الواضح في أصول الفقه

فصل
ويجوزُالاستثناءُ من الاستثناء (2).
لقوله تعالى: {إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ} [الحجر: 59 - 60] فاستثنى آلَ لوط من أهل المدينة، واستثنى امرأة لوطٍ من آلِ لوط، فالأهلَ استثناهم من المُهلكين، والمرأةَ استثناها من المنَجَّين من الهلاكِ.

فصل
لايصحُ استثناءُ الأكثر (3).
ذكَرَه الخرقيُّ من أصحابنا في كتاب الإقرار (4)، وهو قول ابن درستويه (5) النحوي، وأبي بكر الباقلّاني، خلافاً لأكثر الفقهاء والمتكلّمين في قولهم بجوازِ ذلك (6).
__________
(1) "العدة" 2/ 665 - 666.
(2) "العدة" 2/ 666، و"المسودة": 154، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 305.
(3) "العدة" 2/ 666، و"التمهيد"2/ 77، و"المسودة": 154 - 155، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 307 - 308.
(4) راجع "مختصر الخرقي" 19 - 100 حيث قال: "ومَن أقرَّ بشيءٍ واستثنى منه الكثير -وهو اْكثر من النِّصف- أُخِذَ بالكلّ، وكان استثناؤه باطلاً ".
(5) هو أبومحمد، عبد الله بن جعفَر بن دَرَسْتَويه بن المرزُبان، الفارسيّ، من أعلام اْئمةِ النحو وشيوخهم، له مصنَّفات كثيرةٌ منها "الإرشاد" في النحو و"شرح الفصيح" و"أدب الكاتب"، قدِمَ من مدينةِ فسا بفارس، واستوطن بغداد. وتوفي سنة (347 هـ).
"طبقات النحويين واللغويين": 127، "تاريخ بغداد" 9/ 428 - 429، و"فيات الأعيان" 3/ 44 - 45، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 531.
(6) "المستصفى" 2/ 170، و"الإحكام" للآمدي 2/ 297، و"المحصول" 3/ 37، و"جمع الجوامع" 2/ 14، 15، و"البحر المحيط" 3/ 288.

(3/470)


فصل
في أدلتنا
فمنها: أن الاستثناءَ من لغةِ العرب، وقد استهجنوا واستقبحوا ما طال من الكلامِ لغيرِ حاجةٍ، واسْتَحسنوا الاختصار وهو تَقليل الكلامِ الجامعِ لكثيرِ المعاني، وهو من أحدِ طرقِ إعجازِ القراَن، فهذا في الجملةِ، وإذا جاء التفصيل كان أشدَّ تقبيحاً واستهجاناً، كقولِ القائل وهو يريدُ الإخبارَ بأنَه رأى رجلاً أن يقول: رأيتُ ألفَ رجل إلا تسع مئةٍ وتسعة وتسعين رجلاً. وقوله: وهو يريد الإقرارَ لرجلٍ بدرهم: له على ألف درهم إلا تسع مئة وتسعةً وتسعين درهماً. وما دخل في خبرِ الاستقباحِ منهم لم يكنْ مستعملاً؛ لأنَّ القومَ عقلاءُ حكماءُ، امتازوا من الخلقِ باللسانِ وحسنِ البيان، فلا يخصَّون استعمالَهم إلا بالأحسن، فإذا رأيناهم استقبحوا كلاماً واستهجنوه، علِمنا أنَّه ليس من وضعهم.
والدلالة على دعوانا استقباحهم ذلك: ما ذكره أبوإسحاق الزّجّاج في كتابِ "المعاني"، لما تكلَّمَ على قوبهِ: {فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا} [العنكبوت: 14] ولم يأت في كلام العرب إلا القليلُ من الكثير (1).
وقال أبوالفتح ابن جِنّي (2): لو قال قائلْ. هذه مئة إلا تسعين. ما كان متكلماً بالعربية، وكان كلامُه عِيَّا ولُكْنةً.
__________
(1) "معاني القرآن"4/ 163.
(2) هو أبوالفتح عثمان بن جني الموصلي، من أعلام العربية وأئمتها، لزمَ أبا علي الفارسي دهراً، وسافرَ معه، حتى برعَ وصنَّف، وسكنَ بغداد، وتخرجَ به الكبار, وقرأ على المتنبى "ديوانه" وشرحه، من مصنفاته "سر الصناعة" و"التصريف" و"الخصائص"، توفي سنة (392 هـ).
"تاريخ بغداد" 11/ 311، 312، و"إنباه الرواة "2/ 335 - 340 و"سير أعلام النبلاء" 17/ 17 - 19.

(3/471)


وقال القتيبي (1) في "جوابات المسائل"، وفي كتابِ " الجامع " في النحو يجوزُ أن يقولَ: صمتُ الشهرَ كله إلا يوماً، ولا يجوز أن يقولَ: صمتُ الشهرَ كله إلا تسعةً وعشرين يوماً، ويقول: لقيتُ القومَ كلهم إلا واحداً. ولا يجوزُ أن يقول: رأيت القومَ كلَّم إلا أكثرَهم. وأنشدوا في ذلك:
عَداني أنْ أزوركَ أنَّ بَهْمي ... عجافٌ كلُها إلاقَليلا (2)
ومنها: أنه لو جاز استثناء الأكثز لجاز استثناء الكل، ألا ترى أنه لما جازَ التخصيصُ في الأكثر جازَ رفعُ ذلك بالنسخِ رأساً.
والأصول أكثرُها على إقامةِ الأكثرِ مقامَ الكل.
ومنها: أنَّ عادةَ العرب إذا ضَموا مجهولاً إلى معلومٍ أن يبنوا الأمرَ فيه على التقريب، فإذا كان المجهولُ قريباً من العَقد (3)؛ ذكروا العقدَ واستثنوا المجهول، وإذا كان بعيداً من العَقد؛ قذَموه إلى ما قبلَه من العدد (4)، ولم يستثنوه، يقولون فيما قرُبَ من العقدِ: كُرَّينِ (5) إلا شَيئاً. وفيما بَعُدَ: كُرُّ حنطةٍ وشيءٌ. ولهذا حَمل الشافعيُ رحمه الله
__________
(1) هو أبومحمد عبد الله بن مسلم بن قُتيبة الدّيْنَوَري، كان إماماً في علم اللسان العربي، والأخبار وأيام الناسِ، له تصانيف في علوم القراَن والحديث واللغة والأخبار منها: "غريب القرآن"، و"مشكل القرآن"، و"غريب الحديث" توفي سنة (276 هـ)."تاريخ بغداد" 10/ 170 - 171، و"إنباه الرواة" 2/ 143 و"سير أعلام النبلاء" 13/ 296.
(2) البيت دون نسبة في "معجم مقايس اللغة" 4/ 243، و"اللسان": (عجا)، ولفظ الشطر الثاني فيهما: "عجايا كلها إلا قليلا". والعجايا: صغار الحيوان، تموت أمها فيرضعها صاحبها بلبن غيرها.
(3) ألفاظ العقود هي: عشر عشرون، ثلاثون ... إلى التسعين.
(4) هكذا وردت في الأصل، والذي يقتضيه السياق أن تكون: العقد.
(5) الكرُّ: سِتون قفيزاً، ويقدر كُرُّ القمح بالكيلوغرام بنحو (2925) كيلوغرام، أي ما يعادل (9 ر2) طن تقريباً. انظر "المكاييل والأوزان الإسلامية وما يعادلها في النظام المتري"، فالتر هنتس 69 - 70، و"المعجم الاقتصادي" للشرباصي: 384.

(3/472)


عليه خبرَ ابن جريج (1) في تقديرِ القُلةِ بقربتين وشيء، حمل الشيء على ما دونَ النصف، ثمَّ بلغَ به النصفَ احتياطاً للماءِ (2)، وهذا يدل على أنه لا يُسْتَثْنى [إلا] (3) الأقل.

فصل
في الأسئلة لهم على أدلتنا
فمنها: قولهم: أما استقباحُ ذلك؛ فلا وجه له، بل الأحسنُ عندهم غيره.
وليس إذا كان الأحسنُ غيرَه لم يكنْ مستعملاً ولا سائغاً، ألا ترى أن الأحسنَ في حقِّ من أراد أن يُقر بتسعةٍ أو يخبر بها، أن لا يقول: عشرةٌ إلا واحداً، بل يقولُ: تسعةٌ.
ومن أراد أن يثبت ستة إقراراً بها، فالأحسنُ أن يقولَ: ستة. ولا يقول: عشرة إلا أربعة، ثم لا يقالُ: إنَّ الاستثناء كذا؛ ليس بلغةٍ ولا مستعملاً.
__________
(1) هو عبد الملك بن عبد العزيز بن جريج المكي، من كبارِ الأئمة الحفاظ، قيل: هو أول من صنف الكتب بمكة، حدث عنه الأوزاعي وسفيان الثوري، وابن عيينة توفي سنة (150 هـ).
"تاريخ بغداد" 10/ 400، و"فيات الأعيان" 3/ 163 - 164، و"سير أعلام النبلاء" 6/ 325 - 336.
(2) خبر ابن جريج بتقدير القلة بقربتين وشيء، ذكره الشافعي في "الأم"1/ 4، حيث قال: أخبرنا مسلمٌ عن ابن جريج بإسناد لا يحضرني ذكرُه، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إذا كان الماء قلتين لم يحمل نجساً"، وقال في الحديث: "بقلال هجر"، قال ابن جريج: ورأيت قِلال هجر, فالقلةُ تسعُ قِربتين، أو قربتين وشيئاً. قال الشافعي: كان مسلم يذهبُ إلى أن ذلك أقل من نصف قربة، أو نصف القربة، فيقول: خمسُ قِرَبِ هو أكثرُ ما يسع القُلتين. قال الشافعي: فالاحتياطُ أن تكون القفَةُ قربتين ونصفاً. اهـ.
وتقدر القلتان: بخمس مئة رطل بغدادي، وتساوي مئةَ واثنين وتسعين كيلوغراماً، وثمان مئة وسَبعة وخمسين غراماً.
وحديث: "إذا بلغ الماءُ قلتين لم ينجسه شيء" تقدم تخريجه في الصفحة 443.
(3) زيادة يقتضيها السياق.

(3/473)


ومنها: أنَّ دعواكم أنَّه لم يوجدْ في لغة العرب، فكيف يصحُ ذلك منكم؟
والشاعرُ يقول:
أذُوا التي نَقَصت تسعين من مئةٍ ... ثم ابعثوا حكماً بالحق قَوّالا (1)
وهذا في معنى الاستثناء؛ لأن تقديره: مئةٌ إلا تسعين، قالوا: ولأنّا لم نسمع منهم إلا الاستثناء في كل جنسٍ وكلِّ عددٍ، ثمَّ إننا حكمنا بالاستثناءِ فيما لم نَسمع استثناءَهم فيه، على ماسَمعنا.
ومنها: أن دعواكم أن كلامهم على الاختصارِ [فيها نظر] (2)؛ فإنه ينقسمُ تارةً إطالةً، وتارة تقصيراً، وتارةً اختصاراً، وتارةً تكريراً، وهذا يوجدُ في تكرارِ القصص في كتابِ الله تعالى، والتأكيدات في لغتهم، ونفسُ الاستثناءِ تطويلٌ وتكثيرٌ يمكن تركه إلى ذكرِ العدد الأدنى، دون ذكرِ الأعلى والأكثرِ، ثم الاستثناء منه.
__________
(1) هكذا في الأصل، ورواية البيت في المصادر"سبعين "، والبيت من قصيدةِ لأبي مُكْعِث منقذ ابن خُنيس أخي بني مالك، وكان من خبرها أن غلاماً من بني سعد قتل غلاماً من بني مالك، فخرجت بنو مالك وأخذوا السعدي، فقتلوه، فاحتربت بنو سعد بن ثعلبة وبنو مالك، فمشت الشعراء بينهم، فقال سعد بن ثعلبة: لا نرضى حتى نُعطى مئة في صاحبنا، ويُعطى بنو مالك سبعين -فغضب لهم بنو أسد بن مالك، فقال، أبومكعث:
إنَّ الذين قتلتم أمسِ سيدَهم ... لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما
من يولهم صالحاً نُمسك بجانبه ... ومن يضِمهُم فإيانا إذن ضاما
أدّوا الذي نقصت سبعين من مئة ... أو ابعثوا حكماً بالحق علاما
وقوله: أدو الذي ... أي: أدونا مئة كاملة."شرح شواهد المغني" 7/ 229 - 230، و"أمالي ابن الشجري" 1/ 322.
(2) زيادة يقتضيها السياق.

