الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
فيما يجوز نسخُه من الأخبارِ وما لا يجوزُ
اختلفَ الناسُ في ذلك (1).
__________
(1) كان لِزاماً على ابن عقيل أن يحدِّد موطن الخلاف في هذه المسألة، وأن يميِّزَ بين الأخبارِ التي قد يردُ عليها النسخُ، والأخبارِ التي لا يردُ عليها نسخ، ذلك أن كثيراً من الأصوليين ميّزوا بين نوعينِ من الأخبار:
الأول: ما كان مدلولُه لا يتغيرُ، كصفاتِ الله سبحانه وتعالى وإخبارِه بما كان وما سيكون، وإخباره عن الأنبياء من قبل عليهم السلام، والإخبار عن الساعة وأماراتها، فهذه الأخبار لا يجوز نسخها بإجماع العلماء، وفقَ ما قرّر أبو إسحاق المروزي وابن برهان، وابن مفلح، ولا خلافَ في استحالةِ نسخِ هذه الأخبار؛ لأنَّ نسخَها يفضي إلى الكذب، وهذا لا يجوزُ بل يستحيلُ على الله تعالى، وما أدّى إلى الباطل فهو باطل.
الثاني: أن يكونَ مدلولُ الخبرِ ممّا يصحُ أن يتغير، ويقع على غير الوجه المخبَرِ عنه، كالإخبار عن زيد بأنه مؤمن أوكافر، أو عبدٌ أو فاسق، فهذا الذي حصل الخلافُ في جوازِ نسخِه، أو امتناعه، فأكثر الأصوليين على منع نسخ هذه الأخبارِ كونها تفضي إلى الكذب. وذهب البعضُ إلى جواز نسخِها، ودليلهم في ذلك: أنّه إذا أخبرَ عن زيدٍ أنّه مؤمنٌ جازَ أن يقول بعد ذلك: هو كافرٌ. وكذلك يجوز أن يقول: الصلاةُ على المكلّفِ في المستقبلِ، ثم يقولُ =

(4/243)


فقال أكثرُ الأصوليينَ والفقهاءُ: محال دخولُ النسخِ على الخبرِ، ولا فَرْقَ بين خبرِ الله تعالى، وخبرِ الآدميِّ.
وقال قومٌ: يجوزُ دخولُ النّسخِ على الخبرِ، كما يجوزُ على الأمرِ والنهي والإباحةِ.
واختارَ أبو بكرٍ بن الباقلاّني المنعَ من دخولِ النّسخِ على خبرِ اللهِ عزَّ وجلَّ، وما يُخبرُ به الرسولُ عنه أيضاً، قال: فأمَّا ما أمَرَنا بالإخبارِ عنه في حال، فيجوزُ أن ينسخَه بأن ينهانا عن الخبرِ عنه. وهذا عندي من قولِ أبي بكر يعطي أنَّ ألنّسخَ إجازة على الحكمِ، لأنَّه إذا أمرَنا بالخبرِ عن شيءٍ، فذاك أمرٌ، والأمرُ بالإخبارِ حكمٌ من الله، فكأنَّه عادَ يقولُ: الخبرُ لا يجوزُ نسخُهُ، والحكمُ يجوزُ نسخه، فلا يكونُ هذا تقسيماً للخبر، لأنَّ الأمرَ بالخبرِ ليسَ بخبير، وللآمرِ أن يَأمرَ بالخبرِ، وله أن ينهى عن الإخبارِ بذلكَ الخبرِ، ولا يكون ذلكَ نسخاً للخبرِ، لكن للأمرِ (1) به، فيصيرُ النهيُ عنه ضرباً (2) من
__________
= بعد مدةٍ، ليسَ على المكلفِ فعلُ الصلاةِ، لأن نسخَ ذلكَ لا يفضي إلى الكذب في الخبرِ، لأنّه يجوزُ أن تتغيرَ صفتهُ من حالٍ إلى حال، كما يجوزُ أن يتغيرَ حكمُ المكلفِ عن العبادةِ من زمانٍ إلى زمان.
وممّن ذهبَ إلى جواز نسخ هذا النوع من الأخبار، القاضي أبو يعلى كما في "العدة" 3/ 827 - 829، والشيخ تقي الدين ابن تيمية كما في "المسودة" (222).
وارجع في هذا الفصل إلى: "أُصول السرخسي" 59/ 2، و"الإحكام" للآمدي 3/ 205، و"شرح تنقيح الفصول" (309)، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 543.
(1) فىِ الأصل: "الأمر".
(2) في الأصل: "صرفاً"

