الواضح في أصول الفقه فصل
فيما تعلق به مَن نصرَ العمومَ
[قالوا]: إنَّ الصلاةَ: الدعاءُ، والحجَّ: القصدُ، والزكاةَ:
الزيادةُ، فوجبَ أن يحملَ على كلِّ دعاء، وكلِّ قصدٍ، وكل
زيادة، إلا ما يخُصه الدَّليلُ، فيكونُ على عمومِه كسائرِ
العموماتِ.
فيقالُ: لا نسلِّم، بل الصلاةُ: أفعالٌ مخصوصةٌ، والحجُّ كذلك،
والزكاةُ: صدقةٌ مخصوصة من مالٍ مخصوصٍ بشروطٍ مخصوصةٍ، فلا
يصحُّ حملُه على العمومِ فيما ليس بمرادٍ به.
على أنَّا وإن علمنا أنَّ الصلاةَ: [الدعاء]، فلا ندري بما
ندعو، وإن علمنا أن الحجَّ: القصدُ، فلا ندري كيفَ نقصِد، فهو
كالحقِّ، ندري أنَّه شيءٌ يُخرَجُ (1)، لكن لمّا لم نعرفْ
جنسَه وقدرَه، كان قولُه: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ}
[الأنعام: 141]، مجملاً، وإن كانَ
__________
(1) في الأصل: "يخرج الحق" بزيادة لفظة: "الحق"، والظاهر
حذفها.
(4/80)
الحقُّ هو اللازمَ الواجبَ في اللغةِ، لكنْ
لمَا جُهِل قدرُه ومصرفُه، كانَ مجملاً (1).
فصلٌ
في النفي إذا علِّقَ في (2) الشيء على صفة، كقولِه عليه
[الصلاةُ و] السلامُ: "لا صلاةَ إلا بفاتحةِ الكتابِ" (2)، "لا
نكاحَ إلا بولي" (3)، "إنما الأعمالُ بالنياتِ، ولكلِّ امرىء
ما نوى" (4)، وأمثالِ ذلكَ من الألفاظِ المستعملَةِ في نفي
أوإِثْباتٍ، أو رفع و (5) إسقاط، حُمِلَ ذلكَ على نفي
الاعتدادِ بالشيءِ بالكليةِ، وعدمِ الإجزاءِ به شرعاً.
__________
(1) "العدة"1/ 143 - 144.
(2) في الأصل: "على".
(2) تقدم تخريجه 2/ 444.
(3) أخرجه من حديث أبي موسى رضي الله عنه: أحمد 4/ 394،
والدارمي 2/ 137، وأبو داود (2085)، والترمذي (1101)، والحاكم
2/ 170، وابن حبان (4076) و (4077) و (4078) و (4083) و
(4090)، والبيهقي 7/ 108.
وسبق تخريج حديث عائشة بلفظ: "لا نكاح إلا بولي، وشاهدي عدل"
3/ 308.
(4) أخرجه من حديث عمرَ بن الخطاب رضي الله عنه: أحمد 1/ 25 و
43، والبخاري (1) و (54) و (2529) و (3898) و (5070) و (6689)
و (6953)، ومسلم (1907)، وأبو داود (2201)، والترمذي (1647)،
والنسائي 1/ 58 - 60 و 6/ 158، والبغوي (1) و (206)، وابن حبان
(388) و (389)، والبيهقي 1/ 41.
(5) في الأصل: "أو".
(4/81)
وقال بعضُ أصحابِ الشافعيّ: لا طريقَ إلى
شيءٍ من ذلكَ إلا بدليل (1)، وهو قول البصريِّ من أصحابِ أبي
حنيفة (2).
فصلٌ
في أدلتِنا
إنَّ هذا اللفظَ موضوعٌ للتأكيدِ في نفي الصفاتِ، ورفعِ
الأحكام، ألا ترى أنَّه يقال: ليسَ في البلدِ سلطانٌ، وليسَ
للنَّاس ناظرٌ، وليس لهم مدبرٌ ينظرُ في أمورِهم، والمرادُ
بذلكَ: نفى الصَفاتِ التي تقعُ بها الكفايةُ، [ومنعُ]
الاعتدادِ بالنَظرِ لهم في الأمورِ السياسيةِ؟ وإذا كان ذلكَ
مقتضاه، وجَبَ إذا استعملَ في عبادةٍ أو غيرِها أنْ يُحْمَلَ
على نفيِ الكفايةِ ومنعِ الاعتدادِ بها.
ومنها: أنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلَّم لا يجوزُ أنْ
يقصِدَ بالنفي أصل الفعلِ الموجودِ مشاهدةً وحسَّاً؛ لمشاركتنا
له في دركِ
__________
(1) نُسِب هذا القول إلى القاضي أبي بكر الباقلاني، وأنه يقول:
بأن النفي المعلَّق على صفة، هو من قبيل المجمل، فلا يحمل على
شيءٍ إلا بدليل.
والراجح عند الشافعية: أن هذه الصيغة تحملُ على منع الاعتداد
بالشيء في الشرع.
انظر "التبصرة" (203)، و"المستصفى" 1/ 351، و"الإحكام" للآمدي
3/ 21.
(2) أما الحنفية، فإنهم يقولون: بأنَ هذه الصيغة تدكُ على عدم
الاعتداد بالمنفيِّ شرعاً.
انظر "أصول السرخسي" 1/ 251.
(4/82)
المحسوساتِ، ولا من طريقِ اللغة، لأنَّ
اللغةَ تتبعُ حقائقَ الموجوداتِ من المسمَّياتِ، فلم يبقَ إلا
أنَّه قصدَ الأحكامَ والصفاتِ الشرعيةَ التي يترتبُ عليها
الإجزاءُ والاعتدادُ.
ومنها: أنَّ قوله: "لا صلاةَ إلا بأمِّ الكتابِ"، متى أثبتنا
"مجزئةً"، فقد ثبتت حسَّاً وقطعاً من طريقِ الصورةِ، فإذا
أثبتناها صحيحةً مجزئةً أيضاً، لم يبق لنفيه صلى اللهُ عليه
وسلَّم حقيقةٌ، وكلُّ قولٍ أبطَلَ ما نفاهُ صاحبُ الشرع، كان
باطلاً، كما أنَّ كلَّ قولٍ أبطلَ ما أثبته، كان باطلاً (1).
فصلٌ
في شبهِهم في ذلك
قالوا: النفي في هذه الألفاظِ لا يجوزُ أن يكونَ راجعاً إلى
نفي المذكورِ من الصلاةِ والنَكاحِ والأعمالِ، فإنَّ ذلكَ
كلَّه موجود حسَّاً وحقيقةً، فلم يبقَ إلا أن يكونَ راجعاً إلى
غيرِه، وذلكَ الغيرُ ليس بمتَّحِدٍ، بل له أعيان عدَّة: الصحةُ
والإجزاءُ، والفضلُ والكمالُ، وليس حملُه على أحدِهما بأولى من
الآخرِ، ولا يجوزُ الحملُ عليهما -يعني الإجزاءَ والفضيلةَ-
لأنَّ حملَه على نفي الفضيلةِ والكمالِ، يقتضي صحةَ الفعلِ،
لأنَّ الفضلَ فرعٌ على الصحةِ، وحملُهَ على نفي الجوازِ يمنعُ
صحةَ الفعلِ.
ولأنَّ الفضيلَة والجوازَ معنيانِ مختلفان، فلا يجوزُ حملُ
اللفظِ
__________
(1) "التبصرة" (204).
(4/83)
الواحدِ على معنيينِ مختلفينِ، فوجَبَ
التوقفُ مع هذهِ الحالِ حتى يردَ البيانُ، ولا يحملُ عليهما
جميعاً، لأنَّه قولٌ بالعمومِ في المضمَراتِ.
