الواضح في أصول الفقه

فصل
في الاسمِ المفردِ إذا دخلَ عليه الألفُ واللامُ
مثل: الإنسان، والدِرهمِ، والدينارِ، والكافرِ، والزاني، والسارقِ، فهو واقعٌ على جنسِ ما دخل عليه واستغراقه، هذا مذهبنا (2)، وبه قال أبو عبد الله الجُرجاني (3)، وحكاه عن أصحابِه، واختلفَ أصحابُ الشافعي (4)، فمنهم من قال بمذهبنا، ومنهم من قال: المرادُ به المعهودُ (5)، وهو مذهب الجبائي من المعتزلة.
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 518 - 519، "المسودة": 94.
(2) انظر: "العدة" 2/ 519 - 520، و"التمهيد" 2/ 53 - 58، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 133 - 136.
(3) تقدمت ترجمته في الصفحة (173) من هذا الجزء.
(4) مذهبُ الإمامِ الشافعي أن الاسمَ المفردَ إذا دخل عليه الألفُ واللامُ أفادَ العمومَ، والذي أرشدَ إلى ذلك بيانُه في كتابه "الرسالة" ص (223): أن قوله تعالى: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا}، هو من الآيات التي نزلت عامة، ثم ورَد من السنةِ ما يخصَّصُها، فسن رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن "لا قطْع في ثمرٍ ولا كَثرَ" والكثَر هو جمار النخل، وهو شحمه الذي في وسط النخلة.
فدل هذا البيانُ من الإمام الشافعي على أنَه يرى أن صيغة "السارق" تُفيد العموم ما لم يرد دليلٌ يخصَّصها ويقصرها على بعض أفرادها.
(5) لأصحاب الإمام الشافعي عدةُ آراء، نذكرها بإيجاز:
الرأي الأول: أن اللفظَ المفرد المعرف بالألفِ واللام لا يفيدُ العمومَ ولا الاستغراقَ. هذا رأي الرازي كما قرره في "المحصول".
الرأي الثاني: أنَّه إن تجرد اللفظُ المفردُ عن عهدٍ، فهو للاستغراقِ، وإن خرج اللفظ ولم يُدرَ أنَّه خرج تعريفاً لمنكرٍ سابق، أو إشعاراً بجنس -أي الاستغراق- فيحملُ على الإجمال، ولا يتحدد المقصودُ إلا بقرينةٍ. وهذا رأي إمام الحرمين. =

(3/354)


فصل
في أدلتنا على أنهما يدخلان للجنس
فمنها: أن الله سبحانه ما أدخلَ الألفَ واللامَ على الاسمِ المفردِ إلا وأراد به الجنسَ؛ من ذلك قوله تعالى: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى} [العلق: 6]، {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ} [العصر 2]، {وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، {حَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا} [الأحزاب: 72]، {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي} [النور 2]، ثم عطف عليه ما دلّ على أن المرادَ به الجنسُ، وهو قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا} [العصر 3]، والذين اسم جماعة، والجماعةُ لا تُستثنى من واحدٍ، فدل ذلكَ على أنَه أراد بالإنسانِ: الجنسَ، فكذلك صحَ أن يستثني منه جماعةً.
ومنها: أنَ الجمعَ مثل: رجال، وناس، وكل، أسماء مُنكَرة، إذا دخلَ عليها الألفُ واللامُ اقتضت الجنسَ، كذلكَ الاسمُ الواحد، وهذا صحيحٌ؛ لأنَّ الأعدادَ المخصوصةَ إذا جاءت بلفظِ النكرةِ لم تقتضِ الجنسَ من ذلكَ المعدود، ودخولُ الألفِ واللامِ يجعلها من قبيلِ الشمولِ والعمومِ لاستغراقِ الجنسِ، كذلكَ الواحدُ المفردُ، والجامعُ بينَهما: أنَ كُل واحدِ منهما صيغة لا تقتضي الجنسَ إذا لم يدخل عليها
__________
= الرأي الثالث: التفصيل: فإن اللفظَ المفردَ ينقسِمُ إلى ما يتميز فيه لفظ الواحد عن الجنس بالهاء؛ كالتمرة والتمر فإنْ عَري عن الهاء؛ فهو للاستغراق. فقوله: "لا تبيعوا البُرَّ بالبُرِّ ولا التمر بالتمر" يعمُّ كل بُرٍّ وتمرٍ.
وما لا يتميز بالهاءِ ينقسمُ إلى ما يَتَشخص ويتعدد؛ كالدينارِ والرجل، حتى يقال: دينارٌ واحدٌ، ورجلٌ واحدٌ، وإلى ما لا يتشخصُ واحدٌ منه كالذهب، إذ لا يقالُ: ذهبْ واحدٌ. فهذا لاستغراقِ الجنسِ، أمَّا الدينارُ والرجلُ فيشبِهُ أن يكونَ للواحدِ، والألف واللام للتعريف لا للاستغراق، ويحتملُ أن يكون دليلاً على الاستغراق. وهذا رأي الإمام الغزالي كما في "المستصفى". انظر في بيان تلك الآراء: "البرهان"1/ 339 - 343 و"المستصفى" 2/ 53 - 54 و"المحصول" 2/ 367 - 370، و"البحر المحيط" 3/ 97 - 99.

