الواضح في أصول الفقه فصل
في العمومِ إذا خُصّ، هل يبقى على حقيقتِه أو يكونُ مجازاً؟
فإنه حقيقةٌ فيما بقي، ولا يصير مجازاً بتَخصيصهِ، هذا مذهبنا
(1)؛ لأنَّ أحمدَ رضي الله عنه أخذَ بعموماتٍ قد خُصَّت في
عدةِ مواضعَ، وبه قال أصحابُ الشافعيِّ (2)،
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 533، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/
138و"المسودة": 116، و"شرح
الكوكب المنير" 3/ 160.
(2) هو رأيُ كثير من أصحاب الشافعي، كأبي حامد الإسفراييني،
وابن السمعاني، وابن السبكي=
(3/365)
خلافاً للمعتزلةِ في قولهم: يصير مجازاً
فيما بقي على الإطلاق، سواءٌ خُصِّ بلفظٍ صاحَبَه، واقترنَ به
لفظٌ، [أم] (1) تأخَّر عنه.
واختلف أصحابُ أبي حنيفة (2)، فحكى أبو عبد الله الجُرجاني عن
عيسى بنِ أبان أنَّه يصيرُ مجازاً يمنع من التعلقِ بظاهرِه،
سواء قارنته دلالةُ التخصيصِ، أو انفصلت عنه.
وحُكي عن أبي الحسن الكرخي أنَّه كان يقول: يصيرُ مجازاً إذا
كان التخصيصُ منفصلاً عنه، ولا يصيرُ مجازاً إذا كان متصلاً
به.
وٍ حُكي عن أبي بكر الرازي أنَّه يكون مجازاً، إلا أن يكونَ
الباقي جمعاً، فيبقى حقيقةً.
وقالت الأشعريةُ: يكونُ مجازاً، وإنَّما يصحُّ ذلكَ عندهم إذا
ثبت أنَّه عمومٌ بدلالةٍ، ثم خُصَّ بدلالةٍ، إذ لا عمومَ عندهم
على الإطلاقِ.
__________
= ووالده، وخالف في ذلك آخرون من أصحاب الشافعي، كالغزالي
والآمدي، وقالوا: إنَّ العام بعد تخصيصه يصير مجازاً.
انظر "البرهان"1/ 411 - 412، و"التبصرة" ص (122)، و"المستصفى"
2/ 54 - 56 و"جمع الجوامع" 2/ 37، و"الإحكام" للآمدي 2/ 330،
و"البحر المحيط" 3/ 259 - 263.
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) ورأي عامةِ أصحاب أبي حنيفة: أن العام بعد تخصيصه يبقى
حقيقة، سواءٌ كان دليل التخصيص متصلاً به غير مستقل بذاته، أم
كان منفصلاً عنه مستقلاً بذاته.
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة: إنه يكون مجازاً في الباقى سواء كان
دليل الخصوص متصلاً به أم منفصلاً عنه. وهذا رأي عيسى بن أبان.
وفصَّل البعض؛ فإن كان دليل التخصيص متصلاً غير مستقل بنفسه
يبقى حقيقة في الباقي، وإن كان منفصلاً يصير مجازاً. وهذا رأي
أبي الحسن الكرخي. انظر "أصول السرخسي" 1/ 144. و"ميزان
الأُصول" 1/ 420 - 423.
(3/366)
فصل
في جمع الأدلة لنا
فمنها: أنَّ فاطمةَ رضوانُ الله عليها احتجت على الصِّديقِ
رضوانُ اللهِ عليه بقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي
أَوْلَادِكُمْ ..} [النساء: 11] الآية، ومعلومٌ أنَ التخصيص قد
دخلَ عليها، بإخراجِ الكافرِ من الأولادِ، والقاتلِ، ولم يُنكر
عليها هوَ ولا أحد 21/ 97، من الصحابةِ الاحتجاجَ بذلكَ، بل
عدَلَ إلى روايةِ حديثٍ عن أبيها صلوات الله عليهما، وهو قوله:
"نحنُ معاشر الأنبياء لانُورَث، ماتركناه فهو صدقةٌ" (1).
ومنها: أنَ هذه الصيغةَ لو وردت على نَفيٍ بعدَ التخصيصِ من
الجماعةِ التي انتهى التخصيصُ إليهم؛ لكانت حقيقةَ في العمومِ،
فوجَبَ أن تكونَ دلالةٌ من اللفظِ قائمةً بعد التخصيصِ،
كماكانت قبل التخصيصِ.
ومنها: أنَ الأصل في الاستعمالِ (2) الحقيقة، وقد وجدنا
الاستثناءَ والشرطَ والغايةَ في الاستعمالِ أكثرَ من أن يُعَد
ويُحصى، فدلَّ على أنَ ذلك حقيقةٌ.
ومنها: أنَ فوائدَ اللفظِ تختلفُ بما يدخلُ عليها من الزيادةِ
والنقصانِ، مثالُه: أنَكَ تقولُ: زيدٌ في الدار فيكونُ خبراً،
ثم تزيدُ فيه ألفَ الاستفهامِ، فتقول: أزيدٌ في الدارِ؟ فيكون
استفهاماً واستخباراً، فلو قلنا: إنَ ما اتصلَ باللفظِ من
الشرطِ والاستثناءِ، يجعلُ الكلامَ مجازاً فيما بقي، لوجوبِ أن
يكونَ قولُه: أزيدٌ في الدارِ؟ مجازاً في الاستفهامِ؛ لأنه لو
سقطَ منه الألفُ، لصار خبراً محضاً، وفي دعوى هذا وركوبه
إسقاطُ فوائدِ الألفاظِ.
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 318 من هذا الجزء.
(2) في الأصل: "استعمال".
(3/367)
ومنها: أنَ الكلامَ إنما يكونُ مجازاً إذا
عُرف له حقيقة، كالحمارِ حقيقةً: الحيوانُ النَّهَّاقُ، وإذا
استُعمل في الآدمي البليدِ، كان مجازاً؛ لأنَه استعملَ في غيرِ
ما وُضعَ له، والعمومُ مع الاستثناءِ ما استعملَ في غيرِ هذا
الموضعِ على سبيلِ الحقيقةِ، فلا يجوزُ أن يُجعلَ مجازاً في
هذا الموضعِ (1).
ومنها؛ أنَ دلالةَ التخصيصِ بمنزلةِ الاستثناء المتصلِ
بالجملةِ من جهةِ أن كُلَّ واحدِ منهما يُخرجُ من الجملةِ ما
لولاهُ لدَخَلَ فيها، فإذا كان الاستثناءُ غيرَ مانعٍ من بقاءِ
اللفظِ فيما بقي، وصارت الجملةُ مع الاستثناءِ عبارةً عما عدا
المخصوصَ بالاستثناءِ، كذلك ها هنا.
