الواضح في أصول الفقه

فصل
في جمع شُبههم
فمنها: أن قالوا: إنَّ الخطاب بلفظِ العمومِ، ومرادُ المخاطِب الخصوصُ، وخطابَ الكلِّ بلفظ الكُلِّ، ومرادُه من المخاطبين البعض، والمجمل الذي لا يفيدُ لفظهُ مرادَ المخاطِب، هو خطابٌ (2) بما لا يُعْقَلُ، لأنَّ العربَ لا تعقلُ الخصوصَ من العموم، ولا التفسيرَ من المجملِ، وخطابُ الإنسانِ بما لا يفهمهُ قبيحٌ، فوجَب أن
__________
(1) في الأصل: "العفو".
(2) في الأصل: "فقد خاطبه".

(4/108)


يُنَزَّهَ عنه صاحب الشرع، كما لم يَجبْ عليه أن يخاطبَ العربَ بلغةِ الزَّنْج والنَّبَط.
فيقال: ومن الذي أَعْلَمَكَ أننا نمنعُ ذلك حتى جعلتَهُ أصلاً يُسْتَمَدُّ منه الحكمُ؟ وما المانعُ مِن ذلك؟ أَوَما تَعْلَمُ أنَّ الخطابَ الذي ورد إلى نبينا - صلى الله عليه وسلم -، ورد عربياً؟ وكلّفه البلاغ إلى سائرِ الأمم، فكان ذلك حسناً، وشرطَ تعبيرَه بلغتِهِم ليحصلَ البيانُ لهم في الثاني، وما الذي يمنعُ الخطابَ الصادرَ مِن الحَكيمِ، بأيَّ لغةٍ شاء، بعد أن يشيرَ إلى المخاطَبِ أنَّ الخطابَ له والإشارةَ إليه، حتى بالصوتِ السَّاذَج الممتدِ الذي لا يتَضمَّنُ حروفاً، [و] حتى بالمعجم، ليُفَسرَ ويُتَرجَمَ عنه في ثاني الحال؟
على أنَّ تقبيحكم لذلك لا وجهَ له، لأنَّه توهُّمٌ أنه خاطب بما لا يُفْهَم ليعلم خصوصُه من عمومه، ولعمري إنَّ ذلك بعيدٌ عن عادةِ حكماء المخاطِبين الآمرين الناهين، وليس الأمرُ عندنا كذلك، بل الخطابُ يوجبُ اعتقادَ ما يُبَيِّنُهُ في الثاني، إما جموداً (1) على عمومِه، أو بياناً (2) لخصوصِه، فيعتقدُ المكلفُ تجويزَ خصوصِ العامِّ بالبيانِ الذي يأتي، وتفسيرِ المجملِ، فالعاقلُ على ثقةٍ من خطاب الله سبحانه بما لا يفهمُه أنه سيفهمه في الثاني، بتخصيص العامِّ، وَتفسيرِ المجملِ، أو بأن يَكِلَهُ إلى اجتهاده، فيقول: أَدِّ من الزرع ما شئتَ، أو سَهُلَ عليك، فذاكَ هو الحقُّ الذي يريدُه، فلا قُبْحَ في ذلك إذاً، ومَن الذي يَسْتَقْبِحُ في عرفِ العقلاءِ خطابَ مُلوكِ العجَمِ للعربِ، والعربِ للعجم بشؤونهم الخطاب المديد؟ ومكاتبة العبراني
__________
(1) في الأصل: "جمود".
(2) في الأصل: "عموم".

(4/109)


والسرياني للعربي ثقة بما يشفعُ ذلك من التراجم والتفسير والتعبير؟ وقد عَلِمَ المخالفُ أننا وجمهورَ أهلِ السنة، جوَّزنا خطابَ المعدومِ حَالَ عدمه ليوجدَ، ودلَّلنا عليه، فأولى أن نجوِّزَ خطاباً بما لا يُفْهَمُ معنَاهُ لِيُفْهَمَ، ويُبَيَّنَ في الثاني، ومعلومٌ تفاوتُ ما بين المعدومِ رأساً، وبين الموجودِ العديمِ الفهمِ لإعجامِ الخطاب.
فإن قيلَ: لو كانَ هذا الأَوْلَى صحيحاً، لكانَ خطاب المجنون ليعقلَ ويفيقَ، والصبي ليبلغَ في مستقبل الحالِ جائزاً، لأنَّ عدمَ العقلِ دونَ عدمِ الأصل، فإذا لم يتحصَّلْ بتجويزِ خطابِ المعدوم عندكم خطابُ المجنون والطفل من طريق الأَوْلى، لم يتحصل تجويز خطاب بمجملٍ، وبما لا يُفْهَمُ، لِيُفْهَمَ في الثاني، من تجويز خطاب المعدومِ لِيُوجَدَ، ومعلوِمٌ أن الشرع قد قال: "رفعَ القلمُ عن ثلاث" (1)، وذكرَ المجنون، فعاد تنبيهُ الشرعِ بإبطالِ خطابِ المعدومِ، فكان تنبيهُ الشرعِ مُقَدَّماً على تنبيهِكُم.
قيل: ومَن أعلمَكُم أننا لا نجوَّز توجُّهَ الخطاب إلى مجنونٍ في المعلومِ أنه يفيقُ، وصبيٍّ في المعلومِ أنه سَيَبْلُغُ؟ وإن أردْتُمْ تجويزَ خطابه مع عدم هذا الشرطِ، فذلك باطلٌ.
عدنا إلى إتمام الجواب عن أصلِ الشبهة: وذلك أنَّ أصلَ ما تعلقتم به من تقبيحِ خطابِ المكلَّفِ بما لا يُفْهَمُ منه مُرَادُ المُتكَلِّمِ، إنما هو لتَعَذُرِ طاعته فيما أُمِرَ به، وذلكَ موجود في خطاب العاجز الذي لا يصحُّ منه الفعلُ المأمورُ به مع عدمِ قدرتهِ، وكذلكَ القادرُ العادمُ للآلةِ التي لا غنَاءَ به عنها في فعلِ صناعتِه، ثمَّ لم يقْبُحْ ذلك
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 118.

(4/110)


بما يُؤْتَى في الثاني، ويمدُّ به من القدرةِ والآلةِ وقتَ حاجتِهِ إلى الفعل.
على أنَّ ما نحن فيه من الخطابِ يبعدُ عن خطابِ العربي بالزنجية، وذلكَ أنَّ صيغةَ العمومِ قد عقل منها الاستيعابُ والشمول للأعيانِ المأمور بإيقاع الفعلِ فيها، كقوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، وقد عقِلَ من قوله: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، فالإيتاءُ (1) معقولٌ، والحقُّ معقولٌ، وأنَّه أمرٌ واجبٌ يوم الحصادِ معقول، لم يبق في الآية شيءٌ مجهولٌ سوى قدر الحقِّ وكميته، ومتى قَبُحَ في العقول والعادات (2) إيقافُ لفظة منها على بيان معناها في مستقبلِ التَّلفظِ بها؟! وأين هذا من لفظٍ زنجي يخاطبُ به عربيٌ لا يَفْهَمُ كلمةً من الزنجية؟!
ولأنَّ خطاب العربي بالزنجية لا يفيدُ فائدةً في الحال رأساً، والخطان بالعمومِ والمجملِ قد أفادَ في الحال تَلَقِّيَ الخطاب باعتقادِ إيجابِ فْعل والتزامِ حقٍّ، إلى أنْ يبيَّن مقدارُ الحقِّ، ومبلغُ الأفعال في تلكَ الأعيانِ.
وجوابٌ آخر:
وهو (3) أنَّ جميعَ ما عوّلوا عليه باطلٌ بإطلاقِ الأمرِ المقتضي عمومَ الأزمانِ، ثم أبانَ النسخ عن إرادةِ الأمر به في بعضِ الأزمان، ولا محيصَ لهم عن هذا بفرقٍ، على أنَّ ما قدموه في ذلكَ قد تكلمنا
__________
(1) في الأصل: "الإيتاء".
(2) في الأصل: "العبادات".
(3) في الأصل: "فهو".

(4/111)


عليه (1).
ومنها: قولهم: إن ما ذهبتم إليه هاهنا يعودُ بقولكم ويفضي به إلى التمذهب مذهبَ أهل الوقف؛ لأنكم قلتم: إذا تأخرَّ بيانُه؛ يجوز أن يكون عاماً، ويجوزُ أن يكون خاصاً، وكيف [لَمَّا] كَرَّرْنَا عليكم أنَّ اعتقادَ كونهِ عاماً من غير بيانِ تخصيصِه اعتقادٌ للجهل، وتعريضٌ من الشارع للمخاطبين باعتقادِ الجهلِ، كَرَّرْتُم القولَ بأنَّه لا يُعْتَقَدُ العمومُ، بل يُعتقدُ تجويزُ ورودِ التخصيصِ، وهذا تصريحٌ منكم (2) بمذهب أهلِ الوقف، وهذا من آكَدِ ما توهمون به خَطَأنا في هذا المذهب.
فيقال: ليس التوقف في هذا توقفاً (3) فيما وُضِعَتِ الصيغةُ له في أصلِ الوضع، وإنما هو توقفُ ترقُبِ مستقبلٍ، وتجويزِ مستأنفٍ من بيان يَكشف عن تخصيصِهِ، كما نَترقبُ (4) ونُجَوِّزُ نسخَ الأمرِ المطلقِ، ولا نقول: إننا نتوقفُ في صيغة الآية المحكمة.
والذي يكشف عن الفرق بيننا وبين أهل الوقف: أننا نحن إذا عدمنا دليلاً يُخَصِّصُ مع مجيء وقتِ التنفيذِ للحكمِ والعملِ باللفظِ، بقينا على القولِ بعمومِ اللفظِ، وأهلُ الوقفِ لا يكتفون في القولِ بعمومِهِ بعدمِ دليلِ التخصيصِ في الثاني، بل لا يحكمونَ بكونه [على] عمومه إلا بدليلٍ مستأنفٍ يدلُّ على أن المرادَ به العمومُ.
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة 100.
(2) في الأصل: "منكر".
(3) في الأصل: "توقف".
(4) في الأصل: "يترتب".

(4/112)


فقد بان أن قولنا في هذا لا يؤدي إلى مقالةِ أهلِ الوقفِ.
ومنها أن قالوا: إن البيان مع المبينِ بمنزلةِ الجملة الواحدة، ألا ترى أنهما بمجموعهما يدلانِ على المقصودِ بهما؛ ولا خلاف أنه لا يَحْسُنُ تأخيرُ الخبرِ عن المبتدأ؛ بأن نقول: زيدٌ، ونقول بعد زمان: قامَ، كذلكَ لا يحسُن أن يؤخَّرَ البيانُ عن الجملةِ المبيَّنة.
فيقال: إن تأخيرَ الخبرِ عن المبتدأ ليسَ من أقسامِ الكلام، ولا هو مفهومٌ بحال، والمجملُ يفهمُ به ومنه إيجابُ حقٍّ، ويبقى علينا بيان كميته ومقداره، وينكشفُ ذلك بتعليق الأحكام عليه، وهو الإيمانُ والاعتقادُ بأن حقاً قد وجبَ عليه، والعزمُ على إِيتائِه مهما كان من كثيرٍ وقليلٍ، ولا يفيد قول القائل: زيدٌ [ذلك].
ولأنه بالناسخ والمنسوخ أشبهُ منه بالمبتدأ والخبر.
ومنها: قولُهُم: لما لم يجز أن يردَ في كلامهم بعض حروف كلمةٍ لِتُتَمَّمَ (1) تلكَ الكلمةُ في مستقبلِ الحال، كذَلك لا يجوزُ أن تردَ الكلمةُ غير (2) مُبَيَّنَةٍ في الحال لتُبيَّن.
فيقالُ: وما الذي قَرَبَ بينهما؟ فإنَّه لا يحتملُ أَنْ يقال: لَمَّا قَبُحَ هذا قَبُحَ هذا، إلا بَعْدَ دلالةٍ تجمعُ بينهما.
على أنا نحن نعلمُ أنَّ العربَ لم تنطقْ ببعض كلمةٍ لِتُتَمِّمَها في الثاني، وتكلمت بالكلمةِ المفهومةِ بظاهرِها لِتَصْرِفَها عن ظاهرِهَا بما يأتي مِن الدلالة الصارفةِ لها، حتى إنهم لم يُقَبِّحُوا تأخيرَ النسخِ، ولا
__________
(1) في الأصل: "لتمم".
(2) في الأصل: "عن".

