الواضح في أصول الفقه فصلٌ
البيانُ بالفعلِ من جهتهِ - صلى الله عليه وسلم -
هو أنْ يفعلَ بعضَ ما دخلَ تحريمُه في عمومِ لفظِ التحريم،
فإذا فعلَه دلَّنا ذلكَ على تخصيصِ العموم، وأنَّ ما فعله لم
يدخل تحتَ، صيغةِ العموم، وذلكَ جائزٌ عنْدَنا، وبه قال بعضُ
أصحابِ الشافعي.
وذهبَ أبو الحسنِ الكرخي: إلى أنَّه لا يجوزُ تخصيصُ العمومِ،
ولا البيانُ بالفعل، ووافقه في ذلكَ بعضُ أصحابِ الشافعي، فلهم
في هذا وجهان (2).
__________
(1) في الأصل: "مجوزات".
(2) والذي عليه الأكثرون من الشافعية، وأصحاب الأئمة: جواز
تخصيص العام بفعل النبي - صلى الله عليه وسلم -.
انظر "ميزان الأصول" 1/ 472، و"البحر المحيط" 3/ 387،
و"التفتازاني على ابن الحاجب" 27/ 2.
(4/163)
فصْلٌ
في أدلتنا
فمنها: قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ
إِلَيْهِمْ} [النحل: 44]، وقوله: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي
رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] ولم يفْصل
بين القولِ والفعلِ في تخصيصِ العمومِ، وبيانِ المجملِ، وغيرِ
ذلك من البيان، فكان ذلك على عمومِه المقتضي لدخولِ قولِه في
البيانِ وفعلِه.
ومنها: أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - لمَا سمعَ أنَّ
قوماً تَحرَّجُوا من استقبالِ القبلةِ بفروجهم في البنيان
-قيل: قبلتنا، وقيل: قبلة بيت المقدس بعد نسخها-، أمرَ بتحويلِ
مَقْعَدَتهِ إلى القبلة، وهذا قصا منه - صلى الله عليه وسلم -
إلى بيان تخصيص العموم الذي قاله في التحريم: "لا
تَسْتَقْبِلوا القِبْلَةَ، ولا تَسْتَدبروها ببول ولا غائط،
لكن شرقوا أو غربوا" (1)، ورويَ: أنَّه نهى عن استقبال القبلةِ
بالبول والغائط (2)، فصارَ تحويلُه لمَقْعَدَتِه نحوَ القبلةِ
تخصيصاً لذلك العمومِ، وبياناً أنّه لم يدخل تحتَ ذلكَ
البنيانُ، ولا ما بعدَ النسخ.
ومنها: أنَّ ما فعله ابتداءً كان تشريعاً، كذلك ما فعله بَعْدَ
العُمومِ كان تشريعاً، وإذا كان تشريعاً، صارَ تخصيصاً؛ إذ لا
يمكنُ أن يكونْ الاستقبالُ شرعاً، والعمومُ الأولُ باقٍ على
عمومهِ؛ من حيث إنَّ استقبالَها ليس بشرع.
__________
(1) أخرجه البخاري (394)، ومسلم (264) من حديث أبي أيوب.
(2) انظر ما تقدم في 3/ 394.
(4/164)
فصل
في شبهِهم
فمنها: أنْ قالوا: إنَّ تخصيصَ العمومِ أحدُ نوعي البيانِ، فلا
يجوزُ بفعله، كالنسخ.
ومنها: أن النطقَ العام شملَ الأعيانَ لفظاً ونطقاً، وفعلُه
يحتملُ أن يكونَ مخصوصاً به ومخصوصاً له، ويجوزُ أنْ يكونَ هو
وغيرُه فيه سواءً، فلا يُتركُ العمومُ المتيقَّنُ بأمرٍ
محتملٍ، فأكثرُ ما يعطي فعلُه خروجُه هو من حكم العموم، فأمَّا
خروجُنا نحن، فلا. نَتبيَّنُ بذلك أنَهُ مَخْصوصٌ من جملة
العمومِ، إذا كان العمومُ يشملُ المكلفين.
فصل
في الأجوبةِ
أمَّا الأول، فيُحتَمَل أن نقول: إنَّ النسخَ بفعلِه جائزٌ،
فقد ذهبَ إليه بعضُ العلماءِ، واختاره بعضُ أصحابِ الشافعي.
