الواضح في أصول الفقه فصلٌ
إذا ثَبَتَ جوازُ بعثةِ نبى بشريعةِ مَنْ قبلَهُ، فنبيُّنا -
صلى الله عليه وسلم - هل كان مُتَعَبَّداً بشريعةِ مَنْ قبلَه؟
فيه روايتان:
إحداهما: أنَّه متعبَّدٌ بما صحَّ مِنْ شرائع مَنْ قبلَهُ
بطريقِ الوحي إليهِ، لا مِنْ جهتِهم، ولا نَقْلِهم، ولا
بكتبِهَم المُبَدَّلةِ المغيَّرةِ، نَصَّ عليهِ أحمدُ: في
إيجابِ ذبح الكبشِ فداءً عن ولدِ مَنْ نَذَرَ ذبحَ ولدِهِ،
واستدلَّ بشريعةِ إبراهيمَ عَليه السلام، واستدلَّ في القولِ
بالقرعةِ بقصةِ زكريا، والاقتراعِ في كفالةِ مريم، وذي النونِ
حيثُ ساهَمَ، وبما أوحاهُ اللهُ في التوراةِ مِنَ القِصاصِ،
وذكرَهُ في كتابهِ عن شريعةِ موسى، واختارَ هذه الروايةَ أبو
الحسنِ التميمي، وهي قولُ أصحابِ أبي حنيفة (1)، فيما حكاهُ
أبو سفيانَ عن أبي بكير الرازي (2)، وقولُ أصحابِ الشافعيِّ في
أحدِ الوجهين عنهم (3).
__________
(1) انظر "أصول السرخسي" 2/ 99، و"التوضيح" 2/ 16، و"كشف
الأسرار" 3/ 398.
(2) انظر" الفصول" 3/ 22.
(3) لأصحاب الشافعي في هذه المسألة ثلاثة وجوه:
الوجه الأول: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان متعبداً
بشريعة من قبله.=
(4/173)
والروايةُ الأخرى: أنَّهُ لم يكنْ
متعبَّداً بشيء مِنَ الشرائع، إلا ما أُوحِي إليهِ في
شريعتِهِ، وبهذهِ الروايةِ قالت المعتزلة (1)، والأشَعرية (2)،
وأصحابُ الشافعى في الوجهِ الآخرِ.
ثم اختلفَ القائلونَ بأنَّهُ متعبَّدٌ بشرعِ مَنْ قبلَهُ: بأيَ
شريعةٍ كان متعبَّداً (3)؟
فقالَ بعضُهم: كان متعبداً بشريعةِ إبراهيمَ خاصةً، وإليه ذهبَ
أصحابُ الشافعيِّ (4).
وذَهَبَ قومٌ منهم: إلى أنَّهُ متعبَّدٌ بشريعةِ موسى، إلا ما
نُسِخَ في شرعِنا.
وقالَ قومٌ منهم: كان متعبداً بشريعةِ عيسى التي تليهِ، وهي
أقربُ إليهِ.
وظاهرُ كلامِ صاحِبنا رضي اللهُ عنه: أنَّهُ كان متعبداً بكلِّ
ما صحَّ
__________
= الوجه الثاني: أنه - صلى الله عليه وسلم - لم يكن متعبداً
بشريعة من قبله.
الوجه الثالث: التوقف، وقال بهذا الوجه إمام الحرمين، وابن
القشيري، وإلكيا، والآمدي، وغيرهم، وهذا الوجه الثالث قد أغفله
المصنف رحمه الله. انظر "البرهان" 1/ 504، و "الإحكام" للآمدي
4/ 376، و "المحصول" 2/ 519، و"البحر المحيط" 6/ 40.
(1) "المعتمد" 2/ 899، و"البرهان" 1/ 553، و"العدة" 3/ 756.
(2) "البرهان" 1/ 504، و" المستصفى"1/ 255، و"الأحكام" للآمدي
4/ 378.
(3) في الأصل: "متعبد".
(4) "البرهان" 1/ 523، 2/ 302, و "شرح اللمع"2/ 250، و
"الإبهاج" للسبكي 2/ 302.
(4/174)
أنَّهُ شريعةٌ لنبيٍّ قبلَهُ، ما لم يثبُتْ
نسخُهُ.
فصلٌ
في أدلتِنا
فمنها: قولُه تعالى وذَكَرَ الأَنبياءَ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ
هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90]، وهذا
أمرٌ له - صلى الله عليه وسلم - بالاقتداءِ بهم صلواتُ الله
عليهم، والأمرُ على الوجوبِ، والاقتداءُ بهم على العمومِ في
جميعِ ما جاؤوا بهِ من الهُدى، إلاَّ ما خصَّهُ الدليلُ
الناسخُ.
فإنْ قيلَ: هذا يرجعُ إلى التوحيدِ، والاعتقادِ في اللهِ، وفي
صفاتِهِ، وما يجبُ لهُ ويجوزُ عليه، وما يستحيلُ عليهِ ولا
يجوزُ في حقِّهِ، والدليلُ على ذلك: أنَّ الفروعَ غيرُ
متَّفِقَةِ، والاقتداءَ بهم فيها غيرُ ممكنِ؛ لأنًّ هذا
يُحرِّمُ السبتَ، وهذا يُبيحُهُ ويُحرّمُ الأحدَ، وهذا
يُحرِّمُ شحماً ويبيحُ غيرَهُ، وهذا يُبيحُ مِنَ الشحومِ ما
حرَّمَهُ الآخرُ، وهذا يبيحُ حيواناً، وهذا يحرِّمُهُ، وهذا
يحرِّمُ نكاحَ امرأةٍ يُبيحُها الآخرُ، والمتفقُ عليهِ ما
ذكرْناهُ.
والثاني: أنَّ الاعتقادَ في الأصول مقطوع بهِ بما قامَتْ بهِ
دلالةُ العقلِ وبرهانُهُ، وغيرُهُ مِنْ فروع أديانِهم غيرُ
مقطوعٍ بهِ، بل الحكمُ بهِ مِنْ طريقِ غلبةِ الظنِّ.
فيقال: أمَّا التوحيدُ: فأدلتُهُ العقليّهُ لا يدخلُها اتباع
ولا اقتداءٌ فيما دلَّتْ عليهِ العقولُ، و [ما في] شَريعَتِنا
[مِمَّا] دلَّتْ عليهِ العقولُ في
(4/175)
شرائع مَنْ قبلَنا لا يَتبعُ بعضُنا بعضاً
فيهِ، كما لا يقال فيما أُوحِيَ إلى نبيِّنا - صلى الله عليه
وسلم - موافقاً (1) ما أوحِيَ إلى مَنْ قبلَهُ: إنَّهُ متبعٌ
فيهِ مَنْ سبقَهُ، ولا اعتقدَ ما اعتقدَهُ مِنْ أصلِ الإثباتِ
والتوحيدِ، لما وَصَلَهُ مِنْ أن غيرَهُ كان يعتقدُهُ، بل
نَظَرَ واعْتبَر، فأفَادَهُ نظرُهُ واستدلالُهُ إلى ما
أدَّاهُمِ نظرُهُم، بخلافِ الصلاةِ والصيامِ، فإنَهُ إذا ثبتَ
عندَهُ أنَّ شهرَ رمضان اتَّفَقَ على صومِهِ مَنْ تَقدَّمَ
مِنَ الأنبياءِ، صامَهُ بطريقِ الاتباعِ لِمَنْ سَبَقَ، وكان
وحيُ اللهِ سبحانَهُ بإيجابِ صومِهِ إلى مَنْ سَبَقَ كافياً،
وكذلكَ الصلاةُ كانَ يَتحنثُ بحِراءَ، ويعبدُ اللهَ سبحانَه
(2) بما ثبتَ عندَهُ انَّهُ تَعبَّدَ بهِ إبراهيم عليهِ
السلامُ، فهذا هو الاتباعُ حقيقةً.