فصل
في الجوابِ
وهو أنَّا نقولُ: إنَّ النفيَ راجعٌ إلى نفس العَقدِ
والصَّلاةِ الشرعيينِ، فلا صلاةَ شرعيةٌ، ولا نكاحَ شرعيٌ،
ولاَ عملَ شرعيٌ إلا بالقراءةِ، والوليِّ، والنيةِ.
فإذا قلنا ذلكَ، فقد قلنا بالنفي حقيقةً، واستغنينا عن القولِ
بالعمومِ، بدعوى (1) العمومِ في المضمَرات التي لم يجرِ لها
ذكرٌ إذ (2) لم تذكر صحةٌ ولا فضيلةٌ، و [في]، دعوى العمومِ في
المضمَراتِ تجاذبٌ وتطويلٌ نحن أَغنياء عنه مع هذا القولِ، فلا
نكاحَ شرعيٌّ، ولا صلاةَ شرعيَّهٌ، ولا عملَ شرعيٌّ.
[و] كما صرفنا النفيَ المطلَقَ إلى الأصلِ في قولهم: لا سلطانَ
في البلدِ، ولم نصْرِفه إلى صفةٍ في السلطانِ إلا بدلالةٍ،
كذلك نَصرِفُ هذا بأصلِ الوضع إلى صلاةٍ معتدٍّ بها شرعاً، ولا
نصرِفُه إلى صفَةٍ في الصحةِ، وهي الَفضيلةُ إلا بدلالةٍ.
__________
(1) وقع في الأصل بين قوله: "بالعموم" وقوله: "بدعوى"، زيادة:
"وعاد القول بالعموم"، ويغلب على ظننا أنها مقحمة لا تعلق لها
بالنص؛ بدليل استقامته دونها.
(2) في الأصل: "إذا".
(4/84)
وإن دخلنا على التزامِ الأشدِّ، وهو ردُّ
النفي [إلى] أحكام الصلاةِ والعقدِ والأعمالِ المذكورةِ في
الأخبارِ، وإلى صفاتِها دونَ أصولِها، فَهيَ وإنْ لم تكنْ
مذكورةً، إلا أنَّها معلومة بظاهرِ اللفظِ، ألا ترى أنَّ قولَ
القائلِ: أقَلتُكَ عثرتَكَ، ورفعتُ عنكَ جنايتَكَ، يعقلُ منه:
أحكامُ العثرةِ والجنايةِ، وهي المؤاخذةُ بها، والمقابلةُ
عليها، دون ذاتِها؟ لأنَّ تلكَ انعدمت عَقيبَ وجودِها، ووجَب
عدمُها لانعدامٍ أَعدَمَها (1)، وكذلكَ الأعمالُ كلُّها.
وإذا كانَ هذا معلوماً من جهةِ ظاهرِ اللفظِ، كان بمنزلةِ
المنطوفِ به، وليس كل ما عُدِمَ من صيغةِ اللَّفظِ، لم يكن له
حكمُ اللَّفظِ إذا كانَ معقولاً، بدليلِ الأَوْلى والتنبيه،
فإنَّه ليس بمنطوقٍ به، فإن الضربَ والشتمَ ليس بمنطوقٍ به في
النهي عن التأفيف، وجُعِلَ له حكمُ النطقِ، لمَّا كان معقولاً
من طريق النطق.
وأمَّا قولُهم: إنَّ حملَه على الجميعِ دعوى عمومٍ في
المضمَراتِ، وذلكَ يؤدي إلى التناقضِ، فلا (2) يصحُّ، لأنَّ
ذلكَ لو أدَّى إلى التناقضِ، لوجَب إذا أُخرِجَ من الإضمارِ
إلى الإظهارِ والنطقِ بهِ، أن لايصحَّ، ومعلومٌ أنَّه لو
صَرَّحَ، فقالَ: لا صلاةَ جائزةٌ لا ولا فاضلةٌ إلا بأمِّ
الكتاب، ولا نكاحَ صحيح ولا فاضلٌ إلا بوليٍّ، [لم يكن
متناقضاً]، ولو كانَ متناقضاً، لانْكشَفَ تناقضه لَمّا تطق به،
ألا ترى أنَّ سائرَ المتناقضاتِ، إذا صُرِّحَ بها، انكشفَ
تناقضُها؟ مثلُ قولِ القائلِ: قامَ زيدٌ جالساً، وتكلَّم
صامتاً، وعاش ميتاً.
__________
(1) رسمت في الأصل: "لا نعدم اعدمها".
(2) في الأصل: "لا".
(4/85)
وأمَّا قولُهم: إنَّهما معنيانِ مختلفانِ،
واللَّفظُ الواحدُ لا يرِدُ بهما، لايسلَّمُ، لما بَيّنَا من
قبل (1)، بل يجوزُ أن يتناولَ اللفظُ الواحدُ (2) معنيين
مختلفين.
وقد تَعلَّق بعضُهم علينا فيها: بأنَّ العربَ لا تعرفُ أحكامَ
الأفعالِ، بل صُوَرها، وإنَّما الأحكامُ شرعيةٌ حادثةٌ (3).
فيقالُ: لا يصحُ تجهيلُ القومِ، والدعوى عليهم بذلكَ (4)،
وهُمْ يعرفون للأفعالِ (5) أحكاماً؛ من حيثُ المؤاخذةُ في
الأفعالِ المذمومةِ، والجناياتِ المسخوطةِ، والاعتدادُ
بالأفعالِ المحمودةِ، وإنَّما جاءَ الشرعُ بمؤاخذةٍ من جهةِ
الله [سبحانه]، فالجهةُ التي جاءت بها الشريعةُ هي الزيادةُ،
لا أصلُ الأحكامِ.
ألا ترى أنَّهم قالوا: أقلناك عثْرتَك، واعتددنا لك بخدمتِك،
فإذا قالوا: لا عملَ لزيدٍ، ولا جنايةَ لعمروٍ، أرادوا: لا
عملَ معتدٌّ به، ولا جنايةَ يؤاخذُ بها، لمكان عفونا عنها، فما
(6) تَجدَّد في الشرع سوى إضافةِ الحكمِ إلى الشرعِ، فالإضافةُ
تجدَّدت، لا أصل الحكمِ، فبطل ما ذكروا.
__________
(1) في الصفحة: (65) وما بعدها.
(2) في الأصل: "أحد".
(3) "التبصرة" (206).
(4) في الأصل:"ذلك".
(5) في الأصل:"الأفعال".
(6) في الأصل:"فيما".
(4/86)
فصلٌ
في القول في تأخير البيان
لا يختلفُ العلماءُ: أنَّه لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ عن وقتِ
الحاجةِ، ولا يختلفونَ أيضاً: أنَّه يجوزُ تقديمُه على الفعلِ،
فإنَّه لو أخَّرَ المكلَّفُ الفعلَ إهمالاً وإغفالاً، لم يمنع
ذلكَ من تقديمِ البيانِ على الفعلِ (1) المؤخَّر عن وقتِه.
واختلفوا في جوازِ تأخيرهِ عن وقتِ الخطابِ إلى وقتِ الحاجَةِ،
فاختلفَ أصحابُنا على وجهينِ (2) حسب اختلافِ كلامِ أحمدَ رضي
الله عنه:
فذهبَ ابنُ حامدٍ إلى جوازِ تأخيرِه، وهو ظاهرُ كلامِ أحمد.
وذهبَ أبو بكر عبد العزيز وأبو الحسنِ التميمي إلى المنعِ من
تأخيرِ البيانِ، وقالَ أبو الحسن: لا يختلفُ المسطورُ (3) من
كلامِ أحمدَ، أنَّه لا يجوزُ تأخيرُ البيانِ، ولم يفصِّل
أصحابنا.
وبالأوَّلِ من المذهبين -وهو جوازُ تأخيرِه عن وقتِ النُّطقِ
إلى وقتِ الحاجةِ- قال جمهورُ الفقهاءِ: جماعةٌ من أصحاب
__________
(1) في الأصل: "فعل".
