الواضح في أصول الفقه

فصلٌ
إذا ثبتَ الحكمُ في عينٍ من الأعيان بعلةٍ وقِيْسَ عليها، ثم نُسِخَ الحكمُ في تلك العينِ التي هي الأصلُ المقيسُ عليها، بطلَ الحكمُ في الفروع التي قيستْ عليها، وصار حكمُ جميعِ تلك الفروع منسوخاً به (1).
وبه قال أصحاب الشافعي في أحد الوجهين عندهم (2).
وقال بعض أصحاب أبي حنيفة (3)، وبعضُ أصحابِ الشافعيِّ (4): لا
__________
(1) انظر "العدة" 3/ 820، و"المسودة" (820)، و"التمهيد" 2/ 393، و"شرح مختصر الروضة" 2/ 337.
(2) وهو ما اختاره الشيرازي في "التبصرة" (275)، والفخر الرازي في "المحصول" 3/ 539، وذكر الزركشي في "البحر المحيط" 4/ 136 أنه رأي الجمهور.
(3) هذا العزو لبعض أصحاب أبي حنيفة فيه نظر، إذ أبان الكمال ابن الهمام في كتاب "التحرير"، والأنصاري في "فواتح الرحموت" عن توهين مثل هذا النقل عن بعض الحنفية.
انظر "التحرير"، ومعه "تيسير التحرير" 3/ 215، "فواتح الرحموت" 2/ 86.
(4) انظر "التبصرة" (275)، "الإحكام" للآمدي 3/ 167، "جمع الجوامع =

(4/279)


يكونُ الحكمُ في الفروع منسوخاً، وبينوا ذلك في مسألتين:
إحداهما: دعواهم أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم - توضأ بالنبيذ الذي كان مع عبد الله ابن مسعود (1).
فقيل لهم: إنه كان نيئاً، وعندكم لا يجوز (2 أن يُتَوضأ إلا بالمطبوخ2).
فقالوا: إذأ ثبت بالنص جواز الوضوء بالنِّيء بما عَمِلَه - صلى الله عليه وسلم -، وأنه تمرةٌ طيبةٌ وماءٌ طهورٌ، وجبَ جوازُه بالمطبوخ؛ لأن العلة موجود فيه، فلما نُسِخَ جوازُ الوضوء بالنِّيءِ، بقي جَوازُ الوضوء بالمطبوخ.
والمسألة الثانية: النية لصوم رمضان بالنهار؛ استدلوا بما روي عن النبي - صلى الله عليه وسلم -[أنه] بعث إلى أهل العوالي يوم عاشوراء: "أن من لم يَأكُلْ فليَصُم" (3)؛ فأجاز صومَ عاشوراءَ بنيةٍ مِن النهار، وكانت العلةُ فيه أنه صومٌ واجبٌ مستحقٌ في زمانٍ بعينه، وهذا المعنى موجودٌ في صومِ رمضانَ وغيرِه، فلما نُسِخَ صومُ عاشعوراءَ بقي حكمُه في غيره.
__________
= وشرحه" 2/ 89، "شرح اللمع" 2/ 232.
(1) عن عبد الله ابن مسعود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال له ليلة الجن: "عندك طهور؟ " قال: لا، إلا شيء من نبيذ في إدواة. قال: "تمرة طيبة، وماء طهور". فتوضأ منه. تقدم تخريجه 2/ 144.
(2 - 2) محلها مطموس في الأصل.
(3) أخرجه البخاري (2007)، ومسلم (1135).

(4/280)


فصلٌ
في دلائلنا
فمنها: أن الحكمَ في الفرعِ إنما ثبتَ لثبوته في الأصل، فإذا بطل الحكمُ في الأصلِ وجبَ أن يبطلَ في الفرعِ، ألا ترى أن الحكمِ إذا ثبتَ بالنصِّ لمَّا كان ثبوتُه لأجله، إذا نُسِخَ الأصلُ، سقط الحكمُ.
ومنها: أن ما ثبت مانعاً لغيره، وجب أن يزولَ الموجَبُ والمقتضى بزوالِ الموجبِ والمقتضي، كالحكمِ مع علتِهِ إذا زالت العلةُ تبعها في الزوال حَكمُها، وإنما يتخلف الحكمُ أبداً عن علته إذا كان ثبوتُه بعلتين، فزالت إحداهما استقل بالأخرى المتخلفة، كالصومِ والإحرامِ والحيضِ، وكلُّ حكمِ ثبتَ بعلتين كان تخلُّفُه جائزاً، فأمَّا ما اتحد موجِبُهُ فلا بقاءَ لهَ مع زواله، كالحكمِ الثابتِ بالعلةِ الواحدةِ.

