الواضح في أصول الفقه فصلٌ
في جمعِ الأجوبةِ
فمنها: أنَّ كونَ المعنيينِ مرادين بالصيغةِ الواحدةِ لا يكونُ
تضليلاً وتلبيساً، بل يكونُ جمعاً بين معنيينِ بصيغةٍ، كما
يجمعُ بالدلالةِ الواحدةِ، والأمارةِ الواحدةِ بين مرادينِ
مختلفينِ، مثلُ أنْ يُجعلَ طلوعُ الفجرِ دليلاً يُنْبِىءُ عن
مدلولينِ مختلفينِ: تحريمِ الأكل، وإيجابِ صلاةِ الفجرِ، أو
تَجويز (5) فعلها مع تحريمِ الأكلِ.
وليست الألفاظُ والصِّيغُ إلا وضعَ الحكماءِ، ولو كانَ تضليلاً
في اللفظِ الدالِّ على مرادِهم، لكان تضليلاً [في]، (6)
الأمارات الدالَّة على
__________
(1) في الأصل: "معنيين مختلفين".
(2) في الأصل: "مجازاً".
(3) في الأصل: "ما".
(4) "التمهيد" 2/ 242.
(5) في الأصل: "نحو من".
(6) زيادة يقتضيها السياق.
(4/68)
مرادِهم.
وأمَّا صيغةُ الأمرِ: فإنَّه إنَّما لم يُرِدْ بها الطَّلبَ
والمنعَ والاستدعاءَ والتهديدَ، لأنّه مستحيلٌ اجتماعُ إرادتي
الفعلِ والتركِ لأمرٍ واحدٍ في حالٍ واحد، ولهذا لو صرَّحَ
بذلكَ لم يحسُنْ، فيقول: أريدُ بقولي اسجُدْ: السجودَ
والانتصابَ، وها هنا يحسُن أن يقول: أريد بالقرءِ: الحيضَ
والطهرَ، على ما قدَّمنا (1).
على أنَّه يبطلُ على أصلِ المخالِفِ بالماءِ المذكورِ في آيةِ
التيممِ (2)، فإنه أريدَ به عندَه (3): الماءُ والنبيذُ، وهو
حقيقةٌ في أَحدِهما دونَ الآخرِ، وأمَّا التعظيمُ والتهوينُ،
فإنَّما لم يجز أن يُرادا (4) بالصيغة الواحدة؛ لأنَّهما
ضدَّان، ولا يصحُّ اجتماعُ إرادتِهما باللَّفظِ الواحد، ولا
بلفظين في حقِّ شخصَ واحد في حالةٍ واحدة، ولهذا لو صَرَّح،
فقالَ: أبعدوا هذا الشخصَ عن ذلكَ المقامِ، إهانةً له إكراماً،
لم يجزْ، ولو قال ها هنا: تطهَّر من اللَّمسِ باليدِ، ومن
الجماع، واعْتَدِّي بالأقراء والحيض، وكمِّلي ثلاثاً من كلِّ
واحد منهما، جازَ، فبانَ الفرقُ بينهما.
وأما منعُهم ورودَ ذلك في الاستعمالِ، فلا نسلِّمُه، بل قد
ورد: {أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ} [النساء: 43]، والمرادُ
به: اللمسُ باليدِ حقيقةً، والجماعُ استعارةً في إيجابِ
التيمُّم عندَ عدمِ الماءِ، وإذا صحَّ ذلكَ
__________
(1) في الصفحة: (66).
(2) يعني قوله تعالى: {فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا
صَعِيدًا ...} [النساء: 43].
(3) أي: عند المخالف، وهم الحنفية. انظر "التبصرة" (185).
(4) في الأصل: "يراد".
(4/69)
في النَّفي (1)، صحَ في الإثباتِ، ولا
فرقَ، ألا ترى أنَّه يحسنُ أن يقولَ: نهيتكم عن مسيسِ النساءِ،
ويريدُ به: الجماعَ واللمسَ باليدِ، وإن كانا معنيين مختلفين؟
فصل
العمومُ إذا دخلَه التخصيصُ لم يصر مجملاً، ويصح الاحتجاجُ به
فيما بقيَ من لفظه (2).
