الواضح في أصول الفقه فصول النسخ
فصل
يجوز نسخ الشرائع شرعاً وعقلاً. أشار إليه أحمد وأطلقَ، وبه
قالَ جماعةُ أَهلِ العلمِ.
وقالَ أبو مسلمٍ عمرُ بن يحيى الأصفهاني (1): لا يجوز النسخ
شرعاً، ويجوز عقلاً.
واختلفت اليهود (2): فلم يجزه (3) قومٌ منهم من طريق السمع،
وأجازوه من طريق العقل، ومنهم من قال: لا يجوز سمعاً ولا
عقلاً، وقالوا: هو عينُ البَدَاء.
وبالغ قومٌ ممَّن وافقنا في النسخ -وهم طائفة من المعتزلة (4)
__________
(1) المعروف عند الأصوليين: أن الذي يخالف في النسخ من أهل
القبلة: هو أبو مسلم محمد بن بحر الأصفهاني المعتزلي، كان
نحوياً كاتباً بليغاً متكلماً مفسراً، ولد سنة 254 هـ، وتوفي
سنة 322 هـ، وله مصنفات عدة، منها: كتاب في التفسير على مذهب
المعتزلة، سماه بـ "جامع التأويل لمحكم التنزيل" وقد وقع لاسمه
تحريف وتصحيف كثير انظر: "شرح الكوكب المنير" 3/ 535، و"بغية
الوعاة" 1/ 59، و"لسان الميزان" 5/ 89، و"طبقات المعتزلة"
(299)، و"الفهرست" (196)، و"المسودة" (195).
(2) ولا عبرة بخلافهم، انظر حاشية العطار على جمع الجوامع 2/
121.
(3) في الأصل: "يجيزه".
(4) انظر "المعتمد" 1/ 407.
(4/197)
والحنفية (1) - في المنع من النسخ للشيءِ
قبلَ وقتِ فعله خوفاً مَن البَدَاء، حيث نسخ قبل فعلِ شيءٍ
أصلاً، ومنعوا من جواز اخترام المكلف قبل وقت فعل المأمور به،
وجعلوا ذلك بداءً.
وذهب قوم من الرافضة -وحكوه عن موسى بن جعفر، وعن علي رضي الله
عنه-: أن البداء جائز على الله سبحانه -وهذا غاية التباين في
المذاهب-، وزعموا: أنَّ علياً ترك الإخبار بما يكون إلى يوم
القيامة، لأجل وجود البداء في كتاب الله، يخاف أن يخبر بشيء،
فيَبْدُو لله (2) تعالى فيه، ويحكون عن علي رضي الله عنه، أنه
قال: لولا آية في كتاب الله -وهي قوله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ
مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ} [الرعد:
39]، لأنبأتكم بما يكونُ إلى يومِ القيامة (3). ويزعمون: أن
هذا الذي أشار إليه النبي - صلى الله عليه وسلم - بقوله،
لَمَّا بكى هو وجبريلُ، فقيل لهما: ألم نُؤَمِّنْكما النار؟
ألم نَعِدْكُما (4) الجَنةَ؟ قالا: "بلى، لكن مَن يَأْمَنُ
مَكْرَك" (5) يعني: البداء.
وهذا تجاسر عظيم، وتهجم على الله بما لا يليق به سبحانه،
__________
(1) انظر "تيسير التحرير" 3/ 187، و"فواتح الرحموت" 2/ 61 -
62.
(2) في الأصل "فيبدو الله".
(3) ذكره الطبري في "التفسير" 16/ 484، والسيوطي في "الدر
المنثور" 4/ 67 عن كعب الأحبار.
(4) في الأصل: "نعد لكما".
(5) لم أجده يهذا اللفظ، وذكر الغزالي: قيل: لما ظهر على إبليس
ما ظهر، طفق جبريل وميكائيل عليهما السلام يبكيان، فأوحى الله
إليهما: ما لكما تبكيان كل هذا البكاء؟ فقالا: يا رب، ما نأمن
مكرك؟ فقال الله تعالى: هكذا كونا، لا تأمنا مكري. "الإحياء"
4/ 181، ويبدو أن الحافظ العراقي لم يجد له أصلاً فلم يخرجه
(4/198)
والظاهر عندي: أنهم في ذلك كاذبون (1) على
علي، وموسى بن جعفر.
وقيل: إنه كان ممن يقول بذلك: زُرارَةُ بن أَعْينَ (2)، وله
شعر فيه مشهور (3):
ولولا البدا سميته غيرَ هايبٍ ... وذِكرُ البدا نعتٌ لمن
يتقلبُ
ولولا البدا ما كان فيه تصرفٌ ... وكان كنارٍ دهرُها تتلهبُ
وكان كضوء مشرق بطبيعةٍ ... وبالله عن ذكر الطبائع نرغبُ
وكان المختار (4) يصرح به، ويقول: بدا لي لكم؛ كذا وكذا.
ثم إن بعض القائلين بالبَدَاءِ قَسَّمُوا وفَصلُوا، فقالوا:
إنما يجوز البداء عليه سبحانه فيما لم يطلعْ عليه عباده، ولم
يُخْبِرْهم بكونه، دون ما أَطْلعَهُم عليه، وأَخْبرَهم بكونه.
__________
(1) في الأصل: "كاذبين".
(2) هو أبو الحسن، زرارة بن أعين الشيباني بالولاء، كان رأس
الفرقة الزرارية من غُلاة الشيعة، توفي سنة (150) هـ. انظر
"لسان الميزان" 2/ 473، و"الأعلام" 3/ 43.
(3) نسبت هذه الأبيات لزرارة بن أعين في "شرح اللمع" للشيرازي
2/ 192، و"الفائق في أصول الفقه" 4/ 16، والإحكام" للآمدي 3/
110.
(4) هو المختار بن أبي عبيد بن مسعود الثقفي، خرج علي بن عبيد
الله بن زياد والي البصرة بعد مقتل الحسين رضي الله عنه، فنفاه
إلى الطائف، فانضمَّ إلى عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، ثم
توجه إلى الكوفة ودعا لإمامة محمد بن الحنفية، وقال بالبداء
وادعى نزول الوحي عليه، فقتله مصعب بن الزبير سنة (67) هـ.
انظر "الكامل" لابن الأثير 3/ 356.
(4/199)
وبعضُهم أجاز النسخ في (1) العباداتِ،
ومنعه في (1) الأخبار، وبعضُهم أجازَ النسخَ فيهما، أعني:
العبادات والأخبار.
فينبغي أن يقع الكلام في فصلين: أحدهما: أن النسخ ليس ببداء،
وأنه ليس من ضرورة قولنا بالنسخ؛ أن نكون قائلين بالبداء، و
(2) أن القائل لذلك مُقَصِّرٌ فى النَّظَر (3)، جاهلٌ بالله
سبحانه، وبما يَجوزُ عليه وما لا يَجوزُ.