فإن قيل: [إنما كان كذلك في] (2) الاسثتناء مع المستثنى منه؛
لمكان الاتصالِ كالجملةِ الواحدةِ، فيصير عبارةً عن الباقي؛
لأن للتسعة اسمين: [تسعة، و] (3) عشرةٌ إلا واحداً، وأيّهما
عُبَّر به كان حقيقةً، كما ان في الجمع والتثنية لا فرق بين
قوله: ثلاثة، أو: اثنان وواحد (4). في أنَّ العبارتين تفيدان
معنى واحداً، وكذلكَ دلالةُ التخصيصِ المتصلةِ.
فأمّا المنفصلُ من التخصيصِ عن صيغةِ العمومِ، فإنَّه لا يكونُ
جملةً ولا كالجملةِ الواحدةِ، وإنَّما كانت جملة هي حقيقة في
عددِ أو في استغراق جنسٍ، فبدِّلت بالدَّلالةِ عما وُضعت له.
قيل: كذلكَ التخصيصُ المنفصلُ أيضاً يصيرُ مع الجملةِ الأولى،
كالمتصلِ، ولا
__________
(1) انظر "التبصرة" للشيرازي: 123.
(2) ما بين حاصرتين زيادة يقتضيها السياق، وهي بنصها في
"العدة" 2/ 542.
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) مكررة في الأصل.
(3/368)
فرقَ بينهما؛ لأنها ملحقةٌ بها وقاضيةٌ
عليها، ولو كانت كالجملةِ الأخرى لكانت نسخاً، ولمّا لم يكن
نسخاً، ثبت أنَها كالاستثناءِ من حيثُ إنها أبانت عن المرادِ
بالصيغة الأولى (1).
فصل
في شُبَههم
فمنها: أن الصيغة موضوعةٌ للاستغراقِ والشمولِ لجميعِ الجنسِ،
فإذا جاءت دلالةُ التخصيص صارت مصروفةً عمّا وُضعت [له] (2)،
وإذا ثبَتَ بهذهِ الجملةِ أنه معدول به عما وُضِعَ له، صارَ
مجازاً، وصار بمثابةِ اسم الأسدِ إذا استعملَ في الرجلِ
المقدام على الحربِ، والحمارِ إذا استعملَ في الرجلِ البليدِ،
فإنَه يكون مجازاً، كذلك ها هُنا، ولو كان ما صرفته الأدلةُ
المنفصلةُ عن موضوعِه ومقتضى إطلاقِه بعد صرفِه حقيقةً فيما
صُرفَ إليه للدلالة أو القرينة، لصار كل مجازٍ حقيقة فيما
اقتضته القرينة، ولسقط المجازُ من كلامِ العرب جملة، ولصار
القولُ في الإنسانِ البليدِ والرجلِ الشديدِ: إنه ثورٌ وحمار
وأسد حقيقةً مع القرائنِ الدالةِ، مع أنَ القصدَ به غيرُ ما
وُضع له في الأصلِ.
ولما بَطلَ ذلكَ وثبتَ المجازُ من الكلامِ، بَطلَ ما ادعوه.
فيقالُ: هذا باطل بما إذا قيَّده بالشرطِ أو الغاية، أو خصَّه
بالاستثناءِ على قولِ من سلم ذلكَ، فمنَه موضوع للجنسِ، وقد
استُعملَ مع الاستثناءِ في غيرِ ما وضع له، ثم لم يصر مجازاً.
على أنَه لما صُرِفَ بقي على جملةٍ صالحةٍ، كونها عموماً، فهي
كالعددِ الذي إذا
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 542 - 543.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3/369)
زالَ بعضُه بقي الباقي حقيقةً في الجمعِ،
بخلافِ الأسماءِ التي قاسوا عليها.
فإن قيلَ: هو مع الاستثناءِ موضوعٌ للخصوصِ لا للعمومِ، فما
استعمل إلا فيما وُضعَ له.
قيل: وكذا نقولُ في مسألتنا: لفظ العمومِ مع دلالةِ التخصيصِ
موضوعٌ للخصوصِ، لا للعمومِ، فما استعملَ إلا فيما وضِعَ له.
ويخالف هذا ما ذكروه من استعمالِ الأسدِ في الرجلِ الشجاعِ،
والحمار في الرجلِ البليدِ، فإنَّ الأسدَ لم يوضع للشجاعِ، ولا
الحمارَ للرجلِ البليدِ في اللغة، فإذا استعملَ في ذلك حكمنا
أنَّه مجازٌ، وليس كذلك لفظُ العمومِ، فإنه متناوِلٌ لكل واحدٍ
من الجنس ما أخرجه الدليلُ وما بقي تحتَه، وواقعٌ عليهما، فإذا
استعملَ في الخصوصِ، فقد استُعملَ فيما يقتضيه اللفظُ.
يَدُل عليه: أن القرينةَ فيما ذكروه تُبق ما أريدَ باللفظِ،
والقرينة فيما اختلفنا فيه تبين ما لا يرادُ باللفظِ، فبقي
الباقي على مقتضى اللفظ (1).
فصل
في الدلالةِ على من فرَّق بينَ المتصلِ والمنفصل
لأنَّ المتصل (2) معنى يقتضي تخصيصَ العمومِ، فلم يَصِو مجازاً
في الباقي، دليلُه ألشرطُ والاستثناءُ، وأيضاً فإنَ اللفظَ
اقتضى استغراقَ الجنسِ أجمعَ، فإذا دلَّ الدليل على أن بعضَ
(3) الجنسِ غيرُ مرادٍ، بقيَ الباقي على مقتضى اللفظ، فوجبَ أن
يكونَ حقيقةً فيه.
__________
(1) انظر "العدة"2/ 543 - 544، و"التبصرة": 124.
(2) في الأصل: "المنفصل"، والمثبت من "العدة"2/ 539،
و"التبصرة". 124.
(3) تكررت في الأصل.
(3/370)
فصل
في الدلالةِ على أنَّه يجوزُ تخصيصُ العمومِ إلى أن يبقى واحدٌ
(1)، فلا يتخصصُّ جوازُه بأن يبقى أقلُّ الجمعِ وهو الثلاثةُ،
وبه قال أكثر أصحاب الشافعي (2)، خلافاً لأبي بكر الرازي (3)
فيما حكاه الجُرجاني عنه، وأبو بكر القَفّال. يجوزُ تخصيصُ
الجمعِ إذا كان الباقي جمعاً حقيقةً، ولا يجوزُ النقصانُ منه
إلا لما يجوزُ النسخُ به (4).
