الواضح في أصول الفقه فصلٌ
في شبهةِ المخالفِ لنفي المتشابِه الذي لا يُعلَمُ تأويلُه،
ولا يُعلمُ
__________
(1) البداء: هو أن يظهر ويبدو للمرء أمرٌ لم يكن عالماً به.
وتقدم تعريفه في 1/ 212.
(2) في الأصل: "في"
(3) في الأصل: "ومقابل".
(4) في الأصل: "دو".
(5) في الأصل: "بنص".
(6) في الأصل: "فلا".
(7) في الأصل: "ولا اشتباه".
(4/16)
المرادُ به.
قولُه تعالى: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل:89]، وهذا
يُعطي: أنَّه يُبَيِّنُ سائرَ ما يدخلُ تحتَ التكليفِ من
الأفعالِ، والتُّروكِ (1)، والاعتقاداتِ، فلا يجوزُ أن يكونَ
منه ما لا يُعْلَمُ معناهُ وحكمُهُ، لأنه يكونُ فيِ نفسِه غير
مبيَّن، فكيف يكون مبيناً (2) لغيرِه؟ وكيفَ يجوزُ أن يكون
كلامُ اللهِ غيرَ مفيدٍ!؟
ومنها: أنَّه لو كان في الكتابِ ما لا يعلمُه إلاَّ الله،
لكانَ كونُه عند الله لم ينزلْه إلينا [أولى] (3)، فإنَّ ما لا
يُعْلَمُ وأما، (3) لم يُنْزَلْ سواء، وكلامُ البارىء يدلُّ
على إبطالِ هذا المذهب، وهو أنه قالَ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ
رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ}
[إبراهيم: 4]، وقال: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا
أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44]، وهل الأعجميُّ الذي
نفاه عن كتابِه إلا ما لا يُعْلَمُ؛ وإذا ثبتَ هذا، بطلَ دعوى
متشابِهٍ (4) في كتابِ الله لا يعلمُه سوى الله، ومقالةُ من
ذهبَ إلى أنَّ العلماءَ يعلمونَ معناهُ وتأويلَه، أقربُ من هذه
المقالة، لأنَّه إذا كان لنا علماءُ يعلمونَ معناهُ، وأُخذ
عليهم أن لا يكتموه (5)، استفيدَ بيانُه منهم، فتحصلُ الفائدةُ
ببيانِهم.
__________
(1) في الأصل: "المتروك".
(2) في الأصل: "مبين".
(3) ليست في الأصل.
(4) هنا محذوف تقديره: "وجود" متشابه.
(5) في الأصل: "يكتمونه".
(4/17)
ومنها: أن ما ذَهَبْتُم إليه يُفضي إلى
الإضْرارِ والتضليلِ في تنزيل (1) الآيات، إذ لا حُكْمَ فيها
يوجبُ عملاً ولا تركاً، وظاهرُها يوهمُ التشبيهَ، والقرآنُ
إنما نزل لبيانِ الأحكامِ، وإيضاحِ ما يهدي إلى الحقِّ من
معالمِ الإيمانِ، وإذا لم يَجُزْ ذلك لما ذكرنا، لم يبقَ إلا
أنَّ المحكمَ ما ثبتَ حكمُه، والمتشابهَ ما نُسِخَ حكمُه.
فصل
في الأجوبة
أمَّا قولُهم: {تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ}، فهو عمومٌ نَخُصه
على ما بيَّنَهُ بالتفسير، وليس هذا أوَّلَ عمومٍ خُصَّ، قال
سبحانَه: {تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ} [الأحقاف: 25]، وأبانَ
بأدلة التخصيص من الكتابِ تارةً، ومن دليل العقل أخرى، أنه
أرادَ بعضَ الأشياء، وهو الآيُ المتضمِّن للأحكامِ فعلاً
وتركاً، فأمَّا مالا يوجبُ عملاً ولا تركاً، فلا.
وأمَّا قولُكم: مع كونِه داخلاً تَحْتَ التكليف، فلعمري لكن
تكليفَنا في المتشابه لا يحتاجُ إلى البيانِ، لأنَّهُ لم
يُكَلًّفْنا علمَه ولا العملَ به، لكن كلَّفناَ الإيمانَ به،
والتسليمَ لما تحتَه من المعنى، ورد الأمرِ إلى عالمِه، كما
كلَّفنا الإيمانَ بالبعثِ ولم يُطْلعنا على وقتِه، والروح
خلقَها (2) وكَتَمَناها، حتى قالَ: {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ
رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)}
[الإسراء: 85]، وكذلك الحروفُ التي في
__________
(1) في الأصل: "تنزال".
(2) في الأصل "خلقه".
(4/18)
أوائلِ السورِ، لا (1) نعلمُ معناها بل
تسمعُ سماعاً، ونؤمنُ بأنها منزَّلةٌ من اللهِ سبحانه، وذلك
قدرُ تكليفِنا فيها، فنؤمنُ بالتلاوةِ، ونكلُ المعنى إلى
المتكلِّم بها.
وأمَّا قولُكم: إنَّ ما لا يُعْلَمُ كما لم يُنْزَلْ، فليس (2)
بصحيح، لأن ما لم يُنْزَلْ إلينا لا تكليفَ فيه يَحصُلُ به
الثوابُ، وفي هذا تكليفٌ هو الإيمانُ به والتسليمُ للهِ في
إنزالِه، وردُّ المتشابِه المتردِّدِ إلى المُحكَمِ المنصوصِ
الذي لا احتمالَ فيه ولا تَرَدُّدَ، وهذا نوعُ تكليفٍ بخلافِ
ما لم يُنْزَلْ، لكن وِزانُه ممَّا لم ينزلْ، ما أخبرنا بكونه
عنده في كتاب مسطورٍ بجميع ما قدَّره في خلقِه وقضاهُ عليهم،
فإنَّ لنا فيه نوعَ تكليفٍ، وهو التصديقُ بسبقِ المقاديرِ،
وتسطيرِ الاَجال والأرزاقِ، فذاك أمرٌ لم يُنْزَلْ، وقد
كَلَّفنا الإيمانَ بهِ حيث أعْلمنا به.
وجميعُ ما أَحْبرنا به من البيان بلسانِ الرُّسلِ، فإنَّما
أرادَ به ما كلَّفناه من الأحكام، وكما أنَّه بين الأحكامَ
باللسانِ لتُتَّبَعَ ويُعملَ بها، بيَّن ما يجبُ الإيمانُ به
جملة من غيرِ تفسيرٍ ولا تفصيلٍ، لنؤمِنَ بها ونسلمَها.
وقولُكم: إنَّ القائلينَ بمشاركةِ العلماءِ في العلمِ به (3)
وبتأويله أقربُ، لأنَّ العلماءَ يبيِّنون لغير العلماء، فلا
يبقى في الكلامِ خفاءٌ، ولا جهلٌ بمعنى، فالمقالتان جميعاً
مُفيدَتان، لأنَّ المُتأوِّلَ يثابُ على استخراجِ التأويلِ على
وجهٍ يوافقُ الحكمَ، والمسَلِّمَ بإيمانِه للمعنى لله سبحانه
المستأثرِ بعلمِه مثابٌ على ردِّ المتشابِه إلى من صدرَ عنه
__________
(1) في الأصل: "ولا".
(2) في الأصل: "ليس".
(3) في الأصل: "أنه".
(4/19)
المحكمُ، ونفي التشبيهِ الذي أوجَبه نصُّ
الكتابِ ودليلُ العقلِ.
وأمَّا كونُه (1) سبحانه لم يجعلْه أعجمياً، عادَ إلى ما فيه
[من] (2) أحكام يجبُ العملُ بها، والمتشابِهُ وإن لم يُعْلَمْ
معناه، فغيرُ (3) المجملِ الذي ما أخلاهُ من تفسيرٍ، والذي لم
يفسره، ولا أقدَرَهم على تأويلِه، لم يكلِّفْ فيه [إلا] (2)
الإيمان به جملةً، والتسليمَ للهِ سبحانَه في انفرادِه بعلمِ
التأويلِ.
وأما قولُهم: إنَّه إذا لم يُبَيِّنْ معناهُ، أدَّى إلى إيهامِ
التشبيهِ، وتعريضِ المكلفينَ للتضليلِ، فليس بصحيحٍ، لأنَّ
تقديمه للمحكمِ، كالبيان للمتشابه، وما ذُكِرَ في أدلةِ العقول
أيضاً من نفي التشبيه بيانٌ آخَرُ، فلا (4) وجهَ لدخولِ
التضليلِ إلاَّ على من أَهملَ النظرَ ولم يُحَقِّقْه،
فالمنصوصُ قولُه سبحانَه: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى:
11]، فلا يبقى بعد هذه اللفظة مساغٌ للتشبيه فيما (5) جاءَنا
في متشابِه الآيات من قوله: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ}
[ص:75]، {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي}
[طه:39]، ولِمَا ثبت في العقلِ من أن المِثلَ يجوزُ عليه ما
يجوزُ على مثلِه، فلا يجوزُ أن يُشْبِهه شيءٌ من خلقِه،
لاستحالةِ الحوادثِ عليه سبحانَه، واستحالةِ ما يتطرقُ عليه،
فوَكَلَ المشتبهَ من الآياتِ إلى الدلائِل المنصوصةِ
والمعقولةِ.