(3/474)


ومنها: أن ضمَّ (1) المجهول إلى المعلوم هو الحجة، فإنَّهم لو فسروهُ بالأكثر المقارب للعقد في النفي والإثبات، صح، بأن يقولَ: أردتُ بالشيء: خمسين قفيزاً (2).

فصل
في الأجوبةِ على الأسئلةِ
أمَّا الاستهجان والاستقباح، فلا شُبهةَ فيه؛ لما نقلنا عن العلماءِ بهذا الشأنِ.
وقولهم: ليس بمتكلمٍ بلغةِ العربِ من نطقَ بذلك، وما قولُ من قالَ: أعطيتُه مئة ألف إلا تسعة وتسعين ألفاً وتسع مئة وتسعة وتسعين درهماً، وما هو في الفعل إلا بمثابةِ من أرادَ المضيَّ إلى دارٍ في جوارِه طريقُها خطوات، فمضى خارجاً عنها دائراً في عَطَفاتٍ وزَنَقاتٍ (3)، فمدّ (4) المسافة فرسخاً، فاستهجانُ ذلك القولِ، كاستهجانِ هذا الفعل؛ لأنَّه تطويلٌ لا يُحتاجُ إليه، وهو العبثُ في الفعل، واللغو من القولِ، حتى إنَّ بعضَ العلماءِ يقولُ: إنه لا يحسنُ الاستثناءُ إلا بالكسر (5)، فأمَّا بالعَقْدِ، فلا.
وهذا يرجعُ إلى معنى، و [هو] (6): أنّ الاستثناءَ نوعُ استدراكٍ، يقولُ الرجلُ: ثَنيتُ عِنانَ فرسي، وثنيتُ فلاناً عن رأيه، وذلك لا يقع أبداً إلا فيما يُستدركُ مثلُه لقلةِ الاهتمام به، والمذكورُ هو المهتمُ بهِ، فيذكر المئة والعشرةَ، لأنَّها المالُ الأكثرُ، والعقدُ الأكبرُ، ثم يَنْثني إلى إخراج ما قلَّ واستدراكه، فيكونُ ذكرُه الأكثرَ هو المهمُّ المذكورُ.
فأمَّا أن يريدَ إثباتَ درهم، فيذكرَ مئة ألفٍ، وينفي منها ما يَبقى منه درهمٌ، فما
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "صح".
(2) يعني: في قوله المتقدم: له علي كُرٌّ وشيء. ويُريد بالشيء: خمسين قفيزاً، وهي تقارب العقد؛ لأن الكرَّ: ستون قفيزاً. وقد تحرفت الكلمة في الأصل إلى:" نفراً".
(3) جمع زنْقة، وهي: السكة الضيقة. "اللسان": (زنق).
(4) في الأصل: "قد"ولعل المثبت هو الصواب.
(5) المراد بالكسر هنا: الأعداد التي بين العقود.
(6) زيادة يقتضيها السياق.

(3/475)


هذا موضوعُ العرفِ والعادةِ.
وأمَّا تعويلُهم على الشعرِ وقولهم: نقصت تسعينَ من مئةِ، فإنه ليس باستئناء وإنما حكى وأخبرَ بالحالِ، وعادةُ من أرادَ حكايةَ النقصان أنه يذكرُ ما نقصَ؛ لأنَّه تقريرٌ لما فوقَ وتأكيد (1) له، أو شرحُ حسابِ ذكرَ أصلَه، ثم ذكر خَرْجَه (2).
على أنَّنا لا ننكرُ أن يُستعمَل مثل ذلك القليل النادر وإنما المعوَّلُ على الاستعمالِ الشائع، ولا سبيلَ إلى الظفرِ بذلك.
والذي يوضِّح أن التَنْقيصَ غيرُ الاستثناء: أنه يحسنُ أن يقولَ القائلُ: طلَّق الرجلُ من زوجاته ثلاثاً، وطلَّق امرأته من الثلاثِ طلقتين، ولا يحسنُ أن يقول: طلَّقَ زوجاتِه كلهنَّ إلا ثلاثاً، وطلقَ زوجته ثلاثاً إلاطلقتين. ولو سُئِل، فقيل له: كم طلقتَ من زوجاتِك الأربع؟ فقال: كلهنَّ إلا ثلاثاً. لاستُهجِنَ ذلك، ولو قال: طلقت منهم ثلاثاً. حَسُن ذلك، فيخبر عن الإيقاع بالأكثر ولا يستثنى الأكثر.
فأمَّا الإكثارُ والإطالةُ، فهي من جملةِ اللغةِ، لكنْ للإفادة، فالتثنّي في القصصِ لبيانِ الفصاحةِ وتعجيزِ العربِ بأنَّ القصة الواحدة، كقصة نوحِ وموسى، مذكور بهذه الألفاظ الكثيرة المتكررة، وقد تُحدُّوا بواحدةِ من القَصَصِ، فما قدروا على مثلها، مع كونِ الله سبحانه قد أتى بأمثالها، وهذا أكبر قصدِ في التعجيز.
ونفسُ الاستثناء مستعملٌ غيرُ مستهجنٍ، فأمَّا استثناءُ الأكثرِ فإنَّه غيرُ مستعمل على ما بيّنا، وما دخل في كلامِ المُحْدَثين -من غير استعمالِ كثُرَ من العربِ- واستمرَّ, فلا عبرة به.
__________
(1) في الأصل: "تكثير" ولا يستقيم بها المعنى.
(2) أي: ما خرج منه.

(3/476)


فصل
في جمع شُبههم
فمنها: أنَّ القرآنَ وردَ بذلك؛ وهو الأصلُ المعمولُ به، وعليه [المعوَّل] (1) في اللّغة والشرع، فقال سبحانه: {إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ} [الحجر: 42] وقال: {لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ} [الحجر: 39 - 40] فقد استثنى الغاوينَ من جملة العباد والمخلصين من جملتهم، وأّيّهما كان أكثر فقد استئناهُ.
على أنَّ النصوصَ تُعطي أنَّ الغاوين أكثر بدليل قوله تعالى: {وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ} [الأعراف: 17] صدقه اللهُ على ذلك بقوله: {وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ} [سبأ: 13]، {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ} [يوسف: 103] , {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت: 63]، {لَا يُؤْمِنُونَ} (2) ومنها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ ...} [المزمل: 1 - 4]،، فقد استثنى النصفَ، وليس بأقلَّ (3).
ومنها: أنَّه معنى يُخرَجُ به من العموم ما لولاه لدخلَ فيه، أو لفظ، يُخرجُ من الجملة ما لولاهُ لدخلَ فيها، فجازَ أن يُخرجَ الأكثر كالتخصيص.
ومنها: أنَّه استثناء بعضِ ما يتناولُه العمومُ، فصح كما لو استثنى الأقل.
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) يعني قوله تعالى: {بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ}، [البقرة: 100].
(3) "العدة" 2/ 670.

(3/477)


فصل
في الأجوبة عن شُبَههم
أما استثناؤه سبحانه الغاوين من العبادِ، فهو استثناء بعض الجملة التي لم ينصَّ فيها على عددٍ لا في المستثنى منه، ولا الاستثناءِ، وإنما تُعلَمُ الكثرةُ بالاستدلالِ، وذلك لا خلافَ فيه، إنّما الخلافُ في استثناء الأكثرِ من جملةٍ ذاتِ عددٍ (1) محصورٍ منطوقٍ به، ويُستثنى منها عَددٌ منصوص عليه، ويكون المستثنى أكثرَ من المستثنى منه.
ألا ترى أنَّه يحسُن أن يقول: خُذْ ما في هذا الكيس من الدراهم كلها إلا البيضَ، أو الزُّيوفَ. وتكونُ البيضُ أكثر ولا يحسُن أن يقولَ خذْ كل هذه الألف درهم التي في الكيس إلا تسع مئة وتسعة وتسعينَ فلا تأخذْها، فلمَّا صرَّحَ بالعددين. لم يحسنْ، ولمّا ذكرَ الاستثناءَ بالصفة من غير ذكرِ عددٍ حسُنَ.
على أنه يجوزُأن يكون [إلا] ها هنا، بمعنى لكن، وهو الاستثناء المنقطعُ، ويحتملُ أن يكونَ أنزلهم منزلةَ القليلِ لقلةِ منزلتِهم، وإن كانوا أكثرَ عدداً، كما قال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -: "الأقلون هم الأكثرون" (2). يريدُ: المنزلةَ، وهذا مستحسنٌ في لغةِ القومِ أن يقول القائلُ: جاءني بنو تميم إلا أوباشهم وسَفسافهم. وإن كانوا هم الأكثرين عدداً، لكن لما كانوا الأقلين منزلةً استثناهم، وهذا وقع في الخاطر.
وأمّا قولُه سبحانه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ} [المزمل: 2 - 3]، فعلى قول
__________
(1) في الأصل العدد.
(2) أخرجه من حديث طويل لأبي ذر أحمد 5/ 152، و 158 - 159، والبخاري (2388) و (6268) و (6443) و (6444) ومسلم في كتاب الزكاة، باب الترغيب في الصدقة حديث رقم (32)، وابن حبان (170) و (195). بلفظ: "إنَّ الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة"، وفي بعض الروايات: "المكثرون هم المقلون يومَ القيامة إلا من قال بالمال هكذا وهكذا عن يمينه وشماله".

(3/478)


الخرقي: يصحُ استثناءُ النصفِ (1). فنحن قائلون بالآية. وعلى دولِ غيرِه من أصحابنا: لا يصحُ (2)، فعلى هذا: يجوزُ أن يكونَ أرادَ به الابتداءَ، فيكون ظرفاً، معناه: قُم نصفَ الليل، أو قمْ بعدَ نصفِه قليلاً. فيكون ما صرَحَ به من القليلِ هو المُعوَّلُ (3) عليه، والنصفُ لابتداء القيامِ القليل.
يوضِّح هذا: أنَّ النصفَ بالإضافةِ إلى النصفِ، مثلُه لا قليل منهُ، فعلمَ أنهُ ليس بالاستثناءِ، لكن أرادَ بالقيام (4): قم نصفَه.
ولهذا لما أرادَ سبحانه المغايرةَ قال: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14)} [الواقعة: 13، 14]. فقيلَ في التفسير الثلّة (5) الأكثر (6)، وإنما ذكر الثلّة في الأولين والقليل في الآخرين، ثم عادَ فقال: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)}
[الواقعة: 39، 40] قالوا: انّما أرادَ في الأولِ بالثلةِ: الأخيارَ والأشرارَ، وقليلٌ من الآخرينَ المرادُ بهم: الأخيارُ، وقولُه في الآية الأخرى: {ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ} يعني: خيار الأوَّلين كلُّهم ثلة، وثلة من الآخرين، خيار الآخرين خاصة، فيكونُ خيارُ أُمةِ محمدٍ - صلى الله عليه وسلم - ثُلة وكثرةً، مثلُ كثرةِ خيار سائر الأمم، وخيارُ أمةِ محمد - صلى الله عليه وسلم - بالإضافة إلى خيارِ سائرِ الأمم وشرارِهم لا ثلة. فلما صرح في هذه الآيةِ بقولِه: {قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2)} كان المعول (3) على استثناء الأقلِّ، فلما قال: {إلا قليلاً}، والقليلُ على ما بَينّا صريح في الأقل من النَصف إذا كان النصفُ مثلاً للنصفِ، لم يبقَ [إلا] (7) أن يكون قوله: {نِصْفَهُ} ذكراً لابتداءِ قيامِه، أو يكونَ قولُه: {نِصْفَهُ} كلاماً مبتدأ، لا استثناء، كأنه
__________
(1) "مختصر الخرقي ": 61 - 62.
(2) "العدة" 2/ 670.
(3) في الأصل: "المعمول".
(4) في الأصل: "به القيام".
(5) تحرفت في الأصل إلى: "الثلثة".
(6) "تفسير ابن كثير"4/ 284.
(7) زيادة يقتضيها السياق.

