الواضح في أصول الفقه

فصل
والنسخُ في القرآن على ثلاثةِ أضرب (1):
نسخُ الرسمِ فقط.
والثاني: نسخُ الحكمِ فقط.
والثالث: نسخُ الرسم والحكم.
فأمَّا نسخُ الرسم دونَ الحكمِ: فاَية الرجمِ، وهي قوله: "ولا ترغبوا عن ابائكم، فإن ذلك كفر بكم (2)، الشيخُ والشيخةُ إذا زنيا، فارجموهما البتة ... والله عزيز حكم " (3)، وكذلك قولُه: "متتابعات" (4)
__________
(1) ارجع في هذا الفصل إلى "العدة" 3/ 780، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 273، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 553، و"أصول السرخسي" 2/ 78، و"المستصفى" 1/ 123، و"شرح تنقيح الفصول" (308).
(2) صنيع المصنف يوهم أن قوله: "ولا ترغبو عن آبائكم، فإن ذلك كفر بكم" هو بعض آية الرجم، وليس كذلك؛ فإنه لا تعلق له بآية الرجم، وإن كان أيضاً مما كان يقرأ به قبل نسخ تلاوته، كما ورد ذلك ضمن حديث مطول أخرجه البخاري (6830)، وأحمد 1/ 55 - 56 عن ابن عباس، عن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما.
(3) تقَدم تخريجه 1/ 246.
(4) يشيرُ بذلك إلى قوله سبحانه: {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ} [المائدة: 89].
إذ وردت قراءة شاذة بزيادة: "متتابعات"، وتنسب هذه القراءة الشاذة إلى =

(4/220)


في صومِ كفارةِ اليمينِ، فهذان نطقان نسخا، وبقي حكمهما؛ الرجمُ في حقِّ المُحصَنَيْنِ إذا زنيا، والتتابعُ في صومِ الأيام الثلاثةِ في كفارةِ اليمين (1).
وأما ما نسخ حكمه، وبقي رَسمُه: فمثل (2) قولِه تعالى. {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} [البقرة: 240]، وقوله: {إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ} [البقرة: 180]، نُسِخَتِ الأُولى -ألاعتداد بالحوِلِ، ورمي البَعْرةِ في رأسِ الحولِ- إلى أربعة أشهرٍ وعشر (3)، ونُسِخت
__________
= أبي بن كعب، وعبد الله بن مسعود، ذكر ذلك الطبري في "التفسير" 10/ 559، وعبد الرزاق فىِ "المصنف" (16102)، والحاكم في "المستدرك" 2/ 276، والبيهقي في "السنن" 10/ 60.
على أن هذه القراءة رغم التسليم بعدم قرآنيتها، وكونها لم تثبت متواترة، فإنه لم يرد قول بنسخها، فلا وجه إذاً لإيراد ابن عقيل لها ضمن الآيات التي نسخت تلاوة وبقيت حكماً.
قال الإمام الطبري في "تفسيره": أما ما رويَ عن أبي، وابن مسعود من قراءتهما: "فصيام ثلاثة أيام متتابعات"، فذلك خلاف ما في مصاحفنا، وغير جائز لنا أن نشهد لشيء ليس في مصاحفنا أنه من كتاب الله. "تفسير الطبري" 10/ 562.
(1) القول بوجوب التتابع في صيام الأيام الثلاثة هو قول الحنفية، والراجح عند الحنابلة؛ لكونهم أخذوا بقراءة عبد الله بن مسعود وأبي بن كعب، وخالفهم في ذلك المالكية والشافعية. "المغني" 11/ 273.
(2) في الأصل: "مثل".
(3) في قوله سبحانه: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة: 234].

(4/221)