(4/113)


يُعْلَمُ منهم ولا عنهم إيرادُ حرفٍ أو حرفين من كلمةٍ لا يُفْهَمُ المقصودُ بها إلا بخمسةِ أحرفٍ.
ومنها أن قالوا: إنَّ البيانَ المتأخِّر عند مَن أجازه، يُخْرجُ بعضَ ما اشتملَ عليه اللفظُ، فجرى (1) مجرى الاستثناء المُخْرِج لبعضِ ما عَمَّهُ الاسمُ وتناولَه، قالوا: فلما أجمع أهل اللغةِ على قبح تأخير الاستثناءِ عن المستثنى منه بأوقاتٍ كبيرةٍ، كذلكَ التخصيصُ، وبيان المبيَّن، وذلكَ أنَّهم استهجنوا قول القائلِ: اضربْ عبيدي، وقولَه بعد حولٍ: إلا نافعاً، أو سوى خالدٍ (2)، أو غير عمرو.
فيقالُ. أما دعواك الإجماع، فلا وجهَ له مع خلافِ ابن عباس -وهو من ساداتهم، وترجمانُ الكتابِ العزيز-، وقولِه بجوازِ الاستثناءِ بعدَ سنةٍ (3).
جواب ثانٍ:
أنَّ الفرق بينهما: أن عادةَ أَهلِ اللغةِ: أن لا يُبْتَدأَ بغير، وسوى، وإلاَّ، ولا يُتحرَّجَ من الابتداء بصيغة الأمر والنهي، فإذا قال: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] لم يَحْسُنْ أنْ يقال بعد سنة: إلا أهل الكتاب إذا أدوا الجزية، ويَحْسُنُ أن يقولَ: ولا تقتلوا أهلَ الكتابِ إذا أدَّوا الجزية، فإنني لم أُردْهُم بالأمرِ بالقتلِ، أو يقول: اضربْ عبيدي، ويقول بعد أوقات كبيرة: إلا سالماً، فإنه لا يَحْسُنُ، ويَحْسُنُ أن يقولَ: ولا تضربْ سالماً، وان كان اللفظان جميعاً
__________
(1) في الأصل: "جرى".
(2) في الأصل: "خالداً".
(3) تقدم فىِ 3/ 461.

(4/114)


يُخرجان من اللفظ ما لولاه لدخَلَ فيه.
على أن هذا الذي ذكرتموه من (1) القياس والاستعمالاتِ، لا يقاس أحدهما (2) على الآخر، كما لا يقاس التخصيصُ على النسخ، فإن جازَ أن تقيسوا أنتم التخصيصَ على الاستثناءِ، في منعِ تأخيرِ أحدِهما، كما امتنع تأْخِيرُ (3) الآخرِ، جازَ أن نقيسَ نحنُ التخصيصَ على النسخ في جوازِ التأخيرِ، فوقفَ دليلُكم، وترجَّحَ قولُنا نحن؛ لأنَّ (4) النسخَ ودليلَ التخصيصِ جميعاً يبتدأ بهما في اللغةِ، ولا يُبْتَدَأُ عند أهلِ اللغةِ بحروفِ الاستثناءِ.
بيانُ ذلك. أنه يحسُنُ القولُ ابتداءً: وَلِّ وجهكَ شطرَ المسجدِ الحرام، بعدما شرعَ أولاً استقبالَ بيتِ المقدس، وإنْ طالَ [الزمانُ] بينهما، ويَحْسُنُ أن يقولَ: لا تقتلوا أهلَ الَكتابين إذا بذلوا لكم العهدَ، ودفعوا الجزيةَ، بعد قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ويَحْسُنُ أنْ يقولَ: أخرجوا من كل عشرة أقفزة مما تنبته الأرض قفيزاً، بعد أن قال: {وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ} [الأنعام: 141]، وإن طال الزمان بينهما، ولا يحسن أن يبتدىء، فيقول: إلا نافعاً (5)، وغير نافع، وسوى نافع، بعد أن قال: اضربْ عبيدي، بزمان مديد.
ومنها أن قالوا: لو كان للنبي (6) - صلى الله عليه وسلم - تأخيرُ البيانِ مع وجودِ الأمرِ
__________
(1) في الأصل: "عن"
(2) في الأصل: "لأحدهما".
(3) في الأصل: "تأخر".
(4) في الأصل: "بأن".
(5) في الأصل: "نافع".
(6) في الأصل: "النبي".

(4/115)


له ولأمته بالمجمل والعموم، لجاز تأخيرُ البلاغ، ولَمَّا لم يجزْ تأخيرُ البلاغِ، لم يجزْ له تأخيرُ البيانِ؛ لأنَّ كُلَّ واحد منهما إعلامٌ له وإشعارٌ بما شَرعَ اللهُ سبحانه، فإذا لم يُؤَخَرْ أحدَ الإعلامين والإشعارين، كذلك لا يُؤَخِّرُ الآخرَ.
فيقال: ومَن الذي يمنعُ تأخيرَ البلاغِ إذا كانَ بأمرٍ مِن اللهِ، وتشريعٍ منه؛ فليسِ ذلك بمحال، ولا مَنْفِي (1) عنه، بل جائزٌ عليه سبحانه أن يؤخِّرَ البيان عن المجملِ، كما يؤخِّرُ الإقدارَعن المكَلَّفِ على ما كَلَّفَهُ.
على أن تأخيرَ أصلِ البلاغ إخلالٌ بما يفيد، ويقع به عملٌ يقابَلُ المكلفُ على مثلِه بالثواب، ويُحقِّقُ (2) به نوعاً من أسبابِ الإثابةِ والأجرِ، وهو توطينُ النفسَ على امتثالِ المأمورِ به إذا فسَّره، فإذا قال: {وَآتُوا حَقَّهُ} [الأنعَام: 141]، فسمعَ ذلك بعدَ تبليغِ النبي - صلى الله عليه وسلم - اعتقدَ وجوبَ حقٍّ، ووطَّن نفسَهُ على إخراجه من مالِه مراغمة للنفس، وإن كَثُرَ مقدارهُ، وثَقُلَ على النفسِ إخراجُه، وصار متوقِّعاً لتفسيَرِ المقدارِ، فيَحْصلُ له بالاعتقادِ، وتوطينِ النفس على الأداءِ، -وإنْ بادرَ (3) الانتظارَ لما يردُ من التفسيرِ- من أعمالَ القلبِ ما يوفي على أَعمالِ (4) الأركان كلها، وإذا لم يحصلْ أصلُ البلاغِ، تعطلَ المكلَّفُ عن هذهِ الأمورِ التي مدار التكليف عليها، وهي أعمال القلب، فأين تأخير البلاغ من تأخير البيان؟
على أنَّ الله سبحانَه لو ذكرَ حكماً، لم يجزْ للنبي - صلى الله عليه وسلم - كَتْمُه إذا كان تكليفاً لأمته العملَ به، أو الاعتقادَ له، وإنْ جَازَ أن يتأخَّر
__________
(1) في الأصل: "نفي".
(2) في الأصل: "ويعتنق".
(3) في الأصل: "بدر".
(4) في الأصل: "الأعمال".

(4/116)


الإعلامُ والبيانُ بمدةِ ذلك الحكم، متى ينسخ، ومتى يرفع أو يُغَيَّر؛ فقد جازَ تأخير بيانِ الحكمِ بالنسخِ، وإن لم يجز تأخيرُ أصلِ بلاغِ (1) الحكم للأمة.
ومنها: أنَّه لو جازَ تأخيرُ البيان، لم يُؤْمَنْ على النبي - صلى الله عليه وسلم - حصولُ الاخترامِ (2) قبل بيانه، وذلك مما يعطلُ ذلك الحكمَ الشرعي، وما أفضَى إلى تعطيلِ المشروعِ، لم يجز أَن يكون مَشروعاً، لِمَا فيه من تضييع الغَرَض، وخُلُوِّ الأمرِ بذلك الحكم من فائدة، وذلك من العيب الذي لا يجوزُ على الله سبحانه، ولا يحسن بالحكماء من خلقه.
فيقال: هذا تعليقٌ باطلٌ من وجوه:
أحدها: أن هذا ينبني على أصلٍ، وهو (3) أنَّه سبحانه يجوزُ أن ينسخَ العبادةَ المأمورَ بها قبل وقت فعلها، والنسخُ رفعٌ لذلك الحكم، وإعاقةٌ عنه، فلا فرقَ بين الإعاقةِ باخترامِ السفير - صلى الله عليه وسلم - قبل بيان المجمل الذي أنزِلَ، وبين نسخِ المأمورِ به قبل وقتِ فعله المعيقِ عن فعله، وسيأتي الكلام إنْ شاء الله في هذه المسألة في فصول النسخ بما فيه غنى وكفاية، لكن نقدم ها هنا بحسب ما يليق بالكلام، فنقول:
إن الله سبحانه [لو] اخترمَ نبيَّهُ قبلَ البيانِ، علمنا أنه سبحانه لم يُردْ بإنزالِ الأمرِ بالمجملِ إلا ما يَحصلُ من بلاغه لذلك المجملِ،
__________
(1) في الأصل: "ببلاغ".
(2) يقال: اخترمته المنية، أي: مات."القاموس": (خرم).
(3) في الأصل: "و".

(4/117)


فكان تكليفُه - صلى الله عليه وسلم - أن يُبَلِّغَ ما أنزِلَ، وتأخيرُ البيان عنه لا يُنْقِصُه من رتبةِ البلاغِ شيئاً، ولا يُوجِبُ عليه مَعْتبة، ولا إثما، ولا تقصيراً في البلاغ، والأمةُ عملوا بحسب ما بلَّغ، فتلقَّوا ذلك باعتقادِ وجوب حقٍّ، ووطنوا نفوسَهم على الطاعةِ بإخراجِ ما يفسِّرُه به من مقدارِ ذلك الحقِّ، فما عاد ذلك بتقصيرٍ في بلاغه - صلى الله عليه وسلم - ولا إِخلالٍ [في]، طاعةٍ من جهة الأمَّة، إذ لا تفريطَ من الرسول - صلى الله عليه وسلم -، ولا مِنَ الأمَّةِ في ذلك، وتوقُّعُهم بعد ذلك ما يَرد مِن التفسيرِ أو التخصيصِ، نوعُ تعبُّدٍ آخرُ لا يخلو من فائدة ومثوبةٍ، ولهذا روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "المنتظرُ للصلاة في صلاةٍ" (1)، لأجلِ توقعه الوقتَ الذي يصلي فيه، والتوقعُ نوعُ عملٍ بالقلب، ولهذا قيل لأبي بكر الصديق في صلاة الفجر: كادتْ أن تَطْلُعً الشمسُ، فقال: لو طَلَعَتْ، ما وجدتْنَا غَافلينَ. (2) يعني أنَّ تطويلَهُ بالقراءة شغلٌ ويقظةٌ، وهذا هو القصدُ.
على أنه إن كان الأمرُ بلفظِ عمومٍ، واختُرِمَ - صلى الله عليه وسلم - قبل بيان تخصيصه، وكان لأمته دليل مستنبطٌ من قياسٍ أو استدلالٍ يَدلُّ على تخصيصِ ذلك العمومِ، فما يتعطَّلُ على قولنا؛ لجوازِ التخصيصِ
__________
(1) الحديث ورد بلفظ: "لا يزال أحدكم في صلاة ما دامت الصلاة تحبسه، لا يمنعه أن ينقلب إلى أهله إلا الصلاة".
أخرجه البخاري (647)، ومسلم (649)، واللفظ له، من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه مالك في "الموطأ" 1/ 82 مختصراً، والبيهقي في "السنن الكبرى" 1/ 379، وعبد الرزاق في "المصنف" (2711) و (2712)، والطحاوي في "شرح معاني الاَثار" 1/ 181 عن أنس رضي الله عنه.
وله طريق أخرى عند الطحاوي 1/ 182 عن عبد الله بن الحارث بن جزء الزبيدي.

