جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول المبحث الثامن
المآخذ على الكتاب
غلب على طبع البشر وقوع الخطأ والسهو منهم، وكلما سنحت فرصةٌ
لمراجعة ما سوَّده المؤلف، فإنه قطعاً سيكمل ما نقص، ويصلح ما
فسد، ويرأب ما انصدع، ويُحسِّن ما استقبح من مقولاته، ويدقِّق
النظر في نقولاته، إلى غير ذلك من ضرورة المراجعات، واستيفاء
الإصلاحات.
ولقد عشتُ مع هذا الكتاب رَدْحاً من الزمن أقلِّبُ صفحاته،
وأتفحَّصُ كلماته، وأتأمَّل عبارته، وأتفهَّم مقاصده، وأدرس
فروعه وقواعده، فبان لي - إن جاز لي أن ألاحظ على هذا
العلاَّمة الذي بلغ الذروة في الإجادة والإفادة، وحسن التأليف،
وروعة التصنيف - أقول بان لي: أن فيه عباراتٍ غيرَ محرَّرة،
ومسائلَ مكررة، ونقولاتٍ غير مدقَّقة، وآراءٍ غير موثقة،
وأساليبَ غير منقَّحة، وأخطاءً غير مصحَّحة
وأعْلن باديء ذي بَدْءٍ بأن هذه التعقُّبات والمؤاخذات، لا
تحطُّ من قَدْر عمل المؤلف لضآلتها بجانب بحر حسناته الغزيرة،
ولورودها مورد التوهُّم والذهول، والسهو والخطأ، التي ما فتئت
تلازم البشر، وحَسْبه أن صوابه أكثر من خطئه، وأن المؤاخذات
يسيرة مقارنة بمواطن الإبداع والإحسان والإجادة. والإنسان
محلُّ النسيان، والقلم ليس بمعصوم من الطغيان، وبالله التوفيق
وعليه التكلان.
وقد أجْملت المآخذ في النقاط التالية:
أولاً: الآيات القرآنية.
(1) درج المصنف- ولعلَّه من النسّاخ -على كتابة الآية
{فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] مجرَّدة من الفاء،
ولقد أطبقت النسخ الخطية على كتابتها: اقتلوا المشركين (1) .
وهذا التجاوز يتساهل فيه كثير من الأصوليين، وما ينبغي لهم
ذلك.
_________
(1) هذا فيما يخص الموضع المذكور في ص 416 من القسم التحقيقي.
وهكذا جاءت أيضاً في مواضع
أخرى. انظر: الصفحات: 37، 178، 199، 207 من (المطبوع) .
(1/157)
(2) أورد ما ليس بقرآن على أنه قرآن عندما
أراد التمثيل بـ" أو " التخييرية، فقال: ((و" أو " و" إما "
للتخيير، نحو قوله تعالى: فتحرير رقبة مؤمنة أو إطعام ستين
مسكيناً)) (1) .
(3) مما يسجل على المصنف أنه لم يضطرد قراءة واحدة في ثلاثة
مواضع من
كتابه، بل انتقل من قراءة إلى أخرى، والأعم الأغلب اتخاذه
قراءة واحدة. ففي موضع قرأ قوله تعالى: {فَإِن يَكُن مِّنكُم
مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ} [الأنفال: 66]
بالتاء
في " تكن " وهي قراءة سبعية (2) ، هذا باستثناء النسخة " ن "
ففيها " يكن ".
وكذلك أطبقت النسخ الخطية على إثبات القراءة بقوله تعالى:
{فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ
أَلْفَيْنِ} [الحجرات: 6] وهي أيضاً قراءة سبعية (3) . وربما
كان دافعه إلى ذلك ما يستدعيه مقام الاستدلال. أما الموضع
الأول فلعله تصرُّفٌ من النسَّاخ (4) .
ثانياً: الأحاديث والآثار
لم يُعْنَ المؤلف - عفا الله عنه - بتخريج الأحاديث بتاتاً،
ولا ببيان درجتها، وفي الأعم الأغلب يرويها بالمعنى دون
ألفاظها، ويبدو أن القرافي - فيما يظهر لي - بضاعته في الحديث
مزجاة، وليس من أهل هذه الصنعة. وإليك أمثلةً تثبت ذلك.
(1) إيراده في استشهاداته أحاديث ضعيفة أو ضعيفة جداً أو لا
أصل لها،
مثل: - حديث: ((أمرت أن أقضي بالظاهر والله يتولى السرائر)) .
لا أصل له، وكثيراً ما يلهج به الأصوليون وربما كان من كلام
الإمام الشافعي رحمه الله (5) .
- حديث: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) . جلُّ
المحققين والنقَّاد من أهل الحديث على تضعيفه أو تكذيبه (6) .
_________
(1) هكذا جاء نص المؤلف في جميع المخطوطات ما عدا نسخة " ش "
أثبت ناسخها مكانها آية (89) من سورة المائدة، والنسخة
المطبوعة أثبت فيها آية (95) من المائدة. وقد نبه الشوشاوي على
أن ذلك وقع سهواً وغفلة من المصنف. انظر: رفع النقاب القسم 1 /
842.
(2) انظر: القسم التحقيقي ص (51) مع التعليق (4) .
(3) انظر: القسم التحقيقي ص (241) مع التعليق (9) .
(4) انظر الموضع الثالث: ص443 هامش (8) من القسم التحقيقي.
(5) انظر الحديث وتخريجه ص 144 هامش (10) من القسم التحقيقي.
(6) انظره في: ص 139 هامش (2) من القسم التحقيقي.
(1/158)
- حديث: ((الحزم سوء الظن)) . لا يصح
مرفوعاً، ولا موقوفاً، وإنما صحَّ مقطوعاً (1) .
- حديث: ((عليكم بالسواد الأعظم)) . ضعيف (2) .
- حديث: ((إذا رُوي لكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله، فإن
وافقه فاقبلوه وإن خالفه فردوه)) . هذا الحديث وضعته الزنادقة،
وقد عرضناه على كتاب الله فخالفه، فهو مردودٌ بحمد الله (3) .
- حديث: ((تعمل هذه الأمة برهةً بالكتاب، وبرهةً بالسنة،
وبرهةً بالقياس، فإذا فعلوا ذلك فقد ضلوا)) . وهو حديث ضعيف،
لا تقوم به حجة (4) .
(2) قلة العناية بألفاظ الأحاديث، مع أن تقييدها بألفاظها أمر
لا يُعْجز من أراده فمثلاً:
- روى حديث عائشة - رضي الله عنها - في نسخ عشر رضعات بالمعنى،
وهو في صحيح مسلم (5) .
