الواضح في أصول الفقه

فصول (1)
في شبهاتِ المخالفِ
فصل
فيما تعلَّقوا به من السمع
قولُه تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا} [النساء: 28]، فكأنه يقول: إنَّما أردتُ بكم التخفيفَ، لعلمي بأنَّي خلقتكم ضعفاء، وهذا خبر لا يجوزُ أن يقعَ بخلاف مخبَرهِ، وفي نسخِ الأخفِّ إلى الأثقل ما يفضي إلى ذلك، وما يفضي إلى غيرِ الجائز على الله، باطلٌ في نفسهِ.
وقوله تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة: 185]، ورفعُ الأسهلِ، وتكليفُ الأثقلِ، غايةُ العسرِ الذي نفاه الله عن نفسهِ، فكلُّ مذهبِ أدَّى إلى مخالفةِ خبرِ البارئِ باطلٌ مردودٌ.
وقوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ} [الأعراف: 157]، وقوله: {رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا} [البقرة: 286]، والإصر: الثقل، فأخبر أنه يضعُ الإِصرَ الذي حمله الأمُم قبلهم، فكيفَ (2) يزيدُ ما خفف (3) به عنهم في شريعتِهم بما يثقل بِه عليهم؟ وقوله تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106]، ومعلوم أنَّه لم يرِد {بخيرِ منها} فضيلةَ؛ لأنَّ القرآنَ لا
__________
(1) في الأصل: "فصل".
(2) في الأصل: "وكيف".
(3) في الأصل: "خففت".

(4/232)


يتفاضلُ في نفسهِ، لم يبقَ إلا أنَّهُ أرادَ بالخيرِ: الأخفَّ والأسهلَ.
وقوله في المصابرةِ بعدَ إيجابِها على الواحدِ بعشرةٍ: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} [الأنفال: 66]، وهذا تصريخ بالنسخِ للأَصعب بالأَخف الأَسْهلِ.

فصلٌ
في جمعِ الأجوبةِ عن هذهِ الآيات الكريمة (1)
أمَّا قولُه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، فهوَ خبرٌ من اللهِ سبحانَه لا نُحيلُ (2) فيه تَثقِيلَه بابتدائِه بالتكليفِ الشاقُّ، فلا يؤثرُ فيه نسخُه الأسهلَ بالشَّاقِّ الأثقلِ، ولا يعطي أيضاً إخبارُه بإرادتهِ التخفيفَ عنا الفورَ، بل يجوزُ أن يكونَ المرادُ به تخفيفاً عنا أثقالَ الآخرةِ؛ بثوابِ أعمالِنا الثقيلةِ على طباعِنا في الدُّنيا، أو تخفيفاً بالإضافةِ إلى المشاق التي كلَّفها مَن قَبلَنا، وما قبلَ هذا من الآيةِ يشهدُ لما ذكرنا؛ من قوله سبحانه: {وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا} [النساء: 27]، والميلُ العظيمُ إلى مخالفة الشرعِ تخفيف في الحالِ لأثقالِ التكليفِ، لكنَّه لما آلَ إلى العذابِ الدائم، وفوات (3) النَّعيم، قابله بقولِه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، باثقالِ التكليفِ المفضيةِ بكم إلى المنافعِ الدائمةِ، والعَربُ تُسمَّي الشيءَ بعاقبتِهِ، قال الله تعالى: {فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ} [البقرة: 175]، {فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا} [القصص: 8]، مع إخبارِهِ عنهم، بقولِه (4): {لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا} [القصص: 9]، وتقول:
__________
(1) انظر هذه الأجوبة في "الإحكام" للآمدي 3/ 139. وما بعدها.
(2) في الأصل: "يحيك".
(3) في الأصل: "وثواب".
(4) في الأصل: "قوله"

(4/233)