(3/355)


الألفُ واللامُ، أعني صيغةَ الواحدِ المفردِ، والجمعِ المنكَّر ثم إنَّ الألفَ والَّلامَ إذا دخلت على الجماعةِ المنكَّرةِ جعلتها المرادَ بها الجنسُ، كذلك الواحدُ.
ومنها: أنَّ الواحد المنكَّر مثل قولنا: إنسان، ورجل، وسارق، وَزانٍ، وبَر, وفاجر, لا يجوزُ دخولُ الاستثناءِ عليه، فإذا دخَل عليه الألفُ واللأَم؛ حسُنَ دخولُ الاستثناءِ، مثل قوله: {إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ} [المعارج: 19 - 22]، والمصلّون جماعةٌ استثناهم من قوله: {الْإِنْسَانَ} فَعُلمَ أنه أراد به جنسَ الناسِ، إذ لو كان واحداً؛ لما صحَّ أن يستثني منه جماعةً، إذ ليس الواحدُ جماعةً، وليسَ إلا نفسه.
ومنها: أنَّها لو اقتضت العهدَ لما حسُنَ الابتداءُ بها، ومعلومٌ أنَه يحسُنُ أن يبتدىءَ الإنسانُ بقوله: رأيتُ الناسَ، ولقيتُ العربَ. وكما يحسنُ ذلك يحسُنُ أن يقولَ: رأيتُ الإنسانَ غدّاراً، وغادرتُ الكافرَ كذاباً. ولو كانت للعهدِ لما حسُنت ابتداءً، ألا ترى أنك تقول: دخلتُ السوق فرأيتُ رجلاً، ثم عدتُ فرأيتُ الرجل. فيعودُ إلى الرجلِ المعهودِ بالذكر أولاً؟ وأردت أن تبتدىء فتقولَ: دخلتُ للسوقِ، ورأيتُ الرجل.
وتُريد العهدَ، لم يصح ذلك، ولم يكن ذلك لغة.

فصل
أي، (1) شُبههم
فمنها: توهُّمُ أنَ الألفَ والَّلام لا تدخلانِ إلا للعهدِ، قال الله تعالى: {كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ} [المزمل: 15 - 16] والمرادُ به: المذكورُ أولاً، وقال تعالى: {فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا} [الشرح: 5 - 6]، قال ابن عباس: لن يغلب عسرٌ يُسْرَين (2). فلو لم يكن العُسرُ بالألفِ واللام، جعل الثاني
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) أخرجه الطبري في "التفسير" 30/ 151، والحاكم 2/ 582، وأورده السيوطي في "الدر المنثور"=

(3/356)