(4/244)


الكتمِ لذلكَ المخبَرِ به والطيِّ له، بعدَ الأمرِ بنشرِه، فإخبارُنا عن الأشياءِ بمثابةِ سائرِ أفعالِنا، والخبرُ من الله سبحانه يجبُ حصولُه ووجودُه، فلا يجوزُ رفعُه، لأنَّ خبرَه كلامُه، وكلامُهُ صفةٌ، فعلى هذا الأصلِ لا يجوزُ رفعُ ما أخبرَ به، وما عادَ إلينا بالنّطقِ بالخبرِ، يدخلُ عليه الأمرُ والنهيُ لأنّه فعلٌ لنا، ويحسُنُ تكليفُنا تارةً بأن يومِىءَ له، وتارةً بأن ينهى عنه.
وعندي: أنَّه يجوزُ أن يقعَ الخبرُ من اللهِ سبحانه مطلقاً، ويكشفُ بالبيانِ عن (1) أنَّهُ أرادَ به خبراً على صفةٍ وشرطٍ.
وعلى أصلِنا أنَّه في بابِ الوعيدِ يجوزُ عليه سبحانه العفوُ عمَّا توعَّد (2) عليه، فهذا نوعٌ من الإخبارِ، يجوزُ أنْ يقعَ على ظاهرٍ ويكونُ مشروطاً، مثل قولِه تعالى: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118 - 118] فلمَّا عريَ وبدت له سَوْأتُهُ، علمنا أنَّهُ أرادَ بقوله: {إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118)} [طه: 118 - 118]، [أنه] مشروط بقوله: {وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ} [البقرة: 35] فلكَ ذلكَ معَ تركِ قُربانِها، ومثلُ قوله: {بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} [المائدة: 67]، ثم أُدميَ وجهُه من قِبلِ الناس، فتبيَّنّا (3) أنه أرادَ بالعصمةِ: منعَ القتلِ أو الغلبةِ منهم الداحضةِ لماَ جئتَ به، القاطعةِ لما شَرعتَ فيه من التوحيد ودحضِ كلمةِ الشركِ، دونَ العصمةِ من الأذيَّهِ رأساً.
__________
(1) في الأصل: "البيان غير".
(2) في الأصل: "تواعد".
(3) في الأصل: "تبينا".

(4/245)


ولمَّا جاء الوعيدُ، بقوله في آية المواريث: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ ... وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ} (1) [النساء: 13 - 14]، أراد به خالدينَ (2) مدةَ عذابهم، خالدينَ ما لم يعفُ عن الدوامِ بشفاعةِ الشافعِ لهم. فهذه الأخبارُ من الله، يجوزُ أن تقعَ على هذا الوجهِ.
فأمَّا قولُه: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ} [الفتح: 27]، {وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ} [الروم: 3]، {سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ} [المسد: 3]، {وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ} [الأنفال: 7] فهذا في الإثباتِ لا بُدَّ من كونِه.
وفي النفي: مثل قولِهِ: {لَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ} [الأعراف: 40]، {لَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [البقرة: 174]، فهذا خبر لا يجوزُ رفعُهُ ولا نسخُهُ؛ لأنَّهُ يُفضي إلى وقوعِ الخبرِ بخلافِ مخبَرهِ، وذلكَ غيرُ جائزٍ على الله سبحانه.
وممّا يجوزُ عليه سبحانَهُ، ولا يمتنعُ: أن يأمرَ نبيَّه - صلى الله عليه وسلم - بأنْ يقولَ: "صلوا، والصلاةُ واجبةٌ عليكم"، ويقول بعدَ وقتٍ: "الصلاةُ محرمة عليكم" فهذا يجوزُ أن يكونَ بحكمِ الوقتِ الذي أمرَ بها فيهِ، فكأنَّه يقول: "صلوا، فالصلاةُ في هذا الوقت واجبةٌ عليكم"، ويقول في وقتٍ آخر: " [لا] تصلوا (3)، فالصلاةُ محظورةٌ عليكم"، ويكونُ وقتاً من أوقاتِ النهيِ التي تقعُ الصلاةُ فيهِ مفسدةً.
__________
(1) وقع في الأصل خطأ في نص الآية.
(2) في الأصل: "خالدون".
(3) في الأصل: "صلوا" بحذف حرف "لا".

