الواضح في أصول الفقه فصل
قال أصحابنا: إذا كان أوّلُ الآية عامَّاً، وآخرُها خاصَّاً،
فالعمومُ على عمومِه، والخصوصُ على خصوصِه، ولا يقضى بتخصيصِ
أولها لأجلِ تخصيصِ آخرها (1).
قالوا: وذلكَ مثلُ قوله تعالى: {وَالْمُطَلَّقَاتُ
يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} [البقرة:
228]، والمرادُ به كل الحرائرِ من المطلَّقاتِ؛ بوائنَ أو
رجعياتٍ، وقال في آخرها: {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ
بِرَدِّهِنَّ} [لبقرة: 228]، يرجعُ إلى الرجعياتِ، فالأوَّلُ
على عمومِه، والآخرُ خاصٌ في الرجعياتِ، وكذلكَ قولُه تعالى:
{وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا
خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ} (2) الى قوله {زَعَمْتُمْ
أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا} [الكهف: 48]، فالكل يأتونَ
فُرادى كما خلقَهم، وليسَ كلُهم زعموا أنْ لا موعدَ، فأوَّلُها
عامٌ، وآخرُها خاصٌ، وقد أخطأ من أطلَق ذلكَ إطلاقاً مع كونِ
المذهبِ حملَ العام على الخاص في الآيتين، فكيفَ لا يمضى
بخصوصِ آخرِ الآيةِ على عمومِ أوَّلها، وآخرُها إلى أوَّلها
أقرب من آيةٍ أخرى؟
__________
(1) انظر بسط هذا الفصل في "العدة" 2/ 614، و"التمهيد" 2/ 167،
و" المسودة": 138.
(2) استشهد المصنف رحمه الله هنا بقوله تعالى: {وَلَقَدْ
جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}
[الأنعام: 94] وهي ليست محط الشاهد، وإنما المقصود بداية الآية
48 من سورة الكهف.
(3/433)
[فيقال] (1): فأمَّا الآيتانِ المذكورتانِ
ها هنا، فإنَّ الدلالةَ فى دلَّت على منعِ البناء، وقطع قضاءِ
الخُصوصِ على العموم -لأنه ليس كُل الناس جحدوا البعث، ولا
كلُّ متربصةٍ تردُّ إلى النّكاحِ -بدلائل، فلا يجوزُ أن نَجعلَ
ذلكَ مذهباً، والفصلُ الذي يليه يُبطل إطلاقَ هذا الفصل، وإنما
ذكرتُه ليجتنبَ الخطأُ منه، وهو الإطلاقُ.
وإنَّما لم يقضَ بالخاصِّ على العام في الأوَل، لدليلِ امتناعِ
الرد في حقَ البوائنِ، وحكمنا بايجابِ العدّةِ في حقَ
المطلّقاتِ كلَهن؛ لأنَّ العدةَ لا تقفُ على الرجعياتِ، بل
البوائنِ كذلكَ، والرجعةُ والردُ تقف على الرجعياتِ. وهذا أصلٌ
واضحٌ بيناه في أنَّ الكلامَ يُبنى بعضُه على بعض مهما أمكن،
فإذا لم يُمكن قُطعَ.
فصل
إذا تعارضَ آيتانِ أو خبران، وكان أحدُهما عامَّاً، والآخرُ
خاصَّاً، فانَه يقضى بالخاصَ على العامِ إذا كان بينهما
تَنافٍ، سواءٌ تقدم العامُ على الخاص، أو تأخرَ عنه، أو جُهِلَ
التاريخُ رأساً، فلم يُعلَمْ أيهما تقدم، أشارَ إليه أحمدُ في
عدّةِ مواضعَ (2)، وذلكَ مثلُ قوله تعالى: {وَلَا تَنْكِحُوا
الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ} [البقرة: 221]، وقوله:
{وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ}
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) انظرها في "العدة" 2/ 615 - 620، و"المسودة" 135.
وقد وردت رواية عن الإمام أحمد، توهم بادىء النظر أن العام
يقضي على الخاص إذا كان ورود العام متأخراً، حيث جاء في رواية
عبد الله عن الإمام أحمد: "نستعمل الأخبار، حتى تأتي دلالةٌ
بأنَّ الخبرَ قبلَ الخبر فيكون الأخير أولى اْن يؤخذَ به".