- حديث: ((لا تقتلوا الصبيان)) . لم أجده بهذا اللفظ على كثرة
ما وقفت عليه (6) .
- حديث: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) . ليس هكذا في دواوين السنة
بل فيها لفظ ((ضلالة)) (7) .
- حديث: ((أرأيتَ لو تمضمضتَ بماء ثم مجَجْته، أكنتَ شاربه؟!))
لم أجده بهذا اللفظ فيما وقفت عليه (8) .
_________
(1) انظر الكلام عليه في: ص 247 هامش (7) من القسم التحقيقي.
(2) انظره في: ص 163 هامش (11) من القسم التحقيقي.
(3) انظر الحديث والتعليق عليه ص 262 هامش (2) من القسم
التحقيقي.
(4) انظر: ص 309 وهامش (2) من القسم التحقيقي.
(5) انظر: ص 75 هامش (10) من القسم التحقيقي.
(6) انظر: ص 416، هامش (2) من القسم التحقيقي.
(7) انظر: ص 95 هامش (2) من القسم التحقيقي.
(8) انظر: ص 308 هامش (2) من القسم التحقيقي.
(1/159)
- حديث: ((لو أنفق أحدكم ملء الأرض ذهباً
ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)) . لم أجده بهذا اللفظ، وإنما
بلفظ ((مثل أحُدٍ ذهباً)) (1) .
(3) وقوع التلفيق بين بعض الأحاديث، ولعلها كُتبتْ من ذاكرة
المؤلف ومحفوظاته من غير مراجعة أو تدقيق. من ذلك:
- أورد حديث: ((لا يؤمن أحدكم حتى يكون الله ورسوله أحب إليه
مما
سواهما)) (2) وهو مُلفَّق من حديثين كليهما من حديث أنس بن
مالك رضي الله عنه:
الأول: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون
أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)) [البخاري برقم (15) ]
. والثاني: قال - صلى الله عليه وسلم -: ((ثلاث من كن فيه وجد
حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما. .
.)) [البخاري برقم (16) ] .
- أورد حديث الرجل الذي وَقَصتْه دابته في أخاقيق جرذان، ووصفه
بأنه كان مُحْرماً، والواقع أنهما حديثان مختلفان، ووقعتان
متغايرتان، وإن اشترك كلاهما في وَقْص الدابة لكل منهما (3) .
(4) تبديل ألفاظ الحديث بألفاظ أخرى، مع ما يترتب على ذلك من
استدلال بالحديث المُغيَّر. مثال ذلك:
- حديث: ((الرضاع لحمة كلحمة النسب)) . لا يوجد بهذا اللفظ في
دواوين السنة بحسب الإطلاع، وقد فرَّع عليه معنى استنبطه منه،
وإنما هو ((الولاء لحمة كلحمة النسب)) (4) .
- حديث: ((نضَّر الله امْرءاً سمع مقالتي فأدَّاها كما سمعها،
فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ إلى
من ليس بفقيه)) . لم تَرِدْ رواية في جميع ما وقفت عليه بلفظ:
((ورُبَّ حامل فقه إلى من ليس بفقيه)) ، بل كل الذي وجدته
((فرُبَّ حاملِ فقهٍ ليس بفقيه)) . والمصنف استدل بما ذكره من
حديث على اشتراط
_________
(1) انظر: ص 159 هامش (8) من القسم التحقيقي.
(2) انظره في: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 100.
(3) انظر: التعليق (11) ص 297 من القسم التحقيقي.
(4) انظر: ص 370، هامش (1) من القسم التحقيقي.
(1/160)
الفقه في رواية الحديث، وجماهير العلماء
على عدم اشتراط الفقه في الراوي ويستدلون لهذا بالحديث نفسه،
لكنْ بألفاظه المعهودة المحفوظة (1) .
(5) مما يدل على خِفَّة ذات يده في الحديث، وَهْمه في نسبة بعض
الأحاديث والآثار لغير أصحابها فمن ذلك:
- أسند لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - حديثاً بينما هو من
كلام غيره، وهو: ((نعم العبد
صهيب، لو لم يَخَف الله لم يعصه)) (2) .
- نسبته أثراً لابن عباس رضي الله عنهما: ((كنا نأخذ بالأحاديث
فالأحدث من أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم -)) . وإنما هو
مدرج من كلام ابن شهاب الزهري بلفظ: ((وإنما يؤخذ من أمر النبي
- صلى الله عليه وسلم - الآخر فالآخر)) وهي رواية البخاري. أو
بلفظ: ((وكان صحابة رسول الله يتبعون الأحدث. . .)) (3) وهي
رواية مسلم.
- زعم أن البخاري وغيره رَوَوْا لعَمْرو بن عُبيد مع أنه لم
يقبله أحد، بل جرَّحوه لكونه رأساً في البدعة ومن الدعاة إليها
(4) .
ثالثاً: دعاوى الإجماع والاتفاق
جازف القرافي عليه الرحمة والمغفرة على ادعاء الإجماع في بعض
المسائل، وحكى الاتفاق عليها سواء في مسائل العقائد أو الأصول
أو الفروع، ولو أنه قال: لا أعلم فيها خلافاً لكان أولى، فما
يدريه لعلهم اختلفوا ولم يطلع على اختلافهم.
ومن الأمثلة على ذلك:
(1) في العقائد. أ - قال: ((فإن قواعد العقائد كان الناس في
الجاهلية مكلفين بها إجماعاً، ولذلك انعقد الإجماع على أن
أمواتهم في النار يعذبون على كفرهم)) . مع أن بعض أهل العلم
جعلهم من أهل الفترة (5) .
_________
(1) انظر: ص 259، هامش (3) من القسم التحقيقي.
(2) ذكره في: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 108، وانظر: كشف
الخفاء، والإلباس للعجلوني
2 / 323.
(3) انظر: ص 423، هامش (3) من القسم التحقيقي.
(4) انظر: ص 225، هامش (4) من القسم التحقيقي.
(5) انظر: القسم التحقيقي ص 29، هامش (8) .
(1/161)
ب - حكى الاتفاق على تخطئة الاجتهاد في
مسائل أصول الدين. لكن دعوى الاتفاق محل نظر، فإن طائفة من
العلماء ترى عدم تأثيم أو تكفير المجتهد المخطيء في المسائل
العلمية (1) .
جـ - قال: ((ولذلك لم يعذر الله بالجهل في أصول الدين
إجماعاً)) ودعوى الإجماع منقوضة بما ذكره بنفسه في كتابه
الفروق (2 / 149 - 151) (2) .