وإذا وردَ في القرآن: {وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ} [الفجر:
22]
__________
(1) في الأصل: "وآمنا به".
(2) ليست في الأصل.
(3) تحرفت في الأصل إلى: "مفيد".
(4) في الأصل: "لا".
(5) في الأصل: "فما".
(4/20)
{يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ
إِلَّا بِإِذْنِهِ} [هود: 105]، فأوهم أنَّه يزولُ وينتقلُ،
أزالَ هذا التوهُّمَ عن المجيء المضافِ إليه، والإتيانِ
الواقعِ عليه: قولُه سبحانه: {وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ
الْمُوقِنِينَ (75)} [الأنعام: 75]، {فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ
اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي} الى قوله
{فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ} [الأنعام:
76]، فأبان عن الأفولِ، وهو الغروبُ بعد الطلوع: أنه يخرجُ عن
صفةِ القِدَمِ والإلهية (1)، وقامَ دليلُ العقلِ: أنَّ [من]
(2) يتحركُ وينتقلُ، وخارجٌ من حالٍ إلى حال، محدَثٌ.
وأزال الإشكالَ في ذكرِ خلقِ آدم باليدين بقولِه: {إِنَّ
مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران:
59]، فجمعَ بين آدمَ وعيسى في كونهما "بِكُنْ"، فقد بانَ
مرادُه بذكرِ اليدين، فلا يبقى للتضليلِ بهذا اللفظِ وجهٌ، ولا
يضِلُّ على اللهِ مع دلائِل كتابِه، والعقولِ التي مَنَحَها
(3) لخلقِه، إلا ضالٌّ عانَدَ أدلَّةَ اللهِ في أمرِه ونهيِه،
وتجاهَلَ مع إمكانِ علمِه.
ولئن جازَ أو وَجَبَ (4) أن يُنفَى عن اللهِ سبحانَه ما هذا
سبيلُه، من حيثُ أورثَ شبهةً، جاز أن يُنفى عن اللهِ، بل يجبُ
أن يُنْفَى عنه من الأفعالِ: إيلامُ الأطفالِ، ومنعُ القَطْرِ
مع قدرتِه عليه، وحاجةِ الخلقِ إليه، وإباحةُ ذبحِ الحيوانِ
البَهِيم، والاصطيادِ له من أَوْكارِه، ومشارعِ
__________
(1) في الأصل: "الاهية".
(2) ساقطة من الأصل.
(3) في الأصل: "نتجها".
(4) في الأصل: "أوجب".
(4/21)
مياهه (1)، وتفريقِ ما بينه وبينَ
المَزْقوقِ (2) من فراخِه، والمُرْضَع من سخالِه، إلى أشباهِ
ذلك وأمثالِه من تسليطِ الآلامِ والأمراضِ والأَسقامِ على
سائرِ الحيوان، فإنَّ ذلك قد أدَّى إلى التضليلِ طلباً لتبرئةِ
اللهِ عن الظلم:
فهذا يقولُ بالتناسخ، لتقعَ الآلامُ جَزاءً لا ابتداءً.
وطائفةٌ جعلت الآلامَ، وجميعَ المضارِّ، والمُضرَّاتِ من
الحيوانِ، كالسِّباع والحيَّاتِ، من فاعلٍ شريرٍ، وهي الظلمةُ.
وقومٌ جعلوها (3) من إبليس، فنَفوا التوحيدَ؛ لاختلافِ الأفعال
وتضادِّها.
وقومٌ أثبتوا تكليفَ البهيمِ، وجعلوا لكل نوعٍ رسولاً من
نوعِه.
وتفرقت الأقاويلُ بأنواعِ الضلالِ والتضليلِ.
ولكن حسُنَ ذلكَ ولم يكن تضليلاً، لمَّا نَصَبَ اللهُ سبحانه
من
الدلائِل على حكمتِه، بما ظهر للعامي، وبطَنَ لخواصِّ العلماءِ
من
حكمتِه، بإحكامِ صنعته، وإتقانِ خلقِه، كما قال سبحانه: {وَفِي
الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ
أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21)} [الذاريات: 20 - 21]، وقوله: {إِنَّ
فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا
يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ
__________
(1) في الأصل: "مياهيه".
(2) هو الطائر الصغير الذي يعتمد على إطعام أُمِّه له، من
الفعل زقَّ، والزقُّ: إطعام الطائرِ فرخَهُ. "القاموس": (زق)،
وقد وقع في الأصل: "الزواق".
(3) في الأصل: "جعلها".
(4/22)
السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ
الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا} [البقرة: 164]، وعدَّدَ أمثالَ
ذلك من اَياتِه، ثم قالَ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يَعْقِلُونَ}
[النحل: 12]، و {يَعْلَمُونَ} (1)، و {يَتَفَكَّرُونَ} [الرعد:
3]، فكانَ ما أحكمَ وأتقنَ من أفعالِه، موجِباً لردِّ ما
اشتبهَ منها إلى ما ثبتَ من حكمتِه سبحانَه بإتقانِ صنائِعه،
فإنهُ يَبتلي، ويمتحنُ بمثلِ خُوارِ العجلِ، وكلامِ الشيطانِ
في بطنِ الصنمِ، وإظهارِ الأمورِ الجاريةِ على يدي الدجالِ،
وإلقاءِ السحرِ والكهانةِ؛ بتمكينِ هؤلاءِ بما يلقيهِ إليهم
الشيطانُ، ويمكِّنُ السحرةَ من الإيهامِ بالسحرِ الذي ألقاهُ
إليهم هاروتُ وماروتُ، فهذا المشتبهُ من الأمورِ، أوجبَ
تنكُّبَه، وإسقاط حكمِه: ما ظهرَ من الإعجازِ الذي كان حقيقةً
لا تَخييلاً، فكانَ ما ظهرَ من السحرِ والكهانةِ كالشبهاتِ
المُخيِّلةِ، وما ظهرَ من المعجزاتِ حُجَجاً محقَّقةً، قال
سبحانه: {أَلمْ يَرَوْا أنَّه لا يُكَلِّمُهم} [الأعراف: 148]،
وقال في عيسى حيثُ ادّعوه ودعوهُ إلها: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ
مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ
وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ}
[المائدة: 75] وهذا إشارة إلى حصولِ قِوامِه بغيرِه، وحاجتِه
في البقاءِ إلى قوامٍ، والإله من قامتْ الأشياءُ بقدرتِه.
وقالَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الأسودِ العَنْسي (2)
لما قيلَ له: إنه يتكلمُ بالأمرِ
__________
(1) ليس في كتاب الله آية بهذا السياق، وإنما فيه: {إِنَّ فِي
ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} [النمل: 52].
(2) هو عَبْهلة بن كعب بن عوف العَنْسي المَذْحجِي، ذو الخمار،
أسلم لما أسلمت اليمن، ثم ارتد، فكان أول مرتد في الإسلام،
قتله فيروز الديْلَمي في السنة الحادية عشرة للهجرة قبل وفاة
النبي - صلى الله عليه وسلم - بيوم. "المنتظم" 4/ 18،
و"البداية والنهاية" 9/ 429.
(4/23)
من قَبْلِ كونه، فقال: "إنَّ له شيطاناً،
وإنه إذا شُكِّكَ شَك"، فمضى إليه فيروزُ الدَّيلمي (1)،
فشَكَّكَه فشَك، وقصفَ عنقَه (2).
فالتكليفُ في ذلكَ ردُّ ما أشكلَ إلى ما لا يشكلُ، فما أخلى
اللهُ سبحانَه شبهةً من حلٍّ، وقد أزاحَ العللَ في حلِّها، بما
آتانا من القدرةِ على التأملِ والنظرِ، فَمَن (3) صَدَقَ الله
سبحانه في بذلِ ما آتاهُ من النظرِ في دلائلِ العبرِ، قَمَعَ
الشُبَهَ بالحُجَجِ، وكَشَفَ عن عوارِ البدع بواضح السنَن،
ورَدَّ المشتبهِ من الألفاظِ إلى المحكَمِ منها، والمَشْتَبهَ
منَ الأفعالِ إلى المُتقَنِ منها.
فصارت الأدلةُ التي توجِب حملَ المشتبهِ على المُحكَمِ،
كالتفسيرِ للمُجْمَل.
__________
(1) فيروز الدَّيْلَمي أبو الضحاك، اليماني الحِمْيَري،
الفارسي الأصل، وفد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، ثم
رجع إلى اليمن، وهو الذي قتل الأسود العَنْسِي الكذاب، توفي
سنة (53) هـ.
"الإصابة" 3/ 210، و"الأعلام" 5/ 371.