فالدلالةُ على ما ذكرناه: أنَ ما جاز تخصيصهُ إلى الثلاثةِ جاز
تخصيصهُ إلى الواحدِ، كمنْ، وما، فإنَّه لو قال: من دخلَ
الدارَ؟ أو: من في الدار؟ أو: ما في الدار؟ حسُن جوابه بالواحد
من الجنس، كما يحسُن جوابُه بالثلاثةِ، أو بقولِ لفط من ألفاظِ
العمومِ، فصارَ تخصيصهُ إلى أن يبقى دونَ الثلاثِ، كمن، وما.
__________
(1) هذا هو المنصوص عن الإمام أحمد وأصحابه.
انظر هذه المسألة وما تبعها من أقوال وأدلة في "العدة" 2/ 544
- 547 و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 131 - 135، و"المسودة": 116.
(2) هذا ما ذكره الشيرازي في "التبصرة": 125،حيث قال:"يجوز
تخصيص أسماء الجموع إلى أن يبقى واحد، في قول أكثر أصحابنا"
ونقل الزركشي عن الجويني أنه قال في "التلخيص": إن هذا القول
هو قول معظم أصحاب الشافعي. انظر: "البحر المحيط" 3/ 257 - 258
و "المحصول" 3/ 12 - 14.
(3) رأي أبي بكر الرازي -وفق ما ينقل عنه- أنه يمنع أن ينقص
العام بعد التخصيص عن أقل الجمع، وهو ما رجحه مجد الدين ابن
تيمية في "المسوَّدة": 117، وانظر "الإحكام" للآمدي 2/ 412،
و"البحر المحيط" 3/ 255.
(4) يرى أبوبكر القفال: أن العام إن كان ظاهراً مفرداً "كمن"
و"الألف واللام" نحو اقتل من في الدار واقطع السارق، جاز
التخصيص إلى أقل المراتب، وهو واحد، وإن ورد العام بلفظِ
الجمعِ جاز إلى أقل الجمع. انظر "الإبهاج شرح المنهاج" 2/ 125،
"البحر المحيط" 3/ 256 و"التبصرة":125.
(3/371)
وأيضاً: ما جازَ تخصيصُ العمومِ به إلى
الثلاثِ جازَ التخصيصُ به إلى الواحدِ،
كالاستثناءِ.
وأيضاً: فإنَ القرينةَ المنفصلةَ كالقرينةِ المتصلةِ؛ لأنَّ
كلامَ صاحبِ الشريعةِ وإنْ تفرّق، فإنه يجبُ ضمُ بعضِه إلى
بعضٍ، وبناءُ بعضِه على بعضٍ، فإذا كانَ كذلك، وكان المتصلُ
صحيحاً ما (1) بقي من اللفظِ شيءٌ، كذلكَ التخصيصُ.
فصل
في شُبههم
قالوا: إن اللفظَ موضوعٌ للجمعِ، فإذا لم يبقَ ما يقعُ عليه
اسمُ الجمعِ، صارَ مستعملاً في غيرِ ما وُضع له، فاحتاج إلى
دليلٍ يجوزُ به النسخُ.
فيقالُ: إنَا لا نُسلِّم أنه لا يجوز استعمالُ لفظِ الجمع فيما
دونَ الثلاثِ، ولهذا قال الله تعالى: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ} [آل عمران:
173]، وأراد به نُعيماً (2)، وقال: {أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ
مِمَّا يَقُولُونَ} [النور: 26] وأراد به عائشةَ وحدَها (3)،
وعلى أنَّ هذا يبطلُ به إذا خصَّه بالاستثناءِ، فإنَّه يجوزُ،
وإن كان اللفظُ يستعملُ فيما دونَه.
فإن قيل: أليسَ من مذهبِكم أنَّه لا يجوز استثناء الأكثر؟ فكيف
أجزتم رفع الكُلّ إلا واحداً ها هُنا.
قيلَ: ليس التخصيصُ من الاستثناءِ بشيءٍ، بدليلِ أنَّه (4)
لايلحق بالمستثنى منه إلا مع اتصالِ الكلامِ، وفي التخصيصِ
يلحقُ الخصوصُ بالعمومِ مع الانفصالِ.
__________
(1) في الأصل: "مهما"، والمثبت من "العدة"2/ 546.
(2) يعني نُعيمَ بن مسعود رضي الله عنه، وقد سبق استدلال
المصنف بالآية في الصفحة: 343.
(3) انظر "تفسير الطبري"10/ 108، و"تفسير ابن كثير" 6/ 34.
(4) في الأصل: "أن".
(3/372)
على أنَّ هذا السؤالَ لا نقولُ به، بل
عندَك يجوزُ استثناء الأكثرِ, ومن جنسِه مايرفعُ الأصلَ وهو
النسخُ؛ لأنَه تخصيصُ الزمانِ، كما أنَّ هذا تخصيصُ أعيانٍ.
فإن قيلَ: قد حدَّ الناسُ العمومَ بماشملَ اثنينِ فصاعداً،
ولأنكم (1) إذا أبقيتموه على واحد لم يبقَ فيه للعمومِ مَساغٌ؛
لأنَّه لا يبقى ما يمكنُ معه التخصيصُ، وكل ما لا يدخلُه
التخصيصُ فليس بعمومٍ.
قيلَ: باطلٌ بالاستثناءِ.
فصل
يجوزُ تخصيصُ العمومِ بدلالةِ العقلِ، وبه قالَ أكثرُ العلماءِ
(2)
وحكى بعض الأصوليين أنَّه زعم قوم أنه لا يجوز ذلك (3).
__________
(1) في الأصل: "أو لأنكم"، والمثبت أنسب للسياق.
(2) "العدة" 2/ 547، و"التمهيد" 2/ 101، و"شرح الكوكب المنير"
3/ 279، و"الإحكام" للآمدي "2/ 459، و"المستصفى"2/ 99، و"البحر
المحيط" 3/ 355، و"الفصول في الأصول" للجصَّاص 1/ 146، و"ميزان
الأصول" 1/ 467.
(3) نسب الآمدي هذا الرأيَ لطائفةِ شاذةِ من المتكلمين
"الإحكام" 2/ 459.
وقد ورد عن الإمام الشافعي بعض العبارات التي توهم إنكاره
التخصيص بالعقل، من ذلك ما قاله في قوله تعالى: {اللَّهُ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر 62] أنه عام لا خصوصَ فيه.
"الرسالة": 54 رغم أنَه لا تدخل تحت ذلك صفاتُ اللهِ سبحانه.