لدوا للموتِ وابنو للخرابِ (1)
[وقال تعالى]: {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا} [النساء: 10]، فسَمَّتِ (2) الشيءَ بعاقبتِهِ، مضرةً كانت، أو منفعةً.
والذي يوضح [ذلك]: أن هذهِ الآية لا تمنعُ أثقالَ تكاليفهِ المبتدأةِ، وبلاويه في الأموال والأبدانِ، والدواهي الثقيلةَ على الطباعِ، وغيرَ ذلك؛ مما [لا] يسوغُ لمسلم أن يقول: إنه يُخرِجُ قولَه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، عن الصدق، بل الواجبُ تأويلُ ذلك على ما يوجبُ تخفيفاً لا بد أن يقع، إما الآنَ أو في الثاني، فليس تختص مُناقضَةُ الخبر بنفي التخفيفِ في النسخِ خاصةَ، بل بكلً تثقيلِ، فكل ما تَدفعُ به عن الآيةِ المناقضة، مع تجويزكَ التثقيلَ بتكليفِ مبتدأِ، هو الذي يَدفَعُ المناقضةَ عنها بالنسخِ للأسهلِ بالأثقلِ.
والذي يُجْمعُ به بين ثِقَلِ التكليفِ المبتدأ، وبين خَبرِه بإرادةِ التخفيفِ عنا: هو أن كل مكروهِ عادَ إلى غايةٍ محبوبةِ، حسُنَ أن يُسمى المريدُ لذلكَ المكروهِ مريداَ للمحبوبِ، ولهذا يَحسُنُ أن يقولَ الأبُ الحَدِبُ (3) والطبيبُ الناصحُ، وقد جعلَ إيلامَ الولدِ بالأدبِ، والمنعِ من كلِّ شهوةٍ تُفضي إلى مضرةٍ، وعجَّلَ العلاجَ بالأدويةِ المُرَّةِ، وقيح العروقِ بالحديدِ، وإراقة الدماء، والمنع من الشهواتِ من الأشربةِ والأغذيةِ: إنما أريدُ، أو أَرَدْتُ بكَ التخفيفَ عنكَ والنفعَ لكَ، وتكميلَ اللذةِ، ويُشِيرُ بذلك القول: إلى صلاحِ العاقبةِ، مع كونِه مريداً لعاجلِ المضرة والبغضةِ والألم، فبانَ أنَّه
__________
(1) صدر بيت من الشعر، وعجزه "فكلُّكم يصير إلى تَبابِ" وفي رواية: "إلى ذهاب". وهو منسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه. "همع الهوامع" 2/ 32، "أوضح المسالك": 356.
(2) في الأصل: "فسمى".
(3) هو من قولهم: حَدِبَ فلانٌ على فلانِ، يَحْدَبُ حَدَباً، فهو حَدِثٌ.

(4/234)


ليسَ بينَ الخبر في الآية، وبينَ نسخِ الأسهلِ بالأثقلِ، اختلافٌ، ولا تناقضْ.
على أنه قد يصح نسخُ الخبرِ على هذا الوجه، وذلكَ أنه لو قالَ في حالِ: إنَّ الصلاةَ واجبةٌ عليكم، ثم قالَ: بعدَ وقتِ: الصلاةُ ليست واجبةَ، أمكنَ النسخُ بالثاني للأَولِ، ولا يكونُ الخبرُ كذباَ، لأنه أخبرَ في الأولِ؛ بأنها واجبةْ؛ لإيجابه لها، وأخبرَ في الوقتِ الثاني؛ بانها ليست واجبةَ؛ لانه أسقطَها، ويصيرُ الوقتانِ في اختلافِهما بالصلاةِ (1)، كالعبادتينِ المتغايرتينِ، كذلكَ قولُه: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28] , يجوزُ أن يكونَ المرادُ به إخباراً عن حالِ كانَ مريداً للتخفيفِ فيها، إذ كان الأصلحُ التخفيفَ، ويكونُ في حالةِ أخرى يريد الأثقلَ من التكليفِ؛ لكونه الأصلحَ، واللهُ أعلم.
وأما قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ} [البقرة: 185]، فإنه الخبرُ الراجعُ إلى تجويزِ تاخيرِ الصومِ لأجلِ السفرِ والمرضِ، وهو اليسرُ المشارُ إليه، والعُسرُ المنهى عنه تكليفُ الصومِ فيهما، ولا يجوزُ أن يكونَ المرادُ به اليسرَ العاجلَ من طريقِ العمومِ، ولا نفيَ العسرِ العاجلِ على العمومِ، لأن التكاليفَ مختلفةٌ؛ بينَ شاق ثقيلِ، وسهل خفيف، وأحوالُ المُكلفِ في الدنيا مُتردِّدةٌ بين يسرٍ وعسرٍ، فيما يعودُ إلى الرزقِ وأحوالِ الحىَّ؛ بينَ صحةِ ومرضِ، وغنىَ وفقرِ، والتكليفُ المبتدأ الذي يجيزون نسخَه إلى الأسهل، قد كان قبل نسخه مراداً لله بالإجماعِ، فعُلِمَ أنه ليس إرادتُه لليسرِ عامةَ جميعَ أحوالِ المكلفِ، ولا نفيُ إرادتِه للعسرِ عامةَ جميعَ أحوالِ المكلف، فكل دليلِ خُص به ذلك في التكليف المبتدأ، والمنسوخِ بالأخفِّ، هو الذي تخص به إرادتُه لنسخِ الأسهلِ، الأخفِّ إلى الأصعب الأثقل.
__________
(1) في الأصل: "الصلاة".

