الواضح في أصول الفقه فصل
ويَدخلُ التخصيصُ على الأخبار كدخوله على الأوامرِ والنواهي
(1)، نحو قوله: رأيتُ المشركينَ، أشارَ إليه أحمدُ في عدّةِ
مواضع من كتاب الله تعالى (2)، خلافاً لأحد الوجهين لأصحابِ
الشافعي (3) وبعضِ الأصوليين، وجعلوا التخصيص ممنوعاً في بابِ
الأخبارِ كامتناعِ النَّسخِ.
فصل
في الحجّةِ لمذهبنا
إنَّ العمومَ في الخبرِ محتمل يتردَّدُ، كاحتمالِه في الأمرِ
والنَّهي، فيقول القائل: قال الله تعالى: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وبانَ بالتخصيصِ أنَّه أراد
البعضَ، وقال: {تُدمِّر كُلَّ شيءٍ بأمْرِ ربَّها} [الأحقاف:
25]، {وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ} [النمل: 23]، و {اللَّهُ
خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ} [الأنعام: 102]، وأرادَ به البعضَ، وما
زالت العربُ تقول: جاءني النَّاسُ كلُهم، ورأيتُ النَّاسَ
أجمعينَ قد تختموا، كما تقول: ائْتِني بالنَّاسِ كلهم؛ وتُريدُ
به البعضَ، وإذا اتفَقا في الاحتمالِ اتفَقا في التخصيصِ
الصارفِ للَّفظِ الكُلِّي إلى ما احتمله من الجزئي، وأنَ
المرادَ به بعضُ العمومِ أمراً وخبراً.
__________
(1) انظر "العدة"2/ 595، و"المسودة": 130.
(2) انظر "التبصرة": 143.
(3) الذي يؤخذ من مصادر الشافعية الأَّصولية: أن التخصيص يرِدُ
على الأخبار كما يرِدُ على الأوامر والنواهي، يرشدُ إلى ذلك
الأمثلة التي ساقوها في معرضِ بيانهم للتخصيص بالدليل العقلي،
حيث ذكروا منها قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ}،
متناول بعموم لفظه لغةً كلَّ شيءٍ، مع أن ذاته وصفاته أشياءُ
حقيقية وليس خالقاً لها. فخرجت ذاته وصفاته بدلالة ضرورة العقل
عن عموم اللفظ. اهـ. ومعلوم أن قوله تعالى: {اللَّهُ خَالِقُ
كُلِّ شَيْءٍ} من قبيل الأخبار لا من قبيل الأوامر. انظر
"الإحكام" للآمدي 2/ 459 - 465، و"البحر المحيط" 3/ 355 - 360.
(3/409)
شبهةٌ: هذا أحدُ التخصيصين، فلم يدخل على
الأخبارِ، كتخصيصِ الأزمانِ، وذلكَ أنَّ تخصيصَ الأزمان و
[الأعيان] (1) جميعاً يكشفان عن المرادِ، فهذا يخرجُ بعضَ
الزمانِ بعد أن كان ظاهرُه الشمولَ والاسَتغراقَ، فإذا لم
يَجُز أحدهما لم يَجُز الآخرُ.
فيقال: بل يجوزُ نسخُ الخبرِ -وهو الوعيد- يجوزُنسخه بالعفوِ،
وقد تبجَّحت به العربُ، فقالوا: وإنِّي إذا أوْعَدْتُه أو
وَعَدْتُهُ ... لَمُخْلِفُ إيعادي ومُنْجِزُ مَوْعدي (2) إنَّ
النسخَ رفعٌ للحكمِ وإزالةٌ لجميعِ مقتضى اللَّفظِ، فرفعُه
يكشفُ عن الخبرِ أنَّه كان كذباً، وذلكَ لا يجوزُ على الشرعِ،
ولا يحسُن من أحدٍ من المتكلمينَ بالخبر, ويكشفُ ذلكَ أنَّه
لما قال لإبراهيمَ: اذبح واحِدَك أو ولَدَك -على الخلافِ في
النقل- حَسُنَ أن ينسخَ ذَبْحه إلى ذبح الذِّبح (3)، ولو قال:
ذبحَ إبراهيمُ إسماعيلَ أو إسحاقَ، لم يَجُزْ أن يَنْسَخ ذلك
بدليلٍ يوضِّح أنَّه لم يذبحه، حتى إنَّ النسخَ يكون بالخلافِ،
فقال قومٌ: هو البداء على الإطلاقِ، ومنعوا جوازَه على الله
سبحانَه، وقومٌ منعوا منه قبلَ وقت الفعلِ، وظنوه بَدَاءً، وما
استقْبَحَ أحد تخصيصَ العموم، فلا تساوي بينهما (4).
فصل
إذا وردَ الخطابُ من صاحبِ الشرعِ بناءً على سؤالِ سائل،
نظرتَ: فإن لم يكن مستقلاً بنفسِه بحيث لو قُطِعَ عن السؤالِ
وأُفرد عنه لم يكن مفهوماً، مثل قوله لأبي بُردة بن نِيار لما
سأله عن ذبحِ أضحيته قبلَ الصلاة، وأنَّه لا يجد إلا عناقاً
جذعةً:
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) البيت لعامر بن الطفيل، والوعد عادةً يستعملُ في الخير،
والإيعاد يستعمل في الشر، تقول: وعدتُه خيراً وأوعدته شرّاً.
انظر "اللسان": (وعد).
(3) وذلك بقوله تعالى: {وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}،
[الصافات: 107].
(4) انظر "العدة"2/ 595 - 596، و"التبصرة": 143، و"المسودة":
130.
(3/410)
"تُجزئكَ، ولا تجزىءُ أحداً بعدَكَ" (1)،
وقوله لأبي بكرة حيث دخل الصف راكعاً:
"زادَكَ اللهُ حِرصاً ولا تَعُد" (2).
فهذا جوابٌ خاص على السؤال الخاص، وأما إذا كان جوابُه - صلى
الله عليه وسلم - عامَّاً، وسؤال السائل خاصاً، فلا يُحكم
بخصوص الجواب المستقلِّ العامِّ، لأجل خصوص السؤال (3)، مثل
سؤالهم له عن وضوئهِ من بئر بُضاعة، فقال: "الماءُ طَهور" (4)،
وسؤالهم عن كونهم في البحر على أرماثٍ (5) لهم، وليس معهم من
الماء العذب ما يشربونه، وقولهم: أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال:
"هو الطهور ماؤه، الحِلُّ ميتته" (6)، ومثل سؤالهم عن عَبدٍ
وُجِدَ به عَيبٌ، وكان استُغِلَّ، فقال: "الخراجُ بالضمان"
(7)، فكان ذلك عامَّا في كل من له خراجُ شيء. فعليه ضمانُه دون
خصوص العبد المبيعِ المَعيبِ، فهذا يكون على عمومه في حقِّ
الناس كُلّهم، ومثل قول القائل: إنّ أُمي ارتدّت،
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 98.
(2) تقدم تخريجه 2/ 98.
(3) انظر "العدة"2/ 596، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 161،
و"المسودة": 130و" شرح الكوكب المنير" 3/ 176 - 177.
(4) تقدم تخريجه 1/ 39.
(5) الأرماث: جمع رَمَث: خشبٌ يُضم بعضه إلى بعض، ثم يُركب
عليه في البحر "اللسان":
(رمث)
(6) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، مالك في"الموطأ"1/
22، والشافعي 1/ 19، وأحمد 2/ 237 و261، وأبوداود (83)،
والترمذي (69)، والنسائي 1/ 150 و176، و 7/ 207، وابن ماجه
(386) و (3246)، والدارمي 1/ 86، وابن حبان (1243)، والبغوي
(281)، والحاكم 1/ 140.
وفي الباب عن جابر أخرجه أحمد 3/ 373، وابن ماجه (388)،
والدارقطني 1/ 34، وابن خزيمة (112)، والحاكم 1/ 143، وابن
حبان (1244).
(7) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها أحمد 6/ 80 و116،
وأبوداود (3510)، والدارقطني 3/ 53، والحاكم 2/ 14 - 15 و15،
والبغوي (2118)، وابن حبان (2927).
(3/411)
فيقول: اقتُلوا مَن بدَل دينه، أو: "مَنْ
بَدَل دينَه فاقتُلوه" (1)، فنأخذ بعموم اللَّفظ دون خصوص
السبب، وبه قال الفقهاء، خِلافاً لمالك، والمزني -من أصحاب
الشافعي-، وأبي ثور، وأبي بكر القَفّال، والدَّقاق في قولهم:
يقصر على السبب الخاص، ويخصّ به عموم الجواب (2).