فصل
في شُبَهِهِم
فمنها: (1 قالوا: لو أثبتنا النسخ في فروع ذلك 1) الأصل، لكان نسخاً بالقياس (1 وإثباتُ الحكم بالقياس1) يجوز، فأمَّا النسخُ بالقياس فلا يجوز.
__________
(1 - 1) محلها مطموس في الأصل.

(4/281)


وبيانُ أنه يكونُ نسخاً بالقياس، أننا لما رأينا الحكمَ ثبتَ في الفرع بالعلة التي ثبتَ الحكمُ بها في الأصلِ، نسخناه في الفرع حيث نُسِخَ الحكمُ في الأصلِ، إلحاقاً للفرعِ بالأصلِ في النسخ.
فيقال: لسنا قائسين للفرع على الأصل، بل ذلك أمرٌ فرغنا منه في الأول حين أثبتنا الحكمَ لمشاركة الفرعِ الأصلَ في علةِ الحكمِ، فأمَّا لما جاء النسخُ لحكمِ الأصلِ زالَ حكمُ الفرعِ، لإخراجِ العلةِ [عن] أن تكون موجبةً للحكم، فتعطل الحكمُ عن علته، فزال لزوالها، لا قياساً، ولو كان هذا نسخاً بالقياس، لكان زوالُ الحكمِ بزوال علتِهِ نسخاً بغيرِ ناسخٍ، ولما كان ذاك زوالاً لا نسخاً ورفعاً لارتفاعِ الموجِبِ، [و] لا أنه نسخٌ بغيرِ ناسخٍ، كذلك ها هنا لا يكون نسخاً بالقياس.
ومنها أن قالوا: إنَّ الفرعَ لما ثبتَ الحكمُ فيه صار أصلاً، ولهذا يصح أن يقاس عليه عندنا جميعاً، فوجب أن لا يزولَ الحكمُ فيه بزواله في غيره.
فيقال: لا نُسَلِّم أنه صار أصلاً بذلك، وإنما هو تابعٌ لغيره، وفرعٌ لغيره، ثبت الحكمُ فيه لأجلِ ذلك الغيرِ، فإذا سقط حكمُ المتبوع سقطَ حكمُ التابع، حتى لو قيس عليه غيرُه لسقطَ حكمُ الآخرِ الذي هو فرعٌ لفرعِ الأصلِ.
فإن قيل: إذا ثبت الحكمُ في الفرع، لم يلزم زوالُه (1 بزوالِ حكمِ 1) الأصل. وهذا يعودُ بالإفسادِ لجميعِ كلامكم بدليل أن الوالد يَتبَعُه ولدُه الطفلُ في الإسلامِ والكفرِ، فلو زال إسلامُهُ بردةٍ، أو كفرُهُ
__________
(1 - 1) محلها مطموس في الأصل.

(4/282)


بإسلامٍ، لم يَزُلْ ما ثبتَ في حق الولدِ من الكفرِ والإسلامِ.
قيل: حكمُ الولدِ مع الأب غيرُ حكمِ العلةِ؛ بدليل أن الولد مع أبيه [ليس] بمنزلة الحكم مع علته، فيزولُ الأب، ولا يزولُ الحكمُ الحاصلُ في الولد، ويزولُ حكمُ الأب بالإسلامِ عن الكفرِ وبالكفرِ عن الإسلامِ، ولا يزولُ الحكمُ عن الولَد، وليس لنا علةٌ ترتفعُ ويبقى حكمُهامستقلاًّ لا (1) بعلة ولاسبب مختلف، فليس هذا مما نحن فيه بشيء.

فصل
إذا كان الناسخُ مع جبريلَ لم ينزلْ به إلى النبيِّ - صلى الله عليه وسلم -، لم يَثبُتْ لَه حكم، بلْ هو باقٍ على ما كان عليه في السماء قبل إلقائه إلى جبريلَ عليه السلام، ولم أسمعْ فيه خلافاً؛ لأنه لم يثبت له حكمٌ في حق مكلَّف للحكم الذي تضمنه؛ لأن جبريلَ- عليه السلام- وإن كان رسولاً فحكمُهُ مخالف لحكم رسولِ الله، إذ كان رسولُ الله - صلى الله عليه وسلم - داخلاً في الحكم الذي ينزلُ عليه، ومخاطَباً بالخطاب الذي يتوجه إلى الأمة؛ لأنه واحدٌ منهم، ولهذا قال قوم: إن حكمَ النسخِ الذي تلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله سبحانه ليلة المعراج، وتنقيصَ الصلواتِ من خمسين صلاةٍ إلى خمس صلواتٍ، حكمٌ ثابتٌ، ونسخٌ حقيقةً له حكمُ النُّسوخِ، لأنه تلقاه (2 مُكلَّفٌ بأداءِ الحكمِ هو 2) النبي - صلى الله عليه وسلم - بخلافِ
__________
(1) تكررت في الأصل.
(2 - 2) محلها مطموس في الأصل.

