الواضح في أصول الفقه

فصل
ويجبُ الأخذُ بتفسيرِ الراوي للَّفظِ المرويِّ عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، والعملُ به إذا كان مفتقِراً إلى التفسيرِ (1)، مثل قولهِ - صلى الله عليه وسلم -: "المتُبايعانِ بالخيارِ ما لم يَتفرّقا" (2) يتردّدُ بينَ الافتراق بالأقوالِ أو الأبدانِ، فكان ابنُ عمر يقومُ من مجلسِ العقدِ، فكان قيامه تفسيراً للافتراقِ، وأنَّه بالأبدانِ دونَ الأقوالِ، ومثل قول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "الشهرُ تِسعٌ وعشرون، فصوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته، فإن غُمّ عليكم، فاقدروا له" (3)، فكانَ ابنُ عمرَ إذا كان في السماءِ غيمٌ أو قَتَرٌ في ليلةِ الثلاثينَ أصبحَ صائماً (4). فكأنَّه فسر ذلك بالضيقِ، فَضَيَّقَ شعبانَ لشهرِ رمضانَ توسعةً للصومِ، وتفسيرُ عمرَرضي الله عنه لقولِ النبي- صلى الله عليه وسلم -: "الذهبُ بالوَرِق رِباً إلا هاءَ وهاء، والشعيرُ بالشعير رباً إلا هاء وهاء، والبُرُّ بالبُرَّ رباً إلا هاء وهاء" (5)، فإنَّ المرادَ بهاء وهاء: التَقابُض في مجلسِ العقدِ (6)، والدليلُ على تفسيرِهِ بذلكَ ما رواهُ مالكُ بن أوس بن الحَدَثان، أنَّه قال: التمستُ صَرفاً بمئةِ دينارٍ, فدعاني طَلحةُ بنُ عبيد الله، فَتراوضنا (7) حتى اصطَرف منّي وأخذَ الذهبَ يقلِّبها في يدِه، ثمَّ قالَ: حتى يأتيَ خازني من الغابةِ. وعمرُ بن الخطاب يسمعُ، فقال: واللهِ لا تفارقه حتى تأخذَ منه. وروي أنَّه قال لطلحةَ: لا
__________
(1) انظر هذا الفصل في "العُدة" 2/ 583، و"المسوَّدة": 128.
(2) تقدم تخريجه 2/ 44.
(3) تقدم تخريجه 1/ 194.
(4) أخرجه أحمد 2/ 5، 13، وأبود اود (2223).
(5) أخرجه دون ذكر سبب الإيراد: أبوداود (3348)، والدارمي 2/ 258، والنسائي 7/ 273.
وسيأتي تخريجه مع سبب الإيراد بعد قليل.
(6) انظر "النهاية في غريب الحديث" 5/ 237.
(7) من المراوضة، وهي: المجاذبة في البيع والشراء. "النهاية في غريب الحديث" 2/ 276.

(3/400)


تفارقْه حتى تعطيَه وَرِقَه، أو تردَّ عليه ذهبَه (1).
وبهذا قالَ بعضُ أصحابِ الشافعيِّ (2).
وحكى أبو سفيان عن الكرخيَّ من أصحابِ أبي حنيفةَ أنَّه كان يقولُ: يجبُ العمل بظاهرِ الآيةِ والخبرِ, ولا يرجع إلى تفسيرِ الصحابي (3).

فصل
في دليلنا
إنَّ اللفظَ المفتقر إلى البيان؛ الصحابةُ- رضي الله عنهم- أعرفُ بمعناه؛ لأنَّهم عربٌ، ثمَّ انضمَّ إلى معرفتِهم بلغةِ العربِ، مشاهدتُهم لرسولِ الله - صلى الله عليه وسلم -، وإدراكُهم إلى مخارجِ كلامِه، ودلائلِ أحواله (4)، والأسبابِ التي وردَ الكلامُ عليها وفيها، فصارت تفاسيرُهم مع معرفتِهم بأقوالِه صلى الله عليه وسلم كالبيّنَة المترجمةِ للكلامِ الذي لا يَفهمه الحاكمُ، وكالمقوِّمين المُعتَبَرين (5) بالأسواقِ فيما يقعُ الخلافُ في قيمتِه عند الغرامةِ الواجبةِ على المتلِفِ للمقوَّماتِ من الأموالِ.