الأول، لما كان عسراً واحداً
فيقالُ: إنَ صلاحيتها للعهدِ لا نُنكره، لكن إذا تقدمها نكرةٌ، وكلامُنا إذا جاء الاسمُ المفردُ بالألفِ واللام مبتدأ، فأمَّا إذا جاء بعد نكرة، كان بحسَبِ النكرةِ المتقدِّمةِ عليه عائداً إليها للعهدِ والتعريف لمن تقدّم، وهو الواحدُ المنكَّر، فأما في مسألتِنا، فليس ها هنا معرفةٌ يَرجعُ إليها سوى الجنسِ، فأطبقناه عليه (1).
ومنها: أن قالوا: إنَّ الألفَ والَّلامَ لا تقتضي -أو لا تفيدُ- إلا تعريفَ النكرةِ، فإذا كان الاسمُ المنكَّرُ واحداً ولا يقتضي أكثرَ من واحدٍ، وجبَ أن يكونَ تعريفُه بالألفِ والَّلام لا يقتضي إلا واحداً من الجنسِ، فلا وجْه لاستغراقِه واستيعابِه.
فيقالُ: هذا باطلٌ به، إذا دخلت على اسمِ الجمعِ اقتضت الجنسَ، لا تعريفَ ذلكَ الجمعِ فقط، على أنَه يقتضي تعريفَ النكرةِ إذا تقدمته نكرةٌ، فأمَّا إذا لم تتقدمه اقتضت تعريفَ الجنسِ، وها هنا لم تتقدمه نكرةٌ، فوجبَ أن يكون تعريفاً للجنس.

فصل
في أسماءِ الجموعِ إذا لم يدخلها ألف ولام
مثلُ قولِنا: مسلمينَ، ومشركينَ، وقائلينَ، ومُجَربينَ، فإنها لا تكون محمولةً على العمومِ، وتحمل على أقلِّ الجمعِ.
واختلفَ أصحابُ الشافعيِّ على وجهينِ:
__________
= 6/ 364 عن الحسن مرفوعاً: خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً مسروراً فرحاً وهو يضحك، ويقول: "لن يغلب عسر يسرين، لن يغلب عسر يسرين، فإن مع العسر يسرا، إن مع العسر يسرا".
ورواه مالك في "الموطأ"1/ 379، وابن ابى شيبة 13/ 37، موقوفاً على عمر رضي الله عنه.
(1) انظر "العدة" 2/ 521 - 522.

(3/357)


أحدُهما: مثلُ قولنا، وأنَها لا تُحملُ على العمومِ (1).
والثاني من الوجهينِ: أنها (2) تُحملُ على العمومِ واستغراقِ الجنسِ، وإليه ذهب الجُبَّائي من المعتزلةِ.
وعن أحمدَ مثلُ الأوَّلِ من المذهبينِ، وعنه: مثل الثاني أيضاً (3).
__________
(1) وهو الراجح الذي عليه عامَّة أصحاب الشافعي، قال الزركشي: وأصحهما، وعليه عامة أصحابنا، أنه ليس بعام؛ لأنَّ أهل اللغة سموه نكرة، ولو تناول جميع الجنس لم يكن نكرةً.
انظر "البحر المحيط" 3/ 133، و" التبصرة في أصول الفقه" لأبي إسحاق الشيرازي: 118.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "أحدهما".
(3) بين القاضي أبويعلى الفراء، كيفية استفادة المذهبين عن أحمد رضي الله عنه: أما المذهب الأول: فقد استفيد من رواية أبي طالب عن أحمد أنَه سُئلَ إذا قال الرجلُ: ما أحل الله فيَ حرام. يعني به الطلاق؟ أجاب: أنه يكون ثلاثاً، وإذا قال: أعني به طلاقاً، فهذه واحدة؛ لأنَّ (طلاقاً) غير (الطلاق).
قال أبويعلى: فقد فرق بين دخولِ الألف واللام على الطلاق في أنه يقتصي الجنس. وبين حذفها في أنه لا يقتصي الجنس.
وأمَّا المذهب الثاني: فقد استُفيد من رواية صالح، وقد سأله عن لبس الحرير فقال: لا إنّما هو للإناث، يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: "هذان حرامان على ذكور أُمتي".
قال أبو يعلى: فقد حملَ قوله: "ذكور أمتي" على العموم في الصغيرة والكبيرة، وإن كان جمعاً ليس فيه الألف واللام. انظر "العدة" 2/ 524.
ويؤخذ على إلاستدلال للمذهب الثاني لأحمد: أنَّ العموم ليس مستفاداً. من لفظ: ذكور وحده وإنما هو مستفاد من إضافته إلى لفظ: أمتي، والجمعُ إذا أضيف إلى معرفة أفاد العموم.
ومنه قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} حيث إن لفظ: أولاد جمع مضافٌ إلى ضمير الجمع، فاقتضى استغراق جميع الأولاد.