وتأوَّل القاضي أبويعلى هذه الرواية؛ في حال كون الخبرين
خاصّين، وقد تعارضا، فيكون الأخذ بالأخير أولى، أما إذا كان
أحدهما عامَّاً، والآخر خاصاً، والخاصُّ ينافي العام، فإنَّ
الخصوص يقضي على العموم.
انظر "العدة" 2/ 620، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 150.
(3/434)
[المائدة:5]، {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ
فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38]، وقولُ النبيِّ صلى
الله عليه وسلم: "لا قَطعَ إلا في رُبع دينار" (1)، و"لا قطعَ
في ثَمرٍ ولا كَثر حتى يأويَه الجرين" (2).
وقال [به] (3) أكثرُ أصحابِ الشافعي (4)، سوى أبو بكر الدقاق،
فإنَّه قالَ: لا يقضى بالخاصِّ على العام، بل يتعارضُ الخاصُّ
وما قابله من العامِّ. وهو اختيارُ أبي بكرٍ الأشعري (5).
وقالَ أصحابُ أبي حنيفةَ -فيما حكاه الجُرجانيُّ عنهم-: إنْ
كانَ العامُّ هوَ المتقدم، كانَ الخاصُ المتأخرُ ناسخاً لبعضه،
وإن كانَ العامِّ هو المتأخر كان ناسخاً لجميعِ الخاص (6).
وإن لم يُعلمْ التاريخُ: فقد ذكر عيسَى بن أبان أنَّه على
أربعةِ أقسامٍ (7):
__________
(1) أخرجه من حديث عائشة رضي الله عنها، أحمد 6/ 36، والبخاري
(6791)؛ ومسلم (1684)، وأبوداود (4383) و (4384)، وابن حبان
(4455)، و (4459) و (4464)، والدارقطني 3/ 189، 190، والبغوي
(2595)، والبيهقي 8/ 254، 255، 256.
(2) تقدَّم تخريجه 2/ 96. والجَرِين: هو موضع تجفيف التمر, وهو
له كالبيدر للحنطة، ويُجمع على
جُرُن. "النهاية" لابن الأثير 1/ 263.
(3) زيادة يقتضيها السياق.
(4) انظر"التبصرة": 151، و"المستصفى" 2/ 102، و"المحصول" 3/
106، و"الإبهاج" 2/ 169، و"الإحكام" للآمدي 2/ 318، و"البحر
المحيط" 3/ 409.
(5) انظر "التبصرة": 151، و"شرح اللمع" 1/ 363.
(6) المقصودُ بالتقدم والتأخر هنا: أن تردَ الآيةُ الخاصة بعد
استقرار حكم الآية العامة والتمكن من فعله، أو يستقرَّ حكم
الآية الخاصة ثم تنزل الآية العامَّة بعد ذلك. فحينئذ تكون
الآية المتراخية تراخياً زمنياً ناسخة للآية المتقدِمة، نسخاً
جُزئياً؛ إن كانت المتأخرة خاصة، أو كليًّا؛ إن كانت الآية
عامَّة. وهذا مذهب الحنفية في حال العلمِ بتاريخ ورود الآية
العامة والخاصَّة.
انظر "الفصول في الأصول" للجصَّاص 1/ 381 - 407 و"أُصول
السرخسي" 1/ 33، و"ميزان الأصول" للسمرقندي 1/ 474 - 478.
(7) "الفصول في الأصول" 1/ 407 - 420.
(3/435)
إن كان النَّاسُ قد عملوا بهما جميعاً؛
وجبَ استعمالُهما، وترتَّبَ العامُّ على الخاصِّ، مثل نهيه صلى
الله عليه وسلم عن بيعِ ما ليسَ عندَه (1)، ورخَصَ في السلَم
(2).
وإن كان اتفاقُهم على استعمالِ أحدِهما؛ عُمِلَ بما اتفقوا
عليه، والآخرُ منسوخٌ، وذلكَ مثلُ قوله: "فيما سقت السماء
العُشر" (3)، وقوله: "ليسَ في الخَضْراواتِ صدقةٌ" (4).