فصل
يجمع أدلتنا
فمنها: أنَّ الحكمَ إنَّما يُتلقى من لفظ صاحبِ الشريعةِ دونَ
نطق السائِلِ، فإذا كان لفظُه عامّاً، وسؤالُ السائلِ خاصَّاً،
علمنا أنه مبتدىءٌ بالتشريعِ العام، تاركٌ لتخصيصِ السائِل،
فالسائلُ إذا قال له: إنَّ زوجتي ارتدَّت، فقال هو - صلى الله
عليه وسلم -: "من بدَّلَ دينَه" فعليه القتلُ، أو: "فاقتلوه"
(1)، علمنا أنَّه أرادَ تشريعَ قتلِ المرتدينَ أجمعَ، بوحيٍ
عامٍّ نزلَ عليه، وكان المثيرُ له سؤالَ السائلِ.
ومثلُ هذا من الكلامِ الجاري فيما بيننا: أنَّ قائلاً لو قالَ
لغيرِه: هل أنجزَكَ الأميرُ ما وعدَكَ؟ فقال: إنَّ الأمير
منجزٌ وعدَه، محققٌ لخبرِه بإنجازِه، لا يُخلفُ وعداً، ولا
يَنكُثُ عقداً. عَلمَ كُلُّ سامعٍ كلامَه أنَّه لو أرادَ جوابَ
سائلِه فقط، لقال: نعم أنجزَني. فلما أطالَ؛ عُلِمَ؛ أنَّه
قصدَ وصْفَ الأميرِ بإنجازِه عِداتِه هذه وغيرَها، وأنَّ ذلكَ
دأبُه وخُلُقُه وعادتُه، وهذا أعمُّ من السببِ والسؤالِ.
والذي يوضِّحُ هذا: أنَّه لو كانَ كلامُه مقصوراً على سؤالِه؛
لما كانَ مجيباً له، ألا
__________
(1) تقدَّم تخريجه 1/ 39.
(2) سبقت الإشارة إلى هذه المسألة، وبيان أنَّ المعتمدَ عند
كثير من أئمة الشافعية: أنَّ اللفظ العام المستقل بنفسه،
الواردَ على سببٍ خاصٍّ من سؤال أو واقعة، يجبُ حمله على
عمومه. انظر ما تقدم في 2/ 17.
(3/412)
ترى أنَّ السائلَ في المناظرةِ والمجادلةِ
إذا قال: ما تقول في نبيذ التَّمر المشتَدِّ؟ فقال: عندي كُلُّ
نبيذٍ من تمرٍ وزبيبٍ وحنطةٍ وذُرةٍ وشَعيرٍ حرامٌ، وعلى الذي
يسكرُ منه الحدّ. لم يكن مجيباً عندَ أهلِ الجدل، وقالوا: لا
يكونُ الجوابُ صحيحاً حتى يكونَ مطابقاً للسؤالِ، والنبيُّ -
صلى الله عليه وسلم - يُسألُ عن ماء البحر فيجيب عنه وعن
ميتَتِه. ويقول ابتداءً: "لا جَلَبَ ولا جَنَبَ ولا شِغار"
(1)، ويقول: "البِئْرُ جُبارٌ، والمعدِنُ جُبارٌ، وفي
الرِّكازِ الخُمسُ" (2). فيقرنُ بالحكمِ ما لا يشاكله، وهذا
يدلُّ على أنَّه ليس ينتظمه نظماً إنما يقولُ ما يقالُ له،
فإذا أُنزلَ الوحيُ بالأمرِ، قاله بحسب ما أوحيَ إليه، فإذا
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 51.
(2) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 249، وأحمد 2/ 239 و 254 و 274
و 285 و319، وعبد الرزاق (18373)، والبخاري (6912) و (6913)،
ومسلم (1715)، والدارمي 1/ 393، و2/ 196، وأبود اود (3085)،
وابن ما جه (2673)، والترمذي (642) و (1377)، والنسائي 5/ 45،
وابن خزيمة (2326)، والدارقطني 3/ 151، وابن حبان (6005) و
(6006) و (6007) من حديث أبي هريرة، بلفظ: "العجماء جُرحها
جُبار، والبئرُ جُبار والمعدن جُبار، وفي الركاز الخمس".
والعَجْماء: هي البهيمة، والجُبار هو الهَدْرُ، وإنَّما جُعل
جُرحُ العجماءِ هدراً إذا كانت مُنفلتة ليس لها قائد، ولا
سائقٌ، ولا راكبٌ، فإن كان معها واحدٌ من هؤلاء الثلاثة، فهو
ضامن؛ لأنَّ الجناية حينئذ ليست للعجماء، إنما هي جناية صاحبها
الذي أوطأها النّاسَ.
وقوله:"البئرُ جُبار": هي البئر يَستأجرُ عليها صاحبُها
رَجُلاً يحفر في ملكه، فتنهارُ على الحافر، فليس على صاحبها
ضمانٌ. وقيل: هي البئر العاديةُ القديمةُ التي لا يعلم لها
حافرٌ ولا مالكٌ، تكون في البوادي، فيقع فيها الإنسان أو
الدابة، فذلك هدر.
وأما قوله: "والمعدن جُبار": فإنها المعادنُ التي يستخرج منها
الذهب والفضة، فيجيء قوم يحفرونها بشيءٍ مسمىً لهم، فربما
انهار المعدنُ عليهم فقتلهم، فيقول: دماؤهم هدر؛ لأنهم عملوا
بأجرة.
وقوله:" في الرِّكاز الخمس" فهو دفين الجاهلية إذا وجدَ؛ فيكون
فيه الخمس لبيت المال، والباقي لواجده.
(3/413)
قصرنا قولَه العامَّ على سؤالِ السائلِ
الخاصِّ، عطَّلنا وحيَ اللهِ؛ لأجلِ تخصيصِ السائلِ لغرضِه
الخاصِّ، وذلك لا يجوزُ.
فإن قيل: فلو قالَ لهم لمَّا سألوه: توضؤوا به، بَدلاً من
قوله: "هو الطهورُ ماؤه"، كان مقصوراً عليهم، أو قالَ لهم:
نعم، ولم يزد على هذا، وقفَ على وضوئهم به.
قيل: كذا يقتضي المذهبُ، إذ لا عمومَ في اللفظ إلا أنْ تقومَ
دلالةٌ، فيدلَّ (1)، بل يكونُ مقصوراً عليهم، وعلى من حاله
كحالهم التي ذكروها.
ومنها: أنَّا أجمعنا على أنَّ السؤالَ إذا كان عامَّاً، وجوابُ
النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غيرُه خاصاً، قُضيَ بخصوص
الجواب.
مثالُه: أن يقول السائل: يا رسولَ الله، أنقتل من لقينا من
المشركين؟ فيقول: اقتلوا غير المجاهدين، أو اقتلوا من لا
ذِمَّة له، أو يقولَ: أنعتق كل رقبةٍ في الكفارةِ؟ فيقول:
أعتِقوا السليمةَ المسلِمةَ من الرقابِ. فإنَّا نقضي بخصوصِ
الجوابِ على عمومِ السؤالِ، تلقياً للحكمِ من لفظِ الشارع دونَ
السائلِ، فكما يُطرحُ عموم سؤالِه لخصوصِ جوابِ الشارعِ، كذلكَ
يجب أن يُطرحَ خصوصُ جوابِ السائلِ لعمومِ خطابِ الشارعِ، ولا
نجدُ (2) لذلك فرقاً.
ومنها: ما أجمعَ عليه الفقهاءُ: أنَّ الزوجَ إذا شكت إليه
زوجتُه ضَرَّةً لها، فأجابها بأنْ قال: كلُّ زوجاتي طوالق.
قُضيَ بوقوعِ الطلاقِ على الشاكية والمشكوِّ منها وغيرهِما،
ممن لم يَجْرِ لها ذكرٌ في لفظِ الشاكيةِ، تعويلاً على عمومِ
إيقاعِه وشمولِ لفظه دونَ خصوصِ سؤالها (3).
يوضِّحُ هذا: أنَّ الزوجَة الشاكيةَ كالمرأةِ السائلةِ،
والزوجُ في تملّكِه إيقاعَ الطلاقِ
__________
(1) أي: فيدل اللفظُ على العموم حينئذٍ.
(2) في الأصل: "ولا يجدوا".
(3) انظر تفصيل المسألة في "المغني" 10/ 403 - 404.
(3/414)
وإزالةَ السببِ المشكوِّ منه بتصرفِه في
الزوجاتِ، كصاحبِ الشرعِ في تصرُّفِه في الأحكامِ، ثم عوَّلنا
على عمومِ جوابِ الزوجِ، ولم نقضِ عليه بخصوصِ سؤالِ المرأةِ
الزوجةِ، كذلكَ يجبُ أن نعوِّل على عمومِ قولِ الشارعِ دونَ
خصوصِ سؤالِ السائلِ.
