الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
ويجوزُ أَنْ يرفعَ اللهُ سبحانه التكليفَ رأساً لا بطريقِ النسخِ، مثل إعدامِ العقلِ في حق المجنونِ، فيَسقُطُ الخِطابُ رأساً، هذا مما لا خلافَ فيه.
وأما رفعُ ذلكَ بالنسخِ، فلا يصحُّ، بل يستحيلُ عندَ الجماعةِ، لأن المعرفةَ بالله لا يمكنُ (1) نسخُها نهياً عنها، لأن النسخ مبنيٌّ على إثباتِ ناهٍ تجبُ طاعتُهُ، بالامتناعِ مما نَهى عنْهُ، فإذا قالَ للمكلفِ: لا تعرفني، فقد نهيتُك عن معرفَتِي، فإثباتُه ناهياً يُحيل في حق المنهيِّ عنْ أنْ يَخْرُجَ عن كونِه به عارفاً، فهذا بالنسخ لا يمكنُ (1) ولا يدخلُ تحتَ القدرةِ شاهداً وغائباً.
وأمَّا نسخُ جميعِ العباداتِ ما عدا المعرفة على أصلِ أصحابنا وجماعةِ أصحاب الحديثِ، [فجائزٌ] خلافاً للقدرية في قولِهم: العباداتُ مصالحُ، ولا يجوزُ أن تُرفعَ المصالحُ مع وجوبِها عندَهم.
وهذا يُبنى على أصْلين: إمَّا أنْ يكونَ البارىءُ فاعلاً ما شاءَ على الإطلاقِ، فلا ينبغي وجوبُ تكليفٍ، كما لا يجب عليه إرسال الرسل رأساً عند أصحابنا، وإن فعلَ ذلكَ فعلَه تفضلاً.
وإنْ قلنا بالمصالحِ، فلا يمتنعُ أنْ يكونَ الأصلحُ: أنْ لا يكلفهم؛
__________
(1) في الأصل: "يكن".

(4/256)


لعلمِه أنَّ التكليفَ يفسدُهم، كما فعلَ ذلكَ في الآحادِ، ممنْ (1) أَعْدمَه العقلَ، وسلَبَهُ الرأيَ، أو كما نَسَخَهُ من العباداتِ والعقوباتِ بحسَبِ الأصلحِ، وكما أماتَ بعضَ الآدميين قبلَ بلوغِه، فأعدمهم التكليفَ، وهم أُممٌ لا تُعدُّ ولا تُحصى.

فصلٌ
شبَهُهُمْ
قالوا: إنَّ في الأمورِ الداخلةِ تحتَ التكاليفِ ما هو قبيحٌ لنفسهِ، فلا يحسُنُ إلا النهيُ عنه، ولا يختلفُ باختلافِ الأزمنةِ، ولا يختلفُ باختلافِ الأشخاصِ، مثلُ الكذبِ، وكفرانِ نِعْمة المنعمِ، وعقوقِ الوالدينِ، والجهلِ بالله سبحانه، وإضافةِ ما لا يجوزُ عليه إليه، والظلم والبغي، وهو الإضرارُ المحضُ الذي لا يتعقَّبُهُ ولا يضامُّه نفعٌ يوفي عليه.
وفي التكليف ما هو حسنٌ في نفسهِ لأمرٍ يرجعُ إليه لا إلى غيرِهِ، كالإحسانِ، والعفوِ، وبرِّ الوالدينِ، ومعرفةِ الله -وهيَ الأصل-، وشكرِه على ما أنعمَ به، فهذا حَسَن لا يَحْسُنُ النهيُ عنه، بل يحسنُ الأمرُ بهِ، والحثُّ عليهِ.
فيُقالُ: أمَّا المعرفةُ من جميعِ ما ذكرتَ، فمحال نسخُها بالنهيِ عنها، لما بينا من أنَّه مستحيل، لأنه بالنهي للمكلف يقتضي إثباتَه وعرفانَه، ليُطاعَ فيما نَهى عَنْهُ، إذْ لا طاعةَ ولا قربةَ لمن لا يُعرَفُ.
__________
(1) في الأصل: "فمن".

(4/257)


فأمَّا دعواهم أنَّ الكذبَ، وكفرانَ النعمةِ، وعقوقَ الوالدينِ، والظلمَ، قبيحٌ لا لنهي ناهٍ عنه، [بل] لأنَّ العقل يُحَسِّنُه ويقبِّحُه، فهذا أصلٌ كبيرٌ، أنتم مخالَفون فيه، فإنَّ (1) القبيحَ عندنا ما نهى اللهُ عنه، والحسنَ ما حسَّنَهُ الشرعُ؛ ولهذا أجازَ الكذبَ لنوعِ إصلاحٍ بين الناسِ، وأباحَ قتلَ الآباءِ؛ لأجلِ الكفرِ والمشاقَّةِ، وحقوقُ الأبوةِ موجودةٌ، وأباحَ الغنائمَ، وأخْذَ الأموالِ والأولادِ وقَتْلَ الرجالِ، وأنَّه لا حجرَ على فعلِ الربِّ سبحانه.
وهذا أصلٌ لا تليقُ الإطالةُ فيه ها هنا، وجملتُه أنَّ أفعالَ اللهِ لا تقاسُ على أفعالنا في الشَّاهدِ، بدليلِ أنَهُ كلَّفَ مَنْ [في] المعلوم أنَّه يُخالفُ، فيستوجبُ الخلودَ في النارِ، وخلقَ مَن أي، المعلومِ أنّهُ لا يتصرفُ إلا في المضارِّ والأضرارِ، ومكَّنَ المتسلطينَ، وجَعَلَ إبليسَ من المُنْظَرين، مع ما عُلِمَ أنَّهُ الغاوي للمكلفينَ، إلى أمثالِ ذلكَ مما لا يَحسُنُ من آحادِنا، فانقطع الشاهدُ عنِ الغائبِ، والغائِبُ عن الشاهد.