العامُ؛ تَلَقته الأمةُ بالقبولِ، والخاصُّ؛ مختَلَف في حكمِه
والعملِ به، فلم يقضَ به على المتفقِ عليه.
وإن كانوا اختلفوا في ذلكَ، فعمِلَ بعضٌ بأحدِ الخبرينِ،
وعامَّةُ الفقهاءِ خالفَه ويُنكرُ عليه؛ فالعملُ على ما عليه
العامةُ، وسقطَ العملُ بالآخر.
وإن كان الخبرانِ مما يتعلَق الحكمُ بهما ويسوغُ الاجتهادُ في
الحكمِ الذي تضمَّنه كلُّ واحد من الخبرينِ، ولم يظهرْ من
الصحابةِ العملُ بأحدِ الخبرينِ، فالواجبُ المصيرُ إلى
الاجتهادِ في تقديمِ أحدِهما على الآخرِ، واستعمالُ كل منهما
فيما يَقتضيه،
__________
(1) عن حكيم بن حزام رضي الله عنه قال: يا رسول الله، يأتيني
الرجل يسألني من البيع ما ليس عندي، فأبيعه منه، ثم ابتاعه من
السوق؟ فقال: "لا تبع ما ليس عندك". أخرجه أحمد 3/ 402،
والترمذي (1232)، وأبوداود (3503)، والنسائي 7/ 289، وابن ما
جة (2187).
(2) السَّلَم: هو أن يسلم عوضاً حاضراً في عوضِ موصوف في الذمة
إلى أجل، ويسمى: سلفاً، انظر "المغني" لابن قدامة 6/ 384.
وأحاديث الرخصة في السلم كثيرة، انظرها في "التلخيص الحبير" 3/
32، و"نصب الراية"4/ 45.
(3) تقدم تخريجه 1/ 189.
(4) عن معاذ رضي الله عنه، أنَّه كتب إلى النبي صلى الله عليه
وسلم، يسأله عن الخَضْراوات، وهي البقول، فقال: "ليس فيها
شيءٌ" أخرجه الترمذي (638)، والبيهقي 4/ 99، والدارقطني 2/ 99.
وأخرجه الدارقطني من حديث عليّ رضي الله عنه أن النبيِّ صلى
الله عليه وسلم قال: " ليس في الخضراوات صدقة، ولا في العرايا
صدقة، ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في العوامل صدقة، ولا
في الجبهة صدقة". والجبهة هي الخيل والبغال والعبيد."سنن
الدارقطني" 2/ 95.
(3/436)
ومعنى هذا عندَهم: أنَّهما يسقطانِ، ويرجعُ
إلى دليلِ غيرِهما.
وقالَ أبو بكرٍ الأشعري: إذا جُهلَ التاريخُ؛ وجبَ التوقفُ
فيهما (1).
فصل
في جمعِ أدلّتنا
فمنها: قولُه تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2]، فهذهِ
الآيةُ عامَّة في كل زانِ وزانيةِ، قضينا عليها بالآية الخاصةِ
في الإماءِ، وهي قولُه تعالى: {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ
فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ
الْعَذَابِ} [النساء: 25]، وإجماعُ الأمَّةِ على تخصيصِ الأولى
بالثانية، إجماع على حملِ العام على الخاصِّ، فهو حجّةٌ لنا،
ولا عذر لهم.
ومنها: أنَّ الخاصَّ يتناولُ الحكمَ المتناوِلَ له بصريحهِ،
والعامُّ يتناولُ الحكمَ بظاهره المحتَملِ، والصريحُ مقدم على
الظاهر وصار الصريحُ في الخصوصِ كالإشارةِ، فإنه لو قالَ: لا
تضرب هذا العبدَ. وقال بعد ذلكَ: اضرب عبيدي. فإنَّ المشارَ
إليه بالمنعِ من الضربِ لا يدخلُ في عمومِ قوله: اضرب عبيدي.
لمكانَ تخصيصِه، كذلك التخصيصُ بالقولِ المنبىء عن إخراجِ
المخصوصِ عن جملةِ العمومِ (2).
ومنها: أنَّ في حملِ العامِّ على الخاصِّ جمعٌ بين الدليلينِ
وعملٌ بهما، وهذه الأدلةُ إنما وُضِعت للاستعمالِ، فلا يجوزُ
تعطيلُها مهما أمكن، ومن أخذَ بالعمومِ؛ أسقطَ الخصوصَ، ومن
وقفَ؛ تركَ العملَ بدليلِ الشرعِ.
