الواضح في أصول الفقه فصل
إذا تعارضَ خبرانِ، كل واحدٍ منهما عام من وجهٍ، وخاصٌّ من وجه
آخر؛ فهما سواء على الإطلاقِ، إلا أن تقومَ دلالةٌ فتوجب
تقديمَ أحدِهما على الآخر (2).
مثالُه: قوله صلى الله عليه وسلم: "من نامَ عن صلاةٍ أو نسيَها
فليصلها إذا ذكرها" (3)، وقوله: "لا
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) راجع هذه المسألة في "العدة" 2/ 627، و"المسودة": 139،
و"شرح الكوكب المنير" 3/ 384.
(3) تقدم تخريجه في 2/ 168.
(3/440)
صلاة بعد العصرِ حتى تغربَ الشمس" (1).
فالأول: خاصٌ في الفائتةِ، عامٌّ في الأوقاتِ، والثاني: عامٌّ
في الصلوات، خاصٌّ في الوقتِ، نصّ عليه أحمد في القَضايا (2)
بما ذكرنا في هذين الخبرين بعينهما على الوجه الذي ذكرناهما في
المثال، وبه قال أصحاب الشافعي (3).
وقال أصحاب أبي حنيفة: يقدم الخبرُ الذي فيه ذكرُ الوقتِ
وجوازُ فعلِ الصلاةِ، ذكره الجرجاني عنهم (4)؛ لأن الخلافَ
واقعٌ في الوقتِ، وجواز فعلِ الصلاةِ فيه، فقُدَّمَ ما فيه
ذكرُ الوقتِ لتناوله المقصودَ.
لنا: أنَّ كل واحدٍ منهما قد تناولَ ما وقعَ الاختلاف فيه،
فإنَّ الخلافَ واقعٌ في الوقتِ، وجوازِ فعلِ الصلاةِ فيه،
وكلُّ واحدٍ منهما خاصٌّ فيما فيه اختلافٌ من وجه وعامّ فيما
فيه اختلافٌ فتساويا (5).
فصل
إذا تعارضَ آيتانِ أو خبرانِ، أحدُهما عامٌّ، والآخرُ خاصٌ،
والخاصُّ موافقٌ للعامِّ، أو أحدُهما مطلقٌ والآخرُ مقيَّدٌ،
فهل يقضى بالعامِّ على الخاصِّ، والمطلقِ على المقيَّد (6)؟
__________
(1) أخرجه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه مالك في "الموطأ" 1/
221، وأحمد 1/ 462 و529، والبخاري (388)، ومسلم (825)،
والنسائي 1/ 276، وابن حبان (1543)، والبيهقي 2/ 452. بلفظ:
"أن النبي صلى الله عليه وسلم، نهى عن الصلاة بعد العصر حتى
تغرب الشمسُ، وعن الصلاة بعد الصبعِ، حتى تطلع الشمس".
(2) أي: في الفوائت التي تُقضى. انظر"مسائل الإمام أحمد"
برواية عبد الله: 104 - 105.
(3) نص على ذلك أبوإسحاق الشيرازي في "التبصرة": 160
(4) انظر "العدة": 2/ 627، و"فواتح الرحموت"1/ 345 - 346.
(5) انظر "العدة" 2/ 627 - 628.
(6) انظر هذا الفصل في "العدة" 2/ 628 و"التمهيد" 2/ 177،
و"المسودة": 142، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 395.
(3/441)
اعلم أنَّ ذلكَ على أربعةِ أضرُبٍ:
أحدُها: أن يكونَ الحكمُ والسببُ واحداً، مثل أن يكونَ في
كفارةِ القتلِ رقبةٌ مؤمنةٌ، ثم يذكرُ القتلَ في آيةٍ أخرى،
فيقولُ: رقبةٌ ولا يذكرُ مؤمنةً، فإنَّه يجب بناءُ المطلق علي
المقيَّد، ويقضى بالزيادةِ، ويكونُ مثلُ أن يذكرَ أحدُ الرواةِ
أنَّه صلى الله عليه وسلم دخلَ البيتَ وصلَّى (1)، ويروي
الآخرُ: دخل البيتَ وما صلَّى (2).