شبهةُ المخالفِ: بأنَّ الآيةَ والخبرَ يجبُ العملُ بظاهرِهما؛ لكونِهما حجتين من حُججِ الشرعِ، وقولُ الصحابيِّ؛ إنَّما هو اجتهاد وليسَ بحجةٍ، فلا يمضى بغيرِ حجةٍ على حجةٍ.
__________
(1) أخرجه مع الحديث المتقدم: مالك في "الموطأ"2/ 636 - 637،وعبد الرزاق (14541)، وأحمد 1/ 24 و 35 و 45، والبخاري (2134) و (2174) ومسلم (1586)، والترمذي (1243)، وابن ماجه (2259) و (2260) والبغوي في" شرح السنة" (2057)، وابن حبان (5013)، والبيهقي 5/ 283 و 284.
(2) انظر"الإحكام" للآمدي 2/ 115.
(3) انظر"العدة"2/ 588، و"المسودة": 129، و"تيسير التحرير": 2/ 162.
(4) في الأصل: "أحوال"، ولا يستقيم بها السياق.
(5) في الأصل: "المعترفين".

(3/401)


والجواب: أنا لا نسلِّم، بل هو حجةٌ في إحدى الروايتين، ولو سلَّمنا أنَّه ليس بحجةٍ في الشرعِ لم يخرج عن كونِه حجةً في (1) اللغةِ، ونحن نقنع بقول أبي زيدٍ (2)، والأصمعيِّ، وثعلب، والمبرَد (3)، وشعرِ زهير (4)، وأمثالِ ذلك لمكان المعرفةِ، ونشغل الذمّةَ بالقيمةِ بقولِ المقوِّمين من أهلِ الخبرةِ بالسوقِ، ونُسقِطُ هيئاتِ الصلاةِ، ونُؤخِّرُ الصومَ بقولِ مُتطببينَ بأنَّ هذا المرضَ يزيدُ في الصومِ، وإلى أمثالِ ذلكَ، والله أعلم.

فصل
فإن تركَ الراوي لفظَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - وعملَ بخلافِه متأوِّلاً لم يكن تركُه للظاهرِ معمولاً به، ويُعملُ بالظاهر (5).
فإنْ صرفه بدليل، وعلمنا أنه دليلٌ لا شبهة، صرفناه بذلكَ الدليلِ، لا لكونه قولَ الراوي، مثل نهيِ النبي - صلى الله عليه وسلم - أبا طَيْبة عن أكلِ أجرةِ الحجامةِ، وأمره أن يعلفَه
__________
(1) في الأصل: "من"، والمثبت أنسب للسياق.
(2) هو أبو زيد الأنصاري، المتقدمة ترجمته في الصفحة 284 من هذا الجزء.
(3) هو محمد بن يزيد بن عبد الأكبر الأزدي البصري، إمامٌ من أئمة النحو والأدب، له تصانيف كثيرة منها كتاب "الكامل" توفي سنة (286 هـ). انظر "تاريخ بغداد" 3/ 380 - 387، و"إنباه الرواة" 3/ 241 - 253، و"سير أعلام النبلاء" 13/ 576 - 577.
(4) هو زُهير بن أبي سُلْمَى ربيعة بن رياح المزني، من شعراء الجاهلية وحُكمائهم، ولدَ في "مزينة" ونشأ في أُسرة أدبِ وشعر فكان أبوه شاعراً وخاله شاعراً وأخته سلمى شاعرة، وكذلك ابنه كعب صاحب "بانت سعاد". انظر "الشعر والشعراء" 1/ 137، و"الأعلام" 3/ 52.
(5) أي بظاهر لفظ النبي صلى الله عليه وسلم. وهذه هي الرواية الراجحة عند الحنابلة. انظر "العدة" 2/ 589، و"المسودة": 129.