ولو سلَمنا، فإنَّ النسخَ يخالف التخصيصَ؛ لأنَّه يجوزُ
التخصيصُ للكتاب بالقياس والسُّنَّةِ، وإن لم يَجُز النَّسخُ
بهما؛ لأن النسخ رفع للحكمَ رأساً، والتخصيص بيان للمرادِ
باللفظِ العام.
وأمَّا الثاني، ودعوى احتمالِه، فصحيح، لكن الأظهرُ من
المُحْتمَلَينِ مساواتُه لأمَّتِه في ذلك، وأنه لا يفعلُ ذلك
بعد نهيه خاصاً إلاَّ ويُبيِّنُ تخصيصَه بذلك، وإلا كانَ
تلبيساً، وموقعاً للأُمَّةِ في شك؛ في بقاءِ الأول على عمومهِ،
أو تخصيصِه.
(4/165)
فصلٌ
إذا ثبتَ أنَّ الفعلَ يحصلُ به البيانُ، فإذا تعارض القولُ
والفعلُ في البيان، فالقولُ أَوْلى من الفعل (1).
ولأصحاب الشافعي وجهان:
أحدهما: مثل قولنا (2).
والثاني: الفعل أَوْلى من القول (3).
وقال بعض الأصوليين: هما سواءٌ في البيان؛ القولُ والفعل (4).
فصل
في أدلتنا
فمنها: أنَّ القولَ يدلُّ على الحكم بنفسه، والفعلَ يدل عليه
بواسطةٍ: هو استدلالُنا على أنَّ الفعلَ جائزٌ؛ من جهةِ أنَّ
النبي - صلى الله عليه وسلم - فعَلَه، وهو لا يفعلُ ما لا
يجوزُ، فكانَ ما دل على الحكمِ بنفسهِ أولى ممَّا دلَّ عليه
بواسطة.
__________
(1) "المسوَّدة" (126)، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 449.
(2) وهو ما عليه جمهورهم، نصَ عليه الشيرازي في "التبصرة"
(249)، والر ازي في "المحصول" 3/ 182، والآمدي في "الإحكام" 1/
276.
(3) ذكره الشيرازي في "التبصرة" (249) دون أن يحدد مَن مِن
أصحابِ الشافعي قال به.
(4) "إرشاد الفحول" (173)، و"فواتح الرحموت"2/ 47.
(4/166)
ولأنَّ الفعلَ يُبَيَّنُ بالقول؛ فإنَّه
لما حجَّ، قال: "خُذُوا عني" (1)، ولما صلى، قال: "صَلُّوا كما
رَأيَتْموُني أُصَلَّي" (2)، فبَيَّنَ الفعلَ بالقولِ، والقولُ
لا يحتاج إلى بيانٍ بالفعل.
ومنها: أنَّ القول يتعدى، والفعلُ مختَلَفٌ في كونه يتعدى
حكمُه إلى غيره، فمن الناس من قال: لا يُعَدَّى (3) حكمُه إلى
غيرِه إلا بدليلٍ، فكانَ ما تعدَّى بالإجماعِ بنفسِه أَوْلى
ممَّا في تعدَّيه إلى غيرِه خلافٌ.
وفي هذه الدلائلِ دلالةٌ على من رَجَّح الفِعْلَ، وعلى من
سوَّى بين الفعلِ والقول جميعاً.
فصلٌ
في شبههم
فأمَّا من قال: إنَّ البيان بالفعل أبلغُ وآكدُ، وهو مُقدَّمٌ،
فإنّه تعلَّقَ بأنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - قال للذي
سألَه عن مواقيتِ الصلاةِ: "صلِّ معنا" (4)، ورويَ: "اجْعَل
صلاتَك مَعَنا"، وصلَّى به جبريلُ عليه السلام، وقال له لَمَّا
صَلَّى به في اليومِ الأوّلِ في وقتٍ، وفي الثاني في وقتٍ آخر:
يا محمَّدُ، الوقتُ ما بين هذين (5)، وقالَ النبي - صلى الله
عليه وسلم -: "الشهرُ تسعٌ
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 194.
(2) تقدم تخريجه 2/ 174.
(3) في الأصل: "يدعى".
(4) تقدم تخريجه 1/ 194.