الوصية للوالدين والأقربين بآيةِ المواريثِ.
وأمَّا الرسمُ والحكمُ جميعاً: فهو ما رَوَت عائشةُ رضي الله عنها: عشرُ رَضَعاتٍ معدوداتٍ، نسخنَ بخمسٍ معلوماتٍ، وماتَ رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - وهنَّ ممَّا يُتلى في القرآن (1) وليسَ لنا في المصحفِ "عشرُ رضعاتٍ" مسطورةً، ولا الحكمُ الذي هو التحريمُ متعلقاً عليها.
والسورة التي ذكر أنها كانت كسورةِ الأحزاب، وكانَ فيها: "لو أنَّ لابن آدم واديينِ من ذهب، لابتغى إليهما ثالَثاً، ولا يملأ عينَ -ورويَ: جوفَ- ابنِ آدمَ إلا الترابُ، ويتوبُ اللهُ على من تابَ " (2).
ولا نعلمُ أكان فيها حكمٌ، أم كانت قصصاً ومواعظَ وآداباً (3)؛ فهذه جملةٌ لا يُستغنى عن ذكرِها.
وذهبَ قومٌ إلى أنَّه لايجوزُ قِسْمٌ منها، معَ موافقتِهم في جواز النسخ في الجملة، والذي منعوا منه: نسخُ الرسم مع بقاءِ الحكم.

فصلٌ
في الدلالةِ على جوازِ نسخِ الرسمِ مع بقاءِ حكمه
وهي أنَّ الحكمَ قدْ يَثْبتُ (4) لا بقرآن، والقرآنُ قدْ يَثْبتُ خالياً من الأحكامِ (5)، فالأحكامُ الشرعية قد تَثْبُتُ بقولِ النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي لا
__________
(1) تقدم تخريجه 1/ 247.
(2) تتمدم تخريجه 1/ 248.
(3) في الأصل: "وآداب".
(4) في الأصل: "ثبت".
(5) يوضح كلام ابن عقيل واستدلاله على جواز نسخ الرسم مع بقاء الحكم: ما ذكره القاضي أبو يعلى في "العدة" 3/ 782، إذ قال: إن التلاوة لا =

(4/222)


إعجازَ فيه، وذلكَ ما تَضمَّنَتْه هذه السننُ المرويةُ عنه - صلى الله عليه وسلم - في الأحكامِ، والتلاوةُ المجردة عن الأحكام: القصص، وذكرُ السِّيَرِ، وذكرُ الجنةِ والنارِ، وصفة القيامةِ، وإذا كانَ كلُّ واحدٍ من الرسم والحكمِ منفصلاً، وليسَ من ضرورةِ أحدِهما وجودُ الآخر، صارا كالعبادتين والحكمينِ المختلفينِ، يجوزُ نسخُ أحدِهِما منفكَّاً عن نسخِ الآخرِ، فيُنسخُ (1) أحدُهما، ولا يُنسخُ الآخرُ.
فإن قيل: الحكمُ مع التلاوةِ، كالتنبيهِ مع الخطاب، والدليل مع النطق، والعلَّةِ مع المعلولِ، ولا يجوزُ أنْ يُنسخ الَخطابُ، ويبقى دليلُه، ولا التنبيه، ويبقى حكمُهُ وأَوْلاه، ولا العلَّةُ، ويبقى حكمُها، كذلكَ الرسمُ مع حكمِهِ.
فيقال: معنى الدليلِ: هو ما استفدناه من معنى تعليق الحكمِ على أحدِ وصفي الشيء، والتنبيه: ما استفدناه من فحواهُ، ومن المحال أن يثبتَ ذلك عن [غير] نطقٍ، وأمَّا الحكمُ فبخلافِ (2) ذلك، لأنَّه إذا رفعت الآية من المصحف، لم تخرج عن أن تكون مما خوطب [به]، والحكم قد ثبت بقول الرسول - صلى الله عليه وسلم - وإن لم يكن قرآناً، وقد يردُ في الأخبارِ: "يقول الله: أنا عند ظن عبدي بي، فليظنَّ بي عبدي
__________
= تفتقر إلى الحكمِ الشرعي، ولا الحكم الشرعي يفتقرُ إلى التلاوةِ، بل يجوزُ أن ينفصلَ كلُّ واحد منهما عن الآخر، لأنَّ الحكمَ قد يثبتُ من غير تلاوةٍ، مثل أفعال النبي، فصارت التلاوة مع حكمها بمنزلةِ عبادتينِ، فلما جازَ نسخُ إحدى العبادتين دونَ الأخرى، كذلك نسخُ التلاوة دون الحكم، ونسخ الحكم دون التلاوة.
(1) في الأصل: "فنسخ".
(2) فىِ الأصل: "بخلاف".