(4/118)


بالقياس.
جوابٌ آخر:
وهو أنَّ الله سبحانه قد جعل تكليفَهُ على ضَرْبينِ: مضيَّقٍ، وموسَّعٍ، وجعل الموسَّعَ غيرَ مؤاخذٍ بتَأْخيرِ (1) المكلَّفِ له، كقضاءِ رمضان، فيما بينَ رمضانين، والصلاة ما بين الوقتين، فلو اخترمَ المكلَّف في زمن المُوَسَّعِ (2)، لم يلحقْهُ من جهةِ الله سبحانه لائمةٌ ولا مؤاخذةٌ، فقد نجا من المؤاخذةِ؛ لأجلِ الاخترامِ في وقتٍ كان مُخَيَّراً فيه بين الأداءِ والتأخيرِ، وما خلا من ثوابِ العزمِ على الفعلِ في الوقتِ المُوسَّعِ قبلَ خروجِه، فلا يُنْكَرُ أن يكون حالُ هذا المجملِ والعمومِ، إذا حصلَ الاخترامُ قبلَ بيانِهِما، كحالِ اخترامِ المكلَّفِ في وقتِ العبادة المُوسَّع.
وكان ذلك خارجاً على المذهبين، وصحيحاً على كلا القولين: أربابِ المصالح، والقائلين بالمشيئةِ المطلقةِ من غيرِ إيجاب مصلحةٍ؛ لأنه لما اخْتُرِمَ قَبْلَ البيان، عُلِمَ أن هذا كان هو الأصلحَ، و [على قول] من قال بالمشيئة، عُلِمَ أن هذا كان هو المرادَ، دونَ البيانِ.
ومنها: أنْ قالوا: تجويزُ تأخيرِ البيانِ عن وقتِ الخطاب يفضي إلى أن يأمرَ بشيءٍ، ويكونُ مرادُه عندَ ذلك: الشيء، أو غيره وخلافه (3)، وذلك لا يجوزُ، كما لو أمر بقتل المشركين وهو يرى استبقاءهم، وبالصوم وهو يريدُ الإفطارَ، وبالقيامِ وهو يريدُ القعودَ،
__________
(1) في الأصل: "بتأخر".
(2) في الأصل: "التوسع".
(3) وهو غير جائز، لأنه جمع بين النقيضين. انظر "العدة" 3/ 731.

(4/119)


وذلك غير جائزٍ على الله سبحانه، كذلك لا يجوزُ أن يأمرهم بلفظٍ ظاهرُه العمومُ، وهو يريد به الخصوصَ.
فيقال: [هذا] باطل؛ إذا قالَ به (1) يُفْضِي إلى أن ينطقَ بالعمومِ، ويعدلَ عنه إلى الخصوصِ.
على أن الذي أراد منهم بذلك: اعتقاد طاعته فيما أظهرَ من العموم، وطاعته في العمل بالتخصيص المجوز وُرُوده، كما أنه إذا أمر باستقبال بيت المقدس، وجب تلقي ذلك بالطاعةِ، والانقيادِ إلى ما أظهر، وظاهرُه يعطي التأبيدَ، وإن كان يريدُ بذلك وقتاً مخصوصاً، وكلُّ عذرٍ لهم في تجويزِ النسخ -وهو تخصيصُ زمانٍ-، هو عذرُنا في ورودِ لفظِ العموم، وإنْ تأخَرَ بيانُ تخصيصِ الأعيانِ عن الخطاب به، وفارقَ ما ذكروه من أمرِه بالقيامِ وهو يريدُ القعودَ، وقتلِ المشرَكينَ وهو يريدُ استبقاءَهم، لأنَّ ذلك ليس من أقسامِ الكلام، ولا يستعملُ في موضعٍ ما، فأمَّا العمومُ الذي يردُ عليه الخصوصُ مبيّناً أنه كان هو المراد، فسائغ في لغتهم، مستعملٌ في عادتِهم، فصارَ كأحدِ أقسامِ المجازِ والتوسُّع.
ومنها: أنَّ تأخيرَ البيانِ عن الخطابِ، يوجبُ نسخَ ما يخصُّ منهما (2) بعد وروده على التراخي، ونحن لا ننكرُ النسخَ، وإنما ننكرُ أن يكونَ البيانُ المتأخرُ تخصيصاً.
فيقال: هذا باطلٌ؛ لأن النسخَ إنَّما يصحُّ بعد ثبوتِ الأحكامِ واستقرارها، ولفظُ العموم الواجب تنفيذُه على التراخي لم يستقرَّ بعد كونهِ عموماً إن تُركنا وظاهِرَه، ويجوز ورودُ ما يخصهُ، فبطلَ ما
__________
(1) في الأصل: "قارنه".
(2) في الأصل: "منها".

(4/120)


ذكروه.
ومنها: أن قالوا: لو جازَ تأخيرُ البيانِ يوماً، لجاز تأخيرُه سنةً وأكثرَ، وذلك يُخْرِجُهُ عن كونه متعلِّقاً بالأولِ، فإنه ليس لنا في كلام العرب كلامٌ منعطفٌ على الأول بعد زمانٍ طويلٍ، بل يصيرُ الأول بطول المدة كالمهملِ، لأنه كلامٌ لم يتحققِ العملُ به، بل يقعُ منتظراً به ما بعدَهُ، والمنتظرُ لم تتحصَّلْ فائدتُه.
فيقال: انتظارُ بيانه لا يعطِّل عن تَعبُّدٍ مقصودٍ مثله، وفيه مصلحةٌ معجَّلةٌ، و [هي] اعتقادُ ما تضمَّنهُ، وتوطينُ النفس على العمل بما يُفَسَرُ به مجملُهُ، ويخص به عمومُه، ومثلُ هذا لا يكونُ من جملةِ المهمل، وإذا جازَ أن تقَعَ التعبدُ متفرِّقاً ومتتابعاً، كالإحرامِ يقعُ في شوال، وتقع أفعالُهُ في شهورٍ، وبعضُ أفعاله بعدَ شهورٍ، وبينَ فعل وفِعْلٍ، ونُسُكٍ ونسُكٍ أيامٌ عدةٌ، وصومِ التمتع ثلاثة أيامٍ في الحج، وسبعة إذا رجِع، ويكونُ عزمُه في رجوعه تعبداً (1) إلى حين رجوعه، جاز أن يكون ما بينَ الاعتقادِ والفعلِ الواقع بالبيان المستقبل مدةً موصولة بالفعلِ؛ بما تلاها من الاعتقادِ والعزَمِ وتوطينِ النفسِ، وقد فرَّقَ بينَ المدةِ الطويلة والقصيرةِ قومٌ، وليس بشيءٍ عندنا.
ومنها: أن قالوا: لا يخلو أن يكونَ أرادَ باللفظِ العامِّ اعتقادَنا العمومَ، أو الاعتقادَ والعزمَ، أو التنفيذَ، أو هما جميعاً والتنفيذَ: لا يجوز أن يكون أراد منا الاعتقادَ للعمومِ وهو يريدُ الخصوصَ، لأنَّ هذا يفضي إلى أن يريدَ ضِدَّ ما أراده منا بالخطاب، ولا يجوزُ أن يكونَ أرادَ الاعتقادَ والعزمَ دونَ التنفيذِ، لأنَّ التنفيذَ هوَ المأمورُ به،
__________
(1) في الأصل: "بعيد".

(4/121)


وإذا (1) أريدَ باللفظِ الاعتقادُ والعزمُ غيرُ المذكورين في اللفظِ، فأَوْلى أن يرادَ التنفيذُ المذكورُ في النطقِ، وإذا ثبتَ أنَّه أرادَه بالنطقِ، وجبَ أن يبيِّنَه ليدري [المُخاطَبُ] ماذا يفعلُ وينفِّذُ، وماذا يعتقدُ، وعلى ما يعزمُ، وإلا كانَ جاهلاً معتقداً للجهل، عازماً على غير فعلٍ محقَّقٍ.
فيقال: المرادُ عندنا بلفظِ العموم والإجمال، تلقيهما بالاعتقادِ، وتوطينُ النَّفسِ على التنفيذِ، لما يقعُ به البيانُ في الثاني، فقد كشفنا المذهبَ الذي ذكرتُم في التقسيمِ طلباً له.
وقولُكَ: إنه تعريضٌ للجهلِ، فباطل بالنسخ، لأنَّ الجهل بالكمية لا يؤثِّرُ إلا زيادةَ تكليف، لأنَّه بينَ تنجيزِ مُعْتَقَدٍ، وعزمٍ مُقابلٍ بِهِ اللفظ، وتوطينِ النفس على ما يحصل به البيانُ في كيفية التعبُّد؛ فقد بان أنه قد أراد الاعتقاد لا مَحالَة، وهذا هو الغرضُ من الاستدلال، وإذا سلمناه، اسْتُغْني عن التقسيمِ.
ولكنْ بقيَ الخلافُ في صفةِ الاعتقادِ الذي أرادَه منهم، وأمَرَهُم به؛
هل هو اعتقادُ العمومِ، أو الخصوصِ قطعاً؛ أو الاعتقادُ أن لله سبحانه فيه مراداً (2) لا نعرفه بعينه؟ وأنَّهُ يجوزُ أن يكون العمومَ، إنْ (3) تُرِكْنَا وظاهرَ اللفظِ، ويجوز أن يكونَ الخصوصَ، إدْ أوْرَد علينا بعد الإطلاقِ شيئاً من أدلة التخصيص وقرائنه، فهذا عندنا هو الاعتقادُ الذي لزمَهُم بحقِّ الأمر، وصاحبُ هذا الاستدلال تَوهَّم أن تسليمنا (4) له وجوبَ الاعتقادِ عليهم، يوجبُ أن يكونَ ذلكَ هو
__________
(1) في الأصل: "فإذا".
(2) في الأصل: "مراد".
(3) في الأصل: "وإن".
(4) في الأصل: "إن سلمنا".

(4/122)


اعتقادَ أحدِ الأمرين، وهذا بعيدٌ (1) جداً.
ثم يقال له: إن ما تعلقتَ به يلزمُكَ، ويعودُ عليك في بابِ اعتقادِ المكلَّفِ المخاطبِ في المجملِ والمنسوخِ اللذينِ (2) يتأخَّر عنهما التفسيرُ والنسخُ، وقد كانَ الاعتقادُ ما لم يأتِ به التفسيرُ والنسخُ، من حيثُ إن المخاطَبَ اعتقدَ التأبيدَ.
ويقلَبُ عليكَ في ذلِكَ سؤالك، فيقالُ: لا يخلو أن تقول: إنَّ الذي يقتضيه الأمرُ بالمجمل: الاعتقادُ دونَ الفعل، أو الفعلُ دونَ الاعتقادِ، أو هما جميعاً، وقد استحالَ الأَوَّلانِ (3) عندك، فيجبُ أن يلزمَ بحق الأمرِ: الاعتقادُ والفعلُ جميعاً، فيجبُ استحالةُ تأخيرِ بيانِ المجمل، لئلا يُعْتَقَدَ منه غيرُ المرادِ به، وأن يُمْنَع تأخيرُ بيانِ اللفظِ المبيِّن لأستغراقِ الزمانِ، لئلا يُقدَمَ على اعتقادِ تأبيدِه، وأن النسخ لا يردُ عليه، فيكونَ على اعتقادِ الجهلِ للمراد باللفظ، فإن مرَّ على هذا، تَرَكَ قولَه، وإن قال: الاعتقادُ الواجب بالأمر بالمجمل والأمرِ بالعبادة بلفظِ عمومِ الأزمان، إنما هو ألاعتقادُ لمراد الله سبحانه فيه، لا نعرفُه بعينه وإنما يجبُ علينا أن نعتقدَه بعينه إذا بينَ، وإلاَّ فقبلَ البيانِ يجوزُ أنْ يكونَ المرادُ به غيرَ ما اعتقدناه من المجملِ وعمومِ الأزمانِ في اللفظ الذي قُطعَ بالنسخِ عن التأبيدِ.
قيل: فهذا هو جوابنا بعينه عن تقسيمكم علينا في العموم.
__________
(1) في الأصل: "بعيداً".
(2) في الأصل: "الذي".
(3) في الأصل: "الأمران".

