الواضح في أصول الفقه فصْلٌ
وأما القائلون بالإباحة فإن أرادوا بها (3): الإذنَ السمعي من
الله لنا في اتباعِ مثلِ الأفعالِ التي يفعلها النبي - صلى
الله عليه وسلم -، فذلك باطل؛ لأنه لم يرد سمع: بأنني قد
أبحتكم، وأطلقتكم في فعلٍ مثلِ فعله - صلى الله عليه وسلم -،
وإن أرادوا بقولِهم (4): إنَها على الإباحةِ: أن مثلها ليس
بمحظورِ علينا، وأنها تفعلُ على حكمِ العقل، فذلكَ صحيح، إلا
أن يَنْقُلَ (5) عن حكمهِ سمعٌ، وقد بيَّنا ذلك.
على أنَّ الإباحة لا تقع إلا موقع الحَظر، وذلكَ في غيرِ
العبادات، مثل: الأكلِ والشربِ، والُلبْس، والجماع، فأمَّا
التعبدات، فلا تقعُ إلا بالاستدعاءِ؛ لأنها لا تقعُ ريَاءً ولا
حَاجةً ولا عادةً، فأوَّلُ مراتبها، وأقلُّ مناصبها: الندبُ
والاستحبابُ، دونَ التخليةِ والإطلاقِ، ولا يُبتدأ بها
التكليفُ (6) في الشرع، إلا بالاستدعاء والطلب، والاستعباد
والامتحان، فأمَّا أنْ تقعَ على سبيل الإطلاق، فلا؛ لَأنها
مُقَيّدَةٌ مِنْ
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 26.
(2) في الأصل: "عن".
(3) في الأصل: "أراد به".
(4) في الأصل: "أراد بقوله".
(5) في الأصل: "ينتقل".
(6) يمكن أن تقرأ في الأصل: "المتكلف" أو "التكلف".
(4/150)
دواعي النفوس، ومعدولٌ بالمتعبَّدِ بها عن
سَمْتِ العادةِ، وما كانَ بهذهِ الصِّفةِ، لم يَجُزْ أنْ يكونَ
فعلُه إباحةً وإطلاقاً، بخلافِ ما تميلُ النفوسُ إليه، وتقومُ
به، فإن أوَّلَ وهلاتِ الإنعام به: الإطلاقُ في تناولِه،
والمتعةُ بهِ.
فصل
في شُبَه الحاملين لأفعالِه - صلى الله عليه وسلم - على
النَّدْبِ، دونَ الإيجابِ
فمن ذلك: قولهم: إنَّ اللهَ سبحانَه جعلَ التأسي بأفعالِ
رسولِه حسنةً، فقال: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21]، ولم يقرن (1) ذلكَ بلفظ
إيجاب، بأنْ يقولَ: عليكم، ولا بوعيدٍ على تركِ التأسي، فدلَّ
(2) تحسينُه له، ومدحُه عليه، على الندبِ؛ لأنَّ المندوبَ (3)
هو الذي يُثابُ على فعلِه، ولا يعاقبُ على تركِه.
ومن ذلك: أنَّ الندبَ أدنى المراتب في باب الاستدعاءِ والطلبِ
والتقرب، وأدنى طرقِ الاستدعاء للفِعْلِ؛ إذَ لا (4) صيغةَ له،
ولا يُصرِّحُ بالطلبِ كما يُصرِّحُ القولُ، فوجبَ أن لا
يُرْتَقَى به (5) إلى الإيجابِ -وهو الأعلى- إلا بدلالةٍ؛
لأنّه هو المُتيقَّن، فصارَ كلفظِ
__________
(1) في الأصل: "يفرق".
(2) في الأصل: "فدل على"، والأولى حذف لفظة: "على".
(3) في الأصل: "الندوب".
(4) قوله. "إذ لا"، رسمت في الأصل: "أحلا".
(5) في الأصل: "منه".
(4/151)
الجمع، يحملُ على أدنى مراتبِ الجمع -على
خلاف الناس في قدره: إما اثنان، أو ثلاثة-، لأنَّه اليقين.
ومن ذلك: أنَّ المندوباتِ من أفعالِه - صلى الله عليه وسلم -
كانت الأكثرَ والأظهرَ من الواجبات، فحُمِلَ فعلُه الذي لا
دالَّةَ على وجوبهِ، على عمومِ أفعالهِ وأكثرِها وقوعاً منه،
وهو الندبُ.