(4/223)


خيراً" (1) "يقول الله: الكبرياءُ ردائي، والعظمةُ إزاري، فمن نازعني فيهما قصمته" (2)، وفي خبرٍ آخر: "يقولُ الله: أنا أغنى الأغنياء عن الشركِ" (3)، والسنن في ذلك كثيرة، لكنَّها ليست قرآناً، ولا يجعلُ لها حكم القرآن، وتتعلقُ عليها أحكامُ الأحاديثِ، كذلك آيةُ الرجمِ إذا نسخ رسمُها، فإنما ترفعُ عن المصحفِ، قال عمر: لولا أن يقول النَّاسُ زاد عمر فيَ كتاب الله، لكتبتُها في حاشيةِ المصحف (4). فدلَّ ذلك على أنَّ معنى نسخ الرسم: رفعه عن أن يكونَ قرآناً، وليس بخروجها عن كونها قرآنا تخرجُ عن كونها صالحةً للحكم، كالسنن كلِّها.
ولأنَّه - صلى الله عليه وسلم - رجم، فاستدمنا الحكمَ بفعله، وفعلهُ صالحٌ للإيجاب،
__________
(1) ورد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: "إنَّ الله جل وعلا يقول: أنا عند ظنِّ عبدىِ بي، إن ظنَّ بي خيراً فله، وإن ظنَّ شراً فله"، أخرجه البخاري (755)، ومسلم (2765) (19)، والترمذي (2388)، وأحمد 2/ 315، وابن حبان (639).
وورد من حديث واثلة بن الأسقع، عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلفظ: "أنا عند ظنِّ عبدي بي، فليظنَّ بي ما شاء"، أخرجه ابن المبارك في "الزهد" (909)، والطبراني في "الكبير" 22/ 210، وأحمد 3/ 490، وابن حبان (633) وإسناده صحيح.
(2) أخرجه من حديث أبي سعيد الخدري وأبي هريرة: مسلم (2620)، وأبو داود (4090)، وابن ماجه (4174)، والبغوي في "شرح السنة" (3592)، وابن حبان (328) مع اختلاف في اللفظ عند بعضهم.
(3) ورد من حديث أبي هريرة: أخرجه مسلم (2985)، والطيالسي (2559)، وأحمد 2/ 301، وابن ماجه (4202)، وابن حبان (395).
(4) تقدم تخريجه 1/ 246.

(4/224)


فقد بانَ بذلكَ أنَّ الحكمَ ما بقيَ بعدَ زوالِ مُوجِبِه، لكن بقيَ بدلالةٍ صالحةٍ لابتداءِ الحكمِ بها، ونحنُ لم نضمن في هذه المسألة أنَّ الحكم الذي ما ثبت إلا بالآيةِ بقيَ بعدَها قائماً بنفسه، وإنَّما ضمِنا بقاءَ الحكمِ بعدَ نسخِ الآيةِ، وأنَّه ليسَ من ضرورةِ نسخها نسخُه، لما بيَّنا من أنَّ الله سبحانه يجوز أن يجدِّد علة الحكم.

فصلٌ
وهل يجوزُ أن يَمسَّها المُحدِثُ، ويتلوها الجُنُبُ؟ يحتمل: أن لا يجوزَ وتبقى حرمتُها، كبيتِ المقدس؛ نسخَ كَونُه قبلةً، وحرمتُه باقيةٌ، ويحتملُ: أن لا تبقى حرمتُهاَ المذكورةُ، كما لم تبقَ حرمةُ كَتْبِها في المصحف.
وهي أشبهُ شبهاً بالحِجْر، فإنَّه كان من البيتِ، وهَمَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - أنْ يَرُدَّ قواعدَ البيتِ عليه (1)، كما همَّ أعمر، بكَتْبِ (2) الآيةِ في المصحفِ.
ولن يضرَّ الاحتمال الأول؛ أمّا بكون ما حرَّمه يقتضي الطهارة، فهي باقيةٌ في الحِجْرِ، وأمَّا [نَفي] الحرمة عن الطهارِة، فقد استويا فيه، فبناءُ (3)
__________
(1) ورد هذا من حديث عائشة، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لها: "يا عائشة لولا أن قومك حديث عهدٍ بجاهليةٍ، لهدمتُ البيتَ حتى أدخل فيه ما أخرجوا منه في الحجر، فإنهم عجزوا عن نفقته، وألصقته بالأرضِ، ووضعتُه على أساس إبراهيم"، أخرجه البخاري (1586)، ومسلم (1333)، والنسائي 5/ 216، وأحمد 6/ 239، وابن حبان (3816).
(2) في الأصل: "كتب".
(3) في الأصل: "بناء".