فصل
فالدلالة على منع القول بالبدَاءِ مع جواز النسخ: هو أن البداء
في الحقيقة: هو ما علمه الحيُّ بعد أن لم يكن علمه، من قولهم:
بدا لي سور المدينة، قال الله تعالى: {وَبَدَا لَهُمْ مِنَ
اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47)} [الزمر: 47]،
{بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ}
[الأنعام: 28].
والدلالةُ قد قامَت على كونِ البارىء سبحانه عالمَ الغيبِ
والشهادةِ بنصوصِ الكتابِ وأدلة العقول، فقال جلَّ من قائل:
{وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا
حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ} [الأنعام: 59] وقال سبحانه: {مَا
أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ
إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} [الحديد:
22]، وقال سبحانه: {وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا
عَنْهُ} [الأنعام: 28]، {لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ
إِلَّا خَبَالًا} [التوبة: 47]
__________
(1) في الأصل: "من".
(2) في الأصل: "أو".
(3) هذا هو الفصل الثاني الذي ذكره المصنف.
(4/200)
{غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى
الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)}
[الروم: 2 - 3]، {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ}
[الفتح: 27]، فلا يجوزُ مع هذه النصوص، أن يقول بالبداءِ مؤمنٌ
بكتاب الله العزيز.
فأمَّا من جهةِ العقول: فإنَّ (1) الذي دل على كونه عالماً،
أنه سبحانه أتقنَ صنائعه، إتقانَ من قد علم حاجتها إلى ما
أعدَّ فيها من الأجزاء والأعضاءِ والمشاعر، التي سدَّ كلٌّ
منها مَسَداً (2)؛ لولاهُ لتعطل بمعدمه غرضٌ، واختل باختلاله
أَرَبٌ، وهذا دال على دَركِ المستقبلات من الأمور، وأن البداءَ
لا يجوزُ إلا على جاهلٍ بعواقبِ الأمورِ، والله سبحانه بريءٌ
من ذلك؛ بما دل من نصوص كتابه، وأدلة العقول على أنه العالم
بكل ما يصح أن يعلم، فبطل القول بالبداءِ.
فصل
[في] شُبَهِهم
قالوا: قال الله تعالى: {يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ
وَيُثْبِتُ} [الرعد: 39]، وهذا يَدُل على البداء.
قيل: غايةُ ما يدل هذا: على أنه يفعلُ ما يشاءُ من مَحْوٍ
وإثباتٍ، وقد قيل في تفسير هذه الآية: يَمْحو الله السيئاتِ
بالتوبة والإسلام، ويُثْبِتُ بالإصرارِ، وقيل: يمحو الله ما
يشاءُ من الأحكام بالنسخِ، ويُثْبِتُ بالتشريع ما يشاءُ من
الأحكام، وقيل: من الشرائع، وهو الأشبه؛ لأنه قال: {وَمَا
كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ
اللَّهِ لِكُلِّ
__________
(1) في الأصل: "بأن".
(2) في الأصل: "سداً".
(4/201)
أَجَلٍ كِتَابٌ (38)} [الرعد: 38]، ثم قال:
{يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ} فكان عائداً إلى نسخ
شريعةٍ ماضيةٍ بإثباتِ شريعةٍ مستقبلةٍ، والكلُّ معلومٌ له
قبلَ نسخِه ومحوِه وإثباته، بدليل ما ذكرنا.
قالوا: ولأنا وجدنا بأن الفاعلَ للأمر إذا عَكَسَه، والبانيَ
إذا نَقَضَ ما بناه وهَدَمَه، والمُعطِيَ إذا استرجع [ما]
أعطاه، وسَلَبَه، والآمرَ بالشيءِ إذا نَهَى عنه لا سِيَّما
قبلَ وقوعِهِ، أو حال بين المأمور وبينَه بعدَ أن اسْتَدْعاهُ
منه، وكانَ الأول منه عن علمٍ بما أَمَرَ به وبما شَرَعَ فيه،
فإن الثاني -وهو النَقْضُ والهَدْمُ، والسَّلْبُ والاسترجاعُ،
والنهيُ- عن علمٍ منه تَجدَّدَ، وإلا فمحال أن يكونَ العلمُ
الأول هو الذي أَوجبَ الثانيَ، فلم يبقَ إلا أنه لعلمٍ
تَجدَّدَ بعدَ أَن لم يَكُنْ في الأول، ولو كان في الأول، لما
بَنَى ولا أمَرَ، وهذا هو البَداءُ بعينِه.
فيقال: وما تُنكِرُ على من قال: إنَّه علم أن الأمرَ بذلك
مصلحةٌ لخلقه، والبناء مصلحةٌ، في ذلك الوقت الذي أمر وبنى
(1)؟ وأن المُتجدِّدَ معنىً تَجدَّدَ على المخلوق، وأنَّ
البقاءَ على ذلك الأمرِ الأول والحال الأولى مفسدة، فعادَ
التغييرُ إلى المخلوقِ دونَ الخالقِ، ولو كانت العوارضُ
الحادثةُ تدل على تَجَدُّدِ علمٍ كان سَبقَه عدمُه، لوجب أن
نزيدَ على قولكم بالبداءِ غيرَ ذلك من الأوصافِ المتغايرة
والمتضادة، مثل: أنَّه إذا خَلَقَ ورزقَ، وحَنَّنَ الآباءَ
والأمهاتِ، ثم سلبَ وأعدمَ ذلك بأنواعِ الإعدامِ؛ من موتٍ، أو
إعاقةٍ، أو قسوةٍ تجدَّدت من الوالد حتى قتل ولده، والجارح
والسبُع حتى أكلَ فرخَه وسخله، أن يقال: قسا بعد أن كان
رحيماً، وإذا منع الرزو، أن يقال: بخل بعد أن كان كريماً،
وكذلك إذا أجدب بعد
__________
(1) في الأصل: "ربنا".
(4/202)
أن أخصب، أو نسي بعد أن كان ذاكراً،
فلَمَّا لم يُخْلَعْ عليه سبحانه بالتغييرات المختلفة
والمتضادة المُتجَدِّدةِ على خَلْقِه، صفاتٌ متغايرةٌ ومتضادة،
كذلك لا يجوز أن يُخْلَعَ عليه اسم بداء، وأنه تَجدَّدَ له
علمٌ بعد أن لم يكن؛ من حيث إنه تَجددَ منه منع ورفعٌ وإزالةٌ،
بل يقال: إنَّ التغيراتِ بحسب ما عَلِمَ من مصالح عباده،
بتغايرِ الأزمنة والأحوال، وهو غير مُتغيِّرٍ في كونه عالماً
ورَحيماً، إلى (1) جميعِ ما يَسْتحِقُّهُ من الصفاتِ.