(4/123)


ومنها: ما تعلَّقَ به من أَجازَ (1) تأخيرَ بيان المجمل دون تخصيصِ العمومِ، فقال: إنَّ قوله تعالى: {واَتُوا حَقَّه} [الأنعام: 141] لم يعطنا قدراً نعتقده بعينه، بل مهما ورد به من التفسير من قليلٍ أو كثير، فذاكَ ممَّا ينطبقُ على اللفظ انطباقاً لا يغيِّرُ وصفَه، فإنَّ لفظ الحقِّ لا يعطي قدراً؛ فالمخاطَبُ لايتغيرُ اعتقادُه الأوَّل بالتفسير، لأنه ما كان في صيغة المجمل ما يدعوه ويلجئه إلى قدرٍ مخصوصٍ، فإن اعتقد ذلك، كان ما اعتقده من الجهلِ قد أتِيَ فيه مِن قِبَلِ نفسِه وسوء حسبانِه، الذي لم يوجبه لفظُ الإجمال، والذي يكشفُ هذا: أنَّ المخاطَبَ بالعمومِ يمكنه أن يشرعَ في تنفيذِ المأمورِ مارّاً بالعمل إلى استغراقِ الجنسْ، مثلُ امتثالِه للقتلِ في قوله: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، فلا يَترُكُ مشركاً يصادِفُه إلا أوقعَ فيه القتلَ، بخلافِ المجمل، فإنَّه لا يَعْلَمُ من قولِه: {وَآتُوا حَقَّهُ} مِقداراً فيشرع في تنفيذ الأمرِ به، وجئنا (2) إلى العمومِ، فوجدناه (3) صيغة تُعطي بظاهرِها ومقتضاها الاستغراق عند مَن أثبتَ العمومَ، فإذا جاء البيانُ بأنَّ (4) المرادَ بها الخصوصُ، كان الأوَّل من الاعتقادِ محضَ الجهلِ، فهذا هو الموجِبُ لتفريقنا بين تأخير بيانِ المجمل وتفسيرِه، وبيانِ العموم وتخصيصه، وليس يمكنكم في لفظِ العمومِ أنْ تقولوا به على البعضِ والكلِّ (5)، لأنَّ ذلك يلزمكم به القول بالوقف، وأنتم لا تقولونَ بذلك.
__________
(1) في الاّصل: "أخبار".
(2) في الأصل: "حينآ".
(3) في الأصل: "وجدناه".
(4) في الأصل: "فإن".
(5) في الأصل: "ولكل".

(4/124)


فيقال: إنَّ صيغةَ العمومِ كما تُعطي الاستغراقَ لجميعِ (1) أعيانِ الجنس الذي تناولَه العمومُ، فصيغة الأمرِ تعطي تعميمَ جميع الأزماَنِ، والبقاءَ على التأبيدِ، ثم إنه قد جاز تأخيرُ بيانِ المدةِ بتخصيص الأزمانِ بما يتأخرُ عن اللفظِ من النسح، كذلك التخصيصُ، ولا يَتَحَصَلُ الفرق على ما قررناه من إبطالِ فروقِهم كلِّها، واختلافِ أجوبتهم في ذلك.
على أنه لا فرقَ بين بيانِ المجملِ والعموم، فإنَّ ما يُرادُ به دليلُ التخصيصِ، لا يخرج عندنا ما بقي عن أنَّ يكون عموماً حقيقة صالحاً للابتداء به (2)، وجميعُ ما يُفسرُ به [المجمل] صالحاً لكونه حقاً حقيقة، يبقى علينا أن الظاهرَ: استغراقُ الجنس والطبقةِ في العموم، وليس لنا ظاهرٌ في مقدار الحقِّ، وهذا القدرُ من الفرقِ لا يعطي إلا الاختلافَ في مرتبة الجهل، وإلا فهما متساويانِ في أصلِ الجهل، والقبحُ يعمُّ القليلَ من الجهل والكثير.
وأمَّا قولكم: لا يمكنه الشروعُ وتنفيذ الأمرِ في المجمل، فلا فرقَ، بل يمكنُه الشروعُ في التصدُّقِ بثمرةِ بستانِهِ، والحَب الذي خرجَ من أرضه، مارّاً إلى استغراقه، إلى أن يردَ الدليلُ بمقدار يبينُ له عن بقيَةٍ يخرجُها، أو يقال له: حَسْبُك، فالذي أخرجتَه هو الحقُّ الذي أردناه، وكلُّ مقدار أخرجه، يجوزُ أن يكونَ هو الحقَّ، ويقعُ عليه الاسمُ، كما أنَّ ما شملَ مِن القتل لمشركَيْنِ فصاعداً، يجوز أن يكونَ هو المرادَ بما يأتي من ذلك التخصيصِ، والله أعلم.
__________
(1) في الأصل: "بجمع".
(2) وقع في الأصل بعد قوله: "به": "عموماً حقيقة"، ويغلب على الظن أنها زيادة من الناسخ لا وجه لها، لتقدمها في السياق، لذلك حذفتها.

(4/125)


فصول
أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم -

فصل
في أفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - (1)
وهي على أَضْرُبٍ:
فما فعله على غير وجه التعبُّد، كالأكل والشرب، والنوم، وما شاكل ذلك: فهو دالٌّ (2) على الإباحةِ له ولأمته، فيكْون مباحاً لأمته فعل ذلك، إلا أن يردَ دليلُ تخصيصٍ يخصُّه به.
وما فعله على وجهِ التعبدِ: فإنْ فعَلَه بياناً لمجملٍ، أو امتثالاً لأمرٍ، نَظَرْتَ: فما كان من أمرِ الوجوب، وبيانِ المجملِ الواجب، كان ذلك الفعلُ واجباً عليه، وعلى أمته جميعاً.
وما كان أَمْرَ ندبٍ، كان ندباً له ولأمته.
وإن كان الفعلُ ابتداء، فعلى روايتين:
إحداهما (3): أنه دالٌّ على الوجوبِ في حقِّه وحقِّ أمته، إلى أن تقوم دلالةٌ على تخصيصه به، وبهذه الرواية قال أصحاب مالك (4).
__________
(1) "المسودة" (187)، و "العدة" 3/ 734.
(2) في الأصل: "ذاك".
(3) في الأصل: "احدهما".
(4) "شرح تنقيح الفصول" (288).

(4/126)


الثانية: أنه يقتضي الندبَ في حقِّه وحقِّ أمته -وجميعاً منصوصٌ عليهما، وهذه اختيارُ أبي الحسن التميمي -إلا أنْ تقومَ دلالة على الوجوب على أمته، ومشاركتهم له في ذلك، وبهذه الرواية قال أصحابُ أبي حنيفة، فيما حكاه أبو سفيان السَّرَخْسي عنهم (1).
وذهبت المعتزلة (2) والأشعريةُ: إلى أن ذلك على الوقف، ولا يحمل على الوجوب، أو الندب إلا بدليل.
واختلَفَ أصحابُ الشافعيِّ على مذاهبَ ثلاثةٍ: أحَدُها: أنه على الوجوب، والثاني: أنه على الندب، والثالث: على الوقف (3).

فصلٌ
في جمع أدلتنا على الروايةِ الأولى، وأن أفعاله - صلى الله عليه وسلم - على الوجوب، ومشاركة أمته له في ذلك.
فمنها: سمعي: وهي الآيُ الدالة على اتباعه، والتأسِّي به - صلى الله عليه وسلم - من ذلك: قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}
__________
(1) هناك رأيان للحنفية في هذه المسألة:
الأول: الندب.
والثاني: الإباحة، وهو الصحيح عندهم، وبه قال الجصاص وجل الحنفية.
"تيسير التحرير" 3/ 123، و"مسلم الثبوت" 2/ 181.
(2) "المعتمد" 1/ 377 لأبي الحسين البصري.
(3) "التبصرة" (242)، و"الإحكام" للآمدي 1/ 248.

(4/127)


[الأحزاب: 21]، وهذا زجرٌ في طَيِّه (1) أمرٌ؛ لأنه يعطي: [أَنه] إنّما يتأسَّى به من كانَ يؤمنُ بالله واليومِ الآخر، ومن لم يتأسَّ به، فلا يؤمِنُ بالله ولا باليومِ الآخِر، والأمرُ المطلقُ يدل على الوجوبِ بما قدمنا.
فإن قيل: الاتباعُ المأمورُ به هو مشروطٌ بأنْ يعلمَ المكلَّفُ على أيِّ وجه فَعَلَه ليصحَّ الاتباعُ له، وأعمال القُرَبِ والعباداتِ ليست صوراً، بل المعوَّل فيها على المقاصدِ والنياتِ، فإذا كان النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - يصلي، ونحنُ لا نعلمُ هل يتنفلُ أو يفترضُ؟ أو وجدناه يتصدَّقُ، فلم نعلم يكفِّرُ عن حِنْثٍ، أو يزكِّي عن نصابٍ؟ أو وجدناه جالساً في المسجدِ، فلم نعلم أمعتكف هو، أو جالس لشأن له يخصه؟ لم يكن فعلنا كما فعل؛ لأنَّنا إنْ فعلنا ذلك صورةً مع انعدام النية والقصد المعيِّن للفعل بنفلٍ أو فرضٍ، لم نكن متعبِّدين حَسَب تعبُّده، ولا عالمين بحصول شرطِ اتباعه، فلا يكشف ذلك ويُبيِّنُه إلا قولُه - صلى الله عليه وسلم - وإعلامُه، كما نحر بُدْنَهُ يَوم عُمْرة القَضِيّهِ اتباعاً لأمرِ الله (2)؛ حيث أمره أن ينحرها حيثُ حصر، وحيث بلغ، لَمَّا كان الهديُ معكوفاً أن يبلغ مَحِلَّه، ومثل قوله - صلى الله عليه وسلم -: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (3)، وقولُه للسائل عن الصلاة: "صلِّ معنا" (4)، وقوله: "خذوا عني مناسككم" (5).
فيقال: إنَّ الاتباعَ في الصورةِ كاف بنية المتابعةِ، فإذا اعتقدَ
__________
(1) في الأصل: "طي".
(2) تقدم في الصفحة:28.
(3) تقدم تخريجه 2/ 174.
(4) تقدم تخريجه 1/ 194.
(5) تقدم تخريجه 1/ 194.