على أن اللفظَ عامٌّ، والأمرَ شاملٌ لكلِّ ما يُسمى هُدى،
وتوحيدُهُم هُدى، وتعبداتُهم هُدى، فلا وجهَ للتخصيصِ
بالإيمانِ خاصةً دونَ أعمالِهِ.
فأمَّا قولُهم: إنَّ الفروعَ قد اختلَفَتْ فيها شرائعُ مَنْ
قبلَهُ، فلا يمكنُ الاتباعُ مع الاختلافِ؛ فإنَّ المأخوذَ عليه
أن يتبعَ ما اتفقوا عليه، إِنْ ثَبَتَ أنَّ ذلكَ الأمرَ شرعٌ
لهم، وإنْ كان منسوخاً اتبعَ المِلَّةَ الآخرةَ الناسخةَ، ولمِ
يتبعْ منسوخاً، ولا نتصورُ ما ذكرْتَ أنتَ مِنَ الثالثِ، وهو
أنْ يكون مختلَفاً فيهِ غيرَ منسوخٍ؛ لأنَّهُ لا يجوزُ أنْ
يأتيَ عيسى بتحريمِ الأحدِ، مع بقاءِ شريعةِ موسى بتحريمِ
السبتِ وإباحةِ الأحدِ، بل لمَّا جاءَ عيسى بعدَ موسى (3 فما
أَخَذَ به 3) مِنْ شريعةِ موسى من تحريمٍ وإيجابٍ وتحليلٍ، فقد
صارا متفقين فيهِ، وما جاءَ
__________
(1) في الأصل: "موافق".
(2) أخرجه البخاري (3)، ومسلم (252).
(3 - 3) في الأصل: "فيما أحدثه".
(4/176)
بهِ مِنْ حلِّ السبتِ والأحدِ بالاحترامِ
للأحدِ، صارَ الحكمُ له، وبانَ نسخُ الأولِ، وما لم يأتِهِ
فيهِ وحيٌ، فإنَّ عيسى عندنا ومحمداً (1) صلى الله عليهما وسلم
بعدَهُ متعبّدانِ (2) بما جاءَ بهِ موسى، إذا لم يأتِهما فيهِ
وحيٌ بتحريم ولا تحليلٍ، فلا نتصورُ ما ذكرْتَ، بخلافِ ما
ألزَمنا مَنْ لم يَجْعَلْ قولَ الصحابيّ حجةً، حيثُ
استدلَلْنَا بقولِهِ - صلى الله عليه وسلم -: "أصحابي
كالنجومِ، بأيِّهم اقتَدَيْتُم اهتديتم" (3)، وقولهِ: "اقتدُوا
باللذين مَنْ بعدي: أبي بكرٍ، وعمرَ" (4)، فقالوا: كيفَ
يمكنُنَا أنْ نتبعَ الصحابةَ ومذاهبُهم مختلفةٌ؟ فإنْ أشرتُم
بذلكَ إلى إجماعِهم، وعَقَلْتُم منه ذلكَ، بَطَلَتْ مَزِيَّةُ
الصحابةِ، لأنَّ إجماعَ التابعين ومَنْ بعدَهم كذلك، وإنْ
أردتُم به وعقلْتُم منه ما اختلفوا فيه، لم يصحَّ لكم أنْ
تجمعوا بين مذهبِ أبي بكرٍ وعليٍّ في توريثِ الجَدِّ مع
الإخوةِ، فإنَّ أبا بكرٍ يسقِطُهم بهِ، وعليّاً وزيداً
يُوَرِّثانِهم (5) معهُ، ويختلفُ عليٌّ وزيدٌ في كيفيةِ إرثِهم
معهُ (6)، فهذا السؤالُ هناكَ يردُ صحيحاً، ويكون الكلامُ
بحسبِهِ، فأمَّا ها هنا، فلا نتصورُ بقاءَ السبتِ في شريعةِ
عيسى
__________
(1) في الأصل: "محمد".
(2) في الأصل: "متعبدين".
(3) تقدم تخريجه في 1/ 280.
(4) أخرجه أحمد 5/ 385 - 402، والطحاوي في "شرح مشكل الآثار"
3/ 256 - 257، والترمذي (3662) و (3663)، والحميدي 1/ 214 -
249 من حديث حذيفة بن اليمان. وقال الترمذي: حديث حسن.
وأخرجه ابن عدي 1/ 75 من حديث أنس.
(5) في الأصل: "يورثهم".
(6) انظر المغني 9/ 68 وما بعدها.
(4/177)
والأحدِ جميعاً، ولو اتفقَا (1)، اتبعَهُما
نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، كما يتبعُهما فيما اتفقَا
فيهِ من صومِ رمضانَ فيما بقيَ في شريعةِ موسى بعدَ مجيءِ
عيسى، [لأنه] ما جاءَ عيسى بخلافهِ متعبداً به في شريعتِه (2)،
ولا مُحْترِماً.
وأما قولُهم: إنَّ التوحيدَ مقطوعٌ به، فعادَ الاتباعُ إليهِ،
وما دونَهُ ليس بمقطوعٍ. فإنَّا لا نجعلُهُ شرعاً لنبينا - صلى
الله عليه وسلم - إلا بطريق الوحي، فإذا أعْلَمَه جبريلُ أنَّ
ذلكَ مِنْ شريعةِ إبراهيمَ أو موسى، اتبعَهما لكونه (3) شرعاً
لهما، واستصحبَ حكمَ الأصلِ وبقاءَ حكمِ الوحي الأولِ، إلى أنْ
يأتيَ وحيٌ ثانٍ يخصُّهُ، ينهَاهُ عنِ البقاءِ على حكمِ
الأصلِ، فأمَّا بظنٍّ، أو نقل لا يقطَعُ بهِ، فلا يكونُ ذلكَ
شرعاً له.
ومنها: قولُه تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا
هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ
أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا} [المائدة: 44]، وقال:
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ
..} [المائدة: 45] إلى آخرِ الآيةِ، فقالَ النبيُّ - صلى الله
عليه وسلم - لَمَّا كَسَرَت الرُّبيِّعُ سِنَّ جاريةٍ: "كتابُ
الله القِصاصُ" (4)، وإنما عنى بقولِهِ: "كتابُ اللهِ":
التوراةَ، إذْ ليس في كتابِنا ذكرٌ للقصاصِ في السِّنِ إلا ما
حكاهُ مِنْ كِتْبَةِ ذلك في التوراةِ، وتَوَعَّدَ (5) اللهُ
سبحانَهُ، وذَمَّ على [عَدَمِ] الحكم [بها] فقال: {وَمَنْ لَمْ
يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ
الظَّالِمُونَ (45)} [المائدة: 45]
__________
(1) في الأصل: "اتفق".