وهذا تكلفٌ مع كون النصوص مغنيةً عن أدلَّةِ العقولِ،
والمخالفُ موافق في التصديق بالكتاب العزيز، وهو مملوءٌ من
الآي الدالة على كونه عالماً (2 بما كان، وما يكون، وبما لم
يَكُن أن لو كان، كيف يكون 2).
فصل
في (3) الدلالةِ على جواز النسخ عقلاً وشرعاً في الأوامر
والنواهي، وسائر الأحكام.
أما العقلُ: فإنَّ الناسَ على قولينِ:
أحدُهما: أنَّه يفعلُ ما يشاء، ويكلِّفُ ما شاءَ، وكيف شاءَ،
فعلى هذا: له أن يُدِيمَ ما كَلَّفَ، وله أن يَقْطَعَه،
ويُزِيلَه في مستقبل الحال. والقول الثاني: أنه يُكَلِّفُ
ويَفْعلُ على سبيل الأَصلح.
__________
(1) في الأصل: "وإلى".
(2 - 2) العبارة مضطربة في الأصل.
(3) في الأصل: "و".
(4/203)
وعلى كلا الأمرين لا يمتنعُ النسخُ
والرفعُ؛ إمَّا لما شاءَ، أو لِما عَلِمَ في ذلك من الأصلح
للمكلفين، والمصالحُ قد تختلفُ باختلاف الأزمان، كما تختلفُ
باختلافِ الأشخاص، فكم من شخصٍ مصلحتُهُ الغنى، فالفقرُ مفسدٌ،
وكم من شخص بالعكس، وكم من زمانٍ يصلحُ أهلُهُ بالمداراةِ
والمساهلة، وزمانٍ لا يُصْلحُ أهلَه إلا السوطُ والسيفُ، ألا
تراه سبحانه كيف قال في زمنِ المداراة: {وَمَا أَنْتَ
عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} [ق: 45]، {لَسْتَ عَلَيْهِمْ
بِمُصَيْطِرٍ (22)} [الغاشية: 22]، {إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ}
[الرعد: 7]، {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا} [البقرة: 83]؟ فلما
جاء زمانٌ الأصلحُ فيه العنفُ، قال: {فَإِذَا انْسَلَخَ
الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ
وَجَدْتُمُوهُمْ ...} [التوبة: 5] الآيات.
ومن ذلك: أنَّه إذا جاز أن تأتيَ الشرائعُ بالعباداتِ
والمأموراتِ أوزاعاً؛ فتأتيَ بإيجابِ صلاةٍ، ثم يتَرَاخَى
الأمرُ في ذلك، فيأتي بعدَ ذلك إِيجابُ صيامٍ، ثم يتراخى
الأمرُ، فيأتي إيجابُ زكاةٍ وحجٍّ، إلى أمثال ذلك، وهذا إيجابٌ
لتعبدٍ لم يكن واجباً، فهَلا جاز رفعُ ما وجبَ، وهذا صحيحٌ،
لأنّ الَزياداتِ بعد المبادىءِ التي كانت كالكفايةِ
والاستقلالِ بالمصلحة، صارت غيرَ كافيةٍ، ومن ها هنا جعل قومٌ
الزياداتِ نسخاً، فإذا جاز أن يزادَ على الواجبِ الأول،
ويُخْرَجَ الأولُ [عن] أن يكون كافياً ومقنعاً، بتجديد أمرٍ
ثانٍ، وإيجاب ثانٍ، جازَ أن يُزالَ الأولُ، ويُجَدَّدَ أمرٌ
غيرُه بحسبِ الأصلح، هذا بحكمِ الأصلح.
وإن كان بحكمِ المشيئة: فقد يكون مريداً للشيء في حالٍ، ثم إنه
يبين بالنسخ منه لم يكن مريداً له في حال أخرى، ويَبْعُدُ
الفرقُ بين أنه لم يكن الشيء واجباً بُرْهةً، ثم جعلَه سبحانه
واجباً، وبين أن حَكَمَ بوجوبِه بُرْهةً، ثم جعلَه غيرَ واجبٍ.
(4/204)
ومن ذلك: أن الله سبحانه ما زال يَنْقُلُ
من حالٍ إلى حالٍ؛ من صغرٍ إلى كِبَرٍ، وصِحَّةٍ إلى سَقْمِ،
وغِنىً إلى فقرٍ، وأَمنٍ إلى خوفٍ، وعِلمٍ إلى جهلٍ، كما قال
سبحاَنه: {خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ
ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا
وَشَيْبَةً} [الروم: 54] وقوله: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} [غافر: 67] إلى قوله: {ثُمَّ
يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ
لِتَكُونُوا شُيُوخًا} [غافر: 67] وكان ذلك جائزاً عليه، ولم
يك بداءً، كذلكَ يعتبرُ ما جعلهُ صلاحاً لدينه ودنياه، لا
يمتنعُ أن يقعَ فيهِ الاختلافُ، والنفيُ بعد الإثباتِ،
والإثباتُ بعد النفي، إمَّا للأصلح للعبدِ، أو لمطلقِ المشيئة.
والذي يوضِّحُ هذا: أنَّ من يصحُّ عليه البداءُ، يحسُنُ
إضافتُه إليه في هذا، كما يَحْسنُ إضافتهُ إليه في الأحكام،
فيقال: كان فلانٌ يواصلني بالهدية فبدا له، وكان يكرمني فبدا
له، كما يقال: أَمَرَ عَبْدَه بالخِدْمةِ -في كذا وكذا من
أنواعِ الاستخدام-، ثم بدا له، إذا قطعَ عنه ذلك، أو نقَلَه
إلى غيرِه، أو تركه وأهملَه، فإذا كان الله سبحانه يجوزُ عليه
هذا النوعُ، فلا يكونُ بَداءً، بلَ يكونُ على ما يَلِيقُ به،
إِمَّا لمصالح خَلْقِه بحسبِ أحوالهم المتجددة وأزمانهم، أو
بحسب المشيئة، لأنَّ حقيقةَ البَداء لا تَتحقَّقُ في حقِّه،
وهو تَبيُّنُ الشيءِ بعدَ الخفاءِ، وظهورُه وتَجَلِّيه بعد
تَغَطِّيهِ عليه.