وأن يكون الحكم والسبب واحداً، إلا أن أحدهما خاص، والآخر عام،
ولم يكن للخاص دليلٌ، فإنَّ الخاصَّ داخلٌ في العام، وهو بعض
ما شملَه العمومُ، ويكون ما تناولَه الخاصُّ ثابتاً بالخاص
والعامَ وما زاد على ذلك ثابتاً بالعام وحدَه دونَ الخاص،
مثالُه: ما رويَ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم أنَّه قال:
"مَنْ أفطر في رمضانَ، فعليه ما على المُظاهِر" (3)
__________
(1) المقصود بذلك دخول الرسول - صلى الله عليه وسلم - الكعبة
والصلاة فيها، وقد روى إثبات صلاة رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - في الكعبة، ابن عمر رضي الله عنهما، وأخرجه من حديثه:
مالك في "الموطأ" 1/ 398، وأحمد 2/ 45 و46 و82، والبخاري (505)
و (1598)، ومسلم (1329) (393) و (394)، وأبوداود (2023)، وابن
ما جه (3063)، والنسائي 2/ 33 - 34 و2/ 63، والبيهقي 2/ 327 -
328، وابن حبان (3200) و (3202) و (3203) و (3204)، و (3205).
(2) الذي روى عدم صلاة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وفي
الكعبة هو ابن عباس رضي الله عنهما، وقد أخرجه من حديثه: أحمد
1/ 237، والبخاري (398)، ومسلم (1330) و (395) و (1331) (396)،
والنسائي 5/ 220 - 221، اوبن حبان (3207) و (3208)، والبيهقي
2/ 328.
ووجه الجمع بين حديث ابن عمر وحديث ابن عباس: أن يُجعل الخبران
في فعلين متباينين، فيقال: إنَّ المصطفى - صلى الله عليه وسلم
- لما فَتح مكة، دخل الكعبة فصلى فيها على ما رواه ابن عمر
ويجعلُ نفيُ ابن عباس صلاة المصطفى في الكعبة في حجته التي حج
فيها، حتى يكونا فعلان في حالتين متباينتين. فإذا حمل الفعلان
على هذا المحمل، بطل التضاد بينهما، وصح استعمال كل واحد
منهما.
انظر " الإحسان في تقريب صحيح ابن حبان": 7/ 483 - 484.
(3) الحديث بهذا اللفظ لم أقف عليه، وقال الزيلعي في تخريجه:
"حديث غريب بهذا اللفظ .. والحديث لم أجده" انظر "نصب
الراية"2/ 449 - 450. =
(3/442)
وقضى على الذي وقع على امرأتِه في نهارِ
رمضانَ بعِتقِ رقبةٍ أو صيامِ شهرين (1). فثبتَ وجوب الكفارة
فيما عدا ذلك الواطىء بالخبر العامّ.
وكذلكَ إن كانَ دليلُ خطابٍ، فإنه يقضى بدليلِ خطابِه على
العامِّ، فخرجَ منه ما تناولَه دليلُه، وذلك مثل قوله: "في
أربعين شاةً شاةٌ" (2)، مع قوله: "في سائمةِ الغنم زكاة" (3)،
فتخرجُ المعلوفةُ من قوله: "في أربعينَ شاةً شاةٌ"؛ لأنَّ
دليلَ الخطابِ بمنزلةِ النطقِ في وجوبِ العملِ به، والنطقُ
الخاصُ يقضى به على النطقِ العامَ، وكذلكَ قوله: "إذاكان الماء
قُلّتين لم يُنَجسه شيء" (4)، مع قوله: "الماء طهور لا ينجسه
إلا ما غيرَ طَعمه أو ريحه" (5)، فإنه يحمل على القُلتين،
فيُقضى بدليل خطابه عليه، فيخرج ما دون القلتين منه.
فإن ناقضونا بمواضع، فيجب أن ننظرَ إلى دلائل تلك؛ فإن كانت
تنبيهاً أو
__________
= وأخرج الدارقطني قريباً من لفظه، من حديث ابى هريرة: "أن
النبي- صلى الله عليه وسلم -، أمرَ الذي أفطرَ
يوماً من رمضان بكفارة الظهار" "سنن الدارقطني" 2/ 190 - 191.
(1) تقدم تخريجه 1/ 40.
(2) تقدم تخريجه 1/ 38.
(3) تقدم تخريجه 1/ 37.
(4) أخرجه ابن ابى شيبة 1/ 144، وأحمد 2/ 3 و27 وأبوداود (63)
و (64)، وابن ماجه (517) و (518)، والترمذي (67)، والنسائىِ 1/
46 و 175، وابن خزيمة (92)، والحاكم 1/ 132؛ والدارمي 1/ 187،
وابن حبان (1249)، والبيهقي 1/ 260 و 261 و262. من حديث عبد
الله بن عمر رضي الله عنهما.
(5) أخرجه من حديث ابى أُمامة الباهلي، ابن ماجه (521)،
والدارقطني 1/ 28، والطبراني في "الكبير" (7503)، والبيهقي 1/
259.
ونقل البيهقي 1/ 260 عن الإمام الشافعي قولَه في هذا الحديث:
"وما قلته من أن الماءَ إذا تغير طعمُه وريحه ولونه كان نجساً،
هو في خبرِ لا يُثبته أهل العلم بالحديث، ولكنه قول العامة،
ولا أعلم بينهم خلافاً".
