جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول

الباب الرابع عشر
في النسخ
وفيه خمسة فصول:

(2/41)


الفصل الأول
في حقيقته (1)
ص: قال القاضي منا (2) والغزالي (3) (4) : هو خِطابٌ دَالٌّ على ارتفاع حُكْمٍ
ثابتٍ بخطابٍ متقدِّمٍ على وَجْهٍ لولاه لكان (5) ثابتاً مع تراخِيْهِ عنه (6) . وقال الإمام فَخْرُ الدِّيْن: الناسخُ طريقٌ شرعيٌّ يدلُّ على أنَّ مِثْلَ الحكمِ الثَّابتِ بطريقٍ
شرعيٍّ (7) لا يوجد بعده، متراخياً عنه بحيث لولاه لكان ثابتاً (8) ، فالطريق
_________
(1) ذكر المصنف حقيقة النسخ اصطلاحاً. وأما حقيقته اللغوية فهي: الرفع والإزالة والإبطال والنقل والتحويل والتبديل والتغيير. انظر مادة " نسخ " في: لسان العرب، المصباح المنير، مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، وانظر كتاب: النسخ بين الإثبات والنفي د. محمد فرغلي ص 20 وما
بعدها، فقد توسع في التعريف اللغوي للنسخ.
(2) نسبه إلى القاضي الباقلاني كثيرٌ من الأصوليين منهم: الآمدي في الإحكام 3 / 105، وابن الحاجب في منتهى السول والأمل ص 154، وقال ابن السبكي: ((هذه عبارته في مختصر التقريب)) الإبهاج في شرح المنهاج 2 / 22.
(3) انفردت نسخة ن بزيادة ((من الشافعية)) .
(4) انظر: المستصفى 1 / 207.
(5) في ق: ((كان)) والمثبت أولى؛ لأن الأكثر اقتران جواب " لولا " باللام، وحذفها قليل في الكلام أو خاصٌ بالضرورة الشعرية، ولم يقع منه في القرآن شيءٌ. انظر: همع الهوامع للسيوطي 2 / 476.
(6) ممن اختار هذا التعريف: الخطيب البغدادي في الفقيه والمتفقه 1 / 245، وأبو إسحاق الشيرازي في شرح اللمع 1 / 481، وإمام الحرمين في التلخيص 2 / 452، وابن عقيل في الواضح في أصول الفقه 1 / 212، وهو تعريف ابن جُزي الكلبي من المالكية في تقريب الوصول ص 310. وانظر المناقشات حول التعريف في: الإحكام للآمدي 3 / 105، شرح البدخشي 2 / 163.
(7) ساقطة من ق، متن هـ.
(8) انظر: المحصول للرازي 3 / 285. لكن ذُكر في بعض النسخ المخطوطة للمحصول تعريف " النسخ " بدلاً من " الناسخ " وهي التي أثبتها مُحقِّق " المحصول " د. طه العلواني. وانظر المناقشات حول التعريف في: الكاشف عن المحصول للأصفهاني 5 / 213، رفع النقاب القسم 2 / 371، النسخ في القرآن الكريم د. مصطفى زيد 1 / 76 - 109، النسخ في دراسات الأصوليين د. نادية العمري ص 27 - 55.

(2/42)


يشمل (1) سائر المدارك: الخطابَ وغيرَه، وقوله: ((مثل الحكم)) : لأن الثابت قبل النسخ غيرُ المعدوم بعده (2) . وقوله: ((متراخياً عنه (3)) ) ؛ لئلا يَتَهَافَتَ (4)
الخطاب. وقوله: ((لولاه لكان ثابتاً)) احترازاً من المُغَيَّات (5) نحو الخطاب (6) بالإفطار بعد (7) [غروب الشمس] (8) فإنه ليس ناسخاً (9) [لوجوب الصوم] (10) .
الشرح
يَرِدُ على الأول أن النسخ قد يكون بالفعل كما تقدَّم (11) فلا يكون الحَدُّ (12)
_________
(1) في ق، متن هـ: ((تشمل)) وهي صحيحة أيضاً لأن ((الطريق)) تذكر وتؤنث، والتذكير أكثر وأجود. انظر: المذكر والمؤنث لأبي زكريا الفراء ص 87.
(2) بمعنى أن الحكم الأول لا يمكن رفعه بعد ثبوته، وإنما الذي يرتفع بالنسخ هو مثله؛ لأنه لو لم يرد النسخ لتجدد مثل الحكم الأول، فورود النسخ يمنع تجدد مثل الحكم الأول، انظر: رفع النقاب القسم 2/370.
(3) ساقطة من ن، متن هـ.
(4) التَّهَافُت: هو التساقط، مصدر تَهَافَتَ. انظر القاموس المحيط مادة " هفت ".
(5) المُغَيّا: اسم مفعول من غَيَّا، وهو من الغاية، وغاية كل شيء: مداه ومنتهاه. انظر مادة " غيا " في: لسان العرب، المعجم الوسيط.
(6) في ق: ((المخاطبة)) .
(7) في ق: ((عند)) .
(8) في س: ((الغروب)) .
(9) في ق: ((نسخاً)) .
(10) ما بين المعقوفين في ن، متن هـ هكذا: ((للصوم)) .
(11) أي قد يكون النسخ بفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما مرَّ في الباب السابق ص 16، 18.
(12) الحدُّ لغةً: المَنْع. انظر مادة " حدد " في: مختار الصحاح. واصطلاحاً: هو القول الدالُّ على ماهِيَّة الشيء. انظر: التعريفات للجرجاني ص 116. وعرَّفه المصنف بقوله: هو شرح ما دلَّ عليه اللفظ بطريق الإجمال. شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 4.