(2) في الأصل: "شريعة".
(3) في الأصل: "بكونه".
(4) أخرجه البخاري (4500)، ومسلم (1675).
(5) في الأصل: "وتواعد".
(4/178)
و {الْكَافِرُونَ} [المائدة: 44]، و
{الْفَاسِقُونَ} [المائدة: 47]، تكررَ ذلكَ عقيبَ قولِهِ:
{وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ}، وهذا يعمُّ كلَّ تاركٍ للحكمِ بما
فيها؛ من مُسْلمٍ ويهودي، وغيرِ ذلكَ، وأيَّدَ ذلكَ بقوليِ
سبحانَهُ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ
مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ
وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ
اللَّهُ} [المائدة: 48]، ونهاهُ بعدَ ذلكَ عن اتباعِ أهوائِهم،
فقال: {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ} [المائدة: 48]، وإذا
لَمْ يَنْهَ إلا عَن اتباعِ أهوائِهم، بقيَ اتباعُ ما أنزل
اللهُ إلى أنبيائهم (1).
ومنها: قولُه تعالى: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ
اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ} [النحل: 123]، وهذا تصريحٌ بالأمرِ بالاتباعِ
لإبراهيمَ فيما نزلَ إليه.
فإنْ قيل: قولُه: {حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ}
دلالةٌ واضحةٌ في أنَهُ أرادَ التوحيدَ دونَ فروعِ دينهِ
وعباداتِه (2).
فيُقال: الملةُ عبارةٌ عنِ الشريعةِ، وصفتُهُ بكونهِ حنيفاً،
ونَفْيُ الشركِ عنهُ لا يقصرُ الاتباعَ ويخصُّهُ، بل الاتباعُ
على عمومِهِ، ألا تَرى أنَّ التوحيدَ لا يختصُّ بإبراهيمَ، بل
هو اعتقادُ كلِّ نبىٍّ قبلَهُ وبعدَهُ؟ فلَمَّا خَصَّ ملةَ
إبراهيمَ، عُلِمَ أنَّهُ أرادَ أحكامَ شريعتِهِ، دونَ التخصيصِ
بتوحيدِهِ.
على أنَّا قد بيَّنَّا أنَّ أدلةَ التوحيدِ عقليَّةٌ، لا
تحتاجُ ولا تفْتقرُ إلى وحيٍ، بل طريقُها النظرُ والاستدلالُ
بدلائلِ العقلِ، ولولا سبقُ أدلةِ العقولِ بأنَّ لنا صانعاً،
ولهُ ملائكة، وأنه يجوزُ أَنْ يُرسلَ إلى الآدميين؛ بما يكون
سياسةً لهم، وحافظاً مِنْ شرائعِ الأحكامِ،
__________
(1) العدة 3/ 759 - 760.
(2) في الأصل: "وعاداته".
(4/179)
ومذللاً لهم بما أمَرهُم بهِ مِنْ
التعبداتِ، لَما علمنا بنزولِ مَلَكٍ ولا وحيٍ حكماً مِنْ
الأحكامِ، بلْ كانَ ذلكَ مشوِّشاً لعقولِنا، وورَّثَنَا
التعجبَ والدَّهشةَ؛ من مجيءِ حيٍّ يخالفُ خَلْقَنا وَشَكْلَنا
بأمير ليس مِنْ عاداتِنا، كما أَدْهشَ النبيَّ صلى الله عليه
وسلم مجيءُ جبريلَ عليه السلامُ، وقراءةُ القرآنِ عليه (1)،
لولا فزعُهُ إلى أدلةِ العقولِ، وأَنَّ اللهَ سبحانهُ يجوزُ
عليهِ ذلكَ، ويجوزُ أنْ يجعلَ ذلكَ طريقاً إلى سياسةِ
العالَمِ.
ومنها: أَنّا نقولَ: إِنَّ اللهَ سبحانَهُ إذا أوحى إلى نبي
مِنَ الأنبياءِ بأحكامٍ ثَبَتَتْ (2) شرعاً ومِلَّةً له، ودانَ
بها من ثبتَ عندَهُ صدقُهُ، فلا سبيلَ إلى رفعِها ونسخِها
وإزالةِ أحكامِها إلا بمثلِ الوحي الذي ثَبَتَتْ بهِ، ومعلومٌ
أَنَّ بعثةَ رسولٍ ثانٍ ليسَ بمناقضٍ لها ولا منَافٍ، فوجبَ
بقاءُ تلكَ الشريعةِ بطريقها المقطوعِ به، والتَمسكُ بهِا (3)،
إلى أَنْ يردَ مِنَ الوحي إلى النبي الثاني ما (4) يضادُّ تلكَ
الأحكامَ وينافيها، فيكونُ ذلكَ نسخَاً لها، وما هذا إلا
بمثابةِ الآيتين (5) في شريعتِنا، مهما أمكنَ الجمعُ، فلا
نسخَ، فإذا لم يمكن الجمعُ بينهما، كان الحكمُ للأخيرةِ،
فارتفعَ حكمُ الآيةِ الأولى، حتى إننا لو تركنَا وأخْلَلْنَا
بالعباداتِ التي تعبَّدنا اللهُ بها في الشريعةِ الأولى،
لحسُنَ مِنَ اللهِ سبحانهُ عتابُنا (6) ولَوْمُنا على ذلكَ،
والاحتجاجُ علينا بما جاءَ بهِ
__________
(1) وذلك عند بدء الوحي إليه - صلى الله عليه وسلم -. انظر
"فتح الباري" 2/ 22 وما بعدها.
(2) في الأصل: "ثبت".
(3) في الأصل: "به".
(4) في الأصل: "بما".
(5) في الأصل: "الآية"
(6) في الأصل: "عتبنا".
(4/180)
الرسولُ الأولُ، ولم يكن لنا (1) أَنْ
نحتجَّ عن تركِ العباداتِ بنفس بعثةِ الرسولِ الثاني، لأنَّهُ
مَا لَمْ تأتِ بنسخِ الأولِ ولا ردعِهِ لم تكن نفسُ بِعْثَتِه
حُجَّةً في تركِ العملِ بما سَبَقَ.
ومنها: أن اللهَ سبحانَهُ حكىْ لنا في كتابنا أحكاماً مِنَ
الكتب الأُولى، ولا يفيد ذكرُهُ لها إلاَّ تَعبُّدَنا بها،
فأمَا أَنْ يورِدَها لنُخالفَهَا فلا، أوْ يذكرَها لا لفائدةٍ،
فلا يجوزُ أيضاً، لم يبقَ إلا أَنّهُ ذكرَها لنَعْملَ بها،
ونَتمسَّكَ بالعملِ بها إلى أَنْ تقومَ دلالةُ النقلِ عنها
بالنسخ لها، فأمَّا مع الاحتمالِ، وعدمِ نَصٍّ يُوجبُ النسخَ
لها، فيَجبُ (2) أن نكونَ باقينَ على حكم الأصلِ، ونُحرِّرُه
قَياساً، فنقولُ: إنَّهُ حَكمٌ ثبتَ بطريقٍ يثبتُ بمثلِهِ، فلا
يُرفعُ إلاَّ بنصٍّ ينافيهِ، كالآيتينِ مِنْ كتابِنا،
والخَبرينِ المَرْوِيَّينِ عن رسولِنا - صلى الله عليه وسلم -.