(3/443)
قياساً فاعلم أنَنا نتركُ دليلَ الخطابِ
لما هو أقوى منه، ومعنى الخطابِ أقوى من
الخطابِ، وكذلكَ التنبيهُ، مثالُه: قولهم: النبيُّ - صلى الله
عليه وسلم -: نهى عن بيعِ ما لم يقبَض (1)، ثم
قال: "من ابتاعَ طعاماً، فلا يَبِعه حتى يستوفيه" (2)، ولم
يقضوا بدليل خطابِه ويخرجوا
منه ما عدا الطعام، فإن نهيَه عن بيعِ الطعامِ حتى يُستوفى، مع
كونِ حاجةِ الناس
داعية إليه تنبيه على غيره، فقضينا بالتنبيهِ على دليلِ النطق؛
لأنّه أقوى منه، ومثل قوله
- صلى الله عليه وسلم -: "إذا اختلفَ المتبايعان والسلعة
قائمة، فالقول قول البائع، والمبتاع بالخيار" (3) لم
يقض بدليل خطابه، فيخصُ ذلكَ بقيامِ السلعةِ؛ لأنه لما أمر
بالتحالفِ، والسلعةُ قائمةٌ يمكنُ الرجوعُ إلى قيمتها الشاهدةِ
باليمين لمثلها التي يمكنُ الاستدلالُ بها على صدق أحدهما،
فأولى أن يحكمَ بالتحالُفِ حالَ الاشتباهِ وعدمِ الشاهدِ، وهو
حالُ تلفِها، ولأنَّ كلَّ واحدِ منهما مُدعِ ومُدّعى عليه،
وهذا المعنى موجود حالَ تلفِ السِّلعةِ، فكانَ المعنى أيضاً
مقدّماً على دليل الخطاب.
__________
(1) كما في حديث حكيم بن حزام المتقدم في الصفحة 436.
(2) أخرجه من حديث ابن عمرَ رضي الله عنهما: مالك 2/ 640،
وأحمد 2/ 63 - 64، والبخاري (2124) و (2126) و (2136) ومسلم
(1526) (32) (34) (36)، وأبوداود (3492) و (3495)، وابن ماجه
(2226)، والنسائي 7/ 286، والبيهقي 5/ 314،وابن حبان (4979) و
(4981) و (4986).
وأخرجه من حديث ابن عباس: أحمد 1/ 270 و356 و368 و369،
والبخاري (2132) و (2135)، ومسلم (1525)، وأبوداود (3497)،
والترمذي (1291)، وابن ما جه (2227)، والنسائي 7/ 285 وه 28 -
286، وابن حبان (4980).
وأخرجه من حديث جابر أحمد 3/ 392، ومسلم (1529)، والبيهقي 5/
312. وابن حبان (4978).
(3) أخرجه من حديث عبد الله بن مسعود: أحمد 1/ 466، والشافعي
(244)، وابن ماجه (2186)، والترمذي (1270)، والبيهقي 5/ 332،
والبغوي (2124)، بلفظ: "إذا اختلف البيعان، وليس بينهما بينة،
والبيع قائم بعينه، فالقول ما قال البائع، أو يترادان البيع".
قال الترمذي: هذا حديث مرسل عون بن عبد الله لم يدرك ابن
مسعود.
(3/444)
الضربُ الثاني: إذا كانَ الجنسُ مختلفاً،
مثلُ صيامٍ وإطعام، صيام وصلاة، فإنَّه لا يُبنى المطلقُ على
المقيَّد، سواءٌ كان السببُ واحداً، كالكفارةِ فيها صيامُ
شهرينِ متتابعين، وإطعامٌ لم يقيد بالتوالي والتتابعِ، بل
اطلقَ، أو كان مختلفاً، مثلُ الصيامِ قيِّدَ بالتتابعِ،
والزكاة ذكرها مطلقةً، فإنه لا يُبنى المطلقُ على المقيَّد،
قال أحمدُ: إذا وطىءَ في ليالي الكفارةِ يَستقبلُ الصومَ -أو
قال: الصيام- وإذا وطىءَ في خلالِ الإطعامِ يبني (1).
والوجه في هذا [أنه] (2) إنَّما يُحملُ المطلقُ على المقيَّد
إذا كان الحكمُ المختلَفُ فيه مختلِفاً في الموضعين، إلا أنَّه
مطلقٌ في أحدِهما، مقيَّد في الآخرِ، وهذا معدومٌ في الجنسينِ،
ولأنَّ المقيدَ مع المطلقِ، كالخاص مع العامّ، والمفسَّر مع
المجملِ؛ لأنَّ التقييدَ فيه نوعُ إخراجٍ وتخصيصٍ، وهناكَ لا
يقضي أحدُهما على الآخرِ إلا أن يكونَ أحدُهما من جنسِ الآخر
كذلكَ ها هنا.