وبه قالَ أصحابُ أبي حنيفةَ، والمعتزلةُ.
وقال عيسى بن أبان: إذا دخله التخصيصُ، صارَ مجملاً، فلا يجوزُ
التعلّقُ بظاهرهِ، وحكيَ ذلك عن أبي ثورٍ (3).
وقال أبو الحسن الكرخي. إذا خُصَّ باستثناءٍ أو بكلام متصلٍ،
صحَّ التعلُّق بهِ، وإن خُصَّ بدليلٍ منفصل (4)، لم يصحَّ
__________
(1) في الأصل: "المعنى".
(2) تقدَّم بحث هذا الفصل، غيرَ أن ابن عقيل يبحثه هنا بشكل
أوسع، من حيث بيانُ الأقوال، وذكر الأدلة.
(3) هو إبراهيم بن خالد الكلبي البغدادي، المعروف بأبي ثور،
ويكنى أيضاً بأبي عبد الله، كان إماماً حافظاً مجتهداً، صنف
الكتب وفرَع على السنن، وذبَّ عنها. توفي سنة (240) هـ.
انظر "وفيات الأعيان" 1/ 26، و"تذكرة الحفاظ" 2/ 512، 513،
و"طبقات الشافعية" 2/ 74، 80، و "تهذيب التهذيب" 1/ 118 , 119،
و"سير أعلام النبلاء" 12/ 72 - 76.
(4) في الأصل: "ينفصل".
(4/70)
التعلّقُ به (1).
وقال أبو عبدِ الله البصري: إن كان الحكم الذي تناولَه العمومُ
(2) يحتاجُ إلى شرائط وأوصافٍ (3) لا ينبىءُ اللفظُ عنها،
كقوله: {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ} [المائدة: 38] كانَ
مجملاً، وجرى في الحاجةِ إلى البيانِ مجرى قوله: {وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ} [البقرة: 43]، فلا يحتج به (4) إلا بدليل.
فصل
في جمعِ أدلتِنا
فمنها: أنَّ فاطمةَ بنتَ النبي - صلى الله عليه وسلم - وعليها
السلام احتجت على أبي بكرٍ الصَديقِ بقوله [تعالى]:
{يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ} [النساء: 11] (5) وإن
كانت الآيةُ مخصوصةً في القاتلِ والكافرِ والرقيقِ، ولم ينكر
احتجاجَها هو، ولا أحدٌ من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه
وسلم - (6).
ومنها: أنَّه لو كانَ دخولُ التخصيص على اللفظ يمنعُ الاحتجاجَ
__________
(1) "التبصرة" (187 - 188)، و"المعتمد" 1/ 286، وقوله بنصه في
"شرح اللمع" 2/ 148.
(2) في الأصل: "الحكم".
(3) في الأصل: "أوصاف".
(4) في الأصل: "نجزئه".
(5) تقدم في 3/ 318.
(6) "شرح اللمع" 2/ 149.
(4/71)
به، لوجبَ التوقُّفُ في كلِّ لفظٍ يرد من
ألفاظِ العموم، لأنه (1) ما من خطاب إلا وقد اعتبرَ في إثباتِ
حكمِه صفات في المخاطَبِ، من تكليفٍ، وإيمانٍ وغيرِهما، فيؤدي
ذلكَ إلى قولِ أهلِ الوقفِ، وقد اتفقنا وإياكم على بطلانِ
قولِهم.
فإن قيل: أليسَ قد توقفتم في العملِ بألفاظِ العمومِ إلى أن
تعلموا أن ليس مخصِّص يخصُّها؟
قيل: لا نسلَّم ذلكَ.
ومنها: ما نَخُصُّ به البصريَّ (2)، فنقول: إنَّ المجملَ: ما
لا يُعقلُ معناه من لفظِه، والعمومُ معقولٌ ما أريدَ به، لكن
قامَ الدليلُ على إخراجِ بعضِ من كان داخلاً تحتَ ما أُريدَ به
من الحكمِ، فلا وجهَ لإجمالِ اللفظِ بخروجِ بعض المخاطبينَ أو
الداخلين تحتَه، لأنَّ باقي (3) المعقول معقولٌ.
