الواضح في أصول الفقه فصل
يَصِحُّ الاحتجاجُ بالمجازِ (6)
لأنَّه موضوع يُعقلُ منه المرادُ به من المقدَّر (7) فيه،
والمعبَّرُ به
__________
(1) انظر مجموع "الفتاوى" 12/ 158، 372.
(2) أي: لا خروج ولا خلاص لهم.
(3) في الأصل: "وأضافه".
(4) في الأصل: "المخاطبين".
(5) "العدة" 2/ 695، و"المعتمد" 1/ 11 و"التمهيد" 2/ 265.
(6) انظر هذا الفصل في "العدة" 2/ 701، و"المسودة" (70).
(7) في الأصل: "القدر".
(4/48)
عنه؛ مثالُه: قوله تعالى: {أَوْ جَاءَ
أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ}
[النساء: 43]، والغائطُ: المطمئنُّ من الأرضِ حقيقةً، لكن
لمَّا كانَ المعقولُ منه قضاءَ الحاجةِ، وذَكَرَ الموضِعَ
توريةً وكنايةً عن الموضَع، صارَ كأنَّه قال: أو جاءَ أحدٌ
منكم من الغائطِ بعدَ حدثِه في الغائِط، أو من حاجةِ الإنسانِ.
وكذلكَ قولُه تعالى: {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى
رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} [القيامة: 22 - 23]، وقد عُرِف أنَّ عيونَ
الوجوهِ هيَ الناظرةُ، صارَ كأنَّه قالَ: عيونٌ يومئذٍ إلى
ربِّها ناظرةٌ.
وإذا كان المعقولُ منه ذلكَ، صارَ كأنَّه بالتقديرِ، كالكلامِ
الأعجميِّ الموضوعِ للمقصودِ، يكونُ دليلاً للعَجمِ، والإشارةِ
لمن يعقِلُها، وليسَ إبدالُ الخارجِ بذكر المكانِ، وإبدالُ
العيونِ بالوجوهِ، بأكثرَ من إبدالِ اللغةِ بالإشارةِ
المفهومةِ، ويجوزُ الاستدلالُ بالإشارةِ، مثلُ إِشارتِه - صلى
الله عليه وسلم - عندَ (1) قولِه: "الشهرُ هكذا وهكذا" (2)
بأصابعه: إلى تسعٍ وعشرين.
فصلٌ
قالوا: ولا يقاسُ على المجازِ (3)، فلما قالَ سبحانَه:
{وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ} [يوسف: 82]، لا يقالُ: سلِ الدَّكَّة
(4)
__________
(1) في الأصل: "فما أشار به - صلى الله عليه وسلم - مثل".
(2) تقدم تخريجه 1/ 194.
(3) انظر "العدة" 2/ 702، "المسودة" (173).
(4) الدَّكة: بناءٌ يُسَطَّح أعلاه للمقعد. "القاموس": (دك).
(4/49)
والسرير، ويريد به: الجالس على السرير
والدَّكَّةِ، كما أرادَ هناكَ ساكنَ القريةِ، وأهلَ العيرِ، و
[لا] (1) تقول: بما كسبت أَرجلكم، بدلاً أو قياساً على قوله
تعالى: {فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ} [الشورى: 30].
وعندي: أَنّهُم إنَّما منعوا ذلكَ، لأَنَّه مستعارٌ من حقيقةٍ،
فلو قيسَ عليه، لكانَ استعارةً منه أيضاً، فيتسلسلُ، ولهذه
العلَّةِ منعوا من تصغير التصغيرِ، والذي يظهرُ من المجازِ:
أنَّه نوعُ قياسٍ منهم، لأنَّه إذا تُتُبَّعَ كل مستعار في
لغةِ العرب، علم أنهم إنما قصدوا خلعَ اسم الحقيقةِ على
مايشاكلُها نوعَ مشاكلَةٍ، من ذلكَ: لَحْظُهم (2) البلادةَ
التي في الحمارِ، والفيضَ الذي في البحارِ، والإقدامَ الذي في
السَّبعِ والشّجاع، واستعارةُ اسمِ الحمارِ للبليدِ، والبحرِ
للكريمِ أو العالمِ، واسمِ السَّبعِ للرجلِ المحرابِ، وهذا هو
عينُ القياسِ، فلم يقيسوا على المقيسِ.