(3/479)


قال: بل نصفُه، إذ ليس الليلُ جملةً، ونصفُه أقلُها، لا قليلاً منها، فلا يتحققُ القليلُ على النصف إلا على أحد الوجهين اللذين (1) ذكرناهما.
وأمَّا قياسُهم على التخصيصِ، فلا وجهَ له مع قولهم: إنَّ اللغة لا تثبتُ بالقياسِ.
على أنَّ التخصيصَ غيرُ الاستثناء؛ لأنه يجوزُ بدليلٍ منفصلٍ، والاستثناءُ لا يكون إلا متصلاً، وما جازَ بذلك منفصلاً، جازَ أن يرفعَ الجملةَ، كالنسخِ لما رفع ما رفعهُ بدليلٍ منفصلٍ؛ رفعَ الجملةَ (2).
والتخصيصُ يجوزُ بأدلةٍ ليست ألفاظاً، كدلائلِ العقولِ، ولا يقفُ على ألفاظٍ مخصوصةٍ تصلحُ للإخراج، لكن يُستدلُّ بها على الإخراجِ لبعضِ ما دخلَ تحتَ العمومِ.

فصل
لايصحُّ الاستثناءُ من غير الجنس (3)
وقال أصحابُ أبي حنيفة ومالك بجواز ذلك (4) وهو مذهبُ أيي بكر الباقِلّاني، وجماعةٍ من المتكلمين.
واختلف أصحابُ الشافعي على وجهين:
__________
(1) في الأصل: "التي"، والمثبت هو الصواب.
(2) "العدة"2/ 671.
(3) هذا الفصل في "العدة" 2/ 673، و"التمهيد" 2/ 85، و"المسودة": 156، و"شرح الكوكب
المنير" 3/ 286 - 287، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 591 - 592.
(4) قول المالكية والحنفية في "شرح تنقيح الفصول": 241، و"ميزان الأصول" 1/ 457 - 458.

(3/480)


أحدُ هما: الجواز
والثاني: المنعُ (1)

فصل
في أدلتنا
فمنها: أنَّ الاستثناءَ مأخوذٌ وموضوعٌ.
فأخذُه من: ثَنَيتُ عِنانَ فَرسي، وثنيتُ فلاناً عن رأيه.
وموضوعُه: أنه لإخراج ما لولاهُ لكانَ داخلاً في الجملةِ المستثنى منها، ولا يتحقَّق الأمران جميعاً في استثناءِ غير جنس المستثنى منهُ، فإن قال قائل: رأيتُ الناسَ كلهم. كان في الإخبار عن رؤية الناس، فإذا قال: إلا حماراً. لم يثنِ كلامه عن سَنَنهِ؛ لأنه لو أطلق، لم يدخل الحمار ولمّا أتى بحرفِ الاستثناءِ لم تتغير الجملةُ الأولى، إذ لم يدخل الحمار فيها، فيخرج بحرف الاستثناء، ولا إخراج، فلا يتحقَق الاستثناء (2).
وقد قيل: إنَه مأخوذٌ من: يَثني الخَبر بعدَ الخبر فإذا قال: رأيت الناسَ. فهذا خبرٌ, فإذا قال: إلا أباك، فهذا خبرٌ آخرُ. فالأولُ يعطي الكافَّةَ، والثاني يعطي إخراج ما كان داخلاً بظاهرِ الخبرِ الأول، وقولُه: إلا حماراً. جملةٌ لا تنعطف على الخبر الأول،
__________
(1) الراجحُ عند الشافعية جواز التخصيص من غير الجنس، غيرَ أن المجوِّزين اختلفوا هل هو استثناءٌ على سبيل الحقيقة أو المجاز؟.
فالأكثرون من الشافعية ذهبوا أنه استثناءٌ على سبيل المجاز منهم القاضي أبوالطيب، وأبو إسحاق الشيرازي، والجويني، والغزالي.
وذهب البعض إلى أنَّه يسمَّى استثناءً حقيقةً."البرهان" 1/ 384 و397 و398، و"التبصرة": 165، و"المستصفى" 2/ 167 و 169، و"البحر المحيط" 3/ 281 - 282.
(2) "العدة" 2/ 673.

(3/481)


لحُسن الابتداء بها، فلا يكون استثناءً حقيقةً، لكن يجوزُ تجوزاً وتوسعاً (1) كأنه يقولُ: رأيتُ الناسَ كلهم، وما رأيت حماراً.
ويتضحُ في أبعاض الحيوان، فإذا قال: رأيتُ زيداً إلا يديه. حَسُن ذلك؛ لأنَّ زيداً اسمُ علم على جملةِ تشتملُ على يديه وبقيةِ أعضائِه، فلو أطلقَ لعمتِ الرؤيةُ جميع أعضائِه، فهذا استثناءٌ صحيحٌ حقيقةً، فإذا قال: رأيت زيداً إلا خاتَمه، لم يكنْ ذلك حقيقةً استئناءً؛ لأنَّ إطلاقَ رؤيته لا تقتضي رؤيةَ خاتمه، إذ ليسَ الخاتمُ داخلاً في جملة ما وقع عليه اسمُ زيدٍ.
ومنها: أنَّ ألفاظَ الاستثناءِ: إلا، وغير، وسوى، وأخوات ذلك، لا يصحُ الابتداءُ بها، ولا يُفهم من الابتداءِ بها معنى، فلا بُد أن تقعَ منعطفةً على جملةٍ تتقدمُها، مثل قولِ القائل: دخل الناسُ دارَ الأميرِ إلا التجارَ، فخرج بهذا الحرف من لولاهُ لدخل في الجملةِ المخبَرِ عنهم بالدخولِ، فإذا قال: دخلَ الناسُ كلُّهم دارَ الأميرِ إلا الكلابَ. أو: إلا الحمير. لم يكن لهذا تعلق بالجملة الأولى، وإذا لم يتعلق بالجملة صار كالمبتدىء بقوله: إلا الحمير. ولو ابتدأ بذلك مُبتدىءٌ لما كان متكلماً بمفيد، فلا يكونُ استثناءَ لانتفاءِ الحقيقة عنه (2).
ومنها: أنَّ إلاستثناء: أخذُ ما يُخصّ به اللفظُ العامُ، فلا يصحُ فيما لم يدخل في العمومِ، كالتخصيص بغيرِ حروفِ الاستثناءِ، فإنَّه لو قال: اقتلوا المشركين، ثم جاء النهيُ عن قتل الضفادع، وقطعِ السِّدْرِ لم يُعَد ذلك تخصيصاً، كذلكَ إذا قال: قتلتُ المشركين. أو: دخل المشركون إلا الضفادع.
ومنها: أَنَّ وضعَ العرب للكلامِ وضع إحكام وإتقان، تميزوا به عن سائر الأُمم،
__________
(1) قوله: يجوز تجوُّيزاً وتوسُّعاً، يدلُّ على أنه يجوزُ الاستثناءُ من غير الجنس، ولكن على سبيل المجازِ لا الحقيقة، وهذا ما قاله الأكثرون من الشافعية.
(2) "العدة"2/ 674، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 86.

(3/482)


كما تميزت كلُّ أمةٍ من الأممِ بصناعةٍ، فالرومُ بالنِّساجة، والفرسُ بالأبنية وعمارة الأَرض، والهندُ بالتطبيب والتركُ بالهراش (1)، والزنوجُ بالكَدِّ وأعمالِ الأبدانِ، وحملِ الأثقال، فلا ينبغي أن يُدخلَ على وضعِهم، ولا يُنسبَ إليهم فيما خُصّوا به [من] (2) الكلام ما يُستهجنُ ويُستقبح، ولا أهجنَ وأقبحَ من قولِ القائل: دخلَ الناسُ إلا الحميرَ، وخرج الناسُ إلا الكلابَ، فلا وجهَ لإضافتِه إلى لغةِ القوم، لا سيّما وَضعاً وحقيقةً، لاتوسعاً ولا تجوّزاً.
يوضِّح هذا: أن ما أفادَه السكوتُ لا ينبغي أن يصرَّحَ به، فإنَّه لو قالَ: جاءني الناسُ، وجاءني بنو تميم، لعُلمَ بذلكَ تَوحدُهم عن بني تميمٍ من العرب، فضلاً عن الحمير، فإذا قال: إلا الحمير فما تلفَّظ إلا بما كان (3) يحملُه السكوتُ.

فصل
في شبههم
فمنها: أن قالوا: إنَّ الاستثناءَ من غيرِ جنسِ المستثنى منه لغةُ العرب، يشهدُ لذلك القرآن، وأشعارُ العرب، وما سُمِعَ في منثورِ كلامِها، قالَ اللَّهُ تعالى: {ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ} [الأعراف: 11] وقد نطقَ القراَنُ بأنَّهُ مِنْ جنس آخرَ ليس مِنْ جنسِ الملائكةِ، فقال في آية اَخرى: {إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} [الكهف: 50] وقال: {خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ} [الأعراف: 12]، والملائكة ليستْ من نارٍ، بل هي حرّةُ الأصلِ، مخلوقةٌ من الأنوارِ (4) أو
__________
(1) الهِراش: هو المقاتلةُ والمواثَبة. انظر "اللسان": (هرش).
(2) زيادة يقتضيها السياق.
(3) العبارة في الأصل: "ما تلفظ لا يعمل إلاّ ما كان"، ولعل المثبت هو الصواب.
(4) الثابت في الحديث أن الملائكة خلقت من نور، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "خُلقت الملائكة من نور وخُلق الجان من مارج من ناؤ وخُلق آدم مما وُصِفَ لكم". أخرجه مسلم (2996)، وأحمد 6/ 153، والبيهقي 9/ 3.

(3/483)


الهواءِ، على ما اختلف الأصوليون فيهِ، ولإبليسَ ذريةٌ كما أخبرَ سبحانه (1)، ولا ذريَّة للملائكة، ولا تتوالدُ، فقد استثنى الشيطانَ من الملائكةِ.
وقال تعالى: {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ} [الشعراء: 75 - 77]، فاستثنى الباري من جملةٍ، والباري مُنزهٌ عن الدخولِ في الأجناسِ.
وقولُه تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] فاستثنى الظَّنَّ من العلمِ، وليس من جنسِه.
وقال: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 25 - 26] فاستثنى السلام من اللغوِ وليس من جنسِه.
وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ} [النساء: 29]، والتجارة ليست من جنس الباطلِ، وقد استثناها من جملةِ الباطِل المنهي (2) عنه.
وقال تعالى: {فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} [يس: 43 - 44] {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43] ومن رحمَ ليس بعاصمٍ، وإنما هو معصومٌ، وليس بمعصومٍ من جنسِ العاصِم.
وقال الشاعر
وبَلدةٍ ليسَ بها أنيسُ ... إلا اليعافيرُ وإلا العيسُ (3)
__________
(1) كما في قوله تعالى في الآية 50 من سورة الكهف: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ} [الكهف: 50].
(2) في الأصل: "للنهي" والمثبت هو الصواب.
(3) البيت لعامر بن الحارث بن كلدة، المعروف بجران العود، وهو في "ديوانه": 50، وفي "الكتاب" لسيبويه 2/ 322، و"هَمع الهوامع" للسيوطي: 1/ 225، و"المقتضب"2/ 347،=

(3/484)


فاستثنى اليعافيرَ والعيسَ، وليست من جملةِ الإنسِ الذين تأنس بهم البلادُ.
وقال الآخر:
فلاعَيْبَ فيهم غيرَ أن سُيوفَهم ... بهنَ فُلول من قِراعِ الكتائبِ (1)
وليس الفلولُ بقراعِ الكتائبِ عيباً، بل فخراً لأربابِ السيوفِ، وقد استثناه من
العيوبِ، والعربُ تقول: وما زاد إلا ما نقص، وما بالدارِ أحد إلا الحمار, وما جاءني زيدٌ إلا عَمراً.

