الواضح في أصول الفقه فصل
يجوز تخصيصُ العمومِ بالقياسِ
أومأ إليه صاحبُنا أحمدُ بنُ حنبل في عدَّةِ مواضعَ، منها
لعانُ البائنِ بالثلاثِ، قالوا له: اللهُ يقول: {يَرْمُونَ
أَزْوَاجَهُمْ} [النور 4]، وهذه ليست زوجةَ، فقالَ: المريضُ
الفارُّ من الميراثِ يورَثُ منه، وهذا فارٌ من الولدِ (2).
واختلف أصحابُنا على وجهين: بعضُهم أجازَه، وبعضُهم منعَ منه
(3)، ومن منعَ منهم ذكرَ أنَّ كلامَ أحمدَ يعطي في روايةِ
المنعِ، وهو قولُه: كلامُ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أو
قال: السنة- لا تُرَدُ بالقياسِ.
وعندي: أنه ليسَ في هذا من كلامِ أحمدَ ما يمنعُ التخصيصَ،
لأنَّ التخصيصَ ليس بِرَدٍ، لكنَّه بيانٌ، وإنَّما أراد: لا
تُرَدُّ الرواياتُ بالآراءِ.
ولأصحابِ الشافعي أيضاَ في جوازِ التخصيصِ بالقياسِ الخفيِّ
وجهان (4).
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "بها".
(2) انظر هذه الرواية عن الإمام أحمد في" العدة" 2/ 559 - 565،
و"المسودة": 120.
(3) من الذين أجازوا التخصيصَ بالقياس من أصحاب أحمد، أبوبكر
عبد العزيز غلام الخلال، وأبو يعلى الفراء، وأبوالخطاب
الكلوذاني، والحلواني. وهو ما رجحه ابن عقيل.
ومن الذين منعوا التخصيصَ بالقياسِ من أصحاب أحمد، أبو إسحاقَ
بن شاقلا، وأبوالحسن الخرزي. انظر "العدة" 2/ 562،
و"المسوَّدة": 119 - 120، و"التمهيد" 2/ 121.
(4) الشافعية متفقون على جواز التخصيص بالقياس القطعي، ومحلٌ
النزاعِ جوازه بالقياسِ الخفيِّ، وهم في هذا على رأيين:
الرأي الأول: جواز التخصيص بالقياسِ الخفيِّ، وممن قال بذلك:
أبو إسحاق الشيرازي، كما في "التبصرة": 137، وهو مذهب الإمام
الشافعيِّ. =
(3/386)
وقال أصحابُ أبي حنيفة: إن كان قد دخله
التخصيصُ بإجماعٍ؛ جازَ تخصيصُه بالقياسِ، وإن لم يكن دخله
التخصيص؛ لم يجز تخصيصه به (1).
فصل
في جَزمِ أدلّتنا (2)
فمنها: أنَّه دليلٌ شرعيٌّ نافٍ بعضَ ما دخلَ تحتَ العمومِ
بصريحِه، فوجبَ أن يُخصَّ به، كالنطقِ الخاصِّ.
ومنها: أنَّ العللَ الشرعيةَ معاني الألفاظِ الشرعيةِ،
والمعاني المودَعةُ في النطق تكشفُ عن مرادِ الشارعِ، فإذا
كانَ النطقُ الخاصُ يُخصُ به النطقُ العامُ، فكذلكَ المعنى
الذي تضمَّنه النطقُ إذا كان مصرِّحاً بالحكمِ.
ومنها: أنَّ العملَ بمخصوصِ القياسِ جمعٌ بينَ الدليلينِ، وهو
أنَا نعملُ بعمومِ اللفظِ فيما لم يتناوله القياسُ، وبمعناه
الخاصِّ في الحكمِ الذي تناوله، فهو أولى من إسقاطِ ما لاحَ من
معنى النطقِ رأساً، والتمسُّك بظاهرِ لفظِ العمومِ.
ومنها: أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم لو قالَ: إذا زالت
الشمسُ فصلوا أربَع ركعات، وإذا أهَلّ شهرُ رمضانَ فصوموا، وما
أخبركم به عنّي أبو هريرةَ فهو قَولي وشَرعي. ثم إنَّ أبا
هريرَة أخبرنا أن المسافر يصلي الظهرَ ركعتينِ، ويفطرُ شهرَ
رمضانَ، فإنَّ ما سمعناه
__________
= الرأي الثاني: منع التخصيص بالقياس الخفي، وهو المنقول عن
ابن سريج، وأبي حامد الإسفراييني، والآمدي، انظر "المستصفى" 2/
123، و"الإحكام" للآمدي 2/ 491، و"البحر المحيط" 3/ 372.