(3/402)


ناضِحَه، ويُطعمَه رقيقه (1)، وحملَ ابنُ عباسٍ ذلكَ على غيرِ التحريمِ، وقال: لو كان حراماً، لم يُعطِه (2)، وهو قولُ أصحابِ الشافعيِّ (3).
وفيه روايةٌ أخرى: لا يجبُ العملُ به إذا خالَفه الراوي، مثل ما روي عن عائشةَ أنها زوَّجت بناتِ أخيها (4)، مع روايتها عن النبي- صلى الله عليه وسلم -: "أيّما امرأةٍ نكحت نفسَها بغيرِ
__________
(1) في الحديث عن ابن مُحَيّصَة: أن أباه استأذنَ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم في خراج الحجَّام، فأبى أن يأذن له، فلم يزل به حتى قال: "أطعِمْه رقيقَكَ، وأعْلِفْهُ ناضِحَكَ". أخرجه مالك 2/ 974، وأحمد 5/ 435، 436، والشافعي 2/ 166، وأبود اود (3422)، والترمذي (1277)، والبغوي (2034)، والطحاوي في "شرح معاني الاثار" 4/ 132، والبيهقي 9/ 337، وابن حبان (5154).
أمَّا ما ورد في شأنِ أبي طَيبة؛ فالثابت فيه: "احتجَم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، حَجَمه أبوطيبة،
فأمر له رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بصاعِ من تمر وأمر أهله أن يُخففوا عنه من خراجه".
أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 984، والبخاري (2102) و (2210)، وأبوداود (3424)، والطحاوي 4/ 131، والبيهقي 9/ 337، والبغوي (2035).
ووجه الجمع بين خبر ابن مُحَيَّصَة وخبر أبي طيبة: أن النهيَ عن كسبِ الحجَّام إذا كان على شرطٍ معلوم، بأن يقول: أُخرج منكَ من الدَّم كذا. فلعدم قدرته على إيجاد هذا الشرط، لم يأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في كسب الحجَّام، فإذا عُدِمَ هذا الشرط جاز كسبُه، ولذلك أجازه الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي طيبة، وجازاه على فعله. انظر "الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان" 11/ 557.
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: "أعلفه ناضحك": أي اجعله علفاً لناقتك. والناضح: هي الناقة التي يسقى عليها الماء.
(2) أخرجه عن ابن عباس بهذا اللفظ أحمد 1/ 316 و 324 و333 و 365، والبخاري (2103)، و (2279)، ومسلم (1202)، وأبود اود (3423) والبيهقي 9/ 338.
(3) انظر "العدة"2/ 590، و"الإحكام" للآمدي 2/ 115.
(4) أخرج مالك 2/ 555. أنَّ عائشة زوجَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم، زوجت حفصة بنت عبد الرحمن، المنذرَ بن الزبير, وعبد الرحمن غائبٌ بالشام، فلما قدم عبد الرحمن قال: ومثلي يُصنعُ هذا به؟ ومثلي يفتات عليه؟ فكلمت عائشة المنذر بن الزبير فقال الزبير فمن ذلكَ بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنتُ لأرُدَّ أمراً قضتِه.

(3/403)


إذنِ وليِّها، فنكاحها باطل" (1) الخبر المعروف.
وحكى أبو سفيان عن أبي بكر الرازي أنه قال: هذا على وجهين (2):
أحدهما: أن يكونَ الخبرُ محتمِلاً للتأويلِ، فلا يُلتفتُ إلى عملِ الصحابيِّ، كحديثِ ابن عمرَ في التفرُّقِ بين خبرِ المتبايعين وخيارهما (3)، وحمله ذلك على التفرّق بالأبدان (4)، فلا يعمل على تأويله.
والثاني أن يكون الخبرُ غيرَ محتمِلٍ للتأويل، فعمله بخلافِه يكونُ دليلاً على أنَّه عَرفَ نسخه، او عقلَ من دلالةِ الحالِ مرادَ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه للندبِ دونَ الإيجابِ، وكان يحكي ذلكَ عن الكرخي، وحكى غيرُه عن الكرخيَّ أنَّ الأخذَ بما رواه أَوْلى مما عمل به من غيررتفصيلٍ (5).

