاثةِ في الأعدادِ وأسماءِ الجموعِ، كالعشراتِ والمئين.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) في الأصل: "الجميع".
(3) زيادة يقتضيها السياق.

(3/344)


ولأنَ الاستثناءَ قد يدخلُ عليها فيردَّها إلى الثلاثةِ والواحدِ، لمّا لم يلزم ذلك في ألفاظ العموم.
ومنها: أنَه لو كان لفظُ الجمعِ يقتضي العمومَ، لكان من قال: له عليَّ دراهم. غير مقبول منه تفسيرُ إقراره بالثلاثةِ؛ لأنه فسَّره بغيرِ الموضوعِ، كما لو أقرَّ بعبدٍ أو أمةٍ، وفسَّره بشاةٍ أو بَعيرٍ.
فيقالُ: إنَّ قولَه: عليَّ دراهم. نكرة، ومثل هذا عندنا لا تقتضي الجنس، لكن يقتضي إذا تَعرف بالألفِ واللام، غيرَ أنَا لا نَحملُ ذلكَ على الجنسِ في الإقرار، لدليلٍ دلَّ عليه، وهو أنّا نعرِفُ من طريقِ العُرفِ والعادةِ أنَه لا يلزمُ ذِمَّةَ الإنسان لمُعامِلهِ جنسُ الدراهم، لا في قَرضٍ، ولا بيع، ولا بَدلِ مُتلَفٍ، ودلالةُ العُرف تَخُصُّ أبداً، وتمنع من حمله على أصلِ الوضع، كما تقصر الدراهمَ على [البعض] (1)، ولا يقبل تفسيرُ إطلاقِه بدراهمَ غيرِ نقدِ البلدِ.
فوِزانُه من مَسألتِنا: أن يردَ لفظُ العمومِ ويردَ معه أو بعدَه دلالةٌ تقتضي الخصوصَ، فيُقضى بالخصوصِ عليه.

فصل
في الكلامِ على من فرَّق بين الأوامرِ والأخبارِ، فأثبتَه (2) في الأمرِ دون الخبرِ (3).
فمن الدلالةِ عليهم: أنَّ فيما ذكرنا أخباراً تعلَّق السلفُ بعمومِها وأوامر؛ من ذلك: قوله تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]،
__________
(1) زيادة يتم بها المعنى.
(2) يعني العموم
(3) يُنسبُ هذا الرأي إلى أبي الحسن الكرخي من الحنفية.
انظر "الفصول في الأصول"1/ 101، و"البحر المحيط" 3/ 22، و"إرشاد الفحول" ص 116.
ولقد ضعَّف الإمام الجصِّاص هذه النسبة إلى أبي الحسن الكرخي، فقال: ومذهب أصحابنا: القول بالعموم في الأخبار والأوامر جميعاً، وكذلك كان شيخنا أبو الحسن (الكرخي) يحكيه من مذهب أصحابنا جميعاً.

(3/345)