ومنها: أنَّ الجوابَ إذا كانَ صالحاً لخطابِ سائرِ المكلفين لم
يقصر على السائلِ اعتباراً بعمومِ لفظِ الشارعِ الشاملِ لجميعِ
المكلفين المخاطبين، كذلكَ في بابِ عمومِ الحكمِ وشموله يجبُ
أن لا يقتصرَ على سؤالِ السائل، وما الفرق بين الشخصِ السائل
الخاصِّ [وغيره] (1) إلا أنَّ المصالح تختلف باختلاف الزمان،
وكذلكَ خُصَّت الأمكنةُ بالمناسكِ، والأسفارُ بالرخصِ، فلا
فرقَ بينهما، فلما لم نقصر الجوابَ العامَّ على السؤال الخاص،
كذلكَ لا نقصر الجوابَ العامَّ على السبب (2) الخاصِّ، وذلكَ
مثلُ آيةِ اللِّعانِ، نزلت في هلالِ بن أُمية (3)، وآيةُ حد
القَذفِ نزلت في عائشةَ (4)، واعتبر بعموم (5) صيغتها دونَ
خصوصِ القصةِ والشخصِ الذي نزل فيه.
ومنها: أنَّ السؤالَ قد يقعُ في زمانٍ مخصوص ومكانٍ مخصوصٍ،
ولا يُعتبر بهما، وإن كانت المصالحُ تختلف بهما، لكنَّا
عوَّلنا على عمومِ الصيغةِ وشمولها دونَ خصوصِ الوقتِ والمكان،
كذلكَ يجبُ أن نُراعيَ عمومَها دون خصوصِ السؤالِ.
فإن قيل: المكانُ والزمانُ لا يصلحان وصفين لِعِلَّة (6)
الحكم، بخلاف ما انتظم سؤال السائلِ من الألفاظِ.
قيل: السفر في البحر وصفُ الماءِ، وكما (7) يجوز أن يكون وصفاً
بعضُ الأزمانِ،
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) في الأصل: "السؤال"، ولا تستقيم بها العبارة.
(3) تقدم تخريج حديث اللعان في 2/ 32.
(4) تقدم تخريج حديث الافك فى 2/ 31.
(5) في الأصل: "بالعموم".
(6) تحرفت في الأصل إلى: "فعلة".
(7) في الأصل: "كما".
(3/415)
يصلح أن يكون [وصفاً بعض الأعيان] (1)،
وكيف لا يكون كذلك؟، والنسخ يا حُسْنُهُ عند من علَّله (2).
ومنها: أن العامّ إنما يُقضى عليه بما يخالفه وينافيه، فأمَّا
ما يطابقه ويماثله ويُضاهيه؛ فلا، ومعلومٌ أنه لا تَنافي بين
السببِ الذي وقع السؤال عنه، وبين عموم الجواب، فإنَّه سُئِلَ
عن الوضوءِ بماءِ مخصوصٍ، فأجاب بجنسِ جعلَ الماءَ طهوراً،
الذي ماءُ البحرِ منه وبعضٌ له، ولهذا لا يقتضى بالنَسخِ (3)
مع إمكانِ الجمعِ، فكيف يقضى بالتخصيصِ للعموم بلفظِ يُطابقه
ويُلائمه؟
ومنها: أنَّا أجمعنا على أنَّ عمومَ لفظِ صاحبِ الشريعةِ
حجّةٌ، وأنَ قولَ السائلِ ليس بحجةِ، فلا يجوزُ أن يقضى على
قولِ هو حجة بقول مسترشِدٍ وليس بحجة.
ومنها: أنَّ لفظَ الشارعِ مستقلٌ بنفسه، وغيرُ محتاجِ، ولا
يفتقر إلى السؤال، ولهذا لو ابتدأ فقال: الماءُ طَهورٌ،
الخراجُ بالضِّمانِ، ماء البحرِ طهورٌ وميْتته حلالٌ. كان ذلكَ
شرعاً مستقِلاً، والسؤالُ لو انفردَ لما تعلَّقَ به حكمٌ، فكان
الاعتبارُ باللفظِ الذي به يتعلَّقُ الحكمُ دون مَا لا يتعلَقُ
الحكمُ به إذا انفرد.
فصل
يجمع شُبَههم
فمنها: أنْ قالوا: السؤالُ مع الجوابِ كالجملةِ الواحدةِ،
بدليلِ أمرين:
أحدُهما: أنَّه هو المقتضي للجواب.
والثاني: أنَّه متى كان الجوابُ مُبْهماً أُحيلَ ببَيانه على
السؤالِ، ألا ترى أنَّ ابتداءَ قول القائلِ بنَعمْ لا يُفيد،
فإذا قالَ: أزيدٌ في الدارِ؟ فقالَ المجيبُ: نَعمْ، صارَ
المقتضي
__________
(1) ما بين حاصرتين زيادة من أجل استقامة العبارة.
(2) هكذا وردت العبارة في الأصل.
(3) في الأصل: "با لمسح"، ولعل المثبت هو الصواب.
(3/416)
لنعمْ قولُه: أزيدٌ في الدار؟ قال الله
تعالى: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا
قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 144]، {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ
قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] وإذا ثبت أنَّها جملةٌ واحدةٌ؛
وجبَ أن يجعل الجوابُ مقدَّراً بالسؤالِ، وصارَ كالمبتدأ
والخبر: قامَ زيدٌ، أو: زيدٌ قامَ. والاستثناءِ مع المستثنى:
قامَ النإسُ إلا زيداً.
فيقالُ: لا نُسلِّمُ أنهما كالجملةِ الواحدةِ، بل هما جملتانِ
مفترقتانِ، وأمَّا كونُ الجوابِ بمقتضى السؤال، فلا يُسلَّمُ
أيضاً، وكيفَ يكون مقتضاه، وذلكَ خاصٌ، وهذا عامٌّ، فأين
الخاصُّ من العامِّ؟ ولربما كانَ الجوابُ يتضمنُ حكمين
وثلاثةً، ويكونُ السؤالُ عن حكمٍ واحدٍ على ما بينّا من ذكرِ
مَيْتةِ البحرِ، وما سألوه إلا عن مائِهِ، وكما نطقَ به
القرآنُ عن موسى- عليه السلام-، لما قيل له: {وَمَا تِلْكَ
بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى} [طه: 17]، كان جوابه: {هِيَ عَصَايَ
أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ
فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى} [طه: 18] وكان الجوابُ الذي يخصُّ
السؤال: عَصا، بلا إضافة، فهذا شائعٌ في لغة القومِ.
وكونُه قد يُحَالُ منهم الجواب على بيان السؤال (1)، فباطلٌ
بالكتابِ مع السُّنةِ، فإنَّه يجوزُ أن يحالَ أحدُهما على
الآخرِ في البيانِ وهما مختلفانِ.
على أنَّ خلافَنا في الجوابِ المستقلِّ بنفسِه غير مفتقِرٍ في
البيان إلى السؤالِ، وذلك ليس مع السؤال جملةً واحدة.
ثمَّ هذا يبطل بما ذكرنا من سؤالِ الزوجةِ زوجَها وشكواها
الخاصِّ إذا أجابها عنه بطلاقٍ عامٍّ.
فإن قيل: لنا في الزوجةِ من الحجّة عليكَ مثل مالَكَ، فإنَّها
لو سألَتْه الطلاق، فقال لها: أنت خَليَّة. فإنَّ قوله: أنت
خليَّة. إذا كان مُبتدأ؛ لا يقعُ به طلاقٌ، ولو أجابها به عن
سؤالها، كان طلاقاً، وما حصل كونُه طلاقاً إلا بناءً على
سؤالها.
__________
(1) في الأصل: "الجواب"، والمثبت هو الصواب.
(3/417)
قيل: "خَليةٌ" لفظٌ صالحٌ متردد بين
خليِّةٍ من زوجٍ، ومن الخيرِ، فإذا سألَتْه، كان الظاهرُ أنَّه
قصدَ جوابها، فصارَ ما دلَّ على نيته وقَصدِه [قائماً] (1)
مقامَ قصده، ودلائلُ الأحوالِ أبداً تترجَّحُ إلى أحد محتملي
اللفظِ (2).
ومثلُه من ألفاظِ صاحبِ الشريعةِ إذا قال له الرجلُ: أريدُ
طلاقَ زوجتي لكونِها متبرِّجةً. فقال: خَلِّها. صُرِفَ إلى
التخليةِ بالطلاقِ، دونَ التخلية من حَبسِه وحَجرِه.
ومنها: أنَّه جوابٌ خَرَجَ على سؤالٍ خاصٍّ، فكانَ مقصوراً
عليه، كما لو لم يستقلَّ إلا بالسببِ.