ومن شرط الحد كونه جامعاً لجملة أفراد المحدود، مانعاً من دخول غيره معه. انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 7، وانظر: حاشية الصبان على شرح السُّلَّم للملَّوي ص 84 - 85.

(2/43)


جامعاً (1) ، وكذلك يَنْتَقِض بالإقرار (2) وبجميع المدارك التي ليست خطاباً (3) ، وكذلك يَبْطُل بجميع ذلك اشتراطُه في الحكم السابق أن يكون [ثابتاً بالخطاب، فإنه قد يكون] (4) ثابتاً بأحد هذه الأمور، فلذلك عَدَل الإمام لقوله: ((طريق شرعي)) لِيَعُمَّ جميع هذه الأمور، فإن قُلْتَ: أنت شَرَعْتَ تَحُدُّ النسخ، والطريقُ ناسِخةٌ لا نَسْخٌ (5) ، والمصدر (6) غير الفاعل، فقد خرج جميع أفراد المحدود من الحَدِّ فيكون باطلاً.
قلتُ: الناسخ في الحقيقة إنما هو الله تعالى؛ ولذلك (7) قال الله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا} (8) ، فأضاف تعالى فِعْل (9) النسخ إليه سبحانه وتعالى، وفعله تعالى هو هذه المدارك (10) وجعلها ناسخة، فالمصدر في التحقيق هو هذه (11) المدارك فاندفع السؤال (12) .
_________
(1) وكذلك لا يكون مانعاً؛ لأنه لو اختلفت الأمة في واقعة على قولين، وأجمعوا بخطابهم على تسويغ الأخذ بكل واحدٍ من القولين للمقلِّد، ثم أجمعوا بأقوالهم على أحد القولين، فإن حكم خطاب الإجماع الثاني دالٌّ على ارتفاع حكم خطاب الإجماع الأول. والإجماع لا يُنسخ ولا يُنسخ به، والحدُّ المذكور لم يمنع هذا من دخوله فيه، فلا يكون مانعاً. انظر: المعتمد 2 / 419، المحصول 3 / 284، الإحكام للآمدي 3 / 105.
(2) في ن: ((بالأخبار)) وهو تحريف. والمراد بالإقرار إقرار النبي صلى الله عليه وسلم.
(3) كالمفهوم بنوعيه: الموافقة والمخالفة، على خلافٍ فيه، سيرد المثال عليه - عند المصنف - في ص 97 وما بعدها.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(5) في س: ((لا تنسخ)) . وهو خطأ للتناقض في المعنى.
(6) المصدر هو: الاسم الدالُّ على الحَدَث الجاري على الفعل، كالضَّرْب والإِكْرام. شرح قطر الندى لابن هشام ص 246.
(7) في ن: ((وكذلك)) وهو تحريف؛ لأنها لا تعطي معنى التعليل.
(8) البقرة، من الآية: 106.
(9) ساقطة من س، ق.
(10) نبَّه حلولو بأن إطلاق مثل هذا اللفظ (مدارك الأحكام مفعولة له تعالى) قد منع منه جماعة من السلف في القرآن، وهو أصل الأدلة وإن أريد بذلك العبارة أو الحروف المكتوبة، حسماً للباب وسداً للذريعة؛ لما في ذلك من إيهام القول بخلق القرآن. انظر: التوضيح شرح التنقيح ص 257.
(11) هنا زيادة ((الأمور)) في س، ولا داعي لها.
(12) اعتراض حلولو على إجابة المصنف، وقال بأن الرفع غير المرفوع به. انظر: التوضيح شرح التنقيح
ص (257) . علماً بأن بعض الأصوليين ذكر بأن الناسخ يطلق على معانٍ: أظهرها أن يراد به الله تعالى، فيقال: نسخ الرب تعالى شريعةً بشريعةٍ، والخطاب، فيقال: نسخت آيةٌ آيةً، والمُعْتقِد؛
يقال: فلان نسخ الكتاب بالسنة، يعني يعتقد ذلك. انظر: التلخيص 2 / 456، الإحكام للآمدي
3 / 106، 108، شرح الكوكب المنير 3 / 528.