(3/358)


فصل
في أدلتنا (1)
فمنها: أنَ أهلَ اللغةِ سموا هذا نكرةً، ولو كان للجنسِ، لما سمَّوه نكرةً؛ لأنَّ الجنسَ معرفةٌ؛ لأنَه معروف كُلّه غيرُ منكَرٍ عندَهم، ولا يختلطُ بغيرِه، بل هو مستوعَب مُنقطع عن غير الجنس.
ومنها: أنه نكرةٌ في الإثبات، فلم يقتضِ العمومَ، كالاسمِ المفردِ.
ومنها: أنَه يصحُ تأكيدُه بـ (ما)، فتقول: رأيتُ رجالاً ما، ولو كان يقتضي الجنس لما حسن تأكيده بما؛ لأنَّ قولَ القائلِ: عندي دراهمُ، وجاءني رجالٌ ما، يريدُ به التقليل، والتقليلُ ينافي الاستغرافَ، ولهذا قال سبحانه: {لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ} [ص: 24]، فصرح بالقلّةِ في حرف (ما)، ألا ترى أنه إذا دخلَ الألفُ والَّلامُ عليه لم يحسُن دخول (ما)، فلا يقال: الرجالُ ما.
شبهةُ أهلِ العمومِ أن قالوا: لو لم يَقْتضِ الجنسَ لما حسُنَ الاستثناءُ لكلِّ واحدٍ من الجنسِ، فلما حسُنَ استثناءُ كلِّ واحدٍ منه عُلمَ دخولُه فيه وبحَسبِه، إذ لا يخرجُ بالاستثناءِ إلا ما دخلَ في اللفظِ.
فيقال: لا نسلِّم، بل لا يجوزُ الاستثناءُ من ألفاظِ الجموعِ إذا تجردت عن الألفِ واللامِ، فلا نقولُ: رجالاً إلا زيداً وعَمْراً.
على أنَا لو سلمنا توسعةَ الكلامِ؛ فإنَ الاستثناءَ يُخرجُ البعضَ من الكُلِّ، ويخرجُ البعضَ من البعضِ، ومهما كانَ الجمعُ محتمِلاً لإخراجِ بعضِه، صحَ الاستثناءُ منه بحسَبِه، ولا يعطي هذا استِغْراقَ الجنسِ.
__________
(1) انظر في ذلك "العُدة" 2/ 524 - 525، و"التمهيد"2/ 50 - 52، و"المسودة" ص 106، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 142 - 144.

(3/359)


فصل
إذا وردت صيغةُ العمومِ الدالةُ بمجرّدها على استغراقِ الجنسِ واستيعابِ الطبقةِ، فهل يجبُ أن يقفَ الاعتقادُ لها والعملُ بها على البحثِ عن دليل التخصيصِ، أم يجب بأولِ بادرةٍ؟
على روايتين عن أحمدَ رضي الله عنه:
إحداهما: يجبُ اعتقادُها والعملُ بها في الحالِ.
والثانيةُ: لا يجبُ ذلكَ إلا بعد البحثِ والطلبِ وعدمِ الدلالةِ المخصِّصة (1).
ولأصحابِ الشافعي وجهان كالروايتينِ (2).
واختلفَ أصحابُ أبي حنيفةَ، فقال أبو عبد الله الجُرجاني: إن سمعَ الصيغةَ من رسولِ الله وجبَ الاعتقادُ والعملُ من غير توقف، وإن كان سماعُها من غيره لزمَه
__________
(1) اختار الرواية الأولى عن أحمد، والقاضية بوجوبِ العمل بها في الحال: أبوبكر الخلال، وأبو يعلى، والحلواني، وابن قدامة، والطوفي.
واختار الروايةَ الثانية عنه والقاضية بوقف العمل به إلى حين ثبوت عدم ورود المخصص: أبوالخطاب الكلوذاني.
انظر "العدة " 2/ 525 - 532، و"التمهيد"2/ 65 - 70 و"المسودة" ص (109)، و"روضة الناظر" ص (126) و"شرح مختصر الروضة"2/ 542 - 547.
(2) رأيُ عامة أصحاب الشافعي التوقف في العمل بالدليل العام حتى ينظر في الأدلة؛ فمن دل الدليل على تخصيصه خُص به، وإن لم يجد دليلاً يدل على التخصيص اعتقد عمومه، وعمل بموجبه. وهذا قول ابن سريج، وأبو إسحاق المروزي، وأبوسعيد الإصطخري، وأبوعلي بن خيران، وأبوبكر القفال، والغزالي.
وذهب القاضي أبو بكر الصيرفي، إلى وجوب اعتقاد العموم في الحال عند سماعه والعمل بموجبه.
انظر "البرهان في أصول الفقه" 1/ 406 - 408 و"المستصفى"2/ 157 - 162 و"التبصرة في أصول الفقه" ص (119 - 121) و"البحر المحيط" 3/ 36 - 49.