(2) انظر الوجهين في مذهب أحمد في: "العدة" 3/ 725، و"التمهيد"
2/ 295 - 291، و"المسوَّدة" (178 - 179)، و"شرح الكوكب المنير"
3/ 453، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 688.
(3) في الأصل: "السطور".
(4/87)
الشافعيِّ، [منهم:] ابن سريج وأبو سعيد
الإصطخري (1)، وابن أبي هريرة، والطبري، والقفَّال (2).
وقالَ بالمنعِ من التأخيرِ -وهو المذهب الثاني لأصحابه-:
المعتزلةُ، وكثيرٌ من أصحاب أبي حنيفة (3)، وكثيرٌ من أهلِ
الظاهر؛ منهم ابن داودَ، وصارَ إلىَ هذا من أصحاب الشافعيِّ:
أبو إسحاق المروزي، وأبو بكر الصيرفي، ومن قال بقوَلهما.
فهؤلاء المختلفون في الجوازِ والمنعِ على الإطلاق.
واختلف بعضُ أصحاب الشافعيِّ في الجوازِ والمنعِ على التفصيل:
فقال قومٌ منهم: يجوز تأخيرُ بيانِ العمومِ بالتخصيصِ، ولا
يجوزُ تأخيرُ بيانِ المجملِ بالتفسيرِ (4).
__________
(1) هو أبو سعيد الحسن بن أحمد بن يزيد الإصْطَخْريُّ الشافعي،
كان إماماً ورعاً زاهداً، ولِّيَ قضاء قُمَّر وهي مدينة قرب
أصبهان وولِّيَ حسبة بغداد، له تصانيف كثيرة منها "أدب القضاء"
توفيَ (328) هـ وله نيف وثمانون سنة.
انظر "تاريخ بغداد" 7/ 268 - 270، و"طبقات الشافعية" 3/ 21 -
39، و "شذرات الذهب" 2/ 312، و"سير أعلام النبلاء" 15/ 250 -
252.
(2) وهو قول عامة أصحاب الشافعي، وهو المعتمدُ في المذهب،
وهناك أقوال أخرى سيأتي ذكرها.
انظر "البرهان" 1/ 166، و"المستصفى" 1/ 368، و "التبصرة"
(257)، و"الإحكام" للآمدي 3/ 41.
(3) ومذهب الحنفية، كما يبيِّنه الجصَاص: أنه يجوز تأخير بيان
المجمل إلى وقت الحاجة، ويمتنع تأخيره فيما يمكن استعمال حكمه.
انظر "الفصول في الأصول" 2/ 46.
(4) انظر "التبصرة" (208)، و"الإحكام" 3/ 32،
(4/88)
وقالَ قومٌ منهم بالعكس: يجوزُ تأخيرُ بيان
المجمل، ولا يجوزُ تأخيرُ بيانِ العمومِ (1).
وقالَ قومٌ من المتكلِّمينَ: يجوزُ تأخيرُ بيان الأخبارِ دونَ
الأمرِ والنهي.
ومنهم من عكس: فأجازَ تأخيرَ ذلك في الأمرِ والنهي، ولم
يِجوِّز تأخيرَ بيانِ الأخبارِ (2).
فصلٌ
في جمعِ أدلةِ السمعِ (3) على جوازِ ذلكَ على الإطلاق
أمَّا من كتابِ الله تعالى: فقوله (4): {أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ
ثُمَّ فُصِّلَتْ} [هود: 1] وقوله: {فَإِذَا قَرَأْنَاهُ
فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}
[القيامة: 18 - 19]، فوجه الدلالةِ: أنَّه أتى بحرفِ التراخي
والمهلةِ، بعد ذِكرِ الإنزالِ والإحكام، فدلَّ على جوازِ
تأخيرِ بيانهِ، وتراخيه عن إنزاله.
فإن قيل: إنَّما أرادَ بالبيانِ ها هنا: إظهارَه وإعلانَه،
يوضِّح هذا، وأنَّه لم يردِ البيانَ الذي نتكلمُ فيه: أنَّه
قالَ في أوَّلِ الآيةِ: {لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ
لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ}
__________
(1) "الاحكام" 3/ 32.
(2) "التبصرة" (208)، و "التمهيد" 2/ 290.
(3) في الأصل: "للسمع".
(4) في ألاصل: "قوله".
(4/89)
[القيامة: 16 - 17] ولهذا شرطَ ذلكَ في
جميع القرآنِ، وذاك إنَّما هو الإعلانُ والإظهارُ، فأمَّا
بيانُ المجملِ والمغلق (1)، فذاكَ في بعضِه.
قيل: البيانُ: إخراجُ الشيءِ من حيِّز الخفاءِ إلى حيزِ التجلي
والظهورِ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إنَّ من
البيانِ لسحراً" (2)، ووكل البيان إليه، فقال. {وَأَنْزَلْنَا
إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل: 44]، فثبتَ
أنَّ البيان ما ذكرنا.
فإنْ قيل: ما الذي (3) يُصحِّحُ أنَّ البيانَ الذي ضَمِنَه،
وقالَ: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]:
[ليس] هو الحفظَ له، والإعلان بالنُّصرةِ الموجبةِ لإظهارهِ،
بعد أنْ [كان] يُتْلى في البيوتِ، ووراءَ الجدرانِ خوفاً من
قريش؟
قيل: ليسَ بين قولِه: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ} [النحل: 44]
وبينَ قولِه: {ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} [القيامة: 19]
تنافٍ حتى يُحملَ البيانُ على معنيين، فإنَّ قوله: {لتبيِّنَ}
إضافةُ البيانِ إليه تبليغاً وإعلاماً، وقولَه: {ثُمَّ إِنَّ
عَلَيْنَا بَيَانَهُ} هو إضافةُ الإمدادِ بإلهامِ اللهِ لهُ
التأويلاتِ، والإلقاءِ في رُوعهِ معاني التلاواتِ، ألا ترى إلى
قوله: {سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى} [الأعلى: 6]، {إِنَّا
نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ}
[الحجر: 9]؟ والحفظُ المضافُ إلى اللهِ سبحانَه إنَّما هو أحدُ
أمرين: إمَّا إثباتُ القرآن في قلبهِ، بحيثُ لا يتطرقُ إليه
ذهابُه عن قلبهِ بنسيانٍ، ولا ذهولٍ.
__________
(1) في الأصل: "المعلن".
(2) تقدم تخريجه 1/ 185.
(3) في الأصل: "فالذي".
(4/90)
أو حفظُه من التبديلِ والتغييرِ، الذي
تطرَّقَ على غيرِه من الكتبِ، كالتوراةِ والإنجيلِ.
ومن ذلكَ: قولُه تعالى: {قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ
هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ}
[العنكبوت: 31]، فقال إبراهيمُ قولَ من اعتقدَ أنَّ لوطاً
وأهلَه مُهلَكين أيضاً: {إِنَّ فِيهَا لُوطًا} [العنكبوت: 32]
فقال الملكُ: {قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا
لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ} [العنكبوت:
132] وهذا بيان تأخَّرَ عن خطابٍ، فقد بانَ [بُطلانُ] (1)
دعواهم إحالتَه.
ومنها أيضاً: قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ
تَذْبَحُوا بَقَرَةً} [البقرة: 67]، فلما سألوا عن حقيقةِ ما
أمرَهم بذبحِه من البقرِ، بيَّنَ ذلكَ بعد الخطاب بياناً كشفَ
عن أنَّه أرادَ به البقرةَ الجامعةَ للصفاتِ المذكورةِ، وهذاَ
بيان بعد خطابٍ متأخِّرٌ عنه.