(
2) وفي الأصول. أ - قال في الفصل الثالث من باب النسخ (المتن)
: ((يجوز عندنا نسخ الكتاب بالكتاب وعند الأكثرين، والسنة
المتواترة بمثلها، والآحاد بمثلها وبالكتاب والسنة المتواترة
إجماعاً)) (3) . أما مسألة نسخ الآحاد بالآحاد، والآحاد
بالمتواتر فالإجماع فيهما مسلَّم، وأما مسألة نسخ الآحاد
بالكتاب فالمصنف نفسه قرَّر فيها خلاف الشافعي وبعض أصحابه،
فليست مسألة إجماعية (4) .
ب - تابع القرافي الإمام الرازي والآمدي في حكايتهما الاتفاق
على جواز النسخ بالفحوى. لكن قال ابن السبكي عن ادعاء هذا
الاتفاق بأنه ليس بجيد، وتعجب منه الزركشي (5) .
جـ - حكى الاتفاق على عدم جواز التعليل بالاسم، وحكاية الاتفاق
منقوضة بمذهب أكثر المالكية وغيرهم (6) .
(3) في الفروع واللغة. أ - قال: ((وإن المسكرات حرام في جميع
الملل، وإن وقع الخلاف في اليسير الذي لا يسكر، ففي الإسلام هو
حرام، وفي الشرائع المتقدمة حلال. أما القدر المسكر فحرام
إجماعاً من الملل)) . لكن من العلماء من نازع في ادعاء تحريم
المسكرات في الملل السابقة (7) .
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 468 هامش (5) .
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 472 هامش (3) .
(3) انظر: متن المؤلف فقط ص 82 - 83 من القسم التحقيقي.
(4) انظر: هامش (5) ص 83. وانظر: ص 87 من القسم التحقيقي.
(5) انظر المسألة في: القسم التحقيقي ص 98، هامش (2) .
(6) انظر: القسم التحقيقي ص 381 هامش (5) .
(7) انظر: القسم التحقيقي ص 328، هامش (4) .
(1/162)
ب - نقل الإجماع على ثبوت المجاز. ومعلوم
أن في ثبوت المجاز خلافاً عريضاً قديماً وحديثاً (1) .
رابعاً: النقول ونسبة الآراء
وقع من المصنف جملةٌ من المؤخذات تتعلق بنسبة الأقوال والآراء
إلى أصحابها، وتتعلق بالنقولات والتصرف فيها، أو يكون النقل
على خلاف واقع المنقول عنه ونحو ذلك، وكل ذلك مردُّه إلى السهو
والوهم الملازم لطبيعة البشر.
ومن الأمثلة على ذلك:
(1) خطأ في النقل والعزو. أ - نقل بأن مذهب أبي إسحاق في مسألة
انعقاد الإجماع في عصر النبي - صلى الله عليه وسلم - جواز
انعقاده. وصواب النقل عنه: أنه لا تنعقد، وهكذا فعل مع مذهب
ابن برهان (2) .
ب - نقل كلاماً للشيرازي وعزاه إلى " اللمع " (3) والصواب: "
شرح اللمع " والمؤلف لم يُبْعد النُّجْعة، فاللمع وشرحه كلاهما
لأبي إسحاق، وربما أراد الاختصار في الاسم.
(2) خطأ في نسبة الآراء إلى أصحابهما ومذاهبها. من ذلك:
أ - نسب للشافعية القول بأن جواز تقليد الصبي والأنثى والكافر
الواحد في الهدية والاستئذان لاحتفاف القرائن بها، بينما
الصحيح عندهم عدم اشتراط احتفاف القرائن (4) .
ب - لم يُصِبْ في نسبة جواز القياس في الرخص للشافعي، فما في
رسالة الشافعي على خلاف هذه النسبة (5) .
جـ - أخطأ في حكاية خلاف أبي حنيفة مع الجمهور في مسألة شهادة
الذمي على المسلم في الوصية في السفر (6) .
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 390 هامش (10) .
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 96 هامش (7) ، ص 97 هامش (2) .
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 64 هامش (4) .
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 452 هامش (12) .
(5) انظر: القسم التحقيقي ص 397 هامش (4) .
(6) انظر: هامش (2) ص 225 من القسم التحقيقي.
(1/163)
د - وهم المصنف في حكاية رأي القاضي عبد
الجبار في مسألة حكم الزيادة غير المستقلة على النص أهي نسخ أم
لا؟ (1)
(3) التساهل في النقل.
تختلف طرائق العلماء في الاقتباس من الكتب والنقل منها. فمنهم
من يحافظ على ما ينقله بنصِّه وفصِّه، ومنهم من ينقل بالمعنى
والفحوى، ولا تَثْريب على كلا المسلكين، بَيْدَ أن المعاتبة
والملامة تتجه نحو من ينقل من الكتب فيحيل المعنى أو يُغْمضه
أو يُبْهمه أو يُشْكله. وقد وقع القرافي رحمه الله في شيء من
ذلك بحسب ما ظهر لفهمي القاصر، فمن ذلك:
أ - أورد نقلاً عن الرازي في محصوله (3 / 266) لكن فيه تصرُّف
ليس كما هو (2) .
ب - نقل عبارةً عن الإمام الرازي ثم أردفها بجُمَلٍ وعباراتٍ
أخرى ليست عنده، وعقَّب عليها بقوله: ((قاله الإمام)) وليس
للإمام منها سوى الأولى (3) .
جـ - ساق حجة أبي علي الجبائي في الإجماع السكوتي على غير
طريقته (4) ، وهكذا فعل في سياق حجة أبي هاشم (5) .
د - نقل عن ابن القصار بأن ابن القاسم لا يقبل قول القاسم.
وهذا النقل فيه تسمُّح فإن ابن القصار ذكر رواية ابن القاسم عن
مالك بعدم قبول قول القاسم (6) .
هـ - قال بأن الآمدي رجَّح الحظر على الإباحة عند التعارض
بثلاثة أوجه. والصواب: أنه بوجهٍ واحد، وأما تقديم الحظر على
الوجوب رجحه الآمدي بوجهين، فالمصنف دمج المسألتين معاً، وجعل
الترجيح فيها من ثلاثة أوجه (7) .
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 104 - 105، ص 109 هامش (3) .
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 39 هامش (6) .
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 149، هامش (9) .
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 144 هامش (6) .
(5) انظر: القسم التحقيقي ص 149، هامش (1) .
(6) انظر: القسم التحقيقي ص 450، ص 451 هامش (3) .
(7) انظر: القسم التحقيقي ص 406 هامش (9) .
