جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول

الباب الثالث عشر
في فِعْله صلى الله عليه وسلم (1)
وفيه ثلاثة فصول:
الفصل الأول
في دلالة فعله صلى الله عليه وسلم
ص: إنْ كان بياناً (2) لمُجْملٍ (3) فحكمه حُكْمُ ذلك المجمل: في الوجوبِ، أوالنَّدْبِ، أو الإباحةِ (4) .
وإن لم يكن بياناً وفيه قُرْبةٌ: فهو عند مَالِكٍ (5) رحمه الله
والأَبْهَرِيِّ (6)
_________
(1) قسَّم بعض الأصوليين أفعال النبي صلى الله عليه وسلم إلى أنواعٍ منها: الفعل الجِبِلِّي، والعادي، والدنيوي، والمُعْجِز، والخاصّ به، والبياني، والامتثالي، والمتعدِّي، والفعل المجرد الذي لم يقترن بشيءٍ مما سبق ذكره. ولكلِّ نوع من هذه الأنواع دلالة على الأحكام. انظر: المحقَّق من علم الأصول فيما يتعلق بأفعال الرسول صلى الله عليه وسلم لأبي شَامَة المَقْدِسي ص 40 - 45، البحر المحيط للزَّرْكشي 6 / 24 - 29. أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم ودلالتها على الأحكام الشرعية، د. محمد سليمان الأشقر 1 / 215.
(2) البيان لغة: الظهور والوضوح. انظر مادة " بين " في: مختار الصحاح لأبي بكر الرازي. وفي الاصطلاح: عُرِّف بأنه: الدليل. وعُرِّف بأنه: إخراج الشيء عن حيِّز الإشكال إلى حيِّز الوضوح والتجلِّي. وله تعريفات أخر. انظر: قواطع الأدلة لأبي المظفر السمعاني 2 / 55، الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 3 / 25، مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص 328.
(3) المجمل لغة: المجموع، اسم مفعول من أجْمل. انظر مادة " جمل " في: لسان العرب لابن منظور. واصطلاحاً: هو اللفظ المتردد بين احتمالين فأكثر على السواء. انظر: شرح تنقيح الفصول للمصنف ص37، 274 (المطبوع) .
(4) حكم هذا القسم حُكي فيه الاتفاق. انظر: الإحكام في أصول الأحكام للآمدي 2 / 173، منتهى السول والأمل لابن الحاجب ص 48، المحقق من علم الأصول لأبي شامة ص 57، بديع النظام (نهاية الوصول) لابن الساعاتي 1 / 257، أصول الفقه لابن مفلح 1 / 329 - 333، رفع النقاب عن تنقيح الشهاب للشوشاوي (رسالة ماجستير بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية بالرياض تحقيق الشيخ / عبد الرحمن بن عبد الله الجبرين) القسم الثاني ص 314.
(5) انظر النسبة إليه في: المقدمة في الأصول لابن القصَّار ص 61، إحكام الفصول في أحكام الأصول للباجي ص 310، مفتاح الوصول إلى بناء الفروع على الأصول للشريف التلمساني ص 569، وعليه أكثر المالكية. انظر: الضياء اللامع شرح جمع الجوامع لحلولو 2 / 129.
(6) انظر النسبة إليه في: إحكام الفصول ص 310، تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السول للرَّهُوني
(
رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى بمكة تحقيق / الهادي شبيلي) القسم الأول ص 444. أمَّا ترجمته فهو: محمد بن عبد الله بن محمد بن صالح التميمي، المعروف بأبي بكر الأَبْهَرِي ـ نسبة إلى أَبْهَر: مدينة مشهورة في أذربيجان ـ رئيس المالكية ببغداد، وإمام في القراءات والفقه، من تلاميذه القاضيان الباقلاني وعبد الوهاب. من تآليفه: " كتاب الأصول "، "إجماع أهل المدينة". ت 375هـ وقيل 395هـ. انظر: ترتيب المدارك للقاضي عياض 4/466، الديباج المُذهَب لابن فرحون ص351، سير أعلام النبلاء للذهبي 16 / 332.

(2/2)


وابن القَصَّار (1) والباَجِيِّ (2) وبعضِ الشافعية (3)
للوجوب، وعند الشَّافعي رحمه الله للندب (4) ،
وعند القاضي أبي
_________
(1) انظر: المقدمة في الأصول له ص 61 - 64.
أما ترجمته فهو: علي بن عمر بن أحمد البغدادي القاضي أبوالحسن، المعروف بابن القَصَّار، من كبار علماء المالكية، ولي قضاء بغداد، له كتاب لا يُعرف للمالكية كتابٌ في الخلاف أكبر منه، وهو "عيون الأدلة وإيضاح الملة في مسائل الخلاف ". ت397هـ. انظر: ترتيب المدارك 4/602، الديباج المذهب ص296، سير أعلام النبلاء 17 / 107، وله كتاب " المقدمة في الأصول " مطبوع بطبعتين.
(2) انظر: إحكام الفصول ص 310، الإشارة في معرفة الأصول للباجي ص 226 - 228. أما ترجمته
فهو: سليمان بن خَلَف التُّجِيْبيّ ـ نسبة إلى تُجِيْب: قبيلة من كِنْدة ـ المعروف بأبي الوليد الباجِي، نسبة إلى بَاجَة بالأندلس. من كبار المالكية، أخذ عن علماء المشرق والمغرب، له مناظرات مع ابن حزم، وله مؤلَّفات نافعة في الأصول وغيره، منها: " إحكام الفصول في أحكام الأصول " (ط) ، " الإشارة في أصول الفقه " (ط) ، " المنهاج في ترتيب الحجاج " (ط) ، " الحدود " (ط) ، " المنتقى شرح الموطأ " (ط) وغيرها.
ت 474هـ. انظر: ترتيب المدارك 4/802، الديباج المذهب ص197، سير أعلام النبلاء 18/535.
(3) انظر: شرح اللمع للشيرازي 1/546، نهاية الوصول في دراية الأصول لصفي الدين الهندي 5/2121، الإبهاج في شرح المنهاج للسبكي وابنه 2 / 265.

والقول بالوجوب رواية عن الإمام أحمد عليها أكثر أصحابه. انظر: العدة في أصول الفقه للقاضي أبي يعلى 3 / 735، الواضح في أصول الفقه لابن عقيل الحنبلي 2 / 22، 4 / 126، شرح الكوكب المنير لابن النجار الفتوحي 2 / 187.
(4) نسبه إليه كثير من الأصوليين كما في: البرهان في أصول الفقه للجويني 1 / 322، المحصول في علم أصول الفقه للرازي 3 / 210، نهاية السول في شرح منهاج الأصول للإسنوي 3 / 21، تشنيف المسامع بجمع الجوامع للزركشي 2 / 910. لكن أبا المظفَّر السمعاني ذكر بأن الأشبه بمذهب الشافعي هو الوجوب. انظر: قواطع الأدلة له 2 / 177.

والقول بالندب هو للظاهرية. انظر: الإحكام في أصول الأحكام لابن حزم 1 / 458، وهو اختيار ابن المُنْتَاب وابن العربي والشريف التلمساني من المالكية. انظر: إحكام الفصول ص 310، المحصول في علم الأصول لابن العربي (رسالة ماجستير بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة تحقيق / عبد اللطيف الحمد) ص 469، مفتاح الوصول ص 570. وهو الرواية الثانية عن الإمام أحمد، انظر: المسودة لآل ابن تيمية ص 187.

(2/3)


بَكْرٍ (1) منا (2) والإمام فخر الدين (3)
وأكثر المُعْتزلة (4) على الوقْف* (5) .
_________
(1) انظر النسبة إليه في: إحكام الفصول ص 310، الضياء اللامع 2 / 130. أما ترجمته فهو: محمد بن الطيِّب بن محمد البصري المعروف بالقاضي أبي بكر البَاقِلاَّنيّ، نسبةً إلى بيع البَاقِلاّ، انتهت إليه رئاسة المالكية في عصره، قيل: إنه شافعي، والصحيح أنه مالكي. وهو متكلم أَشْعري، وُصف بجودة الاستنباط وسرعة الجواب. من شيوخه: أبو بكر الأبهري وابن أبي زَيْد القَيْرواني، ومن تلاميذه: القاضي عبد الوهاب. ومن تصانيفه: في الأصول " التقريب والإرشاد " طبع منه ثلاثة أجزاء، وفي علم الكلام: التمهيد (ط) ، وفي علوم القرآن: إعجاز القرآن (ط) . ت 403 هـ. انظر: ترتيب المدارك 4 / 585، الديباج المذهب ص 363، سير أعلام النبلاء 17 / 190.
(2) ساقطة من متن هـ.
(3) الإمام الرازي قال بالوقف في كتابه: المحصول (3 / 230) ، لكنه اختار الوجوب في كتابه: المعالم في أصول الفقه ص 103، وكذلك في: المنتخب من المحصول (رسالة دكتوراه بجامعة الإمام بالرياض تحقيق/
عبد المُعِزِّ حريز) ص 302. أما ترجمته فهو: أبو عبد الله محمد بن عمر بن الحسين التَّيمْي - نسبة إلى قبيلة من قبائل تَيْم - الرَّازِي - نسبة إلى الرَّيّ، المعروف بابن الخَطِيْب، فقيه شافعي، أصولي، مفسِّر، أشعري، فيلسوف، إمام وقته في العلوم العقلية. له تصانيف عديدة منها، في الأصول: " المحصول " (ط) ،

و" المعالم " (ط) ، و" المنتخب " رسالة بجامعة الإمام، وفي التفسير: "مفاتيح الغيب " (ط) ويسمى بالتفسير الكبير. رجع في آخر حياته إلى عقيدة السلف، ت 606هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 8/81، سير أعلام النبلاء 21/500، وفيات الأعيان لابن خِلِّكان 4 / 248.
(4) انظر النسبة إليهم في: المعتمد 1 / 348، منهاج الوصول إلى معيار العقول في علم الأصول للمهدي أحمد ابن يحيى بن المرتضى (المعتزلي) ص 570، هداية العقول إلى غاية السُّؤْل في علم الأصول للحسين بن المنصور بالله القاسم بن محمد (المعتزلي) 1 / 462 - 463.
والمعتزلة: اسم فرقة ظهرت في القرن الثاني وسموا بذلك لاعتزال واصل بن عطاء (ت 131 هـ)
- مؤسِّسها - مجلس الحسن البصري (ت 110 هـ) . قوي أمرهم في عهد المأمون والمعتصم والواثق "198-232هـ" وحملوا الناس على الاعتقاد بخلق القرآن. من عقائدهم: نفي صفات الله تعالى، وأنه لا يُرى في الآخرة، وأنه لا يَخْلُقُ فِعْلَ العبد، ولهذا يسمون: قدريِّة، سلكوا منهجاً عقلياً بعيداً عن الكتاب والسنة وعقيدة السلف في الاعتقاد. وهم فِرَقٌ شتَّى. انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 1/235. التنبيه والردّ على أهل الأهواء والبدع للملطي ص 49، المعتزلة وأصولهم الخمسة وموقف أهل السنة منها تأليف: عواد المعتق ص 13 - 29.
(5) وممن قال بالوقف الصَّيْرفي، وابن فُوْرَك، والغزالي في: المستصفى (2/219) ، أما في كتابه " المنخول " ص (226) فقد قال بالندب. وهو رواية ثالثة عن الإمام أحمد اختارها أبوالخطاب في التمهيد 2/317. وانظر: الإحكام للآمدي 1/174، المحقق من علم الأصول لأبي شامة ص 67، البحر المحيط 6/31، شرح الكوكب المنير 2 / 188.
وفي المسألة قولان آخران لم يُذكرا وهما:

(2/4)


وأمَّا (1)
ما لا قُرْبة فيه كالأكل والشُّرْب واللِّباس (2) فهو عند الباجِيّ
للإباحة (3) ، وعند بعض أصحابنا (4) للندب (5) .
وأما إقْراره (6) صلى الله عليه وسلم [على الفعل] (7) فيدل على جوازه.

الشرح
البيان يُعدُّ كأنّه (8) منطوقٌ به في ذلك المُبيَّن، فبيانه صلى الله عليه وسلم للحجِّ الوارد في كتاب الله تعالى يُعَدُّ منطوقاً (9) به في آية الحج (10) ، كأنَّ الله تعالى قال: ولله على النَّاس حِجُّ البيت على هذه الصفة. وكذلك بيانه صلى الله عليه وسلم لآية الجمعة (11) فَعَلَها بخطبة وجماعة وجامع
_________
(1) أن فعله صلى الله عليه وسلم المجرد يدل على الإباحة نسبه الفخر الرازي (المحصول 3/230) ، الآمدي (الإحكام
1 / 174) إلى الإمام مالك. لكن قال القرافي: " الذي نقله المالكية في كتب الأصول والفروع عن مالك هو الوجوب - ثم قال - والفروع في المذهب مبنية عليه". نفائس الأصول 5 / 2318.
(
أنه يدل على الحَظْر ولا يعرف له قائلٌ معيَّن وإنما نُسِب إلى بعض من قال بأن الأصل في الأشياء قبل ورود السمعِ التحريمُ. ذكره الغزالي في المستصفى (2/220) وبناه الآمدي في الإحكام (1/174) على من يجوّز المعاصي على الأنبياء. قال أبو شامة: ((هذا قول رديء سخيف على أي الأصلين بُني)) المحقق من علم الأصول ص 72.
() ساقطة من س، ومتن هـ.
(2) ساقطة من س، ق، ومتن هـ.
(3) انظر: إحكام الفصول ص (309) ، وهذا القول هو الأشهر وعليه الأكثر. انظر: تحفة المسؤول للرهوني القسم 1 / 439، البحر المحيط للزركشي 6 / 23، شرح الكوكب المنير 2 / 178، فواتح الرحموت بشرح مسلّم الثبوت لعبد العلي الأنصاري الهندي 2 / 231.
(4) لم أقف على أسمائهم. انظر: إحكام الفصول ص 309، المحصول لابن العربي ص 469، نشر البنود على مراقي السعود للعلوي الشنقيطي 2 / 8. وانظر: المنخول ص228، البحر المحيط للزركشي 6/23.
(5) وقيل بامتناع الاتباع فيه. انظر: المحقق من علم الأصول لأبي شامة ص 45، شرح الكوكب المنير
2 / 179.
(6) الإقرار لغة: الاعتراف والإذعان، مصدر أقرَّ. انظر مادة " قرر " في: لسان العرب. وفي اصطلاح الأصوليين والمحدثين: ((أن يسكت النبي صلى الله عليه وسلم عن إنكار قولٍ قيل أو فعلٍ فُعل بين يديه أو في عصره - من غير كافر - وعلم به، مع عدم الموانع)) . انظر: شرح اللُّمع للشيرازي 2/283 البحر المحيط للزركشي 6/54، شرح الكوكب المنير 3/194، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص 548، 555.
(7) ساقط من ق.
(8) في س: ((كونه)) وهو تحريف، لأن ما بعدها لم ينتصب بها.
(9) في ن: ((منطوق)) وهو خطأ نحوي؛ لعدم انتصابه على المفعولية.
(10) وهي قوله تعالى: {وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً} [آل عمران: 97] .
(11) وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ} [الجمعة: 9]

(2/5)


وغير ذلك، فصار معنى الآية (1) : يا أيها الذين آمنوا إذا نودى للصلاة - التي (2) هذا شأنها - من يوم الجمعة فاسعوا* إلى ذكر الله. وإذا كان البيان يُعدُّ منطوقاً (3) به في المبيَّن [كان حكمه حكم ذلك (4) المبيَّن] (5) : إن كان (6) واجباً فواجب، أو (7) مندوباً فمندوب، أو مباحاً فمباح.
أدلة القائلين بوجوب اتباعه صلى الله عليه وسلم إن لم يكن فعله بياناً وفيه قُرْبة
حجة الوجوب: القرآن، والإجماع، والمعقول.
أما القرآن: فقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} (8) والفعل [مأتيٌّ به] (9) فوجب أخذه؛ لأن ظاهر الأمر للوجوب.
وقوله تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي} (10) جعل تعالى اتباع نبيَّه من لوازم
[محبَّتِنا لله] (11) تعالى، ومحبَّتُنا لله تعالى واجبة، ولازم الواجب واجب، فاتباعه صلى الله عليه وسلم واجب (12) .
وقوله تعالى: {وَاتَّبِعُوهُ} (13) والأمر للوجوب.
_________
(1) في ق: ((آية الجمعة)) .
(2) ساقطة من ن.
(3) في ن: ((منطوق)) وهو خطأ نحوي؛ لعدم انتصابه على المفعولية.
(4) ساقطة من ق.
(5) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(6) ساقطة من س، ق.
(7) في ق: ((وإن)) وهو تكرار لا داعي له.
(8) الحشر، من الآية: 7.
(9) في س "ما يأتي". وهي غير موفية بالمراد، وفي ن: ((مما أتى به)) .
(10) آل عمران، من الآية: 31.
(11) في ن: ((محبة الله)) .
(12) انظر مزيداً من توضيح هذا الاستدلال في: نفائس الأصول 5 / 2320.
(13) هكذا في نسخة ش، جاءت في سياق قوله تعالى: { ... فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [الأعراف: 158] . وفي جميع النسخ الأخرى قوله تعالى {فاتبعوه} وهي من الآية (153) الأنعام، قال تعالى: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ} وكذا من الآية (155) الأنعام، قال تعالى: {وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ} الآية. والمثبت من نسخة (ش) أليق بالاستدلال؛ لأن عود الضمير عليه صلى الله عليه وسلم أولى من عوده على الصراط أو الكتاب. والله أعلم.