ومن ذلك: أنه إذا جازَ أن تكونَ المصلحةُ في العبادةِ إلى
غايةٍ، مثل: الصومِ إلى الليل، والصلاةِ إلى اخر الركعة
الرابعةِ، والحجِّ والإحرام المانعِ من اللُّبْس، والتغطيةِ
للرَّأْسِ، وتقليمِ الأَظافرِ، وإزالة الشَعَثِ، إلى غاية -هي
رميُ الجَمْرةِ في يوم الأضحى-، ثم يزولُ
(4/205)
ذلك، ولا يكون بداءً، فما المانع من
الحكمةِ أن تكونَ المصلحةُ في إبقاءِ الحكم وتشريعه إلى غايةٍ،
ثم ينسخُ بالنهي عن استمراره واستدامته، فتكونُ غايتُهُ في
الزمانِ كغايتهِ في المقدار؟ فيقال للمحرمِ يومَ النحرِ، إذا
رمى جمرة العقبةِ في الحج: حَسْبُكَ، عُد إلى إزالةِ
الشَّعَثِ، والتَجمُّلِ باللِّباس، وتغطيةِ الرأس،
والتَّطيُّبِ، واصْطَدْ، ثم يقال للصائم إذا غَرَبَتِ الَشمسُ:
حسبُكَ، كُلْ واشربْ، وطَأْ، وعلى هذا، ولا فصلَ لهم بين
الأمرين -أعني: غايةَ العبادةِ نفسها، وقطعَها عن المرور فيها،
وبين قطعِ زمانِ فعلها- وحقيقته تَبْيينُ العْاية، وأنه إنما
أراد فعلها إلى ذلك الوقت الذي نزل فيه الوحي بالنسخِ.
ومن ذلك: أنه إذا جاز أن يبتدىءَ التكليفَ بالعباداتِ بعد أن
مضى زمانٌ لم يُكلِّفْ فيه فعلَ تلك العبادات، لِمَ لا يَجُوزُ
(1) أن يُكَلِّفَ عبادةً، ثم يسقطَها عن المكلف؟ وما الفرقُ
بين مَنْعِ التكليفِ قبل (2) الابتداءِ به، ورَفْعِ استدامتِه
بعدَ أن كَلَّفَ؟ والمنعُ كالرفع، والنفيُ قبل التشريع
كالإزالةِ بعدَه، ولَمْ نَقُلْ: بدا له، فكلَّفَ بعدَ أن لم
يكلِّف، كذلك لا يقال: بدا له، فأَسْقطَ العِبادةَ بعد أن
كَلَّفَ.
ومن ذلك: أننا قد أجمعنا على أنَّه يجوزُ أن يُكلِّفَ الصحيحَ
عبادةً وعباداتٍ عدة إلى أن يمرض، فإذا جاء المرضُ، أو عرض
السفرُ، أو جاءَت العوائقُ، أسقطَ، أو خَفَّفَ، فبانَ أنه
كَلَّفَ حال الصحةِ إلى غايةٍ هي المرضُ، فكشفَت العاقِبةُ عن
الإسقاطِ في تلك الحال لِمَا كان وجبَ من العباداتِ قبلَها،
وليسَ يظهرُ من ذلك إلا نوعُ مصلحةٍ، وتخفيفٌ بعد تشديد، فكذلك
المُغيِّرُ لمصالحَ خَفِيَّةٍ
__________
(1) في الأصل: "جاز".
(2) في الأصل: "مثل".
(4/206)
تَعُودُ إلى أحوالٍ يَعْلمُها الله من
الأَشخاص والأَزمانِ، وإن كان هو المُغيِّرَ للأَحوال
والأزمانِ، كما هو المُغيِّرُ من الصحةِ إلى المرضِ، وسائرِ
الأعذار.
فصلٌ
في الدلالةِ على جوازِه شرعاً، وعلى وقوعه وحصوله نقلاً
فمن ذلك: أن (1) ذلك وَقَعَ، ووُجِدَ في الشرائع: أن الله
سبحانه أمر آدم أن يزوج بناته من بنيه، ثم حرَّمَ ذلك في شرائع
مَن بعدَه صلواتُ الله عليهم أجمعين، فإن تجاهلَ متجاهلٌ منهم
بالمنعِ من ذلك، فقد دلَّ عليه وجودُ التناسلِ، وكثرةُ أولاده،
ولم يكن في الأرضِ سواه وسوى أولادِهِ، فالنسلُ لا يخلو من
تناكحٍ أو فجورٍ، ولا فجورَ كان، ولو كان، لما حصلَ النسبُ
والانتسابُ، ولأُولِدَ الأنبياءُ صلواتُ الله عليهم من فجورٍ،
فثبتَ أنَّه ما كان كثرةُ العالَمِ مع عدمِ ما سوى آدم وسوى
أولاده، إلا بتزويجِ بنيه ببناته.
ومما يَدُلُّ على كون ذلك واقعاً في الشرائع: أنَّهُ كان أباحَ
العملَ يومَ السبتِ، ولم يُحرِّمْه إلا في شريعة موسى.
وأجازَ الخِتانَ بعد الكِبَرِ، وكانَ إبراهيمُ عليه السلام يرى
الخِتانَ بعد الكبرِ بما شرعَ الله له ذلكَ، فختنَ نفسَهُ
كبيراً، وجاء موسى -على زعمِ اليهودِ-: بأَن يُختنَ الطفلُ
يومَ يُولَدُ (2).
__________
(1) في الأصل: "وأن".
(2) في الأصل: "ولد".
(4/207)
وزعموا: أنَّ يعقوبَ جمعَ بين الأختينِ في
وقتٍ واحدٍ، وذلك مُحرَّمٌ في شريعةِ موسى.
فهذا نسخٌ واقعٌ، ليس له دافعٌ مِمَّن عرفَ السِّيَرَ،
وأَقَرَّ بصحة ما نقلَ عن الأنبياءِ صلواتُ الله عليهم، وما
وقعَ لا يمكن جحدُه مذهباً، لكن تكذيباً وجحداً، وذلك يسدّ
علينا بابَ المنقولِ في غيرهِ، والمنقولُ لا يردُّ بالآراءِ
والمذاهبِ.
ومما يدلُّ في كتابنا على النسخ، وأنه قد وقعَ، [و] يُحْتَجُّ
به [على] من خالف في النسخ من أهل الإسلامِ: قوله تعالى: {قَدْ
نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ
قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة: 144] وهذا وعدٌ بالنسخ،
{فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:
144]، وهذا تصريحٌ بالنسخِ (1) ثم أكد ذلكَ بقوله: {سَيَقُولُ
السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ
الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا}
[البقرة: 142]، وهذَا إخبارٌ عن اعتراضهم على النسخِ.