(1) انظر "الفصول في الأُصول" 1/ 211، و"أُصول السرخسي" 1/
142، "وميزان الأصول" 1/ 470.
(2) انظر هذه الأدلة وما تبعها من استدراكات وتعقيبات في
"العدة"2/ 564 - 569 و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 122 - 130،
و"شرح مختصر الروضة" 2/ 572 - 575.
(3/387)
منه قطعٌ، وما أخبرنا به أبو هريرة ظنٌ،
ويجوز التعويلُ عليهِ في إخراجِ ركعتين من صلاةِ الظهرِ،
وتأخيرِ صومه رمضانَ عن وقتِه، فأكثرُ ما في العمومِ أنه
قطعيُّ الطريقِ، وأكثرُ ما في القياسِ أنَه يوجِبُ الظنَّ، فلا
نمنعُ من أن نُخرجَ به بعضَ ما شملَه العمومُ.
ومنها: أنَ العمومَ عُرضةُ التخصيصِ والاحتمالِ، والقياسُ حجةٌ
لأنه غيرُ محتَملٍ في المعنى المستنبطِ له، وأبداً يقضى بغيرِ
المحتَملِ على المحتَملِ كالتفسيرِ مع الإجمال.
وأمَّا الدلالةُ على من أجازَ ذلكَ بالقياسِ الجلي خاصةً من
أصحاب الشافعيِّ: أنَ القياسَ الخفيَّ دليلٌ، فكانَ حكمُه حكمَ
الجليِّ من جنسِه في تخصيصِ العمومِ، كخبرِ الواحدِ لما كانَ
دليلاً، كان حُكمُه حكمَ الجليِّ من جنسِه، وهو المتواترُ الذي
ينجلي الحكمُ به.
وأيضاً: فإنَّ الخصوصَ إنما قُدِّمَ على العمومِ؛ لأنه تناولَ
الحكمَ بصريحه، وهذا موجودٌ في القياسِ مع العمومِ المبتدأ
بالتخصيصِ، وفي العمومِ الذي دخَلَه التخصيصُ.
فصل
يجمع شُبههم فيها
فمنها: ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنَه قال لمعاذ:
"بِمَ تحكم"؟ قال: بكتابِ اللهِ، قال: "فإنْ لم تَجد"؟ قال:
بسنَةِ رسولِ الله، قال: "فإن لم تجد"؟ قال: أجتهدُ رأيي ولا
آلو (1).
فأقرَّه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - على ذلكَ، وحمِدَ
اللهَ على توفيقِه.
فوجْهُ الدلالةِ: أنَّه قدَّمَ السُنَّةَ بأسرِها على قبيلِ
الرأي.
فيقالُ: إنَّ ما عارضه القياسُ منَ العمومِ ليسَ بسنةٍ، كما
أنَ ما عارضه خصوصُ
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 5.
(3/388)
السنَّةِ من عمومِ القرآنِ ليس بقرآنٍ،
ووجبَ القضاءُ بخاصِّ السنَّة.
والذي يوضِّحُ هذا: أنه رتَّبَ القياس على السنَّة، كما رتَبَ
السنةَ على كتاب الله، ثم إنَّ السنَة الخاصَّةَ لا تؤخَّر عن
عمومِ كتابِ الله، بل تُقدِّمُ عليه، فكذلكَ لا يلزم تقديمُ
عمومِ السنَّةِ على خصوصِ القياسِ (1).
ومنها: أنَّه إسقاطٌ لما تناولَه نطقُ القرآنِ، فلا يجوزُ
بالقياسِ كالنّسخِ، وربما قالوا: أحدُ نوعي التخصيصِ، فلا
يجوزُ بالقياسِ، كتخصيصِ الأزمانِ.
فيقالُ: ليس إذا لم يجز النَّسخُ لم يجز التخصيصُ، بدليلِ أنَ
نسخَ القرآنِ بخبرِ الواحدِ لا يجوز ويجوزُ التخصيصُ به؛
ولأنَّ النَّسخَ: إسقاطُ موجَبِ اللفظِ، والتخصيص: بيانٌ
للفظِ، والتخصيص جمع بينه وبينَ غيرِه، فافترقا.
ومنها: أنَ القياسَ فرعٌ للكتابِ، فلا يجوزُ أن يخُصَّ الفرعُ
أصلَه، كما لا يُسقِطُ الفرعُ أصلَه.