(2/6)


وأما الإجماع: فلأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين لما أخبرتهم عائشة رضي الله عنها بأنه صلى الله عليه وسلم اغتسل من التقاء الخِتَانَيْن (1) ، رجعوا إلى ذلك بعد اختلافهم، وذلك يدلُّ على أنَّه عندهم محمول على الوجوب. ولأنهم (2) واصلوا الصيام لمَّا (3) واصل (4) ،
وخلعوا نِعَالهم لمَّا (5) خلع صلى الله عليه وسلم (6) ، وكانوا شديدين الاتباعَ له صلى الله عليه وسلم في أفعاله.
وأما المعقول فمن وجهين:
الأول: أن فعله صلى الله عليه وسلم يجوز أن يكون المراد به الوجوب، ويجوز أن لا يكون، والاحتياط يقتضي حمله على الوجوب (7) .
_________
(1) حديث اختلاف الصحابة رضي الله عنهم في الغسل من التقاء الختانين واحتجاج عائشة رضي الله عنها بفعل النبي صلى الله عليه وسلم، انظره في: المصنّف لعبد الرازق 1/249، شرح معاني الآثار للطحاوي (1/58) ، كما ورد موقوفاً على عائشة رضي الله عنها قولها: ((إذا التقى الختانان فقد وجب الغسل ... )) . أخرجه النسائي (196) ، والترمذي (108) وقال: ((حسن صحيح)) ، وابن ماجه (608) وغيرهم، وصححه ابن كثير في كتابه: تحفة الطالب بمعرفة أحاديث مختصر ابن الحاجب ص 114، وانظر: المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر للزركشي ص 53، إرواء الغليل في تخريج أحاديث منار السبيل للألباني 1/121.
(2) في س: ((وأنهم)) .
(3) في ن: ((كما)) .
(4) في س: ((وصل)) . وحديث الوِصَال ورد بألفاظٍ مختلفةٍ من طرقٍ عِدَّةٍ في مصادر جَمَّةٍ. منها: ما رواه البخاري (1192) ومسلم (1102) عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم واصل، فواصل الناس فشقَّ عليهم، فنهاهم. قالوا: إنك تواصل. قال: ((لست كهيئتكم، إني أظَلُّ أطْعَم وأسْقَى)) . قال النووي في معنى الوصال:
((
هو صوم يومين فصاعداً من غير أكل أو شرب بينهما)) شرح صحيح مسلم (7/183) .
(5) في ق: ((كما)) .
(6) حديث خلع النعال من رواية أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: "بينما رسول صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه إذ خلع نعليه فوضعهما عن يساره، فلما رأى ذلك القوم ألقوا نعالهم، فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاته قال:» ما حملكم على إلقائكم نعالكم؟ «قالوا: رأيناك ألقيت نعليك فألقينا نعالنا. فقال رسول الله:» إن جبريل عليه السلام أتاني فأخبرني أن فيهما قَذراً، أو قال أذىً ... «الحديث. رواه الإمام أحمد (3/20، 92) ، وأبوداود (650) والحاكم (955) وقال: هذا حديث صحيح على شرط مسلم. ووافقه الذهبي. وصححه النووي في: المجموع شرح المهذب 30/140، والألباني في: إرواء الغليل 1/314.
(7) ذكر القرافي في نفائس الأصول (5/2322) بأن الاحتياط والرجحان تارة يكون في أفعال المكلفين، وتارة يكون في أدلة المجتهدين. ففي الأول: الاحتياط والرجحان يقتضي الندب. وفي الثاني: يقتضي الوجوب؛ لإجماع الأمة على أن المجتهد يجب عليه الفتيا بالراجح والعلم به. والاحتياط المذكور هنا هو احتياط في الدليل لا في الفعل.

(2/7)


الثاني: أن تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم واجب إجماعاً، والتزام مثل فعله صلى الله عليه وسلم - على سبيل الوجوب (1) - من تعظيمه، فيتعيَّن (2) .
دليل القائلين باستحباب اتباعه صلى الله عليه وسلم، إن لم يكن فعله بياناً وفيه قُرْبة
حجة الندب: أن الأدلة السابقة (3) دلَّتْ على رُجْحان الفعل (4) ، والأصل الذي هو براءة الذمة دلَّ (5) على عدم الحرج، فيُجْمع بين المُدْرَكَيْن (6) ، فيُحْمل على الندب.
وجوابه: أن ذلك الأصل ارتفع بظواهر الأوامر الدالَّة على الوجوب.
أدلة القائلين بالوقف ت
حجة الوقف: تعارض المدارك (7) .
ولأنه صلى الله عليه وسلم قد يفعل ما هو خاصٌّ به وما يَعُمُّه مع أمَّته، والأصل التوقف حتى يرد البيان (8) .
والجواب عن الأول: قد ذهب التعارض بما تقدَّم (9) من الجواب عن (10) أدلة الخصوم (11) .
وعن الثاني: أن الأصل استواؤه (12) صلى الله عليه وسلم مع أمته في الأحكام إلاّ ما دلّ الدليل عليه.
_________
(1) هنا زيادة ((له)) في ن خلت منها جميع النسخ.
(2) في س: ((فتعين)) .
(3) في ق: ((السالفة)) .
(4) أي الوجوب.
(5) ساقطة من ن.
(6) في ق: ((المَذْكُورَيْن)) .
(7) هذا الدليل الأول.
(8) هذا الدليل الثاني.
(9) وهو جوابه عن حجة القائلين بالندب الآنف الذكر.
(10) في ن: ((على)) . لم أعثر في المعاجم على تعدية الفعل ((أجاب)) بعلى، وإنما يتعدَّى بنفسه وبعن. انظر مادة " جوب " في: لسان العرب، وانظر: الأخطاء الشائعة في استعمالات حروف الجرّ د. محمود إسماعيل عمار ص 59.
(11) في ن: ((الخصوص)) وهو تحريف.
(12) في س: ((استواء)) .

(2/8)


حجة القائلين بأن أفعال النبي صلى الله عليه وسلم التي لا قُرْبة فيها أنها على الإباحة
حجة الإباحة فيما لا قُرْبة فيه: أن الأصل أن الطلب يتبع مصالح القربات، ولا قُرْبة، فلا مصلحة، فتعيَّنت الإباحة، لعصمته صلى الله عليه وسلم من المنهي (1) عنه، و (2) لأنه خلاف ظاهر حاله (3) .

حجة القائلين بأن أفعاله صلى الله عليه وسلم فيما لا قُرْبة فيها على الندب
حجة الندب: ظواهر الأوامر الدالة على جميع ما أتى به كما (4) تقدمت (5) .
إقرار النبي صلى الله عليه وسلم
ومثال إقراره صلى الله عليه وسلم الدالِّ على الجواز: أنه صلى الله عليه وسلم مَرَّ في مَخْرجه للهجرة برَاعٍ، فذهب أبو بكرٍ الصدِّيق رضي الله عنه فأتاه (6) منه بلَبَنٍ (7) ، فلم يُنْكِر (8) عليه، فدلَّ ذلك على جوازه، ولأنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بُعث والناسُ يأكلون أنواعاً من الملاذِّ من لحوم الأنعام، والفواكه، وغيرها، وكذلك المراكب [وغيرها] (9) ولم ينكرها صلى الله عليه وسلم، فدلَّ ذلك على إباحتها إلاَّ ما دلَّ الدليل على مَنْعه (10) .
_________
(1) في ق: ((النهي)) .
(2) في ق: ((أو)) بدلاً من ((و)) ، وفي ن: ((أولاً و)) .
(3) توضيح هذه الحجة هو: أن طلب الشارع لشيءٍ ما - سواء طلباً جازماً فيكون واجباً، أو غير جازمٍ فيكون مندوباً - إنما يحصل حيث وجدت القربات، وأفعاله صلى الله عليه وسلم كالأكل والشرب ليست قربة، فلا تكون مطلوبة، وهي ليست منهياً عنها أيضاً لعصمته، ولأنه خلاف ظاهر حاله في تجنب المحرمات والمكروهات فلم تبق إلا الإباحة.
(4) في س: ((مما)) .
(5) تقدمت هذه الأدلة ص (6) منها قوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} [الحشر: 7] ، وقوله:
{فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} [آل عمران: 31] ، وغيرها. فظاهر الأمر عموم اتباعه صلى الله عليه وسلم فيما فيه قربة وما لا قربة فيه، والظاهر في أفعاله التشريع؛ لأنه مبعوث لبيان الشرعيات. ولمزيدٍ من التفصيل في حجج الإباحة والندب مع المناقشات انظر: إحكام الفصول ص 309، المحقق من علم الأصول لأبي شامة ص45 وما بعدها. أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم د. محمد الأشقر 1/219-249.
(6) في س: ((فأتى)) .
(7) الحديث فيه قصة طويلة، أخرجه البخاري (2439) ، (3652) ، ومسلم (2009) . انظر وجه إقراره صلى الله عليه وسلم في: شرح صحيح مسلم للنووي 18/116، فتح الباري لابن حجر 5/118، 7/12.
(8) هنا زيادة ((ذلك)) في ق.
(9) ساقط من ق.
(10) مسألة الإقرار وحجيته وشروطه وأنواعه، انظرها في: الإحكام لابن حزم 1 / 471، إحكام الفصول
ص 317، قواطع الأدلة 2 / 196، الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 2 / 24، الإحكام للآمدي 1/188، كشف الأسرار للبخاري 3/287، مفتاح الوصول ص 584، شرح الكوكب المنير 2/166، 194، تيسير التحرير لأمير بادشاه 3/128.

(2/9)


الفصل الثاني
في اتباعِهِ صلى الله عليه وسلم (1)
ص: قال جماهير الفقهاءِ والمعتزلةِ (2) : يجب اتباعُه صلى الله عليه وسلم في فِعْله، إذا عُلِم وجْهُه [وجب اتباعه] (3) في ذلك الوَجْه، لقوله تعالى: {وَمَا?آتَاكُم الرَّسُولُ?فخُذُوهُ} (4) والأمر ظاهر في الوجوب (5) .
وقال أبو علي بن خَلاَّدٍ (6) به (7) في العبادات فقط (8) .
_________
(1) هذه المسألة تسمَّى: بمسألة التأسِّي به صلى الله عليه وسلم. فمن سمَّاها: اتباعه صلى الله عليه وسلم فباعتبار قوله تعالى: "واتبعوه " [الأعراف: 158] ، ومن سمَّاها: التأسِّي به فباعتبار قوله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21] .

ومرادهم بالاتباع أو التأسِّي بالرسول صلى الله عليه وسلم هو: أن نفعل صورة ما فَعَل، على الوجه الذي فعل، لأجل أنه فعل. ويكون التأسِّي به في الترك أيضاً: بأن نترك مثل ما ترك، على الوجه الذي ترك، لأجل أنه ترك. ولكن الاتباع أوسع من التأسِّي؛ لأنه يشمل الاتباع في القول والفعل. انظر: المعتمد 343، بذل النظر في الأصول للأسْمَنْدي ص501 - 503، الإحكام للآمدي 1/172، شرح الكوكب المنير 2 / 196.
ويلاحظ هنا: أن هذه المسألة قد تلتبس بالمسألة السابقة في الفصل الأول ص (2) ، لأن القائلين هناك بأن دلالة فعله صلى الله عليه وسلم على الندب أو الوقف أي لا يجب التأسي، يقولون هنا: إنه يجب اتباعه صلى الله عليه وسلم والتأسِّي به. قال القرافي: ((هذه المسألة في غاية الالتباس بالتي قبلها، غير أنّ الفرق بينهما من جهةٍ، وهو أن البحث في المسألة الأولى أنه: هل نُصِبَ فِعْلُه عليه الصلاة والسلام دليلاً أم لا؟ فإن لم يُنْصَب دليلاً - كما في إمام الصلاة والخليفة وولاة الأمور - لكِن يجب اتباعه، كما تجب طاعتهم واتباعهم، وإن كنا لا نقول: بأنَّ أفعالهم نصبت دليلاً شرعياً)) انتهى بتصرّف من: نفائس الأصول 5 / 2334.
كذلك يمكن أن يُعرف الفرق بين المسألتين بأن الأولى: في دلالة فعله صلى الله عليه وسلم المجرّد وقد جُهِلت الصفة التي أوقعه عليها، آلْوُجوبُ أم الندب أم الإباحة؟. أما هنا فقد عُلِمت الصفة فوجب التأسِّي به على الوجه الذي أوقعه عليه.
(2) في س: ((وأكثرُ المعتزلة)) وهو من انفراداتها، وهو صواب أيضاً؛ لأنّ ابن خَلاَّد منهم، ولم يَقُلْ بقولهم. والمثبت هنا مَخْفُوضٌ لعطفه على ((الفقهاء)) وتقديره: ((وجماهير المعتزلة)) .
(3) ساقط من س.
(4) الحشر، من الآية: 7.
(5) انظر هذا القول وأدلته عند الجماهير من الفقهاء والمعتزلة في: المعتمد 1/354، التمهيد لأبي الخطاب
2 / 313، بذل النظر ص511، نهاية الوصول للهندي 5/2154، تحفة المسؤول للرهوني القسم
1 / 443، هداية العقول للحسين بن القاسم 1 / 462.
(6) هو: أبو علي محمد بن خَلاَّد البصري المعتزلي، تتلمذ على أبي هاشم الجبَّائي، وهو صاحب كتاب
" الأصول " وكتاب "الشرع " وغيرهما. مات ولم يبلغ حَدَّ الشيْخُوخة. انظر: طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار ص 324، الفهرست لابن النديم ص 305.
(7) ساقطة من ق، ن.
(8) انظر مذهب ابن خلاَّد في: المعتمد 1 / 354، منهاج الوصول للمهدي ابن المرتضى ص 568، هداية العقول للحسين بن القاسم 1/462. وفي المسألة أقوال أخرى، منها: أن التأسي على الندب، ومنها:

(2/10)


طرق معرفة صفات أفعاله صلى الله عليه وسلم
وإذا وجب التأسِّي به وجب معرفةُ وَجْهِ فِعْله صلى الله عليه وسلم من الوجوب والندب والإباحةِ (1) : إمَّا بالنصِّ.
أو بالتخْيِيْر بينه وبين غيره فيما (2) عُلِم فيه [وجهٌ (3) ، فيُسَوَّى به (4) ] (5) .
أو بما يدلُّ على نفي قِسْمين فيتعيَّنُ الثالث.
أو بالاستصحاب في عدم الوجوب، وبالقُرْبةِ (6) على عدم (7) الإباحة فيَحْصُل (8) الندب.
وبالقَضَاءِ (9) على الوجوب.
وبالإدَامة مع التَّرك في بعض الأوقاتِ على الندب (10) .
وبعلامة الوجوب عليه كالأذان.
_________
(1) أنه على الإباحة، ومنها: التوقف، ومنها: المنع من التأسي. انظر: أصول السرخسي 2 / 86، قواطع الأدلة 2 / 179، المحقق من علم الأصول لأبي شامة ص 58، المسودة ص 186، التقرير والتحبير لابن أمير الحاج 2 / 403، التوضيح شرح التنقيح لحلولو ص 245، إرشاد الفحول للشوكاني 1 / 168.
() انظر أوجه فعله صلى الله عليه وسلم في: المعتمد 1 / 356، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 329، بذل النظر ص 510، الإبهاج 2 / 271، التوضيح لحلولو ص 245 - 246، نشر البنود 2/10.
(2) في س، متن هـ: ((مما)) .
(3) هنا زيادة ((ثبوته)) في متن هـ.
(4) في ن: ((بينه)) وهو تحريف؛ لأن الكلام ما تمَّ بها، بل لابد أن يأتي بعدها ((وبينه)) .
(5) ما بين المعقوفين في ق هكذا: ((وجه تسويته)) .
(6) في ق: ((القرينة)) والمثبت أصرح؛ لأن القربة من القرائن.
(7) في س، ومتن هـ: ((نفي)) .
(8) في متن هـ: ((فيتعيّن)) .
(9) القضاء لغة: الحكم ويأتي بمعنى الأداء. انظر مادة " قضي " في: مختار الصحاح.
وعرَّفه المصنف اصطلاحاً بأنه: إيقاع العبادة خارج وقتها الذي عيَّنه الشرع لمصلحةٍ فيه. شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 73.
(10) أي من طرق معرفة الندب، المواظبة على الفعل مع الإخلال به أحياناً لغير عُذْر ولا نَسْخٍ. مثاله: أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرأ في صلاة الجمعة بالأعلى والغاشية. رواه مسلم (878) . وقد أخلَّ بذلك، فكان يقرأ بالجمعة والمنافقون. رواه مسلم (877) . فمداومته على قراءة الأعلى والغاشية قد تشعر بالوجوب، فلما قرأ بغيرهما استفدنا الندب إذ الواجب لا يُخَلُّ به.