(1/164)
(4) يُعْرِض عن سَرْد الأقوال كلها في
المسألة الواحدة، ولا يستوفيها، بل يقتصر على قولين ونحوهما،
ويعرض عن بقيتها، وربما كان باعثه على ذلك الاقتصار على
الأقوال القوية دون الضعيفة بحسب ما بدا له، مع الأخذ بطبيعة
كتابه المختصر في الحسبان.
ومن ذلك:
أ - مسألة دلالة فعل النبي - صلى الله عليه وسلم - المجرد ذكر
فيها ثلاثة أقوال، بينما فيها قولان آخران لم يذكرهما المصنف
(1) .
ب - مسألة اعتبار أهل البدع من أهل الإجماع ذكر فيها قولاً
واحداً، وفي المسألة أقوال أخرى أبرز مما ذكره المصنف (2) .
جـ - مسألة رواية الحديث بالمعنى ذكر فيها مذهبين، بينما صاحب
كتاب
" توجيه النظر إلى علم الأثر " عدَّ ثمانية أقوال بل تسعة (3)
.
د - اقتصر المصنف في مسألة حكم اجتهاد غير النبي - صلى الله
عليه وسلم - في حياته على قول
واحد، وفي المسألة ستة أقوال (4) .
هـ - لم يحك مذهب الوقف في مسألة تعبد النبي - صلى الله عليه
وسلم - بشرع من قبله قبل البعثة مع كونه الأرجح عند بعض
الأصوليين (5) .
وأضْرب صَفْحاً عن ذكر رأي جمهور الأصوليين في مسألة إثبات
أصول العبادات بالقياس (6) .
(5) نسبة القول إلى مجاهيل ومبهمين، كقوله: قال بعضهم (7) ،
وخلافاً
_________
(1) انظر الصفحات 2 - 4، وهامش (5) ص 4 من القسم التحقيقي.
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 160 هامش (6) .
(3) انظر المسألة في: القسم التحقيقي ص 292 هامش (8) . وانظر
كتاب: توجيه النظر للشيخ طاهر الجزائري 2 / 686.
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 460 هامش (3) .
(5) انظر: القسم التحقيقي ص 24 هامش (6) .
(6) انظر: القسم التحقيقي ص 395 هامش (4) .
(7) انظر: القسم التحقيقي ص 389.
(1/165)
لقوم (1) ، وجوَّزه الأقلون (2) ، قال غيره
(3) ، خلافاً لبعض الفقهاء (4) .
(6) عدم فصل القرافي بين كلامه وكلام غيره، فيَحْدث تداخُلٌ
بين ما له وما لغيره. وهذا أوقعني في عُسْرٍ شديدٍ للتمييز
بينهما ما استطعت إلى ذلك سبيلاً، ولاسيما إذا كان المنقول عنه
مفقوداً كأقوال القاضي عبد الوهاب وغيره (5) .
(7) إغفاله إظهار المذهب المالكي في بعض المسائل.
إن الشهاب القرافي حرص على إجلاء المذهب المالكي، بل صرَّح بأن
منهجه في الكتاب هو: إبراز مذهب الإمام مالك الأصولي ليظهر
شرفه فيه كما ظهر في الفروع (6) . وقد بيَّنتُ طَرَفاً من هذا
الاهتمام عند الحديث عن القيمة العلمية للكتاب (7) . لكن من
المآخذ الكبيرة على الإمام القرافي رحمه الله أنه لم يحرِّر
الأقوال كثيراً في مسالة إجماع المدينة، ولم يُطل النفس فيها،
حتى إن العالم المحقِّق حلولو دهش من ذلك فقال: ((هذه المسألة
من أمَّهات مسائل المذهب وقواعده، والعجب من المصنف كيف لم
يَهْتبل بها، ولم يحرِّر النقل فيها مع كثرة تدقيقه وتحريره
واهتباله بقواعد المذهب، وقد اشتهر بين النظار أن إجماع أهل
المدينة عند مالك رحمه الله
تعالى)) (8) .
كما أن الإمام القرافي أورد بعض مسائل أصولية مع بيان مذاهب
القائلين فيها، وتجده في الوقت نفسه يُعْرض عن إبداء رأي
المالكية فيها، مع أن الكتاب برُمَّته تأسَّس لبيان أصول
المالكية.
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 158، 421.
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 93.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 447.
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 371.
(5) انظر على سبيل المثال الصفحات: 40، 100 - 101، 185، 290 -
291، 317، 389،
441 - 442 من القسم التحقيقي.
(6) انظر: الذخيرة 1 / 39.
(7) انظر: ص 134 من القسم الدراسي.
(8) التوضيح شرح التنقيح لحلولو ص 284.
(1/166)
من أمثلة ذلك: مسألة الإجماع السكوتي (1) ،
حتى قال صاحب نشر البنود:
((ولا أدري لِمَ لمْ يَعْزُ قولاً من تلك الأقوال لأهل المذهب،
مع أن كتابه موضوع بالذات لبيان أصول مالك، ومع أن أهل المذهب
لابد أن يقولوا ببعض هذه الأقوال اتفاقاً أو اختلافاً، والخلاف
في ذلك معروف في المذهب. . .)) (2) .
ومن الأمثلة أيضاً: مسألة نقل الخبر بالمعنى (3) . وربما كان
السبب في عدم التصريح برأي المذهب في بعض المسائل موافقة
المالكية لتلك الأصول، فإن التقارب المنهجي ظاهر وواضح فيما
بينها.
خامساً: الترتيب والتسلسل.
جاء الكتاب في الجملة منتظم الفصول والأبواب، مرتب المسائل
والأبحاث، وقد سبق الكلام عن هذه الميزة في المبحث الرابع من
هذا الفصل (4) .
لكن في مواطن قليلة ربما اعترى الكتابَ اختلالٌ في تنظيم
مادته، ولم يراعِ المصنف التسلسل المنطقي في التقاسيم
والتراتيب. فمن ذلك:
(1) في الفصل الثالث: الناسخ والمنسوخ، قَسَّم النسخ إلى: نسخ
الكتاب بالكتاب والمتواتر بالمتواتر، والآحاد بالآحاد، ثم ذكر
نسخ الآحاد بالكتاب والآحاد بالمتواتر ثم انتقل إلى نسخ الكتاب
بالآحاد، وعاد مرة أخرى إلى نسخ السنة بالكتاب ثم تكلم عن نسخ
الكتاب بالسنة المتواترة (5) . . . إلخ، فأنت تجد تشويشاً في
الترتيب والتقسيم. ولكني وقفْتُ على تقسيمٍ بديعٍ، وترتيبٍ
رائعٍ لهذه الأقسام عند الطوفي في شرح مختصر الروضة (2 / 329)
، فليُطالَعْ ثمَّة.
