الواضح في أصول الفقه

فصل
العامّ المتفقُ على استعمالِه يجب حملُه على الخاصِّ المختلَفِ فيه
وبه قال أصحابُ الشافعي (1)، خلافاً لأصحابِ أبي حنيفةَ في قولهم: بلْ يُقدمُ العامُّ المتفق على استعمالِه على الخاصِّ المختلفِ في استعماله (2).

فصل
في أدلّتنا
فمنها: أنَّهما دليلانِ عامٌّ وخاص، فَيُبنى العامُّ على الخاصِّ، كما لو اتُفِقَ على استعمالِهما.
يوضِّحُ هذا: أنه بِتقديم الخاصِّ على العامِّ، والقضاءِ به عليه مع تساويهما في الاتفاقِ عليهما، أو الاختلاف فيهما، بانت مزية الخاص على العام.
ومنها: أنَّ فيما ذكرناه جمعاً بين الدليلينِ، فكانَ أولى من إسقاطِ أحدِهما، كالأصلِ الأوَّلَ.
__________
(1) "المحصول" 3/ 104، و"التبصرة": 151، و"البحر المحيط" 3/ 407.
(2) فصَّل الجصَّاص في هذه المسألة، وبيِّن أن الاتفاق والاختلاف في العامِ والخاص يتردد بين احتمالات ثلاثة:
الاحتمال الأول: أن يعملَ الناس بهما جميعاً -أي بالعامِ والخاص- فيستعملان ويرتب العام على الخاصِّ.
الاحتمال الثاني: أن يتفقوا على استعمال أحدهما دون الآخر فالعملُ على ما اتفقوا عليه والآخرُ منسوخ.
الاحتمال الثالث: أن يختلفوا في ذلك، فيعمل بعض الناس بأحد الخبرين، والعامة تخالفه وتعيب عليه ما ذَهب إليه، فلا يلتفت إلى قوله، فالعمل على ما عليه العامَّة. ويعني بالعامَّة عامة فقهاء السلف. "الفصول في الأصول" 1/ 408.
والمسالة التي عرضها ابن عقيل تندرج تحت الاحتمال الثاني، حيث اتفقوا على استعمال أحدهما -وهو العامُّ هنا- واختلفوا في الآخر وهو الخاص، فالعمل عند الحنفية على ما اتفقوا عليه.

(3/454)


ومنها: أنَّ الخصوصَ يتناولُ الحكمَ بصريحِه، والعامَ يتناولُه بظاهِره، لأنَه يحتملُ أن يرادُ به غيرُ ما تناوله الخاصُ، فيقضى بالذي لا احتمال فيه على ما فيه احتمال.

فصل
في شُبهةِ المخالف
أنَّ العامَّ قويَ بالاتفاقِ عليه، وضعفَ الخاص بالاختلافِ فيه، فوجَبَ أن يقضى بالأقوى على الأضعف.
يوضِّح هذا: أنَّ اتفاقَ العلماءِ معصوم مقطوعٌ به.
فيقال: لا نسلِّم أنَّه متفق على استعمالِه فيما لا يتناولُه الخاصُ بخصوصِه، وهذا لا يَمنعُ من جوازِ تخصيصِه، ألا ترى أنَّ استصحابَ الحالِ في براءةِ الذِّممِ بدليلِ العقلِ، متفق عليه في الجملةِ فيما لم يتناوله دليل شرعي ثم إذا وردَ دليل شرعي نُقِلَ عنه، وإن كان الدليلُ مختلَفاً فيه، على أنَهم قد ناقضوا في هذا، فإنهم قضوا بالنهي عن أكلِ السمك الطافي، وإن كان مختلفاً فيه، على قوله: - صلى الله عليه وسلم -: "أحلّت لكم مَيْتتان ودَمان" (1) وإن كان مُجمعاً عليه.

فصل
إذا تعارض خبرانِ، وأمكن استعمالُهما ببناءِ أحدهما على الآخرِ, وجبَ أن يُبنى أحدُهما على الآخرِ.
وقال أهلُ الظاهرِ: يسقطانِ، ويُبقى على حكم الأصل.
__________
(1) أخرجه أحمد 2/ 97، وابن ماجه (3314)، والبيهقي 1/ 254، والبغوي (2803). من حديث ابن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "أُحلّّت لكم ميتتان ودمان. فأمَّا الميتتان فالحوت والجراد، وأمَّا الدمان، فالكبد والطِّحال".