(4/235)


على أنّا إن حملناهُ على عمومِه، على الوجه الذي ذكرناه في قوله: {يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ} [النساء: 28]، وهو أنه اْرادَ تخفيفاً في العاقبة، وتسهيلاً يَعقُبُ أثقالَ التكاليفِ، كانَ حملاً صحيحاً؛ بدلائلنا التي ذكرناها.
وأمّا قوله: {وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ} [الأعراف: 157]، فإنَّه سبحانه قد خَفَّفَ من وجهِ كان قد صعبه على الأممِ قبلنا، وسهلَ ما كانَ شديداً، ولأنَّه خبرٌ، قد كان ما خَبَّرَ، وهو وضعُ الإصر عنهم، والثقلِ الذي كان على من قبلهم من الأمم.
وأما قوله: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا} [البقرة: 106]، فليس (1) فيهِ تصريحٌ بأثقلَ (2) وأَخَف، لكن الخبرُ قد يكونُ بمعنى: أكثرَ ثواباً، ويحتملُ: أصلحَ، ولهذا يَحسنُ أن يقالَ: الفرضُ خيرٌ لكَ من النفلِ، وإن كان النفلُ أسهلَ، والفرضُ أشق، قال النبي - صلى الله عليه وسلم - لعائشة رضي الله عنها: "ثوابُكِ على قدرِ نَصَبِكِ" (3)، وقال الله سبحانه: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ} إلى قوله: {إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ} [التوبة: 120]، فالخيرُ والفضلُ في أمرِ الدينِ يرجعُ إلى الأكثرِ ثواباً، وفي أمرِ الدنيا يرجعُ إلى الأصلحِ والأنفعِ، وليس يختص الأسهلَ، ولهذا يَحسُنُ بالطبيبِ أن يقولَ للمريضِ: الجوعُ والعطشُ أصلحُ لك، وخير لكَ من الشِّبَعِ والرَّي.
وأمّا قوله: {الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ} [الأنفال: 66]، فنحنُ قائلونَ بها، وأنه ينسخُ إلى الأسهلِ والأخفِّ، وليسَ فيها منع من النسخِ إلى الأصعبِ والأشقِّ.
__________
(1) في الأصل: "ليس".
(2) في الأصل:"ما ثقل".
(3) تقدم تخريجه 1/ 254.

(4/236)


فصل
فيما تعلقوا به من الاستنباطِ وأدلةِ العقلِ
قالوا: النسخُ إنَّما يقصدُ به الأصلحُ والأنفعُ، والأقربُ إلى حصولِ الطاعةِ من خلقِه والاستجابةِ، وذلكَ إنَّما يحصلُ إذا نقلهم [من الأشَدِّ] إلى الأخفِّ، ومن الأصعبِ إلى الأسهلِ، وأما نقلُه لهم من الأسهلِ إلى الأثقلِ، فإنما يكونُ إضراراً، ثمَّ تنفيراً لهم عن الاستجابةِ، فيعودُ بضدِّ ما وُضعَ له النسخُ؛ لأنهم بالاستجابةِ يستضرونَ بالكُلْفةِ الصعبةِ، وبالمخالفةِ والنفورِ عن ذلك يستضرونَ بالمؤاخذةِ، فلم يكن للنسخِ على هذا الوصفِ وجه (1) في الحكمةِ، ولا مضاهاةٌ للوجه الشرعيَ، ولهذا قالَ تعالى: {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]، فإذا أَلانَ أخلاقَ النبيِّ؛ لئلا ينفروا عنه، وجبَ أن لا يُثْقِلَ التكليفَ بالنسخِ الأَسْهَلِ إلى الأصعبِ الأشقِّ، وأصلُ النسخِ إنما كانَ؛ لأنَّ المللَ يعتريهم، وأنَّ الأزمانَ تختلفُ في الأصلحِ، فلكلِّ وقتٍ حكمٌ وحالٌ غير الوقتِ الآخر.
فيقالُ: إنَّ المُراعى في النسخِ هو المُراعى في أصلِ التكليفِ، والتكليفُ في وضعهِ على الكُلْفةِ، ومراغمةِ النفس والهوى والشهوةِ، والتركُ هو الأسهلُ، والتخليةُ هي التي النفوسُ إَليها أميلُ، ثمَّ ابتداءُ التكليفِ كان بالإضافةِ إلى الإطلاقِ والتخليةِ أشقَّ وأصعبَ، فإذا جازَ أن ينقلَ من تخليةٍ وإطلاق إلى تقييدٍ، ومن بطالةٍ وراحة إلى عملٍ
__________
(1) في الأصل: "وجهاً".