والخلاف كما ينصُّ الجويني، وابن القشيري، وإلكيا الطبري،
وغيرهم من الأصوليين، خلاف لفظي، ذلك أن الجميعَ متفق على جواز
دلالة النقل على خروج شيء عن حكم العموم، والاختلافُ في تسميةِ
ذلكَ تخصيص، فالجمهور يسمونه تخصيصاً على اعتبار أنَّ اللفظ
وفق أصل وضعه يصلح لشمول غير المعقول، والمخالفون يرونَ أن
اللفظَ ابتداءَ لا يتناول غير المعقول؛ لأنَّه غير موضوع له.
فغدا الخلاف خلافاً لفظياً، والنتيجة واحدة.
انظر "البرهان" 1/ 409، و"المستصفى" 2/ 100، و"البحر المحيط"
3/ 357.
(3/373)
فصل
في أدلّتنا
فمنها: أنَّ القائلين بالعموم، وهم الذي يُتصوّر معهم الخلاف،
قد علموا أن قوله تعالى: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر 62]،
ظاهره في اللغة العموم، وليس في اللغة مايخصّ، وكذلك قوله:
{وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرُ} [المائدة: 120]، {إِنَّهُ
بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)} [فصلت: 54]، {وَمَا
أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} [الأنبياء:
107]، {ومَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا
وَنَذِيرًا} [سبأ: 28]، إنَما دلّت العقولُ على أنَه لا تدخلُ
تحتَ ذلك صفاتُ اللهِ سبحانَه، ولا يدخلُ تحتَ الرحمةِ في
إرسالِه - صلى الله عليه وسلم - أبو لهبٍ وأبو جهلٍ، وإنَّما
كان رحمةً لمن صدقه وآمنَ به.
ومنها: أنَه إذا جازَ صرفُ الكلامِ عن ظاهرِه إلى غيرِ
الظاهرِ، مثلُ صرفِه عن الحقيقةِ إلى المجازِ بدلالةِ العقلِ،
جازَ تخصيصُ العمومِ بدلالةِ العقلِ، مثلُ قوله: {وَأُشْرِبُوا
فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، ومثل قوله: {ذَلِكَ
عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]، والعِجلُ
لا يدخلُ القلوبَ بذاتِه، لكنْ تقديرُه: حُبُّ العجلِ،
والآدميُّ لا يكونُ قولاً الله سبحانَه، إنَّما يكونُ بكلمةِ
اللهِ، أو يكونُ قائلاً قولَ اللهِ، وكلمةَ الحقِ، فلا فرقَ
بينَ الظاهرِ والعمومِ، ولا بينَ الخصوصِ والمجازِ.
ومنها: أنَّ دلالةَ العقلِ دلالةٌ تؤدي إلى العلمِ، فجازَ
التخصيصُ بها، كالكتابِ والسنةِ والإجماعِ.
فصل
يجمع شُبهات المخالف
فمنها: أنْ قالوا: إنَ دلالةَ العقلِ سابقةٌ للألفاظِ والصيغ
المقتضية للعمومِ، ومحالٌ أن تتقدّمَ دلالةُ التخصيصِ على
اللفظِ المخصوصِ، كما أنَه يستحيلُ أن تتقدَّمَ
(3/374)
صيغةُ التأكيدِ على اللفظِ المؤكَّد،
وتقديمُ الناسخِ (1) على المنسوخِ؛ لأنَّ رفعَ الشيءِ قبلَ
وجودِه محالٌ.
ومنها: أنْ قالوا: لو جازَ تخصيصُ العمومِ بدليلِ العقلِ، لجاز
النسخُ بدليلِ العقلِ.
ومنها: أنَّه قد ثبتَ أنَ الاستثناءَ كالتخصيصِ من حيثُ إنَ كل
واحدٍ منهما يُخرجُ من اللفظِ الجامعِ الشاملِ مالولاه لدخلَ
فيه، ثمَّ أجمعنا على أنَ الاستثناءَ لا يجوزُ تقدُّمُه على
المستثنى منه، كذلكَ يجبُ أن لا يجوزَ تقدُمُ الخصوصِ على
المخصوصِ منه (2).
فصل
في الأجوبةِ لنا عن شُبَههم
أمَّا الأوَّلُ، وقولُهم: دلالةُ العقلِ سابقةٌ. لا يُسلَّم،
بل في هذا تفصيلٌ؛ فإنْ كانَ العامُّ كلاماً لله سبحانَه،
فإنَّه السابقُ بقِدَمِه وأزليته للعقل (3) ودليلِه، فلا يصحُّ
ما ادَّعوه على الإطلاقِ، فبطلت دعواهم في كلامِ الله.
فأمَّا كلامُ غيرِه؛ فإنَّا لا نقولُ: إنَ دليلَ العقلِ خصوص
قبلَ وجودِه؛ لأنَّ قولنا خصوصٌ، من باب المتضايفاتِ (4)، فإذا
لم يوجد عمومٌ، فلا خصوصَ، فنحنُ لا نسمَّي دلالةَ العقلِ
تخصيصاً للعبارةِ قبل حُصولها ووجودِها، وإنَّما نصفه بأنَّه
تخصيصٌ بعدَ وجودِ العبارةِ، وهذا حكمُ الدلائلِ، وأنَّها
تارةً تتقدَمُ فتدل على ما يكونُ في الثاني، وتارةً تتأخّرُ
فتدلّ على أمرٍ كان.
__________
(1) في الأصل: "وتقديم النسخ والناسخ".
(2) اتظر "العدة" 2/ 55، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 104.
(3) في الأصل:"العقل"، وكلام المصنف هنا ليس على الإطلاق، فقد
أجمع أئمة السلف على أن الله تعالى لم يزل متكلماً إذا شاء،
ومتى شاء، وكيف شاء، وأن نوع الكلام قديم، وإن لم يكن الصوت
المعني قديماً. انظر "شرح العقيدة الطحاوية": 174.
(4) تقدم تعريف التضايف في الصفحة 352 من الجزء الأول.
(3/375)
ألا ترى أنَّ الدليلَ قد دل على أنَّ الله
سبحانَه يثيبُ المؤمنين بالجنةِ، وأنَه يعاقبُ الكافرَ
بالنارِ, وإن كان مدلولُ هذا الدليلِ وهو عينُ الإثابةِ
والعقابِ، متأخّراً، كذلكَ دلالةُ التخصيصِ في العقلِ سابقةٌ
لمدلولِ العمومِ.
ولأنَّه ثبت بدلائل العقولِ أنَّ اللهَ سبحانَه خالقٌ، وأن
صفاتِه قديمة غيرُ مخلوقةٍ، وأنَّه واحدٌ ليس بذي أعضاءَ ولا
جوارحَ، فإذا وردت صيغُ: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الزمر 62]،
{وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ} [الرحمن: 27]، {بَلْ يَدَاهُ
مَبْسُوطَتَانِ} [المائدة: 64]، اقتضت دلالةُ العقلِ السابقةُ
(1) صرفَ العمومِ إلى الخصوصِ، وصرفَ ظاهرِ هذه الأسماءِ عن
الأعضاء (2)؛ ولأنَ الدلائلَ باقية إلى ما بعدَ نزولِ هذه
الآياتِ، فلا معنى لتخصيصِها بالتقدُمِ على ما خصصه.