فصلٌ
في نسخِ القرآنِ بالسنةِ
عنْ أحمدَ روايتانِ (2): إحداهُما: لا يجوزُ نسخُهُ إلا بقرآنٍ، وبها
__________
(1) في الأصل: "وإن".
(2) انظر "العدة" لأبي يعلى 3/ 788، و"التمهيد" 2/ 382، و"المسودة"

(4/258)


قالَ الشافعيُّ، وأكثرُ أصحابِه (1).
وقال أصحابُ أبي حنيفة: يجوزُ بالسنةِ المتواترةِ (2).
وعن مالكٍ، وابنِ سُريجٍ من أصحاب الشافعيِّ مثلُهُ (3).
وأنَّه يجوزُ بالمتواتر منها، وهو مذهبُ المعتزلةِ والأشعريةِ (4).
واختلفَ أهلُ الظاهرِ في ذلك (5)، فذهبَ بعضُهم إلى أنه يجوزُ نسخُ القرآنِ بالمتواترِ والآحادِ، وعن أحمدَ مثلُهُ لأنَّه استدلَّ في النسخِ بالآحادِ بقصةِ أهلِ قباءٍ، فصارَ قائلاً بالنسخِ بالتواترِ من طريق التَّنبيه رواها عنه الفضلُ بنُ زيادٍ، وهي تشبه مذهبه في إثبات الصفاتِ بأخبارِ الآحادِ، وإثباتُ الصفاتِ لله سبحانه أكثر من النسخ.
واختلفَ القائلونَ بذلكَ والمانعونَ منه، هل وُجدَ ذلك؟ فقال قومٌ: لم يوجَدْ ذلكَ، وإليه ذهبَ شيخُنا الإمامُ أبو يَعلى (6) وابنُ
__________
(1) انظر "المحصول" 3/ 347، و"الإحكام" للآمدي 3/ 153، و"شرح الإسنوي" 2/ 183، و"الإبهاج" 2/ 270.
(2) انظر "أصول السرخسي" 2/ 267، و"كشف الأسرار" 3/ 177.
(3) بل المنقول عن مالك وابن سريج، أن نسخَ القرآن بالسنة جائز عقلاً غير واقع سمعاً، أي أنه لم يقع في الشرع ما يدل عليه، رغم إمكان وقوعه عقلاً "الإحكام" للآمدي 3/ 153.
(4) "البرهان" 2/ 1308، "المستصفى" 1/ 134، ابن الحاجب و"شرحه" 2/ 198.
(5) لم ينوه ابن حزم بأن ثمة خلاف بين أهل الظاهر في هذه المسألة، بل قرر أن السنة تنسخ القرآن مطلقاً. انظر "الإحكام" لابن حزم 4/ 477.
(6) صرَّحَ به في "العدة" 3/ 788.

(4/259)


سُريج من أصحابِ الشافعي، وقومٌ من المتكلمين (1).

فصلٌ
في أدلةِ المذهب الأول
فمن ذلك: قولُه تعالى: {مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] فأخبرَ سبحانَه أنّه لا ينسخُ آية إلا ويأتي بخيرٍ منها أو مثلِها، وليستِ السنةُ مثلَ القرآنِ ولا خيراً منه، فبطل أن يجوزَ النسخُ بها، لأنَه يؤدي إلى محالٍ وهو كونُ خبرِهِ سبحانه بخلافِ مخبَرِهِ، وذلكَ محالٌ على الله سبحانه، فما أدى إليه محالٌ.
فإن قيلَ: أصلُ استدلالِكُم مبنيٌّ على أنَّ المرادَ بالخيرِ: الفضلُ، وليسَ المرادُ به ذلكَ، إنّما المرادُ به: نأتِ بخيرٍ منها لكم، وذلكَ يرجعُ إلى أحدِ أمرينِ في حقِّنا:
إمّا السهولةُ في التكليفِ، فهو خيرٌ عاجلٌ.
أو أكثرُ ثواباً لكونه أثقلَ وأشقَّ، ويكونُ نفعاً في الآجل والعاقبة.
وكلاهُما قد يتحققُ بطريقِ السُّنةِ، وكمْ من سنةٍ تأتي بالأسهلِ، وبالأوفرِ ثواباً.
ويحتملُ: نأتِ بخيرٍ منها لا ناسخاً لها، بلِ يكونُ تكليفاً مبتدأ هو خيرٌ لكم، وإنْ لم يكنْ طريقُهُ القرآنَ الناسخ ولا السنةَ الناسخةَ،
__________
(1) "المعتمد" 1/ 429، "التبصرة" (264)، "الإحكام" للآمدي 3/ 154، "نهاية الوصول" 1/ 367، "شرح اللمع" 2/ 225.

(4/260)


لكن يكونُ تكليفاً هو خيرٌ لنا لا ينافي المنسوخَ، بل كانَ يصحُّ أنْ يجتمعَ معه.
قالوا: هذه التأويلاتُ أنَّ القرآنَ نفسَه ليسَ بعضُه خيراً من بعض، فلا بُدَّ أنْ تصرفوا (1) اللفظَ عن ظاهره إلى ما ذكرْنا منْ خيرٍ يعودُ إلى التكليفِ في نفسِهِ، لا إلى أنْ يؤتى بالحكمِ مضمَّناً له.
وقالوا: النسخُ عائد إلى الحكمِ لا إلى التلاوةِ، فإذا قال: نَنسَخ نأتِ بخيرٍ، رجعَ إلى حكم الآيةِ لا إلى لفظِ الآيةِ، وقد يكونُ حكمُ السنةِ خيراً لنا من حكمِ الآيةِ.

فصلٌ
في الأجوبةِ عن هذهِ الأسئلةِ
أمَّا قولُهم: الخيرُ يرجعُ إلى ما يخصُّنا من سهولةٍ أو ثوابٍ، لا يصحُ؛ لأنَّه لو أرادَ ذلكَ لقالَ: "لكم" فلما حذفَ ذلكَ دلَّ على ما يقتضيه الإطلاقُ، وهو كونُ النسخِ خيراً من جهةِ نفسه وذاتِهِ: ومن جهةِ الانتفاعِ به في العاجلِ والآجل.
على أنَّ ظاهرهُ يقتضي: "نأتِ بآيةٍ خيرٍ منها"، فإنَّ ذلكَ يعودُ إلى الجنس، كما إذا قالَ القائلُ: ما آخذُ منك ديناراً إلا أُعطيك خيراً منه، لا يعقلُ بالإطلاق إلا دينارٌ خيرٌ (2) منه، فينحرسُ الجنس أولاً ثم النفع، فأمّا أنْ يرجعَ ذلكَ إلى ثوبٍ، أو عَرَضٍ غيرِ الدينارِ، فلا.
__________
(1) في الأصل: "تصرفون".
(2) في الأصل: "ديناراً خيراً".