الضرب الثالث: أن يكونَ الحكمُ متَفقاً، والسببُ مختلفاً، لكن
في موضعين مقيدين مختلفين، ويُطلق في الثالثِ، كالصيامِ قيد
بالتتابعِ في الكفارةِ، فقال: {شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ}
[النساء: 92]، وقيد بالتفريق في التمتع، فقال: {فَصِيَامُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ}
[البقرة: 196] وأطلق في كفارة اليمين بقوله: {فَصِيَامُ
ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ} [المائدة: 89]، وقالَ في قضاءِ رمضانَ:
{فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة: 185]، فلهذا الصومِ
المطلق مثلانِ مقيَّدان مختلفانِ، فإنَّا نحملُ المطلقَ على
إطلاقِه، ولا نَبني على واحدٍ منهما، لأنَّه ليس حملُه على
أحدِهما بأولى من حملِه على الآخر, فإنَّما أوجبَ أصحابُنا
التَتَابعَ في كفارةِ اليمين لأجلِ قراءة عبد الله بن مسعود
(3).
__________
(1) انظر "العدة " 2/ 636.
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) قراءة عبد الله بن مسعود: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات" وهي
قراءة ثبتت بخبر الآحاد فلا تثبت قرآنيتها التي يُشترط فيها
التواتر.
انظر "الإحكام" للآمدي 1/ 229، و"تفسير الطبري" 10/ 559،
و"تفسير القرطبي" 6/ 283.
(3/445)
الضربُ الرابع: إذا كانَ الجنسُ واحداً،
والسببُ مختلفاً، كالرقبةِ قُيَّدت في كفارةِ القتلِ
بالإيمانِ، وأطلقت في كفارةِ الظِّهارِ، وهما سببانِ مختلفان
وكما قيِّدت الأيدي إلى المرافقِ في طهارةِ الماءِ، وأُطلقت في
التيمم بالترابِ، ففي هذا روايتان (1): إحداهما: يُبنى المطلقُ
على المقيدِ من طريقِ اللغةِ (2)، وبهذه الرواية قال أصحاب
مالك (3)، وتَعلَّق من نصر هذا بقوله تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا
شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ} [البقرة: 282]، وقوله:
{وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ} [الطلاق: 2]، فقضينا
بالتقييدِ بالعدالةِ على المطلق من الشهادة، وفيه رواية أخرى:
لا يُبتَنى المطلقُ في هذا على المقيَّد، ويحمل المطلَقُ على
إطلاقِه، وهي اختيارُ أبي إسحاقَ بن شاقْلا (4)، وهو قولُ
أصحابِ أبي حنيفة (5)، واختلف أصحاب الشافعي (6)؛ فمنهم من قال
كقولنا وأنه يُبنى المطلق على
__________
(1) أي روايتان عن الإمام أحمد رضي الله عنه، ولقد أشار إليهما
القاضي أبويعلى في،"العدة" 2/ 638، مبيَّناً كيفية استفادتهما
من قول الإمام أحمد.
(2) انظر "العدة" 2/ 638، و"المسودة": 145.
(3) لم يقل بحمل المطلق على المقيد في هذا الضرب، إلاّ قليل من
المالكية، وفق ما نقل القرافي عن القاضي عبد الوهاب. انظر "شرح
تنقيح الفصول": 267.
(4) هو إبراهيم بن أحمد بن عمر بن حمدان بن شاقْلا، أبوإسحاق
البغدادي البزاز، شيخ الحنابلة في وقته، كان رأساً في الأصول
والفروع، توفي سنة (369 هـ). انظر"سير أعلام النبلاء" 16/ 292،
و"تاريخ بغداد" 6/ 17، و"طبقات الحنابلة" 2/ 128.
(5) انظر "أصول السرخسي" 1/ 267، و "شرح التلويح على التوضيح"
1/ 63، و"فواتح الرحموت"1/ 362.
(6) محل الاختلاف بين الشافعية، هو في موجِب حمل المطلق على
المقيد في حال اتحاد الحكم
وأخْلاف السبب:
فالبعض قال: إن المطلق يحمل على المقيد بموجِب اللفظ، ومقتضى
اللغة، من غير حاجة إلى دليل.
والأكثرون قالوا: إنَه لا يحمل المطلق على المقيد بنفس اللفظ،
بل لابد من دليل؛ من قياس أو غيره، وإلى هذا القولِ ذهب أكثر
الشافعية منهم: القفال الشاشي، وأبو إسحاق الشيرازي،=
(3/446)
المقيّد من طريق اللغة، ومنهم من حمل
المطلق على المقيّد بالقياس عليه لا من جهة اللغة، وهم الأكثر
وهو اختيار أبي بكر الأشعري.