(2/11)


وبكونه جَزَاءً لسببِ الوجوبِ كالنَّذْر (1) .
الشرح
معنى (2) يجب اتباعه في ذلك الوجه أيْ: إنْ فَعَلَه على وجه الندب وَجَبَ علينا
أنْ نفعله على وجه الندب، أو فَعَله صلى الله عليه وسلم على وجه الوجوب وجب علينا أن نفعله كذلك (3) ، إذ لو خالفناه (4) في النيَّة ذهب الاتباع.
حجة ابن خلاَّد
ووجه تخصيص الوجوب بالعبادات: قوله صلى الله عليه وسلم: ((خُذُوا عَنِّي مناسككم)) (5)
و ((صلُّوا كما رأيتموني أصلِّي)) (6) وظاهر المنطوق (7) الوجوب، لأنه أمر، ومفهومه (8) أن غير المذكور لا يجب وهو المطلوب، ولحديث (9) بَرِيْرة (10) قالت: يا رسول الله أَفَأَمْرٌ (11) منك أم تَشْفع؟ فقال:» إنمّا أنا شفيع «. فقالت: لا حاجة لي به (12) .
_________
(1) النَّذْر لغة: الإيجاب والالتزام والوعد. انظر مادة " نذر " في: القاموس المحيط. واصطلاحاً: التزام مسلمٍ مكلَّفٍ قُرْبةً. أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك مع الشرح الصغير للدَّرْدير 2 / 249.
(2) في س: ((معناه)) وهو خطأ؛ لعدم انسجام السياق بها.
(3) هنا زيادة ((على وجه الوجوب)) في ن ولا حاجة لها، لإنها تكرار.
(4) في ن: ((خالفنا)) والمفعول معلوم من السياق.
(5) هذا لفظ البيهقي في: السنن الكبرى 5/125، وابن عبد البَرِّ في: التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد 7 / 272، ورواه مسلم (1297) بلفظ ((لتأخذوا مناسككم..)) .
(6) رواه البخاري (631) .
(7) المنطوق لغة: اسم مفعول من نَطَقَ بمعنى: تكلَّم. انظر مادة " نطق " في: لسان العرب. واصطلاحاً: ما دلَّ عليه اللفظ في محلِّ النطق. منتهى السول والأمل لابن الحاجب ص 147.
(8) المفهوم لغة: اسم مفعول من فَهِم أي: عَلِم وعَقَل. انظر مادة " فهم " في لسان العرب. واصطلاحاً: ما دلَّ عليه اللفظ في غير محلِّ النطق. منتهى السول والأمل لابن الحاجب ص147.
(9) في ق: ((وبحديث)) بالباء.
(10) بَريْرة مولاة لعائشة رضي الله عنها. قيل: كانت مولاة لقوم من الأنصار، وقيل لآل عُتْبة بن أبي إسرائيل، وقيل غير ذلك. اشترتها عائشة رضي الله عنها فأعتقتها، وكانت تخدم عائشة قبل أن تشتريها. وقصتها في ذلك في الصحيحين: البخاري (5279) ، مسلم (1504) . انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 8/50
(11) في ق: ((أبِأََمْرٍ)) .
(12) الحديث من رواية ابن عباس رضي الله عنه أن زوج بَرِيْرة كان عبداً يقال له: مُغِيْث. كأني أنظر إليه يطوف خلفها يبكي ودموعه تسيل على لحيته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعباسٍ:» يا عباس ألا تعجب من حُبِّ مُغِيْثٍ بَرِيرةَ ومن بُغْضِ بَرِيرةَ مُغِيْثاً. فقال النبي صلى الله عليه وسلم:» لو رَاجَعْتِهِ «. قالت: يا رسول الله تأمرني؟ قال:» إنما أنا أشفع «. قالت: لا حاجة لي فيه. رواه البخاري (5283) .

(2/12)


فدلّ على أن ما عدا الأمر الجازم لا يجب الاتباع فيه (1) .
وأصل التخيير التسوية: فإذا خُيِّر بين ذلك الفعل وبين ما عُلِم وجوبه كان ذلك الفعل واجباً، أو خُيِّر بينه وبين مندوب كان ذلك الفعل مندوباً، أو بينه وبين ما عُلِمتْ إباحته كان ذلك الفعل مباحاً.
سؤال: قال بعض [فضلاء* العصر] (2) : قول العلماء التخيير يقتضي التسوية (3) يُشْكل، فإن (4) رسول الله صلى الله عليه وسلم أتِيَ (5) ليلة الإسراء بقَدَحين، أحدهما لَبَن والآخر خَمْر، وخُيِّر بينهما، فاختار اللَّبَن، فقال له (6) جبريل عليه السلام لو اخْترتَ الخمر لغَوَتْ أمَّتُك (7) . فالخمر موجِبٌ للإغواء، ومع ذلك خُيِّر بينه وبين موجب الهداية وهو اللَّبَن، وموجب الهداية مأمور به، وموجب الغَيّ والإغواء منهيٌ عنه، فقد وُجِد (8) التخيير لا مع الاستواء في الأحكام.
جوابه: أنَّ الحكم الشرعي كان في القدحين واحداً (9) ، وهو الإباحة، غير أنَّ الشيئين قد يستويان في الحكم الشرعي، ويكون* اختلافهما بحسب العاقبة (10) لا بحسب الحكم، كما انعقد الإجماع على جواز بناء ما شِئْنا من الدُّوْر وشراء ما شِئْنا من
_________
(1) ذكر المصنف حديث بَرِيْرة ليدلِّل على مذهب ابن خَلاَّد في أن التأسي به صلى الله عليه وسلم لا يكون في غير العبادات كالمناكحات والمعاملات..فالنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان شافعاً في مسألة المراجعة لا آمراً.
(2) ما بين المعقوفين في س: ((الفضلاء)) . ولم أقف على اسمه. وانظر السؤال وجوابه في: نفائس الأصول
5 / 2339.
(3) انظر قاعدة: التخيير واقتضائه التسوية أو عدمها في: الفروق للقرافي 2 / 8.
(4) في ق: ((بأن)) .
(5) في س: ((أوتي)) ولعلَّه تحريف؛ لأن روايات الحديث عبَّرت بالإيتاء وليس بالإتيان، ولأن ((أوتي)) يتعدى بنفسه لا بحرف الجرّ الباء. انظر مادة " أتي " في: لسان العرب.
(6) ساقطة من ن.
(7) الحديث رواه البخاري (3394) ومسلم (272) كلاهما عن أبي هريرة رضي الله عنه قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:» ... ثم أتِيْتُ بإناءين، في أحدهما لَبَن وفي الآخر خمر. فقال: اشْربْ أيَّهما شِئْتَ. فأخذْتُ اللَّبن فشربْتُه. فقيل: أخَذْتَ الفِطْرة، أمَا إنك لو أخذْتَ الخمر غَوَتْ أمتك «. واللفظ للبخاري.
(8) في ن: ((وجب)) وهو صحيح أيضاً؛ لأن وجب بمعنى: ثبت. انظر مادة " وجب " في: لسان العرب.
(9) في ن: ((واحدٌ)) وهو خطأ نحوي. والمثبت هو الصواب، لأن خبر ((كان)) منصوب.
(10) في س: ((القاعبة)) وهو تحريف.

(2/13)


الدَّواب وزواج ما شِئْنا من النِّساء، ومع ذلك إذا عَدَل الإنسان عن أحد هذه إلى غيره (1) أمكن أن يقول له صاحب الشرع: لو اخترت تلك الدار أو الدابة أو المرأة لكانت مشئومة، كما جاء في الحديث (2) ، وإنْ كان للعلماء فيه خلاف في تأويله (3) ،
غير أن ذلك لا يمنع التمثيل (4) ، فإنه يكفي الإمكان فيما يُتَوَقَّعُ في (5) العواقب ولا (6) يُغيِّر الحكم الشرعي، كذلك القَدَحان حكمهما الإباحة، وأخبر جبريل عليه السلام أن الله تعالى* ربط بأحدهما حسن العاقبة، وبالآخر سوء العاقبة، وذلك غير الأحكام الشرعية. نعم، لو قال جبريل عليه السلام لو اخْتَرْتَ الخمر لأَثِمَتْ [أمَّتُك] (7) أشْكَل. أما العواقب فلا تُناقِض تَقَدُّم الإباحة.
وقولي: " أو بما يدلُّ على نفي قسمين فيتعيّن الثالث " معناه: أنَّ فِعْل النبي صلى الله عليه وسلم لا يقع فيه (8) محرَّم لعصمته، ولا مكروه لظاهر حاله، فلم يَبْقَ إلا الوجوب والندب والإباحة، فهي ثلاثة، إذا دلَّ الدليل على نفي اثنين منها تعيَّن الثالث لضرورة الحَصْر،
_________
(1) في س، ق: ((غيرها)) وهو محتمل على تقدير عود الضمير على المعدود المحذوف، تقديره ((الأشياء)) . والله أعلم.
(2) عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:» إنما الشؤم في ثلاثة: في الفرس والمرأة والدار «رواه البخاري (2858) ومسلم (2225) .
(3) من هذه التأويلات:
أ - أنَّ هذه الأشياء أكثر ما يتطيَّر به الناس، فمن وقع في نفسه شيء أبيح له أن يتركه، ويستبدل به غيره.
ب - إنْ كان الله خَلَق الشؤم في شيءٍ مما جرى من بعض العادة، فإنما يخلقه في هذه الأشياء، فالنفوس يقع
فيها التشاؤم بهذه أكثر مما يقع بغيرها. ويؤيد هذا المعنى حديث مسلم (2226) "إن كان، ففي المرأة
والفرس والمسكن " يعني الشؤم.
جـ - شؤم المرأة عدم ولادتها وسلاطة لسانها وتعرضها للرِّيَب، وشؤم الفرس ألاَّ يُغْزى عليها، وشؤم الدار
ضيقها وسوء جيرانها.

انظر: فتح الباري لابن حجر 6/76. شرح صحيح مسلم للنووي 14 / 184.
(4) في س: ((التمسك)) .
(5) في ن: ((مِنْ أنّ)) .
(6) في ن: ((لا)) بدون الواو.
(7) هكذا أثبتت في هامش نسخة ز. وهو أليق في التعبير مما جاء في جميع النسخ، إذ خلتْ منها.
(8) في س، ن: ((في فعله)) وهو تكرار.

(2/14)


فإذا ذهبت الإباحة والندب تعيَّن الوجوب، [أو الوجوب والإباحة تعيَّن الندب] (1) ، أو الندب والوجوب تعيَّنت الإباحة.
ومعنى " الاستصحاب في عدم الوجوب وبالقُرْبة على عدم الإباحة " أي: من وجوه الاستدلال، أن يقول (2) : هذه قُرْبة لأنها صلاة أو صيام - مثلاً - فلا تكون مباحة؛ لأن الأصل في هذه الأبواب عدم الإباحة (3) ، والأصل أيضاً عدم الوجوب (4) فيتعين (5) الندب.
وبالقضاء على الوجوب: هذا على مذهب مَالِكٍ أنَّ النوافل لا تُقْضَى (6) . وأما على قاعدة الشَّافِعي أن العيدين يُقْضيان وكل نافلة لها سبب (7) فلا نقدر أن نقول: هذا الفعل (8) قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فيكون واجباً، لأن القضاء ليس من خصائص الواجب، وإنّما يأتي ذلك على مذهب مالك ومن قال بقوله (9) .
_________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من ق.
(2) في ن: ((تقول)) .
(3) أي الأصل في القربات: الندب أو الوجوب.
(4) أي الأصل (الاستصحاب) : براءة الذمَّة من الوجوب.
(5) في ن: ((فتعيّن)) .
(6) قال خليلٌ في مختصره: ((ولا يُقضى غيرُ فَرْضٍ إلاّ هي - يقصد ركعتي الفجر - فللزَّوال)) قال الحَطَّاب: هذا هو المشهور. وقيل: لا يقضيهما. مواهب الجليل لشرح مختصر خليل (2 / 392) ، وقال ابن جُزَيّ المالكي: ((ومن فاتته نافلةٌ لم يَقْضِها في المذهب إلا من فاتته ركعتا الفجر فيقضيهما بعد طلوع الشمس وفاقاً لهم)) ، أي للأئمة الثلاثة. قوانين الأحكام الشرعية ص 86.
(7) قال النووي في المنهاج: "ولو فات النَّفْل المؤقت نُدب قضاؤه في الأظهر". قال الشارح الشربيني: "خرج بالمؤقَّت ما له سبب كالتحيَّة والكسوف فإنه لا مدخل للقضاء فيه ". فعُلم من هذا أنه ليس كل نافلة لها سبب أنها تُقضى. والنوافل التي لها سبب كثيرة منها: الكسوف والاستسقاء والتحيَّة وركعتا الطواف وسنة الوضوء وسجدة الشكر والتلاوة.. إلخ. انظر: مغني المحتاج إلى معرفة معاني ألفاظ المنهاج للخطيب الشربيني 1 / 310، 457.
(8) ساقطة من ق.
(9) ممن قال بقوله: أبو حنيفة، والشافعي في القديم، وأحمد في رواية عنه. انظر: بدائع الصنائع للكاساني 2/273، المغني لابن قدامة 2 / 533، 544، المجموع شرح المهذب للنووي 3 / 532، نيل الأوطار للشوكاني 3 / 26.

(2/15)


وأما كون الأذان لا يكون إلا في واجب فظاهر، فإذا بَلَغَنا أنه صلى الله عليه وسلم أمر بالأذان لصلاةٍ، قلنا: تلك الصلاة واجبة لوجود خصوصية (1)
الوجوب.
وإذا بَلَغَنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نذر صلاة أو غيرها من المندوبات وفعلها قضينا على ذلك الفعل بالوجوب، لأن فعل المنذور واجب.
فهذه وجوهٌ من الاستدلال (2) على حكم أفعاله صلى الله عليه وسلم إذا وقعت.
تعارض فعله صلى الله عليه وسلم مع قوله، وتعارض الفعلين
ص: تفريع (3) :
إذا وَجَب الاتباع، وعارض [فِعْلُه صلى الله عليه وسلم قَوْله] (4) : فإن تَقَدَّم القولُ وتَأَخَّر الفعلُ نسخ (5) الفعلُ القولَ، كان القولُ خاصاً (6) به أو بأمته أو عمهما، وإن (7)
_________
(1) في ق، ن: ((خَصِيْصَة)) . لم أجدها فيما اطلعت عليه من المعاجم حاشا " المعجم الوسيط ". ففيه
((
الخَصِيصة: هي الصفة التي تميز الشيء وتحدده)) .
(2) في ن: ((الاستلالات)) ، وفي ق: ((الاستدلات)) وهو تحريف.
(3) فرَّع المصنف مسألة تعارض الأفعال على القول بوجوب التأسي به صلى الله عليه وسلم، لكنه اختصر عرض هذه الصور واقتصر على بعضها دون بعض.

قال حلولو: ((التعارض بين الشيئين هو تقابلهما على وجهٍ يمنع كلُّ واحدٍ منهما مقتضى الآخر أو بعض مقتضاه. وهو إما بين القولين، ومحله الترجيح، وإما بين الفعلين أو بين القول والفعل)) . التوضيح ص247. ثم حصر صور التعارض في (36) صورة. أما الحافظ العلائي في كتابه: تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال ص (121-123) فحصرها في (60) صورة بطريق التقسيم العقلي وقال: ((وأكثرها لا يقع له مثالٌ في السنة، ولهذا لم يعتمد هذا التقسيم أحدٌ في مصنفه مجموعاً هكذا، بل يذكر كلٌ واحدٍ شيئاً - ثم قال - وإنما تُذكر للتمرين وبيان الأحكام)) وأما ابن النجار الفتوحي في كتابه: شرح الكوكب المنير (2 / 200) فحصرها في (72) صورة. وأكثر ما وقفت عليه من حصر هذه الصور ما ذكره الدكتور / محمد الأشقر في كتابه النفيس: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم 2/206 حيث حصرها في (144) صورة وقال: ((إلاَّ أن بعضها لا يُعقل، وبعضها لا فائدة في تفصيله، وبعضها لا يُعرف له أمثلة في السنة)) . ثم اختصرها في (18) صورة ذات أهمية وأثر.
(4) ما بين المعقوفين في ق هكذا: ((قوله صلى الله عليه وسلم فعله)) بتقديم وتأخير.
(5) سيأتي مبحث " النسخ " في الباب التالي لهذا الباب. انظر تعريفه ص 42.
(6) الخَاصُّ لغة: المُنْفَرِد وهو ضِدّ العام. انظر مادة " خصص " في: لسان العرب. واصطلاحاً: هو لفظ وضع لمعنى واحدٍ على سبيل الانفراد. انظر: كشف الأسرار للبخاري 1/88.
(7) في ن: ((وإذا)) وهي أداة شرط للمحقَّق، بينما ((إنْ)) أداة شرط للمُمْكن، وتأتي ((إنْ)) في موضع ((إذا)) وكلاهما سائغ هنا. انظر: مادة " أنن " في لسان العرب، ومادة " إنما " في: المصباح المنير.