(2) بحث مسألة حكم انعقاد الإجماع في عصر النبي - صلى الله
عليه وسلم - في باب النسخ، عند مسألة " الإجماع لا يُنسخ ولا
يُنسخ به " (6) ، مع أن موطنها الطبيعي أن تكون في باب
الإجماع، كما أن المصنف لم يُشِرْ إليها هناك.
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 142 - 143.
(2) نشر البنود للعلوي الشنقيطي 2 / 94.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 292 - 293.
(4) انظر: ص 88 من القسم الدراسي.
(5) انظر: القسم التحقيقي ص 82 - 90.
(6) انظر: القسم التحقيقي ص 93 وما بعدها.
(1/167)
(3) بحث مسألة وقوع الإجماع في العقليات
عند شرحه لحدِّ الإجماع (1) ، مع أن محلّها في الفصل الخامس:
في المجمع عليه (2) .
(4) ذكر قاعدة في التعارضات في الباب العشرين: أدلة المجتهدين
(3) ، بينما مكانها اللائق بها في باب التعارض والترجيح (4) ؟.
(5) بحث مسألة التعليل بالمحلِّ (5) قبل مسألة التعليل بالعلة
القاصرة (6) ، مع أن الأُولى فرع الثانية، فكيف يُقدَّم الفرع
ويؤخَّر الأصل؟! وهذا اضطرَّ المصنف أن يُحيْل استيفاء بحث
الأولى في اللاحق لها.
(6) خرج عن الترتيب المعهود عند الأصوليين في: " تعريف النظر
". إذ عرَّفه في باب الاجتهاد (7) ، بينما مألوف الأصوليين
جَعْله في افتتاحيَّات كتبهم.
(7) ينتقل المصنف في شرحه للمتن من مسألة إلى أخرى دون أن يشعر
القاريء بانتقاله إلى مسألة جديدة (8) ، مما اضطرَّني إلى وضع
عناوين فاصلة بين ما سبق شرحه، وما سيشرحه بعد ذلك.
سادساً: الشرح والعبارات
بالرغم من وضوح عبارات الكتاب، واستقامة تعبيراته، في الأعم
الأغلب لكن لمست بعض الملاحظات في هذا الصدد. فمن ذلك:
(1) الغموض والإخلال.
أ - في مبحث كيفية رواية غير الصحابي ومراتبها، ذكر سابعها:
وهي المناولة المقرونة بالإجازة (9) . لكنه أتى بهذه العبارة
مجتزأة من المحصول (4 / 453) مع أنها
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 120، 121.
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 182.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 519 وما بعدها.
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 402.
(5) انظر: القسم التحقيقي ص 367.
(6) انظر: القسم التحقيقي ص 378.
(7) انظر: ص (437) من القسم التحقيقي.
(8) انظر على سبيل المثال: ص 6، ص 8، ص 9.
(9) انظر: القسم التحقيقي ص 282 هامش (9) .
(1/168)
أصلٌ لعبارة المصنف، وعبارة المصنف فرع
لها. وكذلك فعل في المرتبة الثامنة: وهي الإجازة (1) . فذِكْرُ
التفريع والترتيب على الأصل دون سابق معرفة بالعبارة الأساس أو
الأصل يوقع القاريء في ارتباكٍ واضطرابٍ.
ب - نتيجة لشدة الاختصار وقع في إخلالٍ بالمعاني المتضمنة، كما
في قوله في باب الخبر ((وإن كان المباشر، فيكون المخبر عنه
محسوساً)) (2) .
وكذلك صارت العبارة مختلَّةً بسبب شدة الاختصار من المحصول (5
/ 410 - 412) في مسألة تعارض الدليلين، إذا كان أحدهما عاماً
من وجه وخاصاً من وجه، والآخر عكسه (3) .
جـ - قال في الفصل الثالث من باب النسخ (المتن فقط) : ((يجوز
عندنا نسخ الكتاب بالكتاب وعند الأكثرين. والسنة المتواترة
بمثلها. والآحاد بمثلها، وبالكتاب والسنة المتواترة إجماعاً))
فقوله: ((إجماعاً)) لم يشرحْه المصنف مبيِّناً إلامَ يرجع؟!
مما حَيَّر الشرَّاح الآخرين، فحُلُولو أرجعه إلى نسخ الآحاد
بالكتاب والآحاد بالمتواتر، والشوشاوي أرجعه إلى نسخ الآحاد
بالآحاد، والآحاد بالكتاب، والآحاد بالمتواتر (4) .
(2) الركاكة في التعبير.
ظهرت لي ركاكةٌ في بعض تعبيرات الكتاب، ربَّما كان الأولى أن
يُعبَّر عنها بعباراتٍ أخرى. وقد تبدو هذه العبارات والتراكيب
مستقيمة من وجهة نظر قاريءٍ آخر، لكني هنا أُعبِّر عن رؤيتي
ووجهة نظري. فمن ذلك:
أ - قال: ((فلا تأمنه في الشهادة على الكذب فيها)) (5) .
والأحسن لو قال:
((فلا تأمنه على الكذب في الشهادة)) . والله أعلم.
ب - قال: ((حجة الفريق الآخر: أنا نعلم بالضرورة أن المخبرين
إذا
توهَّم السامع أنهم متَّهَمون فيما أخبروا به لا يحصل له
العلم. . .)) (6) . والأفضل لو
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 283 هامش (1) .
(2) انظر: التعليق (6) ص (207) من القسم التحقيقي.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 414 هامش (6) .
(4) انظر المسألة والإحالات عليها في ص 82 - 83، وهامش (5) من
ص 83 من القسم التحقيقي.
(5) انظر: القسم التحقيقي ص 234.
(6) انظر: القسم التحقيقي ص 202.
(1/169)
قال: ((حجة الفريق الآخر: أنا نعلم
بالضرورة أن السامع إذا توهم أن المخبرين متَّهمون. . .)) .
جـ - قال: ((وقال القاضي أبو بكر رحمه الله: العقليات قسمان:
ما يخلُّ الجهلُ به بصحة الإجماع، والعلم به كالتوحيد والنبوة
ونحوهما، فلا يثبت بالإجماع، وإلا جاز ثبوته بالإجماع، كجواز
رؤية الله تعالى. . .)) (1) . قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور
بإزاء هذه العبارة ((والظاهر أن العبارة حُرِّفت)) (2) .