(4/246)


وفي الجملةِ، كلُّ خبرٍ عن مستقبَلٍ يجوزُ أن يقعَ فيه نوعُ احتمالٍ، ويقعَ بحسب الاحتمالِ الخلافُ، فأمَّا الخبرُ عن الماضي فلا احتمالَ فيه، لأنَّ المستقبَلَ ممتدٌّ، يجوزُ أن يقتطعَ للخبرِ منه ما يقع المخبَرُ به بنفيٍ وإثباتٍ، حتي إنَّ الخلافَ قد يقع في لفظِ الأبدِ، وأنَّه أبدٌ من الآبادِ.
فأمَّا الماضي إذا أخبرَ بأنَّهُ كان فيه كذا، فأخبرَ بأنَّه بعثَ فيه أنبياءَ، وجرى فيه سِيَرٌ (1)، فهذا إثباتٌ لا يجوزُ أن يختلَّ، وكذلكَ إذا كانَ إخباراً عن نفيٍ في الماضي، مثل قولِه: ما بعثَ امرأةً نبيةً، ولا أباحَ الظلمَ في شريعةٍ من الشرائع، فهذا لا يمكنُ أن يعتريَهُ نوعُ احتمالٍ يُوجبُ اختلافاً، لأنَّ الماضي جملة تناهت فتناوَلَها الخبرُ بإثباتٍ كانَ فيها لا محالة، أو لم يكمت لا محالةَ.
فأمَّا المستقبَل، فإذا قال: {لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ} [الفتح: 27] يحسن أن لا يَدخلَ زماناً طويلاً، ثم يدخل (2)، فيكونُ الخبرُ صدقاً، وأما الماضي لا يقال: دخلَ، إلا وقد حصل، ولا يقال: [ما] دخلَ، إلا وقد استوعبَ الماضي كلُهُ نَفْيَ الدخولِ.
وهذا فصلٌ دقيق يحتاجُ إلى تأمُّلٍ كاف (3)، وفيه تقعُ الشكوكُ لغموضِهِ، ولهذا يحسُنُ دخولُ الشروطِ في المستقبَلاتِ، ولا تدخلُ الماضي إثباتاً كان أو نفياً، فلا يمكنُ أن تُقالَ في قولِ القائل: دخَلَ زيدٌ الدارَ، أو ما دخلَ زيدٌ الدار، [لأنه] لا يخلو من دخولِه في الإثباتِ، ولا يوجدُ منه دخولُه في النفي، بل في الخبرِ بإثباتِ
__________
(1) في الأصل: "سيره".
(2) في الأصل: "ويدخل".
(3) في الأصل: "ينافى".

(4/247)


دخولِه، لا بدَّ أن يكونَ حصل دخولُه الدارَ في حالةٍ من أحوالِ الماضي لا محالهَ، وفي الخبرِ بنفي دخولِه يجبُ أن يكونَ الزمانُ الماضي خالياً من دخولِهِ الدارَ لا محَالةَ.
وفي المستقبلِ يقول: ستدخلُ، فيخلو كثيرٌ (1) من الزمانِ من الدخولِ، ويتخصَّص الإثبات بزمانِ الوقوعِ خاصةً، وما يدخُلُ الدارَ ولا يدخل، ويريدُ به زماناً ما، ولو زمانَ خبرِه حالةَ قولِه.