(3/455)


فصل
في أدلّتنا
أنَّهما لفظانِ، عامٌّ وخاصٌّ، يمكن استعمالُهما، فلا يسقطان.
أو نقول: فوجَب استعمالهُما وبناءُ أحدِهما على الآخر كالآيتين، وذلكَ مثل قوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ} [الرحمن: 39]، وقوله: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر: 92 - 93] قال ابن عباس: يُسألونَ في موضعٍ، ولا يُسألونَ في موضع (1)، يعني بذلكَ اختلافَ المقاماتِ، فإنَّ القيامةَ ذاتُ مقاماتٍ مختلفةٍ.
ومنها: أنَّهما دليلانِ يمكنُ بناءُ أحدِهما على الآخرِ, فوجبَ استعمالُهما، أو نقول: فلا يجوزُ إسقاطهما.
دليلُه: عمومُ خبرِ الواحِد، إذا وردَ مخالفاً لدليل العقل (2).
فإن قيل: أدلةُ العقل لا تحتملُ التأويلَ، ولا يدخلُها الاستعارةُ، بل كُلُّها حقائقُ مبنيّةٌ على التحقيق، والظاهرُ يحتملُ التأويلَ فَرُتب، وفي مسألتِنا، تأويلُ كل واحدٍ من اللفظينِ كتأويل الآخرِ, فلم يكن أحدُهما أولى من الآخر.
قيل: هذا يبطلُ بالآيتين، فإنَّهما تستعملانِ، وإن كان تأويلُ إحداهما كتأويلِ الأخرى. فإن قيل: الآيتانِ كأدلَّةِ العقلِ في القطعِ، فلذلكَ لم يمكن إسقاطُهما.
__________
(1) الذي روي عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى: {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} وقوله: {فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ}، قوله: لا يَسألهم: هل عملتم كذا وكذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم، ولكن يقولُ لهم: لِمَ عملتم كذا وكذا؟
"تفسير الطبري" 8/ 67، و"تفسير ابن كثير"4/ 469.
(2) "شرح اللمع" 1/ 376، و"التبصرة": 159.

(3/456)


قيل: فأخبارُ الآحادِ وإن لم توجب القطعَ، فقد وجبَ العملُ بها، وإزالةُ استصحابِ حالِ العقلِ في براءةِ الذِّممِ، بالشُغلِ والإلزام وإتعابِ الأبدانِ، ومنعِ اللَّذاتِ، فهّلا وجبَ الجمعُ والبناءُ مع الإمكانِ، كما وجبَ الاستعمالُ لها وإن لم يوجب القطع .. و [ما] (1) يدلُّ عليه: هو أنَّ ما زادَ على الخصوص من العمومِ لا يعارضُه مثلُه ولا ما هو أقوى منه، فوجبَ أن لا يتوقفَ فيه، كما لو رويَ في أحدِ الخبرينِ ما في الآخرِ, وزيادةُ حكمٍ.

فصل
في شبههم
فمنها: تعلّقُهم بقوله تعالى: {وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا} [النساء: 82]، وهذا التعارضُ اختلافٌ، فدل على أنَّه ليسَ من عندِ الله.
فيقالُ: لا اختلافَ بينهما، بل هما متفقانِ عندَ البناءِ والترتيبِ، على أنَّه لو كان هذا اختلافاً يمنعُ البناءَ في الأخبار لمنُعَ ذلك في الآي إذا تعارضت، ولمَّا أجمعنا على أنَّ ذلكَ لا يُعد اختلافاً نفاه اللهُ عن شرعهِ، كذلكَ ها هنا. وما مَنعَ من ذلكَ في الآي إلا إمكان البناء، كذلك في الأخبارِ قد أمكن البناء ولا اختلاف.
ومنها: أنَّه إذا تعارَض لفظان، وأمكنَ فيه وجهان من الاستعمالِ، كنهيه - صلى الله عليه وسلم - عن الصلوات في أوقات النهي (2)، وأمرِه بالقضاءِ لمن نامَ عن صلاةٍ أو
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) ورد ذلك في حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن النبي - صلى الله عليه وسلم - "نهى عن الصلاة بعد العصر حتى تغربَ الشمس، وعن الصلاة بعد الصبح حتى تطلع الشمس" تقدم في الصفحة 441.
كما ورد حديث عقبة بن عامز قال: ثلاث ساعات كان ينهانا عنهنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن نصلي فيهنَّ، وأن نقبر فيهنَّ موتانا: حين تطلع الشمس بازغةً حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة حتى تميل الشمس، وحين تصوَّب الشمس لغروبها".
أخرجه: أحمد 4/ 152، ومسلم (831)، وأبوداود (3192)، والنسائي 1/ 275 - 276=

(3/457)