د - قال: ((قال جماهير الفقهاء والمعتزلة: يجب اتباعه - صلى
الله عليه وسلم - في فعله، إذا علم وجهه وجب اتباعه في ذلك
الوجه. . .)) (3) . والعبارة الأسدُّ هي: ((قال جماهير الفقهاء
والمعتزلة: يجب اتباعه - صلى الله عليه وسلم - في فعله إذا علم
وجهه)) مع حذف ما بعده؛ لأنه تكرار مَحْض أوْرَثَ ركاكةً في
الجملة.
(3) الاستطرادات البعيدة.
وقع المصنف في استطرادات عما هو بصدد الكلام فيه، وهي وإن كانت
خارجة عن جادة الموضوع إلا أنها تحوي فوائد عظيمة، وما كثرة
هذه الاستطرادات المبثوثة في الكتاب إلا دليلٌ على الرُّكَام
المَعْرفيِّ الهائل عند القرافي الذي وجد طريقه للتنفيس فيها،
والحال أنها ظاهرة عَمَّتْ عصره. من هذه الاستطرادات:
أ - سؤال بعض الفضلاء له عن إشكالٍ حول التخيير يقتضي التسوية،
بينما الخمر واللَّبَن لا يستويان وقد خُيِّر النبي - صلى الله
عليه وسلم - بينهما يوم الإسراء، ثم جوابه عن هذا السؤال، وهذا
الاستطراد نبع من كلامه عن مسألةِ طريقةِ معرفةِ وَجْهِ فعله -
صلى الله عليه وسلم -، إما بالنص أو بالتخيير بينه وبين غيره.
. . إلخ (4) .
ب - لما تحدث القرافي عن سد الذرائع باعتباره أحد أدلة
المجتهدين، استطرد
فقال: ((تنبيه: ينقل عن مذهبنا أن من خواصه اعتبار العوائد،
والمصلحة المرسلة،
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 121.
(2) حاشية منهج التوضيح والتصحيح 2 / 95.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 10 السطر 3.
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 11، 13.
(1/170)
وسد الذرائع، وليس كذلك. . .)) (1) . وهذا
الاستطراد مقبول؛ لأنه في محله. لكنه استرسل فتكلَّم عما
شُنِّع على الإمام مالك - رحمه الله - في مخالفته للحديث، وأنه
خالفه لمعارضٍ أرجح (2) ، وهذا لا تعلُّق له بموضوع المسألة،
ولا جامع بينهما إلا ذِكْر التشْنيع على الإمام مالك رحمه الله
تعالى.
جـ - لما سَجَّل مذهب أبي مسلم الأصفهاني في إنكاره نسخ القرآن
(3) استطرد فذكر فائدةً عن اسمه وكنيته، وهذا الاستطراد خارج
عن جادَّة الموضوع (4) .
د - لما بحث في العدالة - وهي شرط في صحة الرواية - استطرد
فبحث حَدَّ الكبيرة والصغيرة. وليس بحثهما من متعلِّقات البحث
الأصولي، ولكن اشتدَّ استطراده بدرجةٍ بعيدةٍ حينما أخذ يبحث
عن ضابطِ الإصرار الذي يُصِّير الصغيرةَ كبيرة (5) .
(4) التكرار والإعادة.
وقع في الكتاب تكرار لبعض مباحثه ومسائله وقواعده، وهذا المأخذ
وإن كان يَشِين التآليف، لكن يبدو أنه هدف مقصود للمصنف، فإن
مما اتَّسم به منهجه التكرارُ في بعض مواضع الكتاب.
وهذه الظاهرة فاشية في أغلب تآليفه عليه رحمة الله، ولهذا نجده
يعلِّل هذا المسلك بأن المقام الذي ورد فيه تكرار محتاجٌ إلى
ذلك؛ ليرتِّب عليه أحكاماً معينة، كما أن في التكرار مزيدَ
توضيحٍ للواقف عليه؛ بسبب تغيير العبارة أو زيادة الألفاظ (6)
.
وإليك تمثيلاً لبعض ما تكرر في الكتاب:
أ - مسألة الإجماع في العقليات، تكررت في: ص 120 - 121، 182.
ب - مسألة إحداث قول ثالث إذا أجمعت الأمة على قولين، جاءت في:
ص 129، وفي: ص 134.
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 503 - 504.
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 507.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 61.
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 64.
(5) انظر: القسم التحقيقي ص 230 - 233.
(6) انظر: كتابه العقد المنظوم في الخصوص والعموم 2 / 257.
(1/171)
جـ - مسألة إجماع أهل الكوفة، وردت في باب
الإجماع، ص 155، وفي باب: أدلة المجتهدين ص 519.
د - مسألة وقوع النسخ في القرآن عند أبي مسلم الأصفهاني، ذكرها
في:
ص 50، 61، 82.
هـ - مسألة القياس في الدنيويات ذكرها في الشرح، ص 311، ثم
ذكرها بعد ذلك في المتن ص 312.
ومسألة تنقيح المناط، بحثها في: ص 314، وكذلك في ص 348.
ز - مسألة التقليد في أصول الدين، بحثها في: ص 441، وفي ص 487.
حـ - مسألة حكم الأشياء قبل ورود السمع، تكررت في: ص 88
(المطبوع) ، 92 (المطبوع) ، 403، 500.
ط - قاعدة نقض قضاء الحاكم إذا خالف الإجماع أو النص الصريح أو
القياس الجلي أو القواعد، جاءت في: ص 238، 447، 479.
(5) عدم إيضاح ما ذكر أنه " ظاهر "
يشير القرافي أحياناً في كتابه إلى ظهور القول، أو أن كذا وكذا
ظاهر، أو أنه ضعيف دون أن يبين للقاريء وجه ظهوره أو تضعيفه.
فمن ذلك:
أ - قال: ((وأما وجه الفرق بين الجلية والخفية فظاهر مما
تقدم)) (1) .
ب - قال: ((وضعَّفه الإمام)) (2) .
جـ - قال: ((لأنا إن قلنا: كل مجتهد مصيب فظاهر)) (3) .
د - قال عند تعداد مسالك العلة: ((فالأول: النص على العلة، وهو
ظاهر)) (4) .
(6) صور من التناقض والتضارب.
وقع المصنف فيما يبدو أنه تناقض في بعض المسائل. من ذلك:
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 175.
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 116.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 303.
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 320.
(1/172)
أ - مسالة تفاوت العلوم: مرةً يذكر عدم
التفاوت بينها (1) ، وفي موضع آخر يفيد كلامُه حصولَ التفاوت
(2) .