فصلٌ (3)
ويجوز أن يرد اللفظُ الواحدُ، فيتناول موضعَ الحقيقةِ
والمجازِ، فيكون حقيقةً من وجهٍ، مجازاً من وجهٍ آخر، نحو
قوله: {وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ
النِّسَاءِ} [النساء: 22]، هو حقيقة في الوطءِ، بدليلِ أنَّه
يُستعملُ في موضعٍ لايجوزُ فيه العَقْدُ، مثل قوله
__________
(1) ليست في الأصل.
(2) في الأصل: "الحظهم".
(3) را جع "العدة" 2/ 703، و"المسودة" (168).
(4/50)
- صلى الله عليه وسلم -: "ملعونٌ ناكحُ
البهيمةِ"، "ناكحُ يدِه ملعونٌ" (1) ولا عقدَ، وقولُهم:
أَنْكَحْنا الفَرَا، فَسَنَرى (2).
ثم استعمل في العَقدِ، فيحرمُ عليه أن يتزوَّجَ مَن تزوَّجها
أبوه، وإن لم يوجد منه الوطء.
ونحو قوله تعالى: {أَوْ لَامَسْتُمُ (3) النِّسَاءَ}
[النساء:43]، حقيقةٌ في
__________
(1) ورد الحديث بلفظ: "سبعة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة،
ولا يزكيهم، ويقول لهم: ادخلوا النار مع الداخلين: الفاعل
والمفعول -يعني اللواط-، والناكح يده، وناكح البهيمة، وناكح
المرأة في دبرها، وجامع المرأة وابنتها، والزاني بحليلة جاره،
والمؤذي جيرانه حتى يلعنه الناس، إلا أن يتوب".
انظر "تنبيه الغافلين" لأبي الليث السمرقندي، و"الكبائر"
للذهبي (59).
وفي إسناد الحديث: علي بن محمد الوراق، وهو مجهول. انظر
"الاستقصاء لأدلة تحريم الاستمناء" لأبي الفضل الغماري (44).
(2) مثلٌ يضربُ في التحذير من سوءِ العاقبة، قاله رجلٌ لامرأته
حين خطبَ إليه ابنتَه رجلٌ، وأبى أن يزوِّجها له، فرضيت
أُمُّها بتزويجه، وغلبت الأب حتى زوجها مُكرهاً، وقال: أنكحنا
الفَرا فسنرى، ثم أساء الزوج العشرةَ، فطلقها.
انظر "مجمع الأمثال" للميداني 2/ 335.
(3) "لَامَسْتُم": بغير ألف، هذه قراءة حمزة والكسائي، أضافا
الفعل والخطاب للرجال دون النساء.
وقرأ الباقون: "لامَسْتم" بألف، جعلوا الفعل من اثنين، وجعلوه
من الجماع، أي: جامعتم، وعلى هذا فالملامسة من اثنين: الرجل
يلامس المرأة، والمرأة تلامس الرجل. "حجة القراءات" (205 -
206)، "الكشف عن وجوه =
(4/51)
اللَّمس، إلا أنه يُطلَقُ على الجماعِ
مجازاً، فيُحمَلُ عليهما جميعاً، ويُوجبُ الوضوءُ منهما
جميعاً، فنقولُ: كلُّ معنيين جاز إرادتهما بلفظٍ يصلح لهما،
[فهُما] (1) كالمعنيين المتفقين.
بيانُ ذلكَ: أنَّه لو قال: إذا أحدثتَ فتوضأ، وأرادَ به
[الحدث] (1) والبول، صحّ، فهذا الحقيقةُ والمجازُ فيهما، فجازَ
اجتماعُهما، ليكونَ اللفظُ متناولاً لهما جميعاً.
يوضِّح هذا: أنَّ قولَه تعالى في الكفارة: {فَتَحْرِيرُ
رَقَبَةٍ} [النساء: 92] يتناولُ الرقبةَ الحقيقيةَ، وغيرَها من
أعضاءِ الجملةِ على طريقِ المجازِ.
وكذلكَ قولُهم: اشتريتُ رأساً من الغَنمِ، يتناولُ العضوَ الذي
فيه الحواسُّ حقيقةً، وجميعَ الشاةِ مجازاً.
وكذلك قولُهم: "لنا قَمَراها والنجومُ الطوالع" (2)، و"بتنا
على الأسودين"، و"عَدلُ العُمَرين" حقيقةٌ في أحدِهما، وهو
طالعُ الليلِ دونَ الشمس، مجازٌ في الشَّمسِ، والأسودُ حقيقةٌ
في التَّمرِ، مجازٌ في الماء، وَالعُمَرانِ حقيقةٌ في عمرَ بن
الخطاب، مجازٌ في أبي بكرٍ رضي الله عنهما.