(5) تقدم تخريجه 3/ 92.
(4/167)
وعشرون" (1)، ثم أكَّدَ البيانَ بأصابعهِ،
فقال: "الشهرُ هكذا وهكذا"، وقال: "أَوَقَدْ فعلوها؟ حَوِّلُوا
مَقْعَدَتي إلى القِبْلَةِ" (2).
فهذهِ الرواياتُ دلَّت على بيانِ القولِ بالفعلِ مع وجودِ
القولِ، وهذا تقديمٌ وترجيح للفعلِ على القولِ.
ومنها: أن قالوا: كلُّ مُعَلِّمٍ ومُبَيِّنٍ إذا أراد إيصالَ
فهمِ ما يقولُ إلى مَن يُعلِّمُه ويُخبِرُه، استعان بإشارتِه
بيدِه، وبالخطوطِ والأشكالِ في ذلك، وهذا لمعنى، وهو أنَّ من
الهيئات ما لا تتحصل صورتهُ في القلب، بمجردِ النُّطقِ؛ حتى
ينضمَّ إليه تصويرُ ذلك بالفعل، وإذا كان هذا هكذا، بانَ أنَّ
الفعلَ مُقَدَّمٌ في بابِ البيان.
فيُقال: أمَّا مَا ذكرتَ، فيعطي انَّهما سواء؛ لأنَّكَ
اسَتَدلَلْتَ بأنَّه وُجِد البيانُ بالفعلِ، ووجدَ البيانُ
بالقولِ، وهذا يوجبُ تجويزَ البيانِ بهما، ونحنُ قائلون به،
فأمَّا الترجيحُ، فيحتاجُ إلى شيءٍ آخرَ.
والقولُ الفصلُ عندي في ذلك: أنَّ لنا أفعالاً يَقْصُرُ القول
عنها، فالتعبيرُ عنها بالصور أبلغُ منه بالصِّيَغ؛ لأنَّ
الصُورَ إلى الصورِ أقرب، ودْلكَ مثلُ قولِ القائلِ: رمى رسولُ
الله بمثلِ حصى الخذْفِ، هذا بيان، فإذا أخذ من الأرض حصاةً،
ثم خذف بها، فقال: بمثلِ هذه رمى، وكذا رمى، فأبان بقَدِّهَا
صورةً، وبرَمْيِه بها صورةً، كانَ أبلغَ.
وكذلكَ بيانُ قوله: "إذا التَقَى الخِتانان، وجَبَ الغُسْل"
(3)، فأخَذَ
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 194.
(2) تقدم تخريجه ص (131).
(3) تقدم تخريجه ص (131).
(4/168)
يشكل بيده صورة الالتقاء، وأنه محاذاةُ
جلدةِ ختانِه لجلدة خِتانها، كتقابل الفارسين؛ إذ ليس بينهما
اجتماع (1)، كان أبلَغَ.
وكذلكَ إذا أرادَ بيان أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - تيمم
بضربةٍ واحدة، وجعلَ بطونَ أصابِعه لوجهِه، وبطونَ كَفَّيْهِ
ليديه، [كان] التصويرُ أبلغَ من التقريرِ بالقول.
فهذا وأمثالُه مما لا بدَّ للقولِ من إشارةٍ بصورةِ الفعلِ؛
ليحصلَ الفهمُ، حتى إنَّ المبطىءَ الفَهْم يتحصلُ له
بالإشَارَةِ ها هنا في أمثال هذه الصُوَر ما لا يتحصلُ له
بالعبارةِ.
ولنا أشياءُ لا يتأتى فيها له التصويرُ بالفعلِ، ولا يخرجُ
البيانُ عنها إلا صيغةَ قولٍ لا صورةً، وذلك مثلُ أعمالِ
القلوبِ، والدواخلِ على النفوسِ من الآلامِ التي تتحصلُ لكلِّ
واجدٍ لها، ومن عرضت له، في خاصّةِ نفسِه، دون أن تتعدَّى إلى
غيرِه، فإذا أرادَ أن يُعْلِمَ بها غيرَه، صاغ (2) قولاً
يُعبِّرُ به عنها، إذ لا يمكنُه إخراجُها بشكلٍ يدركُه العيان.