وأمَّا تعلقهم بالمنعِ من التخصيصِ به لامتناعِ النَّسخ به،
فليسَ التخصيصُ من النسخ في شيءٍ؛ لأنَّ النّسخَ رفعٌ لما ليسَ
بأصلَح، أو ما فيه مفسدةٌ وليسَ في العقل ما يقتضى الأصلَح
والأفسَد؛ لأنَّ الحظرَ والإباحةَ والإيجابَ ليسَ من قضاياه،
فأمَّا الإحالةُ والتجويز, فإنَّها من قضاياه التي لا خلافَ
فيها، فهو يقضيى بتجويزِ جائزات كونها، وإحالةِ الممتنعات،
وإيجاب واجبات وجودها، فأما الأحكامُ فلا.
والتخصيصُ تدخل عليه قضاياه (3)، فإنَّه مما يقضي أنَّ الصفاتِ
المخصوصةَ تجبُ لله سبحانَه، فلا تدخلُ تحتَ مقدورٍ, ولا يجوزُ
زوالها كما وجبَ وجودُها، فإذا قال: {خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}
[الزمر 62]، أرشدَ العقلُ إلى أنَّه لا يدخلُ تحتَ هذا العمومِ
ما وجبت له من الصفاتِ، وإذا قال: فولِّ وجهَك شطرَ بيتِ
المقدسِ. لم يكن في قضاياه تقديرُه مدةَ الاستقبالِ، ونقلُ
الاستقبالِ إلى الكعبةِ، ولأنَ النسخَ
__________
(1) في الأصل: "السابقة على"، وبحذف (على) يستقيم المعنى.
(2) أي: لا نُشَبِّهها باعضاء المخلوقين، ولكن نُثبتها بما
يليق بجلال الله وعظمته سبحانه. انظر "شرح العقيدة الطحاوية":
264 - 266
(3) أي تدخلُ على التخصيصِ قضايا العقلِ، من جوازِ الوجود،
ووجوبِه، وامتناعه.
(3/376)
بالقياسِ وخبرِ الواحدِ يجوز وذلكَ لأنَه
بيانُ المرادِ باللفظِ، والنسخُ بيانُ غايةِ الحكمِ، وذلكَ لا
يعلمُه إلا من يحيطُ علماً بالمصالحِ ومن له المشيئةُ
النافذةُ، ولأنَّ العقلَ يجوز بقاءَ الحكمِ الذي شَرعَه اللهُ،
إذ قد أجمع (1) أربابُ العقولِ من أهلِ الشرائعِ أنَّه لا
يجوزُ أن يردَ الشرعُ بغير مُجوَّزاتِ العقولِ، فإذا جوَّزَ
ذلك وعُلم أن الواضعَ له الحكيمُ الأزليُّ الذي لا يَصدرُ عنه
ما يقضي عليه العقلُ، بل يقضي به العقلُ، فلا سبيلَ إلى نسخِ
ذلك الحكمِ بالعقلِ.
فأمَّا إذا قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ}
[النساء: 1] حسُنَ أن يشعر العقلُ بتخصيص هذا الأمرِ العامِّ
بإخراجِ من لا يَسوغُ في العقلِ خطابُه من الأطفالِ والمجانين.
وقد أجابَ بعضُ الناسِ: بأنَ معنى النسخ ليس بأكثرَ من رفعِ
الحكمِ الحكمَ، أو مثلَ الحكمِ المشروعِ في مُستقبل الزمان
لمصلحةٍ تجدَّدت، وهذا ينهضُ بهِ دليلُ العقلِ في سقوطِ خطابِ
اللهِ المستمرِ في كلِّ زمانٍ بما يتجددُ من عجزِ المكلَفِ عن
النهوضِ بالتكليفِ بذلكَ الحكمِ المشروعِ، فقد نهضَ بالنسخِ
على هذا الوجهِ، وإنَّما منعَ الاسم (2)؛ لأنَّهم خصّوا اسمَ
النسخِ بما حَصلَ بلفظِ الشارعِ، حتى إنَ ما رفعه الإجماعُ لا
يُعدُّ نسخاً، وإلا فالمعنى قد حصَلَ.
وأمَّا تعلقهم بالاستثناءِ وأنَّه لما لم يَجُزْ تقدمُه على
المستثنى منه، كذلك التخصيصُ. فلا يصحُّ؛ لأنه لو ابتدأ بقوله:
إلا زيداً، لم يُعدَّ متكلِّماً بلغةِ العربِ، وإن قالَ بعد
ذلكَ: رأيتُ الناسَ. ولو قال: إنَّما يقعُ خطابي بالتكاليفِ
للعقلاءِ البالغين، ثمَّ قالَ: يا أيها الناسُ اتقوا ربكم،
اعبدوا ربكم. صحَّ، وانطبقَ الأوَّلُ على الثاني بالتخصيصِ،
فصارَكأنه قال: يا أيها الناس العقلاءُ اتقوا ربكم (3).
__________
(1) في الأصل: "اجتمع".
(2) أي: منعَ تسمية طروءِ العجز على النهوض بالتكاليف: نسخاً.
(3) انظر "العدة" 2/ 549 - 550، و"التمهيد" 2/ 103 - 105.
(3/377)
فصل
يجوزُ تخصيصُ القرآنِ بأخبارِ الآحادِ، سواءً كانَ العمومُ قد
دخله التخصيصُ أو لم يدخله، نص عليه أحمدُ (1)، وبه قالَ
أصحابُ الشافعيِّ (2).
وقالَ بعضُ المتكلِّمين: لا يجوزُ (3).
وقال عيسى بنُ أبان: ما خُصَّ بدليلٍ جازَ بخبرِ الواحدِ، وإن
لم يدخله التخصيصُ فلا يجوزُتخصيصُه ابتداءً بخبرِ الواحدِ
(4).
واختلفَ القائلونَ بجوازِه، فقال فريقٌ: يجوز أن يرِد، لكن لم
يرد. وقال قومٌ: قد وردَ. ونحنُ منهم.
فصل
في جمع الأدلة لنا
فمنها: ما رُويَ عن الصحابةِ مما يَدُلُّ على مثلِ مذهبنا:
أنَّهم خصّوا قوله:
__________
(1) "العدة"2/ 550، و"المسودة": 119، و"التمهيد" لأبي الخطاب
2/ 105، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 359.
(2) "البرهان" 1/ 427، و"المستصفى" 2/ 114، و"الإحكام" للآمدي
2/ 472، و"المحصول" 3/ 85، و" البحر المحيط "3/ 364.