(4/128)


المكلَّفُ بالصلاةِ اتباعَ النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، واعتقدَ وجوبَ اتباعِه فيها، كفى، إلى أنْ تقومَ دلالة على بيان اعتقادِ شيءٍ آخَرَ، فإن بانَ أنَّه كان يَتَنَفَّلُ، كنا متنفلين، وإنْ كانَ واجباً، فقد أخذنا بالنية القصوى، وهي نيّةُ الإيجابِ، وإنْ كان أمراً يخصُّه، أَشْعَرَنا، كما رويَ عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أنَّه قال في إحرامِه: إهلال كإهلال رسول الله صلى الله عليه وسلم (1)، فأَبْهَم الإهلالَ مبادراً بالاقْتداءِ برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، وأوقفَ كيفيةَ النُّسكِ على رسولِ الله - صلى الله عليه وسلم - وكما أنَّا نفعلُ العبادةَ ونحنُ لا نعلَمُ نسخَها على جهةِ الوجوب، فإذا بانَ نسخُها، أو نسخُ شرطٍ من شروطِها، لم يضرَّنا ذلك.
والصحابةُ عَقَلَتْ ذلكَ، فخَلَعَتْ (2) نعالَها حيث خلَع نعلَه، إلى أن كشفَ عن علَّةِ خلعه، فأصابوا في أصلِ الاتباعِ، إذ لم ينكره عليهم، بل سألهم، ثمَّ بيَّن لهم علَّةً انفردَ هو بها (3).
وكذلكَ لَمَّا أَمَرَهم بفسخِ الحجِّ إلى العمرة، قالوا له: ما بالُكَ
__________
(1) أخرجه البخاري (1558)، ومسلم (1250) من حديث أنس رضي الله عنه، قال: قدم علي رضي الله عنه على النبي - صلى الله عليه وسلم - من اليمن، فقال: "بمَ أهللت؟ " فقال: أهللت بإهلال النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: "لولا أن معي الهدي، لأحللت".
(2) في الأصل: "فجعلت".
(3) يريد بذلك ما رواه أحمد 3/ 20، وأبو داود (650) من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: بينما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يصلي بأصحابه، إذ خلع نعليه، فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم، ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: "ما حملكم على إلقاء نعالكم؟ " قالوا: رأيناك ألقيت نعليك، فألقينا نعالنا، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "إن جبريل عليه السلام أتاني, فأخبرني أن فيها قذراً". وإسناده صحيح.

(4/129)


أمرْتَنا بالفسخ ولم تفسخ؟ فلم يُجبهم بأنَّني متميِّزٌ عنكم، ولا داخلٌ معكم، ولا (1) حكمي يخصُّني، ونسكي على وجه لا يلزمُني أنْ يكون على وجه نسكِكم، ولي حكمي ولكم حكمُكُم، بل قال قولاً يعطي عذراً اختصَّ به (2)، وهذا بيانٌ منه - صلى الله عليه وسلم - أنَّ حكمَه حكمُهم لولا معيقٌ أعاقَ، فقال: "لو استقبلتُ من أمري ما استدبرتُ، لما سُقْتُ الهَدْي، لكنِّي سقت هديي، ولبدْتُ رأسي، فلا أُحِلُّ حتى أنْحَر" (3).
وقالوا له: نهيْتَنا عن الوِصال وواصلتَ، فقال: "لست كأحدكم، إني أَظَلُّ عندربي يطعمني ويسقيني" (4)، وقال لأمَّ سَلَمة لما سُئلتْ عن قبلةِ الصائم، قال لها: "لِمَ لاَ تَقُولينَ (5) لهُم: إئي أُقَبلُ وأنا صائم؟! " (6).
ولو لم يكن مُتَّبَعاً في أفعالِه، لما كانَ إعلامُهم بذلك جواباً عمّا سألوه، وإنَّما هذا دلالةٌ على أنَّ الأمرَ كان مستقِرّاً على أنَّ أفعاله مُتَّبَعةٌ.
وقال لها لما سألته عن حكم الشَّعْرِ في الاغتسالِ: "أما أنا فيكفيني أنْ أحثوَ على رأسي ثلاث حَثَيات من ماء" (7).
ولما أمَرَ - صلى الله عليه وسلم - بالنحرِ للهدي الذي حُصِرَ عن مَحِلِّه، فتوقفوا،
__________
(1) في الأصل: "بل".
(2) تقدمت الإشارة إليه في قوله - صلى الله عليه وسلم -: "إني سقت الهدي فلا أحل حتى أنحر" انظر 2/ 26.
(3) تقدم تخريجه 2/ 26.
(4) تقدم تخريجه 2/ 26.
(5) في الأصل: "تقولي".
(6) تقدم تخريجه 3/ 103.
(7) تقدم تخريجه 2/ 23.

(4/130)


أشارت عليه أُمُ سلمة بأنْ يخرجَ فيذبحَ، فخرجَ فذبحَ هديه، فاتبعوه في ذلك (1).
ولمَّا سمع تحرُّجَهم من استقبالِ القبلةِ في البنيان بالحاجة، ورويَ (2): أنهم تَحَرَّجُوا من استقبالِ بيت المقدس بالحاجة، قال - صلى الله عليه وسلم -: "أَوَقد فعلوها؟ حَوِّلُوا مَقْعَدتي (3) إلى القبلة" (4)، فجعلَ تحويلَ مقعدته مبالغةً في البيانِ لهم، ولو لم يكن حكْمُهُم حُكْمَه، لما كان في ذلكَ بيانٌ للجوازِ، وهذا كُله يرجعُ إلى أنّه يُتَّبعُ في أفعالِه، كما يُتَّبع في أمره.
وممَّا يَعضُد هذا: أنَّهم لما اختلفوا في الإكْسَال والإنزال، وقال قوم: الماءُ من الماءِ، وقال قوم: إذا التقى الخِتانان، وجب الغسل أنزلَ أو لم يُنزِلْ، وكَثُرَ خِلافُهم في ذلك، أنفذَ عمرُ بنُ الخطابِ رضي الله عنه إلى عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، فسألها فلمَّا أخْبَرَت بأنها كانت تفعلُه ورسولُ الله، وأن التقاءَ الخِتانين بمُجرَّدِه كان يغتسل منه (5)، لم تَزِد على الإخْبارِ بفعْلِه، فأخذَ عمرُ النَّاسَ
__________
(1) أخرجه البخاري (2731)، وأبو داود (2765) من حديث سلمة بن
الاكوع رضي الله عنه. وانظر 3/ 258.
(2) في الأصل: "فروي".
(3) في الأصل: "مقعدي".
(4) أخرجه أحمد 6/ 239، وابن ماجه (324) من حديث عائشة رضي الله عنها. والحديث أعلّه البخاري وأحمد، وصحح البخاري وقفه، وزعم ابن حزم أنه ساقط، لكن قال النووي رحمه الله تعالى: إسناده حسن. هذا وقد فصَّل الشيخ أحمد شاكر في تعليقه على "المحلى" 1/ 195 - 198 الأقوال في الحديث ورجّح أخيراً: أنه صحيحٌ على شرط مسلم.
(5) أما حديث عائشة رضي الله عنها: فأخرجه أحمد 6/ 161، والترمذي =

(4/131)


بذلك، ونهى زيدَ بنَ ثابت عن الفتوى في ذلك بغير ما خبَّرت به عن رسول الله، فصارَ فعلُه في ذلك كقوله بإجماع الصحابة.
فهذه الرواياتُ صالحة للدلالةِ في المسألةِ، لكنَّني جعلتُها جواباً عمَّا ذكروه، وكاشفةً عمَّا أغفلوه من الآي.
وليسَ لهم أنْ يقولوا: إنها آحاد، وإنّنا نتكلَّم في أصلى لا يحتملُ خبرَ الواحد، لأنَّ هذه أخبار متلقاةٌ بالقبولِ، كَثُرَتْ طُرقهَا، وصحَّ سندها، فهي كالمتواترة.
على أنه لا تُطْلب لأصولِ الفقهِ الأدلةُ القطعيةُ، إذ ليست كأصولِ الدياناتِ (1)؛ بدليلِ أنَّه لا يُفَسَّق المخالفُ فيها ولا يكفَّرُ، ومبناها
__________
= (108)، وابن ماجه (608) من طريق الأوزاعي، عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عنها. وقال الترمذي: حسن صحيح.
وقال الحافظ في "التلخيص" 1/ 134: وصحَّحه أيضاً ابن حبان وابن القطان، وأعلَّه البخاري؛ بأن الأوزاعي أخطأ فيه. ورواه غيره عن عبد الرحمن ابن القاسم مرسلاً، واستدل على ذلك: بأن أبا الزناد قال: سألت القاسم بن محمد: سمعتَ في هذا الباب شيئاً؟ فقال: لا! وأجاب من صحَّحه: بأنه يحتمل أن يكون القاسم كان نسيه، ثم تذكر، فحدث به ابنه، أو كان حدث به ابنه ثم نسي بعده.
أمّا القصة وأصل الخلاف، دون ذكر نص الحديث: فقد أخرجها أحمد
5/ 115 - 116، والترمذي (115)، (111)، وابن ماجه (609) من طريق الزهري، عن سهل بن سعد، عن أبي بن كعب.
(1) هذا على مذهب المتكلِّمين: من أنَّ الأصولَ الاعتقاديةَ تحتاجُ إلى نقل قطعيِّ الثبورت، ومذهبُ أهل الحديثِ: أنّه لا فرفَ بينَ الأصول والفروع، بل =

(4/132)


على لغاتِ العربِ المنقولةِ، والاستدلالاتِ الإقناعيةِ دونَ الدلائلِ القطعيةِ.
ومنها: قولُه تعالى: {فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا} [الأحزاب: 37]، فلو لم يكُن فعلُه (1) تشْريعاً وواجباً اتِّبَاعُه، لَمَا كان تزويجُه بها (2) مزيلاً عنَّا حرجَ التزويج بأزواجِ أدعيائنا.
وهذه آكد آيةٍ في هذا المذهبِ، فكأنَه سبحانه يقولُ فيما يفعله، كيف (3) نفعلُه، فالمباحاتُ لك إباحةٌ لهم، فيعطي ذلكَ: أنَّكَ المتَّبعُ قولاً، وفعلاً: وجوباً، واباحةً، وندباً.
__________
= هذا التقسيم كله من اختراع المعتزلة وغيرهم من المتكلمين، كما قال شيخُ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى.
هذا وقد بَسط الأدلة على وجوبِ الأخذ بخبر الواحد مطلقاً: الإمامُ الشافعي في "رسالته" في الأصول، وابن القيم في "الصواعق المرسلة".
وذكر الإمام الصنعاني في "إجابة السائل شرح بغية الآمل" (107): أنَّ له رسالة مستقلة في البابِ، أسماها: "الأجوبة الرضية عن المسائل الصعدية"، والله أعلم.
(1) في الأصل: "قوله".
(2) في الأصل: "لها".
(3) في الأصل: "فكيف".

(4/133)


فَصْلٌ
في الاستدلالِ بغيْرِ السَّمْعِ
فمن ذلكَ: أنَّه إذا فعلَ ذلكَ، لم نأمن أنْ يكونَ واجباً، فإذا أخللنا باتباعِه، كانَ وبالاً علينا بإيجاب العقوبةِ، واتباعُه احترازٌ واحتياطٌ، والتَّحرُّزُ من المضارِّ واجبٌ (1)، فكيفَ الَّتحرزُ من عقابِ الله؟ ولذلك وجَبَ فعلُ خمس صلواتٍ على مَن نسيَ صلاةً من يوم، وصومُ ثلاثين (2) يوماً احتياطاً للصوم، وحرَّمنا جميعَ زوجاتِ من طلَّقَ واحدةً منهنَّ وأُنسيها، فالاحتياطُ أصلٌ من أصولِ الشريعة مرعيٌّ عندَ العلماءِ.
فإنْ قيلَ: لسنا ننكرُ الاحتياطَ لما وجبَ لئلا، يُخَلَّ به، فأمَّا الاحتياطُ لما عساه يكونُ واجباً، أو غيرَ واجب، فكلا (3)، وها هنا ما وجبَ شيءٌ، لكنَّنا نجوِّزُ أنْ يكونَ واجباً، والتًجويزُ لا يكونُ موجِباً.
ولأنَّه لا يجوزُ الاحتياطُ باعتقادٍ، بل غاية ما يقعُ الاحتياطُ بالأفعالِ؛ لأنَّ الاعتقاداتِ كيفَ حصلت؛ لإسقاطِ وجوبٍ، أو (4) إثباتِ وجوب، على حدٍّ سواء، فإن اعتقد وجوبَ ما ليسَ بواجب، كفرَ، وإن اعتقدَ نفيَ وجوبِ الواجبِ كفَرَ، فلا يتحقَّقُ التحرز والاحتياطُ في الاعتقادِ، وقد يكونُ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَعَلَه نافلةً، فيعتقدُ
__________
(1) في الأصل: "واجبه".
(2) في الأصل: "وصوم أحد وثلاثين"، وهو خطأ.
(3) في الأصل: "فضلا".
(4) في الأصل: "و".