وهكذا الاختلاف في الخاص والعام نحو قوله: "فيما سقت السماء
العشر" (1) عام في القليل والكثير وقوله: "ليس فيما دون خمسة
أوْسُقٍ صدقة" (2) خاصٌّ في المقدار, فهل يحملُ العامُ على
الخاصِّ؟ على ما قدمناه من الاختلاف [في] (3) حملِ المطلقِ على
المقيّد.
وقد قال أحمد: نَهى النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن الصلاةِ
بعد العصرِ وبعدَ الصبح (4)، نهيَ جملةٍ، و [قال] (5): "مَن
نامَ عن صلاةٍ أو نَسيها" (6)، فكان هذا مخصوصاً به نَهيه عن
الصلاةِ بعدَ العصرِ والصبح.
__________
=وإمام الحرمين، واختاره القاضي الباقلاني. ونصَّ الآمدي على
أنه الأظهر من مذهب الشافعي.
انظر "البرهان" 1/ 431، و"الإحكام" 3/ 5، و"المستصفى"2/ 185، و
"التبصرة": 212 و"المحصول" 3/ 144 - 145، و"البحر المحيط" 3/
420 - 424.
(1) تقدم تخريجه 1/ 189.
(2) أخرجه البخاري (1447)، ومسلم (979)، وأحمد 3/ 44 و79،
ومالك في "الموطأ" 1/ 244، وأبوداود (1558)، والنسائي 5/ 17،
والبيهقي 4/ 133، وابن خزيمة (2263) و (2298) من حديث أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه.
والوَسْق: ستون صاعاً بصاع النبي - صلى الله عليه وسلم -، وهو
ثلاثمئة وعشرون رطلاً. عند أهل الحجاز، وأربعمئة وثمانون رطلاً
عند أهل العراق. انظر: "النهاية في غريب الحديث"5/ 185.
(3) في الأصل: "وحمل "، والمثبت من "العدة" 2/ 640.
(4) انظر ما تقدم في الصفحة 441.
(5) زيادة يقتضيها السياق وهي في "العدة" 2/ 640.
(6) تقدم تخريجه في 2/ 168.
(3/447)
فصل
في أدلّتنا
فمنها: أنَّ العرب إذا أطلقت الحكمَ في موضعٍ، وقيّدته في
موضع، جعلت ذلك المطلَق مقيداً، يدلُّ عليه قوله تعالى:
{وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ
اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ} [الأحزاب: 35]، وتقديره:
والحافظاتِ فروجَهن، والذاكراتِ اللهَ كثيراً، وقوله:
{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ
وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}
[البقرة: 155]، وتقديره: ونَقصٍ من الأنفس، ونقصٍ من الثمرات،
وقوله: {عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ} [ق: 17]،
وتقديره: عن اليمين قعيد، فأبداً دأبُ العرب ذلك، قال شاعرهم:
نَحنُ بما عندنا وأنتَ بما ... عندك راضٍ والرأي مختلف (1)
وتقديره: نحن بما عندنا راضون. وقال الآخر
فما أدري إذا يمّمتُ أرضاً ... اريدُ الخيرَ أيهما يليني (2)
يريد: أريدُ الخير وأتوقى الشر.
فإن قيل: إنَّما حمل المطلقَ على المقيَّد ها هنا؛ لأنه لا
يستقلُّ أحدُ الكلامين بنفسِه؛ لأنَّ قوله تعالى:
{وَالذَّاكِرَاتِ} لايفهم، وكذلكَ قوله: {عَنِ الْيَمِينِ}
وقوله {وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}، فأمَّا في مسألتِنا؛
فإنَّ قولَه في الظهار {فتحريرُ رَقَبة} [المجادلة: 3]، كلام
مستقلّ بنفسه، وقوله في القتل: {فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ
مُؤْمِنَةٍ}
__________
(1) البيت لعمرو بن امرىء القيس الخزرجي، انظر"جمهرة أشعار
العرب" 13، و"خزانة الأدب" 4/ 275 و283. ونسبه سيبويه في
"الكتاب" 1/ 37 لقيس بن الخطيم.
(2) هذا البيت من قصيدة طويلة للمثقب العبدي، ووجه الشاهد فيه،
أُريد الخير وأتجنب الشَّر, فاكتفي بذكر أحدهما، لأنه يبينهما
انظر "ديوان المثقب": 212، و"خزانة الأدب"6/ 37، و11/ 80،
"والشعر والشعراء" لابن قتيبة: 1/ 396.
(3/448)
[النساء: 92] كلامٌ مستقلٌ.