(4/283)


جبريلَ عليه السلام إذ (1 ليس هو الفاعل 1)؛ لأنه كُلِّفَ البلاع لما تَضَمَّنَهُ الحكمُ دون الحكمِ نفسه.
فأمَّا ما ورد من النسخ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ووصلَ إليه ولم يبلغْ أمتَهُ: فظاهرُ كلام أصحابنا أنه ليس بنسخ إلا عند من بلغَهُ وعلمَه (2)، وقد عوَّلَ أحمد في هذا على قصة أهل قُباء، وأنهم لما استداروا لم يؤمروا بالقضاء، فكان اعتدادُ الشرع لهم بالركعاتِ التي صَلَّوها إلى بيت المقدس، ولو نَجَزوا من الصلاةِ، دلالةً على أن حكمَ القبلة كان ثابتاً غيرَ منسوخٍ قبل علمِهم، وبه قال أصحابُ أبي حنيفة (3)، واختلف أصحاب الشافعي على وجهين (4): أحدهما يكون سخاً، والثاني: لا يكون نسخاً.

فصل
في دلائلنا
فمنها: قصةُ أهلِ قُباءٍ، والاعتدادُ لهم بما مَضى، وما كان ذلك إلا لعدمِ البلاع، ألا ترى أنه لما بلغهم النسخُ استداروا.
فإن قيل: أمرُ القبلةِ سهل فلا تُؤخَذُ سائرُ الأحكام منه، ولهذا
__________
(1 - 1) محلها مطموس في الأصل.
(2) انظر "العدة" 3/ 823، و"التمهيد" 2/ 395، و"المسودة" (223).
(3) انظر "فواتح الرحموت" 2/ 89.
(4) ذكر هذا الخلاف الشيرازي في "التبصرة" (282) والآمدى في "الإحكام" 3/ 153.

(4/284)


تسقطُ القبلةُ بالأعذارِ من الخوفِ وشدةِ الحربِ، وتسقطُ بغيرِ عذر في النافلةِ، وغيرُها أمرُه صعبٌ متأكدٌ، فلا يُؤخَذ حُكمُه من حُكْمِهَا.
قيل: سقوطها بالأعذار إلى بدلٍ هو جهةٌ أخرى، حكمٌ من أحكامِ الشرعِ مع عدمِ البلاغِ، ويكفي ذلك، ولسنا قائِسينَ غيرَه عليه، بل آخذين وقائلين، فهل تقول أنت به لخفته؟ فمن قولك لا يَبْقى للفرقِ الذي ذكرتَهُ وجهٌ ينفعُك في المسألةِ.
ومنها: أن أصل الشرع لا يلزم إلا من بلغه (1 الحكم لقوله تعالى: {لِئَلَّا يَكُونَ 1) لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ [النساء: 165] {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] {وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا} [القصص: 59] والعذاب نوعُ مؤاخذةٍ، وإيجابُ التكليفِ وعدمُ الاعتدادِ بالعباداتِ على الوجه المشروعِ أولاً مؤاخذاتٌ أيضاً.
ومنها: أن من لم يبلغه النسخُ لم يعلمْ بالخطابِ، فلا يلزمُهُ حكمُ الخطابِ، كالصبيِّ والمجنونِ والنائمِ، يوضح هذا: أنَّ عدمَ العلمِ لا يقبَلُ (2) التفاضلَ والتزايدَ، فإذا اتفقَ عدمُ العلم لأجلِ عزوبِ السماعِ، وعدمُ العلم للجنونِ، والنوم، في نَفْي العلمَ، وَجَبَ أن يتفقوا في نفي الخطابِ.
ومنها: أن هذا الذي لم يبلغه النسخُ لو فعل العبادةَ على الوجه الذي حصل به الناسخُ، أَثِمَ وحَرِجَ وكان عاصياً، ومحالٌ أن يكون
__________
(1 - 1) محلها في الأصل مطموس.
(2) في الأصل: "يبقل".