(3) انظر نسبة هذا الرأي لطائفة من المتكلمين، في "العدة"2/
550، و"التمهيد" 2/ 105
و"البحر المحيط" 3/ 365.
وقد ذكر الجوينيُ هذا الرأيَ في "البرهان"1/ 426 دون أن ينسبه
لأحد.
(4) وهو ما ذهب إليه أكثر أصحاب أبي حنيفة، فهم ينصّون على
أنَّه لا يجوز تخصيصُ عموم الكتاب الذي لم يثبت خصوصه، بخبر
الواحد ولا بالقياس؛ لأنَهما ظنيان، فلا يجوزُ تخصيص القطعي؛
وهو عموم القرآن بهما.
انظر"الفصول في الأصول"1/ 155 - 156، و"أُصول السرخسي"1/ 142،
و"ميزان الأُصول" 1/ 473،"وكشف الأسرار" 1/ 164.
(3/378)
{وأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ}
[النساء: 24] بحديث أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم
-: "لا تُنكَح المرأةُ على عمّتها ولا على خالتها" (1).
ومن ذلك: تخصيصهم قوله تعالى في آية المواريث: {يُوصِيكُمُ
اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ
الْأُنْثَيَيْنِ} [النساء: 11]، بما رُويَ عن النبي - صلى الله
عليه وسلم -: "لا يرثُ القاتل" (2)، وقوله: "لا يرثُ الكافرُ
من المسلمِ، ولا المسلمُ من الكافر" (3)، وخَصّوا آيةَ
المواريثِ حيثُ احتجّت بها فاطمةُ بقوله - صلى الله عليه وسلم
-: "نحنُ معاشرَ الأنبياءِ لا نورث" (4).
فإن قيلَ: فقد رُوي أن عمر بن الخطاب [ردَّ] (5) حديثَ فاطمة
بنت قيس، حيث لما روت عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه
لم يجعل لها سُكنى ولا نفقةً، قال: "لا ندعُ كتابَ ربِّنا
وسنّةَ
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (10753) و (10754) و (10755)، وأحمد 2/
432 و 474 و489 و508 و516، والبخاري (5115)، ومسلم (1408)،
وأبوداود (2066)، وابن ماجه (1929)، والترمذي (1125)، والنسائي
6/ 97 و98، وابن حبان (4068)، والبيهقي 5/ 345 و 7/ 165.
(2) أخرجه من حديث أبي هريرة بلفظ: "القاتلُ لا يرث"، الترمذي
(2109)، وابن ماجه (2645) و (2735)، والدارقطني 4/ 96.
وأخرج أبوداود (4564) الحديث الطويل في الديات ساقه من حديث
عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، وفيه: "وليس للقاتل شيءٌ، وإن لم
يكن له وارث، فوارثه أقرب الناس إليه، ولا يرث القاتل شيئاً".
وأخرج مالك 2/ 867، والبيهقي 6/ 219، من حديث عمر بن الخطاب:
سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "ليس للقاتل شيء".
(3) أخرجه من حديث أسامةَ بن زيد مالك في "الموطأ" 2/ 519،
وعبد الرزاق (9852)، وأحمد 5/ 200 و 208 و 209، والشافعي 2/
190، والبخاري (6764)، ومسلم (1614) وأبوداود (2909)، والترمذي
(2107)، والنسائي في "السنن الكبرى" (6370)، وابن حبان (6033)،
والبيهقي 6/ 217 و 218.
(4) تقدَّم تخريجه في الصفحة 318 من هذا الجزء.
(5) زيادة يقتضيها السياق، وهي في "العدة" 2/ 552.
(3/379)
نبيِّنا لقولِ امرأةٍ" (1). وهذا أشارَ به
إلى قولي تعالى: {أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ
وُجْدِكُمْ} [الطلاق: 6].
قيل: إنَّ عمرَ رضي الله عنه لم يمتنع من قبولِ ذلك لأجلِ أنه
خبرُ واحدٍ عارضَ القراَن، لكن اعتقد خطأ فاطمةَ لمعارضةِ
غيره، لما يَدُلُّ عليه أنَّه رُويَ: "لقول امرأةٍ لعلها
نَسيت"، أو شبهة عَرَضت له، ويدُلُّ عليه أنَه قال: "لا ندري
أصدقتْ أم كذبت". وهذا يدلُّ على أنّه ردَّ ذلك لأمرٍ يخصُّها،
ونحن إنما نقتضي بالتخصيصِ بخبر واحدٍ سكنت إليه نفسُ
المجتهدِ، وغَلبَ على ظنه صدقُه، فأمَّا مثلُ هذه الحالِ فلا.
وقد أجابَ صاحبُنا أحمدُ رضي الله عنه بأن قال: كان ذلك منه
على سبيلِ الاحتياطِ، وإلا فقد كانَ يقبلُ من غير واحدٍ قولَه
وحده (2). على أنَ هذا الخبرَ مُطَّرحُ الظاهر لأن آيةَ
السُكنى مخصوصةٌ في حقِّ الصغيرةِ، فإنه لا سُكنى لها وخبرُ
الواحدِ عند أصحابِ أبي حنيفةَ إذا دخَله التخصيصُ يُخصُ بخبرِ
الواحدِ (3).
فإن قيلَ: فإن تعلّقتم بأنَ الصحابَة عملتْ بذلك، فقد أُحدثَ
النسخُ لما ثبت قِبلةً في الشرعِ بخبرِ الواحدِ، قال لهم: ألا
إنّ القِبلَةَ حُولت نحو الكعبةِ، فاستداروا (4).
__________
(1) أخرجه عبد الرزاق (12027)، وأحمد 6/ 412، ومسلم (1480)
وابن أبي شيبة 5/ 146، وأبوداود (2288)، والدارقطني 4/ 23 و 24
و27، وابن حبان (4250)، والطبراني في "الكبير" 24/ 934،
والبيهقي 7/ 475.
(2) انظر "العدة" 2/ 554.
(3) هكذا وردت العبارة في الأصل، وهي في"العدة" 2/ 554 كما
يلي: "وخبر الواحد يخص به الظاهر المخصوص عند أبي حنيفة".
(4) أخرجه البخاري (399) و (7252)، ومسلم (525)، وابن ماجه
(1010)، والترمذي (340) و (2962)، والنسائي 2/ 60، والدارقطني
1/ 273، وابن حبان (1716)، والبيهقي 2/ 2، من حديث البراء بن
عازب رضي الله عنه.
(3/380)
فكان يجب أن تَتْبعوهم في ذلكَ وتقولوا:
إنَّ النسخَ بخبرِ الواحد جائزٌ.