(3/360)


التثبتُ وطلبُ دلالةِ التخصيصِ، فإن فقدَها حملَ اللفظَ على مقتضاه من العمومِ، وذكر أبو سفيان (1) وجوب اعتقادِ عمومِه من غير توقفِ ولا طلبِ دلالةِ تخصيصِ.

فصل
يجمعُ أدلّتنا (2)
فمن ذلك: أن الصيغةَ تقتضي بوصفِها العمومَ، كما أن اللفظ المقتضي للحكمِ على الدوامِ إذا وردَ فسمعَه من أهلِ الآفاقِ في عصرِ النبي عليه الصلاة والسلام، كمعاذِ باليمنِ، وعتَّاب (3) بمكة، وغيرهما من الصحابةِ، مع تجويزِ ورودِ ناسخٍ ينسخُ ذلكَ الحكمَ، فإنه لا يجوزُ التوقفُ ليُطلبَ ناسخٌ عساهُ يكونُ قد وردَ، فضلاً عن أن يجب، كذلك لا يجبُ طلبُ دلالةِ التخصيص.
وكما أنَ الناسخَ يتأخّر فالتخصيصُ يجوزُ أن يتأخر فاذا لم يجب بطلبِ أحدِهما، كذلكَ الآخر.
ومنها: أنَ الصيغةَ موضوعةٌ للعمومِ، والتخصيص متوهَم ومُجَوّز فلا يجوزُ تأخيرُ الاعتقادِ لعمومِه والعملِ به، لتوهّم ما يخصُّه، كما أنَّ أسماءَ الحقائقِ إذا وردت يجبُ اعتقادُ ما يوجبُه الوضعُ والعملُ به، ولا يجبُ التوقفُ لطلبِ دلالةٍ صارفةٍ له عن ظاهرِه وحقيقتِه إلى مجازِه واستعارته.
__________
(1) هو محمد بن أحمد أبي سهل السرخسي، من كبار أئمة الحنفية، صنف "المبسوط"و"الأصول"، وشرح كتب محمد بن الحسن، توفي سنة (483 هـ). انظر "الجواهر المضية" 2/ 28، "الفوائد البهية":158.
(2) ظاهر من الأدلة التي يسوقها ابن عقيل أنه يرجّح الرواية الأولى عن الإمام أحمد.
(3) هو عتاب بن أَسيد بن أبي العيص بن أُمية بن عبد شمس الأموي، أسلم يوم الفتح، واستعمله النبيُّ صلى الله عليه وسلم على مكة لما سار إلى حنين، وأقرّه أبو بكر على مكة.
انظر "الإصابة" 4/ 429.

(3/361)