(4/285)


مخاطباً بشيءٍ لو فعله كان عاصياً، بيانُ ذلك: أن أهلَ قُباءٍ لو صلَّوا إلى الكعبة قبل أن يأتيهم النسخ كانوا عصاةً وصلاتُهم باطلة، ومحالٌ أن يكون المخاطبُ به إذا فعله المكلفُ كان به عاصياً، وكان الفعلُ باطلاً، وغيرُ المخاطب به -وهو المنسوخُ- إذا فعله كان صحيحاً، وكان الفاعلُ لَهُ مطيعاً مثاباً.

فصل
في شُبَهِهِم
فمنها: أنَّ حكمَ الخطابِ الأولِ ربما (1) تجدَّدَ وإنْ لم يُعْلَم المتجددُ، بدليلِ [أن] الوكيلَ إذا عزلَه الموكِّلُ، فإنه ينعزِلُ، وإنْ لم يعلم الوكيلُ بالعزلِ، ولا تنعقدُ منه العقود التي وُكَلَ فيها، كذلك ها هنا.
والجامعُ بينهما أن كلَّ واحدٍ منهما يتعلق في التصرف بالإذن.
فيقال: إن في مسألةِ الوكيل روايتين:
إحداهما: يصحُ البيعُ من الوكيل بعد عزلِ الموكِّلِ وموتِهِ إذا لم يَعْلَمِ الوكيلُ بذلك، فعلى هذا هو كمسألتنا.
والثانية: لا يصحُّ بيعُة، ويثبتُ حكمُ العزلِ مع عدمِ العلمِ، وعلى هذه الرواية الفرقُ بين حقوقِ الآدميين وحقِّ الله، أنَّ حقَّ اللهِ يتعلقُ عليه الثوابُ والعقابُ، وذلك يقفُ على العلم، ويؤثرُ فيه العذرُ،
__________
(1) في الأصل: "بما".

(4/286)


وحقُّ الآدمي يتعلقُ عليه الغرمُ الذي لا يختلفُ بالعلمِ والجهلِ والخطأ والعمدِ.
على أن قياسَ الأصولِ على الفروعِ، وأخذَ أحكامِها منها، يخالفُ الوضعَ، وإنما يستقى حكمُ الفرعِ من الأصلِ.
ومنها أن قالوا: النسخُ إسقاطُ حقٍّ لا يعتبرُ فيه رضا مَن يسقطُ عنه، فلا يعتبرُ فيه علمُهُ، كالطلاقِ والعتاقِ والإبراء.
وقالوا في النسخ إذا كان إباحةً بعدَ حظرٍ: إباحَة لِمَا حَظَرَ عليه، فلم يقفْ ثبوتُ حكمِهِ على العلمِ، كما لو قال لامرأته: إن خرجتِ بغير إذني فأنت طالقٌ، وأذنَ لها من حيث لا تعلم، ثم خرجَتْ، فإنه يَثْبُتُ حكمُ الإباحةِ، ولا يقعُ الطلاقُ، كذلك ها هنا.
وتصرفوا في هذه الطريقة فقالوا: الإباحةُ تارةً تحصُلُ من جهة الله سبحانه، وتارةً تحصُلُ من جهةِ الآدمي، ثم الإباحةُ من جهةِ الآدمي يَثْبُتُ حكمُها قبلَ العلمِ، وهو إذا قال: أبحتُ ثمرةَ بستاني لكلِّ جائزٍ به وداخلٍ إليه، فكذلك الإباحةُ من جهة الله عز وجل (1 ....... 1) لكم التكليف المتضمن للثواب والعقاب من أقوال الآدميين وأفعالهم التي تقتضي الغرم وعدم الغرم، وهذا أخذٌ باطلٌ، ووضعٌ فاسدٌ، والطلاقُ والعتاقُ إتلافٌ للمتعة (2)، والرِّقِّ ما وضع لإتلافه، وإنما كان إتلافاً لأنه إزالةُ ملكٍ لا إلى مالك، ولا يقتضي خطاباً.
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) في الأصل: "لمكلفه".