فيقال: المعنى هناك: أنَّ اللفظ لم يتناول غير ما سئلَ عنه،
فهو كقوله - صلى الله عليه وسلم -:
"تُجزئكَ ولا تُجزىءُ أحداً بعدَكَ" (3) لمَّا لم يصلح الخطابُ
لغيرِه وُقِفَ عليه، وليسَ كذلكَ ها هنا، فإنَّ اللفظَ العامَّ
موضوعٌ للشمولِ، فهو كلفظِ المجيبِ إذا تناولَ عدداً مخصوصاً
كالعشرةِ، والسائلُ واحدٌ، فلو قالَ له واحدٌ من عشرة حاضرين:
يا رسولَ اللهِ، أتوضأ بماءِ البحر؟ فقال: توضؤوا بمائِهِ،
فإنَّه يُعملُ بجوابِه الشاملِ للعشرةِ، دون خصوصِ السائلِ.
ومنها: أنْ قالوا: لمّاَ وردَ الخطابُ على السببِ، دلَّ على
أنَّه بيانٌ لِحكمةٍ خاصَّةٍ، إذ لو كانَ بياناً لغيرِه لبينه
قبلَ السؤالِ؛ لما وجبَ عليه من بيانِ الأحكامِ.
فيقالُ: يجوزُ أن يكونَ عند سؤال السائل نزلَ الوحيُ له
وللأمّة، بل الظاهرُ ذلكَ، وإنَّما لم يَبتدىء، لأنَّ اللهَ
سبحانه أثَارَ السببَ، وهو الحاجةُ إلى السؤالِ حتى يبين الحكم
العام للأمة، كما قيضَ العباس لقوله: يا رسولَ الله إلا
الإذخرَ، فقال: "إلا
__________
(1) زيادة يستقيم بها السياق.
(2) هكذا فى الأصل، ولعل صوابها: "ودلائل الأحوال أبداً ترجح
أحد محتملي اللفظ".
(3) تقدم تخريجه 2/ 98.
(3/418)
الإذْخر" (1) بأسرعِ جوابٍ، وما كانَ ذلك
منه، بل قيلَ له، فقالَ، وإنما سبقَ العباسُ إلى الاستثناءِ،
والله قد أعد الرخصةَ جواباً، كما رويَ عن عمرَ في الثلاثِ
التي وافق اللهَ فيها، ولهذا قال: وافقتُ ربي في ثلاث (2)،
وقول النبي - صلى الله عليه وسلم -: "سَنَّ لكم مُعاذُ" (3)،
والمرادُ به: أنَّ الله قيَّضه لفعل ذلك، وقد سبق بتشريع ذلكَ،
لا أنَّ معاذاً شرعه أعني تأخير قضاء ما سَبَق به من الركعات
بعد أن كانوا يَبتدؤون بأداءِ ما فات -ألا
__________
(1) ورد ذلك في حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: " إن هذا البلدَ حرامٌ، حرَّمه اللهُ
إلى يوم القيامة، لا يُنفر صَيده، ولا يُعضَدُ شَوكُه، ولا
تُلْتمَطُ لُقطته إلا من عرَّفها، ولا يُختلى خلاؤه"، فقال
العباس: إلأ الإذخر, فإنه لبيوتهم. فقال: "إلا الإذخر".
أخرجه مطوَّلاً ومختصراً: أحمد 1/ 315 - 316 و348، وعبد الرزاق
(9713)، والبخاري (1349) و (1833) و (1834) و (2433) و (3189)،
وأبود اود (2017)، ومسلم (1353)، والنسائي 5/ 203 - 204، وابن
حبان (3720)، والبيهقي 6/ 199.
(2) بين هذه الثلاث الحديث الذي رواه أنس، قال: قال عمرُ بن
الخطاب: وافقت ربي في ثلاث، قلت: يا رسول الله، لو اتخذت من
مقام إبراهيم مصلى، فأنزلَ الله: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ
إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى}، [البقرة: 125]، وقلت: يَدخل عليك
البَر والفاجر فلو حجبتَ أمهات المؤمنين.
فأُنزلت آيهْ الحجاب، وبلغني شيء من مُعاملة أُمهات المؤمنين،
فقلت: لتكفُّنَّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو ليبدِ
لنَّه الله أزواجاً خيراً منكنَّ، حتى انتهيت إلى إحدى أمهات
المؤمنين، فقالت: يا عمرُ, أما في رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما يَعظ نساءه حتى تعِظَهنَّ أنت!، فكففتُ، فأنزل الله:
{عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا
خَيْرًا مِنْكُنَّ} [التحريم: 5].
أخرجه أحمد 1/ 23 - 24 و 24 و36 - 37، والبخاري (402) و (4483)
و (4790) و (4916)، والترمذي (2959) و (2960)، وابن ماجه
(1009)، وابن حبان (6896).
(3) أخرج أحمد 5/ 233 و 246، وأبوداود (506) و (507)، وابن
خزيمة (381)، (382) و (383)، وعبد الرزاق 2/ 229 عن عبد الرحمن
بن أبي ليلى قال: كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه
وسلم إذا جاء الرجل وقد فاته من الصلاة شيء أشار إليه الناس،
فصلى ما فاته، ثم دخل في الصلاة، حتى جاء يوماً معاذ بن جبل،
فأشاروا إليه فدخل، ولم ينظر ما قالوا، فلما صلى النبي صلى
الله عليه وسلم ذكروا ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم:
"سنَّ لكم معاذ".
(3/419)
تراه كيف بين حكماً لم يُسأل عنه؟ وكجوابه
بميتةِ البحرِ وما سُئل عنها، ولأنَه لو كان بياناً للجواب
خاصَّةً لخصَّه به كما خصَ أبا بُردَة وأبا بَكْرة (1)، ولأنه
باطل بنزوله على حادثةٍ، كالَلِّعان في العَجْلاني (2)، وآياتِ
القذف لقصة عائشة (3)، وغير ذلك من أمثالِها نزلت لأجلِ حوادث
ولا تختصّ بل تعمُّ، كذلكَ السؤالُ.
ومنها: أن قالوا: إن السبب هو الذي أثار الحكم فتعلَّقَ به،
كالعلَّةِ، والعلّةُ لا تؤثر إلا بمعلولها خاصَةً، كذلكَ
الجوابُ الذي أثارَ السبَب.
قيل: العلةُ مقتضية للحكمِ، ولهذا لا يدخلُ عليها ما لا يؤثرُ
ولا يقتضي، ولو زيدتْ وصفاً كان حشواً، ولا يجوزُ أن تكونَ
العلةُ أعمَ من حكمِها، فلو قالَ فيما يَستقلُّ: بطاهرٍ مائعٍ.
لم يَجُز ولو قال فيما يستقل: بطاهرٍ جامدٍ. كان حشواً. وفي
مسألتنا يُسألُ عن الماءِ، فيجيبُ عن الميتةِ مع الماءِ وعن
أحكام كثيرةٍ (4).
ومنها: أن تعديهُ من السببِ الذي وردَ عليه لا يؤمَنُ أنْ
يكونَ مفسدةً، والظاهرُ بأنَّه لمّا خرجَ على السببِ الخاَصِّ
أنَّه كان مصلحةً على ما وردَ عليه من السببِ الخاصِّ. (5)
فيقالُ: إنَّ المصالحَ قد تكونُ منوطةً بالأشخاصِ والأزمانِ
والأمكنةِ، والواحدِ دونَ العددِ الزائِد، ومع ذلكَ لم يقصره
المخالفُ على الشحْصِ السائِل، ولا الوقت
__________
(1) انظر ماتقدم في الصفحة 411 من هذا الجزء.
(2) هو عويمر بن أبيض الأنصاري العجلاني، أحد من نزلت فيهم آية
اللعان كما في البخاري (5259)، ومسلم (1492) (1)، و"الموطأ"2/
566، و"مسند أحمد"5/ 336.
والمصنف رحمه الله ينسب قصة اللعان هنا للعجلاني، مع أنه نسبها
في الصفحة (415) لهلال بن أمية، وقد نسبت القصة لكليهما، انظر
"تفسير القرطبي" 12/ 183، و"تفسير ابن كثير" 3/ 265.
(3) تقدم تخريج حديث الإفك في 2/ 31.
(4) انظر "العدة" 2/ 613، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 166.
(5) انظر "العدة" 2/ 613، و"التمهيد" 2/ 167.
(3/420)
الذي حصَلَ السؤالُ فيه، ولا قصرَه على
المكانِ، ولا خصَّهُ بالواحدِ إذا كان جوابُ الشارعِ تضمَّنَ
الخطاب لعشرةٍ، على أنَّه لو كانَ المصلحةُ ذلكَ لما جاز
للشارعِ أن يتنكَبَ الخاصَّ من القول، ويعدِلَ إلى العامِّ.