فصل
في الأجوبة عن هذه الجملة
أمَّا استثناءُ إبليسَ من الملائكةِ؛ فإنهُ من الملائكةِ جنساً لا يمتازُ عنهم، روي ذلك عن ابن عباس، وأنه كان من الملائكةِ من خُزَّانِ الجَنَّةِ، وكان رئيسَهم (2)، وإنما سُمّي بذلك؛ لأنَّهُ مضافٌ إلى الجِنَة (3)، كما يقال: رجل مَكيّ. مُضاف إلى مكةَ، وجِنّي مضافٌ إلى الجِنَّةِ.
قال أبو إسحاق: سمعت الشيخ أبابكر وقد سُئِل عن إبليسَ أمِنَ الملائكة؟
__________
= و"المفصل" لابن يعيش 2/ 80.
واليعافير جمع يعفور وهو ولد الظبية، وولد البقرة الوحشية أيضاً. والعيس: إبل بيض يخالط بياضها شقرة، جمع: أعيس، والأنثى: عَيساء.
(1) البيتُ للنابغة الذبياني، انظره في "ديوانه": 16، و"الكتاب" 2/ 326، و"المغني" لابن هشام: 155، و"خزانة الأدب" للبغدادي 2/ 9.
والفلول: جمع فَل، وهو: الكسر في حد السيف.
(2) ذكر هذا القول عن ابن عباس "الطبري" في "التفسير" 1/ 503 تحقيق أحمد شاكر وابن كثير في التفسير 1/ 110 و" السيوطي" في "الدرالمنثور": 1/ 111.
(3) أو إلى " الاجتنان والاختفاء"، كما ذكر الاَمدي في "الإحكام"2/ 295.

(3/485)


قأل: من الملائكةِ (1).
والذي يوضّح هذا وأنَّه من الملائكة: قوله تعالى: {مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 12]، وإنما أمرَ الملائكةَ، فلو لم يكن منهم لما دخلَ تحتَ الأمر ولا لحِقَهُ اللَّومُ أو العقوبةُ بامتناعِه، كما لو نادى السلطانُ بإحضارِ الفقهاءِ، فلم يحضرْ شاعرٌ ولا نحوي، فإنه لا يلحقُه على عدم حضوره لَومٌ (2) من جهةِ السلطان. وأمَّا قولهم: إنَّه كانَ مخالف الملائكةِ في كونه من نار وكونه مولوداً لهُ بقوله تعالى: {أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ} [الكهف: 55]، فيجوز أن يكونَ لمّاَ أبلسَه (3) اللهُ غيَّر خَلْقه، كما غيَّر خَلق آدم، بأن يُجعل بحيثُ يبولُ ويَتغوَّطُ بعد أن لم يكنْ، وأولدَ في الأرضِ، ولم يولدْ في الجنةِ، والنارُ والنورُ متقاربانِ.
على أنَّ قوله: {كَانَ مِنَ الْجِنِّ} [الكهف: 50] يجوز أن يكونَ أرادَ به فعله فعلَ الجِنّ، كقولنا: فلانٌ من الملائكةِ، إذا كانَ فعلُه الخيرَ والعفةَ، قال الله تعالى في نسوةِ امرأة العزير {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ} [يوسف: 31]، وإنَّما أردنَ بذلك: أنَّه لما اعتصمَ -مع هذه الشبيبةِ والحُسْنِ- عن زَليخا، مع الحُسنِ والخلوةِ والمراودةِ، كان ذلك من فعلِ الملائكةِ وأخلاقِها، دون أخلاقِ. البشرِ وطباعِهم، كذلك لما ظهرَ مِن إبليسَ وعصيانِه ما ظهرَ [أُضيفَ] (4) إلى الجنِّ.
وقد تتغيرُ أحوالُ الملائكةِ بتغيرِ الأفعال، كما غيرَّاللهُ خلقَ هاروت وماروتَ إلى ما ورد به النقلُ وعلَّموا الناسَ السحر (5).
__________
(1) "العدة"2/ 676.
(2) في الأصل "لأنه" والمثبت هو الصواب.
(3) أي: أبعده من مغفرته، وأيأسه من رحمته. "الصحاح": (بلس).
(4) زيادة يقتضيها السياق.
(5) يشيرُ بذلك إلى قوله تعالى: {يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ مَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ} [البقرة: 102]

(3/486)


ويجوزُ أن يكونَ استثناهُ من جملةِ المأمورين، وقد يُجمعُ الأمرُ كما يُجمع الجنسُ، فلما اجتمع هو والملائكةُ في الأمرِ بالسجودِ وإن كانَ من غير الجنس حسُنَ استثناؤهُ من المشاركين له.
وأمَّا قوله: {فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي} [الشعراء: 77] لمَّا قال {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76)} [الشعراء: 75 - 76] وممَن عبدوا اللهَ سبحانه؛ لأنَهم كانوا مشركينَ بالله، لا جاحدين، فاستثنى الباري من جملة معبوداتهم (1)، فلا يُنظر إلى أنَّ الباري ليس من جنسها، لكن لما ذكر المعبودين استثناه من جملةٍ جَمَعتها عبادةُ القوم، كما قال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 98]، دخلَ في العموم الملائكةُ وعيسى وعُزَيرُ, فأخرجهم التخصيصُ بقوله: {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ} [الأنبياء: 101]، فهذا هو الجواب الصحيحُ عندي.
وقد أجاب قوم: بأن (إلا) ها هنا ليس بحقيقةِ استثناء، لكنه بمعنى لكن، تقول العرب: ما لي نخلٌ إلا شجرٌ, ولا إبلٌ إلا بقرٌ، ولابنتٌ إلا ذكرٌ. يريدون: لكن كذا (2).
وأمّا قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] فهو بمعنى: لكن اتباعَ الظنِّ، مثلُ قوله: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً} [النساء: 92] والخطأ لا يقال: إنَّه له (3)؛ لأنه لا يوصَفُ بحظرٍ ولا إباحةٍ، لكن إن قَتلَه خطأً؛ فتحريرُ رقبةٍ.
على أنَّ الظنِّ: إدراكُ المظنونِ على طريقِ تغليبِ أحدِ مِحْوَرَيْه (4)، ويقعُ عليه اسمُ
__________
(1) في الأصل:"معبودهم"، والمثبت أنسب للسياق.
(2) "الإحكام" للآمدي 2/ 296، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 87 - 88.
(3) يعني لا يقال: إن للمؤمن أن يقتل خطأ. "التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 87 - 88.
(4) "العدة"1/ 83.

(3/487)


العلمِ في غالبِ الاستعمالِ، قالَ اللهُ تعالى: {فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ} [الممتحنة: 10]، ولا طريقَ لنا إلى علمِ ذلك، وإنما المرادُ به: فإن ظننتموهنَّ مؤمناتٍ.
وسَمَّى العلمَ ظنّاً (1)، فقال: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ} [البقرة: 46] والمرادُ به: يعلمون (2). فلما كثُرَ استعمالُ أحدهما في الآخر حسُنَ الاستئناءُ، وذلك كثيرٌ لا يُعَدّ (3).
وأما قولُه: {لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)} [الواقعة: 25 - 26]، وقوله: {إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً} [النساء: 29]، كلّ ذلك استثناءٌ منقطع. بمعنى: لكن يسمعونَ التسليمَ، لكن كُلوها بتجارةٍ، لكن رحمةً منا (4)، لكن من رَحِم (5). وهذا قولُ سيبويه (6).
وقال ابنُ قُتيبة في كتاب "الجامع في النحو": ومما تكون فيه (إلا) بمعنى (لكن) قولُه: {لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]، يعني: لكنْ من رحمَ.
وكذلك قولُه: {فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ} [يونس: 98]، لكن قومُ يونس، وهذا قولُ سيبويه (7).
وأما قول الشاعرِ, فإنه استثنى اليعافرة والعيسَ، من جملةِ الأنيسِ لا الإنسِ، وقد
__________
(1) في الأصل: "ظنياً".
(2) "تفسير ابن كثير"1/ 88.
(3) في الأصل: "يتعدد".
(4) يعني في قوله تعالى: {وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا} [يس: 43 - 44]
(5) في الأصل: "عصم"، والمثبت هو الصواب، كما في قوله تعالى: {قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ} [هود: 43]
(6) "الكتاب" 2/ 325.
(7) المصدر السابق، و"العدة" 2/ 676 - 677.

(3/488)


يحَصلُ الأُنْسُ بالوحوش، بل بالآثارِ والأبنية فَضلاً عن الحيوانِ، فهي وإن فارَقتْ في نوع الحيوانية، فقد اجتمعت مع الإنسانِ في جنس الحيوانية، ولهذا يحصلُ أُنسُ الإنسانِ بالأشجار لأجل المناسبة في النَّماء، فهو استثناء من الجنسِ، وهو الانسُ.
وأما الفُلولُ فهي عيب في السيوفِ، وإن كانت فضلاً ومدحةً لأربابِ السيوفِ، من حيثُ سببُ الفُلولِ.
ومنها: أن قالوا: [إنه] (1) استثناءُ لا يرفعُ الجملةَ، فصح، كما لو كان من الجنسِ، ما لو استثنى وَرِقاً من عينٍ، وعَيناً من وَرِقٍ.
فيقالُ: لا يجوزُ أن يُعتبر غيرُ الجنس بالجنسِ، لأنَّ الجنسَ يدخلُ في الجملةِ فلذلك حسُنَ إخراجُه بحرفِ الاستثناء منها، وجازَ بيانُ أنه غيرُ مرادٍ بها، ولهذا جاز تخصيص [الجنس] (1)، ولم يجزْ تخصيصُ غير الجنسِ (2).
وأما استثناء العَين من الورِق، والوَرق من العين؛ ففيه وجهانِ عن أصحابنا:
أبو بكر يمنعُه (3).
والخِرقي يُجيزُه (4).
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) في الجملة غموضٌ وخفاءٌ ولعل مِمّا يُظهر مرادَ ابن عقيل في دفع هذه الشبهة، ما أجاب به القاضي أبويعلى في رده للشبهة ذاتِها، حيث قال:" إنه لا يجوزُ اعتبارُ الجنسِ بغيرِه، كما لم يجز اعتبارُ التخصيص بغيره، ولأنَّ الاستثناء من الجنسِ يوجدُ فيه معنى الاستثنا" وها هنا لا يوجدُ معناه؛ لأن معناه: إخراجُ ما لولاه لدخلَ تحت اللفظ": "العدة" 2/ 677.
(3) يعني: غلامَ الخلال، وقد نقل ابن قُدامة عنه القولَ بعدم صحةِ استثناء الورِق من العينِ، ولا العينِ من الورِق في "المغني" 7/ 269.
(4) انظر رأي الخرقي في "مختصره": 99، في كتاب الإقرار حيث قال: "ومَن أقر بشيءِ واستثنى من غير جنسه، كان استثناؤه باطلاً، إلا أن يستثني عيناً من وَرِق، أو ورِقاً من عين".