وقوله تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا
عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، ثم
ساق وجوهَ ظلمهم، فقال: {وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ
كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ}
[النساء: 160 - 161] الآية، وهذا عينُ النسخِ، لأَنه تحريم ما
كان مباحاً لهم، إذ لا يجوزُ أن يريدَ به تحريمَ ما كان
مُحرَّماً عليهم، إذ لا يقعُ مقابلةً لحادثِ أفعالِهم ما كان
سابقاً لأفعالِهم.
فإن قيل: يحتملُ أنهُ حَرَّمَ عليهم بالسمعِ ما كان مباحاً لهم
__________
(1) في الأصل: "الصريح نسخ".
(4/208)
في العقلِ، وذلكَ لا يكون نسخاً، لأنَّ
النسخَ رفعُ حكمٍ شرعي لا إِزالةُ (1) ما ثبت بالعقلِ.
قيل: لا إباحةَ، ولا حظرَ في العقلِ، إنَّما ذلكَ للشرعِ، وقد
دلَّلْنا على ذلكَ في أصول الدينِ، ولو سلمنا على قول أبي
الحسنِ التميمي، فلا يَضُرُّ (2)، لأن الله سبحانه خَصَّهم
بذلك، ولو عادَ ذلك إلى إباحةٍ كانت في العقلِ، لما خصَّ الذين
هادوا بذلكَ، لأن قضايا العقولِ تعمُّ كل أُمَّةٍ، ولا تختصُّ
اليهودَ، ولا أُمَّةَ إلا وقد حُرِّمَ عليها بعضُ ما أباحته
العقول.
فإن قيل: ما سَمَّى فاعلَ التحريمِ إلا وأضافه إلى نفسه
سبحانه، وإذا كان مما لم يسمَّ فاعله، فلعله أرادَ تحريمَ ما
كان أباحهُ لهم أَحْبارُهم وعلماؤُهم.
قيل: لو كانت تلك الطيباتُ مباحة [لا] بإباحةٍ عن الشارع، لما
كانت مباحةً، فإنه (3) ليس لأحدٍ أن يضعَ إباحةً ولا تحريماً
من تلقاءِ نفسهِ، وإذا كان ما أَحَلَّه علماؤُهم مُحرَّماً
عليهم بحكم الشرعِ، لم يقع التحريمُ عقوبةً؛ لأنه سابقٌ قبلَ
ذلك، فلا يكونُ مقابلةً لسوءِ أعمالهم التي عدَّدها سبحانه.
فإن قيل: فليس فيه أنهُ أَحَلَّهُ قبلُ، وحَرَّمَهُ فيما بعدُ،
بل يجوزُ أن يكون مقارناً لأمتأخراً، فكأنه كان قال: اَبحْتُ
لكم شحمَ كذا إلى وقتِ كذا، فإذا جاءَ وقتُ كذا، فقد
حَرَّمْتُه عليكم.
__________
(1) في الأصل: "لإزالة".
(2) في الأصل: "يطر".
(3) في الأصل: "وأنه".
(4/209)
قيل: ظاهرُ الكلامِ يعطي أن التحريمَ كان
عقيب ظلمهم، ولو كان مقارناً للَّفظِ، كان التحريم سابقاً
لظلمهم.
ومن ذلك -أعني: الواقع من النسخ-: أنَّ الله سبحانه فرضَ
الوصيةَ للوالدين والأقربين بقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا
الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ
بِالْمَعْرُوفِ} [البقرة: 180]، ثم نسخ الوصيةَ بآيةِ
المواريثِ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - عند نزول آيةِ
المواريث: "إن الله قد أعطى كُلَّ ذي حقٍّ حَقَّهُ، فلا
وصِيَّةَ لوارثٍ" (1)، ونسخَ صوم عاشوراء بصومِ شهرِ رمضان
(2)، ونسخ كلَّ حقٍّ كان في المال بالزكاة، فقال النبي صلى
الله عليه وسلم: "ليس في المال حَقٌّ سوى الزكاةِ" (3).
فإن قيل: ليس هذا بثابت بطريق يصلحُ أن يكون ناسخاً؛ لأنَّ
صومَ عاشوراء لم يثبت وجوبُهُ ولا تلك الصدَقاتُ، ولا بين
الوصيةِ والميراث تنافٍ، فتكونَ آيةُ المواريث ناسخةً.
قيل: هذا مما تَلَقَّتْهُ الأمةُ بالقبول، وكَثُرَ ناقلهُ،
ولسنا نعتبرُ التواترَ، فإن أحمد قد نصَّ على النسخِ بأخبارِ
الآحادِ تعويلاً على استدارةِ أهل قباءٍ، وسندلُّ عليه إن شاء
الله في موضعهِ (4)، وآيةُ
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 231،
(2) أخرج مالك في "الموطأ" (842)، وأحمد 6/ 30، 50، 162،
والبخاري (2002)، ومسلم (1125)، وأبو داود (2442)، والتر مذي
(753) عن عائشة رضي الله عنها قالت: كان يوم عاشوراء تصومه
قريش في الجاهلية، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم -
يصومه في الجاهلية، فلما قدم المدينة صامه وأمر بصيامه، فلما
فُرض رمضان ترك عاشوراء، فمن شاء صامه، ومن شاء تركه.
(3) تقدم تخريجه في 2/ 16.
(4) انظر الصفحة 258 وما بعدها.
(4/210)
المواريث لا يمكن جَمْعُها وآيةَ الوصيةِ،
إذ لا وصيةَ وميراثَ يجتمعانِ عندنا، بل الوصيةُ باطلةٌ.
ومن ذلك: قوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ
فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} [المجادلة:
12] ونسخ ذلك بقوله: {فأَقِيموُا الصلاة} (1) [المجادلة: 13].
ولم يَتحَقَّقِ المخالفُ على هذه الايات ما نَسْتَحسِنُ
إيرادَه.
فأمَّا الدلالةُ على إرادَتِه (2) شرعاً بعد ما دَلَّلْنا على
وقوعهِ شرعاً أيضاً: قوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ
أَوْ ننْسأها (3) نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(106)} [البقرة: 106] وقوله تعالى: {وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً
مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا
إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}
[النحل: 101] وهذا تصريح بجوازِ النسخِ عليه سبحانه.
__________
(1) ونص الآية الناسخة: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا
بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا
وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا
الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ
بِمَا تَعْمَلُونَ (13)} [المجادلة: 13].
(2) في الأصل: "إيراده".
(3) "نَنْسَأْها" بفتح النون الأولى، وسكون الثانية، وفتح
السين المهملة، وإسكان الهمزة: هذه قراءة ابن كثير وأبي عمرو،
ومعناها: نُؤَخر حكمَها، من التأخير، وتقدير الآية على هذا: ما
ننسخ من آية، فنبدل حكمها، أو نؤخر تبديل حكمها، فلا نبطله،
نأت بخير منها.