(2/16)


تأخَّر القولُ - وهو عامٌّ (1) له ولأمته صلى الله عليه وسلم - أَسقَطَ (2) حُكمَ الفعلِ عن الكل، وإن اخْتَصَّ بأحدهما خصَّصهُ عن عمومِ حكمِ الفعل.
وإِنْ تَعَقَّبَ الفعلُ القولَ من غير تراخٍ وعَمَّ القولُ له ولأمته عليه الصلاة والسلام خصَّصه عن عموم القول، وإن اخْتَصَّ بالأُمَّةِ تَرَجَّح القول [على الفعل، وإنْ اختصَّ به جاز إن جوَّزْنا (3) نسخ الشيء قبل وقته (4) ] (5) ، [وإلاّ فلا (6) .
وإنْ لم يتقدَّم واحدٌ منهما رجح القول] (7) ؛ لاستغنائه [بدلالته عن غيره] (8) من غير عَكْسٍ (9) .
فإن عارض الفعلُ الفعلَ بأنْ يُقِرَّ شَخْصاً على فِعْلٍ فَعَلَ - هو صلى الله عليه وسلم - ضِدَّه فيُعْلَم خروجُه عنه. أو يفعل صلى الله عليه وسلم ضِدَّه في وقتٍ يُعْلم [لزومُ مِثْلِه له] (10) فيه فيكونُ نَسْخاً للأول (11) .
_________
(1) العَامُّ لغة: الشامل، من عمَّ الشيءُ: بمعنى شَمِل. انظر مادة " عمم " في: القاموس المحيط. واصطلاحاً هو: اللفظ المستغرق لجميع ما يصلح له بحسب وَضْعٍ واحدٍ دفعةً مِنْ غير حَصْرٍ. انظر: مذكرة أصول الفقه للشيخ محمد الأمين الشنقيطي ص 359.
(2) انظر: نفائس الأصول 6/2348 وما بعدها، لتعرف لماذا عبر المصنف بالسقوط بدلاً من النسخ
والتخصيص.
(3) في ن: ((جُوِّز)) .
(4) في ق: ((وقوعه)) .
(5) ما بين المعقوفين ساقط من س، متن هـ.
(6) توضيح العبارة السابقة: أن القول إذا اختص بالأمة، وجاء الفعل عقيبه، فلا نجوِّز احتمال اختصاص القول به، صيانةً له من الوقوع في المخالفة والمعاندة. وإن جوزنا احتمال اختصاص القول به فهو بناءً على تجويزنا نسخ الشيء قبل حضور وقته.
(7) ما بين المعقوفين ساقط من س، ق، متن هـ.
(8) ساقط من ن.
(9) هذا ما اختاره المصنف، وفي مسألة: " جَهْل المتقدم والمتأخر من القول والفعل " أقوال أخرى، منها: الفعل مقدَّم؛ لأنه أقوى في البيان، ومنها: الوقف حتى يتبيّن التاريخ. قال ابن العربي: ((ومالك رحمه الله تختلف فتاويه، فتارةً يقدِّم القول، وتارةً يقدِّم الفعل، وذلك بحسب ما يعطيه الدليل المغاير لهما. فدلّ على أن مذهبه يقتضي أنهما متعارضان تعارضاً مستوياً، فيجب طلب الدليل في غيرهما)) . المحصول له ص 478. انظر: إحكام الفصول ص315، قواطع الأدلة 2 / 194، المحصول للرازي 3/256-259، نفائس الأصول 6/2346، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 26 - 27، شرح الكوكب المنير 2/199، تيسير التحرير 3/148.
(10) ما بين المعقوفين في ن هكذا: ((لزومه)) .
(11) انظر الأمثلة على هذه الصور السالفة الذكر في: رفع النقاب للشوشاوي القسم 2 / 338 - 347.

(2/17)


الشرح
القاعدة (1) : أن الدليلين الشرعيين إذا تعارضا، وتأخَّر أحدُهما عن (2) الآخر كان المتأخرُ [ينسخ المتقدِّمَ] (3) .
مسألة تقدُّم القول وتأخُّر الفعل
ولذلك قلنا: ينسخُ الفعلُ القولَ، إذا تأخر. فإن كان خاصاً به والفعلُ أيضاً منه حصل النسخ (4) . والخاصُّ بأمته يتقرَّر حُكْمه سابقاً ثم يأتي الفعل بعد ذلك (5) ، ويجب تأسِّيهم به صلى الله عليه وسلم فيتعلق بهم حكم الفعل أيضاً، وهو مناقض لما تقدَّم في حقِّهم من القول، فينسخ (6) اللاحقُ السابقَ في حقِّهم أيضاً (7) ؛ لأنه القاعدة. وكذلك أيضاً (8) إذا عَمَّهما (9) ، وحكم الفعل أيضاً يعمُّهما (10) ؛ أما هو صلى الله عليه وسلم فلأنَّه المباشر له، ولا يباشر شيئاً إلا وهو يجوز له صلى الله عليه وسلم [الإقدامُ عليه] (11) ، وأمَّا هُمْ فلوجوب تأسِّيهم به وانْدِرَاجِهم في
_________
(1) أي هذه قاعدة من قواعد الترجيح بين الأدلة المتعارضة. انظر: باب التعارض والترجيح في الباب الثامن عشر، ص 413.
(2) في ن: ((من)) ولم أجد فيما اطلعت عليه من المعاجم تعدِّي الفعل " تأخر " بـ" من ".
(3) في ن، ق: ((نسخاً للمتقدم)) خلافاً لجميع النسخ. ويلاحظ على هذه القاعدة: أنه لا يُصار إلى النسخ إلا بعد تعذُّر الجَمْع بينهما، كما هو مذهب جمهور الأصوليين، وقد ذكر المصنف ذلك في مبحث الترجيح ص (413) فقال: ((وإذا تعارض دليلان، فالعمل بكلِّ واحدٍ منهما من وجْهٍ أولى من العمل بأحدهما دون الآخر ... )) . والقول بالنسخ أو الترجيح أولاً عملٌ بأحدهما دون الآخر. انظر: الرسالة للشافعي ص341، الموافقات للشاطبي 5/342 وما بعدها.
(4) حصل النسخ في حقه دون أمته، لأن القول خاص به، أما أمته فيلزمها مثل فعله لوجوب التأسي به.
(5) أي: والقول الخاص بأمته كأن يقول: يجب عليكم صوم يوم عاشوراء، ثم يفطر فيه صلى الله عليه وسلم، وقد دل الدليل على وجوب التأسي به.
(6) في ق: ((فنسخ)) .
(7) أي: في حق أمته دونه صلى الله عليه وسلم، فلا يحصل له النسخ، لأن القول لم يتناوله.
(8) ساقطة من س، ق.
(9) في س: ((عمها)) وهو تحريف؛ لأن المراد تعميم النبي صلى الله عليه وسلم والأمة.
(10) في س: ((يعمها)) وهو تحريف؛ للعلّة السابقة.
(11) ساقط من س.

(2/18)


كلِّ ما شُرع له صلى الله عليه وسلم إلاَّ مادلَّ الدليل عليه، فيتناقض (1) ما تقدَّم في حقِّهم (2) من دلالة القول، فينسخ (3) الفعلُ المتأخرُ القولَ المتقدِّمَ (4) عنه وعنهم.
مسألة تقدُّم الفعل وتأخُّر القول
وبهذا يظهر أن القول إذا تأخر عن الفعل نسخه (5) بطريق الأوْلى إذا عمَّهما؛ لأنه أقوى من الفعل، والأقوى أولى بالنسخ للأضعف من غير عكس. فإنْ اختص القول بأحدهما أخرجه عن عموم حكم الفعل، وبقي الآخرُ على حكم الفعل (6) ؛ لعدم معارضة القول له في ذلك القسم، والنسخ لابدَّ فيه من التعارض.
مسألة تعقُّب الفعلِ القولَ
وإنْ تعقَّب الفعلُ القولَ من غير تَرَاخٍ، تَعَذَّر في هذه الصورة النسخُ؛ لأنَّ من شرط النسخ التراخي على ما سيأتي (7) ، وإذا تعذَّر النسخ لم يبْقَ إلا التخصيص. فإذا كان النص عامّاً له ولأمته صلى الله عليه وسلم خَصَّصه - هو صلى الله عليه وسلم - من (8) عموم ذلك القول، فيُعْلم أنه صلى الله عليه وسلم غيرُ مُرادٍ بالعموم. وإن اختَّص القول بالأمة، والفعلُ أيضاً شأنه أن يترتَّب في حقِّهم حُكْمُه، وهما متناقضان متعارضان، فيُقَدَّم القولُ على الفعل لقوته؛ لأن دلالته بالوَضْع (9) ، فلا يفتقر إلى دليلٍ يدلُّ على أنه حُجَّة، بخلاف الفعل لولا قوله تعالى:
_________
(1) في ق: ((فيناقض)) .
(2) وحقه صلى الله عليه وسلم.
(3) في ق: ((فنسخ)) .
(4) ساقطة من س.
(5) في ن: ((ينسخه)) .
(6) معنى العبارة: إن تأخر القول عن الفعل كأنْ يصلي النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت المقدس، وكان القول خاصاً به كأن يقول: لن أصلي إلى بيت المقدس، خرج هو عن حكم الفعل، وبقيت أمتَّه على حكمه. وإن كان القول خاصّاً بأمتِّه، كأنْ يقول لهم: لا تصلُّوا إلى بيت المقدس، خرجتْ عن حكم الفعل وبقي هو صلى الله عليه وسلم على حكمه. انظر المعتمد 1/360.
(7) انظر: الباب الرابع عشر: في النسخ ص 43، 45.
(8) في س: ((عن)) والمثبت أظهر، لتضمُّن حرف " من " معنى البعضيَّة.
(9) عرَّف المصنف الوَضْع بأنه: جَعْل اللفظ دليلاً على المعنى، وذكر أقسامه. شرح تنقيح الفصول ص20 (المطبوع) . والدلالة اللفظية الوَضْعية: هي كون اللفظ بحيث متى أطْلق أو تُخُيِّل فُهِم منه معناه للعلم بوَضْعه. التعريفات للجرجاني ص140.

(2/19)


{وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (1) ونحوه لتَعذَّر علينا نَصْبُ الفعل دليلاً.
مسألة تعارض الفعلين
وإذا فَعَل صلى الله عليه وسلم فِعْلاً وعُلِم بالدليل أنَّ غيره مكلَّفٌ بذلك الفعل، ثم يَرَى غيره يفعل ضِدَّ ذلك الفعل، فيُعْلم أن هذا الفاعلَ لهذا الضِدِّ خارجٌ من حكم ذلك الفعل المتقدِّم (2) ، ويبقى غَيْرُ هذا الذي أقرَّه (3) عليه* السلام مُنْدرِجاً في حكم ذلك الفعل.
أو يُعْلم بالدليل أنه عليه الصلاة والسلام يلزمه فِعْلٌ في وقت فيراه (4) قد فَعَل ضِدَّ ذلك الفعل [في ذلك الوقت] (5) ، فيُعلم نَسْخُه عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك الوقت وما بعده، فهذا هو معنى المسألتين الأخيرتين (6) في هذا الفصل (7) .
فائدة: قال الإمام فخر الدين (8) : التخصيص والنسخ في الحقيقة ما لَحِق إلا الدليلَ الدالَّ على وجوب التأسي، فإنه تناول* هذه الصورة وقد خرجت منه (9) .
سؤال: قال العلماء: من شرط الناسخ أن يكون مُساوياً للمنسوخ أو أقوى، والفعل أضعف، فكيف جعلوه في هذا المقام ناسخاً مع ضعفه عن المنسوخ؟ (10) .
_________
(1) الحشر، من الآية: 7.
(2) قال حلولو عن هذه الصورة من التعارض " وهذا يرجع إلى التخصيص بالإقرار" التوضيح ص251.
(3) في س: ((لقوله)) وهو تحريف ظاهر لا يتحقق به المعنى.
(4) في ن: ((فرآه)) ، والفاعل مقدَّر، تقديره " أحدٌ ".
(5) ساقط من ق.
(6) في ق، ن: ((الآخرتين)) وهو صحيح أيضاً ومفردها: آخرة مؤنث آخر بمعنى أخير وهو صحيح أيضاً. انظر مادة " أخر " في: مختار الصحاح.
(7) مشى المصنف في مسألة تعارض الفعلين مع القائلين بإمكان وقوعه، وسيورد بعد قليل نقلاً عن الآمدي والغزالي باستحالة وقوع التعارض بينهما.
(8) انظر: المحصول 3/262.
(9) لكن المصنف أورد إشكالاً على قول الإمام حيث قال في نفائس الأصول (6/2358) : ((يعسر الجمع بين هذا وبين ما تقدمّ من أن الفعل دليلٌ على الوجوب في حقنا، وإذا كان دليلاً قد نصَّبه صاحب الشرع
أمكن لحوق التخصيص له كسائر الأدلة، وكذلك يلحقه النسخ إذا علم أن العموم مرادٌ منه في جميع الأزمنة ... إلخ))
(10) انظر السؤال وجوابه أيضاً في نفائس الأصول (6/2347) : علماً بأن بعض العلماء يغلّط من يشترط في الناسخ أن يكون أقوى من المنسوخ أو في مرتبته، بل يكفي مجرد صحة الخبر. وسيأتي مزيد تعليق على هذا الشرط في مباحث النسخ ص (83) هامش (3) .

(2/20)


جوابه: أنّ المراد بالمساواةِ المساواةُ (1) في السَّنَد (2) لا غير (3) ، وذلك لا يُناقض كَوْنَه فِعْلاً، ولذلك يجب أن نُفصِّل في هذه المسألة فنقول: القول والفعل إنْ كانا في زمانه صلى الله عليه وسلم وبحضرته فقد استويا، وإن نُقلا إلينا تعيَّن أنْ لا نقضي (4) بالنسخ إلا بعد الاستواء في نقل كل واحد منهما، فإنْ كان أحدُهما متواتراً (5) والآخرُ آحاداً (6) منَعْنا نسْخَ الآحادِ للمتواتر، هذا تلخيصُ هذا الَموْضعِ ولابدَّ منه.
فائدة: قال الشيخ سيف الدين (7) في " الإحكام " (8) : إذا كان الفعل لا يتكرر بل يختص بذلك الزمان بأن يقول عَقِيْبه أو مُتَراخياً عنه: هذا الفعل لا يُفْعل بعد هذا الوقت، ثم يَرِدُ القولُ بعد ذلك، لا يحصل تعارضٌ ألْبتَّة.
_________
(1) ساقطة من ن، ق.
(2) السَّنَد لغة: المُعْتَمد وهو يدلُّ على انضمام الشيء. معجم المقاييس في اللغة لابن فارس مادة " سند ". واصطلاحاً: الطريق الموصل إلى مَتْن الحديث. شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص160.
(3) في ن: ((غيره)) .
(4) في س، ق: ((يُقْضَى)) .
(5) سيأتي تعريفه ص 197.
(6) سيأتي تعريفه ص 218.
(7) هو أبوالحسن علي بن أبي علي بن محمد بن سالم التَّغْلِبي - نسبةً إلى قبيلة تَغْلِب - المعروف بسيف الدين الآمدي؛ نسبةً إلى بلدة ولادته: آمِد، بديار بكر. تفقَّه على المذهب الحنبلي ثم صار شافعياً، وهو أصولي، متكلّم، ويجيد البحث والمناظرة. من تصانيفه: الإحكام في أصول الأحكام (ط) ، منتهى السُّول في علم الأصول (ط) (وهو مختصر لكتابه الإحكام) . وفي علم الكلام له: أبكار الأفكار (ط) . ت 631هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 8/306، وفيات الأعيان 3/293، سير أعلام النبلاء 23/364.
(8) انظر: الإحكام في أصول الأحكام (1 / 191) . وهذا الكتاب لسيف الدين الآمدي على طريقة المتكلمين، ذكر ابن خلدون في مقدمته (3 / 1065) بأن الآمدي، والفخر الرازي لخَّصا ما اشتملت عليه الكتب الأربعة: العُمَد للقاضي عبد الجبار، المعتمد لأبي الحسين البصري وهما معتزليان، والبرهان للجويني والمستصفى للغزالي وهما أشعريان. والآمدي يُكْثِر من اختيار مذهب الوقف، فمن أراد معرفة رأيه بوضوح فعليه بمختصره: منتهى السول في علم الأصول (ط) . وللإحكام طبعات كثيرة، منها: طبعة المكتب الإسلامي بتحقيق الشيخ عبد الرزاق عفيفي رحمه الله، له عليها تعليقات سلفية وعلمية نفيسة.