(2) الحديث بهذا النصِّ لم نجده فيما بين أيدينا من كتب الحديث
والسير، وقصة قتل فيروز الديلمي للأسود العنسي، أوردها البيهقي
في كتاب "دلائل النبوة" 5/ 335.
وأخرج البخاري (4379) عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ذُكِر
لي أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "بينا أنا نائم
أريتُ أنه وُضعَ في يدي سواران من ذهب، فَفُظِعْتُهما
وكرهتُهما، فأُذنَ لي، فنفختهما فطارا، فأوَّلْتُهما كذابينِ
يخرجان" فقال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة، راويه عن ابن
عباس: أحدهما: العنسي الذي قتله فيروز باليمن، والآخر: مسيلمة
الكذَّاب.
(3) في الأصل: "في".
(4/24)
فإن قيل: فما الفائدةُ في ذلك؟
قيل: الفائدةُ التي تحصَّلتْ، بالتكاليفِ كلِّها؛ في الأبدان
بما يشقُّ من الأعمالِ، وفي الأموالِ بما تبخلُ به النفوسُ،
وتَضِنُّ (1) به الطِّباعُ، كما قالَ سبحانه: {وَلَكِنْ
لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ} [المائدة: 48]، هو ما (2)
يَعْقُبُ ذلك من الثوابِ، وهذا أعظمُ التكليفين، لأنَّ أعمالَ
القلوبِ أشدُّ من أعمال الأبدانِ، لأنَّها أشرفُ، وعليها مدارُ
الأعمالِ.
ومن فوائدِه (3): ظهورُمقاديرِ الرِّجالِ في التأويل [لأَمر]
(4) اللهِ، أو التسليمِ لأمرِ الله، ليجازيَ كلاًّ بحسبِ عملِه
واجتهادِه.
وما (5) قولُ القائل: ما الفائدةُ في شَوْب (6) كتابِه
بالمتشابِه، وقد كان يمكنُ أن يكونَ كلُه محكماً؟ مع تجويزِه
واعتقادِه حُسْنَ التكليف، إلا بمثابة من قال: لماذا خَلقَ
القُلْفَة، وكَلفَ الخِتانَ، وقد كان في الإمكانِ خلقُ
الحشَفةِ مكشوفةً بلا جلدةٍ، أو خلقُ الجلدةِ مقلَّصةً غير
مسبلةٍ؟ ولماذا خلقَ الخلقَ وكلَّفهم ما يشُقُّ، وفي الإمكان
أن يبدأهم بالتفضلِ بالجنَّةِ، كما [فعل] (4) بآدم ابتداء؟
ولمَّا خلقَ آدَمَ، لماذا كلَّفَه تركَ شجرةٍ حتى أكلَها،
فقطعَ نعيمَه بالإهباطِ؟ وهذا أمرٌ يتَسَلْسَلُ، فكلُّ عذرٍ
لهذا القائِل بِحُسْنِ التكليفِ، وتأويل
__________
(1) في الأصل: "ونظن".
(2) في الأصل: "وما".
(3) يعني: فوائد وجود المتشابه في آي القرآن.
(4) ليست في الأصل.
(5) في الأصل: "وأما".
(6) الشَّوب: هو الخلط "القاموس": (شوب).
(4/25)
يقيمُه لأمرِ اللهِ، أو تسليمٍ لأمرِ الله
إن عجزَ عن التأويلِ، يجبُ أن يستعملَه في إبقاءِ (1) بابِ
المتشابِه من الكلام خلال المحكَم، فالنَّاسُ قائلان:
قائلٌ قال بالمصالح، ولا شكَّ أنهُ يجوزُ أن يكونَ في طَيِّ
هذا مصلحة.
وقائل يقول بالمشيئةِ المطلقةِ، فيكون ذلكَ بمشيئته المطلقة.
فلا وجهَ لإنكارِه على كلا المذهبين، لا سيَّما وهو الذي
مكَّنَ الشيطانَ من الإلقاءِ في تلاوةِ الأنبياءِ، فجعلَ ما
يلقي الشيطانُ فتنة ضلَّ بها الكفارُ، وتأوَّلها الأبرار،
وقال: {وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا
فِتْنَةً لِلنَّاسِ} [الإسراء: 60] , وأراه دخول مكةَ،
والتسلُط على أهلِها (2) فصُدَّ عن البيتِ، وصالحَ على ذلك
الأمر الذي ظهرتْ فيه استطالةُ المشركين، من محو اسمِه من
الرسالةِ في المقاضاةِ (3)، وَرَدِّ من جاءَهُ مؤمناً،
__________
(1) في الأصل: "إلقاء".
(2) يريد بذلك الإشارةَ إلى الرؤيا التي أخبرَ الله تعالى عنها
بقوله: {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا
بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ
اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ ..}
[الفتح: 27].
(3) ورد هذا في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كتبَ
عليّ بن أبي طالب الصلح بينَ النبي - صلى الله عليه وسلم -،
وبين المشركين يوم الحديبية، فكتب: هذا ما كاتبَ عليه محما
رسول الله، فقالوا: لا تكتبْ رسولَ الله، فلو نعلَمُ أنَّكَ
رسولُ اللهِ لم نقاتلك، فقال النبيُّ - صلى الله عليه وسلم -
لعلي: "امحُهُ" فقال: ما أنا بالذي أمحاه، فمحاهُ النبيُّ -
صلى الله عليه وسلم - بيده. =
(4/26)
فرَدَّ (1) أبا جندل (2)، ورجعَ ذلك العام،
حتى قال من قال، وشَكَّ من شكَّ، واحتجَّ من احتجَّ عليه: أليس
قد قال: "لتدخلُنَّ"؟ حتى قالَ: "أقُلتُ العامَ؟ والله
لتدخلنَّ (3) ".
فهذهِ المقاضاةُ من الامتحانِ والافتتانِ، صَدَرتْ (4) عن
اللهِ فعلاً، فكيف يُنْفَى عن كتابِه المتشابهُ الموهمُ
للتشبيهِ وغيرِه، ولا يجوزُ عليه؟ وقد بيَّنا جوازَ أمثالِه،
لَيُظهرَ اللهُ مَحَلَّ المتأولين، كقولِ أبي
__________
= أخرجه البخاري (2698)، ومسلم (1783)، وأبو داود (1832).
(1) في الأصل: "ورد".
(2) خبرُ ردِّ أبي جندل بن سُهيل بن عمرو إلى المشركين في صلحِ
الحديبية، أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" 2/ 318،
والبخاري (2731) و (2732)، وأحمد 4/ 330، وذكره ابن كثير: 3/
321، ومما جاء فيه: أنه بينما هم يكتبون إذ دخلَ أبو جندل
يَرْسُفَ في قيودِه، وقد خرجَ من أسفلِ الكعبة حتى رمى بنفسه
بينَ أظهر المسلمين، فقال سهيلٌ: هذا يا محمد أوّلُ ما أُقاضيك
عليه أن تردَّه، وكان قد جاء في بنودِ الصلح: أنَّه من أتى
رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مسلماً بغير إذنِ وليه من
قريش، فعلى الرسول أن يردَه، ومن أتى قريشاً ممَّن مع رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -، لم يردوه عليه.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنا لم نقضِ الكتابَ
بعد"، قال: فوالله إذاً لم أُصالحك على شيء أبداً، قال النبي -
صلى الله عليه وسلم -: "فأجِزْه لي"، قال: ما أنا بمُجِيزِهِ
لك، قال: "بلى فافعل" قال: ما أنا بفاعل، ورُدَّ أبو جندل إلى
المشركين.
وعند ابن هشام وابن كثير: أنَّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم
- قال له: "يا أبا جندل، اصبر واحتسب، فإن الله جاعلٌ لك ولمن
معك من المستضعفين فرجاً ومخرجاً، إنّا قد عقدنا بيننا وبين
القوم صلحاً، وأعطيناهم على ذلك، وأعطونا عهدَ الله، وانَا لا
نغدرُ بهم".
(3) انظر المصادر السابقة ففيها خبر الحديبية مفصّلاً.
(4) في الأصل: "صدت".