ومن ذلك: قوله تعالى في قصة نوح: {فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ
زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ} [المؤمنون: 27]، وقولُ نوحٍ
لمَّا رأى ولده يغرقُ: {إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ
وَعْدَكَ الْحَقُّ} [هود: 45]، فبيَّن له بقوله: {إِنَّهُ
لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ} [هود: 46]، الذينَ أمرناكَ باستصحابهِم
في السفينةِ، {إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ} [هود: 46]
فأخَّر بيانَ اشتراطِ العملِ الصالح مع الأهليةِ، عن أمرِه له
بأن يَسلُكَ فيها من كلٍّ زوجينِ اثنينِ وأهلَهَ.
فإن قيل: إنَّ اللهَ سبحانَه لا يخلُّ بالبيانِ عن نفس
الخطابِ، ولا أخلَّ به، إنَّما يُدْهَى المكلفون في ذلكَ من
قِبَلِ إهمالِهم التأملَ
__________
(1) زيادة يقتضيها السياق.
(4/91)
والنظرَ في معاني كلام الله، وما أودَعه من
البيانِ، فإن اللهَ سبحانَه لَما قالَ له: {وأهلكَ}، عقَبه
بالاستثناءِ فقال: {إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ
مِنْهُمْ} [المؤمنون: 27] ثم عقَّب ذلك بأظهرَ منه بياناً،
فقال: {وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ
مُغْرَقُونَ} [المؤمنون: 27]، وابنُه كان ممَّن كفرَ، وكان
ظالماً، فقد أخرَجه من جملةِ الأهلِ بالاستثثاءِ، والنَّهْي عن
الخطاب فيه، ولولا ذاكَ، لما قال له: {إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَهْلِكَ} [هود: 46،]، وإنما نفى الأهليةَ عنه التي أَمَرَه
بأن يسلكَها السفينةَ.
وكذلكَ قال للوط: {فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ
اللَّيْلِ} الى قوله: {إِلَّا امْرَأَتَكَ} [هود: 81] إلى
قوله: فما زالَ سبحانَه يستثني ويبيِّنُ لهم، وينسيهم
ويُذهلُهم عن الفهمِ محبةُ الأهل، وفرطُ الإشفاقِ، فيؤتَونَ من
قِبَلِ نفوسِهم في ذلكَ، لا لأنَّ الكلامَ يفتقرُ إلى بيان
يتأخرُ عنه، وبمثلِ هذا ذَهَلَ أهلُ الإلحاد المبطلينَ
لمناقضةِ القرآنِ، عن معنى قوله عزَّ وجلَّ لآدمَ عليه السلام:
{إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى} [طه: 118]،
وقوله: {فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [طه: 121] , {فَلَمَّا
ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا} [الأعراف:
22]، فعَرِيَ مع وعدِه بأنْ لا يَعْرَى فيها، وجهلوا ما طُويَ
في الوعدِ من الشرطِ، وهو قوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ
الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا
وَلَا تَعْرَى} [طه: 118] فكانَ المفهومُ من الشرطِ: أن لا
يقربَ الشجرةَ، فلا (1) يجوع ولا يعرى، فلمَّا تركَ ما شُرِطَ
عليه، سقطَ ما شُرِطَ له. وكلُّ ما أخرجَه البيانُ، وجَبَ
عليهم
__________
(1) في الأصل: "لا".
(4/92)
إخراجُه بالتأويلِ فيه، فمن أهمل التأويلَ
فيه (1) دُهِيَ (2) من قِبَلِ نفسِه، لا مِن قبل النطق.
قيل: إنَّ اللهَ سبحانَه لم يُعلِّق الحكمَ -وهو تغريقُ ابنِه-
إلاَّ على بيانِ أنَّه عملٌ غير صالح، وأنَّه ليسَ من أهلِه
الذينَ أرادهم بقوله: {وَأَهْلَكَ} ولو سبقَ البيانُ، لكانَ
التوبيخُ على التقدِمةِ، ألا ترى أنَّه سبحانَه وبَّخ آدمَ
وحواءَ على مخالفةِ التقدِمة؟ فقال: {وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا
أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ
لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ}
[الأعراف: 22] ولم يقل هنا: يا نوحُ، ألمِ أقل: وأهلكَ، إلا من
ظلمَ وكفرَ؟ فعُلِمَ أنَّه قد كانَ الاستثناءُ متردِّداَ بين
(3) عودِه إلى الكلام الآخرِ والجملةِ الآخِرةِ، وبينَ عودِه
إلى: {مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ} [هود: 40]، فبيَّن له بياناً (4)
مبتدأ، ولو عوَّل على الأوَّلِ في البيان، لوبَّخه على
المراجعة والمعاودةِ، بعد تقدِمَةِ البيانِ، كما وبَّخ آَدمَ
وحواء؛ حيثُ قدَّمَ لهما البيانَ، فعمِلا بخلافِه.
ومن ذلكَ: قولُه تعالى: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ
دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ}
[الأنبياء: 98]، فإنَّها لمَّا نزلتْ نَاقَضَتْهُ اليهودُ بها،
وقالَ ابنُ الزِّبَعْرَى: لأخصِمنَّ محمداً، ثمَّ قال: إنَّ
الملائكةَ وعيسى قد عُبِدوا، فوقفَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم
عن
__________
(1) في الأصل: "لله سبحانه".
(2) تحرفت في الأصل إلى:"وهي"، وكتبت بعد قوله: "نفسه"، وآثرنا
إثباتها هنا؛ لأنه أوفق للسياق.
(3) في الأصل: "عن".
(4) في الأصل: "با ببا".
(4/93)
الجوابِ، إلى أن نزلَ البيانُ بقولهِ:
{إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ
عَنْهَا مُبْعَدُونَ} (1) [الأنبياء: 101] فهذا بيانٌ تأخَّر
عن خطابٍ.
فإن قيل: هذا ليسَ مِمَّا نحنُ فيه بشيءٍ، ولا حجةَ فيه؛ لأنَّ
اللهَ سبحانَه قد أدرجَ (2) فيه دفعَ ما تعلَّقوا به، فإنَّه
قال: (ما)، و (ما) لما لا يعقلُ، وعيسى والملائكةُ وعُزيرٌ
يَعقِلون، ولم يقل: إنكم ومن.
الثاني: أنَّه قد بانَ أنَّهم اعتقدوا المناقضةَ، فقد كانت
الحاجةُ داعيةً إلى بيانٍ يُزيل عنهم شبهةَ المناقضةِ، وليسَ
حاجةُ المكلَّفين إلى العملِ (3) بالأمر المُجْمَلِ والعامِّ،
بأوفى من حاجتهم إلى اعتقادِ اتفاقِ الآي وملاءَمَتِه، وتصديقِ
بعضِه لبعضٍ، ونفي المناقضةِ عنه، وقد اتفقنا جميعاً على أنَّ
تأَخُّرَ البيانِ عن وقتِ الحاجةِ لا يجوزُ، فلم يبقَ إلا أنَّ
اللهَ سبحانَه قد بَيَّنَ في الآيةِ ما مَنعَ إيرادَ هذه
الشبهةِ، وليس إلا قوِلهُ: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ}
[الأنبياء: 98]، ولم يقل: ومَنْ تَعْبُدون.
قيل: لَوْ كان الأمْرُ كذلك، لاحتجَّ البارىء به، ووبَّخهم على
اعتقادِ (4) المناقضةِ فيما لا يُوجبُها، فلمّا عَدَل إلى قول
يُوجِبُ التَّخصِيصَ، علم أنَّه لم يعتمدَ على مقتضى (ما)؛
ولأنَّهُ قد قال سبحانه: {وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا}
[الشمس: 5]، وأراد به: ومَنْ بَناها.
__________
(1) تقدم تخريجه 3/ 315.
(2) في الأصل: "درج".
(3) في الأصل: "الأعمال".
(4) في الأصل: "اعتماد".