(4/287)


والإباحةُ والحظرُ من طريقِ الشرع خطاب، فلا يتحققُ إلا من قائل لسامع قولَه وخطابه وملتزمٍ أمره، ولهذا كان بفِعل ذلك المنسوخ طائعاً، وعلى فعله مثاباً لعدمِ العلمِ، كذلك لا يكَونُ مطالباً بالبدلِ لعدمِ العلمِ، وخطابُ من لا يعلمُ كخطابِ من لا يعقلُ، وعدمُ العقلِ لا يؤثِّر في إسقاط حقوقِ الآدميين، ويؤثِّرُ في إسقاط حق الله سبحانه.
وأمَّا الإذنُ لزوجته [وأنه] لا يتحقق إلا بأنْ تعلمَ ذلك، وإنْ خرجَتْ منِ غير إعلام منه لإذنها، لم تخرج من عهدة الطلاق؛ لأن (1) الإذن من الإعلام، قال الله تعالى: {وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} [التوبة: 3] يعني إعلاماً من الله، وأَخْذَ الحكمِ من جة الآدمي للحكم والإذنِ من جهة الله ومن جهة رسوله، فلا يصحُّ لما يتعلقُ على أحكام الشرعِ من المأثمِ، وذلك يؤثرُ فيه عدمُ العلمِ، بخلاف حقوقِ الآدمي التي (2) يستوي حكمُها [مع] اختلافِ الأحوال.

فصل
قال أصحابنا: ولا يجوز نسخٌ بالقياس (3)، ولسنا نريد به الأولى والتنبيهَ، فإن ذلك جارٍ مجرى النص عندنا، فلو نهى عن التأفيفِ من الأبِ والآمِّ بعد أن كان أباحَ ضربَهما، أو نهى عن التضحيةِ بالعوراء
__________
(1) في الأصل: "لا"
(2) في الأصل: "الذي".
(3) انظر "العدة" 3/ 827، و"التمهيد" 2/ 391، و"المسودة" (225)، و"شرح الكوكب المنير" 3/ 571.

(4/288)


بعد أن كان أباحَ التضحيةَ بالعمياءِ، كان ذلك نسخاً على أصلٍ من أصولِ الدين.
ومن (1 ذلك السنة التي ورد الحَضُّ على 1) اتباعها بالقرآنِ وهو قولُه تعالى: (1 {فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ا) وقوله: {وَاتَّبِعُوهُ} [الأعراف: 158] فإذا كانَ كذلك كانت السُّنَّة فرعاً للقرآن فلا يعكِّر الفرعُ على أصله بالإبطال والإسقاط، كما لم تُنْسَخ السنةُ بفرعِها المستنبطِ منها: وهو القياسُ عند المحققين من العلماء.
ومن ذلك [أن القرآن] أقوى وآكدُ من السنة نطقاً وحكماً، أمَّا النطقُ فإنه معجِزٌ، وأما إحكامُ النطقِ فإنَّ (2) كونَه أعجزَ العربَ هو الذي أوجبَ صدقَ الرسولِ - صلى الله عليه وسلم - فيما جاءنا به من الأحكامِ.
ومن أحكامه: ثبوتُ حرمةِ تلاوتِهِ في اعتبارِ الطهارةِ من الجنابةِ والحيضِ، وحرمةٍ مسطورةٍ بأن لا يجوز لمحدِث مسُّه محدثاً أيَ حدثٍ كان.
وفي نفس تلاوته ثوالب، وليس في نفس إيرادِ الأخبارِ خِفية ثواب (3)، وقَدَّمه النبي - صلى الله عليه وسلم - في العمل، فقالَ لمعاذ. "بِمَ تَحكُمُ؟ " فقال. بكتاب الله، قال: "فإن لم تَجدْدا قال: بسُنَّة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (4)، وساق الترتيب، وإذا كانت السنةُ دونَ الكتابِ لم يُنْسَخِ الأقوى
__________
(1 - 1) طمس في الأصل.
(2) في الأصل: "فإنه".
(3) في الأصل: "ثواباً".
(4) تقدم تخريجه 2/ 5.

(4/289)


بالأضعفِ، والأوكدُ بالأخفِّ، ولا الأشرفُ با لأَدْوَن.
فإن قيل: هذه القوةُ لِلَّفظ، ولسنا ننسخُ إلا الحكمَ.
قيل: لا فرق عندكم بين اللفظِ والحكمِ، حتى إنَّ السنةَ لو وردت بأنَّ هذه الآية، قال رسول الله: لا تضعوها في المصحف، لم توضع بعد قوله في المصحف، فلا معنى لفرقٍ لا تقولون به؛ ولأنَّ الآية إذا زال حكمها، تعطلت عن فضلِ التلاوةِ والحُرمةِ والعملِ بها ............ ، صارت كما نسخ من السنة.