فصل
ولنا: تعبّدٌ لا يصحُّ نسخُه، ويستحيلُ النهيُ عنه، وهو (2) معرفةُ الله سبحانَهُ، فهو (3) أصلُ التعبُّداتِ، وأساسُها الذي عليه تنبني؛ لأنَّ العباداتِ إنما هي شُكرُ المنعِمِ، ولا يتحققُ شُكرُ من لا يُعرَفُ، فلا يصحُّ أن يقالَ: قد أسقطتُ عنكم معرفتي، فلا تعرفوني، وإن صحَّ أن يقولَ: أسقطتُ عنكم شكري على إنعامي بسائرِ العباداتِ، وإنَّما كانَ ذلكَ محالاً، لأنَّ النهيَ لا يتحققُ نهياً إلا بِناهٍ، ولا يتحققُ لَنا نهيُهُ إلا بعد تحقُّقِ معرفته؛ لأن إثباتَ النهي فرعٌ على إثباتِ النّاهي، ولا يصحُّ أن نعرفه ناهياً، ثم إننا لا نعرفُهُ أو نُخِلُّ بعرفانِهِ، فهذا مما لا يتحصَّلُ ولا يتوهمُ حصوله، وهو في الإحالةِ والامتناعِ، مثل قول الله سبحانَهُ لشخص: اخْرُج من ملكي أو من نعمتي، فهذا لا يتحقق تحتَهُ من المعنى إلا إعدامُه، فأمَّا ما دامَ موجوداً، فلا يُتصورُ ذلكَ
__________
(1) في الأصل: "كثيراً".
(2) في الأصل: "وهي".
(3) في الأصل: "فهي".

(4/248)


في حقهِ، إذْ لا مكانَ إلا وهو ملكُهُ، ولا شيء من أجزاءِ الحيِّ وأحوالِهِ وصفاتِهِ إلا وهي نعمتُه.

فصلٌ
ولنا منَ الأفعالِ ما يوصفُ بالإباحةِ، خلافاً لما حُكِي عن الكعبيِّ في قولِه: هذا حكمٌ لا يتحققُ شرعاً، بل ليسَ لنا إلا وجوبٌ وحظرٌ، فأمّا إباحةٌ فلا (1).
فصلٌ
لنا: إجماعُ الأمةِ قبلَهُ، المستندُ إلى نصوصِ الكتاب والسنةِ، وهو إطلاقُ الله تعالى بعد تقييدِه بالحظرِ، مثلُ قوله: {لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ} [المائدة: 95]، {لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا} [النساء: 43]، {إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا} [الجمعة: 9]، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا} [الجمعة: 10] {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2] قال العلماءُ كلهم: هذا إطلاقٌ وإباحة {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ} [البقرة: 187] إباحةٌ أجمعَ عليها أهلُ العلمِ قبلَهُ.
وأيضاً، فإد الأحكامَ بحسبِ المصالحِ، والإطلاقُ من أحدِ
__________
(1) أنظر مذهب الكعبي في "البرهان" 1/ 294، "المستصفى" 1/ 82، "الإحكام" للآمدي 1/ 124، "المسودة" (65)، "نهاية السول" 1/ 113.

(4/249)


المصالح المسهِّلَةِ، وكما أنَّ الواجبَ يجلب التعبدَ (1) [و] التكليفَ ومَكابدة الطَّبع (2)، والحظرُ كفّ للطباعِ، فالإباحةُ إطلاق وإراحة للطباعِ، وخروج عن ضنكِ التكليفِ إلى فساحِ التخلصِ والإطلاقِ.
فأمَّا شبهتُهُ، فإنَّه قالَ: قد أجمعنا على أن لنا واجباتٍ في الشرع من العباداتِ وغيرِها من الحقوقِ، ومحظوراتٍ يجبُ تجنّبُها، وكلّ ما لا يمكنُ فعلُ الواجبِ إلا به فواجب، وكل ما لا يمكنُ تركُ المنهيِّ إلا بفعله واعتمادهِ فواجب فعلُهُ، وهذه الصنائع والأعمالُ التي يُسمُّونها مباحةً، قاطعة عن المحظوراتِ ومشغلةٌ عنها، فكانتْ واجبةً، كالكفِّ لمّا كانَ منعاً من إيقاعِها كان واجباً، والأعمالُ كلُّها كفّ (3) عن المنهياتِ فكانت واجبةً لا مباحةً، كالمُوصلاتِ إلى فعلِ الواجباتِ كلها، كالسبب إلى طلب ماءِ الطهارةِ، والستارةِ وجهةِ القبلةِ لأجلِ الصلاةِ أفعال واجبةٌ، لكن الواجبُ -وهي الصلاةُ- لا تتحقق إلا بتحصيلها، كذلك التروك للمعاصي لما كانت لا تتحقق إلا بكفٍّ (4) عن الفعلِ، إما باشتغالٍ بفعلِ غيرِها، أو بتعطيل (5) الأعضاءِ عن عملِها، كانَ ذلكَ كلُّه واجباً حيثُ كانَ تركاً لما وجبَ تركُهُ، فلا يبقى لنا شيءٌ مباحٌ.
__________
(1) في الأصل: "التعبد التكليف".
(2) في الأصل: "ومكابد الطمع".
(3) في الأصل: "كفاً".
(4) في الأصل: "لكف".
(5) في الأصل: "بتعطية".