قيل: الذاكرات. عمومٌ، والحافظات عمومٌ، لا يَفتقرُ إلى بيانٍ
محفوظ معيَّن، ألا ترى أنه يحسُنُ أن يقولَ: والذاكراتِ رسلِ
اللهِ وملائكةِ الله، والحافظات ألسنتِهنَّ وأيديهنَّ، يعني عن
اللغط والسرقةِ، ولو قالَ ذلكَ؛ لكانَ لكلِّ واحدٍ حكم
يُقيِّده، فلمَّا لم يقيدْ؛ حُمِل [على] (1) تقييد المقيَّد.
وعن اليمينِ قائماً وقاعداً ومضطجعاً، لا يختضُ بحالٍ، فهو
عموم، لكن خُصَّ بذكرِ حالِ صاحبِ الشمالِ، وكونه قعيداً.
فإن قيل: فحملُنا للمطلقِ على المقيَّد هناك لأجلِ العطف،
فإنَّه يجعلُ المعطوفَ مع المعطوفِ عليه الجملةِ الواحدِة،
فأمَّا في مسألتِنا؛ فهما جملتانِ لكلِّ واحدةٍ منهما حكم
بنفسها (2).
قيل: لا يجوزُ أن يكونَ حملُه عليه لأجل العطفِ، بل لأنَّ
أحدَهما مطلق، والآخرَ مقيَّدٌ.
يوضِّح هذا: أنَّه لو كانَ العطفُ هو المؤثر لكانَ إذا قيدَ
(3) كل واحدٍ منهما بمعنى، أعني المعطوف والمعطوف عليه، أن
يُحملَ أحدُهما على الآخرِ في تقييده، وهو إذا قال: والحافظين
فروجهم، والحافظات ألسنتهنَ وأيديهنَ من اللغطِ، فإنَّه لا
يحملُ أحدُ المقيَّدين على الآخرِ، مع وجودِ العطفِ، لكنْ
لمَّا عُدِمَ الإطلاقُ لم يُحملْ أحدُهما على الآخر، فبطلَ أن
يكونَ العطفُ هو الموجِبَ لحملِ أحدهما على الآخرِ (4).
على أنَّ العطفَ لا يوجبُ موافقةً؛ بدليل أنَّه قده يُعطفُ
الشيءُ على ما يخالفُه،
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) في الأصل: "نفسها" والمثبت أنسب للسياق.
(3) تحرفت في الأصل إلى: (قيل).
(4) انظر "العدة" 21/ 642 - 643.
(3/449)
قال الله تعالى: {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي
عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ} [الأحزاب: 43]، وإن كانت صلاتُه
الرحمةَ، وصلاةُ ملائكتِه الشفاعةُ والدعاءُ.
ومنها: أنَّه قد أمكنَ الجمعُ بين الدليلينِ، فإسقاطُ أحدِهما
لا وجهَ له، ألا ترى أننا لا نحكمُ إلا بعد امتناعِ جمعٍ بين
الدليلين (1).
فصل
في شُبَه المخالف (2)
فمنها: لمن قال: لا يُحملُ عليه، أنَّ المطلقَ معلومٌ المرادُ
بظاهرِه، فوجَب أن يُحمل عليه، فلا يُعدلُ عنه إلا بدليل،
والخاص ليسَ بدليلٍ، لأنَّ التخصيصَ إنما يقعُ بما يخالِفُ
الظاهرَ ويعارضُه، فأمَّا بما يوافقُه فلا، والمقيدُ يوافِقُ
المطلقَ، فوجبَ أن لا يُخصَّ به.
فيقالُ: إن التقييدَ يخالفُ الإطلاقَ ويعارضُه من لفظِه
ومعناه، وينكشفُ ذلك بالمثال؛ يَقول: أعتق عبداً من عبيدي.
فيكونُ الأمرُ شائعاً في سائرِ عبيده، فإذا قال: أعتق عبداً
مؤمناً. فيخرجُ من عبيده الكفارُ، ويصيرُ الأمرُ واقعاً على
بعضِ عبيدهِ، فما خصصناه إلا بما عارضَه دونَ ما واطأه ووافقه،
ولا فرقَ بينه وبينَ الخاصِّ مع العامِّ، وذلكَ أنَّ كل واحدٍ
منهما يُخرج من الجملة بعضَها، فالخصوصُ يُخرجُ من العمومِ ما
لولاه لدخلَ فيه، والتقييدُ يُخرجُ من المطلقِ ما لولاه لدخلَ
فيه، وأمَّا كونُ العامِّ معلوماً لكنَه من حيثُ الظاهرُ،
والخاص معلومٌ من حيثُ القطعُ، فلما قضيَ بالخاصَ على العامِّ،
كذلك يجبُ أن يقضَى بالمقيدِ على المطلَقِ، والذي يوضِّحُ ذلك
قولُه تعالى: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ}
[البقرة: 282]، ثم قال: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ
__________
(1) انظر "العدة" 2/ 643، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 183 -
184.