واحتجاج عبد الله بن الزِّبَعرى على رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بها، وجوابُ اللهِ تعالى بالتخصيصِ
من غيرِ إنكارٍ للاحتجاجِ من طريقِ اللغةِ (1).
ومنها: أنَّ ما تحتَ اللفظِ العامِّ لا عبرةَ به، وإنَما العملُ للصيغِ؛ فقولُ القائِل: قامَ الناسُ. وقولُه: ليقم الناسُ. وقولُه: أقامَ الناسُ؛ وقوله: لم يقم الناسُ. كلُّه عمومٌ من طريقِ الصيغةِ. قال اللهُ سبحانَه: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ} [الحجر 30]، وقال: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ} [البقرة: 34]، فالصيغةُ واحدةٌ, فإذا اقتضت العموم في أحدِهما اقتضت الشمولَ والاستغراقَ في الآخرِ، ألا ترى أنه يحسُنُ الاستثناءُ في كُلِّ واحدٍ منهما بألفاظِ (2) الشمول. والاستثناءُ لا يُخرجُ إلا ما كانَ لولاهُ داخلاً، والمؤكِّد لا يؤكِّد إلا بما يضاهي المؤكَّد به، نقول: سَجَدَ الملائكةُ كلُهم، ودخلَ الناسُ جميعهم، وجاءني زيدٌ نفسه. وإذا حسُنَ إخراجُ كلِّ واحدٍ من الجمعِ بالاستثناءِ، دلَّ على أنه دخلَ في لفظِ الجمعِ، وإذا حسُنَ تأكيدٌ بألفاظِ الشمولِ، دلَّ على أنه يقتضي الشمولَ.
ومنها: أن كُل صيغةٍ اقتضت معنى أفادت ذلك المعنى في الخبرِ والأمرِ والنهي وغيرِها من المعاني.
فالحروفُ المثبِتة والنافِية كحرفِ (ما) و (ليسَ) و (لا)، إذا دخلت على الأمرِ والنهي والخبرِ، أفادت معناها الذي وُضِعت له، نقول: ما زيد في الدارِ، وليس زيدٌ في الدارِ، ولا دخلَ زيدٌ الدار وفي النهي: ما ينبغي لك يا زيدُ أن تدخلَ الدارَ، ولا تدخل يا زيدٌ الدار. فكذلكَ صيغةُ العموم: دخل القومُ الدار، وأدخِلِ القومَ الدارَ، وقامَ الناسُ، وأقمِ الناسَ. وعلى هذا في كُلّ شيء دخلَ
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة: 314 وما بعدها.
(2) في الأصل: "بالألفاظ".

(3/346)


عليه حرفٌ من حروفِ العمومِ (1).

فصل
في شُبَههم
فمنها: أن قالوا: إنَّما قلنا به في الأمر لأنَّ الأمرَ تكليف، فلو لم يُعرف به الأمر أدّى إلى تكليفٍ بلفظٍ غيرِ معقول، وذلك تكليفُ ما لا يُطاق، وليس كذلكَ الخبرُ، فإنه وعد أو وَعيد أو قَصَصٌ، وذلكَ لا يلزم به تكليف، ولا يقتضى إيجابَ شيء.
فيقالُ: وكيفَ لا يدخلُ تحته تكليفٌ، وهو قِوامُ التكليفِ، فإنَّ الخبرَ عليه تَنبني الاعتقاداتُ، والوعدُ والوعيدُ من أكبرِ مَصالحِ التكليفِ، فإنَّهما الحاديانِ للمكلَّفين إلى الطاعةِ والانْقيادِ، ولو عُدِما لم تَنْقَدِ النفوسُ إلى ما كُلفت، ومحالى أن يخلوَ الخبرُ من فائدةٍ من فوائِد التكليفِ، وإن اختلفت الفوائدُ لم يوجب ذلكَ تركَ العملِ بالعمومِ؛ كاختلافِ الأوامرِ أنفسها بين نَدبٍ هو أدنى، وإيجابٍ هو أعلى، وأقصى مراتبنا في اقتضاءِ العمومِ لها ودخوله عليها، ولسنا نطلبُ للوضع عائدةَ الفائدةِ، فإنَّ العربَ تضعُ الألفاظَ والصّيَغ لما قلَّ وجلَّ من أغراضها، كذلكَ الشريعةُ؛ لأنها جاءت بعادة القومِ.

ومنها: أنَّ الخبرَ لا يدخله نسخ ولا تخصيصٌ، والأمرَ يدخله النسخُ والتخصيصُ جميعاً، فجازَ أن يدخلَه العمومُ الذي عليه يرِدُ التخصيصُ.
فيقالُ: هذا يُدلُّ على تأكُّدِ الخبرِ، فإنه متأكدُ الثبوتِ، لا يتسلَّط عليه رفعٌ ولا تخصيص، ولأنَّه إنما لم يدخله نسخٌ؛ لأنَّ نسخَ الخبرِ عما (2) كان، هو محض الكذبِ غيرُ الجائزِ على حكيمٍ فضلاً عن الخالقِ سبحانه.
ونسخُ الخبرِ عما يكون في المستقبل أيضاً كذب، فإنَّ حقيقةَ نسخِ الخبرِ أنَّه إذا
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 512.
(2) في الأصل: "بما".