فإذا ثبت هذا، وأنّ لقَبيلٍ (3) من الأفعالِ هذا التأكيدَ الذي
يحصلُ به تأكيدُ بيانِ القول، ولقَبِيلٍ منها هذا التقصيرَ
الذي لا يحصلُ به البيان، جئنا إلى ترجيح القول، فقلنا: إنَّ
القولَ ينوبُ عن الأمورِ العارضةِ في النفوس، إذ لكل منها اسمٌ
موضوعٌ، وعن الصورِ الظاهرةِ أيضاً، فقدَ عملَ القولُ في
الأمرين جميعاً، وإن كانَ في أحدِهما أقصرَ، والصورُ من
الأفعالِ لا تعمل في البيانِ عن أعمالِ
__________
(1) في الأصل: "اخماع".
(2) في الأصل: "صار".
(3) في الأصل: "القبيل".
(4/169)
القلوب، وعوارض النفوس، وهواجس الصدور،
فبان ترجيح القولِ على الفعل، فلكلِّ صورة من الأعمال الظاهرة
والباطنة جميعاً صيغة، وليس لكل صورةٍ في النفوس والقلوب
صورةٌ.
وأمَّا شبهةُ من سوَّى بينهما، فإنَّه لحظَ بعض الأفعالِ أنَّ
لها صوراً يمكنُ إخراجُها إلى الوجودِ أشكالاً، فيدركُها الحِس
بإدراك أمثالها التي يُقصدُ بها البيانُ، وبعضُها تقْصُرُ
الإنسانُ عن إخراجِ شَكلِ لها أو مِثلٍ، إذ لا مِثلَ لها من
خَارجٍ، وهي عوارضُ النفوس، وأعمالُ القلوب، فجَعَلَهُما
سواءً.
وقد تضمّن ما لحظناه الجوابَ عما وقع لهذه الطائفة، وأن الغامض
والظاهِرَ، وماله شكل وما لا شكلَ له، يمكن التعبيرُ عنه
بالقولِ الوجيزِ، والحدودِ الخاصَّةِ الكاشفةِ عن حقيقةِ
الشيء، وأمَّا الفعلُ؛ فلا يمكنُ البيانُ به (1) إلا فيما
يظهرُ منها، فبانَ الترجيحُ للأقوالِ على الأفعالِ.
فصلٌ
يجوزُ تعبدُ النبي الثاني بما كان تَعبَّدَ به النبي الأول،
ولا يمنع العقلُ ذلكَ على قولِ من جعلَ للعقلِ قضيةَ المَنع
والإباحة، وهو أبو الحسنِ التميمي من أصحابنا، ولا في الشرع ما
يمنعُ من ذلك، بل فيه ما يدلُّ على جوازِه، خلافاً لِمنْ
مَنَعَ من ذلك من الأصوليين.
__________
(1) في الأصل: "له".
(4/170)
فصلٌ
في دلائلنا على تجويزِ ذلكَ
فمنها: أنَّ الله سبحانَهُ بَعَثَ موسى وهارونَ في زمن واحدٍ
وعصر واحدٍ، وجَعَلَ جمعَهُما مصلحةً؛ من حيثُ إنَّهُ ذكرَ
أنَّهُ شَدَّ عضُدَ موسى واَزرَهُ بهارونَ، وخَلَفَهُ في
قومِهِ لمَّا غابَ عنهم، فغيرُ ممتنع أنْ يُجْعلَ النبي الثاني
بعدَ الأولِ مُحيياً من شريعتِه ما أماتهُ المبطلون،
ومُنبِّهاً على ما أهملَهُ الغافلون، وقد يُؤَثِّرُ التناصرُ
والتعاضدُ ما لا يُؤثِّرُه الاتحادُ، ولهذا قَرَنَ اللهُ بين
معجزتين، وأيَّد الأُولى بثانيةٍ، والثانيةَ بثالثةٍ، وقال
اللهُ تعالى: {إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ
فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ} [يس: 14]، ولهذا طالَ
بقاءُ نوحٍ في قومهِ يدعوهم إليه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاماً،
وإطالةُ عمرِ النبيِّ الواحدِ لم يَمنعْ منه عقل ولا شرع، بل
شَرَعَ كذلك إِرْدافَ نبيٍّ بنبيٍّ تأييداً لما جاءَ بهِ
الأوَّلُ.