ومنها: أنْ قالوا: لو كانَ الجوابُ عن سؤال (هل) ب (نعم) أو
(لا)، أو عن (ليس) ب (بلى) كان مقصوراً على السؤال، فلما قال
الباري سبحانه: {فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ
حَقًّا قَالُوا نَعَمْ} [الأعراف: 44] وقال: {أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى} [الأعراف: 172] كان تقديره: نعم،
وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً، بلى أنتَ ربنا.
فيقال: إنَّما يكونُ ذلكَ في الجوابِ الناقصِ، وكلامُنا في
الجوابِ التَّام العام الصالحِ للابتداءِ وإلاستقبالِ، ولسنا
نُنكرُ تعلُّقَ الجوابِ بالسؤالِ إذا لم يكن مستقلاً، وقوله:
نعمْ. لا يستقلُّ، وبلى أيضاً لا يستقِل، ولهذا لو ابتدأ به لم
يُعقل منه معنى حتى يُسألَ عمَّا كان من السؤالِ. وها هنا
الكلامُ مُستقِلٌ، ولهذا لم يقصَر عليه.
ومنها: أن قالوا: قد اتفقَ أصحابُكم وأصحابُ مالك على أنَّ
الأيْمانَ محمولةٌ على مخارجِها، مقصورةٌ على ما هيَّجها
وأثارها، فاذا قال: واللهِ لا فَعلتُ كذا، ولا قَبلتُ منك كذا.
وكان (1) المهيِّجُ ليمينه والسببُ فيها: المنَّةَ، لم يُحملْ
إلا على ما يزيل المنَّةَ، وامتنع من القبول لأجلها، واليمينُ
حكمٌ شرعيٌ بُنيَ على لفظٍ وترتَبَ عليه، كذلكَ يجبُ أن يقصر
جوابُ صاحبِ الشريعةِ على السببِ الذي أثارَه، ومتى لم يكن كذا
كان مناقضةً في المذهبِ، إذ لا فرق بينهما.
فيقالُ: إنَّ الأيمانَ حجةٌ لنا من وجهٍ؛ وهو أنَّه إذا حلف:
لا لبسَ من غزلِ زوجتهِ، وكانَ السببُ في يمينِه منَتها عليه،
واستزادتَها له على ما يجبُ لها؛ لأجل ما ذكرَته من غزلها،
فإنَّنا لا نَقصر ذلك على الغزل، حتى إنه لا يقف حِنثُه على
لُبسِه من غزلها، بل يحنثُ بقبولِ كل شيءٍ من جهتها؛ من مالٍ
وعملٍ تحصل بمثله المنَّةُ،
__________
(1) في الأصل: "كان".
(3/421)
فلو ركِبَ دابَّتها، أو استخدم عبدَها
وأمتَها، فإنَّه يحنثُ، فقد تعدت اليمينُ السببَ المحلوفَ
عليه.
على أنَّ الأيمانَ تُحْالف وضعَ الشرعِ؛ لأنَّها تتخصص بالعرف،
ولهذا لو حلفَ: لا أكلتُ الرؤوسَ. حُمِلَ على رؤوسِ الأنعامِ،
و: لا دخلتُ سوقَ الطعامِ.
تخصَّص حِنثُه بدخولِ سوقِ الحِنطةِ دونَ دار البِطِّيخ وسوقِ
الخبازين، وإن كان الخبزُ أقربَ إلى الطُّعمِ والأكلِ، فإنَّ
الطعامَ طُعمةُ الإنسانِ، والحنطةُ أبعدُ من الطُّعمِ (1).
ومنها: قولُهم: لو لم يكن الجواب مقصوراً على السبب؛ لجاز
إخراجُ السَببِ عن تناول حكمِ الخطابِ له، كما لو نَطقَ
باللفظِ العامِّ ابتداءً، فإنه لو ابتدأ العمومُ جاز تخصيصُه
فيما عدا السببَ الذي وردَ عليه سؤالُ السائلِ في مسألتِنا،
فلمَّا كانَ السببُ لا بُدَّ داخلاً، عُلِمَ أنَّه قد تخصَّص
به تخصُّصاً خرجَ به عن حكمِ العمومِ المبتدأ.
بيانُه: أن يقول ابتداءً: "الماءُ طَهوو لا ينجسُه شيءٌ" (2)،
ويخصُّ به ماءَ بئرِ بُضاعة بأنَّه ليسَ بطَهورٍ، فلَّما جاءَ
سؤالُ القوم عن بئر بُضاعة، فقالَ: "الماءُ طهور"، لم يَجز
بعدَ خروجِ سؤالِهم عنها أنْ يخرجَ ماؤها عن الطُّهوريةِ
المذكورةِ.
فيقال: إنَّما لم يجز إخراجُه عن الجوابِ بعدَ السؤالِ؛ لأنَّ
الجوابَ وإن كانَ لفظُه عامَّاً، إلا أنَّه لا بُد أن يكون
جواباً عن السؤالِ، فأوَّلُ ما يُراعى في اللَّفظِ الواردِ
عقيبَ السؤال أن يكون جواباً، ثم يُعطى العمومُ حقَه، كما
أعطيَ السؤالُ حقَّه، ألا ترى أنَّه لا يحسُنُ أن يقولوا له
حالهَم التي ذكروها في البَحرِ، ثم يُتبعوه: أفنتوضأ بماء
البحر؛ فيكونُ جوابه: هو الحلُّ ميتته. لأنه ابتدأ إفادةً
بالشرعِ إباحة ميتةِ البحر،
__________
(1) انظر هذه الشبهة والرد عليها في "العدة" 2/ 613.
(2) تقدم تخريجه 1/ 39.
(3/422)
ويكون مُعطلاً للبيان عما سألوه عنه مع
حاجتهم إليه، وذلكَ لا يجوزُ، فكما لا يجوز تركُ ما سألوا عنه
ابتداءً، والإتيانُ بحكمٍ آخرَ غيرِ ما سألوا عنه، كذلكَ لا
يحسُن أن يأتَي بلفظِ عمومٍ ثم يخصُه على غيرِ ما سألوه عنه،
فلذلكَ افترقَ الحالُ بينَ العمومِ المبتدأ، والعمومِ الخارجِ
على سبيلِ الجوابِ عن حكمٍ خاص (1)، وأنَّ العمومَ المبتدأ لا
يجبُ فيه قضاءُ حق آخرَ، وهذا يجبُ فيه أن يُراعى مراعاةَ حكمِ
الجوابِ وإعطاء العمومِ الزائدِ عليه حقَّه. ألا ترى أنَّ
الناس يعدُّون (2) ذلك عبثاً شائعاً، فيقول قائلهم: سألته عن
أبيه، فقال: خالي شُعيبٌ، إذ كان توريةً عن الجوابِ، ولو قال:
أبي زيدٌ، وخالي شعيب، لم يستنكرْ أن يجيبَه عمَّا سأل، ويفيده
تعريفَ خالِه بعد تعريفِ أبيه المسؤولِ عنه.
على أنَّ الإجماعَ يغني عن الاعتذارِ، ففيه الكفايةُ، ولا
خلافَ بين الأمَّةِ أنَّ ما خرجَ السؤالُ عليه لا يجوز
تخصيصُه، ودليل الإجماعِ: ما (3) ذكرناه، والله أعلم.
ومما يصلح أن يكَونَ دلالةَ الإجماعِ: أنَّ الخطابَ الخارجَ
ابتداء لكلِّ مكلَّفٍ، فالسائلُ من جملةِ المكلَّفين، وله
خصيصةُ استحقاقِ الجوابِ عما سألَ عنه؛ لكونه محتاجاً إلى
العلم بذلك، فإنَّ (4) رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - لا
يجوزُ له تركُ ما يجبُ من البيانِ، والعدولُ إلى بيانِ حكمٍ لم
تقع الحاجةُ إليه، ولو تسلَّطَ عليه الإخراجُ عن عمومِ اللفظِ
وتناوله له كانَ نسخاً، فأمَّا تخصيصاً فلا.
ومن أعظمِ الفوائِدِ: أنَّه لو لم يردِ السببُ والسؤالُ اللذان
خَرجَ اللفظُ عليهما، بل نقل مجرَّدُ اللفظِ؛ لكانَ لأهلِ
الاجتهادِ إخراجُ ذلكَ بدليلٍ، فلماَّ خرجَ مخرجَ السؤال؛
امتنعَ ذلك؛ لأنَّه صارَ جوابه نصَّاً ومن أخرجَ السببَ عن
حكمِ اللفظِ كان
__________
(1) في الأصل: "الخاص".
(2) في الأصل: "يعيبون".