فصل
في شبههِم
فمنها: أنَّ العمومَ إذا دخلَه التخصيصُ، خرجَ عن كونه موجباً
حُكمَه، فلم يجز الاحتجاجُ به، كالعلَلِ إذا خُصَّت.
فيقالُ: العلةُ لا تبطلُ بالتخصيصِ عندَهم، فهيَ حُجَّة (4)،
وعندنا
__________
(1) في الأصل: "لا".
(2) هذا ردٌ من ابن عقيل على قولى البصري المتقدم في الصفحة
السابقة.
(3) في الأصل: "ما في".
(4) في الأصل: "الحجة".
(4/72)
على أحدِ الوجهينِ، وإنْ سلَّمنا على
الوجهِ الآخَرِ، فإنما لم يجز في العلَلِ، لأنها إنَّما تظهرُ
من جهةِ المستدلِّ، ولا يُعلمُ صحتُها إلا بدليلٍ، ولا شيءَ
يدلّ عليه إلا السلامةُ والجريانُ، وليس كذلك العمومُ، فإنَّه
يظهرُ من جهةِ صاحبِ الشرعِ، فلا يحتاجُ في صحتِه إلى دليلٍ،
فافترقا (1).
ومنها: أن قالوا: إذا دَخَلَه التخصيصُ، صارَ كأنَّه أوردَ
لفظَ العموم، ثمَّ قال: أردتُ به بعضَ ما تناوَله، وما هذا
سبيلُه لا يحتجُّ به فيما أريدَ به، كما نقولُ في قولِه
سبحانه: {إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، فإنه
لا يعلمُ من لفظهِ ما فيه إثم إلا بدليلٍ.
فيقالُ: ليسَ تخصيصُه بمثابةِ قوله: أردتُ به البعضَ، لأنَّ
التخصيصَ يُخرجُ من الجملةِ بعضَها، لكنه بعض معلومٌ، بلفظ
صريح يَبْقَى (2) به ما بقي منها، مثلُ قولي في المرأة التي
قُتِلَت: "ما بالُها قُتِلَت وهي لا تقاتل؟! " (3) بعد أمرِه
بقتل المشركين (4)، فأخرجَ المرأةَ، فالجملةُ الباقيةُ بعد
إخراجِ النِّساء معلومة، وهي من يقع عليه
__________
(1) "التبصرة": 190.
(2) في الأصل: "بقا".
(3) عن عبد الله بن عمرَ: أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
رأى في بعض مغازيه امرأة مقتولة، فأنكر ذلك، ونهى عن قتل
النساء والصبيانِ.
أخرجه مالك في "الموطأ" 2/ 447، وأحمد 2/ 34 و 75 - 76 و115،
والبخاري (3014) و (3015)، ومسلم (1744)، وأبو داود (2668)،
وابن ماجه (2841)، والترمذي 15691)، وابن حبان (135)، والبغوي
(2694).
(4) بقوله تعالى: {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ
فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ...} [التوبة: 5].
(4/73)
اسمُ مشرِكٍ.
فأمَّا قوله: لا تقتلوا لعضَ المشركين، وقوله: {إِنَّ بَعْضَ
الظَّنِّ إِثْمٌ} [الحجرات: 12]، لا يُدرى به أيُ المشركين،
ومَن البعض، ولا يُدرى أيُّ الظنون يتعلق به المأثمُ، فوِزانُه
من العمومِ المخصوص، أنْ نقولَ: الظنُّ كلُّه إثمٌ، ثم نُخرِجُ
بدلالةٍ ظناً مخصوصاً، فتبقى جميعُ الظنونِ ما عدا المُخْرَجَ
يتعلقُ (1) بها الإثم.
فأمَّا شبهةُ البصريَ: فهي أنَّ آيةَ السرقةِ، لا يمكنُ العملُ
بها حتى يَنضمَّ إليها شرائط [لا] (2) ينبىء اللفظُ عنها،
والحاجةُ إلى بيانِ الشرائطِ التي يتمُّ بها الحكمُ، كالحاجةِ
إلى بيانِ الحكم، وقد ثبتَ أنَّ ما يفتقرُ إلى بيانِ حكمِه
مجملٌ، كقوله: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
[البقرة: 43]، فكذلكَ ما يفتقرُ إلى بيانِ شرائطِ الحكمِ.