ومنها: أَنَّ الشرعَ للنبيِّ الأولِ جاءَ بلفظٍ مطلقٍ، فاقتضى
بقاءَهُ على الدوامِ، ما لم يُصَرِّحْ وينصَّ على رفعِهِ،
وأنَّ التمسك بهِ مفسدةٌ، والذي يُوضِّحُ هذا: أَن نفسَ بعثةِ
الرسولِ الثاني لا يجوزُ أَنْ تكونَ مُغيَّرةً حكمَ الشرع
الأولِ، وإنَّما الذي يغيِّرُ الشريعةَ الأولى أو ينسخها،
تصريحٌ في الشَريعةِ الثانيةِ بتركِ الأولى.
ومنها: ما صحَّت به الروايةُ مِنْ أنَّهُ كان يتحنَّثُ بحراءَ،
وكان يججُّ ويعتمرُ، ويذبحُ، ويكدُّ البهائمَ بالركوبِ، وهذا
كله ليسَ طريقُهُ العقلَ، وإنما طريقُهُ الشرعُ، ولم يكنْ قد
نزلَ عليهِ وحيٌ، فلم يبقَ إلأَ أنَّه كان ذلكَ منه بحكمِ
شرائع مَنْ قبلَهُ، وقد رُوِىَ أنَّهُ كان يسألُ
__________
(1) في الأصل: "الثاني".
(2) في الأصل: "فيوجب".
(4/181)
عن شريعةِ إبراهيمَ، ثم يتعبدُ بها (1)،
وكان يتجنبُ الأوثانَ والأزلامَ.
فإنْ قيلَ: ليس هذا من القولِ الصالح لإثْباتِ الأصولِ؛
لأنَّها آحادٌ مظنونةٌ، وطرقُها غيرُ مقطوعةٍ، نعم، ولا كانَ
له طريقٌ يثقُ إليهِ، فيصيرُ متعبداً به؛ لأنَّ القومَ كانوا
بينَ عابدِ صنمٍ، وبينَ أهلِ كتابٍ مُغير مبدَّل، والوحي لما
(2) يَنْزِلْ، لم يبقَ إلا أنه إن صح ذلك منه، فإنَّه كانَ
يفعلُ ذلك برأيهِ، وما يغلبُ على ظنِّه صدقُ راويهِ (3) من حيث
الأمانةُ لا الديانةُ، فلا يكونُ ذلك تَعبُّداً مُعوَّلاً
عليه، ولا معمولاً به عملَ شريعةٍ وتديُّنٍ.
قيل: لا (4) يُطلبُ لأصول الفقهِ القطعياتُ، وقد تكرَّرَ منكم
هذا، وليس بصحيح؛ لأنَّ هذه تَنْحطُّ عن أصول الدين، بأنْ لا
يُفسَّقَ المخالفُ، ولا يُكفرَ، ولا يُهجَرَ، ولا يُدركُ لها
أدلةٌ قطعيةٌ، ولا يُظفرُ بها، ولأنَّ السِّيَرَ كلَها
متطابقةٌ على ما ذكرنا، وقد تلقَّتها الأمةُ بالقبولِ، فصارت
كالتواتر.
فإن قيل: فلو صَحَتِ الروايةُ فيه، حملناه على أنَّه كان
يفعلُه طمعاً في الانتفاع به، لا على تحقيق، و [أنَّه] تَرَكَ
الأصنام تنزُّهاً، وكان عقلُه وتدبيرُه يمنعُه من ارتكابِ ذلك،
أو استقباحاً له بعقله، فإنَّ العقل يستخبث ذلك ويستقبحهُ، فإن
صحَّ فعلُه وتركُه، فلا طريقَ لكم إلى أنَّه فعلَ ذلك متبعاً
لشرعِ من قبله، بل يحتملُ ما ذكرنا.
قيل: ليس في قُوَى العقلِ أن تقوم دلالته على فِعْلِ كُلْفةٍ،
وتركِ
__________
(1) انظر ما أورده السيوطي في "الدر المنثور" 5/ 177.
(2) في الأصل "فيما".
(3) في الأصل: "رواية".
(4) في الأصل: "ولا".
(4/182)
لذةٍ، إلا إذا ظهرت به المضرةُ عاجلاً، أو
كشفت دلالةٌ عن فسادِ العاقبةِ، ولا دلالةَ على ذلك إلا نَقْلٌ
عن الأنبياءِ، أو وحيٌ من السماءِ، والوحيُ لم يكن نزلَ عليه
بعد، فلم يبقَ إلا نقلُ إنس إليه، وهذا هو الظاهر؛ لأنّ
الإنسانَ في العادةِ لا يفارقُ أهلَه وعشيرتَه ويُسَفِّهُهم
(1)، ويَمْتازُ عنهم بواقع، وإنما يفعلُ ذلك في اطِّراد
العادةِ بمُنبِّهٍ يُنبِّهُه، ومُذكِّير يُذَكِّرُه.
فصلٌ
في شبهِ المخالفين
فمنها: قوله تعالى: {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً
وَمِنْهَاجًا} [المائدة: 48]، والشِّرْعةُ: الشريعةُ،
والمِنْهاجُ: الطريقُ، فدلَّ ذلك على أنه لا يتبعُ الثاني
الأولَ؛ لأنَّ الشريعةَ لا تضافُ إلا إلى مَن يُخَصُّ بها،
فأمَّا التابعُ، فلا يكونُ له شرعةٌ خصُّه.
فيقال: ليس تخلو شريعةٌ ثانية من مخالفة لما قبلها بنوع نسخ
لبعضِ فروعِها؛ من تحريمِ مباح، أو إباحةِ محظورٍ، أو إسقاطِ
واجب، فلأجلِ ذلك الخلافِ خصّها باسم: شرعةٍ، [و] أضافها إلى
من شرعت له، كما يقول القائل: لكل فقيهٍ مذهبٌ، وإن اتفقوا في
بعض المسائل، واختلفوا في بعضٍ، ولا تمنعُ مشاركتهم في بعض
الشريعة من كونِ كل منهم له شريعةٌ، كما أن مشاركتَهم في
التوحيدِ لا تمنعُ عندهم انفرادَ كل منهم بشريعةٍ.
__________
(1) في الأصل: "ويسفهم".
(4/183)
ومنها: ما رويَ عن النبي - صلى الله عليه
وسلم - أنه قال: "بُعِثْتُ إلى الأَحْمرِ والأَصفرِ، وكلُّ
نبيٍ بُعِثَ إلى قومِه" (1)، فدل على أنهم لم يكونوا مبعوثين
إلا إلى قوم مخصوصين، فإذا لم يستوعبوا أهلَ عصرهم، أولى أن لا
يستتبعوا عصرَ غيرهم.