(4/27)
بكر: أفقال لكم العام؟ لَمَّا شَكُّوا في
عمرةِ القضاءِ، وعَصوا عليهِ، لَمَّا أمرَهم بنَحرِ هديِهم (1)
وتسليمَ من يُسَلِّمُ لأمرِه إن عجزَ عن التأويلِ لقولِه
وفعلِه، فهذا أَمرٌ لا يُنكرُه من دخلَ معنا في حسنِ التكليفِ،
ووافَقنا في صُدور (2) هذه الأمورِ المشتبهةِ عن اللهِ سبحانه،
فانْسَبَكَ من هذا الكلامِ: أنه إذا جازَ أن تصدرَ عنه
الأفعالُ المشتبهةُ التي افتتنَ بها كثيرٌ من الناس، إما
اعتماداً على إيجاب التسليم لأمرِه، لأنهُ أهلٌ أن يُسلَّمَ
لهُ لِما وَضَحَ من حكمتِه، أوَ اعتماداً على استخراج التأويلِ
له بغايةِ الجهدِ ومبلغِ الوسعِ، فلا يبقى [بعد] (3) ذلك ضلالٌ
من جهةِ التشابهِ في الأفعالِ والأقوالِ، وإنَّما يُدْهَى
المكلفُ من قبل الإغفالِ والإهمالِ لِما يجبُ عليه من
الاجتهادِ الذي بَيَّنَّاهُ، ولهذا حسُن العتبُ، ووقعَ
التوبيخُ موقعَه، إذ لو لم يكنْ في القوى ما يدفعُ الشبهَ، لما
قال سبحانه: {أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ}
[الأعراف: 148]، ولما قال: {أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}
__________
(1) حدثَ ذلك بعد إبرام الكتاب مع قريش، حيث قام رسولُ الله -
صلى الله عليه وسلم - فقال لأصحابه: "قوموا فانحروا، ثم
احلقوا" فما قام منهم رجل، حتى قال ذلك ثلاثَ مرات، فلما لم
يقم منهم أحد، دخل على أمِّ سلمة، فذكر لها ما لقيَ من
النَّاس، فقالت أُمُّ سلمة: يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج، ثمَّ
لا تكلِّم أحداً منهم كلمة حتى تنحرَ بُدنك، وتدعو حالقَك
فيحلقك، فخرج فلم يكلِّم أحداً منهم حتى فعل ذلك: نحرَ بدنه،
ودعا حالقه، فلما رأوا ذلك، قاموا فنحروا، وجعلَ بعضُهم يحلق
بعضاً، حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غمَّاً.
أخرجه ابن إسحاق كما في "سيرة ابن هشام" 8/ 312 والبخاري
(2731) و (2732)، وأحمد 4/ 331، وذكره ابن كثير 3/ 322.
(2) في الأصل: "صدر".
(3) ليست في الأصل.
(4/28)
[الصافات: 95]، فهذا غايةُ التوبيخِ
للعاقلِ، أتعبدُ ما صنعتَ؟ وإنَّما مقتضى العقل أن تستعبدَ ما
صنعتَ.
ولولا هذه الأمورُ الشاقَّةُ في استخراجِ التأويلِ، وتكلُّفِ
التسليمِ، لما حصلَ الثوابُ، فتعريضُهم للثواب، وإظهارُ
جواهِرهم في إمعانِ النظرِ، واستخراجِ الحقِّ من الباطلِ،
وردِّ المتشابِه إلى المحكمِ، من الأعمالِ الشاقَّةِ، على
القلوبِ كأعمالِ الأركانِ (1) الشاقّةِ على الأبدانِ (2).
وما كان ذلك قبيحاً ولا منكراً، بل أجمعنا على تجويزِه، كذلك
كونُ الاشتباهِ الحاصلِ في الكتابِ صادراً عمَّن صدرَ عنه
المحكمُ، ولا فرق.
فصل
في القرآن مجازاتٌ واستعاراتٌ (3)
وبه قالَ أكثرُ الفقهاءِ والأصوليين (4)، خلافاً لبعضِ أهلِ
الظاهرِ، وبعضِ الشيعةِ، وبعضِ أصحابنا: ليس في القرآن إلا
الحقيقة (5)،
__________
(1) في الأصل: "الأبدان".
(2) في الأصل: "الأركان".
(3) انظر هذا في "العدة" 2/ 695، و"التمهيد" 2/ 265،
و"المسوَّدة" (164)، و"شرح مختصر الروضة" 1/ 532، و"شرح الكوكب
المنير" 1/ 191، و"البحر المحيط" 2/ 182، و"المستصفى" 1/ 105،
و"الفصول في الأصول" 1/ 359، و"الإبهاج" 1/ 176.
(4) في الأصل: "والأصوليون".
(5) وهي رواية عن الإمام أحمد، كما في "العدة" 2/ 697، وانظر
ما تقدم =
(4/29)
والحاكي ذلك عن أصحابِنا أبو الحسن
التميمي.
فصلٌ
في دلائِلنا على ذلك
في كتابِ اللهِ [ما] (1) يغني عن الدلالةِ عليه، وقد جَمع
القرآنُ أقسامَ المجازِ:
فمنها: الزيادةُ التي إذا حُذفت، استقلَّ الكلامُ، كقولهِ
تعالى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فإذا (2)
حذفت الكاف، استقل المعنى، وهو أنه يبقى: ليس مثلَه شيءٌ، وإذا
كانت بحالِها، اقتضى أن يكونَ له مثل، وليس لمثلِه شبهٌ ولا
مثل، ولا بدَّ من حذفِه لحصول المعنى المقصود بالنفي.
ومنها: النقصان، مثل قوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ
الْعِجْلَ} [البقرة: 93]، وانَّما هو حُبُّ العجل، فحذف
الحُبَّ، وذكرَ العجلَ، وذاتُ العجلِ لم تُشربْ في قلوبِهم،
ولا يتصور ذلك.
وكذلك قولُه في عيسى: {قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم: 34]،
{وَكَلِمَتُهُ} [النساء: 171]، والمرادُ به: الكائنُ بكلمةِ
اللهِ، يشهد لذلك قولُه تعالى: {إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ
اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ
لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)} [آل عمران: 59].
__________
= في الجزء الثاني، الصفحة 386.
(1) ليست في الأصل.
(2) في الأصل: "وإذا".
(4/30)
وقوله: {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ}
[البقرة: 197]، ومعلومٌ [أنَّ] (1) الحجَّ أفعالٌ مخصوصةٌ،
والأشهرُ ظرفُ زمانِه، كما أنَّ الأمكنةَ ظروفُ مكانِه فعبَّرَ
عن الظرف بالمظروفِ، وهذا استعار واتساعٌ.
وقوله تعالى: {وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا
وَالْعِيرَ} [يوسف: 82]، وإنما المرادُ بهِ: سؤالُ أهلِها، إذ
لا يحسنُ إحالةُ السؤالِ على الجمادِ والبهائمِ، ولو سُئِلتْ،
فليستْ (2) مِمَّا يجيبُ عن السؤال.
فصلٌ
في أسئِلتهم
وقد تكلَّفوا غايةَ التكلفِ (3)، وتعسَّفوا غايةَ التَّعسُّفِ
(4) في بيان أنهُ حقيقةٌ:
فمن ذلك: قولُهم: إنَّ القريةَ هي مجمعُ الناس، مأخوذٌ من
قرأتُ الماءَ في الحوضِ، وما قرأَتِ الناقةُ في رَحِمِهاَ سلىً
(5) قطّ، وقرأتُ الطعام في فيَّ، وقالوا في المعروفِ
بالضيافةِ: مُقري، ويقري؛
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) في الأصل: "بليست".
(3) في الأصل: "التكليف".
(4) في الأصل: "التعسيف".
(5) السَّلى: الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد، وتسمَّى
للاَدميات المشيمة، "اللسان": (سلا).
(4/31)
لاجتماع الأضيافِ عندَه، وسُمِّيَ القُرآنُ
والقِراءةُ بذلك، لكونه مجمعَ كلام، فكذلك حقيقةُ الاجتماع
(1)، إنما هو الناسُ دون الجدار، فما أراد إلا مجمعَ الناس وهو
في نفسه حقيقةُ القرية، يوضِّح ذلك: قولُه تعالى: {وَتِلْكَ
الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا} [الكهف: 59]،
وقوله: {وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ
رَبِّهَا} [الطلاق: 8]، وهذا يرجعُ إلى المجمع (2) من الناس
دونَ الجدرانِ، والعِيرُ اسم للقافلةِ.
قالوا: ولأنَّ الأبنيةَ والحميرَ إذا أرادَ اللهُ نطقَها،
أنطقَها، وزمن النبواتِ وقتٌ لخرقِ العاداتِ، ولو سأَلها،
لأجابتْه عن حالهم معجزةً له أو كرامةً.
وقوله: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ} [مريم:
34]، إنَّما أراد (3) بقولِه: {قَوْلَ الْحَقِّ}: اسمَه
ونسبتَه إلى أمِّه، وذلك حقيقةُ قول الله، وقد قال صاحبكم
أحمد: الله هو الله، يعني الاسم هو المسمى (4).
وقوله: {وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ} [البقرة:93]،
فإنَّه لما نُسف بعد أن بُرِدَ في البحرِ، وشربوا من الماءِ،
كان ذلك حقيقةَ ذاتِ العجلِ.
فلا شيءَ ممَّا ذكرتم إلا وهو حقيقةٌ.
فيقال: القريةُ ما جمعتْ واجتمعَ فيها، لا نفسُ المجتَمعِ،
ولهذا
__________
(1) في الأصل: "الإجماع".
(2) في الأصل: "المخرج".
(3) في الأصل: "أشار".
(4) انظر"مجموع فتاوى ابن تيمية" 12/ 169 وما بعدها.