(3/347)


قال: {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ} [الشعراء: 105]، أن يقول: لم يك لي نَبي يُعرف بنوح، أوكان نوحٌ، لكن لم يُكذِّبه قومُه.
والمستقبل مثل قوله: {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]، {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ} [الفتح: 27]، فنسخُ ذلكَ أن يقولَ: لن يَغلبوا، ولن تدخلوا. وهذا عينُ الكذبِ الذي لا يجوزُ على اللهِ سبحانَه، ولا على رسُلهِ، ولا يحسُنُ بعقلاءِ خلقِه.
فأمَّا التخصيصُ فيجوز من ذلك (1) قوله: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ} [الأنبياء: 98]، وقوله بعد ذلك: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، وأما قوله: {فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ} [الحجر 30]، فأغرقنا جميعَ أهلِ الأرضِ، فأهلكنا جميعَ أهل قريةِ لوطٍ. فلا فرقَ بينَ ذلكَ وبين قولِه: {فاقتلوا المشركين} [التوبة: 5] انفِروا في سبيل الله كافة. في دخولِ التخصيص.

ومنها: أنَ الأخبارَ يجوزُ أنْ تردَ با لمجهولِ والمجملِ، مثل قوله: {وكَمْ أهْلكنا قَبلهم مِن قَرنٍ} [مريم: 74]، {وقروناً بينَ ذلك كثيراً} [الفرقان: 38]، ولا يُبينُه أبداً، ولا يجوزُ أن يقولَ في الأمر {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، ولا دلالةَ قبيلَ الأمرِ أو معه أو بعدَه تُبيِّنُ مرادَه بذلكَ، بل لا بُدَّ من بيانٍ، فأينَ الخبرُ من الأمرِ؟
فيقالُ: أكثرُ ما يتلوّحُ من هذا الفرقِ أنَّ في الأخبارِ ما لا حاجةَ بنا إلى معرفة كيفيةِ المخبَرِ به ولا مقدارِه ودوام الإجمالِ فيه، وهذا لا يمنعُ من وضعِ صيغةٍ لعمومِه، كما لم يمنع من جوازِ ورودِ دلالةٍ على بيانِه وتفسيرِ مُجمَلهِ، والكشفِ عن مقدارِ المُخَبرِ به.
__________
(1) في الأصل: "بذلك"،

(3/348)