ومنها: أنَّ كلامَ صاحبِ الشريعةِ يُبنى بعضُه على بعضٍ،
ويُجعلُ مفرَّقه
__________
(1) وبهذا القول قال بعض الحنفية، نص عليه في "ميزان الأصول"
1/ 477، وانظر قول ابى بكر الباقلاني في"المستصفى" 2/ 104،
و"البحر المحيط" 3/ 410.
(2) انظر "العدة" 2/ 623، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 384.
(3/437)
كالمتَّصلِ، فإذا قال: اقتلوا المشركينَ،
ولا تقتلوا أهلَ الكتابِ إذا دفعوا الجزية. وجبَ أن لا يعطل
الخصوصُ، كذلك إذا فرَّق بينهما.
ومنها: أنَّ مخالفنا قد جوَّز تخصيصَ العام بالقياسِ، وما ذلكَ
إلا لأنَّ القياسَ يقتضي الحكمَ بخصوصِه، والقياسُ فرعٌ من
الخبرِ يستنبطُ منه، فَلأنْ يجوزَ التخصيصُ بالخبرِ الخاصِّ
أولى.
ومنها: أنَّه دليلٌ عامٌّ قابلَه دليلٌ خاصٌّ، وليسَ في
تخصيصِه إبطالٌ له، كخبرِ الواحدِ إذا وردَ مخالفاً لدليلِ
العقلِ، فإنَّه يخصُّ بدليلِ العقلِ؛ لأنَّ الخاصَّ أقوى من
العامِّ، كذلكَ ها هنا.
فصل
في شُبَههم
فمنها: أنْ قالوا: ليسَ الخاصُّ فيما تناولَه بأولي ممَّا
عارضَه من العامِّ، فوجَبَ التوقفُ فيه.
فيقالُ: كلا، بل الخاصُ فيما تناوَله أولى من العامِّ؛ لأنَّ
الخاص يقتضى الحكمَ بصريحِه على وجهٍ لا احتمالَ فيه، والعامّ
يتناولُه بظاهرِه وعمومِه على وجهٍ يحتمل أن يكونَ المرادُ به
غيرَ ظاهرِه، فوجبَ تقديمُ الأرجحِ منهما، وهذا دأبُ
المستدلِّين في الأدلة، يقدِّمونَ الأظهرَ فالأظهر ولهذا قُدمَ
دليلُ العقلِ على عمومِ خبرِ الواحدِ، ولأنَّ فيما قلناه
استعمالَ الدليلين والعملَ بهما، وفيما قَاله الخصمُ إسقاطُ
أحدِهما، فكانَ العملُ أولى من التعطيلِ (1).
ومنها: أنْ قالوا: إذا كانَ العمومُ متقدماً والخصوصُ
متأخِراً، فإنَّما قلنا: يكونُ ناسِخاً لبعضِه؛ لأن بيانَ
العمومِ لا يجوزُ تأخيرُه عن حالِ وروده، فاذا وردَ متأخِراً
__________
(1) انظر "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 149.
(3/438)
عنه، لم يجُز أن يقعَ موقعَ البيانِ، فلم
يبقَ إلا أن يكونَ ناسخاً له.
فيقالُ: إنَّ العمومَ، وإن كانَ يفيدُ الحكمَ في جميعِ
المسمَّيات، فقد بينا انَه إنَّما يفيدُ ذلكَ من طريقِ الظاهر
ويحتملُ أن يكونَ المرادُ به غيرَ ما تناوَله الخاصُّ،
والخاصُّ يتناولُ ما تناولَه بصريحِه من غير احتمال، فوجبَ
القضاءُ به عليه، وتأخيرُ بيانِه يجوزُ, وفيه فائدةٌ كبيرةٌ
بأنْ يعتقدَ المكلفُ ذلكَ ويعزمَ عليه فيقعُ له ثوابُ العزمِ
إلى أن يأتيَ دليلُ الخصوصِ، ويعتقد الخصوص ويعمل به إذا وقعَ
ابتداءً قبل العمومِ (1).