وقرأ الباقون: "أو نُنْسِها" بضم النون الأولى، وسكون الثانية،
وكسر السين، ومعناها: نُنْسِكَ نحن يا محمد، من النسيان. "حجة
القراءات" لابن زنجلة (109 - 110).
(4/211)
فصل
في جمع شبههم
فمن ذلك: ما حكته اليهودُ عن موسى عليه السلام، أنهُ قال:
شريعتي مؤبدةٌ ما دامت السماوات والأرض، وبعضهم يروي أنه قال:
الزموا السبتَ أبداً.
فيقال: هذا مفتعلٌ على موسى، ويقال: أول من وضعهُ لهم
لتقْطَعوا به الكلامَ معَ من يَروعُه هذا اللفظُ ابنُ
الراوندي، وأنه أخذ على ذلك جِعالةً من اليهود بَتسَمُّجه في
أمر الدين بما ظهرَ من خِزْيِه (1) في كتبهِ المعروفةِ،
كالملقبَ بـ "الزمرُّدة" و"الدامغ" (2). والذي يوضحُ هذا
الكذبَ: أن أحبارهم وكبارَهم أعرفُ منهم بما في التوراةِ، وهذا
ابنُ سلامٍ، وكعبُ الأحبار، ووهبُ بن منبه، أسلموا لما رأوا
علاماتِ المبعوثِ في توراتهم [فيه] صلى الله عليه وسلم، وقد
عُلمَ ما في التوراةِ المنقول إلى العربي، من ذكرِ الأنبياءِ:
أشيعيا، وشمعون، وحبقوق، وغيرهم، ما لا يُغادرُ صفتَهُ، وصفةَ
أُمَّتهِ، وصفةَ مكةَ في أيامِ نبوته وبعثته، وذلك مذكورٌ في
أعلامِ النبوَّات من كتب الأصول، فأين كانت هذه الكلمة؟ وأين
كانوا عن التعلقِ بها؟ فلما لم ينقل احتجاج اليهود الأُوَل
بها، عُلمَ أنها مفتعلةٌ مختلقةٌ في أواخرِ الأمر، لَمَّا تجدد
للشريعةِ من الأصوليينَ مَن دَحَضَ كلمتَهم، فأعياهم النظرُ
والتحقيقُ إلى هذا الكذبِ، طلباً
__________
(1) في الأصل: "خزنه".
(2) انظر ما تقدم في ترجمته في الصفحة 104.
(4/212)
لموازاةِ قوله صلى الله عليه وسلم: "لا
نبيَّ بعدي" (1)، وقول الله في كتابنا: {وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ} (2).
على أنَّ هذهِ الكلمة لو ثبتت، لكانَ لها تأويلٌ ظاهرٌ من
وجهينِ:
أحدهما: أنهُ أرادَ بالشريعةِ: التوحيدَ والأصولَ التي تضافُ
إلى كلِّ نبيٍّ، وأضافها إليه في وقتهِ، إذ مَن مضى ومَن يأتي
ليس بخاصٍّ، فهو أخصُّ بالتوحيد بحكمِ عصرهِ.
ويحتملُ: مُؤَبَّدةً ما لم تُنْسَخْ بصادق مثلي، وليسَ هذا
أولَ عمومٍ خُصَّ بدلالةٍ، ولا دلالةَ آكَدُ منَ المعجزاتِ
الباهرةِ التي ظهرتْ على يدي محمد صلى الله عليه وسلم،
وبقِيَتْ بعدهُ، ولم يُحْكَ فيها اعتراضُ معترضٍ، ولا حدَّثَ
ناطقٌ نفسهُ بمقارنةِ سورةٍ منها، وما انكشفَ من الغيوب التي
أخبرَ بها، والأمورِ التي وعدَ بكونها.
[فصل]
في شبهات من منع ذلك عقلاً.
[منها:] إن تجويز النسخ يؤدي إلى تجويز البداءِ على الله
سبحانه،
__________
(1) ورد هذا في عدة أحاديث، منها: ما رواه أبو هريرة عن النبي
صلى الله عليه وسلم، أنه قال: "كانت بنو إسرائيل تسوسهم
الأنبياء، كلما هلك نبي، خلفه نبي، وإنه لا نبي بعدي .... "،
أخرجه البخارىِ (3455)، ومسلم (1842) (44).
(2) أي: في قوله تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ
مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ
النَّبِيِّينَ} [الأحزاب: 40].
(4/213)
والبداءُ لا يجوزُ عليهِ، ولا يجوزُ إثباتُ
ما يؤدي إليهِ، والذي يوضحُ أن النسخَ عينُ (1) البداءِ: هو أن
الآمِرَ بالشيءِ، إذا نَزَعَ عنه، وأَمَرَ بضدهِ، أو نَهى عنه،
إذا كان حكيماً، لم يُحْمَلْ نهيُه عن الشيءِ بعدَ أمره به (2)
إلا لِمَا عَلِمَه في الثاني من حالهِ مِمَّا (3) كان متغطياً
عنه حالَ الأمر به، وإن لم يَكُنْ لمعنىً بانَ له كان خافياً
عنه كان عابثاً (4)، فهو متردد بين بداءٍ وعبث، وكلاهما لا
يجوز على الله سبحانه، فلا وجه لتجويزهِ عقلاً.
فيقال: إن الذي أَدَّى بكم إلى اعتقاد هذا، استشعارُكم أنهُ
أرادَ بالأمرِ (5) بما أمرَ بهِ الدوامَ، ثم قطعهُ، فعادَ ذلكَ
بالبداءِ، فأمَّا ما نقولهُ نحن فلا يفضي إلى ذلكَ، فإنا
نقولُ: إنه أمرَ بما أمرَ به -من استقبال (6) بيتِ المقدس
مثلاً- وأرادَ بهِ إلى مدةٍ عَلِمَها، ثم إنه أخفاها عن
المكلفينَ اَمتحاناً لهم وابتلاءً، وأبانَ عنها النسخُ، وما
ذلكَ إلا بمثابةِ خلقهِ للحيوانِ صغيراً، والابتداءِ بالطائرِ
بيضةً، فلما كَبَّرَ الحيوانَ، وأَخرجَ من البيضةِ طاووساً، أو
أمرضهُ بعدَ الصحة، أو أفقرهُ بعدَ الغنى، لم يكن ذلكَ بداءً،
بلِ نقول وإياك: إنه كانَ من مراده، وبانَ من قصده سبحانه، أن
يكون ذلكَ المخلوقُ على تلك الصفةِ بعد (7) زمانٍ معلومٍ،
وَوَقَّت نَقْلَهُ من حالهِ الأولى إليها،
__________
(1) في الأصل: "عن".