فصل
في دلالة الرواية الأولى
إنَّ كلامَ صاحبِ الشرع واجبٌ اتباعُه، وقولَ الراوي وعملَه قد يقعُ لشبهة أو اجتهادٍ يخطىءُ فيه، وقد يكون لدلالةٍ، فلا يجوزُ تركُ الحجّةِ لما يَحتمل هذه الاحتمالات.
وهذه الروايةُ التي تقولُ: إنَّ الصحابي كسائر المجتهدين، وليسَ قولُه حُجّةً، وأيضاً فإنَّ أبا حنيفةَ قال: ليسَ بيعُ الأمةِ المزوجةِ طلاقاً لها، واحتجّ هو وغيرُه بما رويَ عن ابنِ عباس أنَّ عائشةَ اشترت بَريرة، فأعتقتها، فخيرَّها رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - (6)، ولو
__________
(1) تقدم تخريجه في 2/ 147.
(2) انظر قول أبي بكر الرازي هذا في "الفصول في الأصول" 3/ 175.
(3) تقدم تخريجه 2/ 44.
(4) التفرق يكون بالقول ويكون بالبدن، وابن عمر رضي الله عنه حمل الحديث على التفرق بالأبدان، ولذلك قال نافع: كان ابن عمر إذا أعجبه شيءٌ , فارق صاحبه لكي يجبَ له.
أخرجه البخاري (2107)، ومسلم (1531)، والترمذي (1245)، والنسائي 7/ 250، والبيهقي 5/ 269، وابن حبان (4912).
(5) انظر "العدة" 2/ 591، و"أصول السرخسي"2/ 6، و"المسودة": 129.
(6) عن ابن عباس قال: اشترت عائشة بريرة من الأنصار لتعتقها، واشترطوا عليها أن تجعلَ لهم=

(3/404)


كانَ بيعُها طلاقاً لما خيَّرها، وخالفَ ابنُ عباسٍ هذا الخبر وهو راويه، وكان يقولُ: بيعُ الأمةِ طلاقُها (1)، ولم يكن ذلك موجباً ترك الخبر.
ووجهُ المذهبِ الآخر أنَّ الصحابيَّ لا يخالفُ الخبرَ ولا يعاندُه، فإذا عملَ بخلافِه، أو أفتى بخلافِه استدللنا على نسخِ الخبر, وأنَّه إنَّما خالفه وتركَه عن توقيفٍ عرفَه من قول النبي - صلى الله عليه وسلم -، وتصاريفِ أحوالِه الدالّةِ على إسقاطِ حكمِ الخبرِ (2).
جوابُ من نصرَ الأوَّلَ: أنَّ وجوهَ الاحتمالِ لغير ما ذكرتَ كثير، فلمَ قصرتَه على النَسخِ؟ ودلالة الحال مع احتمالِ النسيانِ أو التأويلِ بنوعِ شبهةٍ تجلَّت عنده بالدليلِ مع كونه مجتهداً يُقَرُّ على الخطأ، وليس بمعصومٍ، فلا وجهَ لتقليدِه، وتركِ ظاهرِ الخبرِ مع احتمالِ هذه الوجوه.
الثاني مما تعلَّقوا به: أنَّ الصحابيَّ أعرفُ بقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - لسماعِ الوحي ومشاهدةِ الأحوالِ، وتصاريفِ النبي عليه الصلاة والسلامُ، فكان قولُه قاضياً على ظاهرِ الأخبار.
فيقالُ: قد وفيناه حقَه من هذه الميزةِ فيما يحتملُ من الألفاظِ، فأمَّا ما لا يحتملُ ولا يفتقرُ إلى التفسيرِ والبيانِ فلا؛ لأنَه مجرّدُ خلافٍ منه للخبرِ، ولأنَّه لو عرفَ أمراً؛ لوجبَ عليه نقلُ ذلكَ الأمرِ لنَعرِفه كما عرفَه.
على أنَا قد بيَّنا وجوهَ الاحتمالِ التي لا يستحيلُ حصولُها في حقّه، فلا وجهَ لإبطالِها والاقتصارِ على ما ذكرت.
__________
= ولاءها، فشرطت ذلك، فلما جاء نبيُّ الله - صلى الله عليه وسلم -، أخبرته بذلك، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "إنما الولاء لمن أعتق" ثم صعدَ المنبر فقال: "ما بال أقوام يشترطون شروطاً ليست في كتاب الله" وكان لبريرة زوج، فخيَّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شاءت أن تمكث مع زوجها، وإن شاءت فارقته، ففارقته.
تقدمت الإشارة إليه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "الولاء لمن أعتق" انظر الصفحة 278 من هذا الجزء.
(1) أورده ابن حجر في "فتح الباري" 9/ 404.
(2) انظر "العدة"2/ 592، و"الإحكام" للآمدي 2/ 15، و"المسودة": 129.