فيقال: إنَّ هذا باطلٌ بقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ}
[التوبة: 5]، فإنَّه لا يمكنُ العملُ به، حتى تُبينَ شروطُ
استحقاقِ القتلِ للمُشْركِ، من العقلِ، والبلوغِ، والذكورةِ،
وبلوغِ الدعوةِ، ثمَّ لا تُجعلُ الحاجةُ إلى بيانِ ذلكَ،
كالحاجةِ إلى بيانِ المراد بالمجملِ من اللفظِ، ولا يكونُ
قوله: {فَاقْتُلُوا}، مثل قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعام:
141].
فإن قيل: تلكَ الآيةُ إنما افْتَقَرَتْ إلى بيانِ من لم يُرَدْ
بالَآيةِ مِن الصبيانِ والمجانينِ، فحمِلَت في الباقي على
ظاهرِها، وها هنا يُفْتقَرُ إلى بيانِ ما أُريد بالَآيةِ من
شروط القطع، ولهذا اشتغلَ الفقهاءُ بذكرِ شرائط القطعِ دون ما
يُسقط القطعَ، فافترقا.
__________
(1) في الأصل: "لا يتعلق".
(2) ليست في الأصل، وأثبتناها لضرورة صحة السياق.
(4/74)
قيل: لا فرقَ في الموضِعَينِ، فإنَّ آيةَ
السرقةِ، إنما تفتقرُ إلى بيان مَنْ لا يراد، وهو مَنْ سرقَ
دونَ النِّصابِ، أو سرقَ مِن غيرِ حرزٍ، أوكانَ والداً أو
ولداً، وأما ذكرُ الفقهاءِ شرائط القطع، فلا عبرةَ به، لأنَّهم
سلكوا بذلكَ طريقَ الاختصارِ، وإنَّما فعلوا ذلكَ؛ ليعرفَ
بذلكَ مَنْ لا يَجبُ عليه القطعُ، وإنَّما الاعتبارُ بما
يقتضيه اللفظُ، وما أُخرِجَ منه، ومعلوم أنَّ الظاهرَ يقتضي
وجوبَ القطعِ على من سَرَق، والدليلُ دلَّ على إخراج مَنْ ليس
بمراد؛ مِن صبيٍّ، ومجنونٍ، وولدٍ ووالدٍ، وغير ذلك، فصارَ
ذلكَ بمنزلةِ ما ذكرناه من آية القتلِ، التي تقتضي بظاهرها
إيجابَ القتلِ على كلِّ مشرِكٍ، ثم دلَّ الدليل على إخراج مَنْ
ليسَ بمرادٍ بها.
وأمَّا قولُه: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
[البقرة: 43]، فيحتمل أن نقول: إنَّها تتناولُ كلَّ دعاءٍ، إلا
ما يُخرِجُه الدليلُ، ويحتمل أن نقولَ: إنها مجملة، فتفتقرُ
إلى البيانِ.
فعلى هذا: الفرقُ بينهما: أنَّ المرادَ بالصلاةِ لا يصلحُ له
اللفظُ في اللغةِ، ولا يدلُّ عليه، وما يرادُ بالسارق، يصلح له
اللفظ ويعقل [منه] (1)، ألا ترى أنَّه إذا أخرجَ من آية السرقة
مَن لا يرادُ قطعُه، أمكنَ قطعُ مَنْ أريدَ قطعُهُ بظاهرِ
الآيةِ، هاذا أخرجَ من آيةِ الصلاةِ ما ليسَ بمرادٍ، لم يمكنْ
أن يحملَ على المرادِ بالآيةِ، فافترقا.
ومما تعلَّقَ به البصريُّ أيضاً: أنَّ القطعَ يحتاجُ إلى
أوصافٍ سوى السرقةِ من النِّصاب والحرزِ، وغير ذلكَ، فصارَ
بمثابةِ ما لو احتاجَ
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(4/75)
إلى فعلٍ غيرِ السَّرقةِ، ولو [افتقر] (1)
إلى فعلٍ غيرِ السَّرقةِ في إيجاب القطعِ، لم يمكن التعلقُ
بظاهِره، فكذلكَ إذا افتقرَ الى أوصافٍ سوى السرقةِ.