فصل
ويجوزُ الأخذُ بالعمومِ في المضمرَاتِ (1).
مثاله: قولُه تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء23]، {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3]، {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة: 96] فالمضمرُ فيها أفعالُنا، إذ الأعيانُ أنفسُها لا توصَفُ بحظرٍ ولا إباحةٍ؛ لأن الحظرَ والإباحةَ منع وإطلاق، والأعيانُ الموجودةُ لا يصحُ المنعُ والإطلاقُ فيها عَيْنها، بل يتسلَّطُ على أفعالنا فيها؛ فأفعالُنا إذاً هي المضمَرة، وأما العمومُ المعمولُ به فيها، فهو المنعُ منها: أكلاً، وبيعاً، وشُرباً، وادِّخاراً، واقتناءً، وكذلكَ الأمهاتُ: نكاحاً، وبَيعاً، وشراءً، واستمتاعاً، واستخداماً، والصيدُ: اصطياداً، وبيعاً، وشراءً، وحَبساً، وإمساكاً، وأذيَّة له من نتفِ ريشٍ أو شَعرٍ، أو كَسر بيضٍ، أو إزعاجٍ من وَكْرٍ إلى أمثالِ ذلكَ.
ومثاله من السُّنَن: "هذانِ حرامٌ على ذكورِ أُمّتي، حِل لإناثها (2) ". مشيراً إلى الذهبةِ والحريرةِ، فالمضمَر أفعالنا فيهما، والعمومُ: سائرُ أفعالِنا إلا ما خصَّه الدليلُ في جميعِ ما ذكرنا من الكتابِ والسنَةِ.
وقال أكثرُ أصحابِ أبي حنيفة، وأصحاب الشافعي: لا يُعتبر العمومُ في ذلكَ (3).
__________
(1) هذا لا حال عدم ورود الدليل على تعيين أحد المضمرات، أما في حال ورود الدليل فالمتفق عليه عند الأصوليين أن المضمَرَ يُحملُ على ما عيّنه الدليل. وسيأتي خلاف الأُصوليين في حال عدم ورود الدليل المعين. وانظر "العدة" 2/ 513 - 516، و"الإحكام" للآمدي 2/ 249.
(2) تقدم تخريجه في 2/ 401.
(3) للأُصوليين في مسألةِ عمومِ المضمَراتِ رأيان:
الرأي الأول: أنَه يؤخذ بالعمومِ في المضمرات، وهذا رأي الحنابلةِ وبعص الشافعية.
الرأي الثاني: أنه لا يجوز الحملُ على الجميعِ؛ لأن الضرورة هي المقتضية للإضمار, وهي =

(3/349)


0فصل
في أدلتنا
فمنها: أن قول النبي صلى الله عليه وسلم: "رفع عن أُمتي الخطأُ والنسيانُ" (1)، لا يمكنُ رَفعُه بعدَ وقوعِه، وإنما أرادَ به: ما يتعلّق على الفعلِ من الجُناح، إذا كان عمداً، يُرفع عن، المكلَّف إذا وقَع منه ذلكَ الفعلُ خطأً. فصارَ بهذا التقدير الذي أوجَبَتْه أدلةُ العقلُ منصرفأ إلى مأثم الفعلِ وتَبعاتِه عن كُلّ فعل وقَع خطاً من فاعلِه.
ومنها: أنَّ المُضْمَرَ الواجبَ إثباتُه بحكمِ دليلِ العقلِ، كالمنطوقِ به، وإذا كان ثبوتُه بدليلِ العقلِ، وجبَ حملُ تحريمِ الأفعالِ المضمَرةِ المتُصورِ وقوعُها في الأعيانِ على الإطلاقِ.
__________
= مندفعةٌ بإضمارِ واحدِ منها. وهذا رأيُ أكثرِ الحنفية، وهو ما اختاره الغزالي والفخر الرازي، وأبو إسحاق الشيرازي وابن الحاجب.
انظر هذه المسألة وما تلاها من اختلافات، وأدلة، وبيان، وتفنيد لآراء المخالفين: "أصول السرخسي"1/ 248، و"التبصرة في أصول الفقه" لأبي إسحاق الشيرازي": 201 - 202، و"المستصفى" 2/ 62 - 64، و"المحصول" 2/ 382 - 383، و"العُدة" 2/ 513 - 518، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 230، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 197 - 202.
(1) أخرج الطحاوي في"شرح معاني الآثار"، والطبراني في "الصغير" 1/ 270 والدارقطني 4/ 170 - 171، والبيهقي 7/ 356، وابن ماجه (2045)، والحاكم في" المستدرك" 2/ 198 وابن حبان (7219) من حديث ابن عباس: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: "إن الله تجاوَز عن أُمتي الخطأ، والنِّسيان، وما استكرهوا عليه".
أما لفظة: "رفع عن أمتي" فأخرج قريباً منها ابنُ عدي في "الكامل"2/ 573 عن أبي بكرة مرفوعاً بلفظ: "كع اللهُ عن هذه الأمة ثلاثاً، الخطا والنسيان والأمر الذي يكرهون عليه". =

(3/350)