(4/94)
ومن ذلك: أنَّ الله سبحانه أوجب الصَّلواتِ
الخمس، ولم يُبَيِّن أوقاتها، ولا أفعالها، حتّى نزلَ جبريلُ
عليه السلام، فبيَّن للنَّبي صلى الله عليه وسلم وقتَ كل
صلاةٍ، أوَّلَهُ وآخِرَه (1)، وبيّنَ النبيُّ صلى الله عليه
وسلم للناس، وقال للسّائل عن الصلوات: "صَلِّ مَعَنَا" (2)،
وقال لأصحابه: "صلّوا كما رَأيْتُموني أُصلِّي" (3)، وعلى ذلك
أَمَرَ النّاسَ بالحجِّ، وأخذَ النّاسُ عنه (4) المناسك التي
بيّنها ووقَّتها، وقال: "خُذوا عَنِّي مناسكَكُم " (5)، ولو لم
يَجُزِ التأخيرُ عن وقت الخطاب، لما أَخَّرهُ (6).
ومنها: قوله تعالى: {وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ
شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي
الْقُرْبَى} [الأنفال: 41]، كان ذلك يُعطي: جميعَ القرابة من
بني نوفل وبني عَبْدِ شمس، فلمَّا جاء عثمانُ وجُبَيْرُ بن
مُطعِم، وقالا ما قالا مِنْ أنَّه حَرَمَهُم [و] قَرابتُهم
سواء، قال النبي
__________
(1) حديث تعليم جبريل عليه السلام الصَّلاة للنبي صلى الله
عليه وسلم ورد بصيغ عديدة عن جمع من الصحابة، وأصح رواية له
رواية جابر بن عبد الله رضي الله عنه: أخرجها أحمد 3/ 330،
والترمذي (150)، والنسائي 1/ 263.
قال الترمذي: وفي الباب عن أبي هريرة، وبريدة، وأبي موسى، وأبي
مسعدة الأنصاري، وأبي سعيد، وعمرو بن حزم، والبراء، وأنس.
وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب. ثم قال: وقال محمد -هو
البخاري-: أصح شيء في المواقيت حديث جابر عن النبي صلى الله
عليه وسلَّم.
(2) تقدم تخريجه 1/ 194.
(3) تقدم تخريجه 2/ 440.
(4) في الأصل: "به على".
(5) تقدم تخريجه 1/ 194.
(6) في الأصل: "أخبره".
(4/95)
صلى الله عليه وسلم: "إنَّ بني هاشم وبني
المطَّلب لم يفارِقُونا في جاهليةٍ، ولا إسلام" (1)، وأراد به:
كونَهم معه في الشِّعْبِ حيثُ هَجَرَتْهُمْ قريشٌ، وهذا بيان
منه لعثمانَ وجبيرِ بن مطعم بعد خطابٍ كان يَقتضي عمومَ
القرابةِ المتساوية.
فصل
في الأدلة المُستنبطة
فمنها: أن البَيَانَ إنَّما يُرادُ لِصحَّةِ إيقاعِ الفِعْلِ
مِن المكلَّفِ، وما كان بهذه المثابةِ لا يجب تَقديمُهُ على
وقتِ الحاجةِ، بَلْ يَجوزُ تأخيرُه إلى وَقْتِ الحاجةِ إلى
إيقاعِ الفعلِ، وذلك مثل (2) القدرةِ المُصَحِّحَةِ للفعلِ،
والآلةِ (3) المستعملةِ فيه، لأنه لا حاجةَ به إليهما قبل وقتِ
الحاجةِ، كذلِكَ البيانُ لا يُحْتَاجُ إليه سَلَفاً قبلَ
الحاجةِ (4).
فإن قيل: تأخِيرُ القُدْرة والآلةِ لا يُوجِب جَهْلاً، وهذا
يوجِبُ جَهْلاً، لأنَّه إذا قيل له: {فاقْتُلُوا المُشرِكينَ}
[التوبة: 5] اعتقدَ وجوبَ قتل كُلِّ مُشْرِك، فإذا جاءَ
التَّخْصِيصُ بَعْدَ ذلِكَ؛ بإخْرَاجِ أهْل الكِتَابِ إذا
أدَّوا الجِزْية، والصِّبْيَانِ، والمَجَانِينِ، بَانَ
اعْتِقَادُهُ لإيجَابِ
__________
(1) أخرجه أحمد 4/ 81 و 83 و 85، والبخاري (3140) و (3502)، و
(4229)، وأبو داود (2978) و (2980)، والنسائي 7/ 130، وابن
ماجه (2881) من حديث جبير بن المطعم بن عدي رضي الله عنه.
(2) في الأصل: "هو".
(3) في الأصل:"الاولة"
(4) "العدة" 3/ 728.
(4/96)
قَتْلِ الجَميعِ جَهْلاً.
وكذلك إذا قالَ: {وآتوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام:
141]، لَعَمَّ (1) الجهلُ بالحق كل امرىء، فَلاَ نَدْرِي مَا
الحق؛ فَكَانَت الحَاجَةُ إلى البَيَانِ دَاعيةً لنفْي هذا
الجَهْلِ، إذِ الجهلُ قبيحٌ، والتَّعْريضُ بالقَبيحِ قبيحٌ.
فذلِكَ الذي أغْنى عَنْ تَقْدِيم القُدْرَةِ والآلَةِ،
وَأحْوَجَ إلى تقديمِ البَيَانِ عَن وَقْتِ الفِعْلِ.
قيل: مَنْ آداهُ اللهُ عَقْلاً صَالحاً للتكليف، وعَرفَ ما
قَدِ استقرَّ في لُغَةِ العَرَب مِنَ التَّخْصِيص الدَّاخِلِ
على العُمُومِ، والتَّفْسِيرِ الوارِدِ بعْدَ الإجْمَال، لاَ
يُبَادِرُ باعْتِقَادِ الجَهْلِ؛ لمُبَادَرَةِ (2) الأمْرِ
بالعُمُوم والمُجْمَل، بَلْ يَعْتَقِدُ أنَّهُ عَلَى العُمُومِ
مَا لَم يَرِدْ دَليلُ تخصيصٍ، فإن مَنَعْتُمْ من تأخيرِ
البيانِ عن الخطابِ إلى وَقْتِ الحَاجَةِ، أو، جَوَّزْتُم مَعَ
هذه الحَالِ الجَهْلَ على مَنْ أُزيحَتْ عِلَتُهُ؛ بمعرفةِ
اللغة، وصحةِ الخلق، وصحة العقل، فامْنَعُوا مِن تأخيرِ
القدرةِ والآلةِ، لتجويزِ جهلِ المكلّفِ؛ بظنِّهِ أنَّه قد
كُلِّف ما لا يُطاق، حيث قُدِّمُ الأمرُ له مع إفلاسه حِينَ
أُمِرَ من القدرةِ والآلةِ، ولَمَّا لم يُوجبْ ذلكَ اعتقادَ
الجهل فيما قَرَّرْنا مِن أنَّه يَعْتَقِدُ العمومَ ما (3) لم
تردْ دَلالةُ التخصيصِ، لم (4) يحتج أن يُقال له: افْعَل ما لم
تَعجَز، وأوجب عَليكُم ما دُمتم
__________
(1) في الأصل: "تعين".
(2) في الأصل: "مبادرة".
(3) في الأصل: "مما".
(4) في الأصل: "ولم".
(4/97)
أحياءً، لَمَّا كانَ ذلك معلوماً، بدليل
أنَّهُ أرادَ (1) ذلِكَ، كذلك لا يحتاج أنْ يقالَ للمكلَّفِ:
ما لَمْ أَنْسَخ (2)، لعلمِهِ بالدليل أنّه كذلك.
ولأنَّه قد يردُ الخطابُ باسم حقيقةٍ في شيءٍ، يعتقِدُ
المكلَّفُ الحقيقةَ بأصْلِ الوضعِ، فتقومُ دلالةٌ على أنَّه
أرادَ المجاز، ولا يقال: إنه عَرَّضَ المكلفَ للتكذيبِ (3)،
وكلامَهُ للكذب، لمَّا كانت عادة العرب ذلك.