(4/237)


وتعبٍ، مراعاةً لما يَؤُولُ إليه من نفعِ المجازاةِ، والمقابلةِ بالثوابِ، وهوَ النفعُ الدائمُ، والعيشُ السالمُ، فما المانعُ من نقلهِمِ من تخفيفٍ إلى تثقيلٍ؛ لتحصيلِ زيادةِ ثوابٍ، ونفعٍ آجلٍ، وإن كان تضمَّنَ ثقلاً عاجلاً؟!
على أن هذا باطلٌ بأفعالهِ سبحانه، بالنقلِ من الصحةِ إلى السُّقْمِ، والشبيبةِ إلى الهرمِ، والجدَةِ إلى العدمِ، والغنى إلى الفقرِ، وفقد الحواسِّ المستعانِ بها عَلى مصالح الدينِ والدنيا، ومَدِّ الأَعضاءِ والقوى التي هي أدواتُ مصالح الدِّينِ والدنيا، هذه كلُّها بلاوي، العافيةُ أحبُّ إلى المكلف منها، ومعَ ذلكَ فإنَّ الله ابتلاه بها، وما كان ذلك إلا لمصالحَ جَمَّةٍ، وتحصيلِ الأعواضِ الموفيةِ على الضررِ بها، وحبس النفس عن التَّشَرُدِ (1)، وتذكيراً بالنعمة، وردعا عن ارتكاب المعصيةِ، والمبتلى بها بعدَ الراحة والسلامةِ منها، هو كالمُبْتلَى (2) بالأثقلِ من التكاليفِ بعدَ الأسهلِ منها، ولا عذرَ للمخالفِ في ذلكَ، إلا ما يعلمُ في مطاوي تلك البلاوي من المصالح، كذلك الأثقلُ في بابِ التكاليفِ بعدَ الأَخفِّ، والأسْهَلِ (3).

فصلٌ
ويجوز نسخُ العبادةِ إلى غيرِ بدلٍ (4)، خلافاً لبعض الأصولين: لا
__________
(1) أي الشرود والبُعد عن الله عز وجل.
(2) في الأصل: "المبتلى".
(3) في الأصل: "الأفضل".
(4) هذا رأي جمهور الأصوليين، انظر "العدة" 3/ 783، و"المسودة" =

(4/238)


لايجوزُ إلا إلى بدلٍ.
لنا: أنَّه إنْ كانَ التكليفُ بحسبِ الأصلحِ: فقد يكون الأصلحُ في الإسقاطِ، كما يكونُ في التخفيفِ، وكما يكود [في] إسقاطِ البعضِ، وكما يكونُ في النقلِ إلى بدلٍ هو دونَ الأصلِ، وإن كانَ بحسبِ المشيئةِ: فقد يكونُ الله سبحانه مريداً لرفعِ العبادةِ رأساً، كما يكونُ مريداً لرفعِ البعضِ.
وأيضاً: فإنه حقٌّ للهِ، وكلُّ مستحقٍّ لحقٍّ كان له إسقاطهُ؛ كحقوقِ الآدميين، يملكُ إسقاطَ حقه عن غريمِه، وخدمةِ عبده إلى غيرِ شيءٍ، بل يبطلُه، ويعطله عن الاستخدامِ، وله أن يُسقطَ حقَّه من خدمةٍ إلى غيرها أو بعضها، وإسقاطُ دَينهِ إلى بعضِه، وإسقاطُ كله، والعفوُ عن الحَدِّ إلى ما دونه.