ب - حكى الإجماع على أن العامي له أن يقلد من شاء بغير حَجْر
في موضع (3) ، وفي موضع آخر حكى خلافاً بين العلماء في العامي
من يقلد إذا اختلف العلماء عليه أيقلِّد أيهما شاء أم يتحرَّى
(4) ؟
سابعاً: مآخذ لغوية.
وقع المصنف - رحمه الله - على جلالة قدره وغزارة علمه في بعض
أخطاء نحوية ولغوية، وهي وإن كانت قليلة لكنها لا تليق بمكانة
القرافي الرفيعة، ولاسيما أن له اهتماماً كبيراً ومشاركة واضحة
في اللغة هذا إن صحتْ نسبتها إليه، ولعل هذه المؤاخذات لها
أوجهٌ أخرى من اللغة لم أقفْ عليها، فيكون الصواب معه فيها، أو
تكون من خطأ النسَّاخ، أو لم يتمكَّن المصنف من مراجعة كتابه
بعد تسويده، والله أعلم. فمن الأمثلة على ذلك:
(1) حذف الفاء في جواب " أما " الشرطية، والواجب اقتران جوابها
بها،
ولا يكاد يعرى عنها إلا لضرورة أو نُدْرة.
قال ابن مالك في ألفيته:
أمَّا كَمَهْمَا يَكُ مِنْ شيءٍ وفَا لِتِلْو تِلْوِها
وُجُوباً أُلِفَا (5)
وكتاب القرافي جاء فيه خلاف هذه القاعدة ولا ضرورة مُلْجئة إلى
ذلك، مثال ذلك:
أ - قال في المتن: ((وأما ترجيح المتن قال الباجي. . .)) (6) .
والصواب: فقال الباجي.
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 411 هامش (9) .
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 266 - 267.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 448 هامش (6) .
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 482 - 483 وهامش (3) ص 481.
(5) انظر: شرح الأشموني على ألفية ابن مالك بحاشية الصبان 4 /
62، مغني اللبيب لابن هشام 1 / 120.
(6) انظر: القسم التحقيقي ص 424.
(1/173)
ب - قال: ((أما الستة ثلاثة وثلاثة)) (1) .
والصواب: فثلاثة وثلاثة.
جـ - قال: ((أما الموقوف على بعض الصحابة يقوله من قبل نفسه
... )) (2) . والصواب: فيقوله ... إلخ.
(2) عبَّر القرافي بقوله: ((ويقال: إنها نيِّفٌ وعشرون آية))
(3) . والصواب: ألا يقال " نيِّف " إلا بعد عَقْدٍ، فيقال:
عشرون ونيِّف، مائة ونيِّف. والله أعلم.
(3) قال ((حجة الجمهور: أنَّا نجد العلم التواتري [حاصل]
للصبيان والنسوان ومن ليس له أهلية النظر)) (4) .
ومحلُّ النظر كلمة " حاصل " فإن رسمها على هذه الصورة لستُ
أعلم له وجهاً سليماً، فالصواب أن تكون " حاصلاً " على أنها
مفعول ثانٍ للفعل " نجد ".
قال الحريري في ملحة الإعراب (5) :
لكنَّ فِعْلَ الشَّكِ واليَقِينِ يَنْصِبُ مَفْعولين في
التَّلْقِينِ
تقولُ: قدْ خِلْتُ الهِلالَ لائِحا وقدْ وَجدْتُ المُسْتَشَارَ
ناصِحَا
ولا أظنُّها تُحمل على لغة ربيعة في حذف الألف من المُنَوَّن
المنصوب حملاً له على صورة المنوَّن المرفوع والمجرور؛
فيقولون: رأيتُ زيدْ، والسبب في عدم هذا الحَمْل أن حذف ألف
التنوين إنما يكون عند الوقف، ولا وقْف هنا (6) .
قال ابن مالك في الألفية (7) :
تَنْويناً اثرَ فَتْحٍ اجْعَلْ ألِفَا وَقْفَاً وَتِلْوَ
غَيْرِ فَتْحٍ احْذِفَا
ثامناً: أوهام علمية.
وقع المصنف عليه الرحمة والمغفرة في أوهامٍ علمية متنوعة، منها
ما يتصل بالعقيدة وبالأسماء، وبالتمثيل، وبغير ذلك، وقد تمَّ
التنبيه عليها في مواضعها. بعض
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 103.
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 419.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 52 هامش (2) .
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 202.
(5) شرح ملحة الإعراب للحريري ص 162.
(6) انظر: شرح المفصل لابن يعيش 9 / 69، همع الهوامع للسيوطي 3
/ 386.
(7) انظر: حاشية الصبان على شرح الأشموني على ألفية ابن مالك 4
/ 286.
(1/174)
هذه الملاحظات قابل للأخذ والردِّ، وقد
يكون الصواب فيها مع القرافي، وبعضها يُعدُّ هفوةً أو زلةً
صدرتْ بسبب وَهْمٍ بشري أو غفلةٍ إنسانية. ويمكن تلخيص هذه
الأوهام فيما يلي:
(
1) قوله في كلام الله تعالى بالكلام النفسي تمشِّياً مع معتقده
الأشعري، وهذا مخالف لمعتقد أهل السنة والجماعة السلف الصالح
(1) .
(2) تجويزه خُلوَّ حكمِ الله عن علَّةٍ بحجة أنه سبحانه وتعالى
يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد، وهذا التجويز ناشيء عن اعتقاد
الأشاعرة بأن الله خَلَق الخَلْق وأمر ونهى لا لعلةٍ ولا باعث،
بل فعل ذلك لمحْضِ المشيئة، وصِرْف الإرادة. وأهل السنة
والجماعة يثبتون الحكمة والتعليل في خلقه سبحانه وتعالى، وفي
أمره (2) .
(3) قوله بأن أول واجب على المكلف هو النظر، وهذا مذهب
الأشعرية في الجملة، أما أهل السنة والجماعة فيقرِّرون بأن
الواجب الأول على المكلف هو الشهادتان (3) .
(4) يؤاخذ القرافي على تعبيره بأهل السنة في مقابلة رأي غيرهم،
وهم: أحمد بن حنبل، وسفيان الثوري، وإسحاق بن راهويه، وهؤلاء
هم أساطين أهل السنة (4) .
(5) قوله بأن الكافر يُكْره على الإسلام بالسيف إن لم يقبل
دعوة الإسلام مختاراً، مع أن الله تعالى يقول: {لاَ إِكْرَاهَ
فِي الدِّينِ} [البقرة: 256] .