فيقال: إنَّما لم يستوعبوا أهلَ عصرهم، لأنَّه كان يتفقُ في
العصر الواحد اثنان وثلاثة، كلُّ واحد منهم بشريعة تخصه،
وكلامُنا فيما (2) إذا جاء نبي بعد النبي لا بمعنى يخصُه، ولا
بنَسْخِ شريعةِ من قبله، فذاكَ الذي نحنُ فيه، وكذلك نقولُ في
نبينا - صلى الله عليه وسلم -: ما جاءَ به ممَّا يخالفُ من
تقدَّمه، لا يتبعُ فيه من تقدمه، وما لم يرد فيه شيءٌ يخصُه
كان متَبعاً لمن قبله.
جوابٌ آخرُ: وهو أنَّ اللهَ سبحانَه لَمَّا عَلِمَ أنَّ
للأُمَّة الدين بعدَه في اتباعِ الشرعِ الأول مصلحةً، أمر
باتباعه، ولَمَّا عَلِمَ أنه لا مصلحةَ بعمومِ بِعْثتِه في
حالِ حياتِه إلى الجماعةِ، قَصَرَه على بعضِ أهلِ العَصرِ.
على أنَّه يحتمل أنْ نقول: تكون شريعته باقيةً في القومِ الذين
بُعثَ إليهم خاصةً، دون النبيِّ الذي بعثَ، ودون غيرِهم (3)،
فيكون نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم - تابعاً لملَةِ أبيه
إبراهيم، لأنّه كان مبعوثاً إلى العرب، والنبيُّ عربيٌّ،
وإنّما خصيصةُ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - أنَّه لم يعاصره
نبيٌّ مبعوث إلى قوم،
__________
(1) أخرجه مسلم (521) من رواية جابر بن عبد الله بلفظ: "كان كل
نبي يبعث إلى قومه خاصة، وبعثت إلى كل أحمر وأسود".
وأخرجه الدارمي 2/ 224 عن أبي ذر.
(2) في الأصل: "فيه".
(3) في الأصل: "غيره".
(4/184)
فإنه قد كان يجتمع في العصر الواحد أنبياءُ
عدة، فلما بعث نبيُّنا - صلى الله عليه وسلم -، لم يبقَ نبيٌّ
في عصره، ولا بقيَ نبيٌّ بعده ينسخُ شريعته، فاستوعبت رسالته
وشريعتُه سائرَ الأقطارِ، وشاعت في الأرضِ كلِّها، ولَزِمَتْ
(1) كلَّ من بلغه دعوتُه، حتى إنَّ الأديانَ التي بقيت كتُبها،
وبقايا أهلها، أُمروا باتباعِه، فهذا موضعُ الخصيصةِ، وموسى
بقيت شريعتُهُ، لكن بقيت مع شريعتِه شريعةُ عيسى، فهما شريعتان
مستعملتانِ إلى أن بُعِثَ نبينا - صلى الله عليه وسلم -، فلما
بعث نبينا - صلى الله عليه وسلم -، صار الحكمُ لِمَا جاءَ به
من شريعتهِ، ولم يبقَ معه شريعةٌ تُتَّبعُ، فهو وإن اتبعَ
شريعتي موسى وعيسى، إلا أنهما أُمِرا -أعني: بقيّهَ من بقيَ
منهما- أن يسمعا ما يقولُ لهما، وما يقضي به على نسخ ما كان من
شريعتهما، ولو كان مثلَ عيسى، لكان يَبْقى اليهود والنصارى على
اتِّباع نبيهما إلا فيما نُسِخَ، وما كانَ الأَمرُ كذا، بل
أُخِذَ عليهما جميعاً تركُ التوراةِ والإنجيلِ، والعملِ
بحكمهما، ووجبَ عليهما اتباعُ ما جاءَ به، والتعويلُ على ما
يخبرُ هو به عن الشريعتين جميعاً، دون ما في كتبهما من
التوراةِ والإنجيلِ.
ومنها: ما رويَ أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان معه شيء من
التوراة ينظر فيه، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم -: "لو
كان موسى حَيّاً، لَمَا وَسِعَه إلا اتِّباعي" (2)، وروي أنَّه
قال له: "أَلم آتِ بها بيضاءَ نَقيَّةً؛ لو أَدْركَني موسى،
لَمَا وَسِعَه إلا اتِّباعي"، فوجه الدلالة: أنه أنكرَ النظرَ
__________
(1) في الأصل: "ولزم".
(2) أخرجه أحمد 3/ 470 - 471 من حديث عبد الله بن ثابت
الأنصاري، و 3/ 338 من حديث جابر بن عبد الله، وأخرجه البغوي
في "شرح السنة" 1/ 270. وانظر "مجمع الزوائد" 1/ 173 - 174.
(4/185)
في التوراةِ، وذكرَ أنَّ المُعَوَّلَ (1)
والعملَ على ما جاء به دون شريعةِ موسى، وهذا ينفي ما تقولون:
من أنَّه هو المتبعُ لشريعةِ من قبلَهُ، والعاملُ بها، إلا ما
خُصَّ به من النسخِ، والزيادات التي زيدت (2) في شريعته؛ لأنه
إذا أخبر بأنَّه لو كان حياً، لما وسعه إلا أن يتبعه، كيف يكون
تابعاً له بعد موته؟! بل هذا القول تنبيه على أنَّه لا يجوزُ
اتباعُهُ لشريعةِ موسى وهو ميتٌ.
فيقال أولاً: أين ما يتكرَّرُ منكم من إنكارِ أخبارِ الآحادِ
في مثل هذا الأصل؟! ثم إن القرآن يقضي عليه؛ حيث عدَّدَ مَن
ذكر من الأنبياء صلواتُ الله عليهم، ثم قال: {أُولَئِكَ
الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام:
90]، وقوله: {ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ} [النحل: 123] وقوله: {سُنَّةَ مَنْ قَدْ
أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا} [الإسراء: 77]، أوقوله:،
{فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ}
[الأحقاف: 35]، فهذه الآيُ وأخواتُها، تعطي أنَّه مأمورٌ
باتباعِ من سبقه من الأنبياءِ، وقد أخبرَ - صلى الله عليه وسلم
- أنَّهُ لقيهُ [موسى] ليلةَ المعراجِ؛ حيثُ نُشِرت له روحُهُ
في مثالِ جسدِهِ، وأشارَ عليه بالاستنقاصِ من الخمسين صلاة
التي شرعت، حتى عادَ بها إلى خمس صلواتٍ (3)، وأشار عليه
بالاستنقاص، فاستحيا النبي - صلى الله عليه وسلم - من
المعاودة، ولم يستنكف عن اتباعه، فالقرآنُ وهذا الخبرُ يقضي
على خبرِ عمرَ والتوراة.
__________
(1) في الأصل: "المعمول".
(2) في الأصل: "زيد".
(3) وذلك في قصة الإسراء والمعراج وفرض الصلاة كما أخرج أحمد
4/ 208 و 210، وا لبخا ري (3207)، ومسلم (164)، والترمذي
(3343).