نسيها (1)، فلم يكن أحدُ الوجهينِ في الاستعمال بأولى من الآخر وجبَ إسقاطُ الجميع، والبقاءُ على براءةِ الذمةِ بدليلِ العقل القاطعِ.
يقال: نحنُ إنَّما استعملنا لمّا أمكنَ وجهٌ واحدٌ من الاستعمال، فأمَّا إذا أمكنَ وجهان، لم يقدَّم أحدُ الوجهين على الآخر إلا بضربٍ من الترجيح، والترجيحُ إيجابُ القضاءِ في عمومِ الأوقاتِ، حتى أوقاتِ النهي، ولا تعطَّلُ أوقاتُ النهي عن النهي في صلاة النوافل غير المقضيّة المفروضة، ودليلُ العقل القاطع أوجبَ الاحتياطَ والاحترازَ من تركِ فعلٍ يوجبُ العقابَ في الآجل (2).
ومنها. أن قالوا: إنَّ الجمعَ والبناءَ إنَّما يكونُ بنفسِ اللفظِ، واللفظُ لا يدلُّ عليه، أو بدليلٍ آخرَ, وليسَ معكم في الجمعِ دليل، فوجبَ التوقُّف فيه.
فيقالُ: هذا يَبطلُ ببناءِ إحدى الآيتين على الأخرى، فإنَّه يجوز, وإنْ لم يدلَّ عليهِ اللفظُ، ولا دليلَ آخر يقتضي الجمعَ بينهما.
على أنَّ الدليلَ الذي اقتضى الجمعَ بينهما، هو: أنَّ الدليلَ قد دلَّ على وجوب العمل بكلِّ واحدٍ من الدليلين، وكلامُ صاحبِ الشرع لا يتناقضُ، فلم يبقَ إلا الجمعُ والترتيبُ.
ومنها: أنْ قالوا: يحتملُ أن يكونَ أحدُهما منسوخاً بالآخر، ويحتملُ أن يكونَ مبنيَّاً عليه، ومرتَباً، فلا يجوزُ تقديمُ أحدِهما على الآخر، كما لو احتملَ وجهين من الترتيب، لا مزيَّةَ لأحدِهما على الآخر.
__________
= و 4/ 82، وابن ماجه (1519)، والترمذى (1030)، وابن حبان (1551).
(1) تقدم تخريجه في 2/ 168.
(2) انظر "شرح اللمع"1/ 377.

(3/458)


فيقالُ: هذا يبطلُ بالآيتين، فإنه يحتملُ أن تكونَ إحداهما منسوخةً بالأُخرى، ويحُتملُ أن تكونَ مرتبةً عليها، ثم قدَّمنا الاستعمالَ والبناءَ على النَسخ، ولم نجعل ذلك بمثابةِ آيتين تعارضَ فيهما ترتيبانِ مختلفان، ولأنَّه وإن احتُمِلَ النَسخُ، إلا أنَّ الترتيبَ والبناءَ أظهرُ، لأنَّ فيه استعمالَ دليل، والنسخ إسقاطُ دليلٍ، والاستعمالُ كانَ أولى، لأنَّ الخبرَ إنَّما وردَ للاستعمالِ، والظاهرُ بقاءُ حكمِه.
ومنها: أن قالوا: إنَّ أدلةَ الشرعِ فروعٌ لأدلةِ العقل، ثم التعارضُ في أدلةِ العقلِ لا يقتضى الترتيبَ، كذلكَ التَعارضُ في أدلَةِ الشرع.
فيقالُ: الترتيبُ في أدلَّةِ العقلِ لا يمكنُ؛ لأنَّها لا تحتملُ التأويلَ، فهي بمنزلةِ النصّين إذا تعارضا لا يكونُ ذلك فيهما إلا أن يكونَ أحدُهما ناسخاً، والآخرُ منسوخاً، إذْ لا مجالَ للتأويلِ في النصِ لعدمِ الاحتمالِ.
فأمَّا في مسألتِنا: فإنَّ الاحتمال حاصل، فيمكنُ أن يكونَ المرادُ بالعمومِ بعض ما تناوله، فجاز فيه البناءُ والترتيبُ، ولذلك جوَّزنا البناءَ والترتيبَ في الآيتين، وإن لم يجز ذلك في أدلَّةِ العقول.
ومنها: قولهم: إنَّ الشهادتين إذا تعارضتا سقطتا، فكذلك الخبران، لأنَّ كل واحدٍ منهما قول يثبتُ به الحقُ وتشتغلُ به الذمة بعد فراغِها بحكم الأصل.
فيقالُ: إذا أمكنَ العملُ بالشهادتينِ عملنا بهما، وهذا إذا شهدَ شاهدان بمئةٍ، وشهدَ آخران بقضاءِ خمسين من المئةِ، جمعنا بينهما كالجمعِ بين الخاصَّ والعامَّ، وإن لم يمكن الجمعُ سقطا، كالخبرين إذا لم يمكنِ الجمعُ بينهما (1).
__________
(1) انظر "التبصرة": 161.