(3) في الأصل: "بما"، والمثبت أنسب للسياق.
(4) تحرفت في الأصل إلى: "قال".
(3/423)
نسخاً، فقد تخصَّصَ السببُ بهذه الخصيصةِ،
وتخصُصُه يمنعُ من كونِ اللفظِ الذي حصل جواباً عاماً، إذ لو
كان له حكمُ العموم لما اختص بعضُه بحكمٍ يخرج به عن جميعِ ما
شمِلَه، وما هذا مما يوجبُ قصورَ الجوابِ عليه، كالسائلِ نفسه،
والوقت، والمكان، فإنَّ الحكمَ لا بُدَّ أن يتناولَ الشخص
السائلَ، ثم إنَّه لا يجوزُ إخراجُه عنه، ولم يدلَّ ذلكَ على
قصورِه عليه، فبطلَ أن يكونَ كلُّ ما وجبَ دخولُه وجبَ
الاقتصارُ عليه.
ومنها: أن قالوا: لو لم يكن قصرُ العام على السببِ والسؤالِ
الخاصَّين واجباً، لما وجبَ تأخيرُ الحكمِ إلى حينِ حدوثِ
السببِ، ولَماَ كان لتأخيرِ الحكمِ معنى، فلما وجَبَ تأخيرُ
الحكمِ إلى حينِ حدوثِ السبب؛ عُلِمَ أنَّه مقصورٌ عليه.
فيقال: ولم قلتم: إنَّه لم يؤخره إلا لأجلِ قصورِه عليه؟ فلا
سبيلَ إلى جوابهم عن ذلك.
على أنَّ من مذهبنا: أنَّ اللهَ سبحانَه لا يؤخِّرُ تعبداً،
ولا يقدمه لعلةٍ من العللِ على ما قرَّره أئمتنا في أصولِ
الدياناتِ (1)، مما لا يليقُ هذا الكتاب بذكرِه.
على أنكم ما تنكرونَ أن تكونَ الفائدةُ في ذلكَ سبقَ العلمِ
بأن التعبُّدَ عند تجددِ السؤالِ، وحدوثِ السّببِ الخاصِّ هو
الأصلحُ في التكليفِ، وأنَّه لو قدم التعبّد عليهما، [أو] (2)
أورده بعد ورودهِما، أو أورده ابتداءً، لم تقع الطاعةُ من أحدٍ
من المكلفين، ولكانَ ذلكَ تنفيراً (3) وفساداً، وقد أشار اللهُ
سبحانَه إلى ذلك فقال: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا
نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً} [الفرقان:
32] قال الله سبحانه:
__________
(1) فعند الجمهور لا يجب على الله سبحانه وتعالى رعاية المصالح
وإنما يدرك العقل ذلك منه على سبيل الجواز. انظر تفحيل المسألة
في "المسودة": 63، و"شرح مختصر الروضة" للطوفي 1/ 409،
و"الإحكام" لابن حزم 2/ 1126.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) في الأصل: "تفسيراً"، ولعل المثبت أنسب لاستقامة معنى
العبارة.
(3/424)
{كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ
وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ
إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33)}
[الفرقان: 32 - 33] ومثل هذا لا ينكرُ أحد اتفاقَ مثلِه في
المعلومِ، وإذا كانَ كذلكَ سقطَ ما قالوه من قصرِ الفائدةِ
التي طلبوها على العلّةِ التي ذكروها.
فإن قيلَ: الباري قد عَلمَ أنَّهم سيَسألون، فلمَ لم يقدِّم
الحكم فيغنيهم عن السؤال، فيكون أبلغَ؟! لأنَّ الإغناءَ
بالعطاءِ قبل السؤال افضلُ من العطاءِ بعدَ السؤالِ في بابِ
المالِ، كذلكَ في بابِ العلم.
قيلَ: إنَّ أفعال الحكيمِ تارةً ابتداءً ومناداةً ليغنيَ عن
السؤالِ، وتارةً جواباَ ليبين محلَّ الجوابِ، والعطاءُ
بتقدُّمِ الحاجةِ، وفي ذوقِ العَدَمِ والحاجةِ ما ليسَ
للإغناءِ قبلَ الحاجةِ، ولا يعرفُ محلُّ الإرشادِ إلا بعدَ
الضلالِ، ولا محلُّ شيء يوجدُ إلا بعد قَصدِهِ، فهو كإجابةِ
دعوةٍ لشخصٍ، ثم تَعمُّ (1) إجابتُها مثل: أن سألَ سلامةَ
زرعِه مِن الجفافِ، فأغاثَ اللهُ بمطرٍ عام، أو سألَ عافيةَ
ولدِه من طاعونٍ، فأزال الله الطاعونَ عن ولده رأساً، فإنه
لمَّا (2) عمَّ السمعَ (3) ودفعَ الضررَ لم يكن خاصَّاً له،
وما خرجَ من ميزةِ التخصصِ بأن كان سبباً للإجابةِ.
ويقالُ لهم أيضاً: ما أنتم في هذه الدعوى إلا بمثابةِ من قال:
إنَه ما (4) اخرَ الحكمَ في جلدِ الزاني ورَجْمِه، وقطعِ
السارقِ، وحكمِ اللعانِ، والظهارِ إلى حين وقوع تلكَ الأفعالِ
والأقوالِ من أقوامٍ وأشخاصٍ معيَّنين في تلكَ الأوقات
المخصوصةِ إلا لتعلقِه بتلكَ الأفعال من أولئكَ الأشخاصِ في
تلك الأوقاتِ، وإلا فقد كانَ يمكنُ الابتداءُ بإنزالها من قبلِ
حدوثِ تلكَ الأسبابِ، ولمّاَ لم يدل ذلكَ على تخصُّصِ
__________
(1) في الأصل: "تقع" والمثبت أنسب لسياق العبارة.
(2) في الأصل: "لم" ولا يستقيم بها السياق.
(3) هكذا في الأصل، ولعل كلمة "السلامة" أنسب لاستقامة المعنى.
(4) في الأصل: "لما" ولا تستقيم بها العبارة.
(3/425)
الأشخاصِ والأوقاتِ، كذلكَ لا يدُلُّ على
تخصُّصِ الحكمِ بالأسبابِ والأسئلةِ الحادثةِ المخصوصةِ مع
كونِ الألفاظِ عامةً شاملةً وصالحةً للابتداءِ، وقيامِها
بنفسها.
فإن قالوا: كذلكَ نقولُ. فارقوا الأمَّةَ وخرجوا من الإجماعِ،
وإنْ سلموه؛ أبطلَ جميعَ ما ذكروه.
ومنها: قولهم: قد اتفقنا على التخصيصِ لكلِّ لفظٍ عام يَصدرُ
عن اللافظِ به بما يقصدُه من التخصيصِ، وإذا جازَ قصرُ اللفظِ
العامِّ وتخصيصُه بقصدهِ، فكذلكَ وجب قصرُه على سؤالِ السائلِ،
والسببِ الذي خرجَ الجوابُ عليه، والجامعُ بين قصدِ الناطقِ
بالعمومِ، وبين السببِ والسؤالِ: أنَّ كل وأحدٍ منهما هو
المثيرُ للنطقِ والموجِبُ له.
فيقالُ: ما أبعدَ ما بينهما؛ وذلكَ أنَّ الألفاظَ إنما تصدُر
عن المتكلمِ ليدل بها على مقاصدِه من عمومٍ، أو خصوصٍ، أو أمرٍ
أو نَهي، أو نداءٍ إلى أنواعِ الكلام، فالكلامُ ترجمانُ مقاصدِ
المتكلَم، وكما عَلِمنا به عمومَه، علِمنا به خصوصَه، وقضينا
بقصدِه على لفظِه، فأمَّا لفظُ السائلِ، فإنَّما خرجَ على قصدِ
نفسِه، وليس يجبُ على المجيبِ أن يبني كلامَه على ذلكَ اللفظِ
الصادرِ عن غيرِه، ولو قصدَ بناءَ كلامِه على سؤالِه، لجاءَ
بنطقٍ مخصوصٍ، فلما عدَل إلى ضدِّ السؤالِ فأجابَ بعموم، وهو
ضدُّ الخصوصِ؛ عُلم أنَّه أرادَ الحكمَ المبتدأ الشاملَ، غيرَ
المخصوصِ المقصورِ (1).
فصل
أقلُّ الجمعِ المطلقِ ثلاثةٌ، وعلى ذلكَ الإقرارُ، والنَّذرُ,
والوصيةُ بالدراهمِ والدنانير, والكفارات (2).
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 611 - 613، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 164
- 167، و"المسودة": 102 - 103.
(2) انظر "العدة" 2/ 649، و"التمهيد" 2/ 58، و"المسودة" 149،
و"شرح مختصر الروضة" 2/ 490، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 144.