(4/225)


الحِجرِ لا يُستقبَلُ (1) هواؤُه، ولا يعتدُّ بالصلاةِ إليه، بخلافِ هواءِ (2) الكعبةِ في العلو، إذا صعد على أبي قبيس (3)، وكذلك لو هُدِمَت العمارةُ (4)، جازَ استقبالُ هوائِها بخلافِ الحِجْرِ، وخروجُ الحِجر عن خصيصةِ القبلةِ في الصلاةِ، كخصيصةِ القراءةِ في آيةِ (5) الرجم، لا تنعقدُ بها الصلاةُ على قولِ مَنْ جوَّزَ قراءة اَيةٍ غيرِ الفاتحةِ (6).

فصلٌ
في شبهةِ المخالِفِ: بأنَّ الحكمَ إنَّما يثبتُ بالآيةِ، فإدْا نسِختْ، لم يبقَ حُكمُها بعدَها، كما لم يَتخلفِ (7) المعلولُ بعدَ زوالِ العلةِ، والعلمُ بعدَ زوالِ عالمهِ، والعالمُ عالماً بعدَ زوالِ علمهِ.
فيقالُ: نحنُ قائلونَ بموجبِ هذهِ الدلالةِ، وأنَّ العلَّةَ المُوجبةَ لا يبقى الحكمُ بعدَها، ككونِ الَمتحرِّكِ متحركاً، وكونِ الحيِّ عالمَاً، لا يبقى بعدَ زوالِ الحركةِ والعلمِ.
فأمَّا العلة الشرعية التي هي دلالةٌ على الحكمِ، فقد (8) يبقى الحكمُ
__________
(1) في الأصل: "مستقبل".
(2) في الأصل: "هو".
(3) جبل مشهور شرقي البيت، ومشرف عليه. "معجم البلدان" 1/ 80.
(4) في الأصل: "للعمارة".
(5) ليست فى الأصل.
(6) وهو قول أبي حنيفة، ورواية عن الإمام أحمد انظر "المغني"2/ 146.
(7) في الأصل: "يختلف".
(8) في الأصل: "قد".

(4/226)


بعدَ زوالِها؛ لأنَّ المدلولَ ليسَ من شرطهِ بقاءُ دليلِه (1)، وقدْ يخْلُفُ العلةَ الأولى غيرُها، كما يخلفُ الدلالةَ غيرُها.
ويتحقَّقُ من هذهِ الدلالةِ: أنَّهم لا يخالفونَ في المعنى؛ لأنَّهم إنْ قالوا: لا يبقى الحكمُ الذي لا طريقَ لثبوتِهِ بعدَ (2) نسخِها، فصحيحٌ، وإنْ قالوا: إنَّ الرسمَ إذا رُفعَ عن المصحفِ، وقيلَ لنا: لا تضعُوها في المصحفِ، وكونوا على حكمِها، أو قامتْ دلالةٌ تصلحُ لإثباتِ الحكمِ بعدَ رفع رسمِها، لم يثبت الحكمُ، فهذا بعيدٌ من القولِ؛ لأنَّ لله سبحانَهُ إثباتَ الحكمِ بغيرِها من الأدلَّةِ، إذ ليسَ يختصُّ إثباتُ أحكامِ الشرعِ بالقرآنِ.
ولأنَّ الله تعالى قالَ في النبي - صلى الله عليه وسلم -: {أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ} [آل عمران: 144]، فإماتة النبي محوٌ لرسمه، ولا تتعطل الأحكام بموته، كدْلك [مَحْوُ] رسمِ الآيةِ من المصحفِ.
ويصلحُ أنْ يجعلَ من الجوابِ دلالةً في المسألةِ (3).