(3/489)


فإن منعناه؛ فلا كلامَ وإن سلمناهُ؛ فكأن المعنى فيه: أنَّهما أُجريا مجرى الجنس، ولذلك ضُمَّ أحدُهما إلى الآخر في الزكواتِ، واعتُبر بيعُ أحدهما بالآخر أن يقعَ التقابضُ في المجلس، وهما قِيمُ الأشياءِ وأثمانُ البِياعات.
والصحيح: المنعُ (1)؛ لأنَّ شاهدَ تغايرهِما: جوازُ التفاضل بينهما في البيع مع كونهِما موزونين، واختلافِ ألوانهِما وطبعِهما؛ لأنَّ المعوَّل في المسألةِ على أنهُ لا يدخلُ، ومع كونِهما كالجنسِ، لم يدخلْ أحدُهما في عموم الآخر فالتسليمُ ينقضُ جميعَ ما ذكرناه.

فصل
في الاستثناء إذا تعقَب جُملاً وصلح أن يعود إلى كل واحدٍ منها لو انفردت، فإنَّه يعود إلى جميعها (2).
وذلك مثلُ قولِه تعالى: {وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا} [النور: 4 - 5] فإنَّه يعودُ إلى جميعها، فكأنَه يقولُ بمقتضى الظاهر فلا تجلدوهم، واقبلوا شهادتهم، ولا تُفسِّقوهم إلا أنَّ الحدَّ استُوفيَ بدليلٍ انفردَ به.
وقوله: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ
__________
(1) وفَقَ ابن قُدامة بين الروايتين: بأن تُحمَلَ روايةُ الخرقي التي تقول بجواز الاستثناء وصحتِه؛ على ما إذا كان أحدُهما -أي: المستثنى أو المستثنى منه- يعبر به عن الآخر، أو يعلمُ قدرُه منه، وروايةُ البطلان المنقولةُ عن أبي بكر على ما إذا انتفى علمُ قدر أحدهِما من الآخر أو كان لا يُعبَّر به عنه. انظر "المغني" 7/ 270.
(2) انظر هذا الفصل في"العدة" 2/ 678، و"المسوّدة": 156، و" التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 91، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 612، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 312.

(3/490)


فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ} [الفرقان: 68 - 69] يرجع إلى سائر الجمل، فترفعُ حُكمَها التوبةُ.
قال أحمدُ في قولِ النبي - صلى الله عليه وسلم -:" لا يُؤمُ الرجلُ في أهلِه، ولا يُجلَسُ على تكرِمَتِه" (1)، قال: أرجو أن يكونَ الاستثناءُ على كله (2). يعني: إلا أن يأذنَ في الإمامةِ والجلوس.
وبهذا قال أصحابُ الشافعي (3).
وقال أصحابُ أبي حنيفة (4)، وجماعة من المعتزلة (5): يعود إلى أقرب الجُمل المذكورة.
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "مكرمته"، والمثبت من مصادر التخريج، والتكرمة: هي الموضع الخاص لجلوس الرجل من فراش وغيره، مما يُعدُّ لإكرامه. "النهاية في غريب الحديث": (كرم).
والحديث أخرجه أحمد 5/ 272، ومسلم (673)، وأبوداود (582) و (583)، والترمذي (235) و (2773)، والنسائي 2/ 77، وابن ماجه (980) والطيالسىِ (618)، وابن خزيمة (1507) و (1516)، وابن حبان (2127)، و (2133) و (2144)، من حديث أبي مسعود الأنصاري رضي الله عنه.
(2) "العدة" 2/ 679.
(3) "المستصفى" 2/ 174، و"التبصرة": 172، و"المحصول" 3/ 43، و"جمع الجوامع"2/ 17، و"البحر المحيط" 3/ 307.
(4) "أُصول السرخسي"2/ 44 - 45 و"ميزان الأصول"1/ 460، و"تيسير التحرير" 1/ 302.
(5) "المعتمد" لأبي الحسين البصري 1/ 264.

(3/491)


وقال أصحاب الأشعري: هو على الوقف على ما يدل عليه الدليل (1).
وإنما يقف الأشعري في أكثرِ المسائل؛ لأنه لا يجدُ ترجيحاً ولا ظاهراً، وأقدمَ غيرُه؛ لِما قام عنده من أمارَةِ الترجيحِ.

فصل
في جمع أدلتنا
فمنها: أنَّ الاستثناءَ معنى يقتضى التخصيصَ، لا يستقلّ بنفسِه، فإذا تعقَّب جملاً رجَع إلى جميعها، كالشرطِ.
وقد أجمعنا على أنَّه لو قال: امرأتي طالقٌ، عبدي حرٌّ، ومالي صدقة إنْ شاءَ الله، أو: إنْ دخلتُ الدارَ،. فإنَّ كلِّ واحدٍ من ذلك يكونُ موقوفاً على المشيئة، ودخولِ الدار.
يوضحُ صحةَ إلحاق الاستثناء بالشرط: أنَّ الاستثناءَ يعمل عملَه، فيوقفُ تَنَجُّز الجملِ ووقوعها، فإنّه إذا تابَ؛ خرج عن حكم رَدِّ الشهادة والفسقِ، وإذا دخل الدار؛ خرج عن الرَّقِّ إلى العتقِ، والنكاحِ إلى الطلاق. وتقديرُ قوله: {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا}: إلا أن يتوبوا، فهما سواء؛ لأنَّ هذا لوقوع (2) المشروط، وهذا لإخراج (3) المستثنى، وجميعهما يقتضيان التخصيص.
أو نقول: ما عاد إلى جملةٍ من الجملِ لو انفردتْ، عادَ إلى جميعها إذا تقدَّمت، كالشرط؛ فإنه لوقال: زوجتي طالق إنْ شاءَ اللهُ، أو عبدي حرٌّ إن شاءَ اللهُ. عادَ الاستثناءُ إلى كلِّ جملةٍ منفردةٍ، وعادَ إلى جميعها إذا تقدَّمت، كذلك الاستثناءُ لما عاد
__________
(1) وهذا ما رجحه القاضي الباقلاني، ووافقه عليه الإمام الغزالي، "المستصفى" 2/ 174، و"الإبهاج"2/ 95.
(2) في الأصل:"الوقوع".
(3) في الأصل: "الإخراج".

(3/492)


إليها إذا انفردتْ، يجب أن يعودَ إلى جميعها إذا اجتمعتْ وتقدمتْ.
قالوا: إن أهلَ الوقفِ لا يردونَ المشيئةَ إلى الجميع بمقتضى اللغةِ، بل مقتضاها رجوعُ المشيئةِ إلى الجملةِ التي تلي المشيئة، وإنَّما حكمنا برجوعِها إلى الجميعِ بمقتضى الشرعِ والحكمِ، لا بمقتضى اللغةِ.
قالوا: ولأنَّ الشرطَ يؤثِّر في جميعِ الجملةِ ورفعِ جميعها، فجاز أن يَرفَع. جميعَ الجملِ التي، تقدمته، والاستثناءُ يؤثِّر في بعضها، فلَيسَ أحدُهما كالآخر فيقال: الشرعُ إنَّما حكمَ في الألفاظِ بمقتضى اللغةِ، وما جاءَ الشرعُ بما يخالف اللغةَ، فلو لم يجب عَودُ الاستثناءِ إلى الجمل كلّها لغةً، لما أعادَ المشيئة إلى الكل، وكما لا يجوز أن تُحمل الألفاظُ إلأ على مقتضى لغةِ العرب وتُبنى الأحكام عليها، لا يجوزُ أن يَرِد الشرعُ بحكمِ يخالفُ مقتضى اللفظِ في اللغةِ، وكونُ الشرط يرجع إلى جميع الجملةِ، والاستثناء إلى بعضها، لا يمنعُ التسوية بينهما في رجوعِه إلى جميع الجملِ، كماْ لم يوجب الفرقُ بينهما في عوده إلى الجملةِ الواحدة إذا انفردتْ، كونُة مما يرتفع جميعُها بعدمِه؛ لأنّ وجودَها لأ يصحُ إلا بوجودِه، فالشرطُ لإيجادها ولكلّ جزءِ منها، والاستثناءُ للإخراج لا للإزالةِ، فافتراقهما في رقع الكلّ بعدمِ الشرط، ووجودها بوجودِه لا يمنعُ تساويهما في انعطافِ كل واحدِ منهما على، ما تقدمه، وإذا كان الاستثناءُ للإخراج، فالجميع لا يخرجُ عن نفسه (1).
ومنها: أنَّ الجمل المعطوف بعضها على بعضٍ، بمثابةِ الجمله الواحدة.
الدليل على ذلك: أنَّه إذا قاْل: رأيت - رجلاً ورجلاً، بمثابةِ قوله: رأيت رجلين.
لا سيّما على مذهب من يقول: إنَّ قوله لغير المدخولّ بها: أنتِ طالقٌ وطالقٌ وطالقٌ.
يقع، بها الثلاثَ، كما لو قال: أنتِ طالقُ ثلاثاً. وهو مذهبُنا، وهذا يدفع سؤال
__________
(1) "العدة" 2/ 680.

(3/493)


[من] (1) يفرق بين قياسِنا للجملِ على الجملةِ الواحدةِ، فيقول: إنَّ الجملة الواحدة ليس هناك ما هو أولى منها، وليس بينها (2) وبينَ الاستثناءِ حائل، والجملُ تصيرُ الأخيرة التي تلي الاستثناءَ حائلاً، يمنع رجوع الاستثناءِ إليها، لما بيّنا، أنَّ الجمل المعطوفة بمثابةِ الجملةِ الواحدة.
ويدفع أيضاً عنّا قولهَم: إن الجملةَ الواحدة تخالفُ الجملَ، فإنه لو قال: أنتِ طالق ثلاثاً إلا واحدة. صحَ الاستثناء، ولو قال: أنتِ طالق وطالق وطالق إلا واحدة.
وقع الثلاث، ولم يُخرجْ الاستثناء شيئاً، وكان الفرقُ بينهما: أنَّ الاستثناء يعودُ إلى الطلقة الأخيرة، فيصيرُ رافعاً للطلقةِ من طلقةٍ، والاستثناءُ متى كان رافعاً للكلّ بطُلَ ولم يُخرجْ شيئاً.
ونحن نقولُ: لا يرجعُ إلى الجميع وهي الثلاث؛ لأنَّ الواوَ العاطفةَ تجري مجرى قوله: أنت طالق ثلاثاً (3).
ومنها: أن الاستثناءَ يصلحُ أن يعودَ إلى كل واحدةٍ (4) منهما، وليسَ إحداهما بأولى من الأخرى، فوجبَ أن يعود إلى الجميع، كالعموم؛ شمل آحادَ الجملةِ إذ لم يتخصصْ أحدُهما بمعنىً يوجبُ وقوفه عليه وتناوله له خاصَّةً، فيعم آحادَ الجنس كلَّها، كذلكَ ها هنا.
فمن قيل: فرقٌ بين الذكرِ لجملة واحدةٍ تشتمل على آحاد، وبين أفرادِ آحادِ الجملة في باب الاستثناء، بدليل أنَّه لو قال: أنتِ طالق وطالق وطالق إلا طلقةً. فإنَّه لا يرفعُ الاستثناء شيئاً، لكونه يعود إلى الجملةِ الأخيرةِ، فيصيرُ استثناءً للطلقةِ نفسِها،
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) في الأصل: "ولا ما بينه"، والمثبت من"العدة" 2/ 681.
(3) "العدة"2/ 681، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 94 - 95.
(4) في الأصل: "واحد".

(3/494)


ولو قال: أنتِ طالق ثلاثاً إلا طلقةً. صحَّ الاستثناء، وارتفعتْ به طلقةٌ.
قيل: لا نُسلِّم، بل الجميعُ سواءٌ، كما تقولُ أنتَ في عودِ الشرط إلى الجميع، المفردِ وغيرِه، ففيما ذكرنا دلالةٌ على أهلِ الوقفِ لأنَّنا لما دلَّلنا على عودِ الاستثناءِ إلى الجميع، امتنع صحةُ القولِ بالوقفِ؛ لأنَّ الوقفَ إنما يوجبُه عدمُ الترجيحِ، فإذا ترجَّح أحدُ المتردِّدين، بطلَ الوقفُ.