فصل
في الفرقِ بينَ النسخِ والبداءِ
فالبداءُ الذي لا يجوزُ على الله سبحانه، هو العلمُ بالشيء بعد أنْ لم يكن به عالماً، ومنه قول القائل: بدت لي القافلةُ، وبدا لي سورُ المدينةِ: إذا لاح بعد خفائهِ لبُعدٍ عنه، أو حائلٍ حال بينه وبينه من ظلمةٍ، أو جبلٍ، فهذا في حاسةِ النظر.
وفي العلم تقول: بدا لي ألاّ أكرمَ فلاناً؛ لِما بانَ من خَلَّةٍ فيه، أو خُلق أوجبَ لكَ إسقاطَ كرامته، وإنّما لم يجز هذا على الله سبحانه،
__________
= (198)، و"المستصفى" 1/ 119، و"البرهان" 2/ 1313، و"إرشاد الفحول"
(187)، و"شرح تنيقيح الفصول" (187) و"الإحكام" للآمدي 3/ 195.

(4/239)


لِما ثبتَ من وجوبِ كونهِ عالماً بكلّ معلوم، واستحال عليه تجددُ كونهِ عالماً بشيء لم يكن به عالماً.
وأمّا النسخُ: فإبدال الحكمِ بغيرهِ، أو رفعُه إلى غيرِ بدلٍ، أو رفعُه إلى ما هو أحبُّ منه أو مثلُه، أو أثقلُ، لا أنَّه تجددَ له علمٌ به، أو إرادةٌ له لم تكنْ، لكنْ علمَ وأرادَ بشريعةٍ لمدةٍ أخفاها عن المكلفين، بنطق لا تلوحُ منه المدةُ، ثم كشفَ عن علمه وإرادتِه رفعَ ذلكَ الحكمِ بعد مُضي المدةِ، التي كانت المصلحةُ أو المشيئةُ المطلقةُ موجبةً لها فيها، ثم إنه صارت حالُ المكلفِ تقتضي الرفعَ لذلكَ الحكمِ فيما بعدها، فحالُ المكلفِ تغيرت، وعِلمُ الله وإرادتُه لم تتغير.
على أن الأمرَ على مذهبنِا، قد ينفكُّ عن الإرادةِ، لأنَّه لا يقتضي الإرادةَ، وإذا ثبتَ ذلكَ، بطلَ تخليطُ اليهودِ وغيرهم النسخَ بالبداءِ.

فصل
فأمَّا الفرقُ بينَ التخصيص والنسخِ فيما يفترقانِ فيه، والجمعُ بينهما فيما يجتمعانِ فيه: فالتخصيصُ هو الدليلُ الكاشفُ عن أنَّ المرادَ بالصيغةِ المستغرقةِ للجنس لفظاً وظاهراً: بعضَ ذلكَ الجنسِ دونَ جميعِه معنىً وباطناً، وأنهَ لم يُرِد اللافظُ بها الاستغراقَ (1).
__________
(1) مقصود ابن عقيلٍ بهذه العبارة إظهارُ الفرقِ الأساسي بين التخصيصِ والنسخ، والمتمثل: في أن التخصيص بيانُ أن بعض أفراد العام التي شملها العام بلفظه وظاهره، غيرُ مشمولة بالحقيقة والحكم، ويكشفُ الدليل المخصِّص أن الشارع لا يريد من اللفظ العام عمومه الاستغراقي الكلي المستغرق لجميعِ =

(4/240)