(4/32)
سُمِّيَ القُرْءُ والأقراء لزمانِ الحيضِ،
أو زمانِ الطُّهرِ، والتصرية والمصرَّاة والصراة اسمٌ لمجمع
اللبنِ والماءِ، لا لنفس الماءِ المجتمعِ، ولا اللَّبَنِ
المجتمعِ، والقارىء: الجامع للقراَن، وَالمُقري الجامع
للأضْياف، فأمّا نفسُ الأَضْيافِ فلا، والقافلةُ لا تسمى
عيراً، إن لم تكنْ ذات بهائِمَ مخصوصة، فإنَّ المشاةَ
والرجالةَ، لا يُسمَّون عيراً (1)، فلو كان اسماً لمجردِ
القافلةِ، لكان يقعُ على الرجالةِ، كما يقعُ على أرْبابِ
الدوابِّ، فبطَل ما قالوه.
وقولُهم: لو سأل، لأجابَ الجدارُ، فمثلُ ذلك لا يقعُ بحسبِ
الأحْيانِ (2)، ولا يكونُ معتمداً على وقوعِه إلا عند التحدي
به، فأمَّا أن يقعَ بالهاجِسِ، وفي عمومِ الأوقاتِ، فلا.
وقولُه: {ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ} [مريم: 34]، يرجع إلى
الاسم؛ فإنهم إذا حملوه على هذا أيضاً كان مجازاً، لأنَّ
القولَ الذي هو الاسمُ ليس بمضافٍ إليه ولدٌ (3)، فنقول: {مَا
كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ} [مريم:
35]، والاسمُ الذي هو القولُ ليس بابنِ مريمَ، وإنما ابنُ
مريمَ نفسُ الجسمِ والروحِ التي تقَعُ عليها الاسمُ الذي ظهرتْ
على يديه الآياتُ الجاريةُ التي جعلوهُ لأجلِ ظهورِها إلهاً.
وقولُه: المرادُ به نفسُ ذاتِ العجل لمَّا نَسَفَه موسى، فإذا
نُسِفَ، خرج [عن] أن يكون عجلاً أيضاً، بل العجلُ حقيقةً:
الصورةُ المخصوصةُ التي خارت، ولأنَّ بُرادةَ الذهبِ لا تصلُ
إلى القلوبِ، وغايةُ ما تَصِلُ: إلى الأجوافِ، فَأمّا أن
يَسْتَقيها الطبعُ، فيُحِيلُها إلى
__________
(1) في الأصل: "عير".
(2) في الأصل: "الإحسان".
(3) في الأصل: "ولدا".
(4/33)
أن تصلَ إلى القلبِ، فليس كذلك، بل سُحالةُ
(1) الذهب إذا حصلت في المعدةِ، رسبت ولم تتحلل؛ بحيث ترتقي
إلى غير محلِّها، فضلاً عن أن تصلَ إلى القلبِ.
ولأنَّ قولَ العرب: أُشرِبوا، لا يرجعُ إلى الشرب، إنما يرجعُ
إلى الإشراب، وهو الإشباعُ، وذلك يرجعُ إلى الحبِّ لاَ إلى
الذواتِ التي هي الأَجسامُ، ولهذا لا يقال: أُشربوا في قلوبِهم
الماء، وهو مشروبٌ، فكيف يقالُ في العجلِ؟ على أنَّ إضافَته
إلىِ القلبِ، إضافة إلى محلِّ المحبةِ، وقد وردَ الخبرُ بأنهم
كانوا يقولون في سُحالتِه إذا تناولوها: هذا أحب إلينا من
موسى، ومن إلهِ موسى، لما تأكدتْ فتنةُ العجل في قلوبْهم.
ومن أَدلتِنا: قولُه تعالى: {بلسانٍ عَرَبيٍّ مُبينٍ}
[الشعراء: 195]، وإذا ثبت أنَّه عربي، فإن لغةَ العرب مَشتملةٌ
على الاستعارةِ والمجازِ، وهي بعضُ طرقِ البيانِ والفصاحةِ،
ولو أَخلَّ بذلك، لما تَمَّتْ أقسامُ الكلامِ، ولا تَصرَّحَتْ
فصاحتُه على الكمال والتمامِ، ولا بانَ تَميُّزُهُ (2)، وإنما
يَبين تعجيزُ القومِ إذا طالَ، وجمعَ بين استعاراتِهم وأمثالهم
وحقائِقهم، ولا يَبينُ عوارُ الألفاظِ إلا إذا طالتْ، ولهذا لا
يحصلُ التحدي بمثلِ {تَبَّتْ} ولا بالآية والآيتين، ولهذا جعلَ
حكمَ إلقليلِ منه غير محترمٍ احترامَ الكثيرِ الطويلِ، فسوَّغ
الشَّرْع للجُنبِ والحائِضِ تلاوتَه (3)، كلُّ ذلك لأنَّهُ لا
إعجازَ فيه، فإدْا أتى بالمجازِ
__________
(1) السُّحالةُ، بالضم: ما سقط من الذَّهب والفِضَّة إذا
بُرِدَ. "القاموس": (سحل).
(2) في الأصل: "تمييزه".
(3) في قراءة الحائض والجنب شيئاً من القرآن روايتان عن الإمام
أحمد: =
(4/34)
والحقيقةِ وسائرِ ضروبِ الكلامِ وأقسامِه،
ففاقَ كلامَهم الجامعَ المشتملَ على تلك الأقسامِ، بانَ
الإعجازُ، وظهرَ التعجيزُ لهم، فهذا يوجبُ أن يكونَ في القرآنِ
مجازٌ.
ومنها: ما زعموا أنَّهُ من أجودِ الاستدلالِ عليهم، وهو قولُه:
{لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ} [الحج: 40]،
وقوله: {فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ}
[الكهف: 77]، والصلواتُ في لغةِ العرب: إمَّا الأدعيةُ، أو (1)
الأفعال المخصوصةُ، وكلاهما لا يوصفُ بالتهدُّمِ، والجماد لا
يتَّصِفُ بالإرادةِ.
فإدْ قيل. كان في لغةِ قوم تسميةُ المصلَّى صلاة، وقد وردَ في
التفسير: {وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ} [الجن:18]: [أنها]
أعضاءُ السجود (2). والجدار وإنْ (3) لم يكنْ له إرادة، لكنَّه
لا يستحيلُ من اللهِ فعل الإرادة فيه من غيرِ إحداثِ بنيةٍ
مخصوصةٍ.
فيقال: هذه (4) دعوى على الوضعِ إذ لا يُعلم أنَّ الصلاةَ فى
الأصلِ إلا الدعاءُ، وزِيدَ في الشرع، أو نُقِلَ إلى الأفعال
المخصوصةِ، فأمَّا الأبنيةُ فلا يُعلمُ ذلكَ من نقلٍ عن
العربِ. وإن سُمِّيتْ صلوات، فإنما هو استعارةٌ؛ لأنَّها
مواضعُ الصلواتِ.
__________
= إحداهما: لا يجوز، وهو مذهب الشافعي، والثانية: لا يمنع منه،
وهو قول أبي حنيفة، لأنه لا يحصل به الإعجاز، ولا يجزىء في
الخطبة. "المغني" 1/ 199 - 200.
(1) مي الأصل: "و".
(2) انظر تفسير ابن كثير 4/ 431.
(3) في الأصل: "إن".
(4) في ألاصل: "هذا".
(4/35)
ولو خلقَ اللهُ في الجدارِ إرادةً، لم يكن
بها مريداً، كما لو خلق فيه كلاماً، لم يكن به متكلِّماً.
فصلٌ
وأما الدلائل على (1) جوازه شرعاً، فما قدمنا من الآيات.
وأما الدلالة على جوازه عقلاً، [فهي]: أنَّه ليسَ في ذلكَ ما
يحيلُ معنى، ولا يوجبُ مناقضةً، ولا اختلافاً، ولا يُخلُّ
بمقصودٍ، فلا وجهَ للمنع منه عقلاً.
فصلٌ
في شبهاتِ المخالِفِ (2)
فمنها: قولهم: إنَّ المجاز كذبٌ، لأنَّه قد يقعُ خبراً بخلافِ
مخبَره، ويتناولُ الشيءَ على خلافِ ما هو به؛ فيقولُ القائلُ
في الرجلِ البليدِ: هذا حمارٌ، والعلم حاصل بسلب الحمارية عنه،
وهو النهيق، ويقولُ في السخيِّ: بحرٌ، ويحسنُ سلبُ ذلكَ عنه؛
بأن يقال: ليس ببحرٍ، لكنَّه رجلٌ كريمٌ ذو عطاءٍ جزيلٍ، أو
عالم علماً واسعاً (3)، والخبرُ المردودُ (4) على قائله
بالسلبِ لِما تضمنه خبره من
__________
(1) في الأصل: "في".
(2) انظر "العدة" 2/ 700، و"التمهيد" 2/ 264، و"المسوَّدة"
(165)، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 29 - 31.
(3) في الأصل: "وسعياً".
(4) في الأصل: "المورود".
(4/36)
الإثبات، أو إثبات ما سلبه، هو الكذبُ، وما
ليسَ بحقيقةٍ، فليسَ بحقٍّ، وما ليسَ بحقٍّ فهو الباطلُ، إذ
ليسَ بينهما واسطةٌ.