فصلٌ
في جمعِ الأجوبةِ
أما الآية: فإنَّها دليلٌ لنا، لأنَّها استدعاءٌ منا
الاتِّباعَ بلفظٍ مطلق، وقرينةُ الاستحسانِ لا تَحُطُّها عن
الإيجاب، لأنَّ كلَّ واجب حسن (1)، ولأنَّه قَرَنها بقوله:
{لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ}
[الأحزاب: 21]، كما قالَ سبحانه: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو
لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا} [الكهف: 110]
ونصَّ على مراده بهذه الآية بقولهِ في الآية الأخرى:
{وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158].
وأمَّا قولُهم: المُتيقَّنُ أدنى مراتبِ الأمر والقُرْبةِ -وهو
النّدبُ-، فيقابله: أنَّ الاحتياط القولُ بالإيجابِ الذي يدخلُ
في طيِّه الندبُ، والمخاطرةُ حملُه على الأَدْنى، فيفوتُ
الإيجابُ، ومَن حمَلَه على النَّدب، جوَّز التركَ لاتِّباعِه
في التعبد، وفي ذلكَ خطر وتغريرٌ، ولأنَّ الحملَ له على أعلى
مراتب التعبُّد حراسةٌ للتأسي المأمورِ به، وفي التخيير إسقاطٌ
للتأسي، ولهذا في باب القول، لم يُحمل على أقلِّ
__________
(1) في الأصل: "حسناً".
(4/152)
مراتب التعبُّدِ والاستدعاءِ، وفارق
المقاديرَ (1) بالجمعِ والأمر به؛ لأنَّ مرتبةَ الجمع لا غايةَ
لها، فحُمِلَ على ما انْحَرَسَ فيه الجمعُ، ومرتبةُ الأمرِ
الإيجابُ الذي يحرسُ التأسي، ولا يُسقطُه.
وأمَّا قولهم: إنَّ الندبَ أكثرُ أفعاله، فَحَمَلْناهُ عليه؛
لأنَّه العامُّ المستدامُ، فالإباحةُ أعمُّ، وكانَ يجبُ أن
نحْمِلَه على الإباحةِ، كما قالَ بعضُ الأصوليين.
على أنَّ أقوالَه وأوامره بالندبِ كانت أكثرَ من أوامره
بالإيجاب، ولم يُحْمَل مطلقُ أمرِه على الندب، فإن مَنَعوا في
القَوْلِ أيضاً، دللنا بما دلَّلْنا به في مسألةِ الوجوب.
ولأنَّ المجاز الذي كثُرَ استعمالُه، عمَّ استعمالُه، ولم
يوجِب ذلكَ أن يُحملَ إطلاقُه على غيرِ الحقيقةِ، لأجلِ قِلةِ
استعمالِها، وكثرةِ استعمالِ المجاز.
فصل جامع لشُبَه من نفى الوجوب، ممَّن قال منهم بالوقف،
والندب، والإباحة
فمنها: أن قالوا: إنَّا لم نجعل صيغةَ الاستدعاء أمراً إلاَّ
برُتبةٍ في المُسْتدعِي، بأن يكونَ أعلى، ولم نقنع بمجردِ
الصيغةِ في حكمِنا عليها بأنَّها أمر، فوجبَ أن لا تُعطى صورةُ
الفعل رتبةَ الإيجابِ إلا بدلالةٍ تدلُّ على الوجهِ الذي خرجَ
عليه الفعلُ.
فيقالُ: قد اعتبرنا الرتبةَ في الفاعلِ، وهي النبوةُ الموجبةُ
للاقتداءِ
__________
(1) في الأصل: "الأقادير".
(4/153)
والاتَباع، ثم خروجُ الفعلِ على وجهِ
التعبد، فإنَّ ما خرجَ لا على وجهِ التعبُّدِ، لم نَقُلْ
بوجوبهِ، بل بمُجرَّدِ إباحتِه.
ومنها: أنَّ أفعالَه أكثرها كانت مخفيةً مطويةً عن الأمة، فلا
يجوز أن يُجعلَ ما هذا سبيله كالنطقِ الذي لا يجوزُ له كتمُه.