(3/459)


فصول الاستثناء
فصل
في حقيقة الاستثناءِ وأحكامِه وأقسامِه (1)
وهو كلام ذو صِيَغِ مخصوصةٍ محصورةٍ، دالٌّ على أنَّ المذكورَ فيه لم يُردْ بالقول.
وكُلُّ استثناء فهذه حاله، وكل ما هذه حالُه فهو استثناء، وكذا يُدَوَّر الحدُّ على المحدود.
ولا يلزم على هذا الحد التخصيص (2)؛ لأنّه لا يقف على الصيغ، لأنه يكون تارةً بالفعل (3)، وتارة بالقول، فلا يختصُّ بكونه صيغةً.
ولا يلزم التخصيصُ المتصلُ، مثلُ قوله: رأيتُ الناس، ولم أرَ عمْراً، لقولنا: كلامٌ ذو صيغ مخصوصة.
وحروفُ الاستثناء محصورةٌ، وليس الواو منها.
وقد استوفيت الحدودَ كلَّها في ابتداءِ كتابي هذا بما يغني عن الإطالة (4).
__________
(1) "العدة" 2/ 659، و"التمهيد" لأبى الخطاب 2/ 73، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 580، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 281 - 282.
(2) أي لا يلزمُ دخولُ التخصيص في تعريفِ الاستثناء.
(3) هذا ما وردَ في الأصل، ولعل الكلمة: (بالعقل)؛ لأن التخصيص كما يكون دليلُه القول، فكذلك يكون دليله العقل، ودليلُ العقل هو الذي لا صيغةَ له.
قال القاضي أبو يعلى في "العدة" 2/ 660: لأن تلك الأشياء -أي أدلة التخصيص- ليست تختصُّ بالقول، ألا ترى أن التخصيص يكون تارة بقول صاحب الشريعة، وتارة يكون بدليل العقول، وليس ذلك بقول. اهـ.
(4) انظر ما تقدم في الجزء الأول، الصفحة 90 وما بعدها.

(3/460)


فصل
لا يصحُّ الاستثناءُ المنفصلُ، بل من شرْطِه الاتصالُ، فإذا انقطعَ لم يَعمَل (1).
به قال الفقهاءُ والمتكلمون وأهلُ اللُّغة (2).
وقد حكى شيخُنا عن أحمدَ اختلافَ الرواية (3)، وليس يظهرُ من ذلك ما يوجبُ اختلافاً؛ لأنه سهَّلَ ذلك في اليمين إذا سكتَ قليلاً، ثم قال: إن شاءَ اللهُ. وهذا يجبُ أن يكونَ محمولاً على يسير لايُعدُّ في الكلامِ فصلاً ولا قطعاً.
وكلامُه الظاهرُ، وقولُ الخرقي يدلُّ على أنه لا يصحُّ إلا متصلاً (4)، وهو الصحيحُ عند مشايخنا (5).
وحُكي عن ابن عباس أنه يصحُّ الاستثناءُ وإن كان منقطعاً، وعنه: أنه قدَّره بسنةٍ (6). وحُكيَ عن الحسن (7): أنَّه يصحُّ ما دامَ في المجلس (8).
__________
(1) أي لم يعمل الاستثناء عمله. "العدة"2/ 660.
(2) "العدة" 2/ 660، و"المسوَّدة": 152 - 153، و"التمهيد" 2/ 73، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 297، و"البرهان" 1/ 385، و"المستصفى" 2/ 165، و"التبصرة": 162، و"شرح تنقيح الفصول":242.
(3) اختلفت الروايةُ عن أحمد في صحةِ الاستثناء في اليمين:
ففي رواية: أنَّه إذا حلفَ، وسكتَ قليلاً، ثم قال: إن شاء الله، فله استثناؤه، لأنه يكفِّر.
وفي رواية: أنَّه لا يصحُّ الاستثناء إذا كان بينه وبين اليمين فصلٌ.
وحُمِلت الرواية بجواز الاستثناء، إذا كان الفصل بزمان يسير, وما دام في المجلس. "العدة"2/ 660 - 661.
(4) انظر قول الخرقي في "المختصر": 217.
(5) "العدة" 2/ 661.
(6) "العدة" 2/ 661، و"المسودة": 152.
(7) هو الحسن بن يسار, أبوسعيد البصري، من كبار التابعين وأشهرهم علماً وزهداً وورعاً وعبادةً، توفي سنة (هـ110). "حلية الأولياء" 2/ 131، و"شذرات الذهب" 1/ 136.
(8) "المسودة": 152 - 153، و "شرح الكوكب المنير" 3/ 300.

(3/461)