(2/21)


فائدة: قال الشيخ سيف الدين (1) : أفعاله صلى الله عليه وسلم لا يمكن وقوعُ التعارض فيها حتى يَنْسخ بعضُها بعضاً أو يُخَصِّصه (2) ، فإنَّ الفِعْلين إنْ تَمَاثلا و (3) كانا في وقتين كالظُّهْر اليومَ والظُّهر غداً فلا تعارض، وإن اختلفا وأمكن اجتماعهما كالصلاة والصوم فلا تعارض، وإنْ تَعذَّر اجتماعهما لتناقض أحكامِهما [كما لو صام] (4) في وقتٍ وأكَل في مِثْل ذلك الوقت لم يتعارضا أيضاً؛ لأن الفعل لا عموم له حتى يَدُلَّ على لزوم ذلك الفعل (5) في جميع الأوقات فيناقضه ضِدُّه إذا وقع في تلك الأوقات الأُخَر، فإن دَلَّ دليلٌ من خارجٍ غير الفعل على (6) أن مثل ذلك الفعلِ يتكرر فالتخصيص (7) والتعارض إنما عرض لذلك الدال على التكرار (8) .
وكذلك إقراره صلى الله عليه وسلم لبعض الأمة على الترك مع القدرة على الفعل والعلم به لا يكون مُخصِّصاً وناسخاً إلا للدليل الدال على تكرار ذلك الفعل (9) .
_________
(1) انظر: الإحكام للآمدي 1/190.
(2) في ق: ((تخصِّصه)) والمثبت أنسب للسياق.
(3) في س: ((أو)) وهو خطأ؛ لأن المراد العطف بالواو الذي يحصل بها معنى الجَمْع، لا التخيير.
(4) في س: ((كالصوم)) .
(5) في س، ن: ((الوقت)) وهو خطأ؛ لعدم إفادتها المعنى المراد.
(6) ساقطة في ن.
(7) في س "والتخصيص" بالواو. والمثبت هو الصواب؛ لإفادته معنى الترتيب، ولوجوب اقتران جواب الشرط بالفاء إذا كان جملةً اسْميَّة. انظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك 1 / 499.
(8) مثاله: إذا دلَّ دليلٌ على وجوب تكرر الصوم عليه في وقتٍ ما، ثم أفطر في مثل ذلك الوقت مع قدرته على الصوم، دلَّ أكْلُه على نسخ دليل تكرار الصوم في حقه، لا نسخ حكم الصوم السابق لعدم اقتضائه التكرار، فرَفْعُ حُكمٍ وُجد محالٌ. شرح الكوكب المنير 2/199.
(9) مثاله: كأن يدلَّ دليلٌ على وجوب تأسي أمته به صلى الله عليه وسلم في وقتٍ ما، ثم يُقرُّ آكلاً في مثل ذلك الوقت، فهذا نسخ أو تخصيص لدليل وجوب التأسي به في حق هذا الآكل. انظر: شرح الكوكب المنير 2 / 199.

(2/22)


قال الغزالي (1) في " المستصفى " (2) :
لا يُتَصور التعارض بين الأفعال بما هي أفعال ألبتَّة؛ لأن الفعلين لا يجتمعان في زمان واحد ألبتَّة، وإذا تعدد الزمان فلا تعارض، بخلاف الأقوال لها صيغ تتناول بها الأزمان، فيُتَصور التعارض (3) .
فائدة: مهما أمكن التخصيص لا يُعْدل عنه إلى النسخ (4) ؛ لأنه أقرب إلى الأصل من جهة أنه بيان المراد، فليس فيه إبطال مراد، بخلاف النسخ فيه إبطال المراد.
_________
(1) هو أبو حامد محمد بن محمد بن محمد الغزالي - بتشديد الزاي نسبة إلى الغَزْل كالغَزَّال، وبتخفيفها نسبةً إلى غَزَالة قرية في طُوس، يلقب بحجة الإسلام، أصولي فقيه شافعي، اشتغل بالفلسفة والمنطق والتصوف، من شيوخه: إمام الحرمين الجويني، ومن تلاميذه: ابن بَرْهان وابن العربي وغيرهما. له تصانيف كثيرة منها في الأصول: المستصفى (ط) ، المنخول (ط) . شفاء الغليل في بيان الشبه والمخيل ومسالك التعليل (ط) . وفي السلوك: إحياء علوم الدين (ط) ، وفي الفقه: الوسيط (ط) ، وفي المنطق: محك النظر (ط) ، معيار العلم (ط) ، وفي الفلسفة: تهافت الفلاسفة (ط) . وتوفي عام 505هـ. طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 6/191، وفيات الأعيان 4/216، سير أعلام النبلاء 19 / 322.
(2) انظر هذا النقل بتصرف في: المستصفى من علم الأصول (2/232) . وهذا الكتاب لأبي حامد الغزالي مشى فيه على طريقة المتكلمين، وهو تمام الكتب الأربعة (العمد، والمعتمد، والبرهان، والمستصفى) التي نوَّه عنها ابن خلدون في مقدمته (3 / 1065) بأنها أركان هذا العلم. وهو آخر كتب الغزالي الأصولية، تتجلِّى شخصيته فيه بوضوح. وله تقسيم وترتيب وعرض بديع. له اختصارات منها: الضروري في أصول الفقه لابن رشد (الحفيد) (ط) . وعليه شروحات منها: المستوفى للعبدري المالكي. وللمستصفى عدة طبعات منها: طبعة في أربعة أجزاء بتحقيق د. زهير حمزة حافظ. وطبعة مؤسسة الرسالة بتحقيق الدكتور / محمد سليمان الأشقر. انظر: الفكر الأصولي د. عبد الوهاب أبوسليمان ص325 وما بعدها..
(3) مسألة تعارض الفعلين مما اختلف العلماء في إمكان وقوعه على قولين، الأول: يمتنع وقوع التعارض بينهما، وهو لأكثر الأصوليين حتى قال العلائي: ((وهذا القول هو الذي أطبق عليه جمهور أئمة الأصول)) تفصيل الإجمال في تعارض الأقوال والأفعال ص (59) . القول الثاني: يجوز وقوع التعارض بينهما كالقولين، وهو رأي الباجي وابن رشد والقرطبي والمازري وغيرهم. انظر: المعتمد 1 / 359، إحكام الفصول ص 314، البرهان للجويني 1 / 327، منتهى السول والأمل ص 50، بديع النظام (نهاية الوصول) لابن الساعاتي 1 / 264، أصول الفقه لابن مفلح 1 / 355، البحر المحيط للزركشي 6/43، التوضيح لحلولو ص 250، شرح الكوكب المنير 2 / 198، تيسير التحرير 3 / 147، إرشاد الفحول للشوكاني 1 / 176. وللوقوف على محل النزاع انظر: أفعال الرسول صلى الله عليه وسلم للأشقر 2 / 173 - 176.
(4) قال المصنف: ((لأن التخصيص أهون وأقرب للجمع)) . نفائس الأصول 6 / 2358.

(2/23)


الفصل الثالث
في تأسِّيه صلى الله عليه وسلم (1)
مسألة تعبُّد النبي صلى الله عليه وسلم بشرع من قبله قبل نبوته
ص: مذهب مالكٍ وأصحابِه أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبِّداً بشرع مَنْ قَبْله قبل نُبُوَّته (2) ، وقيل: كان متعبِّداً (3) ،
لنا أنه لو كان كذلك لافتخرتْ به أهل (4) تلك الملة وليس فليس.
_________
(1) مناسبة هذا الفصل لموضوع باب دلالة فعله صلى الله عليه وسلم هي: أن أفعاله صلى الله عليه وسلم قبل النبوَّة وبعدها، هل تكون موضعاً للتأسي به فيها فيما كان يفعله بمقتضى شرائع من قبله أم لا؟
اعتبر السرخسي وعبد العزيز البخاري البحث في مسألة: تعبد النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بشرع من قبله من

" أصول التوحيد " وليس من " أصول الفقه ". انظر: أصول السرخسي 1 / 100، كشف الأسرار للبخاري 3 / 398. وذكر أبو الحسن علي الأبْيَاري بأن هذه المسألة غير محتاج إليها في أصول الفقه. انظر: التحقيق والبيان في شرح البرهان ص 688 (رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى بمكة تحقيق / علي بن عبد الرحمن بسَّام) .
(2) انظر مذهب مالك وأصحابه في: تحفة المسؤول في شرح مختصر منتهى السُّول للرهوني (رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى بمكة تحقيق / يوسف الأخضر القيم) القسم الثاني ص 797، التوضيح لحلولو
ص 251، رفع النقاب القسم 2 / 350، مراقي السعود إلى مراقي السعود لمحمد الأمين الجكني المعروف بالمرابط ص 264.
والقول بمنع التعبد قبل البعثة مذهب جمهور المتكلمين، وغيرهم. انظر: المعتمد 2 / 336، قواطع الأدلة 2 / 224، المنخول للغزالي ص 231، كشف الأسرار للبخاري 3 / 398، الضياء اللامع 2 / 141.
(3) وهو المختار عند الحنفية، وابن الحاجب من المالكية، والبيضاوي من الشافعية، والصحيح من مذهب الحنابلة. انظر: العدة لأبي يعلى 3 / 765، منتهى السول والأمل ص205، كشف الأسرار للنسفي 2 / 171، جامع الأسرار للكاكي 3 / 906، الإبهاج 2/275، التقرير والتحبير 2 / 410، شرح الكوكب المنير 4/409.
ثم اختلف هؤلاء: على أيِّ شريعةٍ كان يتعبّد الله بها؟ فقيل: على شريعة آدم عليه السلام، وقيل: نوح، وقيل: إبراهيم، وقيل: موسى، وقيل: عيسى عليهم جميعاً السلام. وقيل: على ما ثبت أنه شرعٌ من غير تعيين نبيّ. انظر هذه الأقوال وأدلتها في: البحر المحيط للزركشي 8 / 39.
والمذهب الثالث في المسألة هو: التوقف، وهو المختار عند أكثر الشافعية، منهم: الجويني والغزالي وابن بَرْهان والآمدي والسبكي وغيرهم، وهو محكيٌّ عن أبي هاشم الجبائي والقاضي عبد الجبار، وقوَّاه أبو الخطاب في التمهيد 2/413.

وهذا المذهب هو الأجدر بالقبول إذا لا دليل على القطع بواقع النبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة: انظر: المعتمد 2/ 337، البرهان للجويني 1/ 334، المستصفي 1/391، الوصول لابن بَرْهان 1/389، الإحكام للآمدي 4/137، جمع الجوامع (بحاشية البناني) 2 / 353.
ولمعرفة سبب اختلافهم انظر: تقرير الشربيني على شرح المحلي لجمع الجوامع (بحاشية البناني) 2/ 352.
(4) ساقطة من س.

(2/24)


الشرح
هذه المسألة المختار* فيها أن نقول ((متعبِّداً)) بكسر الباء (1) على أنه اسم
فاعل (2) ، ومعناه: أنه صلى الله عليه وسلم كان -[كما قيل] (3) في سيرته - ينظر إلى ما عليه الناس فيجدهم على طريقةٍ لا تليق بصانع العالم، فكان يخرج إلى غار حراء (4) يَتَحَنَّث (5) - أي: يَتَعَبَّد - ويقترح أشياء لقُرْبها من المناسب في اعتقاده. ويخشى أن لا
تكون مناسبة لصانع العالم، فكان من ذلك في ألَمٍ عظيمٍ، حتى بعثه الله تعالى وعلَّمه جميع طرق الهداية وأوضح له جميع مسالك الضلالة، زال عنه ذلك الثِّقَل الذي كان يجده، وهو المراد بقوله تعالى: {وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ الَّذِي أَنقَضَ ظَهْرَك} (6) على أحد التأويلات، أي الثِّقَل الذي كُنْتَ تجده من أمر العبادة والتقرُّب (7) ،
فهذا
_________
(1) انظر: نفائس الأصول (6/2360) . علماً بأن الإسنوي ضبط الفعل: " تُعُبِّد " بضمتين أي: كُلِّف فهو متعبَّد. انظر: نهاية السول (3/46) ، وكذلك السبكي ضبط كلمة " متعبَّد " بالفتح كما وضحه الزركشي في تشنيف السامع (3 / 432) وجلال الدين المَحلِّي في شرح جمع الجوامع (بحاشية البناني) (2/353) ، وكذلك أشار ابن أمير الحاج إلى الفتح كما في التقرير والحبير (2 / 412) . ولعل الأوجه في الاختيار هو ما اختاره القرافي بالكسر لما ذكره من الحجج بعد ذلك.
(2) اسم الفاعل: هو ما اشْتُقَّ من مصدر فِعْلٍ لمن قام به على معنى الحدوث، كضَارب، ومُكْرِم, وصيغته من الثلاثي علي زنة فاعل: كضَارب، ومن غير الثلاثي بلفظ المضارع بشرط تبديل حرف المضارعة بميم مضمومة وكَسْر ما قبل آخره: كمُكْرِم. شرح شذور الذَّهَب لابن هشام ص 385.
(3) ساقط من س.
(4) ساقطة من ن.
(5) حَنِث: الحاء والنون والثاء أصل واحد، وهو: الإثم والحرج، وفلان يَتَحَنَّث من كذا: يتأثم، والتأثم هو التنحيِّ عن الإثم، ومن ذلك التحنُّث: وهو التعبد. معجم المقاييس في اللغة لابن فارس، مادة " حنث ".
وحديث تحنُّثِهِ الليالي ذوات العدد في غار حراء أخرجه البخاري (3) ومسلم (160) من حديث عائشة رضي الله عنها.
(6) الشرح، الآيتان: 2، 3.
(7) انظر هذا التأويل في: الكشاف للزمخشري 4/759، التفسير الكبير (مفاتيح الغيب) للفخر الرازي 32/6. قال الطبري "وحططنا عنك ثقل أيام الجاهلية التي كنت فيها" جامع البيان 15/295
- ومن التأويلات: أن النبي صلى الله عليه وسلم كانت له ذنوب في الجاهلية قبل النبوة فغفرها تعالى له، وقيل: ما كان يلحقه من الأذى والشتم حتى كاد ينقضي ظهره ثم قواه الله تعالى. وقيل: تخفيف أعباء النبوة التي تثقل الظهر ... إلى آخر هذه التأويلات. انظر: التفسير الكبير للرازي 32 / 5، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي

20 / 6، روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني للألوسي 15 / 389.

(2/25)


يتَّجه، أما بفتحها (1) فيقتضي أن يكون الله تعالى تعبَّده بشريعة سابقة، وذلك يأباه ما يحكونه من الخلاف هل كان متعبِّداً (2) بشريعة موسى أو عيسى فإن شرائع بني إسرائيل لم تَتَعَدَّهم (3) إلى بني إسماعيل (4) ، بل كل نبي من موسى وعيسى وغيرهما إنما كان يُبْعث إلى قومه فلا تتعدى رسالته قومه، حتى نقل المفسرون أن موسى عليه السلام لم يُبْعث إلى أهل مصر بل لبني إسرائيل، ليأخذهم من القِبْط (5) من يد فرعون (6) . ولذلك لما عَدَى البحر لم يرجع إلى مصر ليقيم فيها شريعته (7)
بل أعرض عنهم إعراضاً كُلّياً لما أخذ بني إسرائيل، وحينئذٍ لا يكون الله تعالى تعبَّد (8) نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم بشرعهما (9) ألبتَّة، فبطل (10) قولنا: إنه كان متعبَّداً بفتح الباء بل بكسرها كما تقدَّم (11) ، وهذا بخلافه (12) بعد (13) نبوته صلى الله عليه وسلم، فإنه تعبده الله تعالى بشرع من قبله على - الخلاف في ذلك - بنصوص وردت عليه في الكتاب العزيز فيستقيم الفتح فيما بعد النبوة دون ما قبلها (14) .
_________
(1) أي فتح باء ((مُتَعبَّد)) على أنها اسم مفعول من غير الثلاثي: ((تعبَّد)) . انظر: شرح شذور الذهب لابن هشام ص 396.
(2) في ن: ((متعبّد)) وهو خطأ نحوي؛ لعدم انتصابه على أنه خبر كان.
(3) في جميع النسخ ((تتعداهم)) إلا النسختين م، ز ففيهما ((يتعداها)) . وكلها خطأ نحوي؛ لعدم حذف حرف العلة من الفعل المجزوم. ثم وجدْتُ على طرر النسخة " م " قوله: ((وفي نسخة: لم تتعدهم)) وهي الصواب. ومع ذلك توجد لغةٌ تجزم المعتلّ بحذف الحركة المقدرة على حرف العلة مع إبقائه. وجاءت قرآءةٌ لعكرمة في قوله تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ} [الزلزلة: 7] قرأها ((يراه)) بالألف في الآيتين، حكاه الأخفش. انظر: شرح التصريح على التوضيح لخالد الأزهري 1 / 87، تفسير البحر المحيط لأبي حيان الأندلسي 8 / 498.
(4) في س: ((بني اسرائيل)) وهو خطأ وسَبْقُ قَلَمٍ من الناسخ.
(5) القِبْط: هم نصارى مصر، والواحد، قِبْطي. المصباح المنير مادة " قبط ". ولمعرفة أصولهم، انظر: الموسوعة الميسرة في الأديان والمذاهب والأحزاب المعاصرة إصدار الندوة العالمية للشباب الإسلامي 2 / 1123، المنجد في الأعلام ص 433.
(6) انظر: تفسير البحر المحيط لأبي حيان 7/10، وتفسير أبي السعود 6/19.
(7) ساقطة من س..
(8) في ق: ((بعث)) وهي غير مرادة هنا.
(9) في ن: ((بشريعتهما)) .
(10) في ق: ((فيبطل)) .
(11) في بداية هذا الشرح، الصفحة السابقة.
(12) في س: ((الخلاف)) ، وفي ن: ((بخلاف)) . وكلاهما غير متَّسق مع السياق.
(13) ساقطة من ن.
(14) سترد هذه المسألة بعد قليل في ص 31.