(2/44)


وقولي: ((مع تراخيه عنه)) (1) لأنه لو قال: افعلوا، لا تفعلوا لتهافت الخطاب، وأسقط الثاني الأول، وكذلك لو قال عند الأول: هو منسوخ عنكم بعد سنة، كان هذا الوجوب (2) مُغَيّاً بتلك الغاية من السنة (3) ، فلا يتحقق النسخ، بل ينتهي بوصوله لغايته، وحينئذٍ يتعيَّن أن يكون الناسخ مسكوتاً عنه في ابتداء الحكم.
وقولي: ((على وَجْهٍ لولاه لكان ثابتاً)) ، احتراز (4) مما جُعِل له غايةٌ أولَ الأمر، فإنه لا يكون ثابتاً إذا وصل إلى تلك الغاية، فلا يقبل النسخ إلا إذا كان قابلاً للثبوت ظاهراً.
هل النسخ رَفْعٌ وإزالة أو بيان انتهاء المُدَّة؟ ت
ص: (5)
وقال القاضي منا (6) والغزالي (7) : الحكم المتأخر
_________
(1) ذكرت بعض كتب الأصول بأن هذا القيد لا داعي له، وكذلك القيد الآتي في قوله: ((على وجه لولاه لكان ثابتاً)) لأن ارتفاع الحكم يَدْرأ نقض الحدِّ بالمخصِّصات، فإنها دافعة لا رافعة. انظر: الإحكام للآمدي 3 / 106، نهاية الوصول في دراية الأصول لصفي الدين الهندي 6 / 2220، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 187.
(2) في ن: ((الجواب)) وهو تحريف.
(3) في ق: ((سنة)) .
(4) في ن، ق: ((احترازاً)) وهو متجهٌ؛ لأن انتصابه حينئذٍ إما على المصدرية وعامله تقديره ((أحترز)) أو منصوب على المفعولية لأجله وتقدير عامله ((قلت)) . والمثبت أولى لعدم احتياجه إلى التقدير، ويكون خبراً للمبتدأ ((قولي)) . والله أعلم.
(5) هذه المسألة هي: هل النسخ رفعٌ وإزالة أو بيان انتهاء المدَّة؟ . ومعنى " الرَّفْع " - كما في المحصول
(3 / 287) - أن خطاب الله تعلَّق بالفعل بحيث لولا طَرَيَان الناسخ لبقي، إلا أنه زال لطريان الناسخ. ومعنى " البيان " - كما في المحصول (3 / 287) - أن الخطاب الأول انتهى بذاته في ذلك الوقت ثم حصل بعده حكم آخر.

وتحرير محل النزاع: ذكره المصنِّف في كتابه: نفائس الأصول (6 / 2408) وهو أن كلا الفريقين متَّفِقٌ على أن الخطاب اقتضى الدوام باعتقادنا، وإنما الخلاف في نفس الأمر. ففريقٌ يقول: باقتضاء الدوام في نفس الأمر، والنسخ يرفع ويزيل الحكم المتقدم الدائم. والفريق الآخر يقول: لا دوام في نفس الأمر بل جُعل للحكم الأول غايةٌ والناسخ يبينها، فالنسخ بيان انتهاء مدة الحكم. وانظر: الكاشف عن المحصول 5 / 221.
وهل هذا الخلاف بينهما لفظي أو معنوي؟ فيه خلاف، انظر: نفائس الأصول 6 / 2418، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 187، مسلم الثبوت مع شرحه فواتح الرحموت 2 / 66.
(6) انظر: المحصول لابن العربي ص 580، مفتاح الوصول للشريف التلمساني ص 594، البحر المحيط للزركشي 5 / 198.
(7) انظر: المستصفى 1 / 207. وممن ذهب إلى أن النسخ رفع وإزالة للحكم الأول: الباجي والأبياري وابن الحاجب من المالكية، والصيرفي وابن قدامة وابن تيمية وابن السبكي وابن الهمام وغيرهم. انظر: إحكام الفصول ص 389، روضة الناظر 1 / 283، منتهى السول والأمل ص 154، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 13 / 274، جمع الجوامع مع شرح المحلِّي بحاشية البنَّاني 2 / 75، البحر المحيط للزركشي 5 / 198، تيسير التحرير 3 / 178.

(2/45)


يزيل (1) المتقدم. وقال الإمام (2) والأستاذ (3) وجماعةٌ (4) :
هو بيانٌ لانتهاء مدة الحكم (5) ، وهو الحق (6) ، لأنه لو كان دائماً في نفس الأمر لعلمه الله تعالى دائماً،
فكان يستحيل نسخه، لاستحالة انقلاب العلم جهلاً (7) وكذلك الكلام القديم (8) الذي هو خبر عنه.
_________
(1) انفردت نسخة ن بزيادة هنا، وهي ((الحكم)) .
(2) المراد بالإمام: الرازي. وهو لم يُصرِّحْ بمذهبه في المحصول (3 / 287) ، لكنه صرَّح باختياره في كتابه: المعالم ص 116.
(3) الأستاذ إذا أطلق فالمراد به الأستاذ أبو إسحاق الإسْفَرَايِيْنِي، انظر نسبة هذا القول إليه في: المحصول للرازي 3 / 287، البحر المحيط للزركشي 5 / 199.
أما ترجمته فهو: إبراهيم بن محمد بن إبراهيم بن مَهْران الإسفراييني - نسبة إلى إسْفَرَايِيْن، بليدة من نواحي نيسابور، عُدَّ من مجتهدي مذهب الشافعية، أصولي، مُحدِّث. من مصنفاته: " الجامع في أصول الدين والرد على الملحدين " وفي الأصول: " تعليقة في أصول الفقه "وغير ذلك، توفي سنة 418 هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 4 / 256، وفيات الأعيان 1 / 28.
(4) منهم: ابن حزم، وأبو الطيِّب الطبري، ابن فُوْرك، والبيضاوي، وأكثر الأحناف، وغيرهم. انظر: الإحكام لابن حزم 1 / 475، إحكام الفصول ص 390، كتاب في أصول الفقه للاَّمِشي الحنفي