فيقالُ: إنَا لا نَخُصُّ الأصلَ بفرعِه، وإنَّما نخصُّ غيرَ
(2) أصله؛ لأنَّ القياسَ متى استنبطَ من أصلٍ فيكونُ مماثلاً
له في حكمِه، فلا يخصُّ به، وإنما يخصُّ أصلاً آخرَ يُضادُّه
وينافيه.
ومنها: أنَّ هذا القياسَ مما يقدَّمُ عليه القياسُ الجليُّ،
وكلُّ ما قدِّم عليه القياسُ الجليُّ لم يَجُزْ تخصيصُ العمومُ
به، كاستصحابِ الحال.
فيقالُ: إنَّما لم يُخصَ العمومُ باستصحابِ الحالِ؛ لأنَّ ذلك
تمسُّكٌ وبقاءٌ على حكمِ الأصلِ، وليسَ كذلكَ القياسُ، فإنَّه
دليلٌ في نفسِه (3)، وتقديمُ الجليِّ عليه لا
__________
(1) انظر "التبصرة": 139 - 140.
(2) في الأصل: "عن" ولا يستقيم بها السياق، والمثبت من "العدة"
2/ 568.
(3) أي أن الاستصحاب ليس دليلاً مستقلاً كالقياس؛ لأن
الاستصحابَ هو بقاءٌ على حكمِ الأصل حتى ينقل عنه بدليل. انظر
"التمهيد" 2/ 129.
(3/389)
يمنعُ كونَه دليلاً يخصُّ بَيانه العمومَ،
كما أنَّ الخبرَ يقدَّم عليه ما هو آكدُ منه، وهو المتواتِر,
ولا يمنعُ من تخصيص العمومِ به.
ومنها: أنَّ القياسَ من شرطِ صحتِه أن يجريَ على الأصولِ، فلا
يردُّه أصلٌ، والعمومُ من جملةِ الأصولِ، وهو ينافيه، فلا يصبح
مع منافاةِ أصلٍ من أصولِ الشرعِ له.
فيقال: لا نُسلِّم، أنَّ ما خصَّصه القياسُ كان مراداً
بالعمومِ حتى يكونَ معارِضاً له أو مضاداً له، بل يتبين
بالقياسِ أنَه لم يكن مراداً ولا داخلاً تحتَه.
ومنها: أنَّ العمومَ مقطوعٌ به، والقياسَ مظنونٌ، فلا يجوزُ أن
يمضى بالمظنونِ على المقطوعِ.
فيقالُ: إن المقطوعَ به (1) كونُه من كتابِ اللهِ، وذلكَ لا
نرفعُه بالقياسِ، وتناولُ ما
تحتَ العمومِ من الأعيانِ مظنونٌ، فما رفعنا بالمظنونِ، إلا
المظنونَ، وزادَ القياسُ بأنه
تناولَ الحكم بصريحهِ. على أنَّ قولَ النبيّ - صلى الله عليه
وسلم - لو قال: اقتلوا الزناةَ، واقطعوا السُّرَّاقَ،
واقبلوا خبر أبي هريرة عني. فقال أبو هريرة: لا تقتلوا البكرَ
من الزُّناةِ، ولا الابنَ إذا سرق من مالِ أبيه. قبلنا قولَه
المظنونَ، وأخرجنا بعضَ من دخلَ في نطق الرسولِ المقطوعِ به،
ولأنَّ براءةَ الذِّممِ بأدلةِ العقولِ مقطوعٌ بها، ثمَ لو
جاءَ خبرُ واحدٍ يَشْغلُ الذِّممَ لقبلناه، وكذلك القياسُ.
ومنها لأصحابِ ابى حنيفة: أنَّ التخصيصَ للنطقِ قبل دخولِ
التخصيصِ عليه إسقاطُ دلالةِ اللفظ، فلم يجز بالقياسِ،
كالنسخِ، ولا تلزمُ الزيادةُ في التخصيصِ؛ لأنَّها ليست
بإسقاطٍ؛ لأنَّ الدلالة قد سقطت بغيره.
__________
(1) في الأصل: "عليه".
(3/390)
فيقالُ: لا يمتنعُ أن لا يجوزَ النَّسخُ
ويجوزُ التخصيصُ، ألا ترى أنَّ نسخَ الكتابِ بخبرِ الواحدِ لا
يجوز ويجوزُ التخصيصُ؛ لأنَّ النسْخَ إسقاطٌ، وهذا جَمْعٌ بينه
وبين غيرِه، فافترقا.