(3/426)
وبهذا قال أصحاب أبي حنيفة (1)، وأكثرُ
أصحاب الشافعي (2).
وحكي عن أصحاب مالك (3)، وقوم من النحاة مثل نِفْطَويه (4)،
ومن أهل الظاهر: ابن داود الفقيه (5)، وبعض أصحاب الشافعي (6)،
وأبو بكر الأشعري (7)، أنَّ أقلّ الجمع اثنان (8).
فصل
يجمع أدلّتنا
فمنها: ما روي في ذلك عن الصحابة: فرويَ عن ابن عباس أنه قال
لعثمان بن عفان رضي الله عنهما: إنَّ الأخوين لا يحجبان الأمَّ
من الثلثِ إلى السدسِ، إنَّما قال
__________
(1) انظر قول الحنفية هذا في "أُصول السرخي" 1/ 151، و"ميزان
الأُصول" 1/ 427، و"كشف الأسرار"1/ 196.
(2) وهو القول المختار عند الشافعية، انظر "التبصرة": 127،
و"الإحكام" للآمدي 2/ 324، و"المحصول" 2/ 370، و"البحر المحيط"
3/ 136.
(3) نص الأمامُ أبوالوليد الباجي في "إحكام الفصول" على أن أقل
الجمعِ عند أكثر الأصحاب هو ثلاثة، وهو المشهور عن مالك رحمه
الله، وقال عبد الملك بن الماجشون، والقاضي أبوبكر، والقاضي
أبوجعفر السمناني: إنَّ أقل الجمع اثنان. انظر "إحكام الفصول"
1/ 153 - 154، و"تنقيح الفصول":233.
(4) هو إبراهيم بن محمد بن عرفة بن سليمان العتكي، أبوعبد الله
الأزدي، لُقب بنفطويه لشبهه بالنفط لأدمته ودمامته، كان من
علماء العربية الأفذاذ، صنف "غريب القراَن" و"المقنع"، توفي
سنة (323 هـ) انظر ترجمته في "سير أعلام النبلاء" 15/ 75،
"طبقات النحويين واللغويين": 172.
(5) محمد بن داود الظاهري، تقدمت ترجمته 1/ 185.
(6) من أصحاب الشافعي الذين قالوا بان أقل الجمع اثنان: الإمام
الغزالي حيث نصَّ عليه في "المستصفى" 2/ 92.
(7) هو الباقلاني، تقدمت ترجمته 1/ 124.
(8) انظر "الإحكام" لابن حزم 1/ 391، و"المعتمد" 1/ 231.
(3/427)
الله تعالى: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ
فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ} [النساء: 11]، وليس الأخوانِ إخوةً في
لسانِ قومِكَ. فقالَ عثمانُ: لا أستطيعُ أن أنقضَ أمراً كان
قبلي، وتوارثه النَّاسُ، ومَضَى في الأمصارِ (1). ولولا أنَّه
مقتضى اللغةِ لما احتجَّ به ابنُ عباس، ولما سمعه عثمانُ منه،
وما قابله عثمانُ إلا بمجرّدِ سيرةِ غيرِه، وما نازعَه في
مقتضى اللفظِ، وهما من فصحاءِ العربِ وأربابِ اللسانِ.
فإن قيل: فقد رُويَ خلافُ ذلكَ عن زيدِ بن ثابت، فقال:
الأخوانِ إخوة (2).
ورويَ عنه أنَّه قال: أقلّ الجمعِ اثنانِ (3). فتقابلَ
القولان.
قيل: إن صحَ ذلك عنه؛ فمعناهُ: أنَّهما يجريانِ مجرى الجمعِ في
حَجبِ الأمِّ.
وقولُه: أقلُّ الجمعِ اثنان، يعني أوّل وأقلُّ ما يجتمعُ شيءٌ
إلى شيءٍ، فهذا من الاجتماعِ، فأمَّا الجمعُ؛ فإنَّه ليسَ من
التثنيةِ في شيءٍ من حيثُ اللغةُ والوضعُ.
ومنها: أنَّ أهلَ اللغةِ فرَّقوا بين الواحدِ والاثنينِ
والجمعِ، فقالوا: رجلٌ، ورجلانِ، ورجالٌ. وأوقعوا اسم رجال على
ما زادَ أيضاً على الثلاثةِ وإن كثرَ، فلو كانَ اسمُ الاثنينِ
جمعاً كالثلاثة، لقالوا في الاثنين: رجالٌ. كما قالوا: رجالٌ،
في الثلاثةِ وما زادَ عليها من الأعدادِ.
فإن قيل: ليس انفرادُ الاثنين باسم خاص مانعاً من أن يجتمعَ مع
الثلاثةِ في الاسمِ الأعمِّ، وهو الجمعُ، كقولنا: أسدٌ, اسمٌ
يخصُّ البهيمةَ المخصوصةَ (4)، ثم إنَه لا يمنعُ ذلك من
اجتماعِه وغيرِه في الاسمِ الأعمِّ، وهو سَبُعٌ، فالاثنانِ
تحتَ ما زاد عليها، كالأسدِ تحت الاسمِ الأعمِّ، وهو السبُع
الموضوعُ للجملةِ.
__________
(1) تقدم تخريجه في الصفحة 269 من هذا الجزء.
(2) أخرجه البيهقي 6/ 227، والحاكم 4/ 335.
(3) انظر "الإحكام" للآمدي 2/ 226، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/
59.
(4) في الأصل: "المخصوص".
(3/428)
قيلَ: الأسدُ والسَّبُعُ لم يوضع للتمييزِ
بينَ شيئينِ، وإنَّما وُضِعَ أحدهما للجنسِ، والآخرُ للنوعِ
الذي تحتَ الجنسِ، وليس كذلكَ لفظ التثنيةِ والجمعِ؛ لأنَّهما
وُضعا للتمييزِ بين نوعينِ مختلفينِ من العددِ، فصارا من
أسماءِ الحيوانِ، كالأسدِ، والحمارِ, والفرسِ، والنَّمرِ.
يوضِّحُ هذا: أنَّه لو كان هذا قد وُضِعَ كذاك، لقالوا في
الكُّلِّ: جمعٌ، وقالوا: تثليثٌ، وتربيعٌ، وتخميسٌ، وتسديسٌ،
وتسبيعٌ، ولَما قالوا في الكُليِّ سَبُعٌ، ووضعوا لما تَحته
أسدٌ، ونمرٌ, وفهدٌ، وذئبٌ (1).
ومنها: أنَّ من خصائصِ الحقائقِ: أنَّه لا يجوزُنَفي (2)
الموضوع عنها، ومن خصيصةِ المجازِ حُسنُ النفي، فلا يقالُ في
النَّهَّاق: ليس بحمارٍ. ويقالُ في الرجلِ البليد: ليس بحمارٍ،
لكنَّه إنسانٌ بليدٌ. وفي مسألتنا يحسُنُ أن يقولَ القائلُ من
العربِ: ما رأيتُ رجالاً, لكن رأيتُ رجلينِ، كما يحسُنُ أن
يقولَ: [ما] (3) رأيتُ رجلينِ، لكن رأيتُ رجلاً.
ولا خلافَ بيننا وبينَ من خالفنا من أصحابِ الشافعيِّ أنَّه
إذا قالَ: له عليَّ دراهمُ. أنَّه يلزمه ثلاثة فصاعداً، حسبَ
(4) ما يُفسِّر، ولو فسَّره بدرهمين؛ لم يقبل، ولو كانَ أقلُّ
الجمعِ اثنينِ؛ لقبل منه التفسيرُ بهما (5).
فصل
في جمع الشُّبهِ التي لهم
فمنها: قوله تعالى لموسى وهارون: {فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا
إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15)} [الشعراء: 15] وأرادَ به:
موسى وهارون. وقوله: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ
فَأَصْلِحُوا بَينَ
__________
(1) انظر "العدة"2/ 652، و"التبصرة": 129.
(2) في "الأصل": "النفي"، والمثبت أنسب للسياق.
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) في الأصل: "حسن".
(5) انظر "العدة" 2/ 652، و"التمهيد" 2/ 60.
(3/429)
أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]، بعد قوله:
{وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا
فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا} [الحجرات: 9]، وقوله تعالى: {وَهَلْ
أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21)
إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا
تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ} [ص: 21 - 22]،
وكانا مَلكين، وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ
السُّدُسُ} [النساء: 11] وأراد به: الأخوين، وقوله: {عَسَى
اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا} [يوسف: 83]،
والمراد به: اثنان، وقوله: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ
يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ
الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} [الأنبياء: 78]،
فجمعهما، وهما اثنان.