(4/186)
على أنَّ الإنكارَ كان لأنَّه نظرَ في هذه
التوراةِ بعد دخول التبديل والتغيير عليها، ولا يأمنُ أن يجدَ
فيها ما قد وضعوه من إنكارِ ورودِ شريعةٍ بعد شريعةِ موسى، وما
أنكروه من أمرِ عيسى، وخوضهم فيه وفي شريعته، وما قد وضعوه في
حق نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - مما يدلُّ على أنه متسلط
وملك لا أنه نبي، وأَنه (1) مبعوث إلى العرب خاصة لا إلى من
أَتبع موسى، وأمثال ذلك من التخاليط.
وقوله: "لو أدركني موسى، لما وسعَه إلا أن يتبعني"، فكلام
صحيح؛ لأنه لَمَّا (2) جاء بنسخِ السبت -وهو الذي شرعه موسى-،
وتَخليلِ ما حَرَّمَه من الشحوم عليه، وتغييرِ أحكامٍ كثيرة من
التوراة، وموسى ميتٌ [فإنه]، لو كانَ حياً، لما جازَ له
البقاءُ على حكم التوراة مع نسخِ القرآن لها، فهذا عينُ
الاتباع، فما قال إلا الحقَّ والصدقَ الذي نحن قائلون به، ولا
ينفي هذا اتباعَه لما شرعَه اللهُ من حكمِ اليومِ، ونَسَخَه
(3) في كتابنا، فقد جمعنا بين القرآن وما رويتموه، وأنتم لا
يمكنكم الجمع.
ونحن لا نقول: إنَّ نبيَّنا متبعٌ لشريعةِ موسى بما يجدُ في
التوراةِ، لكنْ بأمرٍ من الله سبحانه يَنْزِلُ به الوحيُ عليه،
وإعلامٍ منه أنَّ هذا كانَ شرعاً لي وديناً لموسى.
ومنها: أن قالوا: قد ثبت بالنقل الصحيح: أن النبي - صلى الله
عليه وسلم - كان يُسألُ عن الأحكامِ، فيتوقفُ عن الجواب، ولو
كانَ متَّبعاً لشرع من قبلَه، لأجابَ بحكم تلكَ الشرائعِ، ولم
يتوقف انتظاراً للوحي.
__________
(1) في الأصل: "لكن".
(2) في الأصل: "كما".
(3) في الأصل: "وبنسخه".
(4/187)
فيقال: إنَّما توقَّفَ، لأنَّ حكمَ
الشرائعِ التي كانت لمن قبلَهُ من الأنبياء صلوات الله عليهم
ليس يعلمها ويحكيها إلا من شهد عليهم بالكذبِ والعناد، وتغيير
كتُبه، وعنادِهم لرسله، فلم يُعوِّلْ في ذلك إلا على طريق
الوحي إليه، فإذا أُخْبِرَ بذلك، اتبعَ، وذلك مثلُ قوله في
كتابنا: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ
بِالنَّفْسِ ...} [المائدة: 45] الآيات، فلهذا كان توقفُهُ،
لأنَّهُ لا يتبع [إلا] ما صح عنده من شرائع من قبله.
ومنها: أنَّ الشرائعَ ما جاءت إلا بمصالح العبادِ، وخُصَّ
كُلُّ نبيٍّ بمعنىً بحسب مصلحةِ قومه، وعُلمَ أنَّهمَ
يَمَلُّونَ الأمورَ الدائمة، ويميلون إلى الأحدث، وعلم أن لكل
عصر حكماً (1) هو أصلح لأهله، وهذا يمنعُ من اتباع نبي لنبيٍّ،
لأنَّه قد يكونُ الحكمُ الأَوَّلُ (2) أصلح لهم، والأصلحُ لنا
في غير ذلك.
فيقال: نحنُ لا ننكرُ هذا، وكما لا ننكر هذا، أنتم لا تنكرون
أنه قد يبقى حكم كان في الشريعة الأولى، فلا ينسخُ بنبأ
الشريعةِ (3) الثانيةِ، فيتبيىْ بذلك أنَّهما استويا في ذلك في
باب الأصلح، وإنَّما الذي اختلفنا فيه هو ما يردُ به النسخُ،
فنحنُ لا نجعلهُ تابعاً إلا في الحكمِ المستبقى، فأمَّا في
الحكمِ المرفوعِ بالنسخِ، فلا، وهذا هو الظاهرُ، لأنَّه كان
مصلحةً لهم خاصَّةً دوننا، لنسخهِ في شريعتنا؛ ولأنَّ هذا لا
يمنع من اتباعنا لهم، كما لم يُمنع التابعون من متابعة الأحكام
التي كانت في أيام الصحابة، وإن كانَ الزمانُ مختلفاً،
__________
(1) في الأصل: "حكيماً".
(2) في الأصل: "للأول".
(3) في الأصل: "لشريعة".
(4/188)
والمصالحُ مختلفةً.
فإن قالوا: إنَّما اتبعنا؛ لأنَّ نسخاً لم يَرِدْ بعد رسول
الله - صلى الله عليه وسلم -.
قيل: والنسخُ أيضاً لم يرد فيما جعلناه من شرائعهم مُتَبَعاً،
فلا فرقَ بينهما.
ومنها: أن قالوا: لو كان شرعُهمِ شرعاً (1) لنا لوجبَ أن
تُتَبعَ كتبُهم، ويُستعلمَ عن أحكامِ شرائِعهم، وتُتَفهَّمَ
معانيها ممَّن أَسْلمَ منهم للثِّقةِ به، ولا يُنْتظَرَ الوحيُ
في حكمٍ، إلا أن يَرِدَ نسخ، فنَتبِعَه، كما لَزِمَنا ذلك في
شريعتنا، فلمَّا لم يَلْزَمْنا ذلك، بطلَ دعوى الاتباعِ
لشرائعهم.
فيقال: إنَّما يلزمُ من أحكام شرائِعهم [ما ثبتَ] بطريقِ
شرعنا، وهو ما أوحيَ إلى نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - ونُقل
الينا عنه، ونحن نتبعُ ذلك ونعملُ به، ونتفهمُ معانيه، فأمَّا
استعلامُنا لما عندَهم، فلا وجه له؛ لأنَّهم لو ابتدؤونا
بالإعلامِ، وقصُّوا علينا قصص أنبيائهم، ما سمعنا منهم، لِمَا
ثبت من كذبهم، وفسقهم، وعنادهم لنبينا - صلى الله عليه وسلم -،
وأمَّا من آمن منهم، فلا ضبطَ له بما بُدِّل، مما لم يُبدَّل،
لا سيَّما بعد ما جرى من بُخْتِ نَصَّرَ، وقتل حفاظ التوراة،
فلم (2) يبق منها ما يوثق بحفظه وبسطره.
ومنها: قولهم: إن شرائعهم على غايةِ الاختلافِ، فهذا يُبيحُ
عَيْناً، وهذا يحظرها، وهذا يعظمُ زماناً ويحرمه، وهذا يُبيحُه
ولا يُحَرِّمُه (3) له، والاتباع فيما هذا سبيله لا يمكن.