وقد سُئل أحمدُ عن العُمرين فقالَ: عمرُ بنُ الخطَّاب، وعُمرُ
بن
__________
= القراءات السبع" 1/ 391 - 392، و"النشر في القراءات العشر"
2/ 250.
(1) ليست في الأصل
(2) هو عجز بيت للفرزدق، وصدره: "أخذنا بآفاق السماء عليكم".
ديوان الفرزدق 1/ 419.
(4/52)
عبد العزيزِ، فجعلَهما حقيقتينِ (1).
فصلٌ
ليس في القرآنِ غيرُ العربيةِ
ذكره أبو بكرٍ من أصحابنا في كتاب "التفسيرِ"، وبه قالَ جمهورُ
الفقهاءِ [و] العلماءِ والمَتكلِّمين (2)، خلافاً لابن عباسٍ
وعكرمَةَ (3): أنَّ فيهِ غيرَ (4) العربيةِ، كقولِه سبحانَه:
مشكاةٌ (5)،
__________
(1) "العدة" 2/ 705
(2) انظر ما تقدم في الصفحة 412 وما بعدها من الجزء الثاني،
و"الرسالة" للشافعي (40)، و"الإحكام" للآمدي 1/ 69، و"البحر
المحيط" للزركشي 2/ 175، و"العدة" 3/ 707، و"المسودة" (174)،
و"شرح الكوكب المنير" 1/ 192، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 32،
و"إرشاد الفحول" (32).
(3) عكرمة: هو أبو عبد الله القرشي مولاهم، البربري الأصل. كان
مولى لابن عباس، وحدث عنه وعن عائشة، وأبي هريرة، وغيرهم من
الصحابة، كان من أهل العلم، ورحلَ في طلبه إلى اليمن ومصر
وخراسان، وروى عنه الشعبي، وعطاء، ومجاهد. توفي سنة (105) هـ،
وقيل غير ذلك.
انظر "طبقات ابن سعد" 5/ 287، و"وفيات الأعيان" 3/ 265،
و"ميزان الاعتدال" 3/ 93، و"تهذيب التهذيب" 7/ 263، و"شذرات
الذهب" 1/ 130 و "سير أعلام النبلاء" 5/ 12.
(4) في الأصل: "بغير".
(5) روي عن ابن عباس ومجاهد: أن "المشكاة": هي الكوة بلسان =
(4/53)
وقِسطاسٌ (1)، وسِجِّيل (2)، واستبرق (3).
فصل
في أدلتنا
فمنها: قولى تعالى: {قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ}
[الزمر: 28]
__________
= الحبشة. "الدر المنثور" 5/ 49. وقال الزجاج، كما في "لسان
العرب" 14/ 441: المشكاة من كلام العرب. وبيَّن الشيخ أحمد
شاكر أن الكلمة ليست معرَّبة، وأن أصلها عربي، حيث إنها مشتقة
من الشكو، وأصلُ الشكو: فتح الشكوة، وإظهار ما فيها، وهي سقاءٌ
صغير يجعلُ فيه الماء، وكأنه في الأصلِ استعارة، كقولهم: بثثت
له ما في وعائي، ونفضت ما في جرابي، إذا أظهرت ما في قلبك.
انظر "المعرَّب" للجواليقي تحقيق الشيخ أحمد شاكر (303).
(1) القسطاس: هو الميزان، قال الشيخ أحمد شاكر: والكلمة عربية
بحتة ليس لها علاقة بلغة أخرى، فإنَّ القسط في كلام العرب:
النصيب والعدل، واشتق من القسط، القسطاس، وسمي به الميزان،
والأصل واحدٌ، والمعنى متصل بعضه ببعض، قال تعالى: {وَنَضَعُ
الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ} [الأنبياء:
47].انظر "المعرَّب" (25).
(2) زعم ابن قتيبة: أن السِّجِّيل لفظٌ معرَّب عن الفارسية،
والذي يعني: الحجارة والطين، واستدرك الشيخ أحمد شاكر عليه في
ذلك، ورجَّح أن تكون اللفظة عربية. انظر "المعرَّب" (181).
(3) هو غليظُ الديباج، ذُكِرَ أنه فارسىٌّ معرب. انظر
"المعرَّب" (15) وتعليق الشيخ أحمد شاكر.