فيقالُ: فما خفيَ منها قد كُشِفَ للتأسي به والاتِّباع له،
تارة به، مثل قوله في غسله الذي لا يشاهدُ: "أمَّا أنا فأحْثُو
على رأسي ثلاث حَثَيات من ماءٍ" (1)، ومثل قوله لأم سلمة
لَمَّا سُئِلَت عن قُبلة الصائم: "هلا أخبرتيهم أنَّني أقبِّلُ
وأنا صائمٌ" (2)، و [تارةً بغيرهِ] مثلُ قول عائشة لما اختلفوا
في الِإكْسال والإنزال: إذا التَقَى الخِتانانِ، وَجَبَ
الغُسْلُ، أنْزَل أو لم يُنزِل، فَعَلْتُه أنا ورسُول الله،
فاغْتَسَلْنا (3).
على أنَّ النبيَّ - صلى الله عليه وسلم - لا يطوي من أفعالِه
إلا ما لا يَجعله بمنزلة الأمرِ، فأمَّا ما يستدعي به
الاتِّباعَ، فلا بُدَّ أن يُظهرَه، ولا يطوي إلا النوافلَ
المحضة، وهذا يعطي: أنَّ ما أظهره الإيجابُ، إذ كانَ لا يخفي
إلا النوافلَ، ولهذا قال في التَّرَاويح (4): "ولو خَرَجْتُ
الرَّابعَة، خفتُ أن تُفْرَض عليكم" (5).
ومنها: قولهم: لا يخلو قولكم بوجوبِ اتباعِه في أفعالِه أن
يكونَ
__________
(1) تقدم تخريجه 2/ 23.
(2) تقدم تخريجه 3/ 103.
(3) تقدم تخريجه 3/ 130.
(4) في الأصل: "التواريخ".
(5) أخرجه من حديث عائشة: البخاري (1129)، ومسلم (761)، وأبو
داود (1373)، والنسائي 3/ 202، وابن حبان (2542).
(4/154)
بطريقِ العقل أو السمع، والعقلُ يمنعُ من
أن يقْدِمَ الإنسانُ على إيجابِ فعلٍ ما لأجل وقوعِه من غيره،
مع ثبوتِ العلمِ باختلافِ (1) أحوال الناس في المصالح والمفاسد
في بابِ الأديان، كاختلافِهم في بابِ الأمزجةِ والأبدانِ، وكما
أنَّ مزاجَ بعضِهم يقتضي تناولَ الحموضاتِ والمسهِّلاتِ من
المآكلِ والمشارب، ومزاجَ آخرين يقتضي تناولَ الحلوِ أو
المرِّ، فلا يُجَوِّزُ العقلُ أن ينزَّلَ الإنسانُ في ذلكَ على
قالبِ غيرِه، كذلكَ وجدنا أنَّ الشرع خَالَفَ وفاوتَ بين
الأشخاصِ بحسبِ اختلافِ أحوالِهم، فما يُسْتَرُ من الحُرَّة
يُكْشَفُ مِن الأَمَةِ، وما يكونُ قُرْبةً من المُقيمِ الصحيح،
يكونُ ضدُّه هو القُرْبةَ في حقِّ المسافرِ والمريضِ، وعلى هذا
الَاختلاف، فهذا يعطِّلُ دليلَ العَقْلِ عن إيجابِ الاتِّباع
للغَيْرِ، إلا بدلالةٍ تدُلُّ على الموافقةِ من عندِ من يعلمُ
المصالحَ، واَلسمعُ لم (2) يَرِدْ بوجوبِ مثلِ ما فعلَه علينا،
وإذا تَعَذَّر دليلُ الإيجابِ، بطلَ القولُ بالوجوب.
فيقال: إنَّ ورودَ هذا من القائلِ بالندبِ، لم يصحَّ، وإن وردَ
من القائلِ بالوقفِ، فإنَّه أيضاً لا يصحُّ؛ من حيثُ إنه وإن
نفى الندبَ والإيجابَ، فما (3) نفى جوازَ الصلاةِ والصيامِ
والطوافِ وغيرِ ذلك مِمَّن رأى النبيَّ - صلى الله عليه وسلم -
يفعلُ ذلك، وتجويزُ المفسدة كان يجبُ أن يَمنعَ استواءَ
المكلفين في حكمٍ واحدٍ -سواء كان ندباً، أو إيجاباً، أو
وقفاً-، لِمَا ذكرت من اختلافِ أحوالِهم، كما يُمنعُ الإنسان
من اتباعِ غيره، في شربِ دواء، أو أكل غِذاء، مع وجودِ مخالفةِ
تأثيرِ
__________
(1) في الأصل: "بالاختلاف".