(4/261)


وفي آخرِ الآيةِ ما يشهدُ بأنَّهُ أرادَ به القرآن؛ لأنَّه قال: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 106]، ووصفه لنفسه بالقدرةِ يدلُّ على أن الذي يأتي به هو أمر يرجعُ إليه دونَ غيرِهِ، وكذلكَ قولُهُ: {أَوْ مِثْلِهَا} يشهدُ لما ذكرنا، لأن المماثلةَ يقتضي إطلاقُها من كلٍّ، سيَّما وقد أنَّثها تأنيث الآية، فكأنَّه قالَ: نأتِ بآية خير منها أو آيةٍ مثلها، وأمَّا حملُهم على ثوابِها فإن الثوابَ أيضاً لاَّ يَوازي ثوابَ الآيةِ؛ لأنَّ ثوابَ الآيةِ يحصلُ بتلاوتِها، وليسَ في حِفْظِ السُّنَنِ ولا تلاوتِها ما في حفظِ القرآنِ وتلاوتِه، وتظهرُ الحرمةُ من اعتبارِ الغسلِ من الجنابةِ والحيضِ والمسِّ لما فيهِ مسطورُ الآيات يعتبرُ لذلكَ الطهارةُ من سائرِ الأحداثِ، ولا يعتبرُ للسنن طهارةٌ تلاوةً لها، ولا مسّاً لمكتوبها، ولا إعجازَ في السُّنةِ، وفي القرآنِ إعجازٌ نافعٌ من حيثُ إنّه دلالةٌ على صدقِ مَنْ نَزلَ عليه، والدلالةُ توجب هدايةَ المكلفِ إلى ما يوجب له ثوابَ اللهِ سبحانه، ولا مساواةَ بينَ السنةِ والقرآنِ في ثوابٍ ولا غيرِهِ.
وأما قولُهم: نأتِ بخيرٍ منه، لا ناسخاً بل مبتدأ، لا يصحُّ؛ لأنَّه خرجَ مخرجَ الجزاءِ مجزوماً، وهذا يعطي البدليّةَ والمقابلة، مثلُ قولهم: إن تكرمْني أكرمكَ، وإن أطعتني أُطعكَ، يقتضي أنْ يكون الجزاءُ مقابلةً وبدلاً لا فعلاً مبتدأ.
وأمَّا قولهم: إن القرآن في نفسهِ لا يتخايرُ ويتفاضلُ فعلمَ أنّه لم يردْ به الخيرَ الذي هو فضيلتُه، فليسَ كذلك، فإنَّ توحيدَ الله في سورة الإخلاصِ وما تَضَمَّنَتْهُ (1) من نفيِ التجزؤ والانقسامِ، أفضلُ
__________
(1) في الأصل: "تضمنها".

(4/262)


من {تَبَّتْ} المضمَّنةِ ذمَّ أبي لهبٍ وذم زوجتِهِ، إنْ شئتَ في كونِ المدحِ أفضلَ من القدح، وإنْ شئت في الإعجازِ، فإنَّ تلاوةَ غيرِها من الآياتِ التي تظهرُ منها الفصاحةُ والبيانُ أفضلُ، وليسَ من حيثُ كانَ المتكلمُ واحداً لا يكونُ التفاضلُ لمعنىً يعودُ إلى الكلامِ ثابتاً، كما أنَّ المُرْسِلَ واحدٌ لذي النونِ وإبراهيم، وإبراهيمُ أفضلُ من ذي النونِ.
وأمّا قولُهم: إن النَّسخَ عائدٌ إلى الحكمِ دونَ التلاوةِ، فلا فرقَ عندَهم؛ لأن تواترَ السُّنةِ لو جاءَ بنسخِ رسم آيةٍ وإخراجها من المصحفِ ومنْ أحكامِ القرآنِ والخصيصةِ التي له، من منعِ الجنب والحائضِ من تلاوتِهِ وكلِّ محدِثٍ من مسِّهِ، لنسخوا بها التلاوَةَ.
ومن ذلك: قولُه تعالى: {قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي} [يونس: 15] جوابُ قولِهم: {ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ} [يونس: 15] وهذه الآيةُ لا تتحققُ حجةً لمن نصرَ هذا المذهبَ؛ لأنَّ السنّةَ ليستْ من تلقاءِ نفسه، بل هيَ مما يُوحى إليه - صلى الله عليه وسلم -، ومَنْ استدلَّ بهذهِ الآيةِ في هذا المذهبِ كمنِ احتجَّ بقولِه: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى} [النجم: 3]، في معنى جوازِ الاجتهادِ عليه.
فيقالُ هناكَ: إنَّ الاجتهادَ ليس بهوىً، إنما هو استدلالٌ صَدَرَ عن نَظَرٍ وبَحْثٍ وفكرٍ، وكذلكَ السنةُ هاهنا الناسخةُ للقرآنِ ما صدرت [إلا] عن وحي، لا من تلقاءِ نفس النبي -صلى الله عليه وسلم-.
ومن ذلك: ما رَوى الدارقطنيُّ بإسناده في "سننِهِ"، عن جابرِ بن عبد اللهِ، عن النبيِّ - صلى الله عليه وسلم - أنَّه قال: "كلامي لا ينسخُ كلامَ الله، وكلامُ

(4/263)


الله ينسخُ بعضُهُ بَعْضاً" (1)، وهذا نصٌّ.
فإن قيل: لفظُهُ نصٌّ، لكن طريقه ظنٌّ لا يصلحُ لإثباتِ هذا الأصلِ.
فيقالُ: إلا أنه ليسَ من الأصلِ الذي يُطلب له القَطعُ، لأنّهُ يثبتُ بضربٍ من الاستنباط والاستدلالاتِ القياسية، إذ لا مجال لأدلة العقل أكثرها، إلا ما انبنى (2) ...
ومن ذلك: أنّه قد يأمر سبحانه بالعبادةِ (3)، ثم يحيل بالموتِ أو الجنونِ أو المرض بينه وبين إتمامها، وإن منعوا أبعدوا وخالفوا ما قد وجدنا أمثاله من مأمورين بصيامٍ أو حج أوصلاةٍ ثم يطرأُ على المتلبِّس بها ما قطعَ ومنعَ من إتمامِها، فكذلك المنعُ من طريقِ النسخِ، ولا فرقَ.
ومن ذلك: أنَّهم قد قالوا: إنه سبحانه يجوزُ أن يأمر بالطاعةِ ويشرطَ عليها ثواباً ونعيماً دائماً، ويكونُ ذلك الوعدُ منه سبحانه مشروطاً بأن لا يقع من المكلف ما يحبطُ به ثوابَ تلكَ الطاعةِ،
__________
(1) أخرجه الدارقطني 4/ 145، وابن عدي في "الكامل" 2/ 180 عند ترجمة جبرون بن واقد الإفريقي، ومدار الحديث على جبرون بن واقد، ومحمد بن داود القنطري وهما ضعيفان جداً، قال الذهبي في "ميزان الاعتدال" (1437) في ترجمة جبرون: "متهم، فإنه روى بقلّهّ حياءٍ عن سفيان عن أبي الزبير عن جابر مرفوعاً "كلام الله ينسخ كلامي ... " وهذا الحديث موضوع.
(2) الجملة غير تامة، والأغلبُ أنَّ فيها سقطاً حالَ دون تمام العبارة، وبيان المقصود منها.
(3) محلها طمس فى الأصل.