__________
(1) في الأصل: "شرع".
(2) في الأصل: "ولم".
(3) في الأصل: "يحترم له".
(4/189)
فيقال: نحن لا نوجبُ إلا اتباعَ ما اتفقوا
عليه، دون ما اختلفوا فيه، فإنَّ (1) الله سبحانه حينَ حرَّمَ
في شريعة عيسى ما كان مباحاً في شريعةِ موسى، وأباحَ ما كان
محرماً، صارَ الأولُ منسوخاً، ولسنا نتَّبعُ منسوخاً، فأمَّا
أن يكون عيسى أباحَ ما حرَّمه موسى، ثم إنَّ الحكم في شريعة
[موسى] باقٍ، فكلاَّ، فلا (2) خلافَ إلاَّ في منسوخٍ وناسخٍ،
والحكمُ عندنا للناسخِ في كل شريعةٍ دونَ المنسوخِ، وعلى هذا
فلا يستحيلُ الاتِّباعُ.
ومنها: أن قالوا: إنَّ كل شريعةٍ مضافة إلى نبيِّها، ولو كانت
مشتركةً بينه وبين من يأتي بعده، لم يكن أحدُهما أخصَّ بها من
الآخر.
فيقال: إنَّما خُصَّ بها من ابتدأ بها، وللابتداءِ (3) حكم ليس
للاتباع، كما تخصُّ المذاهبُ بالمبتدىء، فيقال في كل مذهبٍ
سبَقَ إلى اَلقول به: مذهبُ فلان، وإن كان من بعده وافقه في
مذهبه لدليله لا تقليداً له، كذلك ها هنا يقال: ملةُ عيسى،
وملَّةُ موسى؛ لأجل السَّبق، وإن كان النبي - صلى الله عليه
وسلم - الآخر متبعاً لما أوحيَ إليهما به من الأحكام، ويقالُ
اليوم: شريعةُ محمد، لأنَّه جاء بنسخِ أشياء من الأحكامِ كانت
شرعاً لموسى وعيسى، فإن سمِّيت: شريعةَ موسى وعيسى، فلأجلِ
الابتداءِ، وإنْ سمِّيت هذه: شريعةَ محمد - صلى الله عليه وسلم
-؛ فلأجلِ أنها ناسخةٌ لكثيرٍ من أحكام الشريعتين قبلَه.
__________
(1) في الأصل "قال".
(2) في الأصل: "بلا".
(3) في الأصل: "والابتداء".
(4/190)
ويحتملُ أن تكون الإضافة مغلبةً في حق أحد
المشتركين (1)؛ لأن الغالبَ من تلك الشريعة إنما جاءَ في
شريعةِ ذلك النبي، وأوحى إليه بها، فغلبَت الإضافةُ لغلبةِ
الأحكام.
ومنها: أن قالوا: لو كان النبي الثاني يجوز أن يكون مشاركاً
للأول، ومتبعاً له، لجاز أن يبعث إليهم (2) نبيين في عصر واحد
بشريعةٍ واحدة، فلمَّا لم يجز ذلك، لم يجز اجتماعُ نبيين في
عصرين على شريعةٍ واحدة.
فيقال: قد كانَ ذلك، بدليلِ أنَّ إبراهيمَ عاصره أنبياءُ كلهم
على شريعةٍ، كلوطٍ وغيره ممّن عاصره، وموسى وهارونَ نبيان
بشريعةٍ واحدةٍ.
على أنَّه ليس الأمران سواءً فدلُوا على (3 التسوية بين
المتفقين في الشريعة الواحدة في عصرين مختلفين، وبين المتفقين
في الشريعة الواحدة في عصر واحد 3)، ولن تجدوا جامعاً يجمعُ،
ونحنُ نجد فرقاً، وهو أن الواحد كاف للعصر الواحد، وأما العصر
الثاني فقد يكون فَتْرةً، فَيَبْعثُ الله نبيّاً مُنَبِّها (4)
على ما فَتَرُوا عنه، وأهملوه في الشريعة الأولى.
على أن هذا باطلٌ بما بقيَ من الشريعة الأولى بعد نسخ ما
نسختهُ
__________
(1) في الأصل: "المشركين".
(2) في الأصل: "إليه".
(3 - 3) في الأصل: "على التسوية بين المتعارضين وبين المتفقين
في الشريعة الواحدة في عصرين مختلفين".
(4) في الأصل: "منها".
(4/191)
الشريعةُ الثانيةُ، فإنَّهما يتفقانِ فيه،
ويشتركان -أعني: الأول والثاني- فيما لم يُنسخ من الشريعةِ
الأولى، وإن لم يجز عندكَ بعثُ نبيين في عصرٍ واحدٍ يتفقان في
حكمٍ واحدٍ، فقد بانَ بهذه الجملةِ فرقُ ما بينَ العصرِ
الواحدِ والعصرين.
ومنها: أن قالوا: فيما ذهبتُم إليه، من اتباعِ من تقدَّمَه من
الأنبياء، تنفيرٌ (1) عنه، ورغبةٌ عن اتباعه؛ لأنه إذا كان على
شريعةِ موسى أو عيسى، أنس أهلُ ذلك الدين إلى كونه متبعاً
لنبيِّهم، وأنَّه واحدٌ منهم، ومن أمة ذلك النبي، فإذا صار
مخالفاً له في شيء مما جاء به ذلك النبي؛ بما يزعمُ أنه قد
نُسِخَ في شريعته هو، ساغَ لهم أن يقولوا: كانَ تبعاً، فمالت
نفسُهُ، وسَمَتْ إلى أن يصيرَ متبوعاً، ونحنُ قد سمعناهُ
مقرّاً بالنبوةِ الأولى، وراضياً باتباعها، فنُعوِّل على الأول
من قوليه دونَ الثاني، فإنه متهمٌ فِي الثاني؛ من حيثُ إنَّه
استدركَ الأمرَ لمحبةِ الرئاسةِ، وأخذته الأَنَفة من الاتباعِ.
فلا ينبغي أن يسلكَ به هذا المسلك المفضي إلى هذه المفسدة، لا
سيما والقرآنُ ينطق بمراعاة ما تجتمعُ القلوبُ عليه، دون ما
تَنْفِرُ عنه، مثل قوله: {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ
مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48]، وقوله: {وَلَوْ جَعَلْنَاهُ
قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ
أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ} [فصلت: 44].
فيقال: إنَّ هذا مما يزولُ، وينقمعُ قائلُهُ، والمتعلِّقُ به؛
بإقامة الحجج الباهرة؛ من المعجزاتِ الدالَّة على صدقه في نسخِ
ما قبله، إذا لم يَتعبَّدْ بشريعة مَن قبلَه، وإذا كان ما ظهر
على يديه، يوجبُ
__________
(1) في الأصل: "تنفيراً".
(4/192)
انقيادَ كل عاقل إلى قوله، وتصديقه، فلا
فرقَ بين كونه يعد متابعاً (1) لنبي قبله، وبين كونه مبتدئاً
بشريعة لم يسبقها اتباعه لأحد قبله.