فصل
شُبَهُهُم: قالوا (1): معنى قولنا: عمومٌ؛ أنه بخطابٍ موضوعٍ لشمولِ الجنسِ واستغراقِه، وهذا لا يدخلُ في المعاني والمضمَرات إذا كان المضمَرُ والمعنى ليس بلفظ.
فيقالُ: إنَّ المضمَر الواجبَ إثباتُه، كاللفظِ، وهل يُرادُ من العمومِ إلا استغراقُ ما يتناولُه؟ فلا فرق بين أن يكونَ ما تحته معاني تُنْبىء عنها الألفاظُ والصيَغ، أو نفسُ الصيَغِ والألفاظِ، فهو كقائلٍ ومخاطِبٍ في النفسِ يقول: لا حُكمَ من أحكامِ العمدِ يتعلَّق على الخطأ المعفوِّ عنكم المرفوع.
ومنها: أنَّ دليلَ الإضمارِ ألجأنا وأحوَجنا إلى أن نُضمِر الفعلَ، إذ لا يجوزُ أن يقَع الحظر على نفسِ العينِ، فالواجبُ أن يُستعملَ الإضمارُ فيما بنا حاجةٌ إليه، والفعلُ الواحدُ يقضي حقَّ الدليلِ، ويَسُد مَسَدّ الفعلِ المصرَّح به، فلو قال: حُرِّمت عليكم أمهاتكم نكاحاً، والميتةُ أكلاً، والصيْدُ حَبْساً، كفى، ولم يحتج إلى إضمار فَما يَسُدُّ مسدَّ الإظهارِ يكفي، فالعمومُ لا يُحتَاجُ إليه.
فيقال: لعمري إنَ الحاجةَ داعية إلى الفعلِ في الجملة، لكن مَن الذي أوجَب اتفاقَ لفظِ التحريمِ على فعلٍ واحدٍ مع كونِ التحريمِ صالحاً لشمولِ كُل فعلٍ يصلُحُ أن يُضمرَ؛ والإضمارُ كما أوجبَ فعلاً، صلُح لكل فعل، فاللفظُ بالتحريمِ يعمُ كلَّ صالحٍ من الأفعالِ أن تقَع في تلك الأعيانِ، والصلاحية كافية، كما لو اشتبهت الأعيانُ المحظورةُ والمباحةُ، فإنَّا نقطعُ على أنَّ المحظورَ البعضُ، ولمّاَ صَلُحَ أن يكونَ كلُّ واحدٍ منها للتحريمِ؛ عمَّ الحظرُ جميعَها، فأعطينا الإضمارَ حقَه من اعتبارِ الفعلِ،
__________
= ولقد أشار ابن الوزير في كتاب "العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم" 1/ 196، إلى أن طريق لفظ: "لرفع"، طريق ضعيف.
(1) في الأصل: "قال".

(3/351)


والحظرَ حقَه من شموله لكلِّ فعلٍ.
ومنها: أن قالوا: لو صحَ دعوى العمومِ في المضمراتِ؛ لصح أن يدخلَ
التخصيصُ على المضمرات، كا لمُظْهَراتِ (1) لمَا دخلها العمومُ دخلها التخصيصُ. فيقالُ: كذلكَ نقولُ، وإنه على عمومِه في كُلِّ مضمَر يصحُّ إضمارُه إلا أن تردَ دلالةٌ تخصُ بعضَ الأفعالِ بالإباحةِ.