فصل
يجمع أدلّتنا
فمنها: قولُ النبي - صلى الله عليه وسلم -: "من حلفَ على يمينٍ فرأى غيرَها خيراً منها، فليأتِ الذي هو خيرٌ، وليكفِّر عن يمينه" (1)، وروي: "فليكفّر عن يمينه وليأتِ الذي هو خير" (2) ولو كانَ الاستثناءُ طريقاً للتخلص بعد حصول الندم، وتأمُّل الخير في البُرء منها، لأرشدَ إليه، ولم يخصَّ ذلك بالكفارةِ، ولم يوجب الحِنثَ مع إمكانِ البِرِّ، فلما نصّ على التكفير، دلَّ على أنه لا طريقَ إلى ذلك بالاستثناءِ، إذ لو كان كذلك؛ لكان يُرشدُ إلى الأسهلِ (3).
ومنها: أنَّ أهلَ اللغةِ لا يعُدّون ما انفصلَ استثناءً، فلو قال القائل: رأيتُ بني تميم كلَّهم. وقال بعد شهر إلا زيداً، لم يعد في قوله: إلا زيداً. متكلماً بلُغةِ العرب، ولا يُلَفَّق هذا إلى الكلام الأول كما لا يُلَفقُ الحال بأن يقول: رأيتُ زيداً. ثم يقولُ بعد شهرٍ: قائماً, وكذلك قولُه: دخل زيدٌ الدارَ. ثم يقولُ بعد سَنةٍ راكباً. فهذا ليس بكلامٍ في عُرفِهم وعادتهم. حتى إنه لو كان ساكتاً منذ قال القولَ الأول، وقال بعد ذلك لفظَ الاستثناءِ، لم يكن مُستثنياً، فكيف إذا مضى بين الكلامين من أنواعِ الكلامِ، وجرى من الأحاديثِ الفاصلةِ بين الكلامين ما يخرجُ عن إلصاق بعضه ببعض، وتلفيقِ بعضه إلى بعض؟!
__________
(1) أخرجه أحمد 2/ 185، و211 و212 و 204، والطيالسي (2259)، والنسائي 7/ 10، وابن ماجه (2111)، وابن حبان (4347)، والبيهقي 10/ 33 - 34 من حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
(2) أخرجه بهذا اللفظ من حديث اْبي هريرة رضي الله عنه.
مالك في "الموطأ" 2/ 478، وأحمد 2/ 361، ومسلم (1650)، والترمذي (1530)، والبغوي (2438)، وابن حبان (4349)، والبيهقي 10/ 53.
(3) "العدة"2/ 661 - 662.

(3/462)


ومنها: أنَّ الاستئناءَ مع المستثنى منه جملةٌ واحدةٌ، كالشرطِ مع الخبر أو الخبرِ مع الابتداء، ومعلومٌ أنَّه لو قال: زيد. ثم قال بعد شهر أو يوم: قام، لم يُعد متكلّماً بالمبتدأ والخبر بل ينقطعُ الخبرُ عن الابتداءِ، فلا يُفيدُ الأولُ ولا الثاني، وكذلكَ إذا قال: اضرب. وقال بعدَ شهر زيداً، أو قال: أكرم خالداً، ثم قالَ بعد شهر إنْ تفقَّهَ في دينِ الله، أو حفظَ كتابَ الله. فإنه لا يُلْحقُ الشرطُ بالمشروطِ، ولا الخبرُ بالشرط، ولا الفعلُ بالمفعولِ به، كذلكَ الاستثناءُ مع المستثنى منه؛ لأجْلِ أنَّ الكلَّ جملةٌ واحدةٌ، فلا يُفصلُ بعضُها عن بعض.
ومنها: أنَّ الكلامَ إنما وُضع لفوائِده المخصوصة [ولو] (1) لحق الاستثناءُ بالمستثنى منه، مع وجودِ الفصلِ، لفاتت فائدةُ الكلامِ، فإن الأيمانَ وُضعت للثقةِ بها، وتأكُدِ الخبرِ لأجلِها، وكذلكَ الوعدُ والوعيدُ، فإنَّما تحصلُ الثقةُ إذا وقعت جازمةً، ولهذا متى وقعتِ الأيمانُ معلَّقة بشرطٍ، لم تحصل الثقةُ بها، فإذا قال: واللهِ لا غدرتُ بك ولا نكثتُ عقدك إنْ شاءَ اللهُ. لم يعدَّ يميناً، فإذا كان له أن يقولَ بعد سنةٍ: إنْ شاءَ الله أو يقولَ: واللهِ لأقْضينَّك دَيْنكَ كله غداً، ثم كان له أن يقول: إلا كذا وكذا منه، ولا أعطيتُك من دَينك مئة في غدٍ، ويقول بعد ساعة: إلا أربعين. فأيُ ثقةٍ تحصلُ مع إمكانِ إلحاقِ الاستثناءِ با لمستثنى منه، وإخراجِ الكلامِ الأولِ بالاستثناءِ الواقعِ بعد زمانٍ إلى ما تقدَّمَ من الكلامِ (2).؟!.
ومنها: أنَّ تقديرَ ذلك بالسَنةِ لا ينفصلُ عن الأقل منها والأكثر فلا وجهَ لهذا التقدير.
ومنها: أن اللهَ سبحانَه [لو] (3) قال لمكلف: أعتقْ رقبةً، أو صُم شهرينِ، ثم قال
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 75.
(3) زيادة يقتضيها السياق.

(3/463)


بعدَ سنةٍ: مؤمنةً، ومُتتابعين. لما عَرفَ المكلَّفُ أنَّ ذلك يرجعُ إلى الأوَّل، وإذا كان الاتصالُ من أحد شروط البيان لمعاني الكلام، ومن آكد شروطه: نظمُه وتحقيقُه على عادةِ العرب، فلو فرق بين الحروفِ ثم يعدَّ كلاماً؛ لأنَّ النظم شرطُه، فكذلكَ الكلمةُ إلى الكلمةِ التي بالتفريق فيما بينهما تُعدمُ الفائدةُ التي وُضع الكلامُ لأجلها.
ومنها: أنَّ الاستثناءَ والمستثنى منه جملةٌ واحدةٌ في الكلام، فلا يُفصل بينهما فصلاً يقطعُ الكلامَ بعضه عن بعض، كالمبتدأ والخبر فإنَّه لو قال: قام. وقال بعد مدة: زيدٌ، ثم يكن متكلَّماً بلغةِ العرب، كذلك ها هنا (1).