(2) في الأصل: "فلم".
(3) في الأصل: "فيما".
(4/155)
المزاجين.
ويقالُ (1): لا يجوزُ أن نُقْدِمِ على اتِّبَاعِه في فِعْلٍ
يَفْعَلُه، ودَليلُهُ يُعْطي حَظْرَ الاتِّبَاعِ، وَما
حَظرَهُ، ألا ترى أنّه اسْتَشْهَدَ بشُرْبِ (2) الأدْوِيَةِ؟
فإننا لا نُجوِّز أن نَشْرَبَ الدواءَ المسهِّل، لِمَا نَراهُ
من شرب حكيم في الطِّب مقدَّمٍ في الصناعة (3)، لتجويزِنا أنْ
يكونَ ما ينفعُهُ أوَ يتداوى به مَضرَّةً لنا، وداءً لا دواءً،
وإذا لم يَجُز اتباعنا له، بطلَت هذه الطريقَةُ.
وأمَّا نحن فإنَّا لم نَقُل بالإيجاب إلا بالسَّمع، وهو الأمرُ
باتباعِه والتأسي به، وكونُه جُعِلَ علماً ومناراً يُحتذى في
التعبداتِ، ويُتبعُ في الأفعالِ، كما جُعِلَت الكعْبَةُ
قِبْلَةً يُتَوجَّهُ إليها في الصلوات.
وما ذكرناه من الاستدلالات النظريةِ فيه كفايةٌ.
فَضلٌ
إذا ثبت أنَّ أفعاله - صلى الله عليه وسلم - دالَّةٌ على
الوجوب، فإنَّ ذلك من جهة السمعِ، خلافاً لبعض الأصوليين ممن
قال بالوجوبِ: [أنها] إنما تجب بطريق العقل (4).
__________
(1) في الأصل: "فيقال".
(2) في الأصل: "شرب".
(3) في الأصل: "الصناعة يشرب"، ولفظة: "يشرب" مقحمة لا داعي
لها، لذا حذفتها.
(4) "العدة": 3/ 749.
(4/156)
فَصْلٌ
يَجْمَعُ دَلائِلَنا
فمنها: أنَّ أحوالَ المكلفين مختلفةٌ غايةَ الاختلاف، ولهذا
خالفَ اللهُ سبحانَه بينهم في التكاليفِ بحسب اختلافِ
أحوالِهم، فخصَّ العبيدَ والإماءَ بأحكام تخالفُ أحكامَ
الأحرارِ، وخصَّ الإناثَ بأحكامٍ تخالفُ أحكامَ الذكورِ،
وكذلكَ المسافرينَ والحاضرينَ، والمرضى والأصحَّاء، وأهلَ
الباديةِ وأهلَ الأمصارِ، فإذا كانَ كذلك، لم (1) يثبت عندنا
بالعقلِ تساوي حالِ النبيِّ وأُمَّتِه من جهةِ العقلِ، فلا
وجْهَ لوجوبه بطريقِ العقْلِ من هذا الوجهِ، الذي هو عدمُ
العلمِ بالمساواةِ، فكيفَ وقد بان لنا اختلافُ حالِ النبي -
صلى الله عليه وسلم - وحالِ أمّتِه في تكاليف كثيرةٍ؟ تخفيفاً
عنه تارةً، وتثقيلاً عليه أخرى، وكرامةً له، وابتلاءً، فلا
يَتَهدَّى العقلُ إلى أنْ يحكمَ بأنَّ تكليفه لنوع تَعبُّدٍ:
أَنه (2) تكليف لنا، فَلَمْ يَبْقَ لنا طريقٌ إلى ذلك إلا من
جهه السمعِ الواردِ من جهةِ من يَعْلَمُ المصالحَ العامَّةَ
والخاصَّة.
فإن قيل: هذا الاختلافُ موجودٌ بين آحادِ الأُمَّةِ، ثم أمْرُه
للواحد كان أمْراً للجماعة.
قيل: بطريق السمع أيضاً، حيث قال: "أَمْري للواحدِ أَمْري
للجماعة" (3).
ومنها: أن العقل لا يَتَهَدَّى إلى أصل المصالح العامة، فكيف
__________
(1) في الأصل: "فلم".