فيقالُ: أمَّا الآيةُ الأُولى؛ فالمرادُ بها: موسى وهارون
وفرعونُ، مستمعونَ ما تقولا ويقالُ لكما.
وقوله: {فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ} [الحجرات: 10]
فالمرادُ به: بينَ كلِّ اثنينِ من المؤمنينَ.
وقوله: {الْخَصْمِ} [ص: 21]، فيقالُ: واحدٌ خصمٌ, واثنانِ
خصمٌ, وثلاثةٌ خصمٌ.
وقوله: {فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ} [النساء: 11]، فالظاهرُ
أنَّه أرادَ الثلاثةَ، لكن صُرف عن ظاهرِها بدلالةٍ.
والمرادُ بقوله: {عسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ
جَمِيعًا} [يوسف: 83] يوسف، وبنيامين، وشمعون الذي قال:
{فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي} [يوسف:
80] وأمَّا قولُه: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ} [الأنبياء: 78]،
فإنَّما أرادَ به: حكمَ الأنبياءِ كلهم، ويحتملُ أنَّه أرادَ
داودَ وسليمانَ والمحكومَ له.
ومنها: ما رويَ عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال:
"اثْنانِ فما فَوقهما جماعةٌ" (1).
__________
(1) أخرجه ابن ماجه (972)، والدارقطني 1/ 280، والحاكم 3/ 334،
والبيهقي 3/ 69، من
حديث أبي موسى الأشعري، وانظر "نصب الراية" 2/ 198، و"التلخيص
الحبير" 3/ 81.
(3/430)
والجوابُ: أنَّه حجةٌ لنا من وجهٍ، وهو
أنَّه لو كانَ ذلكَ جمعاً في اللغةِ، لما احتاجوا إلى بيانِه
فإنَهم في اللغةِ مثلُه، فلم يبقَ إلا أنَّه بينَ ما يخصُه ولا
يشاركونه فيه، وهو الحكمُ، فكأنه بين أنَّ ذلك جمعٌ في الصلاة
(1).
ومنها: أنَّ الجمعَ عبارة عن اجتماعِ شيءٍ إلى شيءٍ، وانضمامِه
إليه، وهذا أوَّلُ ما يوجدُ ويتحققُ فى الاثنينِ، ثم يترقَى
إلى ما زادَ، فلا يجوزُ أن يُسلَب الاثنانِ الجمعَ مع تحقُق
معناه فيهما.
فيقالُ: إنَّ وجودَ الاشتقاقِ لا يدُّلُ على أنَّه حقيقةٌ فيه،
لكنْ كما أنَّ الحُبَّ (2) والجرّةَ يوجدُ فيهما استقرارُ
المائعاتِ التي تختص بهما (3)، كالخلِّ والدِّبسِ والماءِ، حسب
ما يستقرُّ الدُهنُ في القارورةِ، ولا يُطلقُ على الحُبِّ
والجرةِ اسمُ قارورة، وكذلكَ الدابَّة سُميت به؛ لأنَّها
تَدِبُّ، ولا يُسمَّى بذلك الإنسانُ، ولأنَه قد حسُنَ نفيُ
الجمعِ، فيقالُ: ليسا برجالٍ، لكنَّهما رجلان، كما قالوا: ليس
بقارورةٍ لكنّه حُبٌّ أو خابِيةٌ، ولم تَقل العرب ذلك فى
الحقيقةٍ قط.
ومنها: قولهم: إنَّ العربَ تتصرفُ في اسمِ الاثنينِ بالاجتماعِ
والتفرّقِ والجمعِ، فتقولُ: جمعتُ بين زيدٍ وعمروٍ, فاجتمعا.
وهما مجتمعانٍ، فافترقَا. والفرقُ ضدّ الجمعِ، ويقال: اجتمعَ
الرجلُ بزوجتِه. كما يقالُ: اجتمعَ النَاسُ، واجتَمع العسكرُ
وتفرقوا.
وهذا من آكدِ علاماتِ الحقيقةِ، وهذا لأنَّ الاجتماعَ والجمعَ
من بابِ المتضايفاتِ (4)، وذلك يصِحُّ في الاثنينِ حقيقةً، ولا
يصحُ في الواحدِ، وما زادَ على الاثنينِ مضاعفةً
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 658، و"التبصرة": 130.
(2) الحُبَّ؛ الجرَّة الضخمة، أو الخابية التي يجعل فيها
الماء. "اللسان": (حب).
(3) في الأصل: "تخص بها".
(4) وهي ما كان تصوركل واحد من الأمرين موقوفاً على تصور الآخر
انظر (التعريفات) للجرجاني: 53 وما تقدم في 1/ 352.
(3/431)
وزيادةً على ما تحتاجُ إليه الحقيقةُ.
فيقالُ: ليسَ في هذهِ الطريقةِ إلا ما في الأولى منَ
الاشتقاقِ، والتصرُّف يحصُلُ في الحقائقِ والمجازِ جميعاً،
فيقالُ: خَبأتُ في الخابية، وخبأتُ في الصُّندوقِ، واستقرَّ
الدُهنُ في القارورةِ، واستقرَ الماءُ في الخابية والدَّنِّ
(1) والقِربةِ، ويقولُ العظيمُ: فعلنا، نفعلُ، وسَنفعلُ، ولم
يدُل على كونِ الصندوقِ خابيةً، ولا الحب قارورةً، ولا العظيم
من الناس جماعةً، لكن (2) لماّ كانَ في حصولِ الشيء في الصندوق
نوعُ خَبْءٍ لما (3) يُجعلُ فيه، كما أن، (4) فيما يُجعلُ في
الخابيةِ نوعُ خَبْءٍ؛ قيل: خَبَأت، ولم يقل: الصندوقُ خابية،
و [لمّا] (4) كان في حصول الماء في الحُب استقرار والحب له
قرارٌ، قيلَ: استقر فيه الماءُ يستقر ولم يُسمَ قارورةً، وحيثُ
كانَ العظيمُ إذا فَعل، فَعَلَ بِفِعْلِه أتباعُه، وهم جَمعٌ؛
دخلَ عليه نونُ الجمعِ، ولم يدُل ذلكَ على أنَّ العظيمَ
جماعةٌ، ولا الصندوقَ خابيةٌ، ولا الحُب قارورةٌ لغةً، كذلكَ
تصرفُهم في الجمع في بابِ الاثنينِ لا يدُل على أنَهما جماعة،
ولا جمع حقيقةً، على أن التفرُقَ لم يوضعْ لأقلِّهِ وأكثرِه
وَضعٌ في اللغةِ، وها هنا قالوا: تأحيدٌ وتثنيةٌ وجمعٌ (5).
ومنها: قولُهم: إنَّ الاثنينِ يُخبرانِ عن أنفسِهما بلفظِ
الجمعِ، فيقولانِ: قمنا، وقَعدْنا، وضَربْنا، وأكلْنا. كما
تقولُ الجماعةُ عن أنفسِهم، ولا يحسنُ أن يصدرَ ذلكَ من الواحد
لماّ عُدِمَ فيه الجمع، وإن قالَه العظيمُ قاله لِماْ يقدرمِن
فعلِه ومِن فِعلِ أتباعِه معهُ وبأمرِه.
__________
(1) الدن: هو ما عظم من الرواقيد كهيئة الحُب إلا أنه أطول،
وهو ما تحفظ فيه المائعات "اللسان": (دنّ).
(2) تحرفت في الأصل إلى: "لكان".
(3) في الأصل: "لم"، والمثبت هو الصواب.
(4) زيادة يقتضيها السياق.
(5) انظر "العدة" 2/ 658، و"التمهيد" 2/ 65، و"التبصرة": 130.
(3/432)
فيقالُ: إنَّ هذا لا يدلُّ على أنَّ التثنيةَ جمعٌ، وأنَّهما
سواءٌ في حقيقةِ الجمِعِ، كالمؤنَّثينَ؛ نقولُ في إخبارهما كما
نقولُ في الذكور: فعلنا، ولا يدلُّ على أن جمعَ المؤنَّثِ
والمذكرِ سواءٌ، ولا تثنيتُهما سواءٌ.
على أنَّهما إنْ كانا في الإخبارِ عن أنفسِهما سواءٌ،
فالإخبارُ عنهما يخالفُ الإخبارَ عن الجماعةِ، فيقالُ: قاما،
وقَعدا، وضَربا. ويقالُ في الثلاثةِ: قاموا، وقعدوا، وضربوا.
ويقالُ في الإناثِ: قُمْنَ، وقعدْنَ، وفي الاثنتينِ: قامَتا،
وقعدتَا، وأكلَتا، وضربتَا، ويقالُ في الإناثِ: هي، وهما،
وهنَّ، وفي الذكور هو وهُما، وهم، فقد تقابلا. |