(4/54)
{بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ} [الشعراء: 195]،
وقولُه: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا
لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت:
44]، وهذه صفة لجميعِ الكتاب العزيزِ، ونفي للقول بأن فيه
أعجمياً وعربياً (1)، وهذا القولُ يتطرقُ عليه إذا كان بعضُه
غيرَ عربي.
ولأنَّه تحداهم به سبحانه، والقومُ لا تقدِرونَ على الأعجمي،
فلا يتحداهم بما لا قدرةَ لهم عليه، ولا هوَ من صناعتِهم،
وإنَّما يتحداهم باللسانِ الذي يقدرون عليه، ثم يعجزونَ عن
نظمِه وأسلوبه، ألا ترى أنَّه سِبحانه لمِ يَتَحدَّهُم (2)
بالطِّب، كما تحدى قوم عيسى، ولا بما يتوهمونه سحراً، كما
تحدَّى قومَ موسى، فكلّ قوم تحداهم بما كان من صناعاتِهم،
وأبان عن عَجزِهم عنه، استدلالاً على تأييد نبيِّهم بما يخرقُ
عاداتِهم، ولهذا لم تُتَحَدَّ (3) العبرانيةُ والسريانيةُ
بالكلامِ العربيِّ (4).
__________
(1) في الأصل: "لله أعجمي وعربي".
(2) في الأصل: "يتحداهم".
(3) في الأصل: "تتحدا".
(4) وفَّق أبو عبيد القاسم بن سلَّام بين ما ذهب إليه جمهور
الأصوليين: من أنه ليس في القرآن لفظ غير عربي، وما رويَ عن
ابن عباس، وعكرمة: من أن فيه من غير لسان العرب، بأن قال:
كلاهما مصيبٌ إن شاء الله تعالى، وذلك: أن هذه الحروف بغير
لسان العرب في الأصل، فقال أولئك على الأصل، ثم لفظت به العرب
بألسنتها، فعرَّبته، فصار عربيّاً بتعريبها إياه، فهي عربية في
هذه الحال، أعجمية الأصل. انظر "المعرَّب" (5)، و"البحر
المحيط" للزركشي 2/ 172.
(4/55)
فصلٌ
فيما وجهُوه من الأسئلةِ على ما استدلَلنا به
قالوا: ليسَ الأعجمئ بأكثرَ من أنَّه لا يُعقلُ معناه، وعلى
قولكم: قد خاطَبهم بالآي المتشابهِ الذي قد تكرَّر منكم القولُ
فيه، وثبتَ من أصلِكم: أنَّه هوَ المنفردُ (1) بعلمِه الذي لا
يَعلمُ تأويلَه إلا اللهُ، ولا يُعقلُ المرادُ به، بل هو أشد
غموضاً من الأعجميِّ الذي يوجَدُ مَن يفسِّرهُ، ويكشفُ عن
معناه.
فيقالُ: الآيُ المتشابِهُ من جملةِ المجازِ والاتَساع، وما
تكلمت العربُ به، وهو أنَّه مصروفٌ عن مقتضاهُ في الَلغةِ إلى
مايعبَّرُ به عنه استعارةً، على طريقِ التأويلِ، مثل (2) قوله:
{وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39)} [طه: 39] [أي]: على مرأى
منِّي ومنظَرٍ.
ومثلُ قوله: {وَكُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ} [القصص:
88] , يريدُ: إلا هو، لقولهم: كرَم اللهُ وَجْهَك، والمراد به:
كرَّمَكَ اللهُ.
ومثلُ قولِه: {لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ} [ص: 75]، {وَنَفَخْتُ
فِيهِ مِنْ رُوحِي} [الحجر: 29]، [أي]: لما خلقتُ أنا، لا
بإيلادي من أبٍ وأمٍّ، وأنا توليتُ إيلاجَ الروحِ فيه، التي هي
مِلكي، والتكرُّمَ
__________
(1) في الأصل: "المنفرد به".
(2) في الأصل: "ومثل".
(4/56)
بالإضافةِ، فهذا المصروفُ بالتأويلِ دأبُ
العربِ ولسانُهم (1).