(2) انطر هذه الشبه في "الفصول في الأُصول" 1/ 222 - 234،
و"أصول السرخسي" 1/ 267 - 269.
(3/450)
عَدْلٍ مِنْكُم} [الطلاق: 2]، وكل عارفٍ
باللغةِ يعلَمُ أنَّه إنما أرادَ بالرجلينِ، العدلين، حيثُ قيد
في النطقِ الآخرِ بالعدالةِ.
ومنها: قولهُم: إن اللهَ سبحانَه أطلقَ الرقبةَ في الظهارِ،
فاعتبارُ الإيمانِ فيها زيادةٌ لا حكمِ النص، وذلكَ نسخ، فلا
يجوزُ بالقياسِ، ولا بخبرِ الواحدِ.
قالوا: والدلالةُ على كونه نسخاً لها: أنَّ الآيةَ كانت تقتضي
بإطلاقِها جوازَ عتق الرقبةِ الكافرةِ، فإذا اعتبر إيمانُ
الرقبةِ خرجت الكافرةُ أن تكونَ مُجزيةً، ويرتفعُ ذلكَ الحكمُ
الذي كان أولاً.
فيقال (1): هذا ليس بزيادةٍ، وإنَّما هو تخصيص؛ لأنَه كان
يجزىءُ بإطلاقِ الرقبةِ المؤمنةِ والكافرةِ والسليمةِ
والمعيبةِ، وقولُنا: لا تجزىءُ إلا مؤمنةٌ. نقصانٌ ظاهرٌ كما
إذا قال: أعطِ درهماً من شئتَ من هؤلاءِ العشرةِ. كان الأمرُ
شائعاً في العشرةِ كلهم، فإذا قالَ: إذا كان قارئاً أو فقيهاً.
كانَ ذلك نقصاناً لا زيادةً، وتخصيصاً لا رفعاً ونسخاً. ثمَّ
لو كان زيادةً، فالزيادةُ ليست نسخاً، وهذا يأتي مستوفىً إن
شاءَ الله تعالى في بابِ النَّسخِ.
ومنها: أنَّ الخصوصَ إنَّما يردُ على الأعيانِ المنطوقِ بها
دونَ المعاني التي لا يُنطق بها، والمنطوقُ هو ذكرُ الرقبةِ
فقط، فأمَّا صفاتُها مِن كُفرها وإيمانِها، فلا ذِكرَ له.
فيقالُ: هذا تعد من قائله؛ لأنَّ الأعيانَ تخصُ وتعمُ
بأوصافِها لا بذواتِها، وإنَّما الإشاراتُ بتناولهِا بغيرِ
صفات، مثل: هذهِ، وتلك، وهذا، وذاك في الأعيانِ الحاضرةِ، وإلا
فالغائبة لا تخصُ إلا بذكرِ الأسماءِ والصفاتِ، حتى إن الصفاتِ
تقضي على الأعيانِ الحاضرةِ، فلو قال: أعطِ مَنْ شئتَ مِن
هؤلاء العبيدِ إلا الأسود منهم، أو الفاسقَ. قضى هذا الوصفُ
على الإشارةِ، فأخرجَ الوصفُ ما تُخرجُ الإشارةُ.
ومنها: أن قالوا: إنَّ الرقبةَ في الظهارِ منصوصٌ عليها،
والرقبة في القتل منصوص
__________
(1) في الأصل: "فيقل".
(3/451)
عليها، فإذا قاسَ قائسٌ إحداهما على الأخرى
لم يجُزْ لوجهين:
أحدهما: أنَّه لا التفاتَ إلى القياسِ مع وجودِ النص.
والثاني: أنَّه يُفضي إلى إسقاطِ المقيسِ على المقيسِ عليه،
فيصيرُ الحكمُ لأحدِهما، ويسقطُ أحدُ النصين، ولهذا المعنى
منعنا قياسَ التيممِ على الوضوءِ في دخولِ الرأس والرجلينِ،
ولا قياسَ القطعِ في السرقةِ على قطعِ المحاربةِ، في إدخالِ
الرِّجلِ مع اليدِ، ولا قياسَ كفارةِ الظِّهارِ على كفارةِ
التمتع في اعتبار التفريقِ، ولا كفارةَ التمتعِ على كفارةِ
الظِّهارِ، في اشتراطِ التتابعِ.