(3/405)


فصل
لا يجوزُ تخصيصُ اللفظ العام بعادةِ المكلَّفين (1)
مثلُ ورودِ تحريمِ البيعِ مطلقاً، وعادتُهم جاريةٌ بنوعٍ منه، كقوله العامِّ: {لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [النساء: 29] وقد جرت عادتُهم بأكلِ نوعٍ منه، فإنه لا يُعدلُ عن عمومِ اللفظِ بإخراجِ ما جرت به عادتهم، وما رأيتُ في ذلكَ، خلافاَّ فأحكيه (2)، ولكنَ الأصوليين سطّروا ذلك في كتبهم.
لنا محلى صحةِ ذلك، وإبطالِ ما عساه يذهبُ إليه بعضُ من لا يعرفُ وضعَ
__________
(1) وضَّح الإمام ابن تيمية- رحمه الله- في "المسودة" الحالة التي لا يجوز فيها تخصيص العموم بعادة المكلفين فقال:" وهذا فيه تفصيل: فإن العادات في الفعل مثل أن يكونَ عادةُ الناس شربَ بعضِ الدِّماءِ، ثم تُحرمُ الدِّماءُ بكلام يعمُّها، فهذا الذي لا يجوزُ تخصيصُ العموم به.
وأمَّا إن كانت العادَةُ في استعمال العمومِ، مثل أن يُحرمَ أكلُ الدوابِّ، والدوابُّ في اللغة اسم لكلِّ مادَابَّ، ويكونُ عادةُ الناسِ تخصيصَ الدوالب بالخيل مثلاً، فإنَّا نحملُ الدوابَّ على الخيل".
انظر"المسودة": 123، فيتضح من هذا: أنَّ العادة الفعلية هي التي لا تُخصص العموم، أمَّا العادة القولية فهي تخصِّصه، ولمزيد بيان لهذه المسألة، انظر "العدة" 2/ 593، و"التمهيد" 2/ 158، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 387.
(2) صورة المسألة: أن يكونَ النبي صلى الله عليه وسلم أوجبَ شيئاً أو أخبر به بلفظ عام، ثمَّ رأينا العادة جاريةً بترك بعضها أو بفعل بعضها، فهل تؤثر تلك العادة في تخصيصِ العام؟ فصَّل العلماء في ذلك:
فإن عُلِمَ جريان العادة في زمن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، مع عدم منعه عنها، فيخصّ، والمخصِّص في الحقيقة تقريره عليه الصلاة والسلام.
وإن عُلِمَ عدمُ جريانها، بأن كانت عادةَ طارئة، فإنَّها لا تُخصِّص العموم، إلا أن يُجمَع على فعلها فيكون دليلُ التخصيصِ الإجماعَ لا العادة.
انظر في ذلك "المحصول" 3/ 131 - 132، و"الإحكام" للآمدي 3/ 486، و"البحر المحيط" 3/ 391 - 397. و"العقد المنظوم" للقرافي: 876 - 885.

(3/406)