ومنها: أنْ قالوا: إنَّ المجازَ لم تستعملْه العربُ إلا لأجلِ
الحاجةِ والضرورةِ، مثل حاجةِ الشعراءِ إلى المدحِ المبالغِ،
لاستخراجِهم جوائزَ الأمراءِ والملوكِ، وتسهيلِ العطاءِ على
الممدوحِ، فافتقروا إلى تشبيهِ الكريمِ بالبحرِ، وتلقيبِه
بالسحابِ الهاطلِ، والماءِ الفائِضِ، والفرس الجاري، واستعاروا
له بوصفِه بالإقدامِ على الحربِ، وثباتِ القلب اسمَ: أسدٍ
وشجاعٍ، وفي منع الجار، وثباتِ العزمِ اسمَ: جبلٍ، ولمَّا
احتاجوا الذمَّ لانجزاعِ (1) قلبِ مَن لا يمكنهم النكاية فيه
بالفعلِ، وكانوا أربابَ ألسنةٍ، استبدلوا الألسنةَ بالأسلحةِ،
فأنكَوا بالهجوِ قدحاً في الأعرِاضِ، وفَتّاً في الأعضادِ؛
بتلقيبِ الرجلِ حماراً، وربما يقصدون بذلكَ وصفَه بالبلادةِ
والقذارةِ والشَّرَهِ، وبالحُساس (2) صفة له بالخَوَرِ،
واحتاجوا إلى استرحامِ القساةِ، واستعطافِ المعرضينَ من
الولاةِ، فاستعاروا لأنفسِهم ما يوجبُ رقَّةَ القلوبِ عليهم،
بتشبيهِ أولادِهم بالأفرُخ (3) الزُّغْبِ (4)، وأنفسِهم
__________
(1) في الأصل: "لانخداع" والانْجزاعُ: الانقطاع.
(2) كذا في الأصل، والحُساس بالضم: كُسارة الحجارة الصِّغارُ،
وسمكٌ صِغار يجَفَّفُ، "اللسان": (حسس).
(3) هو جمع قلة لـ (فرخ)، وهو ولد الطائر، وجمع الكثرة:
(فراخ).
"القاموس": (فرخ).
(4) الزُّغْبُ: جمع أَزْغب، وهو من الطير: ما نبت زَغَبُهُ،
والزَّغَب: هو أول ما ينبت من الرِّيش، وصِغارُه أيضا. انظر
"القاموس" و"المصباح المنير": (زغب).
(4/37)
بالزقّاقِ (1)، كقول الشاعر لعمر:
ماذا (2) تقولُ لأفراخٍ بذي مَرَخ ... زغبِ الحواصلِ لا ماءٌ
ولاشجرُ
ألقيتَ كاسبَهم في قعرِ مظلِمةٍ ... فاغفِر هداكَ مَليكُ
الناسِ يا عمرُ (3)
فهذه حاجاتٌ وضروراتٌ ألجأَت أربابَها إلى الاستعاراتِ،
واستعمال المجازاتِ، فصارت بمثابةِ من لم يجد سيفاً لقتالِ
عدوِّه، فاشتملَ له بقَدومٍ (4)، ولم يجد سكيناً يبري به
القلم، فبراه بمِقْراض، والآلاتُ الموضوعة للأعمالِ (5)
كالألفاظِ، واللهُ سبحانَه غنيٌّ عن كل شيءٍ بذاتِه، فلا وجهَ
لإضافةِ المجازِ والاتساعِ إلى كلامِه،
__________
(1) في الأصل: "بالزواق". والزقّاق: هي الطيور التي تطعم
فراخها بفيها، جمع زاقٍّ، من الفعل: زقَّه، بمعنى: أطعمه بفيه.
انظر "اللسان": (زق).
(2) في الأصل: "فإذا".
(3) البيت للحطيئة -جَرْوَل بن أوْسٍ- قاله مخاطباً عمرَ رضي
الله عنه، وكان قد حبسه لاستعداءِ الزِّبرقان عليه. انظر
"ديوان الحطيئة" (191)، و"الكامل" للمبرد 1/ 84 و 2/ 725،
و"الشعر والشعراء" لابن قتيبة 1/ 328، و"معجم البلدان" 5/ 103.
وذو مَرَخ: هو واد بين فدك والوابشية، خضر نضر كثير الشجر.
"معجم البلدان": 5/ 103.
وقد ورد عجز البيت الثاني:
فاغفر عليك سلام الله يا عُمَرُ
(4) في الأصل: "بقدم"، والقَدُوم: آلة ينحتُ بها. "اللسان":
(قدم).
(5) في الأصل: "للأعمال الموضوعة".
(4/38)
ومنها: أنَّه لو كانَ في كلامِه مجازٌ،
لاشتُقَّ له منه اسمُ: متجوِّز، ولمَّا لم يجز ذلك على اللهِ
سبحانَه، وجازَ على آحادِ العربِ، عُلِمَ أنَّ اللهَ سبحانَه
لم يتكلَّم بالمجازِ، بل بمحضِ الحقيقةِ.
ومنها: أنَّ ما ليسَ بحقيقةٍ، فليسَ بحقٍّ، وكما لا يجوزُ أن
يُنفى عن كلامِ اللهِ الحقُّ، فنقولُ: في كلامه ما ليسَ بحقٍّ،
لا يحسنُ أن يُنفى عن كلامِه الحقيقةُ، فيقالُ: في كلامِ اللهِ
سبحانَه ما ليسَ بحقيقةٍ.
فصلٌ
في جمع أجوبةِ شُبَههم
فأمَّا قولُهم: بأنه يفضي إلى الكذبِ، لأنَه بخلافِ مُخْبَره،
فما أبعدَ هذا القولَ! وذلكَ أنَّ الكذبَ مستقبحٌ عند كلِّ
ناطقٍ عاقلٍ، والاستعاراتُ عندَهم مستحسنةٌ مستعملةٌ، فأينَ
الموضوعُ المستحسَنُ من المُجْتَنبِ المستقبَحِ؟!
وقد أبانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - عن نفْي الكذبِ عنه
(1)، حيثُ نطق به، وأقرَّ عليه أصحابَه، فالذي نطقَ به أكثرُ
من أن يُحصى، غيرَ أنَّنا نذكرُ قولَه للحادي: "رفقاً بهؤلاءِ
القواريرِ يا أنجَشَةُ" (2)، يشيرُ إلى النساء حيث
__________
(1) يعني: أن المجاز ليس كذباً.
(2) أخرجه من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه: أحمد 107/ 3 و
117 و 186 و 227 و 254 و 285، والبخاري (6149) و (6161) و
(6209) و (6210) و (6211)، ومسلم (2323) (70) (71) (72) (73)،
والبيهقي 10/ 200 و 227، وابن حبان (5801) و (5802) و (5803)،
والبغوي (3578) و (3579).
(4/39)
بكينَ لحدوه الشجيِّ، وقالَ في استعاراتِ
الحرب: "الآنَ حميَ الوطيسُ" (1)، فسمَّى النساءَ قواريرَ
لسرعةِ تصدُّعهنَّ وبُعْدِ انجبارِهِنَّ، وسمَّى اسْتعِارَ
الحربِ وطيساً، وهو تَنُّور من حديد (2) وقال: "إنَّ في
المعاريض لمندوحةً عن الكذب" (3)، وعرَّض - صلى الله عليه وسلم
- فقال: "نحن من ماء" (4)، يُوهم أنه من عربٍ مخصوصين بالماءِ،
وقال: "ألسنا من ماءٍ مَهِين (5) "، وقال للذي طلبَ منه بعيراً
يخرج معه عليه إلى بعض الغزوات، وكان منافقاً (6): "لا أجد إلا
__________
(1) ورد ذلك في حديث طويل في غزوة حنين، رواه العباس بن عبد
المطلب رضي الله عنه، وفيه: فنظر رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - وهو على بغلته، كالمتطاول عليها، إلى قتالهم، فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -: "هذا حينَ حميَ الوطيس".
أخرجه أحمد (1775)، ومسلم (1775)، وابن حبان (7549).
(2) هذا أحدُ معاني كلمة: (الوطيس)، ومن معانيها أيضاً:
المعركة؛ لأنَّ الخيلَ تطسها بحوافرها، كذلك تطلق على حُفيرة
تحتفر، ويختبز فيها، ويشوى. "اللسان": "وطس".
(3) الصحيح في هذا الخبر أنه موقوف على عمر بن الخطاب، رواه
عنه عمران بن الحصين رضي الله عنهما، وقد تقدم تخريجه في 1/
130.
(4) ورد هذا الخبر في قصة معركة بدر الكبرى، حيث وقف رسول الله
- صلى الله عليه وسلم - وبرفقته أبو بكر رضي الله عنه على شيخ
من العرب، وسألهما، ممن أنتما؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه
وسلم -: "نحن من ماء" ثم انصرف عنه.