فصل
فيما ينسخُ الحكمُ إليه (4)
فاعلم أن الحكم قد ينسخ إلى بدل، كنسخ الحول في حقِّ المعتدة عن وفاة زوجها إلى أربعة أشهر وعشرٍ، وهذا نسخ إلى بدلٍ
__________
(1) في الأصل: "مدلوله".
(2) في الأصل: "إلا بعد".
(3) يعني: أن الأجوبة المتقدمة في الرد على القائلين بعدم الجواز، هي نفسها أدلةٌ للقائلين بالجواز. انظر "شرح الكوكب المنير" 3/ 558.
(4) انظر "العدة" 3/ 783، و"المسودة" (198)، و"شرح مختصر الروضة" =

(4/227)


هو أيسر منه وأخف، لكونه نسخَ واجبٍ إلى واجب.
ومثله: نسخُ القبلةِ إلى الكعبة، نسخ واجب إلى واجب أيضاً، لكن الثاني كالأوَّل؛ ليس فيه تخفيفٌ، ولا تخييرٌ، ولا تقليلٌ.
ومن ذلك أيضاً: نَسخُ الصوم المخيَّرِ بين إيقاعِهِ أو الفديةِ في حقِّ الصحيح القادر على الصوم، نسِخَ إلى صوم منحتم لا تخييرَ فيهِ، فهذا نسَخ واجب إلى واجب، لكن الأولُ موسَّع والثاني مضيَّقٌ، وبقيَ عندَنا في حقِّ الحاملِ والمُرضع إيجابُ الفديةِ لا على وجهِ التخييرِ، بَلْ إنْ خافتْ على جنينِها أو ولدِها حالَ الرضاعِ، فلا يحلُّ لَها الصوم، وعليها الفديةُ، وإن لم تخفْ، فلا يحلُّ لها الإفطار.
ولنا نسخُ واجب إلى مباحٍ، فالصدقة المقدَّمة على مناجاةِ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (1)، نُسِخَتْ إلى جوازِ فعلها وجوازِ تركِها (2).
ولنا نسخ واجب إلى ندب وواجب، كالمصابرة في الحرب، الواحد منا للعشرة من المشركين، ونسخ إلى وجوب مصابرة اثنين، وندب إلى ما زادَ على الاثنين (3).
__________
= 2/ 296، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 545، و"البرهان" 2/ 1313، و"المستصفى" 1/ 119.
(1) يريد بذلك قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ ...} [المجادلة: 12].
(2) يشير إلى قوله سبحانه: {أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [المجادلة:12 - 13].
(3) جاء ذلك في قوله تعالى: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66].

(4/228)


ولنا نَسْخٌ مِنْ حَظْرٍ إلى إباحة، وهو نسخه تحريم الجماعِ والأكلِ بعد النومِ، نسخه (1) بقوله: {أُ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ} [البقرة: 187]، إلى قوله: {فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ} إلى آخر الآية.
ومثلُ: حظرِه زيارةَ القبور، ثم قال: "فالآن زورُوها، ولا تقولوا هُجْراً" (2).

فصل
ويجوزُ نسخُ الحكمِ إلى مثلِه، وأخفَّ منهُ، وأثقل، وبهِ قالت الجماعةُ (3)، خلافاً لبعض أهلِ الظاهر، حكاه الخَرَزي في مسائله، وأنهم منعُوا نسخَ الأخفِّ إلى الأثقلِ، وذهبَ إليه ابن داود (4).
ولأصحابِ الشافعي وجهان كالمذهبينِ (5)، ووافقنا الأكثرون منهم.
__________
(1) في الأصل: "ونسخه".
(2) تقدم تخريجه 1/ 252 - 253.
(3) صرَّح بذلك القاضي في "العدة" 3/ 785، والسرخسي في "الأصول" 2/ 62، والغزالي في "المستصفى" 1/ 120، والقرافي في "شرح تنقيح الفصول" (308). وانظر: "شرح مختصر الروضة" 2/ 302، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 550، و"إرشاد الفحول" (188).
(4) موضع قوله: "وذهب إليه ابن داود" في الأصل، بعد قوله:
"كالمذهبين"، ورأينا إثباته هنا، لأنه أوفق لمقتضى السياق، وأبعد عن الخلط والإبهام، وقد رد قولَ ابن داود هذا، وفنَّدَه ابنُ حزم في "الإحكام" 4/ 466.
(5) والراجح المعتمد عند أكثر الشافعية، كما سيشير المصنف: جواز نسخِ الأخف بالأثقل، وهم بذلك يوافقون ما ذهب إليه جمهور الأصوليين. نصَّ عليه الشيرازي في "التبصرة" (258)، والغزالي في "المستصفى" 1/ 120،=

(4/229)


وذهبَ قومٌ: إلى المنع من ذلكَ عقلاً، وأجازُوه سمعاً، غيرَ أنَّهم زعمُوا أنَّه لم يرِد.
وقال قومٌ: يجوزُ عقلاً، لكن السمع وَرَدَ بالمنعِ منه.