فصل
يجوز تخصيص عام السُنّة بخصوص القرآن (1)
أومأ إليه أحمد رضي الله عنه، فإنه نسخ قضيته بينه وبين قريش
في ردِّ المسلمات إذا أتَيْنه، فمنع ردَهنَ بقولِه تعالى:
{فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ
إِلَى الْكُفَّارِ} [الممتحنة: 10]، فأثبت أحمدُ نسخَ القضيةِ
بالقراَنِ (2)، والنَسخُ آكدُ من التخصيصِ، وبهذا قالَ جماعةٌ
[من] (3) الفقهاءِ والمتكلِّمين.
وخرَّج ابن حامد (4): أنَّه لا يجوز من إيماء أحمدَ رضي الله
عنه، فإنَّه قال: السنَّة مفسِّرةٌ للقرآنِ ومُبيِّنَةٌ له
(5). وذهبَ إلى ذلكَ بعضُ المتكلِّمين.
__________
(1) انظر هذه المسألة في "العدة" 2/ 569، و"التمهيد" لأبي
الخطاب 2/ 113،و"المسودة": 122، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 359.
(2) انظر"العدة" 2/ 569، و"التمهيد" 2/ 113.
(3) ليست في الأصل.
(4) هو أبوعبد الله، الحسنُ بن حامد بن علي بن مروان، البغدادي
الوراق، شيخ الحنابلة في زمانه، له عدة مصنفات منها كتاب
"الجامع" في الاختلاف و"شرح الخرقي" و"شرح أُصول الدين" توفي
سنة (403 هـ). انظر ترجمته في "تاريخ بغداد" 7/ 303، و"طبقات
الحنابلة" 2/ 171 - 177 و "سير أعلام النبلاء" 17/ 203.
(5) انظر "العدة" 2/ 570، و"المسودة": 122.
(3/391)
وحكى شيخنا في "العُدّة" (1): أنَّ بالثاني
من المذهبينِ قال أصحابُ الشافعي.
وذكر أصحابُ الشافعيِّ أنَّ المذهبَ عندهم جوازُ التخصيصِ دونَ
المنعِ (2)، ولم يحكوه مذهباً لأحدٍ من أصحابهم.
فصل
في الدلالة على مذهبنا
قولُه تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا
لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، وهذا يعمُّ بيانَ قولِ
الرَّسولِ، وبيانَ كل مُشكِلٍ ومُجْملٍ، إلا ما خصَّه الدليلُ
من المتشابه الذي انفردَ بعلمِه، وكلَّفَ الإيمانَ به من غيرِ
بيانِ معناه.
ومنها: أنَّ القرآنَ مقطوعٌ به، والسنَّةَ غيرُ مقطوعٍ بها،
فإذا جازَ بيانُ القرآنِ بالسنّةِ، فلأنْ يجوزَ بيانُ
السنَّةِ- وهي الأضعفُ- بالأقوى أوْلى، ألا ترى أن من جوَّز
نسخَ القرآن بالسنَّة كان قائلاً بنسخِ السنّةِ بالقرآنِ من
طريق الأولى.
وأيضاً: فإنَّ السنَّةَ وحيُ اللهِ إلى قلبِه - صلى الله عليه
وسلم -، والقرآنَ كلامُ الله، ولا يمتنعُ أنْ يقضى بخصوصِ
كلامِه على عمومِ كلامِ رسوله الصادرِ عن إلهامه، فهما غيرُ
مختلِفَين في المعنى.
__________
(1) 2/ 570.
(2) نص على ذلك الآمدي في"الإحكام" 2/ 470 حيث قال:
"يجوز تخصيصُ عموم السنَّة بخصوص القرآن عندنا، وعند أكثر
الفقهاء والمتكلمين".
وكذلك قال الزركشي في "البحر المحيط" 3/ 379: "يجوز تخصيص خبر
الواحد بالقرآن".
فظهر بذلك عدم دقة ما ذكره الإمام أبويعلى في "العدة" من أن
الشافعية، لا يقولون بتخصيص عموم السنة بخصوص القرآن.
(3/392)
فصل
في شُبَههم (1)
فمنها: قولُه تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، فجعلَ النبيَّ مبيِّناً لما ينزله من
كتابِه، وبيانُه هو سنته.
ومنها: أنَا لو جعلنا السنَة مخصوصةَ بالآية، جعلنا السنَّة
أصلاً ومتبوعاً، والقرآنَ تابعاً، وهذا حَطٌّ له عن رُتييه.