ولا فرقَ بينَ أن تكونَ الدلالةُ قريبةً مضافةً أو دلالةً متأخرةً عن الصيغةِ، مثل قولهِ تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5]، فيقتضي ظاهرُها استغراقَهُم بالقتلِ، فإذا جاءتْ دلالةٌ، تقتضي عصمةَ أهلِ الكتابِ منهم، بإعطاءِ الجزيةِ، والتزامِ العهدِ، تبيّنا أنهُ لم يرد الاستغراقَ.
ولا يصحُّ هذا القبيلُ -أعني تخصيصَ العمومِ- في أمرٍ واحدٍ، بمأمورٍ واحدٍ، والنسخُ يكونُ نسخاً لحكم الأمرِ الوحدِ، بمأمورٍ واحدٍ بفعلٍ واحدٍ، ينسخُ بعد فرضهِ، ولا يصحُ دخولُ التخصيصِ فيه.
ومن الفرقِ بينهما: أن التخصيصَ يُخرِجُ من الخطابِ ما لم يُرَدْ به، والنسخُ يرفعُ ما أُريدَ إثباتُ حكمه.
ولا يقعُ النسخُ أبداً إلا متراخياً عن المنسوخ، كما بيناه من قبل، والتخصيصُ قد يصحُّ اتصالُه بالمخصوص، ويصحُّ تراخيه عنه.
__________
= أفراده، وإنما مرادُه عمومَه الأغلبي. فإذا ورد الدليلُ المخصِّص، أخرجَ بعضَ الأفراد من التناول اللفظي العام، وبيّنَ أن الحكمَ العام لم يتناول ابتداءً تلك الأفراد المخصوصة.
أما الدليل الناسخ فإنّه إذا ورد، بيّنَ أنَّ الأفراد التي نُسِخَ حكمها كان قد ثبت لها حكمٌ قديم، وقد تغير بحكمٍ آخر، فإخراجُ الأفرادِ بالنّسخ ليس من عمومِ اللفظِ فحسب، بل من عموم الحكم أيضاً.
وعلى ذلك فإنَّ الدليل المخصِّص إذا ورد كشفَ لنا أن الشارع لم يقصد أن يثبتَ حكم العام لجميع أفراده، أما الدّليل الناسخ فإنه يكشف أن الشارع أراد ثبوت الحكم لجميعِ الأَفراد حقيقةً ومعنى، ثم أراد أن ينسخَ ذلك الحكمَ الأوَّلَ بحكمٍ ثانٍ متأخر.

(4/241)


فإن قيل: إذا اتصلَ بالمخصوص استحال الاستثناءُ، وخرج عن كونه تخصيصاً (1).
ومن الفرق بينهما: أنَّ النسخَ لا يكونُ أبداً إلا بخطابٍ وقولٍ من جهة الشارع، والتخصيص قد يكون بالخطابِ وبدلالة العقل.
ومن الفرقِ بينهما: أن التخصيصَ لا ينفي دلالةَ اللفظِ المخصوصِ على ما بقيَ تحته، إن كان حقيقةً أو مجازاً -على اختلافِ القائلين بالعمومِ في ذلك-، وأما النسخُ فإنه يبطلُ دلالةَ المنسوخِ، حتى لا يمكن مع ورودِ الناسخِ أن يكون دليلاً على ما يدلُّ عليه من ثبوتِ الحكمِ في تلكَ الأزمانِ المستقبَلةِ.
وهذا الفرق موجبٌ أنْ يكونَ الناسخُ رافعاً لما ثبتَ من حكمِ اللفظِ المتقدمِ، والتخصيصُ مبيِّنٌ أنّ الحكمَ ما ثبت في المخصوصِ.
ومما يفترقانِ أيضاً فيه: أنَّ تخصيص العامّ يكونُ بخبرِ الواحدِ والقياسِ، والاستدلالُ غيرُ القياس من طرقِ الاجتهادِ، وإن كانَ تخصيصاً لأصلٍ يوجبُ العلمَ ويقطعُ العُذرَ، والنسخُ لأصلٍ هذا سبيله، لا يكونُ بقياسٍ وخبرِ واحدٍ، بل لا يصحُّ إلا بنَصٍّ.
__________
(1) أورد ابن عقيل هذه الشبهة، ولم يفندها، ويمكن أن يجاب عليها بالقول: إنَّ حقيقة التخصيص أنه قصر اللفظ على بعض مسمياته، وبيان أن بعض مدلول اللفظ العام غير مراد ولا مقصود بالحكم، ومثل هذا البيان الذي يعبر عنه الدليل المخصِّص يمكن أن يقوم به الدليلُ الخاصُّ المتصلُ والدليل الخاص المنفصل على حدٍّ سواء.
ذلك أن العبرة بإمكانية قيام الدليل بالبيان، وإظهاره حقيقة الأفراد الذين توجهت إرادة الشارع إلى تناولهم بالحكم العام، بقطع النظر عن كون الدليل خاصاً متصلاً باللفظ العام، أو خاصاً منفصلاً عن اللفظ العام.

(4/242)


والذي يتفقانِ فيه: أن النسخَ تَبَيَّنَ بهِ مقدارُ زمانِ الحكمِ، وإخراجُه عمّا غلبَ على الظنِّ من تأبيدهِ، والتخصيصُ يبيّنُ مقدارَ الأعيانِ والأحوالِ والصفاتِ وما ينتظمهُ، بلفظِ الشمولِ، فإنَّ المرادَ به بعضُ تلك الأعيان والأحوال.