ونحنُ نقول: إنَّ له عندَ الله معنى، لكن لا يوصَلُ إليه
بالتأويلِ، وهذا صرف له عن ظاهرِه في اللغةِ، وكلُّ مصروف (2)
له عن ظاهرهِ، إمَّا بتأويلٍ، أو (3) حملٍ له على غيرِه من
حقيقةِ اللفظِ فمجاز، وكلُّ مصروف عن ظاهرِه بدلالةٍ، فمجاز
أيضاً، والدلالةُ التي صَرَفت عن ظاهرِ هذه الإضافات: هي نفيُ
(4) التشبيهِ عنه سبحانَه؛ بقوله: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ}
[الشورى: 11]، وبدلائلِ العقوِلِ التي دلَّت علىِ أنَّه لو
أشبَهَ الصُّورَ، وكان ذا أعضاءٍ وأجزاءٍ، لكان جسماً، ولو كان
جسماً لم يكن واحداً، لأنَّ الجسمَ ما يتركَّبُ من جواهر، ولو
لم يكن واحداً، بل كان مؤلَّفاً، لجازَ عليه ما يجوزُ على
الأجسامِ، من التَّجَزُّؤ والانقسامِ، وحَمْلِ جِنس الأعراضِ،
فاحتاجَ إلى ما احتاجت إليه الأجسام، فاتفقنا جميَعاً على
الصرفِ عن ظاهرِه، وليسَ لنا كلامٌ مصروفٌ (5) عن ظاهرِه، إلا
وهو المجازُ، وهو من جملةِ ما تكلَّمت به العربُ، بخلافِ
الأعجمي.
وكذلك الحروفُ المقطَّعةُ قد تكلَمت بها العربُ، مثلُ قولِ
__________
(1) هذا التفسير مخالف لما عليه السلف الصالح من إثبات ما
أثبته الله لنفسه ورسولُه بغير تكييف ولا تعطيل، ولا تمثيل ولا
تأويل.
انظر "العقيدة الواسطية" لشيخ الإسلام بشرح الشيخ زيد الفياض
رحمه الله.
(2) في الأصل: "مصرف".
(3) في الأصل: "و".
(4) في الأصل: "نفس".
(5) في الأصل: "مؤلفاً".
(4/57)
شاعرهم:
قلت لها: قفي، فقالت (1): قافْ (2).
فأمَّا العجميةُ فلم يُحفظْ عنها، وإنْ سَلَّمنا على الأشدِّ،
وأنَّ فيه ما لا يُعقلُ معناه، لكن للتكليفِ (3) والإيمان،
فالمعنى والنطقُ مفهومٌ، لأنَّ المجيءَ معقولٌ، والنزولَ
معقولٌ، واليدَ معقولةٌ، فكَلَّفَنا نفيَ الشبهةِ (4) بقوله:
{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، نفيَ تسميةٍ فارغةٍ
من تسميةٍ مملوءة، بتكلُّف التسليم للعالِم بها.
فصلٌ
في جمعِ شبههم
فمنها: أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - بُعثَ إلى
الكافَّة، ولم يقف إرسالُه على العربِ خاصَّةً، فجُمعَ في
كتابِه سائرُ اللُّغاتِ، ليقعَ الخطابُ لكلِّ من بُعثَ إليه
بلسانِه الذي وضع له.
ومنها: أنَّه قد وَجدْنا في القرآنِ ما ليسَ بالعربيةِ، فلا
وجهَ لنفيِه، فمن ذلك: (المشكاةُ)، وهي كلمةٌ هنديةٌ (5)، و
(الإستبرق)،
__________
(1) في الأصل: "قال".
(2) تقدم في 2/ 416.
(3) في الأصل: "التكليف".
(4) الشُّبْهة هنا المِثْل، لا الالتباس. "القاموس": (شبه).
(5) قوله: إن لفظ: "المشكاة" هندي، هو ما ذهب إليه بعضُ
الأصوليين، وقد تعقبهم العلامة الهندي عبد العلي محمد بن نظام
الدين الأنصاري في "شرح مسلم الثبوت" 212/ 1، فقال: ثم كون
"المشكاة" هندية غير ظاهر، فإن البراهمة العارفين بأنحاء الهند
لا يعرفونه، نعم "المُسكاة" بضمِّ الميم =
(4/58)
و (السجِّيل)، وهما كلمتان بالفارسية، و (طه) وقيل: إنَّها
بالنبطية.
وفيه ما لم يفهم أصلاً، وهو (الأبُّ)، حتى إنَّ عمرَ لم يعلَم
ما الأبُّ، فقال لمَّا تلاه: هذه الفاكهةُ فأين الأبُّ (1)؛
ثمَّ عاتب (2) نفسَه على (3) البحثِ عنه، إذ ليسَ فيه أمرٌ ولا
نهيٌ، ولا حكمٌ من أحكامِ الشرع. |