فصل
في سؤالهم على الدليلين
قالوا: إنَ الصيغةَ تقتضي ما ذكرت، لكن مع التجرّد من مخصِّص، وذلكَ لم يتحقق ما لم يبحث عن الدليلِ المخصِّص، وما ذلكَ إلا بمثابةِ الشهادةِ إذا قامت على حق من الحقوقِ لا يتلقاها الحاكمُ بالعلمِ والعمل بها، حتى تقومَ الدلالةُ على سلامتِها بالبحثِ الدالِّ على السلامةِ، مما يقدحُ فيها، وهي التزكيةُ لها، فلا يَقنعُ بأصلِ العدالةِ التي هي كأصلِ الوضعِ ها هنا.
وأمَّا النسخُ، فإنه أمرٌ يردُ متراخياً فيما بعدَ المنسوخِ، وذلكَ لا يجبُ انتظارُه وتوقُّعه، ولأنَّ انتظارَ الناسخِ يُعطِّلُ الأمرَ الأولَ عن العملِ به؛ لأنَّ رفعَه إنَّما يكونُ بعد العملِ به، ولو كان مثلَ العملِ به لما ثبتَ للفظِ الأوَّلِ فائدةٌ؛ لأنَّهُ يخلو جميعُ الزمانِ السابقِ للناسخِ من عملٍ بذلك (1) المنسوخِ، وليس كذلك انتظارُ الدليلِ المخصِّص؛ لأنَّه أيُ وقتٍ كان، قصد العمل باللفظِ الذي أريدَ به الخصوصُ، كما نقولُ في البينةِ إذا ثبتت عدالتُها في الحالِ، لا يتركُ العملُ بها، والاعتقادُ لما شهدت به، فإنا لا نَسْتأني (2) بها استقبالَ حالها وتوقّعها، عساه يحدثُ فيها من فعلٍ أو قولٍ خارج يقدَحُ في عدالتها أو يرفعُ العدالةَ عنها.
فيقال: إنَّ القاعدةَ في سؤالِكم غيرُ صحيحةٍ؛ لأنَّ تجويزَ وجودِ دلالةٍ تصرفُ عن العمومِ إلى الخصوصِ لو أوجبَ التوقفَ لطلبِها والبحثِ عنها؛ لأوجبَ تجويزَ صرفِ لفظِ الأمر عن ظاهرِه -وهو الوجوبُ- إلى الندبِ، توقيفاً عن العملِ به، واعتقاداً لإيجابِ البحثِ عن دلالةٍ تدلُّ على صرفِه، ولماَ لم يجب ذلكَ في الأمرِ
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "فذلك".
(2) من التَّواني، أي: لا ننتظر ونتأخر في الحكم بموجَب الشهادة، إلى حين ظهور سلامتها من القادح أو الجارح.

(3/362)


المطلقِ؛ لم يوجب التوقفُ في العمومِ المطلقِ.
وقولُكَ: لا يكونُ مجرّداً إلا بعدَ البحثِ. يَبْطُلُ بالأمرِ والنهي، فإنه يكونُ مجرّداً
قبلَ البحثِ عن دليلِ الصرفِ له عن ظاهرِه.
وفارقَ التَنبيه، فإن خبرَ الواحدِ ها هُنا لا يوجبُ البحثَ ولا التوقُف في الراوي إلى أن تقومَ الدلالةُ على عدالةِ باطنه، ونقبلُ فيه الواحدَ، ولا يُعتبرُ العددُ، بخلافِ الشهادةِ.
وأما قولكم: إنَ دلالةَ التخصيصِ تكونُ معه بخلافِ النسخِ، فلا يُسلَم، بل عندنا: أنَ البيانَ يجوزُ أن يتأخرَ عن وقتِ الخطابِ، فهو كالنسخِ، ولأنَ النسخَ الذي يكونُ بعدَه قد يخفى عن البعيدِ عن مدينةِ الرسولِ صلى الله عليه وسلم، فلا يعلمُ أنَزَلَ به وحيٌ أمْ لا؟ ومع ذلكَ لا يجبُ الانتظار، وإن كان ذلك لا يفوِّتُ أصلَ العملِ عن ورودِ النَّسخِ، ومع هذا التجويزِ لا يجبُ التوقفُ عليه.
فإن قيلَ: ليس العمومُ من أسماءِ الحقائقِ بشي؛ لأنَّ تلكَ إذا عُدِلَ عنها إلى غيرِها كانت استعارةً ومجازاً، فأمَّا العمومُ فإنَه إذا صُرِفَ إلى الخصوصِ، ودخلَه التخصيصُ، لم يكن مجازاً.
قيل: قد استويا في العدولِ عن الظاهرِ الأصليّ في الوضعِ، وإن افترقا في كونِ أحدهما بقيَ حقيقةً (1)؛ لأنَّ ما بقيَ ليس غيراً ولا مخالِفاً؛ لأنَه يصلحُ للعمومِ ابتداءً وما صلُحَ للابتداءِ كان أصلحَ للبقاءِ؛ لأنَّ البقاءَ والدوامَ آكَدُ (2).
__________
(1) أي بقي على حقيقته ولم يصبح مجازاً، وسيرد تفصيل المسألة في الصفحة: 365 وما بعدها.
(2) انظر ذكر الاعتراضات في "العدة" 2/ 528 وما بعدها، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 68 وما عدها.