انظر "سيرة ابن هشام" 2/ 268، و"المغازي" للواقدي 1/ 50،
و"تاريخ الطبري" 2/ 436.
(5) رسمت في الأصل: "ضاتهن"، ونظن أن الصواب ما أثبتناه، فيكون
ذلك بياناً منه - صلى الله عليه وسلم - للمقصود من قوله: "نحن
من ماء"، ولم يرد هذا البيان في مصادر تخريج الخبر، وإن كان
ملموحاً من السياق.
(6) لم يرد في المصادر أنه كان منافقاً.
(4/40)
ولد ناقة" يُوهِمُ الفصيلَ، فقال: وما
أصنعُ بولدِ ناقةٍ؟ فقالوا له في ذلك، وكانَ عنده من نَعَمِ
الجزيةِ والصدقةِ عددٌ، فقال: "أليس الجمال أولادَ النُّوق"
(1)، وقال: "لا يدخلُ الجنَّةَ العُجَّز" (2)، وإلى أمثالِ ذلك
من المعارِضِ، وقال ذلك توسُّعاً، وقال: "إنِّي لأَمْزَحُ، ولا
أقولُ إلا حقاً" (3).
وليسَ من حيثُ نفيُه كان كذباً، ألا ترى أنه يحسُنُ نفيُه، وهو
__________
(1) أخرج أبو داود (4998)، والترمذي (1991) من حديث أنس بن
مالك: أن رجلاً استحمل رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم -،
فقال: "إني حاملُكَ على وَلَدِ النَّاقة" فقال: يا رسولَ الله،
ما أصنعُ بولَدِ الناقةِ؟ فقال رسولُ الله - صلى الله عليه
وسلم -: "وهل تلِدُ الإبلُ إلا النوق؟ ". قال الترمذي: هذا
حديث حسنٌ صحيحٌ غريب.
(2) جاء ذلك في الحديث الذي روته عائشة رضي الله عنها، أنَّ
النبي - صلى الله عليه وسلم - أتته عجوز من الأنصار، فقالت: يا
رسول الله، ادعُ الله أن يدخلني الجنَّة.
فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: "إنَّ الجنَة لا تدخلُها
عجوز" فذهب النبي- صلى الله عليه وسلم - فصلَّى، ثم رجع إلى
عائشة، فقالت عائشة: لقد لقيت من كلمتك مشقة وشدة، فقال رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -:"إنَّ ذلك كذلك، إنَّ الله إذا
أدخلهنَّ الجنَة، حولَهنَّ أبكاراً".
ذكره الهيثمي في "مجمع الزوائد" 10/ 419، وقال: رواه الطبراني
في "الأوسط"، وفيه مسعدة بن اليسع وهو ضعيف.
(3) ورد من حديث ابن عمر، وأنس رضي الله عنهما: أخرجه من حديث
ابن عمر الطبراني في "الكبير" (13443)، وأما حديث أنس، فأخرجه
الخطيب البغدادي في "تاريخ بغداد" 3/ 378.
ورويَ هذا الحديث عن أبي هريرة بلفظ: قالوا: يا رسولَ الله إنك
تداعبنا؟ قال: "إني لا أقولُ إلا حقاً".
أخرجه أحمد 2/ 340 و 360، والبخاري في "الأدب المفرد" (265)،
والترمذي (1990)، والبغوي (3602).
وقال الترمذي: هذا حديث حسن صحيح.
(4/41)
حسنٌ ومُستحسَنٌ (1)؟ والكذبُ لا يقعُ
مستحسناً، ولأنَه يقابلُ قولهم: حسنَ نفيُه، فكان كذباً،
بإنَّه حسنَ إثباتُه، فلا يكونُ كذباً، والكذبُ لا يحسنُ
إثباتُه.
وممَّا يُفسِدُ دعواهم الكذبَ: أنَّهم لا يُسمُّونَ مَنْ أكثرَ
الاتساعَ في المجازِ والاستعاراتِ كذَّاباً، ومحالٌ أن لا
يشتقَّ للمكرِّرِ لنوع من الأفعالِ (فعالاً)، ولهذا قالوا فيمن
يكرِّرُ في كلامه التاء ضرورةً: تمتاماً، أو يكرر الفاءَ:
فأفاءَ، ومن كرَّرَ التَّهزِّي، سُمِّيَ: هُزَأَةً، فلمَّا
مُدِحَ المكرِّرُ للمجازِ بالفصاحةِ والقدرةِ على المنطقِ
لغةً، ولم يُذَمَّ شرعاً، ولا قُدح في عدالتِه، عُلمَ أنَّه
ليس بكذبٍ، ومن تكرَر منه الكذبُ، كان فاسقاً، ولا أحدَ
استجرأَ على تفسيقِ المستعيرِ المتجوِّزِ في كلامِه، فبطلَ ما
ادَّعوه.
وأما قولُهم: هو ضدُّ الحقيقة، فيكونُ ضد الحقِّ، وهو الباطلُ،
فليس كذاك، لأنَّ الحق غيرُ الحقيقة: ولهذا لفظُ التثنيةِ
والتثليثِ حقيقةٌ في الوضعِ للشَرْكِ، وليس بحقٍّ، ورمي الشيء
إصابةٌ، وليس بصوابٍ.
وأما دعواهم: أنَّ المجاز لم تستعملْه العربُ إلا للحاجةِ،
فبعيدٌ، لأنَّ القوم حسَّنوا به الكلامَ، وإلا ففي (2)
الحقائقِ غنى عن الاستعاراتِ، وذلك أنَّ من وجدَ للرجلِ الذي
لا يفهمُ اسمَ: بليدٍ وذاهلٍ، لماذا يقولُ فيه: حمارٌ؟ ومن
يمكنه أن يقولَ في الرجل الثابتِ في الحربِ: مِحْراب (3)
وقَتَّال، لماذا
__________
(1) في الأصل: "يستحسن".
(2) في الأصل: "في".
(3) المحراب: هو الرجل شديد الحرب.
"اللسان": (حرب).
(4/42)
يَستعيرُ (1) له اسمَ بهيمةٍ، فيقول: أسدٌ
وشجاعٌ؟ فلما استعملوه مع وجودِ الحقائقِ، دلَّ على تحسينِ
الكلام، ولهذا لم يذمُّوا مستعملَه، بل كان أحذقُهم في ذلك
أشعرَهم وأَخطَبَهم، ولو كان للحاجةِ، لكان أكثرُهم استعمالاً
له أعجزَهم، لأنَّ ما يُستَعملُ للحاجةِ، دلَّ على شدةِ
احتياجِه، ألا ترى أنَّ الإشارةَ لما كانت بدلاً عن الكلامِ
لأجلِ لُكْنَةٍ، أو فساد في آلات المنطقِ وأدواتِه، لم تُعَدَ
فَضْلاً؟ بل من ساعد منطقَه بيده، لم يعدَّ فاضلاً، لأنَّه لما
استعان على تفهيم مكلَّمه ومحْاطَبه بيدِه وليست أداةً لنطقِه،
كان ذلك لقصورٍ يجدُه في لفظِه، أو لُكْنَةٍ، أو لسوءِ فهمِ
السامعِ، فإذا رأيناهم يعتمدونَ ذلك مع انتفاءِ هذه الموانع
والعوارِضِ، عُلِمَ أنَّه في وضعِ كلامهم، وعاداتِ خطابِهم،
وصار ذلك أشبهَ شبهاً بما [في] الكتاب في خطوطهم، من تَطويلِ
الحروفِ، وسلسلةِ المنظومِ منها بعضه ببعض، فيكونُ ذلكَ طريقةً
في الخطِّ، وقدرةً في السطرِ، وهل يكونُ أحسن من قول القائل:
امتلأ الحوضُ وقال: قَطْني ... مَهْلاً رُويداً قد مَلأْتَ
بَطني (2)
ويريدُ أنَّه بلغ من الامتلاءِ مبلغاً لو بلغه الحيُّ الناطقُ،
لكان قائلاً: حسبي وقطني.
وفي قولِ المجاز والاتساع فضيلة أيضاً، لأنه يدلُّ على اطِّلاع
المستعير للبليد: حماراً، وللمحراب: أسداً وشجاعاً، وللسخيِّ:
بحراً، وللمرأة: قارورةً، على ضربٍ من المقايسةِ، فإنه يُلحقُ
__________
(1) في الأصل: "استعير".
(2) "اللسان": (قطن)، ومعنى قطني، أي: حسبي.
(4/43)
الشخصَ بما يشاكلُه، والشيءَ بما يقاربُه،
والاطِّلاعُ على القياسِ فضيلةٌ للمتكلِّم، فكيفَ يُدَّعى
[أنه] ضرورةٌ؟!
ولهذا قالوا: إنَّما يبينُ فضلُ الشاعرِ في التشبيهِ، دونَ
المديحِ والغَزل والمراثي، فإنَّ ذلك قد يحرِّكُه إلى التجويد
فيه عطاءٌ يوجبُ المدحَ، وحزن يوجبُ التجويدَ في المرثيةِ،
وبُغْضٌ يوجبُ الهجاءَ، وعشقٌ يوجبُ الوصفَ، فأمَّا التشبيهُ
فَمَحضُ مُوازنة، أصلُها صحةُ اللَّمْحِ، وجَوْدَةُ النظر،
لإلحاقِ (1) المِثلِ بالمِثلِ.