(4/250)


فيقال: إنَّ هذه الشبهة إنما دخلت على هذا الرجلِ من حيثُ ظنَّ أنَّ كل ما أُحيلَ به فعلُ المعصيةِ، ولم يمكن إيقاعها معه، هو تركٌ.
وليس الأمر على ما وقعَ له، وقد وقعَ ما يقاربُ هذا لمن قال: إنَّ الأمرَ بالشيءِ نهيٌ عن ضدهِ، ظناً منه أنَّهُ لم يمكن الفعلُ للشيءِ مع فعل ضدهِ، لأَنَّه (1) يكونُ تاركاً لضدهِ، وليسَ الأمرُ كذلك، بل استحالةُ اجتماع الضدينِ، أعني: عن دخولِ الضدِّ الذي إذا وقعَ، امتنعَ الفعلُ المَأمورُ به، أعني: عن أن يصفه بالنهي، بل صار القعودُ عند الأمرِ بالقيامِ ممتنعَ الحصولِ، فلا يحتاجُ أن يكون منهياً، ولا داخلاً تحتَ الخطاب، كذلك ها هنا إذا قال الله سبحانه: {وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا} [الإسراء: 32] وَجَبَ تَجنُّبُ الزنى، فإذا دخلَ في عملٍ من الأعمالِ، استحال وقوعُ الزنى حالَ عملِهِ الذي لا يُتصوَّرُ معه حصولُ الزنى، فلم يكُ تاركاً في تلكَ الحالِ، وما هو إلا بمثابةِ شغلِه بالفعلِ المحظورِ، كالقتلِ ظلماً يمتنعُ بذلك وقوعُ الزنى، ولم يُجعل القتلُ الظُّلْمُ واجباً، من حيثُ كان به للزنى تاركاً، وفي هذا تمحيقٌ للأحكام، لأنَّهُ يفضي إلى أنْ لا يكونَ لنا معصيةٌ محضةٌ؛ حيث كان يفعل كُلَّ واحدةٍ من المعاصي تاركاً للأخرى وتركُها (2) واجبٌ، فكلُّ فعلِ معصيةٍ ممزوجٌ بين واجبِ -وهو تركُ الأخرى-، ومعصيةٍ -وهو فعلُها-، وذلك لاندراجِ التركِ لمعصيةٍ في فعلِ معصيةٍ أخرى.
ويكون أيضاً بهذا المذهبِ لا نوافلَ لنا؛ لأنَّ النوافلَ مشغلةٌ عن
__________
(1) في الأصل: "أنَّه".
(2) في الأصل "وترك".

(4/251)