(4/134)


المكلَّفُ وجوبَه، فهذا تغريرٌ بالأديانِ.
فيقال: إن الاحتياطَ واجبٌ بفعلِ ما ليسَ بواجبٍ خوفاً أنْ يكونَ واجباً، ولهذا نتحقَّقُ أنَّ أربعَ صلوات ليست (1) واجبة، ونصليها خوفاً أنْ يكونَ فيها واجب، ولا نَتحقَّقُ أن يومَ الثلاثينَ من رمضان مع حصولِ الغَيْم في ليلتِه، ونوجب صومَه عن رمضان.
ولا يضرُّنا اعتقادُ وجوبِ اتِّباعه - صلى الله عليه وسلم - ان جازَ أنْ يكونَ في ذلكَ الفعلِ متنفلاً، كما لا يضرُّنا فعلُ العبادةِ مع الغيبةِ عن مكانِه - صلى الله عليه وسلم - وما يقاربه واعتقاد بقاءِ وجوبها، وأنَّ الصلاةَ الفائتةَ في الخمس، واليومَ يجوزُ أنْ يكونَ من رمضان، فنفعلُ ونعتقدُ الأكثرَ، ليحصُل التَحَقُّقُ.
كذلكَ إذا فعلناه على أنَّه واجب دخلَ فيه الندبُ، فإذا فعلناه على وجهِ النَّدب، واعتقدناه ندباً، لم يدخل فيه الواجبُ، ولا يحصلُ اعتقادُ الوَجوبِ، فوجبَ أنْ نأتيَ بالأعلى ليتحققَ الأَدْنى، كما وجبَ فعل الأكثر واعتقادُه، ليتحقق ما في طيِّه من الأقلِّ، مع تجويزنا النسخَ المخرِجَ لها عن كونها واجبة، على أنَّه ليس باحتياطٍ مع عدمِ الدليل، وما يصلحُ للإيجابِ، لما نبيِّنه من الدليل الثاني.
ومن ذلكَ: أنَّ أفعاله - صلى الله عليه وسلم - كأقوالِه؛ من أنَّها تقضي على أقواله وكتابِ الله تعالى، وتُؤثِّرُ أثَرَ أقوالِه، وهو تخصيصُ العموم، وتفسيرُ المجمل، وما (2) جرى مجرى الأقوال في هذينِ الحكمين والقضائين، كانَ طريقاً للوجوب، ونصوغُه قياساً، فنقول: ما صلُح لتخصيصِ العمومِ وتفسيرِ المجَمل، دلَّ إطلاقُه على الوجوبِ، كالقولِ.
__________
(1) في الأصل: "ليس".
(2) في الأصل: "واذا".

(4/135)


فإنْ قيل: القولُ ذو صيغةٍ تنبىء عن الوجوبِ، والفعلُ صورة لا تعطي وجوبَ الجوابِ، فضلاً عن الاتِّباع، والقولُ خطابٌ يقتضي الجوابَ، فإذا قال: افعلوا، اقتضى ذلكَ أن يقولوا: سمعنا، وأطعنا، واستجبنا، والفعلُ لا يقتضي جواباً، فكيف يقتضي وجوباً؟ بل هو متردِّدٌ في نفسِه، فلو (1) ترجَّحَ إلى الوجوبِ، تردَّدَ بين الوْجوبِ في حقّه خاصةً، وبينَ وجوبهِ على غيرِه، فبانَ الفرقُ بينهما.
قيلَ: ومع هذه الحالِ قد قضىِ بتفسيرِ المجمل، وقضى على الصيغة العامة بالتخصيص، فإذا كان له رتبةٌ تقضي على الصيغ، لمَ لا يكون له حكمُ الصيغ؟
ومن ذلك: أنَّ النبوَّة رتبة للإبلاغِ والاستتباعِ، وإذا لم توجب اتباعَه فيما يفعلُه من القُرَبِ والعباداتِ، كان إسقاطاً لرتبتِه وحرمتِه، وإهمالاً لاتِّباعه، لا سيَّما وقد كانَ إذا جلَسَ وهم حولَه، لم يجز أنْ يخرجَ أحدٌ عنه إلا بإذنه، حتى ذمَّ الله قوماً من المنافقين يخرجونَ لائذين بالخارجين بإذنه، فقال: {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]، فسمَّى جلوسَه وجلوسَهم معه أمراً، وذمّ مفارقتهم له بغير إذن، فإذا قامَ مصلِّياً والجماعةُ جلوس، أو قامَ يطوفُ (2) وهم يتسامرونَ، فلا أحدَ يقومُ معه، فيتَّبِعُه في ذلك النُّسْكِ، كانَ من أكثرِ الإهمال، وأوهنِ الإغفالِ لرتبته - صلى الله عليه وسلم -، حتى إنه لما دعا رجلاً وهو في الصلاة، فلم
__________
(1) في الأصل: "ثم لو".
(2) في الأصل: "نظرت".

(4/136)


يُجبْه عاتبه (1) على ترك جوابه، فلما اعتذر بكونه في الصلاة، قال: "أَما سمعتَ اللهَ عزَّ وجل يقول: {اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ} [الأنفال: 24] " (2) فالوجوبُ بفعلِه أشبهُ من النَّدب، إذ كانَ المندوبُ مخيَّراً بين اتباعِه وتركِه، والايجاب ما حَتَّم الفعل، وضُيقَ على الأمة تركُه، فلا يحتملُ [إِلا] تبجيلَ النبوة، وإعظامَ شأنِها.
وأوردَ بعضُهم في النظرِ على هذهِ الطريقةِ سؤالاً صالحاً، ويصلحُ أن يكونَ من جملةِ ما يحتجونَ به، وذلكَ: أنَّه لو كانَ تركُ الاتِّباعِ له إهمالاً، أو إسقاطاً لحرمةِ النبوةِ، لوجبَ إذا كانَ النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - تاركاً لتعبُّدٍ لا يُعلم سببه؛ إمَّا (3) لاستراحةٍ، أو لاستطراحٍ، أو قيلولة، أنْ يكونَ التركُ للتعبُّد في حقِّنا حالَ تركه واجباً، والفعلُ للعبادات في تلك الحالِ افْتِئاتاً (4) عليه وتعاطياً، وعساه كان ترْكُه في تلك الحال لِعِلْمِه أنَّ التعبدَ فيها مفسدةٌ، كما كانَ بعضُ الأوقاتِ يُنهى فيه عن التعبداتِ؛ كصومِ العيدينِ، وأيام التشريق، والصلاةِ في الأوقاتِ المذمومة (5)، وإذا لم يكن الاقتداء به في التركِ واجباً، وإن جازَ أنْ يكون تركه في ذلك الوقت واجباً، ولم يكن افتِئَاتاً عَليه، ولا مراغمةً له، ولا إهمالاً لحرمته، ولا وهناً في رتبته، فكذلكَ تركُ اتباعِه في فعلٍ لا يُدركُ على أيِّ وجهٍ فعلَه، لا يكونُ حَطّاً، ولا إهمالاً، ولا طَعْناً في رتبته - صلى الله عليه وسلم -.
__________
(1) في الأصل: "عتبه".
(2) تقدم تخريجه 3/ 19.
(3) في الأصل: "فإما".
(4) في الأصل: "امتناناً".
(5) في الأصل: "المعلومة".

(4/137)


ولأنَّ التركَ بصورتهِ عدمٌ مطلَقٌ ونَفْيٌ لا يدكُ على أن وراءه مكابدةُ نفسٍ في كفٍّ، وبهذا فارقَ القولَ؛ فإنَّه لو صرحَ بالأمرِ بالتركِ، وجب اتِّباعُه، ولو ترك بغيرِ قولٍ، لم يوجِبْ ذلكَ التَرْكُ اتِّباعَه فيه (1).
ولأنَّه قد يكونُ التركُ تعبداً، وإن كان رفاهيةً وراحةً، كقصرِ [الصلاة في] السفر، والرخص التي عاتبهمْ (2) على تركها، وقال: "إن الله يكره أن تتركَ رخصه" (3)، وقال: "من ذا الذي رد على الله رخصته؟ " (4)، وبلغَه أنَّ قوماً صاموا، فقال: "أُولئك
__________
(1) في الأصل: "واتباعه وفيه".
(2) في الأصل: "عتبهم".
(3) الحديثُ ورد بعدة ألفاظ، منها: عن ابن عمر عند أحمد في"المسند" 2/ 108 ولفظه: "إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يكره أن تؤتى معصيته".
وأخرجه ابن حبان في عدة مواضع من "صحيحه" عن أكثر من صحابي منها هذه الرواية (2742).
وعن ابن مسعود عند الطبراني في "الكبير" (10030)، وأبي نعيم 2/ 101 مرفوعاً بلفظ: "إنَّ الله عز جل يحب أن تقبلَ رخصه، كما يحبُ أن تؤتى عزائمه". وروي موقوفاً، وهو أصح.
وعن ابن عباس بلفظ: "إنَّ الله يحب أن تؤتى رخصه، كما يحب أن تؤتى عزائمه" عند ابن حبان (354)، والطبراني في "الكبير" (11880)، وأبىِ نعيم 8/ 286، والبزار (990). وإسناده صحيح.
وقال الهيثمي في "المجمع" 3/ 162: ورجال البزار ثقات، وكذلك رجال الطبراني.
(4) لم أجده بهذا اللفظ. لكن ورد عن يعلى بن أمية قال: قلت لعمر: إقصار الناس الصلاة، وانما قال الله جل وعلا: {إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ =

(4/138)


العصاة" (1)، وقال: "ليسَ من البرِّ الصومُ في السفر" (2)، وهو تركُ تعبد.
فيقال: أمَّا [إن] التركَ هو الأصلُ، وليس يُتعبَّدُ به إلا في نوادرِ أحوالٍ لا على (3) الإطلاق، فلا (4) يُسَلَّم، بل إنْ تَرَكَ في خلال فعل ما يشاكلُ ذلكَ الفعلَ، أو فعلَ فعلاً في مكان، أو مع شخصٍ، وتركَه في مكانٍ آخرَ، ومع شخص آخر، دلَّ على وجوب تجنُّبه، مثل أنْ وقفَ بعرفة، وتجنب عُرَنة، وأجابَ شخصاً دعَاه، ولم يستجب لآخر، وقصرَ الصلاةَ في سفرٍ، ولم يقصرها في سفر، كان ما تَرَكَه واجباً تركهُ، كما أنَّ ما فَعَلَه واجبٌ فعلُه، وإنْ كانَ تركهُ لا مغايرة بينَ مكانين، ولا زمانين، ولا شخصين، فإنَّما لم يدلَّ على الوجوبِ، لأنَّه إن (5) كان التركُ لا لتفرقةٍ بين فعلين، فإنما لم يدلَّ، لأنَّه كان يفضي إلى أنَّ تركَه للقولِ أيضاً يدلُّ على وجوب الترك، فلا يبقى لنا معه باقٍ ولا فعل، فإنْ كانَ قول يتعقَّبُه سكوتَ، فكانَ إذا أمرَ وجبَ، وإذا سكتَ سقطَ، فلا يستقرُّ لنا شرعٌ.
على أنَّه قد اعتَذر عن التركِ ببيانِ علَّةِ الترك، حيث لم يأكل
__________
= كَفَرُوا} [النساء: 101] فقد ذهب ذاك؟ فقال: عجبت منه حتى سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "صدقة تصدق الله بها عليكم، فاقبلوا صدقته" رواه مسلم (686)، وأبو داود (1199)، وأحمد 1/ 36.
(1) أخرجه مسلم (1114) (91)، والترمذي (710).
(2) أخرجه البخاري (1949)، ومسلم (1115).
(3) فى الأصل: "وعلى".
(4) في الأصل: "لا".
(5) في الأصل: "لأنه هو وإن".