(3/363)


فصل
في إيضاحِ شُبَههم
فمنها: أن قالوا: إنَ اقتضاءَ العمومِ، أو إن المقتضي للعمومِ: إنما هي هذه الصيغ إذا تجردت عن قرينةٍ تصرفُها. ولا طريقَ إلى العلمِ بتجرُدها عن القرينةِ إلا البحثُ الكاشفُ لأحدِ أمرين: إما القرينةُ الصارفة لها عن الوضعِ الأوَل، أو تجرّدها عن قرينةٍ، فصار كالبينة التي لا تُعلمُ صلاحيتُها لإثباتِ الحقوقِ إلا بالبحثِ عن باطِنها لتتضحَ براءتُها من أسبابِ الريبةِ.
فيقالُ: إنَ الأصلَ عدمُ القرينةِ؛ ولأنه يلزمُ عليه الأعداد وأسماءُ الحقائق، فإنهما جميعاً يُصرفان (1) عن ظاهرهما بالقرائنِ، ولا يعتبرُ العملُ بهما بعَدم البحث.
ومنها: أن قالوا: إنَ سامعاً إذا سمع قولَه سبحانه: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر: 62]، فلا يخلو أن يعتقد عمومَه بالبادرةِ حتى إنه يعتقدُ خلقَ الكلامِ والعلمِ والإرادةِ، أو يتوقفَ لينظرَ ما يجوزُ أن يدخلَ تحتَ العمومِ وما لا يجوز فيخرِجه بدلالةِ التخصيصِ، ولا يجوزُ الأوَل بإجماعِنا، فلم يبقَ إلا الثاني.
فيقالُ: إنَّ لأدلةِ العقولِ فيما يتعلَقُ الله سبحانَه وصفاتِه الواجبةِ له سابقةً لسماعِ كل سمعٍ يردُ من الرسولِ صلى الله عليه وسلم، كما كانت سابقةً لإرسالِ الرسولِ في تجويزِ الإرسالِ عليه، فلما جوَّزت الإرسالَ سمعنا ذلك لا جَرمَ منه، ولو لم تسبق أدلةُ العقولِ بتجويزِ (2) الرسالةِ عليه سبحانَه والسفارةِ عنه لما سمعناه، وتلكَ أدلةٌ ظاهرةٌ لا تحتاجُ إلى تجديدِ نَظَرٍ وبحثٍ بعد ورودِ صيغةِ العمومِ.
__________
(1) في الأصل: "يقرنان".
(2) في الأصل: "بتجوز".

(3/364)


فصل
في الكلامِ مع أصحابِ أبي حنيفة في الفرقِ بين سماعِ ذلكَ من الرسولِ صلى الله عليه وسلم وسماعِه من غيره.
إنَّ الصيغةَ الموضوعَة في اللغةِ لا تختلفُ باختلافِ الناطقين بها، بدليلِ أسماءِ الجموعِ والحقائقِ الموضوعةِ من أسماءِ الأجناسِ، والأنواعِ، والأشخاصِ، فنقولُ: صيغةٌ موضوعةٌ، فلا يجبُ التوقفُ عن اعتقادِ موجَبها والعملِ به، كما لو سُمِعت من الرسول - صلى الله عليه وسلم -.

شبهةُ القائلِ بالفرقِ: ان الرسولَ صلى الله عليه وسلم لا يؤخرُ بيانَ التخصيصِ، إذا كانت الصيغةُ مخصصةً، إما ببيانِ ذلكَ بدلالةٍ، أو قرينةٍ تُذكرُ، فإنَّه لا يجوزُ عليه تأخيرُ اليَبانِ، بخلافِ آحادِ أمَّتِه من المبلِّغينَ عنه والرواةِ، فإنَه لا يجبُ عليهم ذلكَ.
فيقالُ: إنَ تأخيرَ البيانِ عن وقتِ الخطابِ جائز عندنا، وسيأتي الكلامُ في ذلكَ إن شاء الله على أنَ المبلِّغَ عن النبي صلى الله عليه وسلم لا ينبغي له أن يؤديَ الصيغةَ إلا على ما سمعها، ولا يُحدِث فيها شيئاً؛ لأنَّه يكون تلبيساً، فإذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - لا يجوزُ له أن يُعزَيَ الصيغةَ عن بيانِ تخصيصٍ إن كان فيها، فالمبلغُ أيضاً عنه لا ينبغي له أن يبلِّغَها متجرِّدةً عن القرينةِ التي سمعها من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -؛ فلا فرقَ بينَهما إذاً.