فيقال: هذا باطلٌ بآية القتلِ، فإنَّها تتعلَّقُ بأوصافٍ غيرِ
الشَركِ، كالبلوغِ والعقلِ، ثم لا يصيرُ ذلك بمثابةِ ما لو
احتاج إلى فعلٍ آخرَ في إيجابِ القتلِ، في إجمالِ الَايةِ،
والمنعِ من التعلُّق بها.
ويخالفُ هذا: إذا افتقرَ الحكمُ إلى فعلٍ آخرَ، فإنَّ هناكَ
(2) لو خُلِّينا وظاهرَ الآية (3)، لم يمكن تَقْييدُ (4) شيءٍ
من الأحكامِ به، فافتقرَ أصلُها إلِى البيانِ، وها هنا (5) لو
خُلِّينا والظاهرَ لم نُخْطِىء (6) فيها إلا في ضمِّ (7) ما لم
يُردْ إلى ما أُريدَ باللفظ، فعملنا بالظاهرِ في الباقي (8).
فصلٌ
عمومُ اللفظ إذا قُرِنَ به المدح أو الذمُّ، لم يصِرْ مجملاً،
ويصحُّ الاحتجاج (9) به
وذلك مثل قولِه سبحانه: {وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ
حَافِظُونَ (5)} [المؤمنون: 5]، وكقوله: {وَالَّذِينَ
يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ
__________
(1) زيادة في "شرح اللمع" 2/ 153.
(2) يعني: في آية السرقة.
(3) في الأصل: "الأمر" والمثبت من "التبصرة": 192.
(4) في الأصل: "يتقيد".
(5) يعني في آية القتل.
(6) في الأصل "نحط".
(7) في الأصل: "ضمن".
(8) "شرح اللمع" 2/ 154.
(9) في الأصل: "الاجتهاد".
(4/76)
وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)} [التوبة: 34]، خلافاً
لبعضِ أصحاب الشافعيِّ (1)، وبعضِ الأصوليين: يصَيرُ مجملاً
باقترانِ ذكرِ الذمِّ أو الَمدح (2).
فصل
في أدلتنا
منها: أن صيغةَ العمومِ، قد وُجِدَت، وشملَت الجنسَ الموصوفَ
بحفظِ الفروجِ، وكنزِ الذَّهبِ، والامتناع من إخراجِ الزكاةِ
منه، وليسَ في ذكرِ الوصفين ما يمنعُ كونَها (3) عامَّةً غيرَ
مجملةٍ، لأنَّها تضمنت ذكرَ جماعةٍ وُصِفوا بالبخلِ، وجماعةٍ
وُصِفوا بالعِفَّةِ، وجميعاً يفهم مَعناهما (4) من الصيغة
واللفظِ، كما لو قال: اقتلوا المشركين. ولا فرقَ بين الأمرِ
بقتلِ جماعةٍ موصوفةٍ بالشِّركِ، وبين البشارةِ بالعذابِ
لجماعةٍ موصوفةٍ بالبخلِ بالزكاةِ والمنعِ.
__________
(1) وهو قول مرجوح عند الشافعية، والثابتُ المقرر عندهم أنه
يصحُ الاحتجاج بعموم اللفظ وإن اقترن بذكر المدح أو الذم.
انظر "التبصرة" (193)، والمحلي والبناني على "جمع الجوامع" 1/
422، و"المحصول" 3/ 135، و"الإحكام" 2/ 406.
(2) انظر "التمهيد" 2/ 160، و"المسوَّدة" (133)، و"شرح الكوكب
المنير" 3/ 254.
(3) أي كون الآية عامَّةَ.
(4) في الأصل:"بمعناهما".
(4/77)
ومنها: أنَّ [اقترانِ] الوعيدِ والذَّمِّ
به، لا يجعلُه مجملاً، و (1) لا يمنعُ من الاحتجاجِ به،
كاقترانِ إيجابِ القطعِ بعمومِ (2) السُّراقِ، واقترانِ ذكرِ
الجَلْدِ والرَجْمِ بعمومِ الزناة (3)، بل إنْ لم يكن ذكرُ
العقابِ والثواب والمدحِ والذمِّ مؤكِّداً، لم يكن مُخرِجاً له
عن الاستدلالِ، لأنًّ ربْطه بالمدحِ والذمِّ مؤكِّدٌ للحكمِ
الموجِب للذمِّ والمدحِ، ولأنَّ العقابَ (4) أبلغ من الذمِّ،
ثم إنَّه لو قَرَنَه بإيجاب العقوبةِ، لم يمنع الاحتجاجَ به،
فإذا قَرنَه بالذمِّ، كان أولى أَن لَا يمنع.