فيقالُ: بل هو قياسُ المسكوتِ عنه على المنطوقِ به؛ لأنَّ
الإيمانَ لم يُنطَقْ به في كفارةِ الظهارِ، وإنما سُكِت عنه،
ونُطقَ بالرقبةِ فقط، وفي كفارةِ القتلِ نُطقَ بالرقبةِ
والإيمانِ فيها، فقسنا ما سُكَتَ على الإيمانِ فيه، على ما
نُطقَ بالإيمانِ فيه، وفارقَ التيمم مع الوضوِء؛ لأنَّ
الطهارتين ما اجتمعتا في الجنسِ ولا الصفةِ ولا التأثيرِ
فيقاسُ، فالترابُ جنسٌ غيرُ جنسِ الماءِ، والمسحُ الكليُّ غيرُ
المسحِ والغسل، ورفعُ الخَبثِ حكمٌ، ونَفْي رفعه حكم آخر،
فقياسُ أحدهما على الآخرِ رومَ التقريبِ الذي قصدَ الشرع،
خلافَه بالتبعيد [لا يصح] (1).
وليس كذلكَ الظهارُ، فإنه يُساوي القتلَ في اعتبارِ الرقبةِ
الصحيحةِ السليمةِ، واعتبارِ البدل: صومُ شهرين، وصفةِ البدلِ
وهو التتابعُ، ولم يُخلّ إلا بذكرِ الإيمانِ، فكانَ الظاهرُ:
اعتبارَ الإيمانِ فيما ثبتَ له هذه الأحكامُ كلُها المساويةُ
لكفارةِ القتلِ فيما استوى الحكم المذكور في الموضعينِ هناك،
واستوى ها هنا، وكذلكَ صومُ التمتعِ شرُطَ فيه التفريقُ
منصوصاً، والتتابعُ في الظهار منصوصاً، فلا يمكنُ سلوكُ
القياسِ المسقطِ لأحدِ الحكمينِ المنصوصِ عليهما، ولسنا
حُرُصاً على تلفيقِ ما فُرِّق، ولا تَفريق ما لُفِّق، بل لو
أطلقَ صومُ التمتع، وقيَّدَ صومُ الكفارةِ؛ لجاز أن نأخذَ
لأحدِهما
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(3/452)
صفةَ من الآخر من حيثُ نطقَ بها في إحداهما
وسكتَ عنها في الأخرى (1).
ومنها: أن قالوا: المطلقُ نطقُ الشارعِ، والمقيَّدُ نطقُه،
فليسَ حَملُ أحد النطقينِ على الآخرِ بأولى من حملِ الآخرِ
عليه.
فيقالُ: إنَّ كونَ النطقينِ من جهةٍ واحدةٍ لا يوجبُ نفيَ
افتراقِهما لمعنى يعودُ إلى النطقِ، فالناطقُ واحدٌ، والنطقانِ
مختلفان، فأحدُهما: يتناول الحكمَ بإطلاقِه وعمومِه، وهو
الظاهرُ، والآخرُ يتناولُه بخصوصه وتقييده، وهو صريحٌ، وما هما
إلا بمثابةِ العام مع الخاصِّ، والاستثناءِ مع الجملةِ
المستثنى منها.
ولأنَّ حملَ الخاصِّ على العامِّ يفضي إلى إسقاطِ الخاصِّ
كُلِّه بالعامِّ، وفي البناءِ للعام على الخاصِّ، والمطلقِ على
المقيَّد عملٌ بالدليلينِ والنطقينِ جميعاً، فيعملُ بالعامِّ
فيما يتناولُه الخاصُّ، وبالخاصِّ فيما وردَ فيه، فقد بانَ
الأولى، وسقطَ ما ذكرتَ من دعوى عدمِه.
ومنها: أن قالوا: حملُ العامِّ على الخاصِّ إهمالٌ للعام؛
لأنَّه يقتضي الاستغراقَ، فإسقاطُ استغراقِه إهمالٌ له، وذلكَ
لا يجوزُ.
فيقالُ: إنَّ التخصيص استعمالٌ ولغةٌ، فلا يجوزُ تلقيبه
بالإهمالِ، ولا يسقطُ استعمالُ أهلِ اللغةِ، ولا استعمالُ أهلِ
الرأي والقياسِ لأجل تلقيبِك له بالإهمالِ.
على أنَّا نقولُ له: إعمالٌ؛ لأنَّه جمع بين اللفظين، وفي تركه
البناءِ إسقاطٌ لعملِ الخصوصِ والتقييدِ، وذلك غيرُ جائزٍ، كما
لم يجُز إسقاطُ التخصيصِ لبعضِ الأعدادِ المنصوصِ عليها بحكم
يشملها، كالإشارةِ، والاستثناءِ، والتقييد بالصفةِ، مثل قوله
بعد الإطلاقِ للتخييرِ بين العشرةِ: القارىء، أو الفقيه، أو ما
شاكلَ ذلكَ، فإنه يقضى بذلكَ التقييد على التخييرِ الذي سبق
فيما بيَّناه من قبل في قوله: أعط أيّهم شئت.
__________
(1) انظر "العدة"2/ 646 - 647.
(3/453)
|