قيل: بهذا نقول، وقد نصَّ أحمدُ على هذا في روايةِ الفضل بن
زياد (1)، وأبي الحارث (2) عنه في خبر الواحد: إذا كان إسناده
صحيحاً وجبَ العملُ به، ثم قال: "أليس قِصَّةُ القبلةِ حين
حُوِّلت، أتاهم الخبرُ وهم في الصلاة، فَتحوّلوا نحوَ الكعبةِ،
وخبر الخمر، فأراقوها (3)، ولم ينتظروا التواتر" (4)، فهذا
مذهبُه في النسخِ،، فرجع سؤالهم عليهم.
فصل
ومن أدلتنا من طريقِ النَّظر أنَّ الخبرَ الخاصَّ يتناولُ
الحكمَ بصريحهِ، والعامَّ من الكتابِ يتناولُ الحكمَ بظاهرِه،
والصريحُ يقضي على الظاهِر كا لآيتين والخبرين، ونحرِّرُه
طريقةً قياسية، فنقولُ: دليلانِ خاصٌّ وعامٌّ، فقضيَ بالخاصِّ
على العام،
__________
(1) الفضل بن زياد القطان، أبوالعباس البغدادي، من كبار أصحاب
الإمام أحمد، انظر "طبقات الحنابلة" 1/ 251.
(2) أحمد بن محمد الصائغ، كان الإمام أحمد يجلة ويكرمه، روى عن
الإمام مسائل كثيرة. انظر "طبقات الحنابلة" 1/ 74.
(3) ورد ذلك من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنتُ أسقي
أبا عبيدة وأبا طلحة وأُبي ابن كعب من فَضِيخِ زَهوٍ وتَمر،
فجاءهم آتٍ، فقال: إن الخمر قد حرمت، فقال أبوطلحة: قُم يا
أنسُ فأهرِقْها، فأهرقتُها.
أخرجه البخاري (5582) و (5583) و (5622) و (7253)، ومسلم
(1980)، والنسائي 8/ 287، وابن حبان (5352)، و (5362) و (5363)
و (5364)، والبيهقي 8/ 286 و290.
والفَضِيخ: هو شرابٌ يتخذ من البُسر، إذا شُدِخَ ونُبِذ.
والزَّهو: هو البُسْرُ الذين يَحمرُّ أو يصفَرُّ قبل أن
يترطَّب.
(4) انظر "العدة"2/ 554 - 555، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 109.
(3/381)
كالآيتين والخبرين.
ومنها: أنَ خبرَ الواحدِ دليلٌ من أدلةِ الشرعِ يجبُ العملُ
به، فوجبَ أن يقضيَ خاصّهُ على عامَّ الكتابِ كالمتواتر.
فإن قيلَ: المتواترُ مقطوعٌ بطريقهِ، كما أنَّ القرآن مقطوعٌ
بطريقهِ، فلما استويا في القطعِ وزادَ الخاصُّ بتناولِ الحكمِ
بصريحهِ قدَّمناه على العمومِ، وقضينا به، فأمَّا خبر الواحدِ
فإنَّه لا يعطي إلا الظنَّ، ولا يُقضى بالظنِّ على القطعِ.
قيل: خبرُ الواحدِ ظنٌ، وبراءةُ الذممِ بدليل العقلِ قطعٌ،
وحكمنا بإشغالِ الذِّممِ وتعليقِ التكاليفِ والمشاق على البدنِ
بخبرِ الواحدِ المظنونِ.
وكذلكَ لو شهدَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - لرجلٍ بأنَّ
هذا العبدَ له، فقال: هذا العبدُ مِلكٌ لهذا، ثمَّ إنه ادَّعى
تملُّكَه (1) آخرُ من جهةِ المشهودِ له بها (2) ببيع أو هِبةٍ،
وقامَ بذلكَ بيِّنةٌ حُكمَ له بها، وإن كُنّا نَعلمُ أن
الشهادةَ بنقلِها عن الأولِ قضاءٌ بظنٍّ على قطعِ.
ومنها: أنَّ ما ذهبنا إليه جمعٌ بين الدليلينِ، وما ذهبوا إليه
إسقاطٌ لأحدِهما، والجمعُ بين دليلينِ من أدلّةِ الشرعِ أولى
من الأخذِ بأحدِهما وإسقاطِ الآخر وتعطيله.
ومنها: أن العمومَ عُرضةُ التخصيصِ ومحتمِلٌ له، والخصوصُ من
خبرِ الواحدِ غير محتمِل، فلا يعترضُه إلا النسخُ، فكان غيرُ
المحتمِل قاضياً على المحتَمِل (3).
فصل
يجمع شبهاتهم
فمنها: أنَّ العمومَ في كتابِ الله مقطوعٌ به، وخبرَ الواحدِ
مظنونٌ غيرُ مقطوعٍ به،
__________
(1) في الأصل: "تملكها".
(2) أي بالملكية.
(3) انظر هذه الأدلة في "العدة" 2/ 555 - 556، و"التمهيد" 2/
110.
(3/382)
فلا يجوزُ أن يقدَّمَ المظنونُ على
المقطوعِ، كما لا يُقضى بخبرِ الواحدِ على الإجماعِ.
ومنها: أنَ التخصيصَ لكتابِ الله إسقاطُ ما تضمَّنه القرآنُ،
أو إسقاطُ بعضِ ما يقتضيه القرآنُ بخبرِ الواحدِ، فلم يجز،
كنسخِ القرآنِ بخبرِ الواحدِ.
ومنها: أنَّ الترجيحَ للأدلَّةِ بابٌ مُجمَعٌ عليهِ عند أهلِ
النظر، وخبر الواحدِ ضعيف، والقرآن قويّ، فلا يجوزُ تقديمُ
الضعيفِ على القويِّ، كما لا يقدَّمُ القياسُ على الخبرِ (1).
فصل
في جمع الأجوبة عنها
فالأوَّلُ: أنَّا لا نُسقطُ المقطوعَ بالمظنونِ؛ لأنَّ
المقطوعَ به في كتابِ الله إنما هو أصلُ الكلامِ وإثباتُه،
فطريقهُ القَطعُ، ولسنا نُسقطُ ذاك، وإنما نقضي على عمومِه
وتناوله للأعيانِ التي أخرجها خصوصُ الخبر وتلكَ الأعيانُ ما
دخلت تحت العمومِ إلا من طريقِ الظاهرِ وغلَبةِ الظن، ولذلكَ
سُوِّغَ الاجتهادُ ممن أسقطَ العمومَ ونفى أن تكونَ له صيغة،
ولذلكَ لم يفسق ولم يكفر، بل خُطّىءَ، فرجّحنا الصريحَ على
ذلكَ الظاهرِ المظنونِ، كما تُصرف صيغُ الأوامرِ التي في كتابِ
الله عن الإيجاب إلى الندبِ والاستحبابِ، والنواهي عن التحريمِ
والإفسادِ إلى التنزيهِ والكراهةِ بأدلةِ مظنونةِ.