فصل
في أجوبتنا عن ذلك
أمَّا الآيةُ: فلا حجَّة فيها؛ لأنَّا قائلون بأنَّه يجوزُ
بيانُ ما يحتاجُ إلى بيانٍ من السنَّةِ بالقرآنِ (2)، وليسَ
فيها نفيٌ لما أثبتَته آيتنا من أنَّ القرآنَ تبيان لكل شيءِ،
وقد يعتمدُ الرسولُ - صلى الله عليه وسلم - فيما يقولُه من
الكلامِ على بيانِ القرآنِ السابقِ لسنّتِه، كما يبينُ ما
أشكلَ من القرآنِ بقوله.
وأمَّا قولُهم: فيه حطٌ لمرتبةِ القرآنِ. فبعيد جداً؛ لأن
الأقوى قد يقضي على الأدنى، كأخبارِ التواترِ يجوزُ أنْ تُبين
بها أخبارُ الآحادِ، ولا تنحط رتبتُها عن العلمِ ولا تصيرُ
تابعةً لأخبارِ الآحادِ الموجبةِ للظنِّ، ودليلُ العقل يخصُ
أدلَّةَ الكتابِ والأخبارَ، ولا يدل على أنَّ أدِلةَ العقلِ
منحطةٌ بذلكَ عن كونِها هي الأصلُ في إثباتِ الصانعِ
والنُّبوَّات، ولأنَّ الذي ينطقُ به النبي - صلى الله عليه
وسلم - من العمومِ عن وحي إلى قلبِه - صلى الله عليه وسلم -
ثمَّ ينزل عليه القرآنُ كاشفاً لتخصيصِ الوحي الأوَّلِ (3).
__________
(1) انظر الشبه التي يحتج بها المخالفون في: "التبصرة": 136،
و"الإحكام" للآمدي 2/ 470 - 471، و"البحر المحيط" 3/ 379،
و"العدة" 2/ 571 - 572، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 114 - 115.
(2) في الأصل:" من القرآن "، والمثبت أنسب لاستقامة السياق.
(3) انظر" الإحكام " للآمدي 2/ 321.
(3/393)
فصل
يجوزُ تخصيصُ العمومِ بأفعالِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم
أشارَ إليه أحمدُ في مواضعَ (1)، وبه قالَ أصحاب الشافعي (2)،
وأصحابُ أبى حنيفةَ سوى الكرخي (3)، وذلكَ مثلُ نهَيه صلى الله
عليه وسلم عن استقبالِ القبلةِ بالبولِ والغائطِ، واستدبارِها
(4)، وأنَّه بعد ذلك روى جابرٌ أنَّه جلسَ مستقبلَ القبلةِ
فوقَ سطحٍ
__________
(1) انظر المواضع التي أشار الإمام أحمد من خلالها إلى جواز
التخصيص بأفعال النبي صلى الله عليه وسلم في "العدة" 2/ 573 -
574، و"التمهيد" 2/ 116. وراجع مسألة تخصيص العموم بأفعال
النبي صلى الله عليه وسلم في "المسوَّدة" 125، و"شرح الكوكب
المنير" 3/ 371.
(2) انظر "المستصفى" 2/ 106، و"الإحكام" للآمدي 2/ 480 و
"البحر المحيط" 3/ 387.
(3) رأي الكرخي راجع إلى كونه يرى أنَّ فعلَ الرسول صلى الله
عليه وسلم خاصٌّ به، لا يتناول غيره من أفراد الأُمة إلا بدليل
اَخر. وهذا على خلاف رأي الحنفية الدين يرون في فعله صلى الله
عليه وسلم، دليلاً قائماً بنفسه، يشمل أفراد الأمة ولا يختص به
صلى الله عليه وسلم، إلا بدليلٍ مخصص.
انظر"الفصول في الأصول" للجصَّاص 3/ 215، و"تيسرِ التحرير" 3/
120، 121، و"ميزان الأصول" 1/ 472 و2/ 673.
(4) عن أبي أيوب الأنصاري، أن النبي صلى الله عليه وسلم، قال:
"إذا أتى أحَدُكُم الغائط، فلا يستقبل القبلة، ولا يستدبرها
بغائط ولا بول، ولكن شرِّقوا أو غربوا".