ص 169، المغني في أصول الفقه للخَبَّازي ص 250، نهاية السول للإسنوي 2 / 548.
(5) الذين قالوا بأن النسخ بيان اختلفت عبارتهم، فذهب جمهور الفقهاء والإمام الرازي وجماعة المعتزلة إلى
أنه: بيان انتهاء أمَد الحكم، وقال آخرون: هو بيان انتفاء شرط استمرار الحكم وبه قال الأستاذ الإسفراييني. وبهذا يُعلم أن عزو القرافي للأستاذ مثل قول الإمام غير مُحَرَّر لوجود الفرق بين قوليهما، وقد نبَّه على ذلك حلولو في كتابه: التوضيح شرح التنقيح ص 256، 257.
(6) هنا زيادة ((الذي يتجه هنا)) في ن.
(7) ساقطة من س، ق، متن هـ.
(8) لفظ ((القديم)) مما يكثر استعماله عند المتكلمين، يُسمُّون به الله، ويصفون أسماءه وصفاته به، وأهل السنة لا يَعُدُّون ((القديم)) من أسماء الله وصفاته الحسنى، لأن أسماءه وصفاته توقيفية. قال ابن القيم في بدائع الفوائد (1 / 147) : ((ما يُطلق عليه (تعالى) من باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب أن يكون توقيفياً: كالقديم، والشيء، والموجود، والقائم بنفسه)) فعلى هذا يصح إطلاق لفظ ((القديم)) من باب الإخبار لا الإنشاء. وقد جاء في الحديث الصحيح ((أعوذ بالله العظيم وبوجهه الكريم وسلطانه القديم من الشيطان الرجيم)) رواه أبو داود (466) وحسنه النووي في كتابه: الأذكار ص 46 وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داود 1 / 93.

(2/46)


الشرح
قال القاضي (1) :
النَّسْخ كالفَسْخ (2) ، فكما أن الإجارة إذا كانت شهراً يستحيل فسخها إذا انقضى الشهر، ويمكن فسخها في أثناء الشهر، لأن شأنها أن تدوم، فكذلك النسخ لا يكون إلا فيما شأنه أن يدوم. والجماعة يمنعون هذا التشبيه، ويقولون: إن (3) الله تعالى يعلم الأشياء على ما هي عليه، فلو كان الحكم دائماً في نفس الأمر لعلم دوامه، ولو علم دوامه لتعذَّر (4) نسخه، فإن خلاف المعلوم مُحالٌ في حَقِّنا، فكيف في العلم القديم! وكذلك كل ما علمه الله تعالى فهو مُخْبَرٌ عنه بالكلام النَّفْسَاني (5) ،
_________
(1) انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 1 / 245، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العِزِّ الحنفي
ص 277، الشامل في أصول الدين للجويني ص 136، تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد للبيجوري
ص 91، صفات الله عز وجل الواردة في الكتاب والسنة للشيخ علوي السقَّاف ص 200 فبحثه في هذا نفيس.