(4/139)


الضبَّ، ثم قال: "إني أجد نفسي تَعافُه، لأنه لم يَكُن في أرضِ قومي" (1)، واعتذر عن تركِ فسخِ الحج إلى العمرة بسوقه للهدي (2)، وهذا يعطي أنَّ تركَه [لا] يجبُ الاقتداء به، فإنَّه يوهمُ التحريم في المتناوَلاتِ (3)، والإسقاطَ في العباداتِ، أو تحريم الفعل (4) لنا، مع أنَّه قد كانَ ينفر من تعاطي كثرةِ العبادات، ويكره التبتُّلَ، وشدةَ التقشفِ، والترهبنَ، ويذمُّ عليه كلَّ سالكٍ سلكه.
ولأنَّ التركَ يخالفُ الفعل؛ من حيث إنَّه لا يحصلُ به تفسيرُ مجملٍ، ولا تخصيصُ عموم، وإنما هو نفيٌ وعدم، ولأنَّ القائلينَ بالندبِ، لم يجعلوا تركَه للتعبُّدِ مؤذناً بالندب لنا على الترك لما هو عبادة؛ من صلاة، أو ذكر، أو تلاوة، فنكون مندوبين إلى الاستناد والاتكاء ما دام متكئاً، ومضطجعين ما دام مضطجعاً، لا يجوز لنا الاجتهاد حال تركه، بخلاف التعبد منه.
فقد بانَ الفرقُ بين الفعلِ والتركِ في حقِّه - صلى الله عليه وسلم -.
ومن ذلك: أنَّ ما فعلَه النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - حقٌّ وصوابٌ، ومصلحةٌ في الوقت الذي فعله على الوجه الذي فعله، هذا متحقِّق، فلا يؤمَن مع هذه الحال أنْ يكونَ اعتمادُنا إلى تركِه مفسدةً لنا في الدين والدنيا، وهذا هو الظاهرُ، فوجَبَ اتباعه، لنَحْظى بنيلِ الأصلحِ، ونأمَنَ مواقعةَ الأفسدِ.
__________
(1) أخرجه أحمد 4/ 88 - 89، والبخاري (5537)، ومسلم (1945)، وأبو داود (3794) عن عبد الله بن عباس، عن خالد بن الوليد رضي الله عنهما.
(2) تقدم تخريجه 2/ 26.
(3) في الأصل: "المتاولات".
(4) في الأصل: "بفعل".

(4/140)


فإنْ قيل: وكم من مصلحةٍ له تخصُّه - صلى الله عليه وسلم -، [هي] مفسدةٌ لنا، وكم من شيء يكونُ صلاحاً لنا دونه، وقد عُلِمَ ذلك بمخالفةٍ بيننا وبينه في تحريم أَشْيَاءَ عليه، هي مباحة لنا، كالصدقةِ، ونكاح الإماء، و [تحريمِ] أَشياءَ [علينا، هي] مصلحة له، وهي مفسدةٌ لنا، كالتزويجِ بغير حصر بعدد، ومثل أخذِ الماءِ من العطشان (1)، ومنها أشياء وجبت عليه، كالوتر، وقيامِ الليل، ولم تجب علينا، والسواك، إلى ما شاكل ذلك، فلا نَأْمَنُ أن نواقعَ باتباعه مفسدةً لنا، وإنْ كانَ الفعلُ مصلحةً له، فبان من هذا: أنَّه لا يلزم أنَّ ما كانَ في حقِّه مصلحةً، يكونُ مصلحةً فى حق كلِّ مكلَّف.
فيقال: إنَّ من كان قدوةً ومناراً للاتِّباع، لا يقعُ منه فعلٌ تخصُّه مصلحته، فيجوز له الإمساكُ عن بيانِ التخصيص له بذلك، وتخصيصِه لمصلحةٍ فيه، لا سيَّما إذا كانَ في حقِّ غيره مفسدةً، والدليلُ عليه: أنَّ المُتَّبَعَ إذا كانَ أتباعُه معه في طريقٍ وهو محتذٍ مُنتعِل، وهم حفاةٌ، فوَطِىءَ شَوْكَاً ومَدَراً، لا يُؤْذي المُحْتذيَ المُنتعِلَ، ويؤذي الحُفاةَ، لم يجز له المشي والإمساك (2)، فيكون غروراً لمن يتبعه، إذ علم أنَّ المُتَّبعَ له يتأذى لعدم الحِذاءِ، ومكان الحفَاَءِ، وكذلك من شربَ من ماء ينتفعُ هو به، أَو أكل ثَمَرةً (3) يعلم أنَّها توافقُ مزاجَه، وله تبع يعلم أنَّهم يستضرون بذلكَ الماءِ والثمرِ، فإنَّه يقْبُحُ ذلكَ منه، إذا علمَ أنَّهم يَغْترُّونَ (4) بتناولِه، وأنهم قد يَتَّبِعُونَه في ذلك، فكيف إذا عَلِمَ أنهم على الاتِّباع له لا مَحَالَةَ؛ فبان بهذا: أنَّه
__________
(1) انظر "الخصائص الكبرى" للسيوطي 2/ 244 و 245.
(2) أي: الإمساك عن بيان التخصيص له بذلك.
(3) في الأصل: "مرة".
(4) في الأصل: "يعثرون".

(4/141)


لا يجوزُ له التناولُ مع الإمساك، فلا يجوزُ له ها هنا الفعلُ مع مشاهدتِهم له، مع الإمساك عن إعلامِهم بتخصيصِه بالانتفاعِ بذلك، أو عدم الاستضرار.

فصلٌ
في شبهاتِ المخالفين لنفيِ الوجوبِ
وهم ثلاث طوائف: قائلونَ بالوقف، وقائلون بالندبِ، وقائلون بالإباحةِ.
فأمَّا أهلُ الوقفِ: فإنَّهم قالوا: إنَّ صورةَ فعلهِ - صلى الله عليه وسلم - لا تعطي حكماً، لأنَّ صورتَها في الواجبِ والندب والإباحةِ سَواء، ولا يمكنُ صرفُها إلى أحدِ هذه الأحكامِ إلا بدلالةٍ، ألا ترى إلى ما رويَ عنه - صلى الله عليه وسلم - كيفَ وصل الأفعالَ بالأقوال؟ فقال في أفعالِه ومناسكه: "خذوا عني مناسككم" (1)، وصلى، وقال: "صلوا كما رأيتموني أصلي" (2)، وصلى به جبريل، وقال: "الوقت ما بين هذين" (3)، وقال: "إنَّما جُعلَ الإمامُ ليُؤْتمَّ به، فإذا كبَّر فكَبِّروا، وأذا قرأ فأنْصِتُوا، وأذا صَلَّى جالساً، فصَلُّوا جُلُوساً" (4)، ولو كان للفعْل مقتضىً كالقولِ، لما احتاجَ إلى هذا كلِّه، وكفاه الفعلُ.
قيل: وقد وصلَ القولَ بالفعل، حيث قال: "الشهرُ تسع
__________
(1) تقدّم تخريجه 1/ 194.
(2) تقدم تخريجه 2/ 174.
(3) تقدم تخريجه 3/ 92.
(4) أخرجه أحمد (8889)، وأبو داود (604)، وابن ماجه (846)، والنسائي 2/ 142 من حديث أبي هريرة.

(4/142)


وعشرون"، ثم قال: "هكذا وهكذا"، يشير بأصابعه فعلاً (1)، وقال قولاً، وشبَّك بين أصابعه (2)، وبيَّن آيةَ الوضوءِ بفعله (3)، ولم يدلَّ ذلك على أنَّ القولَ ليس بدلالةٍ بنفسه.
وهذا يتحقق بشيء حَقَّقْناه لهم، وهو: أنَّ الإباحة إذن وإطلاقٌ على مذاهب الناس كلِّهِم، سوى من قال: ليس لنا فعلٌ مباحٌ، وهو الكَعْبِيُّ، وقد أجمع أهلُ الإثبات للإباحة: أنَّ ذلكَ لا يحصلُ إلا بإذنٍ سمعي، ولا سمعَ بالإذنِ لنا في فعلِ مثلِ ما فعلَه - صلى الله عليه وسلم -.
وأمَّا الندب: فهو نوعُ استدعاءٍ وحثٍّ من غير حَتْم؛ وهو استدعاء على صفةٍ، والفاعلُ إذا لم يكن [في] فِعْلِه إشارةٌ مفهومة تعطي الاستدعاءَ، كان صورةُ فعلِه هيئةً من هيئاتِهِ، يصحُّ أنْ تكونَ مُسْتَدْعاةَ منه باستدعاءِ غيره، وهو الأعلى الطالبُ منه تلك الهيئة باكتسابه لها، فأمَّا أنْ تقعَ استدعاءً وطلباً لمثلها من غيره، فليسَ ذلكَ وضعاً، ولا عُرفاً، وإنَّما تصيرُ الأفعالُ كالاستدعاءِ، إذا عُلِّقَ الأمرُ الصَّريحُ
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 194.
(2) لعله يريدُ بذلك ما ورد من حديث عبد الله بن عمرو بن العاص، أن رسولَ الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "كيف بكم وبزمان -أو قال: يوشك أن يأتي زمان- يغربل الناس فيه غربلة، وتبقى حثالة من الناس، قد مرجت عهودهم وأماناتهم، واختلفوا، فصاروا هكذا" وشبك بين أصابعه ...
إسناده صحيح، رواه أحمد 2/ 221، والحاكم 4/ 435. وعن البراء بن عازب أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً"، وشبك بين أصابعه. أخرجه البخاري (2446).
(3) تقدَّمت الإشارة إليه في حديث: "هذا وضوئي، ووضوء الأنبياء من قبلي". انظر 2/ 172 - 173.

(4/143)


عليها، فقيل: إذا أنا قمتُ فصلِّ، وإذا قَعَدْتُ فصدِّقْ، أو إذا قمتُ فقُمْ، وإذا قعدْتُ فاقْعُدْ، فأمَّا وجودُ صورة صامتة، فمن أيِّ وجهٍ تكونُ استدعاءً؟!
وأمَّا الوجوبُ، فأبْعَدُ، فيمتنعُ من حيثُ امتنعَ النَّدبُ، لأنَّ في الإيجابِ طلباً واستدعاءً، وزيادةَ -هي الحَتْمُ-، فإذا امتنعَ حصولُ الاستدعَاءِ بمجردِ الندبِ من صورةِ الفعلِ، فأَوْلى أنْ يمتنعَ الاستدعاءُ الحتمُ الواجبُ.
وإذا لم تعطِ الصورةُ حكماً من الفعلِ لغيرِ الفاعلِ - صلى الله عليه وسلم -، جِئْنا إلى حكمِ الفعلِ في حقَه، فوجدناه متردِّداً بين أنْ يكونَ وجِدَ منه امتثالاً لأمرِ ندب، أو لأمر إيجاب، أو فَعَلَهُ ابتداءً من نفسه؛ فلا طريقَ إلى القولِ بأنه أمر لنا، لأجل ما ذكرنا من عدمِ الاستدعاءِ، وترددِ الفعل لو ثبت أنه مُسْتَدْعىً منه - صلى الله عليه وسلم - فضلاً عن أن يكون مُوجِباً، فلم يبقَ إلا الوقفُ.
فيقال: إنَكم لو لحظتم الاستدعاءَ، لوجدتموه في كتاب الله تعالى؛ [كقوله] {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158]، {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} [النور: 63]، {قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا} [النور: 63] الحاصلُ منه: أنكم لا ينبغي أن تخرجوا من مجلسِه وهو جالسٌ إلا بإذنه، فهذا سَمْعٌ (1) يُعطي: وجوبَ اتباعه في أفعالِه وأقوالِه، فإن لم يكن في صورةِ فعلِه استدعاءٌ ولا طلبٌ (2)، كانَ الطلبُ من هذهِ الآي أن نأتيَ بمثلِ ما يأتي به من التعبدات، والاستدعاءُ
__________
(1) في الأصل: "يسمع".
(2) في الأصل: "طلباً".