أخرجه مالك 1/ 193، والشافعي1/ 25، وأحمد 5/ 414 و 415 و 416 و
417 و421، والبخاري (144) و (394)، ومسلم (264)، وأبوداود (9)
وابن ما جه (318)، والنسائي 1/ 21 و22 و23 الترمذي (8)،
والبيهقي 1/ 91، وابن حبان (1416)، والبغوي (174).
مع اختلاف في اللفظ عند بعضهم.
(3/394)
على لَبِنَتين (1)، فكانَ فعلُه عندنا
كأنَّه قولٌ منه: ويجوزُ ذلكَ في البُنيان (2).
فصل
في دلائلنا
فمنها: أنَّه قد ثبتَ بما قدَمنا أنَّه مخاطبٌ كخطابِنا،
وأنَّه معنا في التكليفِ على سواءٍ، إلا ما خصَّه به الدليلُ
عنَّا من إيجابٍ، أو حظرٍ أو إباحةٍ، فإذا ثبتَ ذلكَ، وقال
قولاً عامّاً، ثم إنه فعل فعلاً دخلَ تحت قولي ونَهيه، وهو
ممَّن لا يخالفُ أمر الله، ثبتَ أنَّه فعلَه بأمرِ اللهِ
ووَحيه، فصارَ بذلكَ فعلُه كقول.
ومنها: أنَّ فعلَه - صلى الله عليه وسلم - مما يجبُ الاقتداءُ
بهِ في الشرعيّاتِ، فخصَّ به العمومُ، كقوله، وقد دلَّلنا على
ذلكَ في بابِ الأوامرِ (3).
[فصل (4)]
شبهةُ المخالفِ: أنَّ الفعلَ يقعُ محتَملاً بأن يكونَ مخصوصاً
به (5)، وأن يكون مشروعاً لنا، فلا نقضي بالمحتَمل على العمومِ
المتناولِ للحكمِ بصيغته.
__________
(1) عن جابر بن عبد الله، قال: كان رسول الله صلى الله عليه
وسلم ينهانا أن نستقبل القبلة، أو نستدبرها بفروجنا إذا أهرقنا
الماء، قال: ثم رأيته قبلَ موته بعام يبول مستقبل القبلة.
أخرجه أحمد 3/ 360، وأبوداود (13)، وابن ماجه (325)، والترمذي
(9)، والدارقطني 1/ 58 - 59، وابن حبان (1421)، والطحاوي" شرح
معا ني الآثار" 4/ 234، والحاكم 1/ 154، والبيهقي 1/ 92.
(2) هذا وجه الجمع بين الخبر الوارد في النهي عن استقبال
القبلة بغائط أو بول، وبين حديث جابر الذي يفيد جواز ذلك،
فيحمل النهيُ عن الاستقبال أو الاستدبار في الصحارى والعراء
دون الكُنفِ والأماكنِ المستورة.
(3) انظر ماتقدم في 102.
(4) ليست في الأصل.
(5) أي مخصوصاً بالنبيِّ - صلى الله عليه وسلم - ومقصوراً
عليه.
(3/395)
فيقالُ: إنَّ فعلَه لو أرادَ ابتداء،
الظاهرُ عندنا جميعاً منه أنَّه تشريعٌ لا يخصّه، بل هو تشريعٌ
لنا، وإذا كان كذلك، فالعامُّ يتناولُ الفعلَ بظاهرِه، وهذا
فعلُه - صلى الله عليه وسلم - موضوعٌ للتشريعِ إلا ان يخصَّه
الدليلُ، ولذلكَ جعلناه كذلكَ حال الابتداءِ من غيرِ تقدُّمِ
عمومٍ.
فصل
ويجوزُ التخصيصُ بالإجماع (1)؛ لأنَّ الإجماعَ حجةٌ مقطوعٌ
بها، فإذا جازَ التخصيصُ با لمظنوناتِ من الأدلةِ، كخبرِ
الواحدِ والقياسِ، فلأنْ يجوزَ بالدليلِ القطعيِّ أولى.
فإن قيل: قد أجزتم النّسخَ بخبرِ الواحدِ ولم تُجيزوه
بالإجماعِ مع الحالِ المذكورةِ من كونه قطعياً، وخبرِ الواحد
ظنياً.