(2) في الأصل: "بأنه".
(3) تقدم تخريجه 2/ 121.
(4/157)
يَتَهَدَّى إلى مراتبِ المصالح، والتسويةِ
بين الأشخاص؟ إذ ما لا يَتَهَدَّى إلى الأصلِ، لا طريقَ له إلى
الكيفيةِ والتفصيل.
ومنها: أنْ تُبنى المسألةُ على أصلٍ، وهو (1) أنَّ العقلَ لا
يوجِبُ، ولا يَحْظُر، ولا يبيحُ، فلا وجهَ لإيجابه ها هنا.
وقد مضى في أَوَّلِ الكتاب ما فيه كفايةٌ لإثباتِ مذهبِنا (2).
فصلٌ
في شُبَهِهِم
فمنها: أنَّه إذا تعبَّد به، كانَ ذلك من مصالِحِه، فَيَجِبُ
أن يكونَ من مصالِحِنا أيضاً.
ومنها: أنْ قالوا: إنَّ ما فَعَله على وجهِ القربةِ حقّ وصواب،
وإنَّ الحقَّ والصوابَ يجبُ اتباعُه.
ومنها: أنَّ في نَفْي (3) إيجاب اتباعه ما يُفضي إلى ترك
اتباعِه؛ لأنَّ ما لا يجبُ على الَإنسانِ، مخيَّر بين فعلِه
وبين تركِه، وفي تركِ اتباعِه اظهارُ خلافٍ عَلَيْه، وفي ذلكَ
إسقاطُ حُرْمَتِه، وإغراءٌ بالتنفيرِ عنه، وتركِ الانقياد له،
لأنَّ مَلِكاً، أو متَقَدمَ مِلَّةٍ أو طائفة،
__________
(1) في الأصل: "و".
(2) أي: في مسألة التحسين والتقبيح، وأنَّ الحسَنَ ما حسنه
الشرع، والقبيح ما قبحه الشرع، وقد تقدم بيانها بالتفصيل في
المباحث الأولى من الكتاب.
(3) تحرفت في الأصل إلى: "معنى".
(4/158)
[لو] قامَ لدخولِ إنسان، فلم يقوموا
لقيامهِ، أو أبعدَ إنساناً وهجَرَهُ، فقاربوه ولم يهجروه،
وركِبَ للحرب، فلم يركبوا لركوبهِ، كان إهْوَاناً به، وإسقاطاً
لحرمتِه، والعقلُ يأبى ذلكَ، ويوجبُ ما يعظِّمُ حرمتَه،
ومتابعتَه، والانقيادَ له.
فهذا مُقْتضَى (1) العقلِ، ويكونُ ما يأتي من أدلة السمعِ
مُؤَكِّداً (2) للإيجابِ الحاصلِ بأدلةِ العقولِ التي ذكرناها،
لا أنَّه هو المفيدُ لذلك.
فصلٌ
في أجوبتهم
أما الأول، وقولُهم: إذا ثبتَ أنَّه مصلحة له، كان مصلحةً لنا،
فدعوى (3) عريضة، ولا يجوزُ أن يظْفَرُوا فيها ببرهان؛ إذ لا
دليلَ من جهةِ العقلِ يعطي تساوي شخصين في مصلحةٍ دينية، ولا
دنيويةٍ (4)، ولا بدنية، بل الأصلُ في المكلفين الاختلافُ في
طباعهم وأمزجتهم وأحوالهم، فكما لا يستحيل امتناعُ تساوي زيد
وعمرو في علاجِ مزاج، أو سبب يدعو إلى الاستجابةِ والانقيادِ،
كذلكَ لا يستحيلُ ولا يبعدُ انقطاعُ ما بيننا وبينه - صلى الله
عليه وسلم - في المصالح الخاصةِ لمعنى يخصُه، وانفرادُه (5)
عنا بأصلحَ يكونُ بِعَيْنِه مفسدةً لناَ.
__________
(1) في الأصل: "يقتضي".
(2) في الأصل: "مؤكدة".
(3) في الأصل: "دعوى".
(4) في الأصل: "نبوية".
(5) في الأصل: "منفرد".