(2/26)


حجة النّافين لتعبُّده صلى الله عليه وسلم بشرع مَنْ قبله قبل نبوته
ومما يؤكد أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن متعبِّداً قبل نبوته بشرع أحدٍ (1) : أن تلك (2) الشرائع كانت داثرة لم يَبْقَ منها (3) ما يمكن التمسك به لأهلها فضلاً عن غيرهم، وهو صلى الله عليه وسلم لم يكن يسافر ولا يخالط أهل الكتاب (4) حتى يطلَّع على أحوالهم (5) ، فيَبْعُد مع هذا غاية البُعْد أن يَعْبُد الله تعالى بتلك (6) الشرائع. ولأنه لو كان (7) يتعبَّد (8) بذلك (9) [لكان يراجع] (10) علماء تلك الشرائع، ولو وقع ذلك لاشتهر.
حجة المثبتين لتعبده صلى الله عليه وسلم بشرع من قبله قبل نبوته
احتج القائلون بذلك: بأنه صلى الله عليه وسلم تناولته (11) رسالة من قبله فيكون متعبِّداً
بها (12) .
ولأنه (13) عليه* الصلاة والسلام كان (14) يأكل اللحم، ويركب البهيمة، ويطوف
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) ساقطة من س.
(3) في س، ن: ((فيها)) .
(4) في س: ((الكتب)) .
(5) أما سفره صلى الله عليه وسلم فقد ذكرتْ كتب السيرة بأنه خرج إلى الشام وهو صغير مع عمه أبي طالب، وهناك التقى الراهب بَحِيْرَا. كما كان يسافر في تجارة خديجة رضي الله عنها، ومع هذا فلا يُعْقل أن يتلقى النبي صلى الله عليه وسلم علم التوراة أو الإنجيل في سِنِّ التاسعة أو العاشرة أو الثانية عشرة - على اختلاف الروايات - وفي ساعة طعامٍ، وهو أٌميّ لا يقرأ ولا يكتب، فضلاً عن حاجز اللغة. انظر: عيون الأثر في فنون المغازي والمسائل والسير لابن سَيّد الناس ص52، السيرة النبوية لابن هشام 1/236، 244، السيرة النبوية الصحيحة د. أكرم العمري 1/106.
(6) في س، ن: ((على تلك)) .
(7) ساقطة من ق.
(8) في ن: ((يعتمد)) ، وفي ق: ((تعبَّد)) .
(9) ساقطة من س، وفي ن: ((ذلك)) .
(10) في ق: ((لراجع)) .
(11) في س ((تناوله)) وهو مقبول؛ لأن الفاعل ظاهر وهو مؤنث مجازي، فجاز في فعله عدم إلحاق تاء التأنيث، والأرجح إثباتها. انظر: شرح قطر الندى لابن هشام ص 169.
(12) هذا هو الدليل الأول.
(13) هذا هو الدليل الثاني.
(14) ساقطة من ن.

(2/27)


بالبيت، وهذه أمور (1) كلها (2) لابدَّ له (3) فيها من مستند، ولا مستند إلا الشرائع المتقدمة، خصوصاً على قول الأشاعرة (4) : إن العقل لا يفيد الأحكام وإنما تفيدها (5) الشرائع (6) .
والجواب عن الأول: أن ما ذكرتموه إنما [يتأتَّى في] (7) إسماعيل وإبراهيم ونوح عليهم السلام، لأنه صلى الله عليه وسلم من ذريتهم، أما موسى وعيسى عليهما السلام فلا، وقد وقع الخلاف في هؤلاء كلهم (8) : أيّهم كان (9) يَعْبد الله تعالى على شريعته؟ فأما هؤلاء الثلاثة فقد دَرَسَتْ (10) شرائعهم، وما دَرَس لا يكون حجة ولا يُعْبد الله تعالى به.
وعن الثاني: أن هذه الأفعال وإن قلنا بأن (11) الأحكام لا تثبت إلا بالشرع (12) فإنها تُسْتَصْحَب (13) فيها براءةُ الذمَّة من التَّبِعات (14) ، فإن الإنسان ولد بريئاً من جميع
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) ساقطة من ق.
(3) ساقطة من ن.
(4) الأشاعرة هم فرقة تنتسب إلى أبي الحسن الأشعري ت 330هـ كان معتزلياً ثم ترك الاعتزال، واتخذ مذهباً بين أهل السنة والجماعة والمعتزلة، ثم رجع وتاب وألَّف رسالته " الإبانة في أصول الديانة " قرر فيها مذهب السلف وموافقته للإمام أحمد رحمه الله، ولكن بقي أتباعه على مذهبه الثاني، فهم يثبتون لله سبع صفات ويؤولون الباقي، ولهم مخالفات أخرى في مسائل الاعتقاد على خلاف مذهب السلف. انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/106، خبيئة الأكوان في افتراق الأمم على المذاهب والأديان لمحمد صديق حسن خان ص 47، موقف ابن تيمية من الأشاعرة د. عبد الرحمن المحمود 2/694 وما بعدها.
(5) في ق: ((يفيدها)) وهو جائز. انظر هامش (12) ص (27) .
(6) هذا القول من الأشاعرة ليس مختصاً بهم، بل هو قول أهل السنة والجماعة (السلف) . انظر: الحُجَّة في بيان المَحَجَّة لقوَّام السنة أبي القاسم الأصبهاني (2/502) . وانظر قول الأشاعرة في: تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد للبيجوري ص30.
(7) في س: ((يتناول)) .
(8) ساقطة من ن.
(9) في ن: ((كانوا)) وهو خطأ؛ لأن المراد باسم ((كان)) هو النبي محمد صلى الله عليه وسلم.
(10) دَرَس الرَّسْمُ: عفا. ودَرَسَتْهُ الريحُ أي: مَحَتْهُ. فهو يتعدَّى ويَلْزم. انظر مادة " درس " في: لسان العرب، مختار الصحاح.
(11) في ق: ((إن)) .
(12) في س: ((الشرائع)) .
(13) في س: ((يستصحب)) وهو صحيح أيضاً. انظر هامش (11) ص (27) .
(14) في ن: ((التِّباعات)) وهي جمع ((تِبَاعة)) وهي مثل: التَّبِعة، وهي ما فيه إثم يُتَّبع به. انظر مادة " تبع " في: لسان العرب، مختار الصحاح.

(2/28)


الحقوق، فهو يَسْتَصْحِب هذه الحالة، حتى يدلَّ دليلٌ على شَغْل الذمَّة بحقٍّ، فهذا يكفي في مباشرته صلى الله عليه وسلم لهذه الأفعال.
فائدة: تقدَّم أن الصواب كَسْر الباء (1) ، وهو الذي يظهر لي (2) ، غير أنه وقع لسيف الدين في هذه المسألة كلام يدل على خلاف ذلك، وهو أن قال: غير مستبعد في العقل أن يعلم الله تعالى مصلحة شخص معين في تكليفه شريعة مَنْ قبله (3) ، وهذا كلام يقتضي فتح الباء، فانظرْ في ذلك لنفْسِك، وأما غيره فلم [أرَ له تعرضاً] (4) لذلك (5) ، فما أدري، هل اغترَّ بالموضع فأطلق هذه العبارة في الاستدلال، أو (6) هو أصل يعتمد عليه؟.
فائدة: حكاية الخلاف في أنه صلى الله عليه وسلم كان متعبِّداً قبل نبوته بشرع من
قبله، يجب أن يكون مخصوصاً بالفروع دون الأصول. فإن قواعد العقائد كان
الناس في الجاهلية مكلفين بها إجماعاً، ولذلك (7) انعقد الإجماع على أن موتاهم
في النار يُعذَّبون على كفرهم، ولولا التكليف* لما عُذِّبوا (8) ، فهو صلى الله عليه وسلم مُتعبَّد
_________
(1) في كلمة ((متعبِّد)) . انظر ذلك في ص 25.
(2) ساقطة من ق.
(3) انظر الإحكام لسيف الدين الآمدي 4/137.
(4) في س، ق: ((أره يتعرَّض)) .
(5) قال الزركشي ـ بعد نقله لكلام القرافي هذا ـ قلت: ((قد وقع ذلك في عبارة غيره كما سبق)) البحر المحيط 8/42. وانظر هامش (1) ص (25) .
(6) في ق: ((أم)) وهو ما لا يجيزه كثير من علماء النحو والبلاغة؛ لأن ((هل)) خاصةٌ بالاستفهام عن التصديق، ولا يُطْلب لها تعيين أحد الشيئين كالهمزة و ((أم)) . انظر: مغني اللبيب لابن هشام 1 / 90 - 96، 657، عقود الجُمان في المعاني والبيان للسيوطي بشرح العمري المرشدي 1 / 174 - 176. لكن قال سيبويه: ((وإن شئت قلتَ: هل تأتيني أم تحدثني؟ وهل عندك بُرٌّ أم شعير؟)) الكتاب 3 / 176.
(7) في ق: ((وكذلك)) .
(8) مسألة انعقاد الإجماع على أن موتى الجاهلية في النار فيها نظر. فإن من أهل العلم من اعتبرهم من ((أهل الفترة)) وهم الذين عاشوا بين رسولين ولم يكن الأول مرسلاً إليهم ولا أدركوا الثاني. وحكمهم في الدنيا أنهم كفار، ولكن لا يُقطع بدخولهم النار إلا ما ورد في بعضهم من أحاديث خاصة بتعذيبهم؛ لعلم الله تعالى بمصيرهم وإعلامه نبيَّه صلى الله عليه وسلم بذلك. ومما يدل على عدم تعذيبهم قوله تعالى: {وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً} [الإسراء:15] . فلا مؤاخذة إلا بعد قيام الحُجَّة الرسالية. وقد جاءت أحاديث تفيد بامتحان الله لأهل الفترة في عَرَصَات يوم القيامة. انظر: شرح الأبِّي والسنوسي على صحيح مسلم 1 / 616، طريق الهجرتين وباب السعادتين لابن قيم الجوزية ص 633، 652 وما بعدها، 675 - 682، روح المعاني للألوسي 8 / 38 وما بعدها، أضواء البيان تفسير القرآن بالقرآن للشنقيطي 3 / 471 وما بعدها؛ أهل الفترة ومن في حكمهم لموفق أحمد شكري.

(2/29)


بشرع (1) من قبله بفتح الباء بمعنى: مُكلَّف، هذا لا مِرْيَة فيه، إنما الخلاف في الفروع خاصةً؛ فعموم إطلاق العلماء مخصوص (2) بالإجماع.
فائدة: قال المَازَري (3) والأبْيَاري (4) في " شرح البرهان " (5) (6) ، وإمام الحرمين (7) :
_________
(1) في ن: ((بشريعة)) .
(2) في ق: ((مخصَّص)) .
(3) هو الإمام أبو عبد الله محمد بن علي التميمي المازري ـ نسبةً إلى مدينة مازَر في جزيرة صقلية ـ من علماء المالكية الكبار، بلغ درجة الاجتهاد، كان أصولياً فقيهاً طبيباً رياضياً أديباً. من تآليفه: إيضاح المحصول من برهان الأصول (وهو شرح البرهان الجويني) ، والمُعْلِم بفوائد كتاب مسلم (ط) ، ت 536 هـ. انظر: الديباج المذهب ص374، سير أعلام النبلاء 20 / 104، وفيات الأعيان 4 / 285.
(4) في ن: ((الأنباري)) وهو تحريف. وترجمته: هو شمس الدين أبوالحسن علي بن إسماعيل بن علي الأبْيَاري - نسبةً إلى بلدة أبيار بمديرية الغربية بمصر، جمع بئر - أصولي فقيه مالكي، محدّث، متكلّم. كان الإمام ابن عقيل المصري الشافعي يُفضِّل الأبياري على الإمام فخر الدين الرازي في الأصول. من تلاميذه: ابن الحاجب، ومن تصانيفه: شرح البرهان للجويني. حقق القسم الأول منه د. علي عبد الرحمن بسَّام بجامعة أم القرى. ت 616 هـ. انظر: الديباج المذهب ص306، شجرة النور الزكية 1/166.
(5) انظر: التحقيق والبيان في شرح البرهان للأبياري ص 688 (رسالة جامعية) .
ـ أما كتاب "البرهان في أصول الفقه" فهو لإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني ت478هـ مطبوع بتحقيق د. عبد العظيم الديب وهو أحد الأركان الأربعة التي قام عليها أصول الفقه (العمد، المعتمد، البرهان, والمستصفى) التي نوَّه عنها ابن خلدون في مقدمته (3/1065) ، مشى الجويني في كتابه البرهان على طريقة المتكلمين، وحفظ لنا آراء علماء الأصول المتقدمين التي اندثرت كتبهم، ويمتاز أسلوب الكتاب بعبارته الأدبية الشيقة، والكتاب يُعدُّ من مفتخرات الشافعية كما قال تاج الدين السبكي في طبقات الشافعية الكبرى 5/192.
ـ وممن شرح البرهان: المازري في كتابه " إيضاح المحصول من برهان الأصول " وهو مازال مخطوطاً أو مفقوداً.

ـ وممن شرح البرهان: الأبياري في كتابه " التحقيق والبيان في شرح البرهان " حقق القسم الأول منه
د. علي عبد الرحمن بسام بجامعة أم القرى. وتعجَّب السبكي من عدم شرح الشافعية للبرهان، وإنما شرحه المالكيان السالفان الذكر، وكذلك الشريف أبويحيى المالكي إذ جمع بين الشرحين وأشار السبكي إلى تحاملهما على إمام الحرمين في شرحهما. انظر: طبقات الشافعية الكبرى 5 / 192. وانظر: مقدمة كتاب البرهان د. عبد العظيم الديب، الفكر الأصولي د. عبد الوهاب أبوسليمان ص287 وما بعدها.
(6) هنا زيادة والإمام في س، ن وهي غير مثبتة في ق، وهو الصواب، والله أعلم، لأن الفخر الرازي لم يذكر هذه الفائدة لا في محصوله، ولا في المنتخب، ولا في المعالم.
(7) انظر: البرهان لإمام الحرمين 1/333. وإمام الحرمين: هو أبوالمعالي عبد الملك بن عبد الله بن يوسف الجُوَيْني ـ نسبةً إلى جُوَيْن من بلاد نيسابور ـ ولُقِّب بإمام الحرمين لمجاورته مكة والمدينة أربع سنين والتدريس بهما، وهو أصولي بارع وفقيه شافعي وأديب ومتكلم، رجع إلى معتقد السلف كما قرره في كتابه " الرسالة النظامية " من تآليفه في الأصول: التلخيص (ط) ، البرهان (ط) ، الورقات (ط) ، وفي الفقه: نهاية المطلب في دراية المذهب، وله في السياسة: الغياثي (غياث الأمم في التياث الظلم) (ط) ، وفي علم الكلام: الإرشاد (ط) . ت 478 هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 5/165، سير أعلام النبلاء 18/468، وفيات الأعيان 3 / 167.

(2/30)


هذه المسألة لا تظهر (1) لها ثمرة في الأصول ولا في الفروع ألبتَّة، بل تجري مجرى التواريخ المنقولة، ولا يترتَّب (2) عليها حكم في الشريعة ألبتة (3) ، وكذلك قاله (4) التَّبْريْزي (5) (6) .
مسألة تعبُّد النبي صلى الله عليه وسلم بشرع من قبله بعد نبوته
ص: وأما بعد نبوته صلى الله عليه وسلم: فمذهب مالكٍ رحمه الله وجمهور (7) أصحابه وأصحاب الشافعي وأصحاب (8) أبي حنيفة رحمة الله عليهم أجمعين أنه متعبَّد بشرع من قبله، وكذلك أمته، إلا ما خَصَّه (9) الدليل (10) .
ومنع [من ذلك] (11) القاضي أبو بكر
_________
(1) في ق، س: ((يظهر)) . وهو جائزٌ أيضاً. انظر: هامش (12) ص (27) .
(2) في ق: ((ولا يُبْنى)) .
(3) ساقطة في س.
(4) في ق: ((قال)) .
(5) انظر كتابه: تنقيح محصول ابن الخطيب في أصول الفقه ص (320) تحقيق د. حمزة زهير حافظ (رسالة دكتوراة بجامعة أم القرى) .