ومنها: أنَّه لو أرادَ استثناءَ الأولِ من العمومِ الثاني
لذكرَه ونبه عليه؛ لعلمِه باعتقادِ أهلِ اللّغة عمومَه بكونِ
الصيغةِ موضوعة للشمولِ، فلما لم يُبَين ذلكَ كانَ الظاهرُ
أنَّه رافعٌ للأوَّلِ، فيكون العمومُ الثاني ناسخاً للخصوصِ
المتقدِّمِ عليه، هذا هوَ الظاهرُ.
فيقالُ: إنما أخَّره؛ لأنَه يجوزُ تأخيرُ بيانِه، وإذا جازَ
تأخيرُ البيانِ، فلا فرقَ بين ذكرهِ معَهُ أو قبلَه أو بعدَه،
ولا نسلِّم أنَّ أهلَ اللغةِ يعتقدونَ عمومَ الصيغةِ مع تقدم
الخصوصِ، بل الخصوصُ المتقدّمُ ممهِّدٌ عندَهم أنَّ العموم
الثاني لايدخلُ على الخصوصِ المتقدِّم.
ومنها: أنَّ العمومَ المتفق على استعمالِه في الشمول وأستغراقِ
الجنسِ قد صار معلوماً كالنَّص، وصارَ يتناولُ كل واحدٍ من
الجنسِ، فصَاركما يتناولُ كل واحد على الانفرادِ، ومعلوم أنَّه
لو قال: اقتلوا المشركينَ، ولا تقتلوا أهلَ الكتابين. ثم قالَ:
اقتلوا زيداً، وعَمراً، وبَكراً، وخالداً، وسالماً، وما زالَ
يذكرُ أعيانَ المشركينَ واحداً بعدَ واحدٍ بأسمائهم الخاصَّةِ،
وفيهم أهلُ الكتابينِ، قضى اللفظُ الشاملُ لأعدادِهم، فعمَّهم
بالقتلِ قاضياً على الخصوصِ الأوَّلِ، كذلكَ ها هنا.
فيقالُ: ليس ذكرُ الأعدادِ والآحادِ على الإفرادِ منْ قبيل
العموم الشامل لهم
__________
(1) انظر "العدة" 21/ 624.
(3/439)
بشيءٍ، ألا ترى أنَّه إذا ذكَرَ الأفرادَ والأعدادَ والأشخاصَ
واحداً واحداً، وأفاضَ عليهم حكماً واحداً لم يَجُز أن يخصَّ
بعضَ تلكَ الأشخاصِ بقياسٍ، ويكونُ إخراجُ بعضِهم نسخاً للحكمِ
لا تخصيصاً، ولما جَازَ أن يردَ العمومُ في الخبر المتسلِّط
على تخصيصِه دليلُ العقلِ، فلمّا وردَ {اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ
شَيْءٍ} [الأنعام: 102] أمكنَ تخصيصُه بدليلِ العقلِ؛ لأنَه لا
يدخلُ فيه الكلامُ والإرادةُ، فلو قال بدلاً من العمومِ: خالقُ
كلامِه وإرادتِه، لم يمكنا دفعُ ذلكَ بدليلِ العقلِ، لكنَا
نعْدِلُ إلى تأويلِ إضافتِه، ولا يمكننُا أن ننفي الخلقَ كما
أثبتَه، بل نقولُ: خالقُ كلامٍ وإرادةٍ، أضافها إليه إضافَة
مُلْك، لا إضافةَ صفةٍ من صفاتِه، وكنا بالنصِّ قائلينَ ما قال
المعتزلةُ بشبهِهِم العقلية، ولو قالَ: تدمِّرُ كل شيءٍ من
سماءٍ وأرضٍ وجبالٍ، لما أمكننا أن نُخرج شيئاً من ذلكَ
بدليلٍ، لأنَّه يكونُ عينَ التكذيبِ للخبر، ولماّ قال:
{تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، ولم يذكر أعيانَ
السماءِ والأرضِ [أمكننا إخراج شيءٍ بدليل] (1)، لأن لفظَ
العموم يتناولُ آحادَ الجنسِ وأنواعَه تناولاً بظاهرِه لا
بصريحهِ، والمفردُ من الأشخاص يتناولُ الحكمَ بصريحِه،
فافترقا. |