وقول المصنف هنا: ((الكلام القديم)) مُجْملٌ ولكنه في اعتقاد الأشاعرة بمعنى أن صفة الكلام لله صفة قائمة بذاته أزلاً وأبداً، وأنه لا يتكلم بمشيئته وقدرته متى ما أراد. وأما عند أهل السنة والجماعة فصفة الكلام لله صفة ذات وصفة فعل، فجنس كلامه قديم وآحاده حادث، يحدثه الله متى شاء كما قال
تعالى: {مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ} [الأنبياء: 2] . انظر شرح المقاصد للتفتازاني 4 / 143 - 163، مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 12 / 38، 105، 133، 371، 579. لمعة الاعتقاد لابن قدامة المقدسي شرح فضيلة الشيخ محمد الصالح العثيمين
ص 74.
() انظر حجة القاضي في: نفائس الأصول 6 / 2408، رفع النقاب القسم 2 / 375.
(2) الفَسْخ: مصدر فَسَخَ تقول: فسختُ البيعَ أو العَقْد: نقضته وأبطلته ورفعته. انظر: المصباح المنير مادة
" فسخ "، الدرُّ النقي في شرح ألفاظ الخِرَقي لابن المَبْرد 1 / 188.
(3) ساقطة من ق.
(4) في ن: ((تعذر)) والمثبت أولى؛ لأن الأكثر في جوابها إذا كان ماضياً مثبتاً اقترانه باللاَّم. انظر: همع الهوامع 2 / 473.
(5) في ق: ((النفسي)) . وصفة الكلام - عند الأشاعرة - هي المعنى القائم بنفس الله. قال البيجوري:
((
واعلم أن كلام الله يطلق على الكلام النفسي القديم، بمعنى أنه صفة قائمة بذاته - ثم قال - ليست بحرف ولا صوت ... )) انظر: تحفة المريد شرح جوهرة التوحيد ص (71، 82) ، وانظر: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للجويني ص 105 - 131 وهذا مذهب باطل. وأما مذهب أهل السنة والجماعة من السلف الصالح فإنهم يثبتون لله صفة الكلام على الحقيقة، وهي صفة قائمة بذاته، {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللَّهِ} [التوبة: 6] . ومما يُردُّ به قولهم بالكلام النفسي قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تجاوز عن أمتي عمَّا حدثت به أنفسها مالم تتكلم به أو تعمل به)) رواه البخاري (6664) ومسلم (127) . فالحديث ظاهر في أن حديث النفس ليس كلاماً. وإذا كان كلام الله نفسياً فما الذي سمعه موسى عليه السلام وقد قال الله تعالى: {وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا} [النساء: 164] ؟! . ثم أيُّ مزيَّةٍ لموسى عليه السلام في اصطفاء الله له بكلامه على من سمع الوحي بواسطة الملك أو كان إلهاماً؟!

(2/47)


وخبر الله تعالى [صِدْقٌ يستحيل الخُلْف (1) فيه، فلو أخبر عن دوامه تعذَّر نسخه، وكذلك لو شرعه دائماً (2) لكان تعالى] (3) قد أراد دوامه لأنه من جملة الكائنات*، ولو أراد دوامه لوجب الدوام، وحينئذٍ يتعذَّر النسخ، فلو وقع النسخ لَزِم مخالفةُ ثلاثِ صفاتٍ لله تعالى (4) ، وذلك محال (5) .
فهذه مَدَاركُ قطعيةٌ تُوجِب حينئذٍ أن الحكم كان دائماً في اعتقادنا لا في نفس الأمر، فالناسخ مُزِيلٌ للدوام من اعتقادنا لا من نفس الأمر، وحينئذٍ يكون النسخ كتخصيص العامِّ، ولذلك قيل: النسخُ تخصيصٌ في الأزمان (6) ، وهذا التفسير يَحْسُن فيما يتناول أزماناً، أمَّا ما لا يكون إلا (7) في زمانٍ واحدٍ كذبح
_________
(1) تتعلق بقدرته ومشيئته، يتكلم تعالى متى شاء بحرفٍ وصوتٍ مسموع. قال تعالى: انظر: شرح العقيدة الواسطية لابن تيمية بشرح محمد خليل هَرَّاس ص 154، قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر لصِدِّيق حسن خان ص 71، العقيدة السلفية في كلام رب البَريَّة ليوسف الجديع ص 79.
() في ق: ((الخلاف)) وهو صحيح أيضاً. والخُلْف هو الاسم من الإخلاف، وهو في المستقبل كالكذب في الماضي. لسان العرب مادة " خلف ".
(2) في ق: ((حكماً)) وهو تحريف.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(4) وهي العلم والكلام والإرادة. انظر: رفع النقاب القسم 2 / 376.
(5) للغزالي كلامٌ نفيس في الرد على هذه الدلائل وغيرها الرامية إلى إنكار كون النسخ رفعاً. انظر: المستصفى 1 / 208 - 212، وانظر أيضاً شرح مختصر الروضة للطوفي 2 / 261.
(6) قال الجويني في البرهان (2 / 843) : ((وقد صرَّح أبو إسحاق بأن النسخ تخصيص الزمان)) . وانظر: نفائس الأصول 6 / 2419.
(7) ساقطة من ن.

(2/48)


إسحاق (1)
عليه السلام فلا يكون تخصيصاً في الأزمان، بل رافعاً (2) لجملة الفعل
بجميع أزمانه.
_________
(1) هكذا في جميع النسخ إلا نسخة ش، فإن فيها ((إسماعيل عليه السلام)) . وهو الصحيح الذي أختاره، ولكني لم أشأ إثباتها في الكتاب؛ لأن نسخة " ش " كثيرة الأغلاط والتحريف، ولأني تَيقَّنْتُ من رأي المؤلف في الذَّبيْح بأنه " إسحاق " عليه السلام كما ذكره في ص (65) ، وكذا رجَّحه في كتابه: نفائس الأصول
(6 / 2450) ، وفي كتابه: الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة ص 92.
وفي مسألة الذبيح أقوالٌ ثلاثة: الأول: أنه إسماعيل عليه السلام، والثاني: أنه إسحاق عليه السلام، والثالث:

الوقف. والذي أميل إليه أنه إسماعيل عليه السلام؛ لأن الله تعالى قال: {فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ} [الصافات: 101 - 102] ، ثم قال عاطفاً على البشارة الأولى: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَقَ نَبِيًّا مِّنَ الصَّالِحِينَ} [الصافات: 112] ، فدلَّ ذلك على أن البشَارة الأولى شيء غير المُبَشَّر به في الثانية، فمن المقرر في الأصول أن النص إذا احتمل التأسيس والتأكيد كان حمله على التأسيس واجباً إلا لدليل، ومعلوم في اللغة أن العطف يقتضي المغايرة. والله أعلم. انظر: جامع البيان للطبري مجلد 12 / جزء 23 / 906، التفسير الكبير للرازي 26/ 133، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15 / 99، القول الفصيح في تعيين الذبيح للسيوطي (رسالة موجودة في الحاوي للفتاوى له) 1 / 492 - 498، أضواء البيان للشنقيطي 6 / 691، نشر البنود 1 / 288. وانظر حاشية نفائس الأصول (6 / 2450) ففيها تحقيقٌ جيِّد.
(2) في ن: ((رفعاً)) .

(2/49)


الفصل الثاني
في حكمه
ص: وهو واقع (1) ، وأنكره بعض اليهود عقلاً وبعضهم سَمْعاً (2) ، وبعضُ المسلمين مُؤَوِّلاً لما وقع من ذلك بالتخصيص (3) .
لنا: [ما اتفقتْ عليه الأمم مِنْ] (4) أن الله تعالى شرع لآدم تزويج الأخ بأخته غير تَوْأمَتِهِ (5) ، وقد نُسِخ ذلك (6) .
_________
(1) أي حكم النسخ: واقعٌ شرعاً، والوقوع الشرعي دليل الجواز العقلي.
(2) انقسم اليهود إلى ثلاث فرقٍ: الشَّمْعُونية وقالت: يمتنع عقلاً وسمعاً، العِنَانية وقالت: يمتنع سمعاً لا عقلاً، العيْسَوية وقالت: يجوز عقلاً وسمعاً. انظر: الإحكام للآمدي 3 / 115، نفائس الأصول 6/ 2428، شرح مختصر الروضة للطوفي 2 / 266، التقرير والتحبير 3 / 58، التمهيد في الرد على الملحدة المعطلة والرافضة والخوارج والمعتزلة للباقلاني ص 140، الملل والنحل للشهرستاني 1 / 251، 256 - 257، النسخ في القرآن الكريم د. مصطفى زيد 1 / 27.
لكن حكاية خلاف اليهود في كتب أصول الفقه، مما لا يليق؛ لأن الكلام في أصول الفقه فيما هو مقررَّ في الإسلام، وفي اختلاف الفرق الإسلامية. أما حكاية الكفار فالمناسب لذكرها أصول الدين. وذكر العَطَّار: بأن مخالفة اليهود في ذلك ليتوصلوا إلى إنكار نسخ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم وشريعة عيسى عليه السلام لشريعة موسى عليه السلام. انظر: حاشية العطار على شرح المحلي لجمع الجوامع 2 / 119. وانظر: إرشاد الفحول 2 / 75. وذكر الشاطبي: أن أقوال أهل الأهواء غير مُعْتَدٍّ بها في الخلاف المقرَّر في الشرع. وأما نقل العلماء لأقوالهم، وأقوال اليهود والنصارى لا للاعتداد بها قطعاً وإنما ليردُّوها ويبيِّنوا فسادها. انظر: الموافقات 5 / 221.
(3) لم يشتهر هذا القول عن أحدٍ من المسلمين سوى أبي مُسْلِمٍ الأصفهاني المُعْتزلي (ت 322 هـ) ، وسيردُ تحرير مذهبه في مسألة جواز نسخ القرآن ص 61، انظر: المعتمد 1 / 370، الإحكام للآمدي

3 / 115، منتهى السول والأمل ص 154، أصول الفقه لابن مفلح 3 / 1117.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من ق.
(5) التَّوْأم: مِنْ أتْأمَتِ المرأةُ؛ إذا وَضَعَتْ اثنين في بَطْنٍ، فهي مُتْئِم. والوَلَدَان: تَوْأمان، ويقال: هذا تَوْأم هذا، فَوْعَل. وهذه توأمة هذه، والجَمْع توائم. مختار الصحاح مادة ((تأم)) .
(6) هذا دليل أهل الإسلام على جواز النسخ عقلاً وسمعاً، وفي كُتب التاريخ: أن حواء عليها السلام، وَلَدَتْ أربعين بطناً، في كل بطنٍ ذكر وأنثى، فكان آدم عليه السلام يزوج لكلِّ ذكرٍ غير توأمته، ثم حُرِّم ذلك في زمان نوح عليه السلام. انظر: الكامل في التاريخ لابن الأثير 1 / 55، البداية والنهاية لابن كثير 1 / 58، وانظر: رفع النقاب القسم 2 / 380.
وانظر مسألة تزويج آدم للأخ بأخته غير توأمته ثم تحريم ذلك في: الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة
ص 90. وانظر تحريم تزويج الأخ بأخته في التوراة في: سفر التثنية، الإصحاح: 27، فقرة: 22.