والمعراجُ -مناماً أو يقظةً (4) - أوحى اللهُ إليه، أو
كافَحَهُ (5) مكالمةً بفرضِ خمسينَ صلاةً، ولم يُطلعه على ما
ينتهي إليه الأمر، أَتراهُ عَرَضَهُ للجهل حيثُ كان مُرادُهُ
خمساً، لِمَا انتهى إليه من النسخ؟
على أنَّا نقابل ما ذكرتَ من حصولِ الجهل بما يُوفي على ذلك من
النفع، وهو أنَّ اللهَ سبحانه إذا خاطبَ المكلفَ بإيتاء الحق،
تلقَّى أمرَهُ باعتقادِ إيجابِ الحق، ويوطَنُ نفسَه على أداءِ
أيَ حقٍّ بيَّنه وفسَّرهُ به، قَلَّ أو كَثُرَ، فحصلَ له في
ذلك جزيلُ الثواب بما اعتقدَه
__________
(1) في الأصل: "إذا أراد"، ولا وجه لإثبات "إذا"، فلعلها مقحمة
في النص، لذا حذفتها.
(2) هذه الجملة موضعها في الأصل قبل قوله: "لا يحتاج"، وأثبتها
هنا دفعاً للبس والغموض في عبارة الأصل.
(3) في الأصل: "التكذيب".
(4) الثابت أن المعراج كان يقظة، وأنه عُرج بالنبي - صلى الله
عليه وسلم - بشخصِه في اليقظة
إلى السماء. "شرح العقيدة الطحاوية" (270) وما بعدها
(5) أي: واجَههُ وكلَّمه دون واسطة.
(4/98)
وأضمرَه، فإذا جاء تفسيرُ ذلك بأنَّه
العُشْرُ أو رُبع العُشْرِ، أو مقدارٌ (1) ما، سارع إلى
الإيتاءِ بسهولةٍ وطِيبِ نفس، لِمَا كانَ جَوَّزَه من تفسير
ذلك بالنصفِ أو الثُّلثين، فحازَ بذلك ثوابَ الإضمارِ الأول،
واعتقاد الطَّاعةِ فيما كَثُرَ، وسَهُلَ عليه من التكليفِ في
تفسيره بالقَدْر الناقصِ عمَّا كان التزَمَه، وهاتان المصلحتان
تغطِّيان على الجهل الذي لا يضرُّ مثلُه في التكليف.
وهل التكليف إلا بين أمرين: تجهيلٍ، وتعريفٍ؟ وكم جهَّل ثم
كَشفَ، وجهَّلَ وأدام التجهيلَ، فلم يَكْشِفْ، فمن الآيات ما
كشفها، وهي النصوص، ومن الآياتِ ما كتمَ مرادَه منها، وهي
المتشابهاتُ التي لا يعلم تأويلها إلا اللهُ، وأكثَرُ أهْلِ
العلم باللغة والأصول على ذلك، وجهَّلنا بحقائق (2) أشياء
عَلَّمَناها جُملةً، وجهَّلنا بحقائقها تفصيلاً، وكَلَّفَنا
(3) اعتقاد تأبيد العملِ، وكَشَفَ عن مراده بالمدةِ حين جاءنا
بنسخِ ما كان شرعَ، وكتمنا الآجالَ والأرواحَ، ومتى الساعةُ،
وردَّ السؤالَ عن ذلك، فقال سبحانه: {يَسْأَلُونَكَ عَنِ
السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا
عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ}
[الأعراف: 187] {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ
مِنْ أَمْرِ رَبِّي} [الإسراء: 85]، {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ
مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} [لقمان: 34] , لَمَّا لم يكن بنا حاجةٌ
إلى معرفةِ ذلك، كذلك الجهلُ ها هنا قبل الحاجةِ، جهلٌ بما لا
حاجةَ بنا إليه.
__________
(1) في الأصل: "مقداراً".
(2) في الأصل: "لحقائق".
(3) في الأصل: "فكلفنا".
(4/99)
ومنها: أن تُبنى المسألةُ على أصلٍ، وهو
(1) أنَّ الأمر يتناول المعدومَ ليُوجَدَ في الثاني، وعَدَمُ
المخاطَبِ رأساً أَوْكَدُ من عدَمِ فهمِه للخطاب، وقد
دلَّلْنَا على ذلك الأصل، واستوفينا بيان الحججِ فيه (2)، فكان
دليلاً على هذا المذهب من طريق الأَوْلى، لأنه إذا ثبت جواز
خطابِ المعدوم ليُوجدَه، فأحرى أن يَجُوزَ خطابُ الموجود بما
لا يفهمُه في الحال، ليُبَيِّنهَ له في الثاني ويُفْهِمَه، وقد
وافَقَنَا في هذا الأصلِ جماعةٌ ممن خالَفنَا في هذه المسألةِ،
فهو حجة عليهم.
ونسوق الدلالةَ على الأصلِ في حقِّ مَن خالفنا.
ومنها: أن النسخَ تخصيصُ الأزمانِ، وهو أنَّه بيَّنَ أنَّ
المرادَ بالأَمْر وقوعُ المأمورِ به في وقتٍ تقْصُرُ عن
الدوامِ، كما أنَّ العمومَ يكشفُ عن أنَّ المرادَ به بعضُ
الأعيانِ، دونَ استيعابِ جنس الأعيانِ، ثمَّ إنَّه جاز تأخيرُ
بيانِ النسخِ عن وقتِ الخطابِ إلى وَقتَ الحاجةِ في العملِ
بالنَّسخ، وهِجْرانُ المنسوخِ بعد اعتقادِ التأبيدِ، وأنَّه
مصلحةٌ على الإطلاق، وحَسَنٌ على الدوام، ثم بَانَ بالنسخِ
أنَّه ليس بحسنٍ، ولا مصلحةٍ في جميعِ الزمان، كذلك التخصيصُ،
ولا فرقَ بَينَهما.
فإن قيل: لا يُسَلَّمُ، بل لا بُدَّ من نوع إشعارٍ، يَشْهَدُ
لذلك قولُه تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي
السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة:
144].
قيل: هذا لا يصح لوجوهٍ:
أَحَدُها: أنَّه بمثل هذا لا يكون إعلاماً بالوقتِ الذي ينقل
عنه.
__________
(1) في الأصل: "و".
(2) انظر ما تقدم في 3/ 177 وما بعدها.
(4/100)
والثاني: أنَّ هذا يَحتاجُ إلى نقلٍ، ولا
يمكنُكُم الظَّفرُ بآيةٍ تُتلى، ولاسُنَّةٍ تُروى في ذلك،
وقوله: {فَلَنُوَلِّيَنَّك} [البقرة: 144] ورَد مع قولِه:
{فولِّ وَجْهَك} [البقرة: 144]، ولا يمكنكُم نقلُ تاريخٍ بين
الإشعار والأمرِ المقتضي للنسخ.
على أن الإشعارَ بالَّنسخ بيانُ غايةِ الحكم، ودْلكَ لا
يُعَدُّ نسخاً، بدليلِ قولِه: {ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ
إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187]، وقوله: {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا
حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ
الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187]، وقوله:
{فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا
تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]، فهذا لما
أبان فيه عن الغايةِ والعاقبةِ، لم يُعَد نسخاً، فكان اشتراطُ
الإشعارِ إحالةً للنسخِ، وخروجاً عن الإجماع.