(2) في الأصل: "ولا".
(3) في الأصل: "ما".
(4) في الأصل: "غايباً".
(5) في الأصل: "الأمر".
(6) في الأصل: "واستقبال".
(7) في الأصل: "إلى"
(4/214)
وكذلك لمَّا لم يُكَلِّفْ، ولم يخاطِب
بالعباداتِ، ثم خاطبَ، لم نَقُلْ: إنهُ كانَ غيرَ مخاطِبٍ، وقد
خاطبَ، فقد بدا لهُ، لكن يقالُ: إنه لَم يُخاطِب، وكانَ تركُه
للخطابِ [إلى] أجلٍ معلومٍ، أظهرهُ الخطابُ في ذلك الوقتِ،
فعُلمَ أنَّ تأخيرَهُ بإرادةٍ وعلمٍ، وخطابهُ في الوقت الثاني
-بعد أن لم يخاطبْ- بإرادةٍ، لا أنه بحيث كانَ لا يريدُ
الخطابَ، فبدا لهُ أمرٌ أوجبَ إرادةَ الخطابِ.
وكذلك إذا أَمرَ المكلفَ أمراً مطلقاً، ثم إنه أَعاقَ بالمرضِ،
أو الموتِ، فإنا لا نقول: إن ذلك بداءٌ، بل أراد بأمرهِ له:
العملَ به إلى تلكَ الغايةِ التي حصلت فيها الإعاقةُ؛ بما
تجددَ وحدثَ.
وكذلكَ تغييرُ أحوالِ الدنيا الكليةِ؛ من جدبٍ إلى خِصبٍ، ومن
توليةٍ إلى عزلٍ، ومن غنىً إلى فقرٍ، إلى أمثالِ ذلكَ من
التغييراتِ الحادثةِ في العالم جميعه، فإن لم تُجَوِّزْ على
الله سبحانه ذلكَ، لئلا يؤدي إلى ما ذكرت، فلا تُضف هذهِ
التغييراتِ إليهِ؛ لأنَّ أمثالها إذا صدرَ عن مخلوقٍ من آحادِ
الخلقِ ممن يجوزُ عليهِ البداءُ، كان بداءً.
ولأنا قد أجمعنا على أنه لو كشفَ سبحانهُ عن مقدارِ مدةِ
العبادةِ، فقالَ. صلوا إلى بيتِ المقدس كذا كذا شهراً، ثم
استقبلوا الكعبةَ، فإنه لا يكونُ ذلكَ بداءً، بلَ توقيتاً
وتقديراً، فإذا أمرَ بالصلاةِ نحوَ بيتِ المقدسِ، ولم يقدرها
بمدةٍ، لكنه أمرَ بالتحولِ إلى الكعبةِ بعدَ مدةٍ معلومةٍ، وهو
(1) ممن ثبتَ بالدليلِ العقلي أنه لا يعلمُ شيئاً بعد أن لم
يعلمه، وجبَ أن يُحملَ الأمرُ على ما يليقُ به، من أنه أرادَ
__________
(1) أي: ربُّ العالمين الذي يستحيل شرعاً وعقلاً أن يثبت في
حقه الجهلُ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً.
(4/215)
ذلكَ التقديرَ وعَلِمَه، وإنما غطى عنا
الغايةَ امتحاناً وابتلاءً، بحسب امتحانِهِ بأنواعِ التكاليفِ،
فأمَّا أن نحمله على ما لا يليقُ به، فكلا.
ومنها: أن قالوا: إنَّ الله سبحانه إذا أمرَ بشيءٍ، دلَّ على
أنه حَسنٌ ومصلحةٌ، فإذا نهى عن شيءٍ، دلَّ على أنه قبيحٌ
ومفسدةٌ، فلو جوَّزْنا النسخَ، لأفضى إلى كونِ الشيءِ جامعاً
للنقيضينِ، فيكون حسناً قبيحاً، مصلحةً مفسدةً، ومحالٌ اجتماعُ
النقيضين للشيءِ الواحدِ، فما أدى إليهِ، وجبَ أن يكونَ
باطلاً.
فيقال: إنَّ الذي نهى عنه بالنسخِ ليسَ هوَ الذي أمرَ بهِ
عندنا، بل المأمورُ بهِ هو الذي كانَ متعبداً به إلى الوقتِ
الذي ورد فيه النهي، والمنهيُّ عنه هو ما بعدَ الغايةِ التي
كشفَ لنا النسخُ أنَّ الأمر كانَ مقدَّراً بها.
على أنَّ الشيءَ الواحدَ لا يكونُ حسناً قبيحاً، مصلحةً مفسدةً
في حالٍ واحدةٍ، فأمَّا في وقتينِ وحالينِ، فلا يمتنعُ ذلكَ،
كالدواءِ يكون مصلحةً في وقتٍ وحالٍ، ومفسدةً في وقتٍ آخرَ،
وما كشف الله سبحانهُ تَوْقيتَه؛ مثل قوله: {ثُمَّ أَتِمُّوا
الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} [البقرة: 187] {وَإِذَا
حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]، {فَإِذَا قُضِيَتِ
الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ} [الجمعة: 10]، هذه
كلها أمورٌ كانت حسنةً ومصلحةً في الوقتِ الذي قَدَّرَها به،
وكانت بعدَ خروجِ الوقتِ غيرَ مصلحةٍ ولا حسنةٍ.
وكذلكَ العمومُ مع تخصيصِه، كانَ الخطابُ بالعمومِ مصلحةً، ثمِ
جاءَ الخصوصُ، فكان بياناً للمرادِ به من الأعيانِ المخصوصةِ،
وكان البيانُ مصلحةً أيضاً في وقتِه، ولم يكن البيانُ مصلحةً
في وقتِ إيرادِ
(4/216)
العمومِ، على قولِ من أجازَ تأخيرَ البيانِ
عن وقتِ الخطابِ (1).
ومنها: أن القولَ بالنسخِ يؤدي إلى اعتقادِ الجهلِ، من جهةِ أن
المكلَّف يعتقدُ بإطلاقِ الأمرِ التأبيدَ، ولا يعتقدُ
التأقيتَ، فإذا جاءت الغايةُ، بانَ ما اعتقده جهلاً، والجهلُ
قبيح، فما يؤدي إليهِ قبيحٌ، فوجبَ تنزيهُ الله سبحانه عنه.
فيقال: إِنِ اعتقدَ التأبيدَ، فإنما أُتِيَ من قِبَلِ (2)
نفسه، وإلا فالذي ينبغي أن يعتقِدَ: أنَّ ذلكَ التعبدَ إلى حين
يُنسخُ؛ لأنَّه إذا رأى تصاريفَ البارىء في العالمِ، واختلافها
بحسب الأزمنةِ والأشخاصِ والمصالح، لم يَجُزْ له اعتقادُ
التأبيد، بل يعتقدُ أن ذلك ثابت إلا أنْ يُنسخَ ويُرفَعَ.