قيلَ: الإجماعُ والنَّسخُ لا يلتقيانِ؛ لأنَّ النسخَ إنما
يكونُ مع حياةِ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم -، ولا يصحُّ
الإجماعُ، ولا يكون حجّةً إلا بعد موتِ النبي - صلى الله عليه
وسلم -، وانقطاعِ الوحي، والإجماعُ والعمومُ يجتمعانِ في عصرٍ
واحدٍ، وإذا جازَ أن يبيِّنَ القياسُ مرادَ الشارع باللفظِ
العام، فاجتماع القائِسين أحرى أن يجوزَ بيانُهم لمرادِه
بالعمومِ، وإذا كانَ الإجماعُ مبيِّناً، فقد بيّن النسخ أيضاً
كما يبين التخصيص، فإذا تلونا آيةً، وروينا حديثاً، ورأينا
الإجماع منعقداً على ضدّ حكمه، تَبينّا بذلكَ أنه منسوخ حسبَ
ما تبينّا بالإجماع في
__________
(1) هذا رأي جمهور الأصوليين من الحنفية والمالكية والشافعية
والحنابلة، والمخصِّص عند التدقيق والتحقيق إنَّما هو دليل
الإجماع، لا أن الإجماع نفسه مخصِّص، لأن الإجماع لا بُدَّ له
من دليل يستند إليه.
انظر "العدة" 2/ 578، "التمهيد" 2/ 117 - 118، و"شرح الكوكب
المنير" 3/ 369، و"المسودة": 126، و"المستصفى" 2/ 102،
و"الإحكام" للآمدي 2/ 477 - 478، و"البحر المحيط" للزركشي 3/
363، و"ميزان الأُصول" للسمرقندي الحنفي 1/ 473، و"العقد
المنظوم في الخصوص والعموم" للقرافي: 801 - 802.
(3/396)
العموم الذي اتفقوا على إسقاطِ عمومِه،
أنَّه مخصوص، فلا فرقَ بينهما من هذا الوجه (1).
فصل
ويجوزُ التخصيصُ بدليلِ الخطابِ؛ وهو مفهومُه، وفحوى الخطاب؛
وهو تنبيهه (2)؛ لأنه دليل من أدلة الشرع، ويعقل منه ما وراءه
(3).
صورة ذلك أن يقول: في الأنعام صدقةٌ، أو في الأنعام الزكاةُ.
فيكونُ ذلكَ عامَّاً في جميعِ الأنعامِ، الإبلِ والبقرِ
والغنمِ، سائمتِها ومعلوفتِها، فإذا قالَ بعدَ ذلكَ: في سائمةِ
الغنم الصدقةُ. دلَّ ذلكَ على أنَّه لا صدقةَ في معلوفتها،
واختصَّ بالسائمةِ.
والدلالةُ على ذلكَ: أنَّ مفهومَ الخطابِ بيْنَ أن تكونَ
دلالتُه من اللفظِ، كما قال قوم، أو قياساً جليّاً، كما قال
آخرون (4)، والأمرانِ جميعاً مقدَّمان على العمومِ، وقاضيان
عليه بما قدَّمنا من الدلالةِ على التخصيصِ بالقياسِ وخبر
الواحدِ.
فصل
يجوزُ تخصيصُ العمومِ بقولِ الصحابي إذا لم يظهر خلافُه،
وكذلكَ تفسيرُه الآية المحتملة والخبر المحتمل على الروايةِ
التي يُجعل قولُه فيهما مقدَّماً على القياسِ، نصَّ
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 578.
(2) انظر هذا الفصل في "العدة"2/ 578 - 579، و"التمهيد" 2/ 118
و"المسودة": 127، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 366، و"المستصفى" 2/
105، و"الإحكام" للآمدي 2/ 478، و"البحر المحيط" 3/ 385.
(3) في الأصل: "رواه".
(4) ينبني على الاختلافِ في كونِ دلالةِ المفهومِ بمنزلة
اللفظ، أو بمنزلة القياس، ثمرة تتمثل في حال تعارض دلالة
المفهوم مع لفظ آية أو خبر فمن قال: بأنها بمنزلةِ دلالةِ
اللفظِ؛ كان الحكم كما لو تعارض خبران أوآيتان، ومن قال: إنها
بمنزلة القياس؛ كان المقدَم هو الخبر انظر" البحر المحيط" 3/
385.
(3/397)
عليه أحمدُ (1)، وأنه يخصُّ بقولِ الصحابةِ
إن لم تكن سنةٌ، فإذا (2) اختلفت الصحابةُ على قولينِ أخذنا
بأشْبهِ القولين بكتابِ اللهِ تعالي، وبهذا قال أصحابُ أبي
حنيفة (3)، واختلفَ أصحابُ الشافعي على القولِ القديمِ الذي
يجعلونَ [فيه] (4) قولَ الصحابي حجّةً، فمنهم من خصَّ به ومنهم
من لم يخُصَّ به (5).