(4/264)


والإحباط منه سبحانه، فإنه يمكن أنْ يتركَه على الوعد بثواب الطاعة، ويعاقبه على المعصيةِ بحسبها، كما قال أهل السنة، وكلُّ من لم يوجب التخليدَ بالكبائر مع الموافاة بالإيمان، فلم لا يجوزُ أن يأمرَهُ بالطاعة وإيقاعها في وقتٍ معين، بشرط أن لا يَرِدَ منه سبحانه ما ينسخها ويمنعُ من إيقاعها؟.
فإن قيل: لما أمره بالطاعة، نهاه عن فعل المعصية المحبطة، فإذا فعل المعصية صار غير فاعل للطاعة على الوجه المأمور به، بخلاف مسألتنا، فإنه أمر بها أمرأً مطلقاً غير مشروطٍ إلا بالوقتِ، فإذا نسخها قبل الوقت صار هو المعدِم للشرط سبحانه.
قيل: في قوةِ الدليل ما هو جوابٌ عن هذا؛ لأنه ليس الإحباط ضربةَ لازمٍ (1)، فيجوزُ أن لا يحبطَ، وما فعل سبحانه ذلك بل أحبط، والإحباطُ إليه، كما أن النسخ إليه، فلم قلتم في الإحباطِ: مصلحةٌ من جهة أنه يكون رادعاً عن تعقيب الطاعة بالمعصية؟
قيل: في العقوبة عليها من غير إحباطٍ كفايةٌ، كما أن في المؤاخذة على الصغائرِ كفايةً عن الإحباطِ، ولأنَّ النسخَ هاهنا قبل وقت الفعل يكون مصلحةً من الوجه الذي قدمناه.
فإذا ثبت هذا، فقد قدَّروا في قوله: افعلْ كذا فإنّي أُثيبكَ: ما لم تفعلْ ما يحبط ثواب طاعتك، فكذلك نقدر نحن: افعل كذا في وقت كذا، ما لم أنسخ الفعلَ وأرفعْه قبل الوقت.
__________
(1) تقول العرب: ليس هذا بضربةِ لازِمٍ، ولازِبٍ، أي: ما هذا بلازمٍ واجبٍ. "اللسان": (لزب) و (لزم).

(4/265)


فصلٌ
يجمعُ شُبَهَهُم
فمن ذلك قولهم: إنَّ الأمر من الله سبحانه يدلُّ على أنَّه صلاح للمكلَّفِ، وما كانَ صلاحاً لا يجوزُ على الحكيمِ أن ينهاه عنه؛ لأن النهيَ عن الصلاحِ أمرٌ بالفساد.
فيقالُ: هذا يلزمُ منه المنعُ من أجل النسخ، فإنه نسخٌ لأمرٍ بما كانَ في الأصل صلاحاً، وجازَ ذلكَ عليه سبحانه، كذلكَ النسخ له قبل وقت فعله.
على أنه إنما يكون صلاحاً ما دامَ الأمرُ به، فأمّا إذا زالَ الأمرُ علمنا أنّه لا صلاحَ فيه، كما إذا جاء النسخُ بعدَ الأمر المطلق على سائر الأزمانِ، فقطعَ الأفعالَ بالنهيِ عنْ مستقبلِ الأوقاتِ، بانَ أنّه ليسَ بصلاحٍ في تلكَ الأوقات.
وربما صوَّروه بعبارةٍ أخرى، فقالوا: الأمرُ بالفعلِ يدلُّ على حسنه، والنهي عن الحَسَنِ قبيح، ولا يجوز على الحكيم تشريعُ القبيح. فيقال في الجواب عنه نحوُ الأول، وأنّه يبطلُ بأصلِ النسخ، وأنّه إنما يكونُ حسناً ما دام الأمر باقياً.
ومن ذلك أنْ قالوا: لو نهى عن الشيءِ قبل وقت فعله كان بداءً، لأنَّ معناهُ: افعلْ كذا في وقتِ كذا، لا تفعلْ كذا في وقت كذا. ولو قالَ ذلكَ، كانَ عين البداءِ، كذلكَ إذا أتى بما في معناه.
فيقال: إن البداءَ هو ظهورُ الأمرِ بعدَ خفائه، وانكشافُه بعد تَغَطِّيه، من قولهم: بدا لي سورُ المدينةِ، ونورُ الشفق أو فلق الصبح بعد

(4/266)


الخفاء، والله سبحانه عالم بكل كائنٍ قبل كونه [فلا يخفى عليه شيء] فَيَبْدُوَ له، فإذا نهى بعد أن أمر علمنا أنه إنما أَمَرَ على علمٍ بحالِ المكلفِ، وأنَ الصلاحَ له في أمره، وإذا نهاه قبل وقت الفعل، علمنا أنَّ الصلاحَ له في نهيه، أو أنه أرادَ منه ما قابل به أمرَه وتلقاه به من مقدماتِ الفعل، وهو الاعتقادُ والعزمُ والالتزامُ، وتوطينُ النفس على ذلك، ويكفي ذلك تعبداً، كما أنه إذا أطلق الأمر اقتضى بظاهره التأبيد، ثم إذا نسخ بان لنا أنه أرادَ الفعل وإيقاعه في تلك الأوقاتِ خاصة دونَ الأوقاتِ المستقبلةِ التي رفع الفعلَ منها بالنسخِ، ولم يكُ ذلك بداءً.
وفارق هذا إيرادَ لفظِ الأمر والنهي في حالةٍ واحدة؛ لأن ذلك لا يُعقِب فائدةً أصلاً، فإنه لا يتحصل تلقي ذلك إلا بسماعه فقط، وليس كذلك النهي عن الأمر، لأنه يفيدُ تحصيلَ ثواب تلقي الأمر بالاعتقادِ والعزم وتوطينِ النفسِ على الطاعة.
ومن ذلك قولهم: إذا أمر بالفعل في وقت معين ثم نهى عنه، بان أنه لم يرد إيقاعه، فيفضي إلى أن يكون قوله: "افعلْ" ومراده "لاتفعلْ"، وهذا لا يجوزُ، لأنه يفضي إلى أن يريدَ باللفظ ضدَّ مقتضاهُ، فلا يبقى لنا ثقة بقولٍ؛ لأنَّا لا نأمنُ أن يكون المراد بذلك القول ضدَّه، خبراً كان أو أمراً أو وعيداً أو وعداً، بأنْ نقول: "اقتلوا"، والمراد به: "لا تقتلوا"، و"إن فعلتم أُثيبكم"، والمراد به: "لا أُثيبكم".
فيقال: لا يفضي إلى ذلك، بل يكون معناه: افعل في وقت كذا، إلا أن أنهاك عن إيقاعه. كما إذا أطلق الأمر اقتضى إيقاعَه على الأزمانِ كلها، ولا يكون النسخُ مبيِّناً