الرِّبا، واللواطِ، والزنى، والقتلِ، وهو حال اشتغاله (1) بها تاركٌ لتلكَ المعاصي، وتلك المعاصي تركُها واجبٌ، فلا نافلةَ لنا إذاً، حيث كان فعلُها تركاً للواجب (2) تركُهُ، وفي هذا تعطيلٌ للأحكامِ بعضِها ببعضٍ، وخرقٌ للإجماعِ.
ولأنَّ في الأعمال ما يقعُ معيقاً (3) ومانعاً من المحظوراتِ بصورتِهِ؛ بذهول (4) فاعلِهِ عن قصدٍ ونيةٍ، فلا يكون تاركاً تركاً يكونُ بهِ ممتثلاً، فضلاً [عن] أن يكونَ واجباً، فبطلَ قولُكم: إنه لا فعلَ إلا واجبٌ؛ لكونه لا يتم تركُ المحظورِ إلا به، ومع الذهول وعدمِ القصدِ لا يكونُ طاعةً، فضلاً [عن] أن يكونَ واجباً.
وجوابٌ آخر: أنَّ الأعمال الشاغلةَ لأدواتِ المكلفِ وأبعاضِه، يتعطلُ معها فعلٌ آخرُ من عصيانٍ أو طاعةٍ من طريقِ المنافاةِ، وما تعذَّرَ حصولُه بوجودِ منافيهِ لا يُسمى متروكاً، ولا يتحققُ لفاعلِه التركُ، ومن ها هنا ظنَّ قومٌ: أنَّ الأمرَ بالشيءِ نهيٌ (5) عن ضدِّه، وليس كما ظنوا؛ فإنَّ الإنسانَ إذا قال لعبده: اخْرُجْ من الدارِ، لا يَحسُنُ أنْ يقول له بعدَ هذا: ولا تكنْ فيها إذا خَرَجْتَ، ولا يحسُتُ أنْ يقول له: اجْلِسْ، ولا تكن قائماً إذا جلستَ، وما لم يَحسنِ التصريح به، بل يقبحُ، يُعلمُ به بطلانُ المدعى لكونه [ثابتاً] ضمناً، وإنما قَبُحَ ذلك، لأنَّ الأمرَ بالخروجِ أمرٌ صحيحٌ داخلٌ تحت قدرِ
__________
(1) في الأصل: "اشتغالها".
(2) في الأصل: "ترك الواجب".
(3) في الأصل: "مغنياً".
(4) في الأصل: "ذهول".
(5) في الأصل: "نهياً".

(4/252)


المأمورِ، فأمَّا [عدمُ] الكونِ في الدارِ بعدَ الخروجِ، فحاصلٌ بضرورةِ منافاةِ الحصولِ فيها (1) مع الخروجِ، فلا يكونُ نهياً لحصوله ضرورةً، وإنما النَّهي هو استدعاءُ ما يدخلُ تحتَ القدرةِ، وذلكَ قد حصلَ في الأمرِ بالخروجِ، وصارَ عدمُ كونِه في الدارِ مضطراً إليه، وحاصلاً بالمنافاةِ لا بفعلِهِ؛ ولذلك لا يوصف بالقدرةِ على المخالفةِ مع الطاعةِ، بل لا يوصفُ إلا بالقدرةِ على الخروجِ، فقط، فأمَّا الكون في الدارِ بعدَ الخروجِ، فيندرجُ انتفاؤُهُ في الخروجِ اندراجاً ضروريّاً (2)؛ لمكانِ التضادِ، والامتناعِ في نفسِهِ.
كذلكِ ها هنا إذا فعلَ مباحاً أو نافلةً، امتنع وقوعُ المعصيةِ؛ لمكان أنَّ المحلَّ لا يحتمل فعلين، ولا نقولُ: إنهُ تارك، فلا يوصفُ بكونِهِ تاركاً، فضلاً عن أنْ يُقالَ: إنه ترك واجب؛ لأن الوجوبَ فرعٌ على كونه تركاً، ونحن لا نحققٌ له التركَ، بل هو فاعل لذلك الفعلِ المباحِ أو النفلِ، وانتفاء المعصيةِ فبمضادةِ (3) الفعل لها في المحلِّ، وذاك لا يُسمَّى تركاً، وإنما هو تمانع وتنافٍ، يعودُ إلى امتناع الشيءِ في نفسِهِ، أو عدمِ القدرةِ على فعلِه، وماَ تعوَّقَ حصولُهُ لعدمِ القدرةِ عليه، لا يُخلَعُ على مَن لم يَفعَلْهُ اسمَ تاركٍ.
فمن ها هنا دُهي الكعبيُّ، وأنه لم يَفْصلْ بين التركِ، وتعذُّرِ الفعلِ من طريقِ التنافي، واللهُ أعلمُ.
__________
(1) في الأصل: "منها".
(2) في الأصل: "اندراج ضروري".
(3) في الأصل: "فمضادة".

(4/253)


فصلٌ
لا يشترطُ للنسخِ أنْ يتقدَّمَهُ إشعارُ المكلفِ بوقوعِه.
وقالت المعتزلةُ: لا يجوزُ النسخُ إلاَّ أنْ يقترنَ بالمنسوخِ دلالةٌ أو قرينةٌ تُشعِرُ المكلفَ بالنسخِ في الجملة (1).