فصل
دليلنا: أنَّ قولَ الصحابي أقوى من القياسِ، بدليلِ أنه يترك
له القياسُ، فيجبُ أن يُخصَّ به الظاهر كخبرِ الواحدِ.
وأيضاً، فإنَّ القياسَ الذيُ تركُ لأجلِه يُخصُ به العمومُ،
فبأن يخصّ بخبر الواحد أولى وأحرى.
__________
(1) انظر هذه المسألة في "العدة"2/ 579، و"التمهيد" 2/ 119،
و"المسودة" 127، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 375.
(2) تحرفت في الأصل إلي: "قال".
(3) ذلك أن جمهورَ أصحابِ أبي حنيفة يرون أن قول الصحابيِّ
حجةٌ، وخالف الكرخي وأبوزيد إذا كان قول الصحابي ممّا يدرك
بالاجتهاد والقياس. انظر"أُصول السرخسي" 2/ 105 - 113،
و"الفصول في الأصول" للجصَّاص 361/ 3 - 366، و"ميزان الأصول"
2/ 697 - 703.
(4) زيادة يستقيم بها السياق.
(5) للإمام الشافعي في حجية قول الصحابي قولان، جديد وقَديم:
القول الجديد: إنه ليس بحجة، فلا يخصُّ به العموم.
والقول القديم: إنه حجة، فيخصُّ به؛ لأنه على هذا القول يكون
قول الصحابي مقدَّماً على القياس، فإذا جاز التخصيصُ بالقياس،
فلأن يجوزَ بقول الصحابي من بابِ أولى.
والراجح المعتمد عند الشافعية هو القولُ الجديد، فلا يجوزُ
تخصيص العموم بقول الصحابي. انظر"المستصفى" 2/ 113،
و"التبصرة": 149، و"الإحكام" للآمدي 2/ 485 - 486، و"البحر
المحيط" 3/ 398 - 404.
(3/398)
فصل
في شُبَههم
فمنها: أنَّ الصحابيَّ يتركُ مذهبَه وقولَ نفسِه للعمومِ، ألا
ترى أنَّ ابن عمر كان يخابرُ أربعينَ عامَاً لا يرى به بأساً،
[قال] (1): حتى أتانا رافعُ بنُ خَديج، فأخبر أنَّ النبي - صلى
الله عليه وسلم - نهى عن المخابرة، فتركناها بقولِ رافعٍ (2).
فيقال: إنَه تركَ قولَه بالنصِّ، ولأنَّ مخابرتَهم لم تكن عن
اجتهادٍ، لكنْ عملوا بالأصلِ، وأنَّه الإباحةُ، وأخذُ المال
بالتراضىِ إلا ما نهاهم الشرعُ عنه (3)، فلما جاءهم خبرُ
الواحدِ كان ناقلاً عن حكمِ الأصلِ.
ومنها: أنَّ الخبرَ حجةٌ، فلا يُخصُ بفتوى مُفتٍ، كفتوى غيرِ
الصحابةِ من الفقهاءِ.
فيقالُ: إنَّ آحادَ الفقهاءِ ليس قولُهم حجةً بخلافِ الصحابةِ.
فإنْ قيلَ: فما تقولون في تفسيرِ التابعيَّ، وقولِه، هل يخصُ
به العمومُ؟
قيلَ: لا يُخصُ به، ولا يفسَّرُ به؛ لأنه ليسَ بحجةٍ؛ لأنَّ
أحمدَ قَصَرَ التخصيصَ على قولِ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم
- وأصحابِه، وعنه: جوازُ ذلكَ.
وروي عنه: يَأخذُ بما جاء عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم وعن
أصحابِه، وهو مع التابعين مخَيَّرٌ.
فقد (4) حَطَّ رُتْبةَ التابعينَ عن رتبةِ الصحابةِ؛ لأنَّهم
لم يَشهدوا التنزيلَ، ولا عاينوا النبيَّ - صلى الله عليه وسلم
- وقد قالَ: لا يكاد يَجيءُ شيءٌ عن التابعينَ إلا يوجد عن
أصحابِ النبيِّ- صلى الله عليه وسلم - (5).
__________
(1) زيادة يستقيم بها السياق.
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: 220 من هذا الجزء.
(3) تحرفت في الأصل إلى: "علية".
(4) تحرفت في الأصل إلى: "فقط".
(5) انظر "العدة"2/ 582 - 583.
(3/399)
|