فصلٌ
في شبهِهم
قالوا: القصدُ بهذهِ الآياتِ المدحُ والذمُّ على الفعل، دونَ
ما يتعلقُ به الحكمُ من الشرائِط والأوصافِ، فلا يجوزُ
التعلُّقُ بعمومها فيما يستباحُ، وفيما تجبُ فيه الزكاةُ، كما
قلنا في قوله عزَّ وجلَّ: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
[الأنعام: 141]، لمَّا كانَ المقصودُ بها: بيانَ إيجابِ حقٍّ
في الزرع، لم يجز الاحتجاجُ بعمومه في المقدارِ والجنسِ.
فيقال: لا نُسلِّم أنَّ القصدَ فيها الذمُّ والمدحُ دونَ
الحكمِ، بل القصدُ بيانُ تأكيدِ الحكمِ في الإثابةِ على فعلهِ،
والذَّمِّ على تركِه، ولو
__________
(1) في الأصل: "أو".
(2) في الأصل: "لعموم ".
(3) في الأصل "الزنا".
(4) في الأصل: "العتاب".
(4/78)
كانَ القصدُ المدحَ والذمَّ خاصةً، لما كان
لذكرِ حفظِ الفروِجِ، وكنزِ الذهبِ من غير إيفاءِ الحقوق معنى،
ألا ترى أنَّه [لو] قرن بالعموم ذِكر عقوية، أو قرنَ به ذكرَ
جزاء أو مثوبةٍ، لم نَقُل: إنَّه قصدَ نفسَ العقوبةِ، بل قصدَ
بذكرِ العقوبةِ عمومَ الصرفِ عن القبائح، والإبعاد عن الجرائم،
بذكرِ العقوبات الصوارفِ، كذلكَ في الذمِّ وَالمدحِ.
على أنَّه لو كان هذا صحيحاً، وأنَّ ذكرَ [المَدْحِ أو] الذمِّ
يمنعُ كونَ الحكم مقصوداً، لجازَ أن يُقلَبَ، ويقال: إنَّ ذكرَ
الحكمِ يمنعُ كونَ المدحِ [أو الذَّمِّ] مقصوداً، وهذا باطلٌ،
بإجماعنا، فكذلكَ ما قالوه.
فصلٌ
إذا وردَ الأمرُ بالصلاةِ والحجِّ والزكاةِ، بقوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43]،
{وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ} [البقرة: 196]،
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ} [آل عمران: 97]،
فإنَّه قبلَ البيانِ لذلكَ من الشَّرعِ: مجملٌ، وبعدَ البيانِ:
مفسَّرٌ، فلا يُرْجَع إلى الدعاءِ والقصدِ والصدقةِ قبل بيانِ
المرادِ به.
وقالَ بعضُ الشافعيّهِ: هو عام يتناولُ اللغويَّ والشرعيَّ
(1)، فيشملُ كلَّ قصدٍ ودعاءٍ وصدقةٍ، وقال بعضهم: هو مجملٌ
(2).
__________
(1) وهو قولُ القاضي أبي بكر الباقلاني، وتابعه في ذلك أبو نصر
القشيري "الإحكام" 3/ 23.
(2) وهو ما ذهب إليه أكثر الشافعية، وهو ظاهر كلام الإمام أحمد
رحمه الله.
انظر "التبصرة" (198)، و"المستصفى" 1/ 357 - 358، و"البحر
المحيط" 3/ 461، "والعدة" 1/ 143.
(4/79)
فصل
في دلائلنا
فنقول: إنَّ هذه الصيغَ لا تُعرفُ، ولا يُعقلُ معناها من
لفظِها؛ لأن المقصودَ يختلفُ، وكذلكَ الأدعيةُ والزكاةُ،
والأفعالُ المخصوصةُ التي هي المقصودُ بها، لا تعقلُ من هذهِ
الصيغ. |