ـ والتَّبْريْزي هو: المُظَفَّر بن أبي محمد بن إسماعيل الرَّارَاني - نسبة إلى رَارَان: قرية بأصبهان ـ التَّبْريْزي ـ نسبة إلى تَبْريْز: بلد في أذربيجان - فقيه شافعي، أصولي نظار زاهد، استوطن مصر مدة طويلة يفتي ويدرس فيها. من مؤلفاته: تنقيح محصول ابن الخطيب وهو اختصار محصول الرازي. حققه د. حمزة زهير حافظ. توفي عام 621هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 8/373، طبقات الشافعية للإسنوي 2 / 314.
(6) المقصود من هذه الفائدة الدلالة على أن أفعاله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة ليست موضعاً لاستنباط الأحكام الشرعية.
ولكن مما يستفاد منه مما كان قبل نبوته؛ عاداته الحسنة وأخلاقه الكريمة مما يظهر حسنه ولا يخالف شرعاً. انظر مجموع فتاوى شيخ الإسلام 18/10، الشرائع السابقة ومدى حجيتها في الشريعة الإسلامية
د. عبد الرحمن الدرويش ص251.
(7) في ن: ((جميع)) وهو خطأ؛ لأن من المالكية من خالف جمهورهم كما سيأتي عن الباقلاني.
(8) ساقطة من س، ن، متن هـ. ولكنها مثبتة في جميع نسخ الشرح ومعظم نسخ المتن.
(9) في س: ((خصَّصه)) .
(10) هذا القول الأول في المسألة وهو أيضاً إحدى الروايتين عن الإمام أحمد، انظر: العدة لأبي يعلى 3/753، وقال في المسودة ص (193) بأنها أصحّ الروايتين. وقال الجويني ((للشافعي ميل إلى هذا ... وتابعه معظم أصحابه)) . البرهان (1 / 503) . وانظر: قواطع الأدلة 2 / 209. وقال مُلاَّ جِيُون الميهوي:
((
وهذا أصل كبير لأبي حنيفة رحمه الله، يتفرع عليه أكثر الأحكام الفقهية)) شرح نور الأنوار على المنار بحاشية كشف الأسرار للنسفي 2/170، وانظر: أصول السرخسي 2 / 99، تيسير التحرير 2/121. وقال ابن العربي: ((ليس في مذهب مالك خلاف في أن شرع من قبلنا شرع لنا، وأول من يتفطن لهذا من فقهاء الأمصار مالك، وعليه عوَّل في كل مسألة)) القبس في شرح موطأ مالك بن أنس (2 / 788) ويلاحظ هنا أن قوله: وأول من يتفطن لهذا.. إلخ فيه مبالغة وهو غير دقيق. وانظر: المقدمة في الأصول لابن القصار ص149، إحكام الفصول 394، الضياء اللامع 3 / 141.
(11) في س، متن هـ: ((منه)) .

(2/31)


وغيره [من أصحابنا] (1) . لنا قوله تعالى*: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} (2) ، وهو (3) عام لأنه اسم جنس (4) أضيف.
الشرح
شرائع من قبلنا ثلاثة أقسام (5) :
منها ما لا (6) يُعْلم إلا بقولهم، كما في لفظ ما بأيديهم (7) من التوراة أن الله تعالى حَرَّم لحم الجَدْي (8) بلبن أمه (9) يشيرون إلى
_________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من ق، س. وهذا القول الثاني في المسألة، وهو الرواية الأخرى عن الإمام أحمد، ومذهب طائفة من الحنفية والمالكية والشافعية، عليه أكثر المتكلمين وجمهور المعتزلة، وهو مذهب ابن حزم. انظر: المعتمد 2/337، الإحكام لابن حزم 2/153، إحكام الفصول ص394، التمهيد لأبي الخطاب 2/416، المحصول للرازي 3/265، كشف الأسرار للبخاري 3/398، الإبهاج 2/276.
أما القول الثالث في المسألة، فهو: التوقف. انظر: التلخيص للجويني 2/265، البحر المحيط للزركشي 8/45.
(2) الأنعام، من الآية: 90.
(3) في ق: ((وهذا)) . والضمير في قوله ((وهو)) يرجع إلى لفظ: ((هُدَى)) في قوله تعالى: {فَبِهُدَاهُمُ} فهو يعمُّ جميع أنواع الهدى: الأصول والفروع. انظر: نفائس الأصول6/2377.
(4) اسم الجنس: هو ما كان دالاً على حقيقةٍ موجودةٍ وذواتٍ كثيرة. شرح المُفَصَّل لابن يعيش 1/26. وهو نوعان، اسم جنس إفرادي: وهو ما دلَّ على الماهِيَّة لا بقَيْد قِلَّة ولا كثرة كماءٍ وترابٍ، واسم جنس جَمْعي: وهو ما دلّ على أكثر من اثنين. وفُرِق بينه وبين واحِدِهِ بالتاء غالباً، كتمر وكَلِم وبَقَر. انظر: حاشية الصبَّان على شرح الأشْمُوني على ألفية ابن مالك 1 / 38.
والمصنف ذكر في مبحث أدوات العموم أن اسم الجنس إذا أضيف فإنه يعمّ، لكن ليس على إطلاقه، بل فيه تفصيل. انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص181.
(5) ساقطة من ن.
(6) في ن: ((لم)) .
(7) في س: ((في أيديهم)) .
(8) الجَديْ: هو الذكَر من أولاد المعز، والأنثى: عَنَاق، وقيدَّه بعضهم بكونه في السنة الأولى. انظر: المصباح المنير مادة " جدي ".
(9) جاء في العهد القديم (التوراة) . من سفر الخروج، الإصحاح (23) فقرة: 19، والإصحاح (34) فقرة: 26 ما نصُّه: ((ولا تَطْبُخْ جَدْياً بلبن أمِّه)) . وانظر: سفر التثنية الإصحاح (14) فقرة: 21.

(2/32)


المَضِيْرة (1) (2) .
ومنها (3) : ما علم بشرعنا وأمِرْنا نحن أيضاً به (4) وشُرع لنا، فهذا أيضاً لا خلاف في (5) أنه شرع لنا كقوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى ش (6) مع قوله تعالى: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} (7) الآية (8) .
وثالثها: أن يدلّ شرعنا على أنَّ فِعْلاً كان مشروعاً لهم ولم يقل لنا شرع لكم أنتم أيضاً، فهذا هو محل الخلاف لا غير (9) .
_________
(1) المَضِيرة: مُرَيْقة تُطبخ بلَبَنٍ وأشياء، وقيل: هي طبيخ يُتَّخذ من اللبن الماضر (الحامض) ، وهي عند العرب أنْ تطبخ اللحم باللبن البَحْت الصريح الذي قد حَذَى (قرَص) اللسان حتى يَنْضَج اللحمُ وتَخْثُر المَضِيْرة. لسان العرب مادة " مضر ".
(2) حُكم هذا القسم: أنه ليس شرعاً لنا بلا خلاف. انظر: الإحكام لابن حزم 2 / 154.
والأخبار التي يحكيها أهل الكتاب ولم تَثْبت بطريق شرعي معتبر تُسمَّى: إسرائيليات. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((وهذا كالإسرائيليات يجوز أن يُروى منها ـ ما لم يُعلم أنه كذب ـ للترغيب والترهيب، فيما عُلِم أن الله تعالى أمر به في شرعنا ونهي عنه في شرعنا، فأما أن يَثْبُت شرعاً لنا بمجرد الإسرائيليات التي لم تثبت فهذا لا يقوله عالم ... )) مجموع الفتاوى 1 / 251.
(3) في س، ق: ((ومنه)) . والمثبت أظهر؛ لعود الضمير على ((الأقسام)) .
(4) ساقطة من س.
(5) ساقطة من س، ق.
(6) البقرة، من الآية: 178.
(7) المائدة، من الآية: 45.
(8) القَدْر الذي أمِرْنا به في شرعنا وثبت أنه كان شرعاً لهم هو القِصاص في النفس، أما القِصاص فيما دون النفس والسّن والجروح فهو مما ثبت أنه شرع لهم ولم يرد في شرعنا أنه شَرْعٌ لنا، فيُلحق حينئذٍ بمحلِّ النزاع، ولهذا قال المصنف نفسه في كتابه نفائس الأصول (6/2374) : ((وآية السِّن استدلالٌ بشرع من قبلنا وهو مختلف فيه)) . إلا أن يقال بأن القصاص فيما دون النفس جاء في آيات أخرى كقوله تعالى: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُواْ عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُم} [البقرة: 194] . وقوله تعالى: {وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ... } [الشورى:40] ، فيكون من القسم الذي لا نزاع فيه، لأنه عُلم من شرعنا أنه شرع لهم وأمرنا به في شرعنا. ومن الأمثلة الظاهرة على هذا القسم قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 183] .
(9) قال المصنف: ((فلموطن الخلاف شرطان: ثبوته في شرعنا، وعدم ورود شرعنا باقتضائه منّا. فمتى انخرم أحد الشرطين انتفى الخلاف إجماعاً، على النفي أو على الثبوت)) . نفائس الأصول 6 / 2372. وانظر: اقتضاء الصراط المستقيم لشيخ الإسلام ابن تيمية 1 / 464.

(2/33)


كقوله تعالى حكايةً عن المنادي (1) الذي بعثه يوسف عليه السلام: {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} (2) فيستدل به على جواز الضمان (3) ،
وكذلك قوله تعالى حكايةً عن شُعَيْب (4) وموسى عليهما السلام: {قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِندِكَ} (5) الآية يستدل بها على جواز الإجارة (6) ، بناءً على أن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟.
أما ما لا يثبت إلا بأقوالهم فلا يكون حجة لعدم صحة السند وانقطاعه. ورواية الكفار لو وقعتْ (7) لم تقبل، فكيف وليس في (8) أهل الكتاب مَنْ يروي التوراة فضْلاً عن غيرها؟!. وما لا رواية فيه كيف يخطر بالبال أنه حجة؟!
_________
(1) لم تذكر كتب التفسير ولا كتب مبهمات القرآن ـ فيما اطلعت عليه ـ اسم المنادى، وهو المؤذِّن في قوله تعالى: { ... ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ} [يوسف: 70] . لكنَّه فتى من فتيان الملكِ عزيز مصر. انظر: فتح القدير للشوكاني 3/44.
(2) يوسف، من الآية: 72. والزعيم: الكفيل. انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني مادة " زعم ".
(3) الضمان لغة: الالتزام. المصباح المنير، مادة " ضمن ". اصطلاحاً: عرّفه ابن عرفة بأنه ((التزام دَيْنٍ لا يُسْقِطُه أو طَلَبِ مَنْ هو عليه لمن هو له)) حدود ابن عرفة بشرحه للرصَّاع 2 / 427. وقد أشار المصنف إلى الاستدلال بالآية على مشروعية الضمان في كتابه: الذخيرة 9 / 189.

وهذه الآية {وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ} [يوسف: 72] يستدلُّ بها أيضاً على مشروعية الجعالة. ذكر ذلك القرافي في الذخيرة (6/5) ويستدل بها أيضاً على صحة ضمان المجهول. انظر: أحكام القرآن لابن العربي 3/64، المغني لابن قدامة 7 / 73.
(4) ذكر ابن كثير أن المفسرين اختلفوا في رَجُل مَدْين على أقوال منها: أنه شعيب النبي عليه السلام وهو القول المشهور عند كثيرين، ومنها: أنه ابن أخي شعيب عليه السلام، وقيل: رجل مؤمن من قوم شعيب عليه السلام، ثم رَدَّ القول بأنه شعيب عليه السلام، وكذلك رَدَّ هذا القول الشيخ عبد الرحمن السعدي بحجج وبراهين قوية. قال ابن جرير الطبري: ((وهذا مما لا يُدرك علمه إلا بخبرٍ، ولا خبر بذلك تجب حجته، فلا قول في ذلك أولى بالصواب مما قاله الله جلَّ ثناؤه ... )) جامع البيان مجلد 11 / جزء 20/77. وانظر: تفسير القرآن العظيم لابن كثير 6/238، تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنَّان للسعدي 4 / 16.
(5) القصص، من الآية: 27.
(6) الإجارة لغة: الكِراء على العمل. معجم المقاييس في اللغة لابن فارس مادة " أجر ". واصطلاحاً: عَقْد مُعاوَضَة على تمليك منفعة بعِوَضٍ بما يدلُّ على تمليك المنفعة من لفظٍ أو غيره. الشرح الصغير على أقرب المسالك إلى مذهب الإمام مالك للدردير 4 / 6.
واستدلَّ المصنف بآية [القصص: 27] على أصل مشروعية الإجارة. انظر: الذخيرة 5/371. واستخرج ابن العربي ثلاثين مسألة من هذه الأية، واستنبط منها أحكاماً كثيرة. راجع: أحكام القرآن 3 / 494.
(7) هنا زيادة ((رواية)) في س، وفي ن زيادة ((الرواية)) . كلتاهما لا حاجة لهما.
(8) في ق: ((من)) .

(2/34)


وبهذا يظهر لك بطلان قول (1) من استدل في هذه المسألة بقضية (2) رجم اليهوديَيْن (3) ، وأن (4) رسول الله اعتمد على أخبار ابن صُوْريا (5) أن فيها الرجم، ووجد فيها كما قال (6) ،
فان من أسلم من اليهود لم يكن له رواية في التوراة، وإنما كانوا يُعْمِلون فيها ما رأوه (7) ، أما أنَّ (8) لهم سنداً متصلاً (9) بموسى عليه السلام كما فعله (10) المسلمون في كتب الحديث فلا، وهذا معلوم بالضرورة لمن اطَّلع على أحوال القوم
_________
(1) ساقطة من جميع النسخ، والمثبت من نسخة ش. وهو الأنسب لتوجّه البطلان إلى القول.
(2) في ق: ((بقصة)) .
(3) ورد من حديث ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا. فقال لهم رسول الله:» ما تجدون في التوراة في شأن الرَّجم؟ «فقالوا: نفضحهم ويُجْلدون. قال عبد الله بن سَلام: ارفع يديك، فرفع يده، فإذا فيها آية الرجم، قالوا: صدق يا محمد فيها آية الرجم، فأمر بهما رسول الله فرُجِمَا. رواه البخاري (6841) ، مسلم (1699) .
(4) في س: ((أن)) بدون الواو.
(5) هو عبد الله بن صُوْريَا، ويقال: ابن صُوْر الإسرائيلي. وكان من أحْبار اليهود، يقال: إنه أسلم، كما قيل في قوله تعالى: {الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِه} [البقرة: 121] ، أنها نزلت فيه وفي عبد الله ابن سَلام وغيرهما. وقيل: إنه ارتَدَّ ونزل فيه قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْر} [المائدة: 41] فالله أعلم. انظر الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 4/115.
(6) يدلُّ على ذلك حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: مَرَّ النبي صلى الله عليه وسلم بيهوديٍّ مُحَمَّمَاً (مسوّد الوجه من الحُممة) مجلوداً فدعاهم صلى الله عليه وسلم فقال:» هكذا تجدون حَدَّ الزاني في كتابكم؟ «قالوا: نعم. فدعا رجلاً من علمائهم (وهو عبد الله بن صوريا) فقال: ((أنشدك بالله الذي أنزل التوراة على موسى، أهكذا تجدون حدَّ الزاني في كتابكم؟)) قال: لا، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك، نجده الرجم ... الحديث. رواه مسلم (1700) ..قال النووي رحمه الله: ((قال العلماء: هذا السؤال ليس لتقليدهم، ولا لمعرفة الحكم منها، وإنما هو لإلزامهم بما يعتقدونه في كتابهم. ولعلّه صلى الله عليه وسلم قد أوحي إليه أن الرجم في التوراة الموجودة في أيديهم لم يغيروه كما غيّروا أشياء، أو أنه أخبره بذلك من أسلم منهم، ولهذا لم يَخْفَ ذلك عليه حين كتموه..)) شرح صحيح مسلم 11 / 174. وانظر: فتح الباري لابن حجر 12 / 205.
(7) في ن: ((رواه)) وهو تصحيف.
(8) هنا زيادة ((يكون)) في ن، وهي مُقْحمة، بدليل بقاء ما بعدها " سنداً متصلاً " في حالة الانتصاب.
(9) المتصل لغة: اسم فاعل من اتَّصَل، ضِدّ انقطع. انظر مادة " وصل " في: القاموس المحيط. واصطلاحاً: ما اتصل إسناده مرفوعاً كان أو موقوفاً على من كان. ويسمَّى أيضاً: الموصول. انظر: تدريب الراوي للسيوطي 1/201، تيسير مصطلح الحديث د. محمود الطحان ص136.
(10) في ق: ((فعل)) .