(2/50)


الشرح
أما وقوع النسخ فلأنَّ الله تعالى أوجب وقوف الواحد مِنَّا للعشرة من الكفار
في الجهاد (1) ، ثم نَسَخَهُ بقوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا} (2) وصار الحكم أن يقف (3) الواحد منا (4) للاثنين بقوله تعالى: {فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ} (5) .
ونَسَخَ تعالى آياتِ (6) المُوَاْدَعَةِ (7) ،
ويقال:
_________
(1) في قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ} [الأنفال: 65] .
(2) الأنفال، من الآية: 66.
(3) في ن: ((يوقف)) والمثبت أنسب.
(4) ساقطة من ن، ق.
(5) الأنفال، من الآية: 66. وقد اختلف العلماء في وقوع النسخ في آية المصابرة، فالجمهور أنها منسوخة، وقد حكى ابن عطية الإجماع على ذلك. وقال آخرون: لم يقع فيها نسخ بل من باب التخفيف. والصحيح رأي الجمهور؛ لأنه رَفْع حُكْمٍ استقرَّ - وهو وجوب مصابرة الواحدة للعشرة - بحكم وجوب المصابرة للاثنين، وهذا هو النسخ بعينه. انظر أدلة الفريقين ومناقشتها في كتاب: الآيات المنسوخة في القرآن الكريم د. عبد الله الشنقيطي ص 99. وانظر أيضاً: المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز لابن عطية 2 / 383، 8/ 9، الناسخ والمنسوخ للنحاس 2 / 783، نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 349.
(6) في ن، س: ((آية)) . والمثبت هو الصحيح؛ لأنها آيات وليست آية.
(7) في س، ن: ((المواعدة)) وهو تحريف.
* والمُوَادَعةُ والتَّوادُع: شِبْه المُصَالحة والتَّصَالُح، يقال: وادعَ [بني] فلان أي: صَالَحهم وسَالَمهم على ترك الحرب والأذى. وحقيقة الموادعة: المتاركة، أي: يَدَعُ كلُّ واحدٍ منهما ما هو فيه. انظر: لسان العرب مادة " ودع ".

وذكر الرصَّاع: بأن المُهادنة والصُّلْح والاسْتِيْمان والمُعَاهدة ألفاظٌ مترادفة، وعرَّف ابنُ عرفة " المهادنة " بأنها: عقدُ المُسْلم مع الحَرْبيّ على المسالمة مدةً ليس هو فيها تحت حكم الإسلام. انظر: شرح حدود ابن عرفة للرصَّاع 1 / 226. ومن أمثلة آيات الموادعة قوله تعالى: {الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ} [البقرة:109] ، وقوله تعالى: {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ ش [النساء: 63] ، وقوله تعالى: {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا} [الأنفال: 61] ، وقوله تعالى: {وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلاً} [المزمل: 10] ، وغيرها. انظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكِّيّ بن أبي طالب القَيْسِي ص 103.

(2/51)


إنها نَيِّفٌ (1) وعشرون (2) آيةً (3) بآية السَّيْف (4)
وهي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ} (5) وبغيرها من الآيات (6) الدالة على
_________
(1) النيِّف: بالتشديد والتخفيف كمَيِّت ومَيْت والتشديد أفصح. وهو الزيادة، مِنْ: ناف، يقال: نَيِّفَ فلانٌ على الستين إذا زاد عليها. وكل ما زاد على العِقْد حتى يبلغ العِقْد الثاني فهو نَيِّفٌ. وقيل: النيِّف من واحد إلى ثلاث. والبِضْع من أربع إلى تسْع. ولا يقال نيّف إلا بعد عِقْد، نحو: عشرة ونيفٌ، عشرون ونيفٌ، مائة ونيفٌ. انظر: لسان العرب، والمصباح المنير كلاهما مادة " نيف ".
وبهذا يُعلم أن قول المصنف هنا: نَيِّفٌ وعشرون ليس جارياً وفق الصحيح من اللغة العربية.
(2) في س: ((عشرين)) وهو خطأ نحوي؛ لأن المعطوف على المرفوع مرفوع.
(3) قال ابن العربي: ((قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ} [التوبة: 5] ناسِخٌ لمائةٍ وأربَع عَشْرَة آية)) . أحكام القرآن 1 / 102، وكذا قال ابن جُزَيّ الغِرْناطي في مقدمة تفسيره " التسهيل في علوم التنزيل " في الباب السابع: الناسخ والمنسوخ 1 / 10 - 11.
(4) أصح الأقوال في آية السيف أنها قوله تعالى: {فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ..} [التوبة: 5] . وقيل: إنها قوله تعالى: {وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً..} [التوبة: 36] . وقيل: هما معاً. والمصنف رحمه الله جعلها قوله تعالى:
{
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ ... } [التوبة: 73] . والخَطْب في هذا يسير. انظر روح المعاني للألوسي 5 / 246، النسخ في القرآن الكريم د. مصطفى زيد 2 / 503.
(5) التوبة، من الآية: 73، والتحريم، من الآية: 9.
(6) منها قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ ... } [البقرة: 216] ، وقوله تعالى: {قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ ... } [التوبة: 29] . انظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي القيسي ص 103.