على أنَّ في طَيِّه منَ التعبدِ ما يُرْبي على الجهلِ الذي
تُشيرُ إليهِ، فإنَّه إذا أضمرَ ملازمة التعبدِ على التأبيدِ،
فجاءَ النسخُ بعدَ ذلكَ، حصل له ثواب الاعتقاد لاعتناقِ الأمرِ
أبداً، ثم حصَلَ لهُ ثوابُ الانتقالِ من الفعلِ إلى التركِ
تسليماً لحكمةِ الناسخِ، فإنَّ تغييرَ الأحوالِ من أشقِّ ما
يكونُ على النفوسِ.
ولأنَّهُ باطلٌ بالاعتقاداتِ الحاصلةِ لدوامِ الأحوالِ؛
كالصحةِ والغنى، ثم إنَّ الله سبحانه يزيل ذلكَ بالفقرِ
والمرضِ.
ومنها: أن قالوا: لو جازَ نْسخُ الأحكامِ، لجازَ نسخُ
الاعتقاداتِ في التوحيدِ، وما يجوز على الله، وما لا يجوزُ،
وجميعِ مسائلِ الأصولِ، ويكون ذلكَ مصلحةً في وقتٍ، ومفسدةً في
وقتٍ، ولَمَّا
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة 87 وما بعدها.
(2) في الأصل: "قييل".
(4/217)
لم يَجُزْ ذلكَ في الأصول والاعتقاداتِ،
كذلكَ في الفروعِ والعباداتِ.
فيقال وما الجامعُ بينهما، حتى إنَّه إذا لم يَجُزْ هذا، لم
يَجُزْ هذا؟
ثم يقال: إنَّ ذلكَ عائِدٌ إلى مَنْ لا يجوزُ التغييرُ عليه،
ولا خروجُهُ عن حالٍ، أو صفةٍ وُصِفَ بها، إلى ضدَّها أو
غيرِها.
ألا ترى أنَّه لا يجوزُ أنْ يقول اللهُ سبحانَهُ: أوجَبْتُ
عليكم توحيدي نهاراً، فإذا جاءَ الليلُ أسقطتُ عنكم التوحيدَ،
وأَبَحْتكم التثنيةَ والتثليثَ؛ لأنَّ اللهَ سبحانه وجَبَتْ له
الوَحْدةُ بدلائلِ العقول، واستحال أن يكونَ له ثانٍ في
الإلهيةِ، والشرعُ لا يَرِدُ بتجويزِ ما أحال العقلُ، كما لا
يردُ بإحالةِ ما جوَّزَهُ العقلُ.
فأمَّا الصلاةُ إلى جهةٍ، ونَقْلُنا عنها إلى جهةٍ، فجائزٌ أَن
يُعَلَّقَ على زمانينِ مختلفينِ، وتكون المصلحةُ في كل وقتٍ،
التوجُّهَ إلى الجهةِ التي عُلِّق التوجه عليها.
ومنها: أن قالوا: إذا جوَّزنا عليهِ النسخَ، لم يبقَ لنا طريقٌ
نَعرِفُ به التأبيدَ، أي: لو أرادَ التأبيدَ في عبادةٍ أو حكمٍ
من الأحكامِ، فيفسدُ علينا بابُ العلم بذلك، وفي ذلك إبطال
كونه سبحانَهُ قادراً على إعلامنا بالتأبيدِ لبعضِ ما يريدُ
تأبيدَه من الأحكامِ والشرائعِ.
فيقال: بل قَدْ بقي ما يمكنُ إعلامنا بهِ إرادةَ التأبيد، بأنْ
يقول: ولسْتُ أنسخُهُ، ولِا أغيِّره، كما أنَّهُ أعلَمنا في
حقِّ نبيِّنا - صلى الله عليه وسلم - بأَنَه (1) لا نبيَّ
بعدَه، ولا مغيِّرَ لشريعتِهِ، ولا ناسخَ لها، أو يَضْطَرَّنا
إلى معرفةِ ذلكَ بوجهٍ من وجوهِ الاضطرارِ.
__________
(1) في الأصل: "وأنه".
(4/218)
ومنها: أنْ قالوا: قد أجمعنا على أنَّ
الخبرَ لا يجوزُ نسخه، وما ذلكَ إلا لأنَّ نَسخ الأخبارِ يعودُ
بكونها كذباً، كذلكَ وجبَ أن لا يقالَ بنسخِ الأوامر والنواهي،
لأنَّهُ يعودُ بكونهِ بداءً.
فيقالُ: أمَّا استطرادُكم بذكرِ البداءِ، فقد مَضى الكلامُ
عليه، وفيه ما يغني عن إعادته (1).
وأَمَّا (2) إلزامكم الخبر، فلا يلزمُ؛ لأنَّ الخبرَ إمّا
بماضٍ أو مستقبل، فالخبر بالماضي إعلامٌ بما كانَ، والخبرُ عن
المستقبل إعلامٌ بما سيكون، وليس يمكن إخراجُ أحدِهما ومعه
لفظٌ يرفعهُ إلا ويقعُ محالاً، فنقول: قامَ زيدٌ أمس، لم يقُمْ
زيدٌ أمس، وقامَ ولم يقمْ متنافيانِ، والمتنافي لا يجتمعُ
للشيءِ الواحدِ، فلمَّا استحال أنْ يجتمع لزيدٍ القيامُ وعدمُ
القيام في حالٍ واحدةٍ، لم يصح أن يجتمِعَ ذلكَ في قولٍ صحيح
محكم، أو نقول في المستقبلِ: يقومُ زيد غداً، لا يقومُ زيدٌ
غداً، فهًذا أيضاً محالٌ.
جئنا إلى مسألتنا، لو قالَ: استقبلوا بيتَ المقدس كذا كذا
شهراً (3)، ثمَّ تَحَوَّلُوا عنه إلى الكعبةِ، لم يتنافَ
الاستَقبالُ الأولُ والثاني، ولا الأمرُ بهما، ومستحيلٌ للحكمِ
الواحدِ، وهو الاستقبالُ نفياً وإثباتاً في زمانٍ واحدٍ
لمكلفين مخصوصين، فهما سواءٌ في حالٍ واحدةٍ وفي حالينِ نفياً
وإثباتاً.
__________
(1) انظر ما تقدم في الصفحة 199 وما بعدها.
(2) في الأصل: "فأمَّا".
(3) في الأصل: "شهر".
(4/219)
|