فإن قيل: إذا لم يَنْسخِ الثاني شرعَ الأولِ، فما أفاد.
قيل: قد بيَّنَا إفادَتَه من وجهٍ، وهو تجديدُ الإذْكارِ
والإنذارِ، ولو جازَ أِن يقال: ما أفادَ الثاني، لجازَ أن
يقال: ما أفادَ بقاء الأولِ بعد بلاغهِ عاماً، عاماً ثانياً
وثالثاً إلى أنْ تطاولَ الزمانُ، ولا أثَّرَ بِعثَةُ نَبِيَّين
في زمانٍ واحدٍ وعصرٍ واحدٍ، ولَمَا أثَّرَ بعثةُ اثنين، ولا
إعزاز الواحد باثنين بعدَهُ ثانياً وثالثاً، ولكان (1) المعجزُ
الثاني والثالث عَبَثاً، حيث لم يفد الثاني إلا ما أفادَهُ
الأولُ؛ من كونِه برهاناً [و] حجَّةً على صدقِ ما (2) ظَهَرَ
على يديهِ.
__________
(1) في الأصل: "ولو كان".
(2) في الأصل: "مَنْ".
(4/171)
[فصل في]
شبهةِ المخالِفِ
[قالو]:، إِنَّ مجيءَ الثاني بما جاءَ به الأولُ لا يفيدُ إلا
ما أفادَهُ الأولُ، فكان تبَعاً، والتابع لا يكونُ نبيّا، وإنْ
جاءَ بغيرِ ما جاءَ بهِ الأولُ، فذاكَ أمرٌ لا يُخالِفُ فيهِ
أحدٌ ممّن يقولُ بالشرائعِ والنُّسوخِ.
فيُقال: قد بَيَّنَا الفائدةَ، وهي إحياءُ الشريعةِ الأُولى،
وقد تكون المصلحةُ تجديدَ. نبوةٍ مُذكِّرةٍ بالأولى،
ومُسْنِدَةٍ لها، كما كانت المصلحةُ في بعثةِ نبيَّين لمحي
عصير واحدٍ لاتَمْنَعُ ذلك، وأنَّهُ كانَ، والسِّيرُ تشهدُ
بهِ، وكتابُ اللهِ ينطقُ به، والشرعُ لا يأتي بما لا يجوِّزُهُ
العقلُ.
على أنَّه باطلٌ بإبقاءِ النبيِّ الواحدِ زماناً طويلاً؛
لأنَّهُ لا يفيدُ بقاؤُهُ في العامِ الثاني إلأَ ما أفادَ في
العامِ الأول، وكذلك المعجزةُ بعدَ المعجزةِ، ما تفيدُ إلاَّ
التأكيدَ وتناصرَ الأدلةِ عندَ المكلفين، وكذلكَ مجيءُ
الرُّسُلِ بعدَ العقلِ، وإنْ جاؤوا بما يوافقُ العقلَ، لا
يقالُ: ما أفاد.
ومنها: أنْ قالوا: عندكم أنَّ العقلَ لا يُبيحُ، ولا يحظرُ،
ولا يُوجِبُ، فكيفَ خصَّصتُم هذه المسألةَ بتجويزِ ذلك عقلاً؟!
فيُقال: إنما بيَّنا أن ذلك مما لا يُحِيْلُهُ العقلُ، وعندنا
في قضايا العقول تجويزاتٌ وإحالاتٌ، فمهما اختلفَ الناسُ في
أنَّ العقول هل تُبيحُ، أو تحظرُ، أو توجبُ؛ فإنهم لا يختلفون
أنَّ في العقلِ تجوِيزَ جائزات، وإحالةَ محالاَتٍ، وإيجابَ
واجباتٍ، فيما يرجعُ إلى الوجودِ دونَ الأحكامِ، من قولِنا:
فناءُ الأعراضِ عقيبَ وجودِهَا واجبٌ في العقلِ، وإيجادُ مثلِ
الصانعِ محالٌ في العقلِ، وكذلك رَدُّ
(4/172)
الأزمانِ الماضيةِ، فهذا من الأمورِ التي لا خلافَ فيها،
بخلافِ قولِنا: واجبٌ، ومحظورٌ، ومباحٌ، في بابِ الأحكامِ
الداخلةِ تحتَ التكليفِ. |