ولأنَّ تقديمَ الإشعارِ يُسْقِطُ جمهورَ التعبُّدِ، وذلك أنه
لَما كلَّفَهم أن يلقى الواحد من المسلمين عشرةً من المشركين،
فقال (1): {إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ
يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ
يَغْلِبُوا أَلْفًا} [الأنفال: 65]، كان ذلك مع كتم التخفيف
بالنسخ إلى لقاء الواحد للاثنين، أثقلَ وأعظَم على النفوس، ثم
لما جاءَ التخفيفُ بعد ذلك، كان أشد وقعاً في القلوب مسرةً
وابتهاجاً بالرخصةِ، والكتمُ في الأول أَجلب للثوابِ؛ لأنَّه
إنَّما يقعُ على قَدْرٍ العَناءِ، قال النبي - صلى الله عليه
وسلم - لعائشة رضي الله عنها: "ثوابُكِ على قدْرِ مشقتك (2) "
(3).
فإن قيل: تأخيرُ بيانِ النسخ لا يُفْضِي إلى الإخلالِ بصحةِ
الأداءِ
__________
(1) في الأصل: "قال".
(2) كتب فوقها في الأصل: "نصبك".
(3) تقدم تخريجه 1/ 254.
(4/101)
فيما مضى، بخلاف العمومِ والمجملِ، فإنه
يُخِلُّ بصحةِ الأداءِ؛ لأنه ليس يُؤَخَّر عن وقت الحاجةِ إلى
الأداء.
[قيل:] لا (1) اختلال ولا إخلالَ بالصحةِ، بل يتأدى الفِعلُ
بالبيانِ عند الحاجةِ إليه بحسب المراد.
فإن قيل: قد منعَ بعضُ المتأخرينَ النسخَ إلا على وجهٍ، وهو أن
يقول: صلوا إلى بيتِ المقدس ما لم أنسخِ القبلةَ، فأمَّا على
الإطلاق، فلا يجوزُ عندي، لأنه يؤدي إلى البَداء (2).
قيل: هذا اعتبارُ ما لا يحتاجُ إليه، لأن الدليلَ قد دَلَّ على
أنَّ المرادَ بالإطلاق هذا التقييدُ عند كل مَن قال بجواز
النسخ، ومثلُهُ العمومُ، التقديرُ فيه: اقتلوا المشركينَ ما لم
أَخُصَّ بعضَهم بالمنعِ مِن القتلِ.
على أنه لو صَرَّحَ بقوله: ما لم أنسخ، لم يكن مزيداً على
تجويزِ النسخ، لأنه لا يعطي قوله: ما لم أنسخ: أني سأنسخ، ألا
ترى إلى قوله: {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى
يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ
سَبِيلًا} [النساء: 15]، لا يعطي: وجوبَ جَعْلِ السبيلِ، بل
كان يجوزُ أن يَجْعَلَ لهن السبيلَ، وكان يجوز أن لا يجعلَ؛
فالتقييد (3)
__________
(1) في الأصل: "فلا".
(2) نسب ابن النجار في "شرح الكوكب المنير" 3/ 540 هذا القول
إلى جمع من المتكلمين والحنفية، ونسبه أبو يعلى لابن الدقاق.
"العدة" 3/ 729.
وانظر تعريف البداء في 3/ 134.
(3) في الأصل: "بالتقييد".
(4/102)
بقوله ذلك وعدمُه سواء، إِذ (1) كان
التجويزُ حاصلاً في الحالين جميعاً، وإبهامُ العاقبةِ أصلحُ في
التعبُّدِ، وأصلحُ في الابتلاءِ، فإنه لو قيل لإبراهيم الخليل:
خذ واحِدَكَ والمُدْيَةَ والحبلَ واذبحْهُ، إلا أن يُنْسَخَ
ذبحه إلى ذبح كبشٍ يكون فداءً له، لانحطَّت رتبةُ البلوى عن
قَدْرِها، إذا كانت العاقبةُ مبهمةً، وهو إلى الخوف أقرَبُ
[منه] إلى الرجاءِ، ولهذا لما هَوَّنَ على يُوسُفَ في الجُبِّ
بالوحي إليه: {لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ
لَا يَشْعُرُونَ} [يوسف: 15]، كانتْ محنتُهُ في تقلبِ
أحوالِهِ، أهونَ من محنةِ أبيه يعقوبَ، حيث أُبهمتْ عنه
العاقبةُ، ولم يُوحَ إليه في شأنِ يوسفَ بشيءٍ في عاقبة أمرِه
ومآلِهِ، يُريحه (2) في الحال، بل تركه على عِظَمِ البَلْوى مع
إبهامِ العاقبةِ.
على أنَّ هذا اشتراطُ تقييدٍ في التكليفِ لا يُحْظَى فيه
بِنَقْلٍ، ووَضْعُ الشروط بالرأي لا يلتفت إليه.
وما (3) الفرق بين قوله هذا، وبين قوله: أنا أشترِطُ أنْ
يَعْلَمَ المكلفُ متى يُنْسَخُ، فلا بُدَّ من تحقيقِ زمانِ
التكليفِ، وبيانِ مقدارِه (4)؛ بالإطْلاع له على مقدارِ مدةِ
الحكمِ؟
فإن قيل: فالنسخُ يخالفُ تخصيصَ العمومِ، لأنه لو قال: اقتلوا
المشركين كلهم قاطبةً أجمعينَ أكتعينَ، حَسُنَ أن يبهم العاقبة
فيه إلى أن تردَ دلالةُ التخصيصِ، ولو قال: تمسكوا بالسبت
أبداً، صَلوا إلى
__________
(1) في الأصل: "إذا".
(2) في الأصل: "وبماله يروحه".
(3) في الأصل: "وأما".
(4) في الأصل: "مقدارها".
(4/103)
بيت المقدس أبداً سرمداً، لم يجز النسخ،
وعاد النسخ بداءً ولهذا تسكع (1) ابن الراوندي (2) لليهود في
لفظةِ التأبيدِ، وأخذ منهم قدراً من المال علي ما حكاهُ لنا
المشايخُ الأصوليون (3). قال: وإذا كان كذلك، وجب الإشعارُ
بالنسخ.
قيل: لا نسلِّم أن التأكيد بذكر التأبيد يؤَثِّرُ منعاً (4)
للنَّسخ بل يُبَيَّنُ بالنسخِ بعد ذلك أنه أراد أبداً من
الآباد، كما قال للكفار: {فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ
كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا}
[البقرة: 94 - 95] وأخبرَ سبحانه عن تمنيهِمُ الموتَ في النار،
وأنهم يقولون: {يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ}
[الزخرف: 77] أي: لِيُمِتْنا (5)، فبانَ بذلك أنَّه أرادَ
بالأبدِ: مُدَّتَهم في الدنيا، ومبلغَ أعمارِهم.
ومنها: أنَّ القولَ بتأخيرِ البيانِ عن الخطابِ إلى حين
الحاجةِ، لا يوجبُ مُحَالاً في العقلِ، من إفساد دلالةٍ، أو
قلبِ حَقيقيةٍ، أو إخراجِ بعض الأمورِ عما هو به، أو إلحاقِ
وصفٍ بالقديم (6) المتعبَّد
__________
(1) التسكع: التمادي في الباطل.
(2) هو أبو الحسين أحمد بن يحيى بن إسحاق الراوندي أو ابن
الراوندي.
فيلسوف مجاهر بالإلحاد من سكان بغداد. قال الحافظ ابن حجر:
الزنديق الشهير، كان أولاً من متكلمي المعتزلة، ثم تزندق
واشتهر بالإلحاد. صنف كتاب "الزمردة" و"الدامغ" وحشاهما
بالإلحاد والزندقة والطعن في النبوات والتشكيك في القران، هلك
سنة 298 هـ: "وفيات الأعيان" 1/ 27، و"البداية والنهاية" 11/
112، و"سير أعلام النبلاء" 14/ 59، و"لسان الميزان" 1/ 323،
و"الأعلام" 1/ 268.
(3) انظر "العدة" 3/ 777 - 779.
(4) غير واضحة في الأصل.
(5) في الأصل: "ليميتنا".