فصل في شُبَههم
أما شُبهة أهلِ الوقف (1)، قالوا: إنَا لا نَعرفُ بالنقلِ الذي يُثبتُ العلمَ ويقطعُ العذرَ عن أهلِ اللغة، أن الاستثناءَ يعودُ إلى جميع الجمل المتقدمةِ، ولا أنَّه يعودُ إلى الجملةِ التي [تسبق] (2) الاستثناء، وغاية ما جاء عنهم إعادته إلى الجملةِ التي يليها (3) تارةً وإعادته إلى الجمل جميعها أخرى، وذلكَ بحسبِ ما تَدل عليه دلالةٌ من جهتِهم، أو قرينةٌ، فإذا كانَ استعمالُهم لذلك منقسماً, ولا نقلَ يدلُّ على رجوع الاستثناءِ إلى الجميع، ولا [إلى] (4) الجملةِ الأخيرةِ؛ وجب الوقفُ إلى أن تردَ دلالةٌ توجبُ ترجيحَ أحدِ الأمرينِ على الآخرِ.
__________
(1) للذين قالوا بالتوقف في عودالاستثناء وجهتان:
الوجهة الأولى: وقد ذهب إليها القاضي أبوبكر الباقلاني والغزالي، حيث قالا بالتوقف العارض؛ أي لتعارض الدليل في كونِ الاستثناءِ خاصَّاً بالجملةِ الأخيرة، أو يرجع إلى الجميع.
الوُجهةُ الثانية: وقد ذهبَ إليها المرتضى من الشيعة، حيث قال بالتوقف الاشتراكي: أي أنّ الاستثناء في الأصل يصلحُ رجوعُه إلى جميعِ الجمل، وإلى الجملةِ الأخيرة، على جهة الاشتراك والتساوي، كلفظِ القرء للحيض والطهر ولفظِ العين لمسمياته المختلفةِ المشتركة. "شرح مختصر الروضة" 2/ 612، و"الإحكام" للآمدي 2/ 440، و"المحصول في علم أصول الفقه" 3/ 43.
(2) سقطت من الأصل.
(3) في الأصل: "تليه".
(4) زيادة يقتضيها السياق.

(3/495)


فيقالُ: إنما يجبُ الوقفُ إذا تساوى الأمرانِ، وما تساويا عندنا، لما بيّنا من أدلةِ الترجيح، وأن ألظاهرَ في لغتِهم عودُهُ إلى الجميعِ، ولا يعودُ إلى الجملةِ الأخيرة إلا بدلالةٍ.
ولأنَّ هذه المسألةَ اختلفَ فيها السلفُ على مذهبينِ ليس فيهما وقف، فالقولُ بالوقفِ إحداثُ مذهبٍ ثالثِ بعد انعقادِ الإجماع (1).
ومنها: أنَّ الاستثناءَ من الجملة، إذا تَعَقَب استثناء، كانَ الاستثناء الثاني عائداً إلى الاستثناءِ الذي يليهِ دونَ الجملةِ. مثاله: قولُ القائل: له فيَ عشرةُ دراهَم إلا أربعةً إلا درهمين، فإنَّ الاستثناء الثاني يعودُ إلى الأربعةِ، فيكونُ الإقرارُ بثمانية، وما ذاك إلا لأنَّ الاستنثاءَ الثاني جملةٌ تلي الاستثناء، وهذا موجودٌ في الجملةِ القريبة ها هنا.
فيقال: إنما رجع الاستثناء [إلى الجملةِ الأخيرة] (2) دونَ الجملةِ الأولى، لأنَّه لا يصحُّ رجوعُه إليهما؛ لأنَّ إحداهما نفي والأخرى إثبات، وعندَ القوم: أنَّ الاستثناء من الإثبات نفيٌ, ومن النفي إثبات (3)، فلما كان قولُه: علي عشرةٌ إثباتاً، كان قولُه: إلا أربعةً. نفياً، فبقي ستة، فلما قالَ: إلا درهمين عادَ إلى الأربعةِ المنفيةِ، فاقتضى إثباتَ درهمين مع الستة فصارت ثمانية.
فأمَّا في مسألتِنا فكلُّها إثباتٌ، أو كلُها نفي فصارت جملةً واحدةً، كما قلنا في تقدُّمِها للشرطِ، فإنَّه يعودُ الشرطُ إلى جميعِها عوداً واحداً (4).
ومنها: أن قالوا: إنَّ الجملةَ الأولى بينها وبينَ الجملةِ الأخيرةِ التي تلي الاستثناءَ، ما يقطعُ الاستثناءَ عنها من إلجُملِ، فصارت الجملةُ المتخلّلةُ بمثابةِ السكتِ بين
__________
(1) "العدة" 2/ 683، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 99 - 100.
(2) ما بين معقوفين ساقط من الأصل.
(3) في الأصل: "ومن ألإثبات نفي" وهو تكرار لما قبله.
(4) "التمهيد" 2/ 97 - 98.

(3/496)


الاستثناءِ والمستثنى منه، فإنّه تقطعُ، كذلك الجملة المتخللةُ بينَ الاستثناءِ وبينَ الجملةِ الأولى.
فيقالُ: الفصلُ بين الجملةِ والاستثناءِ لا يُسلَّمُ؛ لأنَّ الجملَ كالجملةِ الواحدةِ، على ما بَينّا، والشيءُ الواحدُ لا يحولُ بينهُ وبينَ نفسِه، وكذلك ما أجري مجراه.
ألا ترى أنَّ الجُملَ في بابِ الشرطِ، وهو إذا قال: امرأتي طالقٌ، وعبدي حرٌ ومالي صدقةٌ إن شاءَ الله. أو قال في الخبر أعطِ بني تميم، وبني طَيِّىء كلَّ واحدِ ديناراً إلا الكفارَ، لم يمنعْ ذلك من رجوعِ الاستثناءِ إلى الجميعِ، ولم يحصلْ ذلكَ بمنزلةِ ما لو فصلَ بينهما بالسكوت.
ومنها: أنهُ استثناءٌ تَعقَّبَ جُملتين، فلم يرجعْ بظاهرِه إليهما، كما لو قال: أنتِ طالقٌ ثلاثاً إلا أربعاً.
فيقالُ: إنَّما لم يرجعْ في هذا إلى الجميع؛ لأنَّ ذلك يُفضي إلى رفعِ الاستثناء للمستثنى منه، وذلك يخرجُهُ عن حقيقةِ الاستثناءِ، وفي ردِّنا للاستثناءِ إلى جميع الجمل لا يرفعُ المستثنى منه؛ لأنَّ التائبين بعضُ المجرمينَ، والتوبةُ حالٌ غَيرُ حال الإصرار.
والذي يوضِّحُ هذا: أنَّ الذي ذكروهُ؛ لو انفردت كل واحدةٍ من الجملِ، وتعقبها الاستثناءُ، لم يرجعْ إليها، وفي مسألتِنا، لو انفردت كل [واحدة] (1) من الجملِ، وتعقَّبها الاستثناءُ رجَع إليها، فدلَّ على الفرقِ بينهما.
وإنَّما اختصَّ الطلاقُ بذلك، لأنَه لا يملكُ منه إلا ثلاثاً فقط، فلو عاد إلى الثلاث لرفعها (2) كلَها، فإنه لو كانَ بدلاً من الطلاقِ أنه قال: له علي ثلاثةُ دراهم، وثلائةُ دراهمَ، وثلاثةٌ إلا أربعةً. صحَّ الاستثناءُ وصارَ كأنَه قال: له علي تسعةُ دراهم
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(2) في الأصل: "فرفعها".

(3/497)


إلا أربعة (1).
ومنها: قولهم: لو قال: امرأتي طالقٌ، وأعط زيداً درهماً إن دخلَ الدار لم يرجع الشرطُ إلى الطلاقِ، بل يقع الطلاقُ، ويقف دفعُ الدرهم على دخولِ الدار, فكذلكَ ها هنا، وهذا مثلُ مسألتنا، وهو في باب الشرطِ الذي عوَّلتم عايه.
فيقالُ: إنَّ الجملتين مختلفتان؛ إحداهما: إيقاعُ طلاقٍ، والثانيةُ: أمر، فلما عدلَ عن إيقاع الطلاقِ إلى الأمر علمنا أنهُ لم يصل الثاني بالأوِل، وإنما بدأ بأمر علَّقهُ على شرطٍ، فعادَ الشرطُ إليه، وليس كذلك في مسألتِنا؛ لأنَّهُ لم يقطعْ ما تقدمَ بغيرِه.
فوِزانُ ما ذكرتُم من مسألتِنا أنْ يقولَ: امرأتي طالقٌ، ومالي صدقةٌ على فلانٍ المسكينِ إن دخلَ الدارَ، فيرجعُ الشرطُ إلى الجميعِ.
ومنها: قولهُم: إنَّ العمومَ قد ثبت في كلِّ واحدةٍ (2) من هذه الجُمل، وتخصيصُ بعضِها بالاستثناء مشكوكٌ فيه، فلا يجوزُتخصيصُ العمومِ بالشكِّ.
فيقالُ: لا نُسلِّمُ ثبوتَ العموم مع اتصالِ الاستثناء بالكلامِ، ثمَّ هذا يبطلُ بالجملة الواحدةِ إذا تناولتْ أشياءَ ثم تعقَّبها استثناءٌ، فإنَّ العموم قد ثبتَ لِكُلِّ واحدة من الجملِ على زعمِهم، ثمَّ الاستثناءُ يعودُ إلى الجميع.
ولأنّا نعارضُهم بمثلِه في العموم، فنقولُ: إنه كما يُخصُ بالقطعِ؛ وهو خبرُ التواترِ ودليل العقل، يُخَصُ بالقياسِ وخبرِ الواحدِ، وليس بقطعٍ بل هو ظنٌّ، وفي مسألتِنا ما خصصناه إلا بظنٍّ، فأمَّا بشكٍّ فلا؛ لأنَّ الترجيح لا يَبقى معهُ شكٌّ (3).
ومنها: أنَّ الاستثناءَ إنما رُد إلىَ ما تقدمَ؛ لأنَّه لا يستقل بنفسِه، فإذا أعدناه (4) إلى
__________
(1) "التبصرة": 175.
(2) في الأصل: "واحد".
(3) "العدة" 2/ 681.
(4) في الأصل: "عدنا".

(3/498)


ما يليه، استقل واكتفى باستقلالِه به، فلا وجهَ لطلبِ الزيادة إلا أن تقوم عليها دلالةٌ.
فَيقالُ: هذا باطل بالشرطِ، لا يستقل بنفسه، وإذا رُدَّ إلى ما يليهِ خاصةً دون جميعِ ما تقدَّمهُ، استقل، وما اكتفيَ به حتى يُردَّ إلى الجميع (1).
__________
(1) "العدة" 2/ 681 - 682، و"التمهيد" لأبي الخطاب 2/ 97.