على أنَّه باطلٌ بما قدّمنا من الحكمِ بخبرِ الواحدِ على
براءةِ الذِّمم بأدلَّةِ العقولِ المقطوعِ بها، وكما يقضى
بنقلِ الملكِ عن المالكِ الذي شَهِدَ بملكِه الصادقُ بشهادةِ
شاهدين صدقُهما غيرُ مقطوعِ به.
وأمَّا إلزامُ النسخِ، فقد منعناه بما نصَّ عليه أحمدُ
واستدلَّ بخبرِ القبلةِ والخمرِ ولم يكلنا (2) على طريقِ
توسعةِ النظر وسلَّمناه نظراً، فإنَّ النسخَ إسقاطٌ لموجَبِ
اللفظ،
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 557، و"التبصرة" 134 - 135.
(2) هكذا وردت في الأصل.
(3/383)
فلم يجز إلا بمثلِه أو أقوى منه، والتخصيص
بيانُ ما أريدَ باللفظِ، فجازَ بما دونَه، كصرفِ الأمرِ والنهي
عن ظاهرِه وحقيقةِ الكلامِ إلى مجازِه.
وأمَّا قولُه: إنَّ العمومَ أقوى، والتعلق بوجوبِ تراجيحِ
الأدلةِ، فإنَ ذلكَ للمقابلةِ والإسقاطِ، فأمَّا الجمعُ الذي
سلكناه، فيجوزُ أن يُجمعَ بين الأقوى والأضعفِ، كما يستدلُّ
بالآيةِ والخبرِ والقياسِ في المسألةِ الواحدةِ؛ ولأنَّه
يَبْطلُ بما ذكرنا من خبرِ الواحدِ مع دليلِ العقلِ في براءةِ
الذممِ والبينةِ مع تقدُمِ شهادةِ المعصومِ بالملكِ.
فصل
في الكلامِ على من أجازه في المخصوص، ومنعَ من التخصيصِ به لما
لم يدخله التخصيصُ.
وفيما قدَّمناه من الدلائلِ ما يكونُ دلالةً على مَنْ فَرَّقَ
بينَ المخصوصِ وغيرِه، ولأنَّ العمومَ الذي لم يُخصَّ متعرّضٌ
للتخصيصِ، وخصوصُ الخبرِ صريحٌ في تناولِ الحكمِ، والعمومُ
الذي خُصَّ والذي لم يُخَصَّ تساويا في تناولهما الحكمَ
بالظاهرِ من اللفظِ، والخصوصُ يتناولُ الحكمَ بصريحهِ.
وأيضاً: فإنَ العمومَ الذي لم يُخَصَّ، كالظاهرِ من الأوامرِ
والنواهي التي لم تُصرف عن ظاهرِها، ولم يدل الدليلُ على
صرفِها، ثم إنَه إذا وردَ دليل يصرفها صرفناها به مع كونها لم
تُصرح (1) بصرفٍ، كذلكَ العمومُ، والجمعُ بينهما واضحٌ، وهو
أنَ كل واحد منهما ظاهرٌ.
وأيضاً فإن التخصيصَ لم يخرج عمومَ القراَنِ عن رتبته في أنَه
ثابتٌ بدليلِ مقطوعٍ وهو النقلُ المتواترُ، ورتبته في كونِه
قراَناً، وفي كونه مقدَماً على السنَة، فإذا جازَ دخول
التخصيصِ عليه بخبرِ الواحدِ مع هذه الرتبةِ، جازَ دخولُ
التخصيصِ عليه بخَبرِ
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "تقترع".
(3/384)
الواحد قبل تخصيصه لتساويهما في تقدُمهما
على الآحادِ برتبةِ القطعِ في طريقهما، ورتبةِ الحُرمةِ في
نطقهِما وتقدمهما على السنة.
فصل
في شُبهة المخالف (1)
قال عيسى بنُ أبان: إذا دخَله التخصيصُ صارَ مجازاً، فَقُبِلَ
وأثر خبرُ الواحدِ في تخصيصهِ، كما قُبِلَ في بيانِ المجمَلِ،
وإذا لم يدخلْهُ التخصيصُ بقيَ على حقيقته فلم يجز تخصيصُه
بخبرِ الواحدِ.
فيقالُ: لا نُسلّمُ أنَّه صارَ مجازاً، فلا نبني خلافاً على
خلافٍ، فأمَّا المجملُ، فإنَّه لا يعقلُ معناهُ من لفظِه، ولا
المرادُ به بنفسِه، والعمومُ قبلَ التخصيصِ وبعدَه مفهومُ
المعنى، معقولٌ منه المرادُ، وامتثالُه ممكنٌ، واللفظُ متناوِل
لما يبقى بعدَ تخصيصِه، فكانَ حكمُه حكمَ ما لم يُخصَّ.
شبهةٌ ثانيةٌ: الباقي على عمومِه من غيرِ اتفاقٍ على خصوصِه
مقطوعٌ على ما تضمنه من المسمّيات؛ لأنَّ صاحبَ الشريعة لو
خصَّصَه لذكرَه معه، ولو ذكرهُ لنُقلَ، فلما لم يُنقلْ بقيَ
على القطعِ بتناوله كلَّ مسمىً دخل تحتَه.
فيقال: لا نسلِّمُ أنه تناولَ الأسماءَ قطعاً، بل ظاهراً
متردّداً، لكنَّه إلى الاستغراقِ أقربُ، ومنه أظهرُ, وهو مهيأٌ
لورودِ التخصيصِ عليه، بدليلِ أنَ قرآناً مثله يخصُّه،
وتخصيصُه بالقرآنِ بيانٌ لا نسخٌ، ولو كان قطعاً لكان ما يرد
من القرآنِ نسخاً، والخصوصُ الواردُ بخبرِ الواحدِ لفظٌ صريح
في الحكمِ، والأخذُ به جمعٌ بين الدليلينِ،
__________
(1) وهي الأدلةُ التي يستند إليها الحنفية في منعهم تخصيص عموم
القرآن بخبر الواحد، يُرجع إليها مفصَّلة في "الفصول في
الأُصول" للجصَّاص 1/ 155 - 163 و"أصول السرخسي" 1/ 142 - 143،
و"كشف الأصار"1/ 163 - 166.
(3/385)
وحفظٌ لهما عن الإسقاطِ، وفي إسقاطِ خبرِ الواحد الخاصَّ
إسقاطٌ لأحدِ الدليلينِ، والأخذُ بهما (1) أولي. |