(4/267)


غير أنه أمرٌ بغيرِ مقتضى اللفظ، لكن (1) كأن تقديره: إلى أن أنهاك، وكذلك إذا أعاقه عنه بموت أو مرض، وهذا يحسن أن يصرحَ به، بخلاف قوله: "اقتل" ومُرادُه: "لا تقتل"، لكن وِزانُه: اقتل وقت كذا إلا أن أنهاك عن القتل.

فصل
في الزيادة في النص هل تكون نسخاً؟
لا تختلفُ المذاهبُ في الزيادة إذا كانت عبادةً منفردةً عن الأولى قائمة بنفسها، مثل صلاةٍ إلى صلاةٍ، وصوم إلى صلاة، وحج إلى زكاة، أنَّها لا تكون نسخاً، والمختلفُ فيه من ذلك زيادة ركعاتٍ إلى ركعات صلاة واحدةٍ، وزيادةُ جَلَداتٍ إلى جلداتِ حدٍّ واحدٍ، كجعلِ الظهرِ أربعاً بعد أن فرضت ركعتين، وحد القذفِ مئةً، بعد أن كان ثمانين، وزيادة صفةٍ في رقبةِ الكفارة باعتبار إيمانها بعدَ إطلاقها من غير اشتراطِ إيمان.
اختلف العلماء: فقال أصحابنا (2) وأصحاب الشافعي (3): لا يكونُ الثاني أيضاً نسخاً.
وقال أصحاب أبي حنيفة (4): يكونُ نسخاً.
__________
(1) في الأصل: "لكان".
(2) انظر "العدة" 3/ 814، و"المسودة" 207، و"روضة الناظر مع نزهة الخاطر" 1/ 208 وما بعدها، و"شرح الكوكب المنير" 4/ 270.
(3) انظر "الإحكام" للآمدي 3/ 155، "المستصفى" 1/ 117، "شرح جمع الجوامع" 2/ 91، و"التبصرة" (276).
(4) انظر "تيسير التحرير" 3/ 218، "فواتح الرحموت" 2/ 91.

(4/268)


ويفيدُ الخلاف أنهم لم يجوزوا إثبات النية في الطهارة، والإيمانِ في الكفارة، والتغريب فى حدِّ البكرِ بقياسٍ ولا خبرِ واحدٍ، وحيث جعلوا الزيادة فيه رافعةً لحكم النص لم يثبتوها بدلالةٍ مظنونةٍ، وذهبَ إليه قومٌ من المتكلمين.
وقالَ بعضُ المتكلمين (1): إن كانت الزيادة شرطاً في المزيد حتى لا يجزىء ما كان مجزئاً إلا بما (2) ذكرنا، فهي نسخ، وإن لم تكن شرطاً في المزيد لم تكن نسخاً.
وبَيَّنَ الفرقَ بينهم وبين أصحاب أبي حنيفة في التغريب مع الجلد، فإنه زيادةٌ لا شرطٌ في الجلد.

فصل
في دلائلنا
فمنها: أن النسخ في لغة العرب هو الرفع والإزالة، ومنه قولهم: نسخت الشمسُ الظلَّ، ونسخت الرياحُ، ونسخ السيلُ الآثارَ، بمعنى رَفَعَتْها وأزَالَتْها، وإذا جئنا إلى مسألتنا وَجَدْنا أن الرقبة المقصودة (3): العبد والأمة، سواءٌ كانت صحيحة أو سقيمة، مَعيبةً (4) أو سليمة، كافرةً أو مسلمةً، فإذْا زِيدَ على الإطلاق باشتراطِ كونها مسلمة، أو زِيد على الركعتين المفروضتين ركعتين، فقد ضمَّ إلى الأول ثانياً، والأول
__________
(1) انظر "الإحكام" للآمدي 3/ 155، "المستصفى" 1/ 117.
(2) في الأصل: "ما".
(3) غير واضحة في الأصل.
(4) محلها طمس في الأصل.

(4/269)


مفروضٌ بحاله، فهو ضد الرفع والإزالة، وما هو إلا بمثابة من طرح في كيس فيه دراهمُ معدودة زيادةً على ما فيه، فإنه لا يقال فيه: ناسخٌ ولا رافعٌ، كذلك هاهنا.
فإن قيل: هناك لا يتحقق رفعُ شيءٍ كان، وهاهنا يصير ما كان كُلاًّ، بعضاً في الحكم، وما كان مُجْزِئاً بنفسه غيرَ مجزىءٍ، فارتفع الحكم الذي كانَ وهو الإجزاءُ.
قيل: لا فرقَ بينهما، فإنَّ الدراهم كانت قليلةً فزالت القلة عنها بما ضمَّ إليها، وكانت العشرة التي في الكيس كلاًّ، فلما ضمَّ إليها عشر أخرى صارت نصفاً لما في الكيس، فهو كما كان فيه عشرةٌ، فَرُفعَ منها خمسة بقيَ النصفُ وقَلَّتْ بعدَ الكثرةِ، فالتغييرُ لا ينعْك عنه ولا يقعُ عليه اسمُ النسخِ، كذلكَ المزيدُ عليه لا يقعُ عليه اسمُ النسخِ مع بقائهِ وضمِّ شيءٍ آخر إليه.
ومنها: أنَّا أجمعنا والمخالفَ على أن الله سبحانه إذا شرع الصلاة ثم شرعَ الصيام، لم تكن زيادةُ الصوم إلى الصلاة نسخاً، وأن كنا نعلم أن تكليفَ الله سبحانه كان كله الصلاةَ، وأنَّ الإيمان يستقلُّ بالشهادتين وبالصلاة، فلما شرع الصومَ صار ما كان كلاًّ بعضاً، وما كان مستقلاًّ به الإيمانُ والتكليفُ غيرَ مستقلٍّ، حتى يؤتى بغيرِهِ وهو الصومُ الذي زيد عليه وضمَّ إليه، فكذلك ضمُّ الركعتين إلى الركعتين، والتغريبِ إلى الجلدِ.
ومنها: أنَّ النسخَ إنما يتحققُ ما لم يمكن الجمعُ بين الحكمين، فاذا لم يمكن الجمع كان الحكمُ المتأخرُ ناسخاً للمتقدم، ووجدنا بأنَّ المزيدَ والمزيد عليه يمكنُ الجمعُ بينهما في اللفظ والحكم جميعاً، فنقول: حدُ البِكْرِ مئةُ جلدةٍ وتغريبُ عامٍ، ولو قال أولاً:

(4/270)


جَلد البكر مئة، ثم قال بعد ذلك: تغريبُ عامٍ، فإنَّ الحكمَ الأولَ والثاني، واللفظَ الأولَ والثاني لا يتنافيان ولا يتضادّان، فلا وجهَ لدعوى النسخ.
ومنها: أنَّ حقيقةَ النسخ أن يتناولَ الناسخُ ما تناوله المنسوخ، وإيجاب الزيادة لا يتناول حكمَ المنسوخ، فلا يجوز أن يكون ناسخاً له.
ومنها: أنَّ الغرض بهذه المسألة إثباتُ الزيادة في حكم القرآن بخبرِ الواحد والقياس، فنقول: إنَّ خبرَ الواحد والقياس دليلان من أدلة الشرع يجوز إثباتُ الحكمِ المبتدأ في الشرع بهما، ويجوز تخصيصُ عمومِ القرآن بهما، فجازت الزيادةُ في حكم النص بهما كأخبار التواتر.
ومنها: أنَّ خبرَ الواحدِ، وإن أوجب ظناً من حيث إنَّ طريقَه غيرُمقطوع به، فإنه قد قضى على دليل العقل المقطوع به، فإنَّ دليل العقل قضى بالبراءة من كل مُشغِلٍ للذِّمة، وسلامة البدن من كل تعبٍ وكلفةٍ، وحقنِ الدماء عن الإراقة، والأبضاع عن البذْلَةِ، ثم يجيءُ خبرُ الواحد فيقضي على الذمة بالشغَل، والأَبدانِ بالإتعاب، والدماء بالإراقة بعد العصمة، والفروجِ بالاستباحة والبِذْلة، وإذا صَلَحَ لمثل هذه القضايا، صلح لتغيير حكم النص بزيادةٍ تنضمُ إليه.

(4/271)


فصل
في شبههم
فمنها أن قالوا: إن تقييدَ الرقبة بالإيمان نسخٌ لحكم إطلاقها؛ من حيث كان الإيمانُ زيادةَ صفةٍ فيها.
فيقال: ليس كذاكَ؛ لأنَّ إطلاقها يقتضي (1 إجزاءها في 1) المؤمنة والكافرة، والصغيرة والكبيرة، والصحيحة والسقيمة، وعلى أيِّ صفه كانت، لأنَّ الرقبة اسم للشخص دون صفاته، فإطلاقها يقتضي إجزاءَ ما يقع عليه الاسم، تَقييدها بالإيمانِ يخصُّ بعضَ الرقاب ويمنع من حكم الإطلاق، فصار ذلك نقصاناً لا محالةَ، يبيِّن ذلك: أنه لو ورد التقييدُ متصلاً بذكر الرقبة، كان باتفاقٍ تخصيصاً؛ لأنَّه لو قال: فتحرير رقبة إلا أن تكون كافرةً، أو: إلاّ أن تكونَ غير مؤمنةٍ، لكان ذلك نقصاناً وتخصيصاً، فكذلك سبيله إذا ورد منفصلاً بعد استقرار حكم الإطلاق، ويحسن أن يُنْفَى عن هذا أصلُ الزيادةِ، ويقال: إنه نقصان في المعنى، وليس مما نحن فيه بسبيلٍ؛ لأنَّ هذا صورةُ التخصيص، والتخصيصُ بيانُ تنقيصٍ وإخراجٍ، فكيف يسمى زيادةً، فضلاً عن أن يُدَّعَى أنه من باب الزيادةِ الناسخةِ.
ومنها أن قالوا: معلوم أن النسخَ ليس بأكثرَ من أن لا يلزمَ في المستقبلِ ما كان لازماً في الماضي، وهذا موجود في مسألتنا: وهي الزيادةُ على تطهير الأعضاء الأربعة بإيجابِ النية، والإيمان في رقبة الكفَّارة، وكذلك إيجاب النفي مع الجَلْد، والتغييرُ في ذلك ظاهرٌ، وهو أن الغسل المجرَّد كان بالأمسِ كافياً، وكذلك عِتقُ الأَمَة والعبد
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.

(4/272)


الكافرين كان مُجْزِئاً، والجلدُ المجردُ كان حدّاً مستقلاًّ، فصار بعد الزيادة غير مجزىءٍ ولا كافٍ ولا مستقلٍّ، وكان الأول كلاًّ فصار بعد الزيادة بعضاً، فقد ارتفع الحكمُ الأولُ.
فيقال: إنا لا نُسَلِّمُ أن هذا الذي ادعيتموه هو النسخُ، بل حقيقةُ النسخِ [إزالة حُكمِ المشروع] أولاً وهو الرقبةُ، وتطهيرُ الأعضاءِ الأربعة، والجلدُ المقدَّرُ، وذاك جميعُهُ ثابتٌ بحاله لم يَزُلْ ولا شيءٌ منه، فأمَّا الضمُّ إليه والزيادةُ عليه فلا يكون رفعاً ولا إزالةً، وأما كونه بعضاً بعد أن كان كُلاًّ، فهذا لا يوجبُ كونَهُ نسخاً، فإنَّ كلَّ موضوعٍ كذلك، فلو أنَّ واضعاً وضع زيادةً على ما فيه من أيِّ نوعٍ كانَ، صارَ ما كان فيه كلاًّ بعضاً بالإضافة إلى الزيادة، وما علمنا من لغة العرب تسمية ذلك نسخاً، فإنَّها لما قالتْ: نسخت الريحُ الرمل، لم تضعْ ذلك لحملها رملاً على رمل، ولا نسختِ الشمس الظلَّ لزيادةِ الظل على الظل، وإن كنَّا نعلم أنها قد لحظت أن الأول من الرمل المزيد عليه، صار بعضاً للرمل الذي زادته الريح، وكذلك الظل.
على أن هذا باطلٌ بزيادةِ العبادةِ على ما قبلها من العبادات كصوم بعد صلاةٍ، وزكاة بعد صوم، فإنه قد كانت واجباتُ الإسلام وفروعه تستقلُّ بما كانَ قبلَ الزيادةِ، وصارَ غيرَ مستقل ولا كاف إلا بالزيادةِ والمزيدِ عليه، حتى إنَّه كان يقبل الشهادتين فقط، وصار لا يقبلها حتى ينضمَّ إليها غيرُها، كما قال أبو بكر الصديق لمانعي الزكاة: لا أُفرِّقُ بين ما جمع الله (1)، والله يقول: {وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}.
__________
(1) وذلك في حديث قتالِ أبي بكر، رضي الله عنه، لأهل الردة، أخرجه أحمد 1/ 11، والبخاري (6924)، (6925) و (7284) و (7285)، ومسلم (20)، وأبو داود (1556)، والترمذي (2607)، النسائي 5/ 14، والبيهقي 4/ 104.