فصل
في شُبَههم
فمنها: مارُويَ عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه، قال: "والله لأَغْزونَّ قُريشاً"، ثم سكت، وقال: "إنْ شاءَ الله (2) "، ولولا صحةُ الاستثناء بعد السكوت لما استثنى، لا سيَّما وقولُه مُتَّبع مُقتدىً به.
وروي أنَّه لما سألته اليهودُ عن عِدَة أهلِ الكهف، وعن مُدَّةِ لُبثهم فيه. فقال: "غداً أُخبركم" ولم تقُلْ: إن شاء الله، فتأخَّر عنه الوحيُ مدةَ بضعةَ عشرَ يوماً, ثم نزل عليه: {مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ} [الكهف: 22]، إلى قوله: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 23 - 24]
__________
(1) "العدة" 2/ 663، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 74 - 75.
(2) أخرجه من حديث ابن عباس: الطحاوي في "مشكل الآثار" 5/ 186، والطبراني في "الكبير" (11742)، وابن حبان (4343)، والبيهقي 10/ 47.
وأخرجه مرسلاً من حديث عكرمة: أبوداود (3286)، والطحاوي في "مشكل الآثار" 5/ 187 والبيهقي 10/ 48.
وإسناد الحديث بروايتيه المتصلة والمرسلة ضعيف، لاضطرابِ رواية سماك عن عكرمة.

(3/464)


فقال: إن شاء الله (1).
والجوابُ: إنَّ هذا لا يدل على الإلحاقِ به لغةً، وإنَّما يدلُّ على أنه استدركَ ذلك تعليقاً بمشيئة الله؛ لأجل قولِ الله له: {وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ} [الكهف: 23 - 24] وتأخَرَ الوَحي عنه أياماً حيث وُعِدَ بجوابِ المسألةِ التي سُئِل عنها عن عدَّةِ أهلِ الكهف، فلما نزلَ جوابُ ما سُئِلَ عنه نزلَ في ضِمْنِه (2) قولُه: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ} [الكهف: 24]، فجعل قوله: إن شاءَ اللهُ بعد زمانٍ؛ لأجل النسيانِ مُزيلاً لكراهيةِ تركِ الاستثناءِ، وما يتعلق عليها من المعاتبة، ولهذا أكبر اللهُ سبحانه تركَ الاستثناء في قصةِ أهلِ الجنة التي قال أهلها: {إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ} [القلم: 17]، فقال سبحانه: {وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ} [القلم: 18 - 19] وهذا كقضاءِ الصلاةِ، فيمن نامَ عنها، أو نسيَها، فذلك وقتُ الاستدراك، لإبراءِ الذمةِ شرعاً، لا أنَهُ الوقتُ الموضوع.
لذلك ها هنا سقطت المعاتبةُ به عند الإتيان بعد النّسيان، ولا يدل على أنه الوضع الذي يقضي به في سُنَةِ الكلامِ اللغوي والأحكام المبنيةِ عليه، بدليلِ ما ذكرنا (3).
ومنها: أنَّه مذهبُ ابن عباسٍ (4)، وهو من اللغةِ بمكان.
__________
(1) "تفسير الطبري" 9/ 230، و"تفسير ابن كثير" 5/ 133 و"زاد المسير" 5/ 133 و 145، و"الدر المتثور"5/ 376 - 377.
(2) في الأصل: "ضمن"، والمثبت أنسب للسياق.
(3) "العدة" 2/ 633 - 634.
(4) للعلماء في توجيه الرواية الواردة عن ابن عباس رضي الله عنهما طريقان:
فمنهم من قال: إنَّ هذه الرواية لا تصحى عنه رضي الله عنه، وهذا ما صرح به الجويني حيث قال: "والوجه اتهام الناقل، وحمل النقل على أنه خطأ، أو مختلقٌ أو مُخترع، والكذب أكثر ما يسمع" "البرهان" 1/ 387. =

(3/465)