فصلٌ
في دلائِلنا على أنه لا يشترط ذلك
من ذلك: أنَّ النسخَ تجديدُ حكمِ، فلا يلزمُ الإشعارُ بهِ، إذْ جازَ (2) إبهامُ العاقبةِ فيه، كسائرِ الأحكامِ المَبتدأةِ.
ومن ذلك: أنه لو وجبَ الإشعارُ بالنسخِ، لوجبَ الإشعارُ بما يتجددُ من زياداتِ العباداتِ، وما الفرقُ بينَ الزيادةِ والنقصانِ، والإثباتِ والنفيِ؟!
ومن ذلك: أنَّ في الإشعارِ تفويتَ تَعَبُّدٍ يوجبُ ثواباً جزيلاً وتكليفاً (3) ثقيلاً، وهو أنَّ المكلفَ يُوطِّنُ نفسَهُ على استدامةِ العبادةِ فإِضمارُه (4) ذلكَ، وعزمُه على استدامتِهِ من غيرِ إشعارٍ، أشدُّ في التعبدِ، وأثقلُ من أن يعلمَ أنَّ لذلك التكليفِ غايةً يُرفعُ فيها إيجابُه
__________
(1) انظر رأي المعتزلة في "المعتمد" 2/ 414، و"المحصول" 3/ 491، و "الإحكام" للآمدي 3/ 134، و "شرح العمد" 2/ 192.
(2) في الأصل: "أو لجاز".
(3) في الأصل: "وتكلفاً".
(4) في الأصل: "ففي إضماره".

(4/254)


عَنْهُ، ويُرَفَّه، ويُخفَّفُ عنه.
فإنْ قيلَ: ففي الإشعارِ عزمٌ على اعتناقِ الأمرِ المتجددِ، والنسخِ الرافعِ، ونفيُ الجهلِ، فيقابلُ تلكَ الفائدةَ فائدتانِ.
قيل: العاقلُ ينوي ويعزمُ على الدوامِ ما لم يَرِدْ نسخٌ، ويُضْمِرُ الانتقالَ إلى الناسخِ إن تجدَّدَ نسخٌ، فيحظى بالفائدتين جميعاً.
ومن ذلك: أنَّهُ لو وجبَ الإشعارُ بالنسخِ، لوجبَ الإشعارُ بما يتجددُ من الأمراضِ التي تُسقطُ بعضَ العباداتِ، أو تسقطُ كيفياتها، أو تُؤخِّرها عن أوقاتها، والجامعُ بي الأعذارِ والنسوخِ: أنَّ كلَّ واحدٍ منهما مسقطٌ ومخففٌ.

[فصل]
شبهةُ المخالفِ
[قالوا:] إنَّهُ إذا كانَ في علِمِ الله سبحانه أنَّه ينسخُ تلك العبادةَ، ولم يشعر المكلفَ، اعتقد الدوامَ والتأبيدَ، وفي ذلك اعتقادُ الجهلِ، والتعريضُ للجهلِ قبيحٌ؛ لأن الجهلَ قبيحٌ.
فيُقال: إنْ جهل فإنما أُتِيَ من قِبل نفسِه؛ لأنَّهُ يجبُ أنْ يعلَم أنَّ لله أنْ يُؤبِّدَ، وله أن ينسخَ، وأنَّ هذه العبادةَ مؤبدةٌ ما لم يَرِدْ نسخٌ، فلا يفضي إلى اعتقادِ الجهلِ، ولأنَّه قد يُعفى عن اعتقادِ الجهلِ في جنبِ ما يحصلُ من التعبُّد، كما أنَّ الله سبحانَهُ قد يقطعُ على المكلف بالأعذارِ، والانقضاءِ للأعمارِ (1) ما اعتقدَ أنَّهُ يدومُ ويتمُّ،
__________
(1) في الأصل: "الأعمار".

(4/255)


وكم أماتَ في أثناءِ صلاةٍ لم يُسلَّم منها، وحَجَّةٍ لم يُتَحلَّلْ منها، ولم يكن ذلك مانعاً من التكليفِ من غيرِ تقدمةِ إشعارٍ به، كذلك ها هنا.