(3/499)


الوَاضِح في أصُولِ الفِقه

تأليف
أبي الوَفاء عَلي بن عَقيل بن مُحمَّد بن عَقيل
البَغدادي الحَنبلي (513 هـ)

تحقيق
الدكتور عَبد الله بن عَبد المُحسن التركي
وزير الشؤون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد

الجزء الرابع

مؤسسة الرسالة

(/)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

(4/2)


الوَاضِح في أصُولِ الفِقه
4

(4/3)


بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

جَميع الحقُوق مَحفوظة للناشِر
الطبعة الأولى
1420 هـ - 1999 م

مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع
وطى المصيطبة - شارع حبيب أبي شهلا - بنايه المسكن، بيروت - لبنان
تلفاكس: 319039 - 815112
فاكس 603243 ص. ب: 117460

AL- Resalah PUBLISHERS
BEIRUT/LEBNON - Telefax: 815112 - 319039
fax: 603243 - P.O.Box: 117460
Email: Resalah@Cyberia.net.lb

(4/4)


فصول
المُجمَل والمُفسَّر والمُحكَم والمُتشابه

فصل
في المُحكم والمُتَشابه
فالمحكمُ على ظاهر كلامِ صاحِبنا: ما استقلَّ بنفسِه، وكانَ أصلاً [لا] (1) يحتاجُ إلى بيانٍ بغيره، ولِذاَ (2) اتفقت الأمةُ على معناه وحكمِه؛ لاتفاقِهم في علمِه لمَّا كان ظهورُ حكمِه من لفظِه.
والمتشابِهُ: مالم يستقلَّ بنفسِه واحتاجَ إلى البيانِ بغيرِه، ووقعَ الخلافُ فيه، لاشتباهِ المعنى فيه، وغموضِ المقصودِ به.
وذلك في الأُصولِ والفروعِ:
ففي الأصول: المحكم: قولُه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11] يعطي بنصِّه وصريحِه نفيَ التشبيهِ عنه سبحانه، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ} [الإخلاص: 1]، يُعطي نفيَ التثنيةِ والشركة بنصِّه وصريحِه.
والمتشابهُ من (3) هذا القبيل قولُه: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي}
__________
(1) ليست في الأصل، وانظر تعريف المحكم في "التمهيد" لأبي الخطاب
2/ 276 و"المسودة": (161).
(2) في الأصل: "وإذا".
(3) في الأصل: "في".

(4/5)


[الحجر:29]، {فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا} [الأنبياء: 91]، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} [طه:39]، {وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ} [الزمر: 67]، {ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ} [يونس: 3]، {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]، {رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171]، فهذا يوهمُ الأعضاءَ والتشبيهَ بظاهِره.
واختلفَ فيه الناسُ الخلافَ المعلوم، فقوم (1) سكتوا عن تفسيرِه، وقومٌ أقدموا على تأويلِه، وقومٌ قالوا بحملِه على ظاهِرِه، ولا ظاهرَ منه إلا ما وُضِعَ له في اللغةِ، وما وضعَ لهُ في اللغةِ معلومٌ، وقومٌ صرَّحوا بالتشبيهِ.
وقيلَ: إنّ أحقَّ ما وقعَ عليه اسمُ المتشابه: الحروفُ المقطعةُ في أوائِل السورِ، وقد اختلفَ الناسُ فيها، فقالَ قومٌ: إن كلَّ حرفٍ هو مأخوذٌ من اسمٍ، كهاءٍ من هادي، وكافٍ من كافي، وصادٍ من صادق، وإلى أمثال ذلك، وقومٌ وقفوا عن تفسيرٍ وتأويلٍ (2).
فأمّا المحكمُ من هذا القبيلِ، فقولُه (3) [تعالى]: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، {فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام: 76]، {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: - 59].
فقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، أزالَ الاشتباهَ من قولِه: "عيني"،
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "قد".
(2) انظر ما تقدم في الصفحة (169) من الجزء الأول.
(3) في الأصل: "قوله".

(4/6)


و"يَديَّ"، وأنَّها (1) ليست جوارحَ ولا أبعاضاً (2).
وقوله: {أُحِبُّ الْآفِلِينَ}، أزالَ الاشتباهَ من قوله: {وجاءَ ربُك} [الفجر: 22]، {يَوْمَ يَأْتِي} [الأنعام: 158]، {أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ} [البقرة: 210]، {أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ} [الأنعام: 158]، وأنَّه ليس بالانتقال المشاكلِ لأُفولِ النجومِ.
والذي أزالَ إشكالَ قولِه: {وَرُوحٌ مِنْهُ} [النساء: 171]، {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، {قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:34]، {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص:75]: قوله: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ} [آل عمران: 59] (3).
وأمَّا المحكمُ من الآي في الفروعِ: فما عُلمَ حكمُه من نطقِه، ولم يُرْفع بنسخِه، مثلُ قوله: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ} [النور: 2].
والمتشابهُ: ما احتاجَ إلى البيانِ من غيرِه، مثلُ قولِه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فلا يُعْلَمُ الحقُّ الواجبُ إيتاؤُه إلا من غيرِه.
فالمحكمُ (4) في الأولِ (5): يجبُ اعتقادُه، وهو نفيُ التثنيةِ
__________
(1) في الأصل: "وأنهما".
(2) في الأصل: "أبعاض".
(3) ذكر آيات الصفات ضمن المتشابه مخالف لمنهج أئمة السلف، انظر التعليق رقم (1) في الصفحة (169) من الجزء الأول.
(4) في الأصل: "فالحكم".
(5) أي في الأصول.

(4/7)


والتشبيهِ، والمحكمُ في الثاني، وهو الفروعُ: يجبُ اعتقادُه والعملُ به؛ لمكانِ وضوحِه، والاتفاقِ على حكمِه، فلا وجهَ لتأخيرِ اعتقادِه والعملِ به، إذ لا عائقَ ولا مانعَ.
وحكمُ المتشابه في الأولِ، وهو المتردِّدُ: أن يُرَدَّ إلى المحكَمِ المتَّفقِ عليهِ، فنحَملُ اليدَ والروحَ والاستواءَ والوجهَ والسمعَ والبصرَ، على ما يَنْحَفِظُ به المحكمُ المتفقُ عليه، ولا يَنْحَفِظُ قولُه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} إلا بقدرِ أن يُنفى عن هذه الأسماءِ ما تحتَها من الأعضاءِ والجوارحِ، وما يُشْكِلُ في النفس عند إطلاقِ اللفظِ من صفاتِ الآدميين، لذا (1) لم يُتخلَّصْ منَ اطِّراحم المحكمِ إلا بهذا النَّفْيِ، بقي الإثباتُ، فانقَسم الناسُ فيه:
فمن قائل (2): أُثبتُ تحتَ هذه الأسماءِ شيئاً، لكنِّي لا أُعَيِّنُه، وأقولُ: اللهُ أعلمُ به، وهو مذهبُ أكثرِ السلفِ من الصحابةِ والتابعين رحمةُ اللهِ عليهم، ولا يصح هذا القولُ إلا ممَّن يقولُ: ليس اللفظُ ظاهراً؛ لأنَّ المشتبهَ والظاهرَ اسمانِ ضدانِ؛ لأنَّ الظاهرَ ما ترتجَّح إِلى أحدِ محتمليهِ، وما يقدرُ أحد يقولُ عن السلفِ الصالح: إنَّهم فسرُوا (3) ذلك بما يظهرُ في اللغةِ من معاني هذه الأسماءِ، والَمتشابِهَ: ما اشتبهَ أَمرُهُ، ولهذا قال سبحانه في المتشابه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران:7]، فمن قال: له ظاهر عندنا، فقد كذَّبَ نَصَ القرآنِ، ونقضَ أصلَه بأصلِه؛ فإنَّ أصلَ هذه الطائفةِ: أنَّ
__________
(1) في الأصل: "فإذا".
(2) في الأصل: "قال".
(3) في الأصل: "إنه فسر".

(4/8)


[الوَقْفَ] (1) في هذهِ الآيةِ على قوله: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] وأنَّ العلماءَ لا يعلمونَ، لكنْ يقولون، فإذا عادَ بعد هذا الأصلِ المحفوظِ عنه وعليه يقولُ: أَحْمِلُ هذه الآياتِ والأسماءَ والإضافاتِ على ظاهرها، قلنا لهُ: وأيُّ ظهور؟ وماذا ظهرَ لكَ مع تسميةِ اللهِ [لها] (1) متشابهاتٍ، ومع إفراد نفسِه بعلمِها، وما أفردَ نفسَه بعلمِه كيف تقولُ: له ظاهرٌ عندي أحملُه عليه!؟ فهذا أصلٌ يجبُ أن يعتمدَ على اعتقادِه، فليس غيرُه ما يُعتمدُ عليه، ولا يُلتفتُ إليه، سيما في هذا المذهبِ المنزَّهِ عن الابتداعِ، فإذا ثبتَ بطلانُ قولِ مَن يدَّعي في المتشابِه ظاهراً (2) بنفس قولِه: إنه لا يعلمُ تأويلَه (3) أحدٌ من العلماء، لم يبقَ إلا أن يكونَ أحَدَ رجلين:
إما أن يقولَ: لا أدري، ولا أعلمُ، واللهُ هو المستأثِرُ بعلمِ هذهِ الأسماءِ المضافةِ إليهِ. فهذا رجل أخبرَ بالتقصيرِ عن علمِ ما استأثَرَ اللهُ عنده بعلمِه.
أو يُقدِمَ على التأويلِ بحسبِ ما تقتضيهِ اللغةُ مما ينحرسُ به محكمُ الكتاب، وهي آياتُ نفي التشبيه، وإجماعُ الأُمَّةِ عليهِ، وشهادةُ دلائلِ العقولَ التي أُثبتَ بها الصانعُ إثباتاً دلَّ على أنَّه متى أشبهَ خلقَه، دخل عليه ما يدخلُ عليهم، فأحوجَنا ذلكَ إلى صانعٍ يصنعُه، كما أحوَجنا ذلك في مخلوقاته إليه، لأن المِثلَ ما سدَّ مسدّ (4) مثلِه، وجازَ عليه ما يجوزُ عليه.
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) في الأصل:"ظاهر".
(3) في الأصل: "تأويل".
(4) في الأصل: "سد".

(4/9)


ولا قسم ثالث سوى التصريح بالتشبيهِ، ومن صرَّح به، زعقتْ به أدلةُ الشرع والعقلِ، فأخْرَسَتْهُ عن مقالتِه، فافهمْ ذلك، فهو أهمُّ ما صُرِفت العنايةُ إليه، فإنَّه الأصلُ الذي يُبْتَنى عليه ما نحن فيه من أُصولِ الفقهِ (1).
وقال قومٌ: المحكمُ: غيرُ المنسوخ، وهو ما ثبتَ حكمُه، ولم يُغيَّرْ بنسخٍ بعدَه.
والمتشابهُ: المنسوخُ، لأنهُ استفيدَ حكمُه من الناسخ لهُ (2).
__________
(1) اضطرب رأي المصنف رحمه الله في مسألة الصفات، فمرة ينحو منحى السلف في إثبات الصفات، وإجرائها على ظواهرها، ونفي الكيفية والتشبيه عنها، وتارة يخالفهم ويجنح الى التأويل، وقد انتقده في ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية، فقال في "درء تعارض العقل والنقل" 8/ 60 - 61: ولابن عقيل أنواع من الكلام، فإنه كان من أذكياء العالم، كثير الفكر والنظر في كلام الناس، فتارة يسلك مسلك نفاة الصفات الخبرية، وينكر على من يسميها صفات، ويقول: إنما هي إضافات، موافقة للمعتزلة، كما فعله في كتابه "ذم التشبيه وإثبات التنزيه" وغيره من كتبه، واتبعه على ذلك أبو الفرج ابن الجوزي في كتابه "كف التشبيه بكف التنزيه"، وفي كتابه "منهاج الوصول"، وتارة يثبت الصفات الخبرية، ويرد على النفاة والمعتزلة بأنواع من الأدلة الواضحات، وتارة يوجب التأويل كما فعله في "الواضح" وغيره، وتارة يحرم التأويل ويذمه وينهى عنه، كما فعله في كتاب "الانتصار لأصحاب الحديث"، فيوجد في كلامه من الكلام الحسن البليغ ما هو معظم مشكور، ومن الكلام المخالف للسنة والحق ما هو مذموم مدحور.
(2) هذا القول منقولٌ عن ابن عباس، وابن مسعود، وقتادة، والضحاك.
انظر "تفسير الطبري" 6/ 174 - 177، و"النكت والعيون" للماوردي.
1/ 304 - 305، و"المحرر الوجيز" لابن عطية 3/ 18، و "زاد المسير" لابن الجوزي 1/ 350 - 351.