فيقال: إنَّ ذلك إنْ صَحَ عنه، فلعله أراد به إخباراً عن شيءٍ كان قد أضمره في نفسِه، أو نطقَ به، فأخبره بإضمارِه بعدَ سنَةٍ أو إسرارِه، فظن ظانٌّ أنه ابتدأ الاستثناء في ذلك الوقتِ، والإضمارُ يستعملهُ الناسُ في الأَيمان، إذا كانت لدفعِ الظلم، وقد يَعتدُ به قوم في تقييدِ الإطلاق، فأمَّا على الوجه المذكور عنه فلا وجه له لغةً ولا شرعاً، ولو كان على غير ما تأوَّلنا لحججناه بالأدلةِ التي ذكرنا.
ومنها: أنه تخصيصُ عموم، فجازَ أن يتأخَر، كالتخصيص للعموم بغيرِ لفظِ الاستثناء (1).
فيقال: إنّا لا نُسلِّم على قول أبي الحسن التميمي، وأبي بكرٍ عبد العزير لأنَّهما لم يُجِيزا تأخيرَ البيانِ عن وقتِ النطقِ. وإن سلمنا؛ قلنا: فذاك تستوي فيه السَّنةُ وما قلَّ وكثر وزاد ونقصَ، فيقلب فيقول: فلا يتخصصُ بالسَنةِ كالأصل.
ولأنَّ التخصيصَ يجوزُ بغير النطقِ من دلائلِ العقولِ، والسنّةُ: وهي لفظُ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - يخصُ بها كتابُ اللهِ، والقياسُ المستنبط (2)، وليس لنا استثناءٌ إلا هو لفظٌ من جهةِ من نطقَ بالجملةِ المستثنى منها، فهذا كلُّه يبعدُ التخصيصَ عن الاستثناءِ،
__________
= ومنهم من قال: "إن هذه الروايةَ إن صحت؛ فتحملُ على أن المستثنى نَوى الاستثناء متصلاً بالكلام، ثم أظهر نيته بعده".
"التبصرة"162، و"المستصفى"2/ 165، و"المحصول" 3/ 28، و"العدة"2/ 661، "شرح مختصر الروضة"2/ 590، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 298، و"إرشاد الفحول": 252.
(1) أي أن من أدلةَ المخالفين: أنه كما يجوز تأخيرُ أدلة التخصيص عن لفظ العموم، يجوزُ تأخير الاستثناء؛ لأنه في معنى التخصيص.
(2) أي القياس المستنبط يخصُّ به كتاب الله الكريم.

(3/466)


ويبيّنُ أن التخصيص جملة أخرى غيرُ الجملة الأولى (1).
ومنها: أن الرافعَ لليمينِ التكفيرُ والاستثناءُ. فنقول: معنى يرفعُ اليمينَ، فجاز أن يقعَ منفصلاً ومتصلاً كالكفارةِ.
فيقالُ: إنّ الكفارة لا تمنعُ الحِنثَ، ولا ترفعُ أصلَ اليمين، بل تكفِّر الحِنث، والحِنثُ يتأخَّرُ عن اليمينِ غالباً، وإنَ الحانث يعرضُ له بتراخي الندم على ما حلفَ على تركه؛ فيفعلُه، أو على فعلِه؛ فيتركُه.
والاستثناءُ من جملة الكلام، فهو بالشرط وجوابِه، والمبتدأ وخبره، أشبهُ منه بالكفارةِ.
__________
(1) أجاد الطوفي رحمه الله في بيان الفرق بين الاستثناء وبين التخصيص بنوعيه؛ المنفصل والمتصل، ويحسن أن نسوق بيانه هذا بإيجاز "أما الفرق بين الاستثناء وبين التخصيص بالمنفصل من الأدلة:
فهو عدم استقلال صيغة الاستثناء بنفسها؛ لأنها تابعة للمستثنى منه، بخلاف المخصِّصات المنفصلة، فإنها مستقلة بنفسها.
وأمَّا الفرق بين الاستثناء والتخصيص بالمتصل من الأدلة:
فهو أنَّ الاستثناءَ يتطرق إلى النص كقوله: أنت طالق ثلاثاً إلا واحدةً، وله فيَ عشرةٌ إلا ثلاثةً، بخلاف التخصيص بغير الاستثناء؛ فإنَّه لا يصحُّ في النصِّ، وإنما يصحُّ في العامِّ، ودلالته ظنية، فإذا قال: أكرم الرجال، ثم قال: لا تكرم زيداً؛ كان ذلك تخصيصاً؛ لأن دخول زيد في الرجال بالنظر إلى إرادة المتكلِّم، مظنون لا مقطوع، ولو نص على أسماء الرجال فقال: أكرم عَمراً وبكراً وبشراً وجعفراً وزيداً، حتى أتى على أسمائهم، لم يكن ذلك تخصيصاً بل نسخاً، وذلك؛ لأنَّ التخصيص يبين أن مدلول اللفظ الخاص ليس مراداً من اللفظ العام الذي هو محتمل لإرادته وعدمها، وذلك صحيح مفيد، أما إذا نصَّ على إرادة مدلولِ لفظٍ كزيدٍ أو غيره من الرجال؛ لم يصح بعد ذلك أن يُبَين أنه غير مراد له؛ لإفضائه إلى التناقض، بل يكون نسخاً؛ لأنَّ التناقض من لوازمه.
انظر "شرح مختصر الروضة" 2/ 585.