(6) قال: ((كقتل الكفار لمحو الكفر من قلوبهم)) (5) . ولست
أدري كيف يُمْحى الكفر من القلب بالقتل؟! إلا أن يكون قتل
بعضهم سبباً في إسلام غيرهم.
(7) قوله بنسخ آيات الموادعة بآية السيف، وهو قولٌ لبعض
العلماء، والصواب أنها محكمة؛ لأن من شرط النسخ التعارض، ولا
تعارض (6) .
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 47، هامش (6) .
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 364 هامش (1) . وانظر: كتاب
المسائل المشتركة بين أصول الفقه وأصول الدين د. محمد العروسي
عبد القادر ص 271 - 286.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 472 هامش (5) .
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 485 هامش (8) وما بعدها.
(5) انظر: القسم التحقيقي ص 536 وهامش (1) .
(6) انظر: القسم التحقيقي ص 51، وانظر هامش (1) ص 53.
(1/175)
(
8) قوله بأن الذبيح هو إسحاق عليه السلام، وهو رأي لبعض
العلماء، لكن الذي عليه الأكثر من الصحابة والتابعين والعلماء
أنه إسماعيل عليه السلام، ولعل الرأي القائل بأنه إسحاق عليه
السلام تسلَّل من الإسرائيليات. والله أعلم (1) .
(9) قوله بأن لقاء أبي حازم سلمة بن دينار لابن شهاب الزهري
كان في مجلس هارون الرشيد. وهذا خطأ لا يصححه التاريخ، فإن كلا
العالمين ماتا قبل مولد هارون الرشيد رحمهم الله. ولعلَّ
المصنف قلَّد غيره من المؤرخين أو وقع منه ذلك سهواً (2) .
(10) فسَّر حُسْن النَّسَق بفصاحة اللفظ، وهذا وهم، وغير مراد،
ومخالف لتفسير الباجي الذي نقله عنه. وهذا التفسير أوقع المصنف
في تكرارٍ خاطيء (3) .
(11) أخطأ في التمثيل لما ينافي الدليل القاطع بمن يقول: الشمس
ليست طالعة، وهي طالعة. وهذا مخالف لتمثيل الغزالي الذي اختصر
المصنف كلامه في هذا الموضع (4) .
(12) مع دقته المعهودة، لكن كانت تغيب عنه هذه الدقة أحياناً،
مثل تعبيره عن مسألة " الأخذ بأقل ما قيل " بقوله: ((الأخذ
بالأخف)) (5) ، إلا أن يكون هذا اصطلاحاً خاصاً به.
(13) ادعاؤه بأن قول الشافعي: ((إذا صحَّ الحديث فهو مذهبي))
ليس من خصوصيات الإمام الشافعي رحمه الله، ولكن تقي الدين
السبكي عارضه في ذلك، ودلَّل على أنها من خصوصياته (6) .
(14) وقع منه خَلْط بين المرتبة الثالثة والمرتبة الرابعة من
مراتب رواية الصحابي لحديث النبي - صلى الله عليه وسلم - (7) .
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 49 هامش (1) .
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 216 - 217.
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 420 هامش (3) ، ص 425.
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 214 هامش (5) .
(5) انظر: القسم التحقيقي ص 516 هامش (1) .
(6) انظر: القسم التحقيقي ص 508 هامش (7) .
(7) انظر: القسم التحقيقي ص 271 هامش (10) .
(1/176)
(15) وَهْمه في نسبة بيت الشعر:
بلادٌ بها نِيْطَتْ عَليَّ تَمَائِمي وأولُ أرضٍ مسَّ جِلْدِي
تُرَابُها
لأبي تمَّام، والواقع أنه ليس له (1) .
(16) انقلب عليه مذهب ابن عُلَيَّة في الشرح، إذ قال عنه بأنه
أوجب جلسة التشهد الأولى قياساً على الثانية، وحقيقة مذهبه ما
قرره المصنف نفسه في المتن برد حكم الجلسة الثانية إلى الأولى
(2) .
(17) وقع تحريف في بعض أسماء الأعلام في الكتاب، كقوله عن "
الحَصْكَفي " بأنه " الحَسْكَفي " (3) . ونقل عن الشيرازي أن
اسم أبي مسلم الأصفهاني: " عمرو بن يحيى "، والصواب أنه " محمد
بن بحر " (4) .
تلكم هي أهم المؤاخذات على الكتاب، وهي مجرد سَنَحاتٍ وخواطر
تراءت لي في تضاعيف تحقيق الكتاب، اقتضت طبيعة البحث مني
تسجيلَها وتقييدَها، عائذاً بالله من التعاظم والتطاول، وهي
ليست أحكاماً نهائية، فإن إصدار الأحكام على كتب العلماء
الأفذاذ المهرة ذي الشهرة يستلزم مؤهلاتٍ خاصة، وكفاءاتٍ
نادرة، لا يحظى بها سوى العلماء.
((ولا يمكن جعل هذه المآخذ ذريعةً إلى ترك الصواب الجمِّ، ولا
أستحل وَصْم المصنف بارتكاب الذمِّ، والذَّنْب الواحد لا
يُهْجر له الحبيب، والروضة الحسناء لا تُتْرك لموضع قَبْرٍ
جديب، والحسنات يذهبن السيئات، ولو ذهبنا نترك كل كتاب وقع فيه
غَلَط، أو فَرَط من مصنفه سَهْو أو سَقَط، لضاق علينا المجال،
وجَحَدْنا فضائل الرجال.
ولقد نفع الله الأمة بكتب طارت كل المطار، وجازتْ أجواز (5)
الفلوات وأثْبَاج (6) البحار، وما فيها إلا ما وقع فيه عَيْب،
وعُرِف منه غَلَطٌ بغير شكٍّ
ولا رَيْب، لكن لم يجعله الناس سبباً لرَفْضها وهَجْرها، ولا
توقفوا عن الاستضاءة بأنوار الهدية من أفق فَجْرها)) (7) .
_________
(1) انظر: القسم التحقيقي ص 315.
(2) انظر: القسم التحقيقي ص 337، وكذلك ص 340 هامش (9) .
(3) انظر: القسم التحقيقي ص 317 هامش (4) .
(4) انظر: القسم التحقيقي ص 64 هامش (2) .
(5) جمع " جَوْز " وهو وسط الشيء ومعظمه. المعجم الوسيط مادة "
جوز ".
(6) جمع " ثَبَج " وهو وسط الشيء إذا تجمَّع وبَرَز. المعجم
الوسيط مادة " ثبج ".
(7) من كلام ابن دقيق العيد رحمه الله، كما في طبقات الشافعية
الكبرى لابن السبكي 9 / 236.
(1/177)
|