(4/10)


وقالْ الجمهورُ من الفقهاءِ: هو المعلومُ حكمُه من صيغتِه ولفظِه.
والمتشابِهُ: هو المُجمَلُ الذي يفتقرُ إلى تفسيرٍ وَتأْويل.
وذكر أبو الحسينِ البصري (1) عن أصحابه: أنَّ المحكمَ مشتركٌ (2):
يحتملُ إحكامَ صيغتِه وإتقانَ لفظِه، وذلك بالفصاحةِ.
والثاني: أنهُ ما لا يحتملُ تأويلين مختلفينِ مشتبهينِ احتمالاً شديداً.
وكأنَّه يرجعُ إلى ما بيَّنا أولاً، وأشارَ إليه صاحبنا رضي الله عنه (3).
__________
(1) هو أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري، شيخُ المعتزلةِ، كان فصيحاً بليغاً، يتوقَّدُ ذكاء، وله اطِّلاعٌ واسعٌ وكبير على أقوال العلماء ومذاهبهم، من مصنفاته: "المعتمد في أصول الفقه" وهو شرح لكتاب "العُمَد" للقاضي عبد الجبار، توفي ببغداد سنة (436) هـ. انظر ترجمته: "طبقات المعتزلة" (118)، و"تاريخ بغداد" 3/ 100، و"وفيات الأعيان" 4/ 271، و"ميزان الاعتدال" 3/ 654 - 655، و"شذرات الذهب" 3/ 259، و"سير أعلام النبلاء" 17/ 587 - 588.
(2) يعني: أن المحكم يستعمل على الوجهين المذكورين. وهما في "العدة" 2/ 687.
(3) وهو ما تقدم في الصفحة (5).

(4/11)


فصلٌ
في الدلالةِ على ما ذكرناه
أنَّ اللهَ سبحانَه قال: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ} [آل عمران:7]، وأمُّ الشيء: أصلُه، وإنَّما سُمِّيَ المحكمُ أصلاً، لأنهُ -على ما قدمتُ- يُرَدُّ إليه المتشابِهُ، كما يردُّ الفرعُ إلى أصلِه، إن شئتَ فرعَ العلةِ، وإن شئتَ كلَّ شيءٍ تَفَرَّعٍ عن شيءٍ، كالولدِ إلى أبيهِ، والثَمرِ إلى الشجرةِ، وكلَّ شيءٍ صَدر عن أصل حتى المخلوق إلى خالِقه، فكذلك الآياتُ المحكمةُ أصولٌ متفقٌ عَّلَى حُكمها، يُردُّ المُتردِّدُ المختلَفُ فيه لأجل تردُّده إليها، وهذا صورةُ ما قدَّمنا مثالَه:
فإذا قال: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، ثم قال: {وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} [الشورى: 11] فاشتبه، على السامعِ شأنُ السمعِ والبصرِ، هل هوَ بجارحةٍ، أو هو بمعنى العلم بما يسمعُه السامعُ منا، والعلمِ بما يبصرُه الواحدُ منا، أو هو إدرا، بغير جارحةٍ ليس بالعلمِ، لكنَّه زائد على العلمِ، أو هو كونُ الذاتِ سميعةً (1) بنفسِها، لا بمعنى هو علم ولا سمع ولا بصر، فإذا حصلَ الاشتباهُ في ذلك، ثم صدرَ عنهُ ما حصلَ من الاختلاف بين أهلِ العلم، وجبَ على العالِم الراسخِ في العلم، أن يردَّ هذا إلى أوَّلِ الآَيةِ وهو (2) نفي التشبيهِ بقوله سبحانه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فينفيَ من هذه الأمورِ المشتبهةِ ما يَخرجُ عن أوَّلِ الآيةِ -وهو الإحكامُ-،
__________
(1) تحرفت في الأصل إلى: "سمعية".
(2) في الأصل: "وهي".

(4/12)


فإذا نفى التشبيهَ، قال: إنه سميعٌ لا بمثلِ ما نَسْمَعُ من جارجةٍ وجهَةٍ من ذواتِنا وحاسَّة، إذ لو حُمِلَ على ذلك لانتفى قولهُ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}، وذلك نفيٌ صريحٌ لا يترددُ، فكيف نزيلهُ بما يتردَّدُ؟، فحملنا المتشابِهَ على المحكمِ، فانتفى التشبيهُ، وبقيَ الأمرُ متردِّداً بعد نفي التشبيهِ بين مذهبين لا بأسَ بهما عند المحققينَ من العلماءِ:
أحدهُما: القولُ بأنَّه سميع بصيرٌ، والإمساكُ عما به يسمعُ، لا تشبيهَ ولا تأويلَ.
والثاني: التأويلُ على أنَّه يدركُ المسموعاتِ، والمبصَراتِ، ولا نزيدُ على ذلك.
وأمَّا التأويلُ الذي لُقِّبَ صاحبُه بالزيغ، فإنَّه الحملُ له على ما يوجبُ الاختلافَ والتناقضَ، أو تأويلُ ما يعودُ على المحكمِ بالنفي؛ من نوعِ تشبيه يعودُ بنقض أوَّلِ الآية، فهذا صاحبُه زائغٌ، وقولُه: {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ} [آل عمران: 7] يعني- واللهُ أعلمُ-: لا يعلم كُنْهَ ما تحتَ هذهِ الإضافاتِ، إلا مَن وصفَ نفسَه بها تارةً، وأضافها إليه أخرى، كما قال سبحانه: {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ} [الأعراف: 153] ينتظرون معنى ما سمعوا من البعثِ والحسابِ والمجازاةِ، {يوم يأتي تأويلُه} [الأعراف: 153] ينكشف وعدُ اللهِ ووعيدُهُ، بالمعنى الذي أَخْبَرَتْ به الأنبياءُ صلواتُ الله عليهم، {يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ} [الأعراف: 153] يعني: تركوهُ مِن قبلُ: {قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ} [الأعراف: 53]، فالتأويلُ المضافُ إلى اللهِ سبحانه: المعاني التي تحتَ هذه الألفاظ، ولا يَعلمُ ذلك إلا اللهُ.
{وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ} [آل عمران: 7] الثابتون على صحةِ

(4/13)


المعتقدِ {يَقُولُونَ آمَنَّا} صدَّقنا {بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا}، يعنونَ: المحكمَ الذي نَفى التشبيهَ، وهذا المتشابهَ الذي يوهمُ التشبيهَ، هما جميعاً من عندِ الله، فنحن نؤمِنُ بأنَّه ليسَ بحيث يتناقضُ كلامُه، ولا يكون المتردِّدُ قاضياً على النصِّ غيرِ المتردد، بل هذا من مثل (1) ذاك، واللهُ سبحانه لا تناقضَ في كلامِه، ولا تفاوتَ في خلقِه، فلم يبقَ إلا أنَّ لهذا المتشابه معنى هو العالمُ به، المستأثِرُ بعلمِه، فَحَدُّنا إذا لم نصِلْ إليه، أن نستطرحَ التسليمَ والتصديقَ، وكذلك يجبُ في كلِّ مشتبهٍ من أفعالِه يعطي ما لا يليقُ به، أَنْ يُحملَ على ما يليقُ من إِحْكامِ فعلِهِ الذي لا تفاوتَ فيه.
وكذلكَ في الفروع: إذا جاءتْ آيةٌ (2) مجمعٌ على حكمِها، وآيةٌ مختلف فيها، سُقنا المختلفَ فيه إلى المتفقِ عليه، مثلُ قوله: {وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} [المائدة: 45]، فهذا (3) يعطي المساواةَ، فإذا قال: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النحل 126]، ورأينا أنَّ طلبَ المماثلةِ في الصورةِ يخرجُ عن المساواةِ، بأن تقطعَ يَدُهُ فلا يموتُ، كما ماتَ مَن قَتَلَه بقطعِ يدِه، احتجنا أن نعودَ، فنضربَ عنقَه، فيفضي بنا طلبُ المماثلةِ في صورةِ الفعل إلى الزيادةِ على المثل، والخروجِ على المقاصَّةِ، فحملناهُ على إزهاقِ النفس دون مماثلةِ الصورةِ، ليحرسَ المعنى الذي هو الأصلُ -وهو المساواةُ-، وإذا ثبتَ ذلك، كان هذا أشبهَ ممن حملَ المحكمَ على النَّاسِخ، والمتشابِهَ على المنسوخ، وعلى الحروفِ المقطَّعةِ، ولأنَّ
__________
(1) في الأصل: "عند".
(2) في الأصل: "أنه".
(3) في الأصل: "هذا".

(4/14)


الناسخَ من الكتابِ، والمنسوخَ، والحروفَ لا يُفضي الخلافُ فيها، والتأويلُ لها -وإن أخطأ المتأوِّلُ- إلى تسميةِ خطئِه زيغاً في قلبِه، ولا فساداً في عَقْلِه، وما يدخلُ تحتَه ما يجوزُ على اللهِ وما لا يجوزُ، وما يجبُ له من الوصفِ، يدخلُه الزيغُ والانحرافُ بالخطأ، ويحسنُ فيه التسليمُ والإيمانُ عند الإحجامِ عن التأويلِ خوفَ مساكنةِ التعطيلِ أو التشبيهِ، وكذلك المجمعُ على معناه مع المختلفِ فيه، فإنه متى زال الاجتهادُ عن موافقةِ الإجماعِ، كان زيغاً وضلالاً.
ومنها: أنَّ المتشابِهَ لو كان المرادُ به المنسوخَ، لما وقع على القصصِ، وقد سمَّى اللهُ تَثَنِّي (2) القصص: متشابهاً، فقال: {اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ} [الزمر: 23]، ومعلومٌ أنَّ القصصَ تشابهتْ وتماثلتْ وتَثَنَّتْ (3).
فإن كانَ إيقاعُ الاسم عليها حقيقةً، عُلِمَ أنَّ المتشابِهَ موضوعٌ لما ذكرناه من التردُّدِ والتماثلِ الموجبِ للاشتباهِ.
وإن كان مستعاراً في القصصِ المُتَثَنِّيةِ، فلا يستعارُ الشيءُ إلا من أصلٍ يقاربُه نوعَ مقاربةٍ، كما يستعارُ للرجلِ السخيِّ والعالِم: بَحْرٌ، وللبليدِ: حمارٌ، فلا مدخلَ للمنسوخِ في هذا النوع، ولا هو من بابه، لأن المنسوخَ هو المرفوعُ المزايل، من قولهم: نسختِ الشمسُ الظَلَّ، والرياح الآثارَ.
فإن قيلَ: بل في المنسوخِ نوعُ اشتباهٍ وقعَ لجماعةٍ من العقلاءِ
__________
(2) أي: تكرارها وإعادتها.
(3) في الأصل: "وثبتت".

(4/15)


وهو البداء (1)، حتى إنَهم نفَوا عن اللهِ سبحانه جوازَ النسخِ، وقالَ الباقون بمصلحةٍ بحسب الزمان، وقال قوم: بحكم من الله، لا بمصلحةٍ، ولا بَدَاءٍ. وكلُّ خلافٍ واشتباهٍ حصلَ في الإضافاتِ الموهمةِ للتشبيهِ من (2) ذكرِ يدٍ وعينٍ ومجيءٍ وإتْيانٍ، حصلَ في آياتِ النسخ مثله.
قيلَ: لا اشتباهَ في نطقِ الناسخِ ولا المنسوخِ؛ لأنهما نصَّان، وإنما حصلَ الاشتباهُ في علةِ ذلك وتَقابُلِ (3) الآراءِ فيهِ دون (4) النطقِ، فإنه لا يحصلُ إلاّ بنصَّين (5) لا يمكن الجمعُ بينهما.
ومنها: أنَّ النسخَ لا يقعُ إلا بنصٍّ لا يمكن معهُ الجمعُ بينه وبين المنسوخ، ولا (6) اشتباهَ فيه، ومتى لم يَرْتقِ إلى رتبةِ النصِّ الذي لا احتمالَ فيه، فلا نَسخَ، والاشْتِباه (7)، إنما يليق بما ذكرنا من المتردِّدِ المحتَمل.