(4/159)
ويقالُ أيضاً: قد يكونُ التعبُّدُ له
بالفعلِ على جهةِ الوجوب هو المصلحةَ، كما يكونُ التعبدُ له
ندباً هو المصلحةَ، وقد يكون من المصلحةِ جعلُ ما هو له ندبٌ
علينا فرضاً، وجعلُ ما هو عليه فرضٌ علينا ندباً، وقد تكون
المصلحة (1) [جعلَ] ما عليه ندب لنا مباحاً، لا واجباً ولا
ندباً، أو علينا مَحْظوراً، كما ذكرنا في اختلافِ التعبدات في
حق المكلفين بحسب أحوالهم، وقد عُلِمَ ذلك بكونِ كثيرٍ من
الأمورِ عليه مفروضةً، وفي حَقِّنا مندوبةً، وعليه محظورةً،
ولنا مباحةً.
وأمَّا الثاني، وقولُهم: إنَّ ما فعله حق وصواب، فيجب أن يكون
مُتَّبَعاً فيه، فغيرُ (2) صَحيح ولا لازِمٍ؛ لأنه إنَّما كان
حقّاً وصواباً؛ من حيثُ أُمِرَ به سَمْعاً وشرعًاً، وإلا فلا
يتهدى العقلُ إلى ذلك، فيجبُ أن لا يكونَ حقَّاً وصواباً في
حقنا إلا بدليلٍ سمعي، وهو الطريقُ الذي ثبتَ به كونُه في
حقِّهِ حقّاً وصواباً، والتساوي بيننا وبينه غيرُ معلومٍ عقلاً
ولا سمعاً، فلا وجه لدعوى كونه في حقِّنا صواباً وحقّاً؛ من
حيثُ كان في حَقِّه كذلك.
على أنّا قد اتفقنا أنَّ ما كان حقاً وصواباً في [حق] أحد
المُكلَّفينَ، لا يلزم أن يكون حقاً وصواباً في حقِّ المكلَّف
الآخر، فصلاةُ الأَمَةِ مكشوفةَ الرَّأْس، وصلاةُ العبدِ يومَ
الجُمُعةِ صلاةَ الظُّهرِ، وتركُ الحائضِ للصلَاةِ والصومِ،
وصلاةُ المسافر الرُّباعِيَّاتِ من الصلوات المفروضات ركعتين،
حقّ كلُّه وصواب، وليسَ ذلك في حقِّ الحُرَّةِ والحرِّ،
والطاهرةِ، والمقيمِ حقّاً وصواباً، فلا أفسد من هذه الطريقة،
__________
(1) في الأصل: "مصلحة".
(2) في الأصل: "غير".
(4/160)
وهي أخْذُ حُكْمِ أَحَدِ المكلَّفِينَ من
حكمِ الآخر قبل العلم بالدليل بتسويةِ ما بَيْنَهما.
فأمّا قولُهم: إنَّ نفيَ الوجوبِ يُنتج تركَ اتباعِه، وذلكَ
يؤدي إلى التنفيرِ عنه، واطِّراحِ حرمته، والإغراءِ بالميل
عنه، وتسهيلِ مخالفتهِ، فليسَ بشيء، لأن الذي يُنَفِّرُ عنه
مخالفةُ أمره، وتركُ الانقيادِ لما دعا إليه، أو الانخراطُ
فيما نهى عنه، فأمَّا تركنا أنْ نَفْعلَ مثل فعلِه، فليس ذلكَ
مما يُنَفِّرُ عنه، ولا يَظْهَر لأحدٍ أنَّه إنما فعلَ
لنفْعَل، بل العقلاءُ كلهم يعلمون أنَّ الفاعلَ إنما يفعلُ
لمعنى يَخُصُّه، كما أنَّه لا يكونُ فعلُنا للتعبدِ حالَ تركهِ
استراحةً (1)، وصومُنا حالَ فطرِه، تنفيراً عنه، ولا ميلاً عن
اتَباعه، ولأنَّه لو كانَ ذلك مُنفِّراً، لكانَ تركُنا لما
خُصَّ به من الفروضِ والمندوباتِ تنفيراً عنه، ولو كان ذلك
واجباً من طريقِ العقل، لبقي التنفير عنه، [و] لوَجَبَ أن
يُنْفى عَنْه السَّهوُ والخطأ، والنسيانُ والغَفلةُ،
والاستهتارُ (2) بالنساءِ، وتزويجُه، وخصومتُه لهنَّ،
وتغايرُهن عليه، فإنَّهم نفروا مما دونَه، دونه قالوا: {مَالِ
هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي
الْأَسْوَاقِ} [الفرقان: 7]، ومالوا إلى إنزالِ ملَك [لا]
يَغْمِسُه البارىء في الطبع الإنساني، بلهجه بالتزويج، وإباحة
هبةِ النساءِ نفوسَهن له، وجعلِه (3) له أن يَصْطَفي من
المَغْنمِ ما يشاءُ حتى النساءَ، ومعلومٌ أنَّ هذا من أعظمِ ما
يُنَفِّر عنه، وإنَّما أفرطت أمَّةُ عيسى فيه حتى قالت: إنه
إله، للامتناعِ من هذا الشأنِ، فكانَ ذلكَ تنفيراً (4) عن
الإذعانِ بالرسالةِ، ودعوى الربوبيةِ،
__________
(1) في الأصل: "استراحته".