(3/467)


ومنها: أنَّ النسخَ يجوزُ تأخيرُه عن المنسوخِ، فكذلك الاستثناءُ، والجامعُ بينهما: المعنى، وأنَّ كل واحدٍ موضوعٌ للإخراج والرفعِ والإزالةِ.
فيقالُ: إنَّ النسخَ إنما يقعُ في غالبِ الحالِ لأجل اختلاف الأزمان في المصالِح والمفاسدِ، وإنَ بعض التَعبداتِ تكون مصلحةً في وقت ومفسدةً في غيره، فصارَ الناسخُ جملةً، والمنسوخُ جملةً أخرى، فلا يجبُ الاتصال، بل لو كان الناسخُ متصلاً لكانَ بيانَ غايةٍ، ولم يكنْ نسخاً، ولهذا لم يجعل العلماءُ قولَه تعالى: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] منسوخاً وناسخاً، بل سموا ذلك غايةً، وفي الغالبِ أنَّه يكونُ بينهما زمانٌ يختلفُ الأصلحُ فيه بين الإثبات والرفعِ، وعقبه يكونُ إما بيانَ غايةٍ، أو عين البَداء (1).

فصل
والدلالةُ على فسادِ قولِ مَن علَّقَه على المجلس:
أنَّهما جملةٌ واحدةٌ -أعني المستثنى منه مع المستثنى- فلا يقفُ على المجلسِ، كالشرطِ والجزاء (2)، أو الخبرِ والمبتدأ.
شبهةُ الحسن (3): أنَّ المجلسَ في الأُصولِ جُعل كحال الكلام، ولهذا عُلقَ عليه قبضُ رأسِ مالِ السَّلَم، وثمنِ الصرَف.
فيقال: ذاك تعبُّد، لا يُعقلُ معناه، فأينَ هو من صلةِ الكلامِ بعضه ببعضٍ من طريق اللغةِ، والوضعِ، بل تشبيهه بما ذكرنا من الشرطِ والجزاءِ، أو الخبرِ والمبتدأ أولى.
__________
(1) والبداء لا يجوز على الله سبحانه وتعالى، وهو ما سيورده المصنف في الصفحة 214 من الجزء الرابع.
(2) تحرفت في الأصل إلى: "الخبر".
(3) أي: البصري، رحمه الله.

(3/468)


فصل
يجوزُ تقديمُ الاستثناء على المستثنى منه، إذا كان متصلاً به (1).
مثل قول القائل: ما جاءني إلا أخاك أحدٌ، وما مررتُ إلا أباك بأحدٍ، وقد تكلمت العربُ بذلك نظماً ونثراً، فقال حسَّانُ بنُ ثابتٍ رضي الله عنه:
الناسُ ألْبٌ علينا فيكَ ليسَ لنا ... إلا السيوفَ وأطراف القَنا وَزَرُ (2)
وقال الكُمَيتُ (3):
فماليَ إلا آلَ أحمدَ شيعةٌ ... وماليَ إلامَشْعَب الحقِ مَشْعبُ (4)
فكان الاستثناءُ في الموضعينِ مقدَماً على المستثنى منه. فَنُصِبا جميعاً بالاستثناء مما هو في موضع النَصبِ والخفضِ؛ لأنَّه مما تكلمت به العربُ على هذا الوجهِ.
وقد قال أهل اللغة: إنَّ الاستثناء إذا تقدمَ، نُصِبَ أبداً المستثنى منه، تقول: ما جاءني إلا أباك أحدٌ، وما مررت إلا أباك بأحدٍ، واستشهدوا بهذين البيتين، فيجب
__________
(1) هذا الفصل في "العدة" 2/ 664.
(2) " ديوان حسان ": 206، و"السيرة النبوية"، لابن هشام 4/ 141، و"شرح أبيات سيبويه"
للسيرافي 175/ 2.
وقد نسبَ المبرِّد في "الكامل" 2/ 614، وسيبويه في "الكتاب" 1/ 371 هذا البيت لكعب بن مالك الأنصاري رضي الله عنه، والصحيح نسته إلى حسان بن ثابت رضي الله عنه.
وقوله: ألْبٌ، وإلبٌ: مجتمعون عليه بالظلم والعداوة."القاموس المحيط": (ألب).
(3) الكميت بن زيد الأسدي الكوفي، مقدمُ شعراء وقته، حتى قيلَ في شعره: لولا شعر الكميت لم يكن للغة ترجمان. روى عن الفرزدق. ولد سنة (60 هـ)، وتوفي سنة (126هـ). "الشعر والشعراء": 368، و"الأغاني" 17/ 1، 40، و"سير أعلام النبلاء" 5/ 388.
(4) نُسِبَ هذا البيت للكميت في "خزانة الأدب" 2/ 408، و"شرح أبيات مغني اللبيب" للبغدادي 6/ 333، و"الأغاني" 17/ 27، و"الكامل" 2/ 614. وورد من غير نسبة في "المقتضب" 4/ 398.

(3/469)


ترتيبُ الأمر في تقديمه على ما ذكرنا (1).