فصلٌ
في أدلتِنا
فمن ذلكَ: أنَّ الله سبحانه أوجبَ الصومَ في ابتداءِ الإسلامِ على الوجهِ الأسهلِ، وهو التخييرُ بينَ التعبدِ بهِ، وبينَ الفديةِ في المالِ، وَحَتَّمَه بصومِ رمضان، فقال: {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة: 185]، فهذا نسخُ الأسهل بالأثقلِ.
وكذلك كان الحدُّ على الزنى، الحبسَ في البيوتِ، والتعنيفَ، والأذى بالتَّهْجين (1)، ونسخ ذلك بالضربِ بالسياطِ، والتغريب عن الوطنِ في حقَ الأبكار، والرجم بالحجارة في حق الثيبِ، وهذْا نسخٌ للأسهلِ إلى الأكبرِ والأثقل.
وكذلكَ كان الصفحُ والِإغْضاءُ والعفوُ، ثمَّ نُسِخَ ذلك بقتلِ المشركينَ كافةً وقتالِهم، وهو أصعبُ وأشدُّ.
وأمَّا من جهةِ الاستنباط: فإنَّ النسخَ قد يكونُ لأجلِ الأصلح، وكم من أصلح قد يكونُ بتكليف الأثقلِ والأشقِّ، وقد يكونُ بالمشيئة المطلقةِ، وكم يقعُ بها الأثقل، كما يقعُ عنها الأسهلُ.
__________
= والسبكي في "الإبهاج" 2/ 154، وفنَّدوا قول المخالفين.
(1) أي: التعيير والتقبيح في الكلام. "الصحاح": (هجن).

(4/230)


ومن ذلك: أنَّهُ إذا جازَ أنْ يزيدَ في التكليفِ، فيَضُمَّ صوماً إلى صلاة، وحجاً إلى صومٍ، ويبتدىءَ بتكليفِ عبادةٍ بعدَ أنْ لم تكنْ، ومعلومٌ أنَّ الإسقاطَ رأساً، وعدمَ الإيجاب، كانَ بالإضافةِ إلى التكليفِ المبتدأ أسهلَ، والواحدةُ من العباَداتِ أسهلُ من الثنتين والثلاثةِ (1)، وقد جازَ ذلك، فالرفعُ للأسهلِ، وإيجابُ الأصعبِ، لا يزيدُ على إيجابٍ، بعد عدمِ إيجابٍ، وتزايدِ عباداتٍ على ما كان قبل الزيادةِ من العبادَةِ الواحدةِ. وهذهَ طريقةٌ لا انفصالَ عنها.
ومن ذلك: أنَّ الأثقلَ أكثر ثواباً، وكما يجوزُ النَّسخ إلى الأسهل لطفاً بهم في دار الدنيا، وتسهيلاً عليهم، يجوزُ أن ينسخَ إلى الأثقل، ليضاعفَ لهم ثوابَ الآخرةِ، والأغلبُ في التكليفِ (2) مصالحُهم العائدةُ لدار (3) الآخرة وثوابِها، ولهذا يبدأ بتكليفِ الأسهلِ، ويبدأ بالصعبِ.
ومن ذلك: أن الله سبحانه يغيِّر من حالِ المكلَّفِ؛ صحةً إلى مرض، وغنىً إلى فقر، وسعةً إلى ضيق، كما أنه يفْعلُ بعكسِ ذلك، فيوسِّعُ (4) بعد الضيق، ويعافي بعدَ المرض، وإذا جازَ ذلك في بلاويه وامتحاناته، كذلك في باب تعبداته، والكلُّ امتحانٌ يتضمن التكليفَ بالطاعةِ له والتسليمِ، فلا فرقَ بينهما، ولهذا ألزمنا المنكرينَ للنسخِ الجاعلينَ له بداءً تغييرَ أحوال الشخص، من صحةٍ إلى سقم، وشبيبة إلى هرم، ووجودٍ إلى عدم.
__________
(1) في الأصل: "الثانية والثالثة".
(2) في الأصل: "التكلف".
(3) في الأصل: "بدار".
(4) في الأصل: "فوسع".

(4/231)