وأحسنُ من هذا القول في سهولة الانفعال على الصانع جلَّتْ
عظمته: {فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ
كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11)} [فصلت: 11]
{يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ
مِنْ مَزِيدٍ} [ق: 30]، {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ
شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [يس: 82].
على أنَّ أصلَ الكلامِ إنَّما وُضِعَ -أعني: حقيقته- لأجلِ
حاجةِ المتكلِّمينَ إلى التفاهمِ والتخاطُبِ، فهو بين نداءِ
البعيدِ، ومناجاةِ القريبِ، وترخيمٍ لاستعجال الاستدعاءِ،
ونُدبة هي في أصلِ الوضعِ تَفَجُّعٌ، وتَوجُّعٌ (2)، واستراحةٌ
لإخراجِ الكمَدِ من الصدور؛ بالهاءِ في قولهم: يا سيِّداه، يا
أبتاه، يا ابناه، قال الله تعالى: {وَتَوَلَّى عَنْهُمْ
وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ} [يوسف: 84] وقال: {يَا
حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ} [يس: 30]، {وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ}
[الشعراء: 10]، {وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ
الْأَيْمَنِ} [مريم: 52]، وجميعُ الحقائقِ التي تكلَّم
__________
(1) في الأصل: "لا لإلحاق".
(2) في الأصل: "تفجعاً وتوجعاً".
(4/44)
بها العربُ لأجلِ أغراضِهم (1) وحوائِجهم،
تكَلَّمَ البارىء بها، حتى إنَّ أشباهَ ما ذكرتُ من الأمثالِ،
والمبالغةِ في المدحِ، والوعدِ والوعيدِ، والذم قد اجتمعَ في
القرآنِ، فإن شئتَ المدحَ فقوله: {كَانُوا قَلِيلًا مِنَ
اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17)} [الذاريات: 17] {إِنَّا
وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ} [ص: 44]، {وَكَانُوا
لَنَا عَابِدِينَ} [الأنبياء: 73]، {وَيُؤْثِرُونَ عَلَى
أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ} [الحشر: 9]،
{وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا
وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ
اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا}
[الإنسان: 8 - 9] {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ
إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا} [مريم: 41]، {إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75)} [هود: 75].
وأمَّا الذمُّ, فأبلغُه قولُه: {وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ
مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ
لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ
زَنِيمٍ} [القلم: 10 - 13]، {تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ
وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ} [المسد:
1 - 2]، {وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ} [المسد: 4]
أوهذه، استعارةٌ أحسنُ ما تكونُ من تسميةِ التي تُلهبُ الغضبَ،
وتثيرُ الفتنَ بين النَاس، لكون ذلك مادةَ النَّارِ، وهذه
مادةُ الثوائرِ بين النَّاس، فإذا كان كذلكَ، فقد وُجدَ حقيقةُ
ما أتى بمثلِه الشعراءُ في المعنَى، وانْ عَجزوا عن المنطقِ
والنَّظمِ، وكانَ ذلكَ لا لحاجةِ المتكلِّمِ إليه، لكنْ
إظهارُه وإنزالُه لِحاجةِ المخلوقينَ إليه، لينتهوا عن القبائح
بذمِّه ووعيدِه ونهيه، ويَهشُّوا إلى الفضائلِ بمدحِه ووعدِه،
ويزدادوا من الخيرِ بشكرِه لهم، وثنائِه عليهم.
__________
(1) في الأصل: "اعتراضهم".
(4/45)
من ذلكَ: أنَّه سمى المعرضينَ (1) عن
الحقِّ وداعيتِه: أنعاماً، وشبَّههم بالكلابِ، قال فيهم:
{وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ
تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ
مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا} [الأعراف:
176] وقوله: {كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا}
[الجمعة: 5]، وقال {ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ
ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ} [البقرة: 74].
وأمَّا قولُهم: كان يجبُ أن يُشتَقَّ له اسمُ: متجوِّز، فلا
(2) يصحُّ، لأنَّه لا يسمَّى من الأسماءِ إلا بما سمَّى به
نفسَه، ألا ترى [أنه] (3) يتكلَّمُ بالحقيقةِ، ولا يُشتَّقُ له
اسمُ: محقِّق، وفاعلٌ للحَبلِ في النِّساءِ، ولا يقال: محبِّل،
وفيه معنى العقلِ من الحكمةِ، ولا يقال: عاقلٌ، ويسمَّى:
حكيماً، لأنه سمَّى نفسَه حكيماً، وكريماً (4)، والكرمُ هو
السخاء، ويقال: كريمٌ، ولا يقال: سخيٌّ.
على أنَّ القولَ بالتجوَّز يُوهِمُ الحذفَ، هذا هو الغالبُ من
لغتِهم، ولا (5) يقالُ: متجوِّز إلا لمن جوَّز في لفظه،
والبارىء لا يُسمَّى باسمٍ موهمٍ للذَمِّ، تعالى عن ذلك (6).
وأمَّا قولُهم: لو كانَ في كلامِه ما ليس بحقيقةٍ، لكانَ في
كلامِه ما ليس بحقً، فليسَ بصحيح، لأنَّ الحقَّ ضدُّ الباطلِ،
فإذا قيل: ليسَ
__________
(1) في الأصل: "المعترضين".
(2) في الأصل: "لا".
(3) ليست في الأصل.
(4) في الأصل: "وكريم".
(5) في أنصل: "لا".
(6) انظر "شرح اللمع" 1/ 172
(4/46)
بحقٍّ، أُثبتَ الباطل، وليس الحقيقة من
الحق بشيء، ولهذا تكلم النبي - صلى الله عليه وسلم - بغير
الحقيقةِ، وما (1) تكلم إلا بالحق، فقال: "أمزح، ولا أقول إلا
حقاً" (2)، فلما قال للمرأةِ: "في عين زوجك بياض" (3)، أوهمها
بياضاً (4) في السَّوادِ، وهو يريدُ بياضاً حولَ السوادِ، وقال
للحادي المعروفِ بأنجَشَة لما حدا، فأبكى زوجاتِه: "يا أنجشةُ،
رفقاً بهؤلاءِ القواريرِ" (5)، فاستعارَ للنِّساءِ اسم:
قوارير، وما أحسنَ هذه الاستعارةَ!. فإنهنَّ رقيقاتُ القلوبِ،
سريعاتُ الانفعال بالوهنِ، قليلاتُ الصبرِ والتماسكِ، كما أنَّ
القواريرَ سريعاتُ الانكسارِ، أيسرُ شيءٍ يؤثِّرُ فيهنَّ،
كالقواريرِ.
فصلٌ
والدلالةُ على مَنْ منعَ المجازَ من أصحابنا
__________
(1) في الأصل: "أما".
(2) تقدم تخريجه في الصفحة: (41).
(3) عن زيد بن أسلم: أن امرأة يقال لها: أم أيمن، جاءت النبي -
صلى الله عليه وسلم - فقالت: إن زوجي يدعوك. قال: "من هو؟ أهو
الذي بعينيه بياض؟ " فقالت: أي يا رسول الله!؟ والله ما بعينيه
بياض. فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "بل إن بعينيه
بياضاً" فقالت: لا واللهِ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -:
"وهل من أحد إلا وبعينيه بياض؟ " أورده العراقي في "المغني عن
حمل الأسفار" 3/ 125، والزبيدي في "الإتحاف" 7/ 500، والقاضي
عياض في "الشفا" 2/ 424.
(4) في الأصل: "بياض".
(5) تقدم تخريجه في الصفحة: (39).
(4/47)
أنَّ مذهَبهم قِدَمُ الكلامِ (1)، والبارىء قد أخبرَ بإرسال
الأنبياءِ، وأنَّهم قالوا، وفعلوا، ونودوا، وأُوذوا، وقيلَ
لهم، وهذا كله لم يكُ بعد، ولا وُجدَ، فلا تَفَصِّي (2) لهم عن
المجازِ، وأضافَ (3) إلى ذاتِه بظاهرِ اللفظَ: الحبَّ والغضبَ،
والإتيانَ والمجيءَ، وهم بين مذهبين:
إما تأويل يَصْرفُ عن الحقيقةِ، بمعنى: سيقول، كما قال:
{وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ} [الأعراف: 50]، بمعنى: سينادي،
وجاءت ملائكةُ الله، وأمرُ الله، وعقابُ الله، وهذا صورةُ
المجاز.
أو يكونُ غيرَ معلومٍ لا يعلمُه إلا اللهُ، فلا يمكنُ أنْ
تكونَ حقيقةٌ موضوعةٌ لا تكونُ معلومةً، فلم يبقَ إلا المجازُ،
ومتى كان حقيقةً، كان الخطابُ والمخاطبون (4) قديمينَ، وذلكَ
مُحالٌ (5). |