(4/273)


فإن قيل: تلك العبادات تستقلُّ عن الزيادةِ عليها بالصحة، ولا تقفُ صحتُها على فعل العبادة التي زيدت، بخلاف الركعتين التي زِيدتْ على الركعتين الأُوليين، فإنّها كانت قبل الزيادة مجزئةً، وبعد الزيادة صار معلقاً على الانفراد [فلا تعدُّ مجزئة في انفرادها فى أداء الصلاة] المفروضة ولا مبرئة للذمة.
قيل: (1 [إن الإجزاء مُتعلق] 1) بالعبادة التي زيدت، فتحبطُ تلكَ المزيدُ عليها حكماً، وتقع عبادةً صورةً لا مجزئةً ولا مبرئةً لأنه يكفرُ بالتركِ لها.
ويبطلُ هذا بما لو نقص من الحدِّ عشرين جلدة، فإنه لا يكون النقصانُ نسخاً لما بقي، كذلك الزيادة لا تكون نسخاً للأولِ المزيدِ عليه.
ومنها أن قالوا: إنَّ الزيادةَ إذا ثبتتْ صارتْ جزءاً من المزيد عليه أو صفةً له، وحكمُ الجزءِ حكمُ جميعِ الأجزاء وحكمُ الجملة، فيجب أن لا تثبتَ إلا بما ثبتَ به المزيدُ عليه كآياتِ القرآنِ والقراءات، ومكانِ الآي من القرآن لا تثبتُ إلا بما يثبتُ به أصلُ القرآنِ وهو التواترُ، وكذلكَ صفاتُ القديمِ سبحانه لا تثبتُ إلا بدلالةٍ قطعيةٍ يثبتُ بها الموصوفُ سبحانه.
فيقال: لعمري إنه قد صار كالجزء من حيث إنه يجبُ ضمُّه إليه، ولكن لا يجبُ لذلك أنه لا يثبت إلا بالدليل الذي ثبت به المزيدُ عليه، وليس يمتنع مفارقةُ الجزء الكلَّ (2)، ومفارقةُ الصفةِ الموصوفَ له في كون الطريق الذي تثبتُ به الصفة غيرَ الطريق الذي يثبت به الموصوفُ، وثبوتُ الجزء بغير الطريق الذي يثبتُ به الكل، ألا ترى
__________
(1 - 1) في الأصل هنا طمس.
(2) في الأصل: "بالكل".

(4/274)


أنه قد يثبتُ أصلُ العبادة بدليلٍ غيرِ مقطوع كخبرِ واحدٍ وقياس، ويدلُّ على وجوبِ تلك العبادةِ الإجماعُ وهو دليلٌ قطعي؟ وتثبت صفات الصلواتِ والطهاراتِ المقطوعِ بها كسننها وهيئاتها بأدلة مظنونة، وهي أخبارُ آحادٍ، والأصلُ ثَبَتَ بدليلٍ مقطوعِ؟ وقد شَهِدَ لذلك (1ثبوت الوضوء بدليل مقطوع، والدَّلك1) والموالاة في الوضوء، بأدلةٍ مظنونة وهي زياداتٌ في الحقيقة.
ومنها أن قالوا: أجمعنا على أن التقدير بعدد في الأصل تمنع معه الزيادة، فلو فرضَ ركعتين، كان بفرضه الركعتين مانعاً من الإتيان بأربعِ ركعات، فإذا جاء الشرع بالزيادة زال ذلك المنعُ من الزيادة (2)، فكانت الزيادةُ نسخاً لذلك المنع.
وليس النسخُ بأكثرَ مِن رفعِ حكمٍ كان ثابتاً، والمنعُ حكمٌ كان ثابتاً وقد ارتفع بهذه الزيادة.
فيقال: إن هذا لا يصحُّ على أصلك؛ لأن الأمر بالتقدير ليس بنهي ولا منعٍ عن الزيادة، وإنما المنعُ عن الزيادة ثبت بدليل آخر، وإن سلمنا نحن هذا وقلنا به، فإذا زاد على المقدار الأول زيادةً جعلنا ذلك نسخاً للمنع من الزيادة فكانت الزيادةُ ناسخةً للمنع من الزيادة بلا شك، فما أفادَ الخطابُ حكماً في الزيادة، وإنما الذي ننكره أن تكون الزيادةُ ناسخةً للمزيد عليه، وذلك لا سبيلَ إليه.
ومنها أن قالوا: أجمعنا على أن النقصان من المنصوص عليه
__________
(1 - 1) محلها في الأصل مطموس.
(2) في الأصل: "فكانت الزيادة نسخاً زال ذلك المنع من الزيادة، فكانت الزيادة نسخاً لذلك المنع" ولعله تكرار للعبارة.