الخصوص: أنَّ العموم نطقُ الشارعِ، ونطقُه لا يُخَصُّ إلا بنطقِه أو ما يستخرجُ من نُطقِه، كالفحوى، ودليلِ الخطابِ، ومعنى الخطابِ، فأمَّا العادةُ؛ فليست إلا وضعَ الشهواتِ أو الاختياراتِ أو الحاجاتِ التي لا يجوزُ أن تكونَ شرعاً، فكيف تَخُصُّ شَرعاً؟!
وأيضاً: فإنَّ الشريعةَ جاءت بتغيير العوائِد وحسمِ موادِّها، فلا يجوزُ أن يكونَ ما وردت الشريعة قاضيةً عليه، قاضياً عليها، ومُزيلاً لعمومها؛ ولأنَّ الشرع إمَّا لمصلحةٍ أو تحكُّمٌ بالمشيئةِ، والعاداتُ قد تقع بالمفاسدِ، ومخالفةً للمصالح؛ لأنها واقعة ممّن لا مَعرفةَ له بالمصالحِ، وتحكُّمُ الشرعِ إذا وردَ إنما يردُ على ألسنةِ الرسُل، فلا وجْه لقضاءِ العادةِ على عمومِ لفظِ الشارعِ ونطقِه، ولأنَّه لو خُصّصَ العمومُ بالعوائدِ؛ لما عُمِلَ بعمومٍ قط؛ لأنَّ العاداتِ قد تتجددُ أبداً، والخصوصُ بيانٌ، فيفضي إلى خلوِّ نطقِ الشرعِ عن بيانٍ.
شبهةٌ: إذا جاز أن يُخصَّ الاسم بالعرفِ، جازَ أن يُخصَّ العمومُ الشاملُ بالعرفِ.
قالوا: ونقول: ما خُصَّ به الاسمُ خُصَّ به العمومُ، كالنطقِ والقياسِ، ولأنَّ إطلاقَ الثمنِ في البيع يختصّ بنقدِ البلدِ، وهو عُرفٌ، وقد أجمعنا على حَمْلِ اسم الدابة على حيوانٍ مخصوصٍ، وإن كان واقعاً على ما يَدبُّ.
فيقال: إنَّ عرفَ الاستعمالِ في الاسمِ مقارنٌ للفظ، فيصيرُ ذلك لغةً جاريةً، فإنَّ اللغةَ أصلها استعمالٌ، بخلافِ وضعِ الشرعِ، فإنَّه ليس بمبنيٍّ على الاستعمالِ، وإنَّما هو وضعٌ وتحكُم، أو تحكم الحِكمةِ والمصلحةِ للمكلَّفين.
وممَّا يوضحُ الفرقَ بين اللُّغة والشرعِ: أنَّ العاداتِ التي يحتاجُ النَّاسُ إليها لم تتحكمْ على الوضعِ الشرعيِّ، وذلكَ مثلُ عادة الديالِم والركابية والباتاواة (1) أكثرُ
__________
(1) هكذا وردت في الأصل.

(3/407)


استعمالاً من الخِفافِ والقفّازينِ، والنِّقاب والبُرْقُع عادةً للنساء، ولم يحكم بها على الإلحاقِ بالحوائلِ التي أجازَ الشرعُ المسحَ عليها، إلى أمثالِ ذلك من الحاجات والعادات.
فإن قيل: أليس صاحبُكم تركَ الركعتين بعد أذان المغرب، وقبل الإقامة (1)، مع الرواية الصحيحةِ عنده أنَّ الصحابة كانت تبتدرها عند سواري المسجد (2)؟ وقال أيضاً في رواية مُهنا (3) عنه في رواية بهْز بن حكيم عن أبيه عن يَعلى بن حكيم عن سليمان بن أبي عبد الله، قال: أدركتُ أبناء المهاجرين والأنصار يَعتمّون، ولا يَجعلونها تحت الحَنَك: هو معروفٌ، ولكنَّ النَّاسَ -على هذا أهل الشام خاصةً- لا يعتمِون إلا تَحت الحَنَك (4). فظاهر هذا أنه اطَّرحَ الحديث بعادة أهل الشام.
فيقالُ: ليس فيما فعله وقاله قضاءٌ على لفظِ الشرعِ، بل قال في الركعتين: رأيتُ الناسَ ينكرونها. وذلك لجهلِ العامّة، فما تركها إلا في المسجدِ، وإخفاءُ السنن لأجلِ المضرّةِ والتُّهمِ يجوز لدفعِ مَضرّةٍ، لا قضاء بها على الشرعِ، وقضاء بعُرفٍ على عُرفٍ، وقابَلَ عُرفاً بعُرفٍ، وما قَضى بعرفٍ على نُطقٍ.
__________
(1) انظر "المغني" 2/ 546 - 547.
(2) عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كان المؤذنُ إذا أذن قامَ أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، يبتدرون السواري حتى يخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم كذلك. يعني الركعتين قبل المغرب.
أخرجه أحمد 3/ 280، والبخاري (625)، والدارمي (1441)، والنسائي في "الكبرى" (1646)، وابن خزيمة (1288).
(3) هو مهنّا بن يحيى الشامي، أبو عبد الله السلمي، من أكثر أصحاب الإمام أحمد ملازمةً له، حيث لازمه ثلاثاً وأربعين سنة، روى عنه خلالها الكثير من المسائل. انظر "طبقات الحنابلة" 1/ 345.
(4) أورد هذا الرواية أبويعلى في "العدة" 2/ 594 - 595.

(3/408)