(6) القديم ليس من أسماء الله الحسنى، إنما هو من التسميات
التي جرت =
(4/104)
جَلَّ ذكرُه مما لا يجوزُ عليه، أو إفسادِ
الخطابِ والتكليفِ، وإذا كان ذلك كذلك، ولم يرِد سمعٌ من جهة
الله سبحانه بالمنع من ذلك، لم يكن لإحالته والمنع منه معنى،
مع عدم إحالةِ العقل له (1).
فإن أعادوا ما قدموا؛ من أن فيه تجهيلَ المكلفِ، فقد سبق
الكلامُ عليه.
ومنها: الدلالة على مَنْ منعَ ذلك في الخبر بقوله تعالى:
{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ} [يونس: 13]
وشُرِحَ: قَرناً (2) بعد قرن، فلو أنَّه سبحانه قال: فاحذروا
عقابي إن خالفتم أمري، فإنني عاقبتُ بني إسرائيل، وأطلق. ثم
إنَّه بيَّن أنه إنما عاقب من خالف منهم، وعصى أمره سبحانه،
وكذلك لو عمَّ بلفظِ الوعيد كل عاصٍ مخالفٍ لأمره، ثم إنه بين
أن الوعيد إنما يلحقُ من أصرَّ، ولم يَتُبْ مِن ذنبه، أو
توعَّدَ (3) المصرّين، وبين أنَّ قوماً يدخلون الجنَّة بشفاعةِ
الشافعين، لم يكن في هذا إحالةٌ في العقلِ، ولا مفسدةٌ، ولا
تغييرٌ لقانون الشرع.
فإن قيل: بل فيه أمران من الفساد:
أحدهما: أنَّه تجويزُ الكذبِ، وذلك قبيح، فتجويزُ القبيح على
__________
= على ألسنة المتكلمين والفلاسفة. انظر ما تقدم في 1/ 16 في
الحاشية.
(1) في الأصل: "العقل له والسمع"، ولفظة: "السمع" حشو لا داعي
له؛ لتقدمها في السياق، لذا حذفتها.
(2) في الأصل: "قرن".
(3) في الأصل: "تواعد".
(4/105)
الحكيمِ (1) قبيح.
والثاني: أنَّه إنَّما وُضِعَ الوعيدُ للصرفِ عن الفساد،
وإقامةِ مصالح الدين، وفي انخرام ذلك تفويتٌ للقصدِ، فلم يبق
إلا الوعيدُ الجزمُ الحتمُ.
فيقال: أما تجويز الكذبِ، فلا وجهَ له؛ لأنَّ المنعَ لو كان
لذَلك، لَمُنعَ من تخصيِصِ العموم في الخبر مقارناً ومتأخراً،
لأن الكذبَ لا يختصُّ بما تأخَّر دون ما قارن، ولأنَّ إخلاف
(2) الوعيد لا يسمَّى كذباً عند العربِ، ولهذا تَبَجَّحَت
بإخلاف (3) الوعيد وإنجاز الوعدِ، فقال شاعرهم:
وإني إذا أَوْعَدْتُهُ أو وَعَدْتُهُ ... لمُخْلِفُ إيعادي
ومُنْجِزُ مَوعدي (4)
وأما الصرف عن القبيح، فإنه يحصلُ مع تجويزِ العفوِ، والدليل
عليه: أن تجويز وقوع العقوبة كافٍ، ولهذا شَرْعُ العقوباتِ
والحدود في الدُّنيا صوارفَ عنَ القبيح والفسادِ، لم يخرجْهَا
عن وضعِها، وكونها صارفةً، ما جَوَّزَه من الإسقاط بالشبهات،
وما ندبَ إليه من السَّتر، وقبول الرجوعِ بعد الإقرارِ، وغير
ذلك، فليس وعيدُ الآخرة في الزجر بأوفى من وعيدِ الدُّنيا، بل
عقوباتُ الدنيا نقدٌ وتعجيلٌ، ولم يضعه وضعاً جزماً، ولا (5)
بحيث يقعُ لا محالةَ، فكذلكَ وعيدُ
__________
(1) في الأصل: "الحكم".
(2) في الأصل: "اختلاف".
(3) في الاْصل: "باختلاف".
(4) هو لعامر بن الطفيل، وتقدم في 3/ 410.
(5) في الأصل: "بل".
(4/106)
الآخرة.
ومنها: أنَّ ذلك قد وقعَ، بدليل ما بيَّناَ من الآي، [مثلُ]
قوله: {إنكم وما تعبدون} [الأنبياء:98]، وأنَّه أمر بني
إسرائيلَ بذبح بقرةٍ، وبيَّن بعد ذلك (1)، وأخبرَ بعذاب قوم
لوط، وبَيَّنَ نجاةَ لوطٍ وأهلِه، وإلى أمثال ذلك من الآي
الواردة في الأخبار، وأخَّرَ بيانَ ما أريدَ بها بعد الخطابِ،
تأخيراً للبيانِ عن وقتِ الخطابِ.
ومنها: أن الخبرَ يتضمنُ وجوبَ الاعتقادِ، وهو عملُ القلب،
والتصديق لمُخْبَرِه (2)، وهو عملُ القلبِ، فنقول: إذا ثبتَ
جوازُ تأخيرِ البيانِ في أعمالِ الأركانِ، وهي التي وجبتْ
بالأوامرِ والنَّواهي، كذلك جازَ تأخيرُ البيانِ، فيما أوجبَ
أعمالَ القلوبِ من التصديق والاعتقادِ، ولا يجدونَ لذلك فرقاً
يعطي تخصيصَ جوازِ ذلك في الأوامرِ والنواهي دون الأخبار.
ومنها: البناءُ على أصلِنا، وهو تجويزُ النسخِ قبلَ وقتِ الفعل
المأمورِ به، وأنَّه أرادَ بقولِه: صلوا إذا زالتِ الشمس: إنْ
مَكَّنتكم من هذا الأمر، ولم أنسخْهُ، كذلك قوله: {فَاقْتُلُوا
الْمُشْرِكِينَ}: إن تركتكم وهذا العموم، ولم أخصه، وليس في
هذا إحالةٌ من جهةِ العقلِ، ولا استبعادٌ (3) من جهةِ الشرع،
مِنْ حيثُ كان لهُ إطلاقُ الأمر المقتضي للدوام قبل (4) ورودِ
النسخِ الكاشفِ، غير أنه أرادَ التأقيتَ لا التأبيدَ.
__________
(1) تقدم في الصفحة 91.
(2) في الأصل: "لخبره".
(3) في الأصل: "استعباد".
(4) في الأصل: "بين".
(4/107)
ومما يدلُّ على صحةِ هذا: أننا نجوِّزُ أن يحيلَ بيننا وبين
الفعل بعائقِ الموت، والإغماءِ، والجنونِ، فيصير التقديرُ مع
هذا التجويز: صلوا عند الزوال إن لم يُعِقْكُمْ عائقٌ، أو
يقطعكُم قاطعٌ، فكذلكَ جازَ أن يكونَ فيه تقدير: صلوا ما لم
أنسخ.
يوضِّحُ هذا: أنَّ العوائقَ الواقعةَ المُحيلةَ بيْن المكلَّف،
وبين إيقاعِ ما أُمِرَ به في الوقتِ الذي أُمِرَ به فيه، إنما
تقعُ من جهتهِ سبحانه، فالمرضُ والجنونُ والإغماءُ والموتُ من
جهتهِ، كما أن النسخَ من جهتهِ، فإذا كان القولُ المطلق مقدراً
بالإيقاعِ ما لم توجدْ إعاقة من جهةِ الآمرِ، كذلك يكونُ
معلقاً بأن لا يوجد نسخٌ من جهة الآمر، واذا ثبتَ هذا الأصلُ،
كان التقديرُ في العموم الذي تأخر بيانُه وتخصيصه: إن لم
أخصَّه، كما يقدَّر هناك: إن لم أنسخه، أو أَعْفُ (1) عنه. |