(4/275)


يوجب النسخَ، فكذلك الزيادةُ، والعلةُ في ذلك أنهما جميعاً تغييرٌ للحكمِ المشروعِ عمّا كان عليه.
فيقال: إنّا قد جعلنا النقصانَ حجةً لنا؛ لأنّه لا يوجبُ نسخَ الباقي من الحدِّ بعد نسخ بعض الجَلْدِ، فيجبُ أن تكونَ الزيادةُ مثلَهُ، وإنما جعلنا النقصانَ نسخاً لَما نقص، لأنّه إسقاطُ حكم ثابتٍ باللفظِ وهاهنا ضمٌّ إلى الحكمِ الثابتِ وزيادةٌ عليه، فلم يكنَ نسخاً.
[والذي] يوضِّحُ ذلك ويكشفُهُ: هو أنه لو أوجبَ الصلاة ثم رفعها لكانَ ذلكَ نسخاً، ولو زاد على الصلاة (1 ركعتين أو زاد الصومَ 1) لم يكن ذلك نسخاً للصلاة.
ومنها أنه لا يَصِحُّ أن يجمع بين الزيادة والمزيد عليه في حكم النص، والخطابُ واحدٌ، ويكشف ذلك إخراجُهُ إلى النطق بأن يقول الشارعُ: إذا غسلتم هذه الأعضاءَ أجزأتكم صلاتُكُم، وإن عَزِبَتْ نيتكم، ثم يقول مع ذلك: وإن لم تنووا الطهارةَ لم تجزئكم صلاتكم، وإذا أعتقتم رقبةً عن كفارةِ الظهارِ كافرةً أجزأتكم، مع قوله (2): ولا يجزِئُكُم إلا مؤمنةٌ. وإذا لم يمكن الجمعُ عُلِمَ أنَّ الزيادةَ الطارئةَ التي منعتْ بقاءَ حكمِ النصِّ الأولِ معها ناسخة، فيقال: الجمعُ بين الأمرينِ ممكنٌ، بأنْ يقولَ: أَعتقوا رقبةً، ثم يقول: وتكونُ الرقبة المُعْتَقَةُ مؤمنةً، فيبقى الأولُ وهو الرقبةُ وينضمُّ إليها اعتبارُ الإيمانِ، وصلوا ركعتين، ثم يقول: وركعتين، واجلدوا البكر الزاني مئة، ثم يقول: وغرِّبوه عاماً، فقد صرَّح بالجمعِ، وحَسُنَ
__________
(1 - 1) محلها في الأصل مطموس.
(2) في الأصل: "قولكم".

(4/276)


ذلك، وصَحَّ في النطقِ والمعقول.
فأمَّا على الوجه الذي ذكرتموه فإنه باطلٌ بزيادةِ صلاةٍ على الشهادتين (1) وصيامٍ على صلاةٍ، وزكاةٍ على صيامٍ وحجٍّ على الجمع، فإنه لا يصحُّ أن يجمعَ بينهما في خطابٍ بأن يقول: إذا صليتم فقد برئتْ ذمتكم، وإذا صليتم ولم تصوموا فما برئت ذمتكم، فهذا في لفظٍ واحدٍ وحالٍ لا يصحُّ، ومع ذلك فليسَ بنسخٍ.

[فصل]
شبهةُ الطائفةِ الأخرى القائلةِ: بأنَّ الزيادة إذا غَيَّرَتْ كانتْ نسخاً.
قالوا: إذا كانت الزيادةُ شرطاً كانت مغيرةً لحكمِ المزيدِ عليه، ألاترى أنه إذا زاد في الصلاة ركعتين ثم صلى بعد الزيادةِ الركعتين الأُولَيين (2)، لم يُجْزِئْهُ، وقد كانت قبلَ الزيادةِ مجزئةً، ولا يجوزُ أن يسلِّمَ من ركعتين، وقد كان يجوزُ ذلك، وهذا حقيقةُ النسح.
فيقال: إن المزيدَ عليه باقي كما كان لم يتغيرْ، وما تعلَّقَ بالزيادة من الإجزاءِ وعدمِ الإجزاءِ، والصحةِ وعدمِ الصحةِ، لا يوجبُ النسخَ مع بقاءِ المزيدِ عليهِ، ألا ترى إذا زيد في عددِ الحدِّ فقدْ تغير بهذه
__________
(1) في الأصل: "شهادتين".
(2) في الأصل: "الأول".

(4/277)


الزيادة حكمُهُ، وهو أنَّ ما كان مطهِّراً صار غير مُطَهِّر، وما كان مكفِّراً صار غير مكفّر، ثم لا يوجبُ ذلك نسخَ المزيدِ عليه، وكذلك إذا زيد في عددِ الأقراء والشهور في العدَّةِ صار ما كان مبيحاً غير مبيح، ثم لايُعدُّ ذلك نسخاً، فبطلَ ماتعلَّقُوا به.
على أنَّه باطلٌ بزيادةِ شرط في الصلاةِ منفصلٍ عنها، أو نقصانِ شرطٍ كالطهارة في الصلاة، فإنه سلَّم هذا القائل (1) أنه ليس بنسخٍ للصلاةِ، ومعلومٌ أنه قد صار ما كان مجزئاً غيرَ مجزءٍ، وما كان صحيحاً غيرَ صحيحٍ، فبطلَ ما تعلقُوا به.
الثانية (2): لما كانت الزيادةُ نسخاً لدليلِ الخطاب، كانت ناسخةً للمزيدِ عليه من النص، مثاله: لو قال: حدُّوا الَزاني مئةً.
كان دليلُ ذلك المنعَ من جلده زيادةً على المئة، فإذا جاء نص بإيجاب زيادة على المئة كان ذلك نسخاً لذلك الدليل المانع (3 من جلدهَ ذلك البعض 3) الزائد على الجملة المنصوصِ عليها أولاً، فلا فرق بينهما.
فيقال: إنَّ الزيادةَ منطوقٌ بها منصوصٌ عليها، ودليلُ الخطاب ليسَ بنطقٍ وإنما هو دليل النطق، فقضى النطقُ على دليله، ولأنَّه لَا يمكن الجمعُ بينهما؛ لأنّهِ لو صرَّح فقال: إذا زنى البكرُ الحرُّ فاجلدوه مئةً ولا تزيدوا على مئة جلدة، ثم قال بعد زمانٍ: اجلدوه مئة وخمسينَ، كانَ النطقُ الثاني قاضياً على الأولِ وناسخاً له، فإذا قضى النصُّ والنطقُ على النطقِ لمكانِ تأخُّرِهِ، وعدمِ إمكانِ اجتماعِه معه -
__________
(1) في الأصل: "القليل".
(2) بمعنى الشبهة الثانية، وما سبق بيانه تكون الشبهة الأولى.
(3 - 3) محلها طمس في الأصل.

(4/278)


لأنَّ الأمرَ بالزيادةِ يُزيلُ حكمَ النهي عنها- فأولى أن يقضيَ النطقُ على دليله، بخلافِ ما نحن فيه من النص الأول مع النص الثاني، وإمكانِ الجمعِ بينهما من الوجه الذي بيَّنَّا.