(2/35)


وكاشفهم وعرف ما هم عليه، بل رسول الله يجب أنْ يُعْتقد أنه إنما اعتمد في رجم اليهوديين على وَحْي جاءه (1) من قبل الله تعالى، أما غير ذلك فلا يجوز (2) ، ولا يُقْدِم رسول الله صلى الله عليه وسلم على دماء الخلق بغير مستندٍ صحيحٍ، فالاستدلال في هذه المسألة بهذه القضية (3) لا يصحُّ (4) ، بل لا يندرج في هذه المسألة إلا ما عُلِم أنه من شرعهم بكتابنا ومن قِبَل نبينا فقط.
حجة المثبتين من (5) وجوه:
أحدها: ما تقدّم من الآية (6) .
وثانيها: قوله تعالى: {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ} (7) [و" ما " عامة في جملة ما وصى به نوحاً ووصى به إبراهيم وموسى* وعيسى] (8) .
وثالثها: قوله تعالى: {مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} (9) . تقديره: اتبعوا ملة أبيكم (10) إبراهيم (11) (12) .
_________
(1) في ن: ((جاء)) .
(2) انظر كلاماً قوياً في المسألة لابن حزم في: الإحكام 2 / 172، 154.
(3) في ق: ((القصة)) .
(4) ومع هذا فقد وُجد في كتب الأصول من يستدّل بحديث رجم النبي صلى الله عليه وسلم لليهوديين على أن شرع من قبلنا شرع لنا، فعلى سبيل المثال انظر: كتاب في أصول الفقه للاَّمشي الحنفي ص158، روضة الناظر لابن قدامة 2/522
(5) ساقطة من ن.
(6) راجع ص 32 وهي قوله تعالى: {أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} [الأنعام: 90] .
(7) الشورى، من الآية: 13.
(8) ما بين المعقوفين ساقط من ق.
(9) سورة الحج، من الآية: 87 {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا} .
(10) ساقطة من ن.
(11) ساقطة من ق.
(12) هذا أحد الأوجه الإعرابية الخمسة؛ وهو إعراب " ملة " مفعولاً به لفعلٍ مقدَّر، وهو أقواها، ويشهد له قوله تعالى: {فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا} [آل عمران: 95] . انظر بقية الأوجه في: الفتوحات الإلهية بتوضيح تفسير الجلالين للدقائق الخفية للجَمَل 5 / 222.

(2/36)


ويَردُ على الكل أن المقصود قواعد العقائد لا جزئيات الفروع؛ لأنها هي التي وقع الاشتراك فيها بين الأنبياء كلهم، وكذلك* القواعد الكلية من الفروع (1) . أما جزئيات المسائل فلا اشتراك فيها (2) ، بل هي مختلفة في الشرائع (3) .
حجة النافين (4) من وجوه:
أحدها: أنه (5) لو كان صلى الله عليه وسلم متعبَّداً بشرع من قبله لوجب عليه مراجعة تلك الكتب، ولا يتوقف إلى نزول الوحي، لكنه لم (6) يفعل ذلك لوجهين، أحدهما: أنه لو فعله لاشْتَهر. والثاني: أن عمر رضي الله عنه طالع ورقة من التوراة فغضب (7) ، وقال: ((لو كان موسى حيّاً ما وسعه إلا اتباعي)) (8) .
وثانيها: أنه صلى الله عليه وسلم لو كان متعبَّداً [بشرع من قبله] (9) لوجب على علماء الأمصار والأعصار أن يفعلوا ذلك ويراجعوا شرع من قبلهم، ليعلموا ما فيه، وليس كذلك.
_________
(1) مثل: وجوب الصلاة والزكاة والصوم، وتحريم الفواحش والقتل والسرقة.. ونحو ذلك.
(2) هنا زيادة ((بين الأنبياء كلهم)) في ن، وهي تكرار يمكن الاستغناء عنها.
(3) لمزيد معرفة أدلة المثبتين ومناقشتها: انظر: المعتمد 2/337، إحكام الفصول ص394، التلخيص للجويني 2/266، أصول السرخسي 2/99، التمهيد لأبي الخطاب 2/417، بذل النظر ص 682، الإحكام للآمدي 4/140، شرح مختصر الروضة للطوفي 3/170، موقع شرع من قبلنا من الأدلة د. عبد الله بن عمر الشنقيطي.
(4) في س: ((الباقين)) وهو تصحيف.
(5) ساقطة من ن.
(6) ساقطة من ن.
(7) أي رسول الله صلى الله عليه وسلم
(8) رواه الإمام أحمد في مسنده 3/338، 278 من حديث عبد الله بن جابر رضي الله عنه أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب فقرأه النبي صلى الله عليه وسلم فغضب، فقال:» أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟! والذي نفسي بيده؛ لقد جئتكم بها نقيةً، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذِّبوا به، أو بباطل فتصدِّقوا به، والذي نفسي بيده، لو أن موسى عليه السلام حيّاً ما وسعه إلا أن يتَّبعني «متهوّكون: متحيِّرون وَزْناً ومعنى. الفتح الرباني لأحمد بن عبد الرحمن البنا 1/174. والحديث رواه الدارمي في سننه
(1/126) ، والبغوي في شرح السنة (1/270) وحسَّنه شعيب الأرناؤوط. وحسَّنه الألباني وذكر له شواهد عِدَّة، راجع: إرواء الغليل 6/34 الحديث رقم (1589) .
(9) ساقط من س، ن، ق. وهي مثبتة في ص، هـ، و.

(2/37)


وثالثها: أنه صلى الله عليه وسلم صَوَّب مُعاذاً في حكمه باجتهاد نفسه إذا عَدِم الحُكْمَ في الكتاب والسنة (1) ،
وذلك يقتضي أنه لا يلزمه (2) اتباع الشرائع المتقدمة.
والجواب عن الأول: أنه قد تَقَدَّم (3) أن شرع من قبلنا إنما يلزمنا إذا علمناه (4)
_________
(1) حديث معاذ رضي الله عنه: أن رسول الله لما أراد أن يبعثه إلى اليمن قال:» كيف تقضي إذا عرض لك

قضاء؟ «قال: أقضي بكتاب الله. قال:» فإن لم تجد في كتاب الله؟ «قال: فبسنَّة رسول الله. قال:» فإن لم تجد في سنة رسول الله ولا في كتاب الله؟ «قال: أجتهد رأيي ولا آلو. فضرب رسول الله صدره فقال:» الحمد لله الذي وفق رسولَ رسولِ الله لما يرضي رسولَ الله «.
رواه الإمام أحمد 5/230، 236، 242، وأبوداود (3592، 3593) ، والترمذي (1327) ، والدارمي 1/72 وغيرهم. واختلف العلماء في تصحيحه وتضعيفه، وطال الكلام فيه.
? ... فممن ضَعَّفه: البخاري في التاريخ الكبير (2/277) ، والترمذي في سننه (1327) ، وابن الجوزي في العلل المتناهية (2/758) ، والجوزقاني في: الأباطيل والمناكير (1/106) وقال: ((هذا حديث باطل ... ، واعلم أنني تصفَّحتُ عن هذا الحديث في المسانيد الكبار والصغار، وسألتُ من لقيته من أهل العلم بالنقل عنه، فلم أجد له طريقاً غير هذا، ... . وبمثل هذا الإسناد لا يعتمد عليه في أصلٍ من أصول الشريعة، فإن قيل لك: إن الفقهاء قاطبةً أوردوه في كتبهم واعتمدوا عليه؟ فقل: هذا طريقه، والخَلَف قلّد فيه السلف، فإن أظهروا غير هذا مما ثبت عند أهل النقل رجعنا إلى قولهم، وهذا مما لا يمكنهم ألبتة)) . وممن ضعفَّه ابن حزم في الإحكام (2/428، 211) ، وابن الملقّن في خلاصة البدر المنير (2/424) وممن ضعفه أيضاً: العُقيلي، والدارقطني، وابن طاهر، وعبد الحق الإشبيلي، والسبكي، انظر: سلسلة الأحاديث الضعيفة (2/286) رقم الحديث (881) للألباني، وصحح الألباني معنى الحديث فيما يتعلق بالاجتهاد عند فقدان النص، لكنه أنكر صحة المعنى في التفريق بين الكتاب والسنة، فالواجب ـ عنده ـ النظر في السنة وإن وُجد الحكم في الكتاب لأنها مبّينة له.
? ... وممن صَحَّح الحديث: الذين ذكرهم ابن حجر في قوله: ((وقد أطلق صِحَّته جماعة من الفقهاء كالباقلاني، وأبي الطيب الطبري، وإمام الحرمين، لشهرته وتلقي العلماء له بالقبول. وله شاهدٌ صحيح الإسناد، لكنه موقوف)) موافقة الخُبْر الخَبَرَ في تخريج أحاديث المختصر (1/119) . وصححه العظيم أبادي في عون المعبود (9/369) ، وشيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (11/364) وقال: ((وهذا الحديث في المسانيد والسنن بإسناد جيد)) ، وكذا قال ابن كثير في مقدمة تفسيره (1/13) ، وحسَّنه الذهبي في تلخيص العلل المتناهية ص (269) وقال: ((وهذا حديث حسن الإسناد، ومعناه صحيح)) وقال في سير أعلام النبلاء (18/472) ((فإسناده صالح)) وقال الشوكاني: ((وهو حديث مشهور، له طرق متعددة، ينتهض مجموعها للحُجِّية، كما أوضحنا ذلك في مجموعٍ مستقلٍّ)) إرشاد الفحول (2/322) فالحديث صالحٌ للاحتجاج به وإن كان في إسناده ضَعْفٌ وجهالةٌ؛ لكنه يعتضد بقبول العلماء له، والآثار الصحيحة الموقوفة على الصحابة رضي الله عنهم. والله أعلم.
(2) في ق: ((يلزم)) .
(3) انظر: ص 33 - 34.
(4) في ن: ((علمنا)) .

(2/38)


من قبل نبينا صلى الله عليه وسلم بوحيٍ، أمَّا مِنْ قِبَلِهم فلا تلزم (1) مراجعتهم لعدم الفائدة في ذلك (2) . وهو الجواب عن الثاني.
وعن الثالث: أن من جملة الكتاب (3) دلالته على اتباع الشرائع المتقدمة (4) .
فائدة (5) : قال الإمام فخر الدين: إذا قلنا بأنه كان متعبَّداً فقيل: بشرع إبراهيم، وقيل: بل بموسى، وقيل: بل بعيسى عليهم الصلاة والسلام (6) . وهذا (7) الذي نقله الإمام في هذه المسألة لم ينقله " البرهان "، ولا " المستصفى " ولا سيف الدين، ونقلوا هذا النقل بعينه فيما قبل النبوة (8) ، ونقل المازري الخلاف بعينه في المسألتين (9) ، وكذلك القاضي عبد الوهاب (10) في " الملخص " (11) ،
وزاد في النقل
_________
(1) في س، ق: ((يلزم)) وهو جائز. انظر هامش (11) ص (27) .
(2) وكان جواب القرافي عن حديث ((لو كان موسى حياً لما وسعه إلا اتباعي)) هو: ((لا يلزم من اتباع الرسل له ألاّ يكون متعبَّداً بالشرائع، لجواز أن يكون متعبَّداً بها، وهم على تقدير وجودهم يصيرون تابعين له فيما كانوا متَّبعين فيه، كما يصير الإمام مأموماً لطريانٍ عارضٍ)) نفائس الأصول 6/2373.
(3) في س: ((الكتب)) وهو تحريف؛ لأن المراد هنا بالكتاب القرآن.
(4) لمزيد معرفة أدلة النافين ومناقشتها، انظر: المصادر المذكورة في هامش (3) ص (37) .
(5) انظرها أيضاً في نفائس الأصول 6/2370
(6) هذا النقل عن فخر الدين فيه تصرُّف. انظر: المحصول 3/266.
(7) في س: ((وهو)) وهو تحريف؛ لا يؤدي الغرض منه.
(8) انظر: البرهان 1 / 333 - 334، المستصفى 1 / 391، الإحكام للآمدي 4 / 137.
(9) ممن نقله عن المازري: أبو عبد الله محمد الأصفهاني في كتابه: الكاشف عن المحصول 5/ 193، وانظر: نفائس الأصول 6 / 2370.
(10) هو القاضي أبومحمد عبد الوهاب بن علي بن نَصْر التَّغْلِبي ـ نسبة إلى قبيلة تغلب ـ البغدادي، فقيه مالكي، أصولي، شاعر، عابد، ولي القضاء في العراق وفي مصر، وصفه ابن القيم - في كتابه: اجتماع الجيوش الإسلامية ص (164) - بأنه من كبار أهل السنة، من شيوخه: الأبهري وابن القَصَّار والباقِلاَّني، ومن تلاميذه: الخطيب البغدادي، وأبو إسحاق الشيرازي. ومن تآليفه: التلقين (ط) ، المعونة على مذهب عالم المدينة (ط) وهما في الفقه. والإفادة، والتلخيص (ويطلق عليه: الملخَّص) ، والمفاخر: كلها في أصول الفقه. توفي عام 422هـ. انظر: ترتيب المدارك 4 / 691، الديباج المذهب ص261، سير أعلام النبلاء 17 / 429.
(11) هذا أحد كتب القاضي عبد الوهاب الأصولية، ويطلق عليه: التلخيص ولم أقف عليه، ولست أدري هل ما زالت مخطوطته موجودة أم مفقودة؟ كسائر كتبه الأصولية. وقد ذكر القرافي في مقدمة الذخيرة التي سمَّاها

" تنقيح الفصول " أنه اعتمد على أخذ جملة كتاب " الإفادة " للقاضي عبد الوهاب وهو مجلدان في أصول الفقه. انظر: الذخيرة (1/55) . وها هو يعتمد أيضاً على كتاب " الملخص " في شرحه لتنقيح الفصول. وكذا قد اعتمد عليه وعلى " الإفادة " في كتابه: نفائس الأصول (1/92) وكذلك قد اعتمد الزركشي على كتب القاضي عبد الوهاب الأًصولية في كتابه: البحر المحيط (1/15) .

(2/39)


فقال: من الناس من قال كان متعبَّداً بشريعة (1) كل نبيٍّ تقدَّمه إلا ما نُسِخ أو دُرس (2) ، وهذا لم تنقله الجماعة (3) ، مع أنه غالب بحث الفقهاء في المباحث، فلا يخصُّون (4) شرعاً معيناً دون غيره.
قال القاضي: ومذهب المالكية (5) أن جميع شرائع الأمم شرع لنا إلا ما نسخ، ولا فرق بين موسى عليه السلام وغيره (6) .
قال ابن بَرْهان (7) : وقيل كان متعبِّداً قبل النبوة بشرع آدم عليه السلام؛ [لأنه أول الشرائع] (8) ، وقيل كان على دين نوح عليه السلام (9) .
_________
(1) في ق: ((بشرع)) .
(2) انظر: الكاشف عن المحصول للأصفهاني 5 / 193، البحر المحيط للزركشي 8/40، وانظر: نفائس الأصول 6 / 2370.
(3) يريد بهم من ذكرهم سلفاً وهم: الجويني والغزالي والآمدي والرازي.
(4) في س: ((يُخصِّصون)) .
(5) وهذا أيضاً مذهب الحنابلة. انظر: العُدَّة لأبي يعلى 3/757، المسودة ص 193.
(6) عند إطلاق " القاضي " ينصرف الذهن إلى القاضي الباقلاني. ولكن هذا النقل ربما كان عن القاضي
عبد الوهاب بقرينة العهد الذكري. ثم إن الأصفهاني في كتابه الكاشف عن المحصول (5 / 193) نقل هذا موصولاً بالقاضي عبد الوهاب. وانظر: نفائس الأصول 6 / 2371.
(7) هو أحمد بن علي بن محمد المعروف بابن بَرْهان ـ بفتح الباء ـ الفقيه الشافعي الأصولي، كان حنبلي المذهب ثم انتقل إلى مذهب الشافعي، عُرِف بالذكاء والحفظ حتى ضرب به المثل، من شيوخه: ابن عقيل الحنبلي، والغزالي، والْكِيا الهرَّاسي. له ستة كتب في الأصول وهي: الوجيز، والأوسط، والبسيط، والوسيط، والتعجيز، والوصول إلى الأصول، والكتاب الأخير مطبوع بتحقيق د. عبد الحميد أبوزنيد، أما الكتب السابقة فلا يُدرى عن وجودها. توفي عام 518 هـ وقيل 520 هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 6/30، وفيات الأعيان 1/99، سير أعلام النبلاء 19 / 456.
(8) ساقط في س.
(9) لم أجد هذا النقل عن ابن برهان في كتابه " الوصول إلى الأصول "، فلعلَّه في أحد كتبه الأصولية غير المطبوعة كـ" الأوسط ". والمصنف نفسه يعتمد على كتاب " الأوسط " لابن برهان كما في ص (97) ولكن وجدت هذا النقل عن ابن برهان في كتب أصولية أخرى، كالكاشف عن المحصول 5 / 193، ونهاية السول للإسنوي 3/48، والتقرير والتحبير 2/308. وانظر: نفائس الأصول 6 / 2371.

(2/40)