(2) الاستهتار بالشيء: محبته والولوع به.
(3) في الأصل: "جعل".
(4) في الأصل: "تنفير".
(4/161)
وكانَ هذا منفِّراً عن نبيِّنا - صلى الله
عليه وسلم -، وتُهْمةً (1) [له]، بأنَّه مؤثر ومغتنم، وطالب
الحظوظ من الدنيا، ومغلوب شهواتِه وطباعِه، هذا كُلُّه تنفيرٌ،
وما صَدَفَ البارىء عنه، فَبَطَلَ ما تعلقوا به.
ومن ذلك: إبدالُ الآيةِ بالآية، ونسخُ التعبدِ بعد شرعهِ (2)،
والصرفُ من قِبلةٍ إلى قبلةٍ، فإنَّه قد جرَّ ذلكَ قولهم: {مَا
وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}
[البقرة: 142]، وقال سبحانَه: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً
مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا
إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ} [النحل: 101]، وكانَ يجبُ أن لا
يَجْعَلَ في الكتابِ آياتٍ متشابهات، يعطي ظاهرُها التَّشْبيهَ
والانفعالَ، وتَغيُّرَ الحالِ عليه، والعلمَ بَعْدَ أن لم
يَعلَمْ، ومعلومٌ ما في الكتابِ من هذا القبيلِ، مثل ذكر
الغضبِ والرحمةِ، والرِّضا والكراهة، واليدين، والروح، والعينِ
والوجهِ والمجيءِ والإتيانِ، والمحبةِ، والمكرِ، وهذه كلهاَ في
الحقائقِ أعضاءٌ وإدراكاتٌ وانفعالاتٌ، فإنَّ الرحمةَ: رِقَّةٌ
توجبُ ألمَ القلبِ بوقوع المرحوم في المكروه (3). والغضبَ:
غليانُ دم القلبِ، واشتطاط حرارتهِ طلباً للانتقامِ،
والكراهةَ: غَليَانُه لما يُتَحذَّر أو يُتَقَذَّر أو تأباه
الأمزجة والطباع، والمكرَ: إبطان (4) السوء مع إظهارِ ضدِّه،
والإتيانَ [و] المجيء في قولِه (5): {وجاءَ ربُّكَ} [الفجر:
22]، {أَو يَأْتِي رَبُّكَ} [الأنعام:158]: هو الانتقالُ
والخروجُ من مكانٍ إلى مثلِه،
__________
(1) في الأصل: "وتهمته".
(2) في الأصل: "شروعه".
(3) في الأصل: "المكروه في المرحوم".
(4) في الأصل: "انتطان".
(5) في الأصل: "بقوله".
(4/162)
إلى أمثالِ ذلك، وكم ضلَّ قومٌ بذلك، ونفَرَ قوم عن الاستجابه
للشرعِ لأجلهِ، فالدعوى بأنَّ العقولَ تمنعُ ذلكَ باطلة، لأنَّ
الشرعَ لا يأتي إلا بمُجَوَّزات (1) العقول.
على أنَّ هذا كُلَّه يلزَمُ من قالَ بنفي الوجوبِ رأساً، ونحنُ
نقولُ بوجوبِ اتِّباعهِ، وإنَّما نقولُ: إنه بالسَمع، وكونُ
الطريقِ لإيجابهِ السمعَ، لا يَحْصُل به ما ذكره المخالفُ من
التنفير، وإهمالِ حرمة السفير - صلى الله عليه وسلم - ولا
الإغراءِ بمخالفتِه. |