على أنَّا قد بينا فيما تقدم (2): أنه لم ينف (3) عن الشريعة
كلَّ مُنَفِّرٍ، بل أبقى أشياء كثيرة مثلها يُنَفِّر، إذ لم
يجب عليه سبحانه ذلك، لِمَا قد جعل في العقول من القوة
الدافعةِ لكل شبهةٍ، وفي المعجزاتِ الباهرةِ ما تَحْصلُ به
الثقةُ، فلا تبقى بين هذين شبهةٌ، فمن نفرَ بعد ذلك، فإنما
أُتي من قبل نفسه، ودُهيَ من جهةِ إهمالِه وإغفالِه، ومن قال:
بأنه يفعلُ ما يشاءُ، ولا مُعقّبَ لأمرِهِ، لم يَحْسُنْ به أن
يُورِدَ مثلَ هذا الاحتجاجِ الموهِم، بأنَّه إذا فعل ذلك، فقد
أخلَّ بواجبٍ.
ومنها: أن قالوا: إنَّ دعوى اتباعِه لشرائعِ من قبله، دعوى
بعيدةٌ؛ لأنَّ ذلك لو كان، لساغَ النقلُ فيه؛ لأنَّ العباداتِ
والأحكامَ كثيرة، والأسئلةَ في ذلك متوفرة، وذلك لأنَّهُ أمرٌ
تعمُّ البلوى به، فلمَّا لم يُنْقَلْ أنَّه سألَ عن دينِ
اليهوديةِ مَن أَسْلمَ، فكان ثقةً عنده؛ كعبد الله ابن
سَلاَمٍ، وكعب الأَحْبارِ، عُلمَ أنه لا أصل لذلك.
فيقال: وما الذي أحوجه إلى ذلك، مع كون الوحي يمده عند كل عارض
يعوضُ، وحكمٍ يُسألُ عنه؟ ولما أمر برجم اليهوديين اللذين زنيا
بعد إحصانهماً، وزعمت اليهود أنه لا يجب عليهما إلا
التَّحْمِيمُ، قاضاهم (4) - صلى الله عليه وسلم - إلى التوراة،
ودخل معهم بيتَ الدراسة، فجعل ابن صوريا يضع يده على آية
الرجم، فقال له عبد الله بن
__________
(1) في الأصل: "متابعته".
(2) في الصفحة: 158 وما بعدها.
(3) في الأصل: "ينفر".
(4) في الأصل: "فقاضاهم".
(4/193)
سلام: ارفع يدك، فإذا آية الرجم، فرجمهما
(1). وهذا رجوع إلى خبر عبد الله بن سلام في حكم التوراة،
وعملٌ بها في حقهما.
فصل
ونبينا - صلى الله عليه وسلم - قبل بعثه، ونزول الوحي عليه، لم
يكن على دين قومه، بل كان متديناً بما يصحُّ عندَهُ أنَّهُ من
شريعةِ إبراهيم، لا يلوذُ بأصنامهم، ولا يتعرضُ لأزلامِهم (2)،
ولا يَسْمُرُ مع سامرِهم، بل كان يَتَحنَّثُ بحراء، قال أحمد:
من قال: إن النبي - صلى الله عليه وسلم - كان على دين قومه،
فهو قولُ سوءٍ، أليس كان لا يأكل من ذبائحهم على النصب؟
وبذلك قال أصحاب الشافعي (3)، وقال قوم بالوقف (4)، فإنه يجوز
أن يكون كذا، ويجوز أن يكون غير متعبد رأساً.
وحكى أبو سفيان السرخسي عن أصحابِ أبي حنيفة: أنه بعد البعثةِ
صار شرعُ مَنْ قبلهُ شرعاً له، لا مِن حيثُ كان شرعاً له قبلها
(5)، وأمّا قبلَ البعثِ، فإنَّه لم يكن متعبداً بشىء من
الشرائعِ (6).
__________
(1) أخرجه البخاري (6841)، ومسلم (1699).
(2) في الأصل: "بأزلامهم".
(3) انظر "شرح المحلي على جمع الجوامع" مع "حاشية البناني" 2/
352.
(4) ومن هؤلاء: إمام الحرمين، والغزالي، والآمدي. انظر
"البرهان" 1/ 509، و"المستصفى" 1/ 246، و"الإحكام" 4/ 376.
(5) في الأصل: "لمن قبله".
(6) "فواتح الرحموت على مسلم الثبوت" 2/ 183.
(4/194)
فصلٌ
والدلالةُ على أنَّهُ كان متعبداً: هو أنُه كان يتجنَّبُ ما
عليه [قومه] (1) ويتحنثُ بما (2) كان يعلمُه ويَتعلَّمُه (3)
من شريعةِ إبراهيمَ، فإن كان إلهاماً من الله سبحانه، فهو
تشريعٌ، وإن كان لما بلغهُ، ورويَ له، فهو أيضاً اتباعٌ لشرعٍ،
وإن كان موافقةً منه لِما أنزل الله، فهو عِصمةٌ (4) عن أديانِ
الوَثنيين.
وكان يتعبُ الحيوان ويكدُّه بمقتضى الشرائع، لا بمقتضى
البراهمة وجُحَّاد النبوات، وأكلَ اللحْمانَ، وذبح الحيوانَ،
فالظاهرُ أنه تدينَ بالشرائعِ؛ إذ يبعدُ أن يكون هذا بتَواقعٍ
وقعَ له، فإذا كان بإلهام، فهو تشريع ألهمهُ الله به اتباع
الشرائعِ.
فإن قيل: وما تنكرُ أن تكون قد أَخْلَلْتَ بطريق لم تُعْنَ به؟
وهو الطريقُ الذي يُسْلَكُ قبلَ الشرائعِ، وهو العملُ بمقتضى
العقلِ، فالعقلُ (5) لا يُسَوَّغُ عبادةَ الأصنام، ولا
الاستقسامَ بالأزلامِ، ولا السُّكْرَ، ولا شيئاً (6) من
مقبحاتِ العقول هذه (7).
فيقال: فالعقلُ لا يؤلمُ الحيوانَ لغيرِ مصلحةٍ له، ولا
يُسوِّغُ إتعاب
__________
(1) ليست في الأصل
(2) في الأصل: "ما".
(3) في الأصل: "ويتعلم".
(4) في الأصل: "وعصمه".
(5) في الأصل: "والعقل".
(6) في الأصل: "شيء".
(7) كان موضع "هذه" في الأصل قبل قوله: "مقبحات"، والجادة
إثباتها
(4/195)
الأبدانِ بحجٍّ وعمرةٍ، وغير ذلكَ، ولا
يتهدَّي إلى مصلحةٍ تَعْقُبُهُ، فيُحَسِّنَهُ، وقد كان يفعلُ
ذلك صلى الله عليه وسلم؛ بما صحَّ به النقلُ، واشتهرَ في
السيرِ.
شبهةٌ
قالوا. لو كان قبلَ بعثتهِ على دينٍ، لعُرِفَت تلك الشريعةُ
بالنقلِ، كما عُرِفَت شريعتُه، ونُقلت بعد البعثةِ.
فيقال: قد نقلنا ما حكيناهُ، وفي ذلك كفاية.
(4/196)
|