(4/144)


المطلقُ يقتضي الإيجابَ، فهذا يعطي مرادنَا من الإيجاب.
وأمَّا قولكم: ليسَ في الفعلِ إباحة، فليس كما ذكرتم أيضاً؛ لأنَّه لما قامت الدلالةُ على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يُخَالِفُ عند من قال بعصمته، ولا يقَرُّ على الخطأ عند الكافَّةِ إن بدرتْ منه خطيئةٌ، كان أقل أحوال (1) فعله: الإباحة دون الحظر.
ويجري قوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] مجرى قوله: إذا قام فقوموا، وإذا قعد فاقعدوا، وإذا صلى فصلوا، وإن أحرم فأحرموا، وإن حلَّ فأحلُّوا.
وأمَّا إِتْباعُ (2) فعله بقوله (2)، أمثل،: "خُذُوا عَني" (3)، و"صَلُّوا كما رأيتُموني أُصَلِّي" (4)، فقد يكونُ تأكيداً في البيانِ، كما أكَّدَ القولَ بالفعل، فقال: "الشهرُ تِسع وعِشرونَ"، ثم قال: "الشهرُ هكذا وهكذا" وأشارَ بأصابِعهِ (5)، وقال ما قال، وشَبك بين أصابِعِه (6).
فإن قيل: هذا إنما يكونُ إن كان هو وأُمَّتُه متساويينِ في المصالح، فأمَّا إذا كان له مصالحُ (7) تخصه، لا يكون أحد (8) من أمته مشاركاً له في ذلك، وكان على المخالفة لهم لم يجز أن يكون الأمر
__________
(1) في الأصل: "الاحوال"
(2) في الأصل:"فقوله"
(3) تقدم تخريجه 1/ 194.
(4) تقدم تخريجه 2/ 174.
(5) تقدم تخريجه 1/ 194.
(6) تقدم تخريجه ص (143)
(7) في الأصل:"اصلح"
(8) في الأصل: "أحداً"

(4/145)


له أمراً لهم، ولا الإباحةُ له إباحةً لهم.
فيقالُ: إنَّ التكليفَ عمَّ الجماعةَ، وخُصَّ قومٌ دونَ قومٍ بأشياءَ بدلائلَ خاصَّة، وإلا فالمساواة هي (1) الأصلُ، حيث قال الله تعالى للكل: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158]، وقال هو - صلى الله عليه وسلم -: "أمري للواحدِ أمري للجماعة، أَمْري للمَرْأَةِ أَمْري لأَلفِ امْرأَةٍ" (2)، والإيجابُ هو الأصلُ، إلا أن تأتيَ دلالةٌ تصرفُ اللفظَ عن ظاهرِه، والدليلُ عليه: أنه لا يَتَعَبَّدُ من قِبَل نفسه، بل باستدعاءٍ وطلبٍ، والأصلُ مع عَدم العلم بقرينةٍ: الوجوبُ.
وقالَ بعضُ أهلِ العلم: النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - في الأُمَّةِ للاتبِّاع له، كالكعبةِ للاستقبالِ لها، فهي (3) للكل إلا من أُخْرِجَ بدلالة اَلعُذْرِ، كذلكَ النبي - صلى الله عليه وسلم - للاتباع في قوله استجابةً، وفي فعلِه (4) اقتداءً، إلا ما خُصَّ به دون أُمَّتَه بدلالةٍ.
فإن قيل: لو كان ما يفعلُه واجباً، لم يخلُ أنْ يكونَ واجباً عليه خاصَّةً، أو واجباً علينَا وعلَيْه، فإن كان واجباً علينا وعليه، وتشاغَلَ بفعله، ولم يُبَلِّغْنا الصيغةَ التي أوْجَبَتْ، فما بَلَّغَ، وحاشاه مع قوله [سبحانه] له: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة: 67]، وإن كان هذا الفعلُ هو بلاغه، فقد قصر؛ حيثُ أبدلَ الصيغَ والأقوالَ التي تعطي المعاني
__________
(1) في الأصل: "في".
(2) لا أصل له بهذا اللفظ، وقد تقدمت الإشارة إلى ما يفيد معناه بقوله - صلى الله عليه وسلم -: "قولي لمائة امرأة، كقولي لامرأة واحدة" انظر 2/ 121.
(3) في الأصل: "وهي".
(4) في الأصل: "قوله".

(4/146)


مكشوفة بألفاظ مفهومةٍ، بصورةِ (1) فعلٍ، لا تُعْطِي سوى المشاهدةِ لها، ولا تُعرِبُ عن شىء مفهوم، ولا معنى معقول، والبارىء قال له: {لِتبيِّنَ للنَّاس ما نُزِّلَ إليهم} [النحل: 144] فأمره ببيانِ الألفاظِ الغامِضَةِ، وماَ فيه نوعُ خفاءٍ بالبيانِ، والمجملةِ (2) بالتفسيرِ، والمختلفِ ظاهرهُ بالجمع، إلى أشباه ذلك، فكيفَ يَحْسُن مع هذا أنْ تنزَّلَ إليه صيغةٌ تقتضي الإيجابَ أو الندبَ أو الإباحةَ، فيَعْدِلَ عن تلكَ الصيغةِ إلى صورةِ فعلٍ لم توضع للإفْهَامِ ولا البَيَانِ؟!
فإذا لم يكن فيها إيجابٌ -وهو ما ادعيتموه-، ولا استدعاءٌ، ولا إطلاقٌ وإباحةٌ، لم يكن لنا سوى الوقفِ إلى أن يأتيَ البيانُ: مَن المُخاطَبُ به، وكيف الخطابُ، لئَلاَّ يُنْسَبَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم إلى ما لاَ يَليقُ به من التَّقصِير في البَيانِ والبَلاع المأمورِ بهما بنص القرآن، وهو قوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ} [المائدة: 67]، {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} [النحل: 44].
فيقال: لا بيانَ أوضحُ ولا أبينُ من الأمرِ باتِّباعهِ والتأسِّي به، والبيانُ الذي أُمِرَ به، تارة كان بفعلِه، وتارةً بقولِه، ولهذا أشارَ إليه بالبيانِ بالفعلِ، حيث نزَلَ جبريلُ، فصلى به عند البيت، وبَيَّنَ له المواقيت، وتنزل إليه، فبيَّن له المناسكَ، وبيَّن هو لأمتِه كما بُيِّنَ له، فقال للسائل صلى الله عليه وسلم: "صلِّ معنا" (3)، ورفع إناءه، وشرب في مسيره في رمضان حيث بلغ كُرَاعَ الغميم (4)، وطاف على
__________
(1) في الأصل: "مصورة".
(2) في الأصل: "والجملة".
(3) تقدم تخريجه في 1/ 194.
(4) أخرجه مسلم (1114)، والترمذي (710)، والنسائي 4/ 177 من =

(4/147)


البعير مبيناً للطواف (1)، وتوضأ بمحضر من أصحابه (2)، فلما بيَّنَ له الملكُ قولاً تارةً، وفعلاً أخرى، بيَّنَ هو لأُمَّتهِ بالطريقين، تارة قولاً، وتارة فعلاً، وصارَ للأُمَّةِ في سائرِ الأفعال والأقوال، كالإمامِ في الصّلاةِ للمأمومين، إنْ ركعَ ركعوا، وإنْ سجدَ سجدوا، وإن صلَّى قائماً أو قاعداً، صلَّوا خلفَه قياماً وقعوداً، وإن سجَدَ للسهو سجدوا، وإن كانَ سببُ السهو لم يعلموا به، كل ذلكَ لكونِه قدوة، وهم أتباعُه.
ومما تعلَّقَ به بعضُ أهلِ الوقف (3): أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - يجوزُ عليه الصغائرُ والخطأ، ودلائلُ ذلك معلومة، والعُتْبَى عليه من القرآن مسموعةٌ، فلا نأمنُ أن نَتَبِعَه في شيءٍ من هذه الأفعالِ، فنكون
__________
= حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما.
(1) أخرجه مسلم (1273) عن جابر رضي الله عنه، قال: طاف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالبيت، في حجة الوداع على راحلته، يستلم الحجر بمحجنه، لأن يراه الناس، وليشرف، وليسألوه، فإنَّ الناس غشوه.
وأخرجه البخاري (1607)، والترمذي (865)، والنسائي 5/ 233 من حديث ابن عباس.
وفي الباب: عن أبي الطفيل، وأم سلمة رضي الله عن الجميع.
(2) الأحاديث في وضوئه - صلى الله عليه وسلم - بمحضر من أصحابه كثيرة رواها جمع من الصحابة، كعثمان، وعلي، وعبد الله بن زيد، وغيرهم رضي الله عنهم.
ومن ذلك: ما أخرجه مسلم (226) عن حمران مولى عثمان، أن عثمان دعا بماء، الحديث ... ثم قال آخره: رأيت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توضأ نحو وضوئي هذا.
(3) القائلون بالوقف، هم: الصيرفي، وأكثر المعتزلة، واختاره الرازي.
راجع "المحصول" 3/ 330.

(4/148)


مخطئينَ أو عاصين، ونضمَّ إلى ذلك اعتقادَ الوجوبِ، فيكونَ ذلك أطمَّ وأدْهَى، فلا يُخَلِّصنَا من ذلك الخطرِ إلا الوقفُ إلى أنْ يأتيَ [في]، ذلك دلالة تكشفُ عن حقيقة الحال، ومثل ذلك: استغفاره لأمِّه وعمِّه مع الشرك (1)، فنستغفر نحن للمشركين.
فيقالُ: لا يمتنعُ مع هذه الحالِ أنْ يُكَلِّفَنا اتِّباعَه، وإن كانَ فيه سهوٌ أو خطأ، اسْتُدرِكَ بالرجوعِ عنه، ولسْنَا بأَوْفى منه، ولا يصونُنا البارىء عما لمِ يصنه عنه، فإذا جازَ أن يُؤَخِّرَ عنه البيانَ، ويُمكِّنَ من تلاوتهِ الشيطان، ثم يَنسَخَ ما (2) يلقيه الشيطانُ، ويُبَيِّن (3) له الخطأ، ليرجعَ عمَّا وقعَ منه بالخطأِ والنِّسْيَان، جاز أنْ يكلِّفَ اتِّباعَه على ما كان، ألا ترى أنَّ أقوالَه أيضاً لم تسلم من ذلك، ولا عُصِمَ فيها من زَلَّةٍ وخَطأ؟ فقد (4) صلَّى، فقصر من الركعات، وعاد فأتمَّ، وسجَدَ للسهو (5)، وندم على الفداءِ بعد أن وجب على أصحابه الاتباع في
__________
(1) حديث استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لأمه: أخرجه مسلم (976) عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: "استأذنت ربي أن أستغفر لأمي، فلم يأذن لي، واستأذنته أن أزور قبرها، فأذن لي".
أمَّا حديثُ استغفاره - صلى الله عليه وسلم - لعمه، وفيه: "لأستغفرنَّ لك ما لم أنَّهَ عنك" فأنرْل الله: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة: 113]: فرواه أحمد 5/ 433، والبخاري (1360) و (3884) و (4675) و (4772)، ومسلم (24) (40)، والنسائي 4/ 90.
(2) في الأصل: "بما".
(3) في الأصل: "وبين".
(4) وفي الأصل: "وقد".
(5) تقدم تخريجه في 2/ 551.

(4/149)


ذلك (1)، فلما لم يمنع هذا التجويزُ من (2) اتباعِه في أقواله، لم يمنع اتباعَهُ في أفعالِه، والله أعلم.