فصل
ولا يكون قوله: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} [النساء: 23]، و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} [المائدة: 3] مجازاً غيرَ دالى على تحريمِ أفعالي في الأعيانِ (2)، خلافاً لما حُكيَ عن أبي عبد الله البصري (3)، المفَقب بالجُعَل، وقوله: هذا مجازٌ لا يدل على تحريمِ الأفعالِ.
__________
(1) يقصد بالمظْهَرات: اللفظ الظاهرُ، وهي في مقابل المُضْمَراتِ، وهي الألفاظ غيرُ الظاهرة.
(2) مرادُ ابن عقيل في هذه المسألة: أن لفظ التحريم إذا تعلَق بما لا يصحُّ تحريمه، فإنَه يكون عموماً في الأفعالِ في العين المحرَّمة، نحوَ قوله تعالى: {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} و {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ}. انظر "العدة" 2/ 518 - 519، و"المسودة": 94.
(3) هو أبوعبد الله الحسين بن عليَّ البَصري، المعتزلي معتقداً، الحنفيّ مذهباً، كان مقدماً في الفقه والكلام، وانتهت إليه رئاسةُ أصحابه في عصره. توفي سنة (369 هـ).
انظر "تاريخ بغداد" 8/ 73 - 74، و"شذرات الذهب" 3/ 68، و"سير أعلام النبلاء"

(3/352)


فصل
في الدلالةِ لنا على أنَّ المعقولَ في لغةِ العربِ من التحريمِ المنعُ
والمنعُ إنما يَتَجه (1) إلى ما عليه تسلُّط، ولا نوعَ تسلُّطٍ على الأعيانِ إلا بالأفعالِ، فلما قال: {فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} [المائدة: 26]، عُقِلَ أنهم ممنوعون منها، ولا منعَ يعود [إلا] (2) إلى دخولهِم إليها وسكناهم فيها، وكذلكَ قوله في حق موسى: {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} [القصص: 12] عاد إلى المنعِ من الارتضاعِ من ثدي غيرِ أمِّه من النساءِ الأجنبياتِ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - في الشرابِ: "هو حرام عليَّ" (3) فأنزلَ الله عر وجل: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ} [التحريم: 1]، وإنما عنى به: شُربَه حرامٌ عليَّ، والعربُ تقول في البِكر: بنتُ محرمة، بمعنى لم تُفْرَع (4).
قالوا: لا يجوزُ أن تكونَ الأفعالُ حُرمَتْ لأعيانِها، وكونِها أفعالاً، لكن بمعاني في الذواتِ التي أُضيفَ التحريمُ إليها، فالأم لمكانِ حرمتهِا، ولتربيتها، وكونِها السببَ في الإنجابِ، والكُلّ الذي الولُد جزءٌ منها، صينَت عن البذلةِ بالمتعةِ، ولهذا أعتقت ساعةَ تملُّكِها عند قومٍ (5)، ووقتَ إزالةِ الملكِ عنها عندَ أهلِ الظاهرِ (6)، صيانةً عن
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "نتيجة".
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) أخرج ابن جرير 14/ 158، والبخاري (4912) (5267)، ومسلم (1474)، وابن كثير 8/ 187 - 188 طبعة الشعب، عن عائشة رضي الله عنها، أنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند زينب بنتِ جحش ويمكثُ عندها فواطأت أنا وحفصة أنَّ أيّتنا دخلَ عليها فلتقل له: أكلت مغافير؟!، إني اْجدُ منك ريح مغافير قال:" لا ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينب فلن أعود له، وقد حلفتُ لا تخبري بذلك أحداً"، فنزل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ ..} [التحريم: 1].
(4) أي لم تفتض بكارتها، تقول العرب: افترع البِكر بمعنى افتضها، والفُرعةُ: دمها.
(5) وهو قول عامة الفقهاء، انظر "المغني" 9/ 223.
(6) قال ابن قدامة في" المغني" 9/ 224: ولم يُعتق داود وأهل الظاهر أحداً حتى يعتقه، لقول النبي صلى الله عليه وسلم:" لا يجزي ولدٌ والده شيئاً، إلا أن يجده مملوكاً فيشتريه، فيعتقه".

(3/353)


دوامِ الملكِ الموجِبِ للبذلةِ والاستخدامِ.
قالوا: وكذلكَ الميتةُ لاستحالةٍ وفسادٍ، بكونِ الدَّمِ لم يخرج عنها (1).