(2/52)


القتال (1) ،
وهو كثير في الكتاب والسنة (2) .
الحجة العقلية للشمعونية من اليهود المنكرين للنسخ عقلاً وسمعاً
وأما إنكار بعض اليهود له عقلاً فاحتجُّوا عليه (3) بأن النهي يعتمد المفاسد (4) الخالصة أو الراجحة، فلو جاز نسخه بعد ذلك لزم [تجويز أمر الله وإذنه] (5) في فِعْل المفاسد الخالصة أو الراجحة، وذلك على الله تعالى مُحَالٌ، بناءً على التحسين والتقبيح (6) ،
وقالوا عبارةً عامّةً: إن الفعل إمَّا أن يكون حسناً أو قبيحاً، فإن كان
_________
(1) مسألة نسخ آيات الموادعة بآية السيف مما اختلف فيها العلماء. ففريق يرى النسخ، وهو مرويٌ عن بعض التابعين وكثيرٍ من المفسرين على اختلافٍ بينهم في بعض الآيات. والفريق الآخر لا يرى النسخ. وقد ضَعَّفَ الزَّرْكَشِي - في البرهان في علوم القرآن (2 / 173) - ما لَهَج به كثيرٌ من المفسرين في الآيات الآمرة بالصبر على الأذى بأنها منسوخة بآية السيف، وذكر بأن الصحيح أنها ليست منسوخة، بل أمْر القتال من المُنْسَأ إلى أن يقوى المسلمون، وفي حال الضَّعْف يكون الحكم وجوب الصبر على الأذى. وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: ((فمن كان من المؤمنين بأرضٍ هو فيها مُسْتَضْعَفٌ أو في وقت هو فيه مُسْتَضْعَف فليعملْ بآية الصبر والصَّفْح عَمَّنْ يؤذي الله ورسوله من الذين أوتوا الكتاب والمشركين. وأما أهل القوة فإنما يعملون بآية قتال أئمة الكفر الذين يطعنون في الدين، وبآية قتال الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يدٍ وهم صاغرون)) الصارم المسلول على شاتم الرسول صلى الله عليه وسلم (2 / 413) .

والقول بأن جميع الآيات مُحْكَمة ولم يقع النسخ لآيات المُوَادَعة هو ما أختاره؛ لأن النسخ لا يُصَار إليه إلا عند التعارض ولا تعارض كما علمت. ومن رأى النسخ من السلف فيُحْمل على أحد اصطلاحاتهم فيه كتخصيصِ عامٍّ أو تقييد مُطْلقٍ أو بيان مُجْمَلٍ، لا النسخ بمعنى الرفع والإزالة. والله أعلم. انظر هذه المسألة بتوسع في: النسخ في القرآن الكريم د. مصطفى زيد 2 / 503 - 583، أهمية الجهاد في نشر الدعوة د. علي العلياني ص 148 وما بعدها.
(2) أي: وقوع النسخ كثير في الكتاب والسنة، وسترد أمثلته في الفصول التالية.
(3) ساقطة من س.
(4) في ن: ((الفساد)) وهي غير مستقيمة بدلالة ما بعدها.
(5) ما بين المعقوفين في ق هكذا: ((أذنه تعالى)) .
(6) مسألة التحسين والتقبيح سبق أن بحثها المصنف في الفصل السابع عشر من الباب الأول ص (88) من المطبوع فقرَّر بأن مذهب المعتزلة في التحسين والتقبيح أنهما عقليان ويُرَتِّبُون على ذلك الذمَّ والمَدْح، أو العقاب والثواب الشرعيين، وهذا باطل. ومذهب الأشاعرة - ومنهم المصنف - أن العقل لا مَدْخل له في إثبات الثواب والعقاب الشرعيين، وهذا حقٌّ. ولكنَّهم غَلَوا حتى أبطلوا أن الأفعال لها صفات ذاتية من القبح والحسن تُدْرك بالعقل. ومذهب أهل السنة والجماعة وَسَطٌ بين الطرفين، فهم يُثْبتون لبعض الأفعال حُسْناً وقُبْحاً بالعقل، ولا يُرَتِّبُون على ذلك استحقاق العقوبة والمثوبة عليها إلا من جهة الشرع. انظر: مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية 8 / 428 - 436، مفتاح دار السعادة لابن القيم

2 / 402، وما بعدها. وانظر مذهب الأشاعرة في: الإرشاد إلى قواطع الأدلة في أصول الاعتقاد للجويني ص 228، وانظر مذهب المعتزلة في: المحيط بالتكليف للقاضي عبد الجبار ص234.

(2/53)


حسناً استحال النهي عنه، أو قبيحاً استحال الإذن فيه، فالنسخ محال على التقديرين (1) .
وجوابهم: أنَّا نمنع قاعدة الحسن والقبح، أو نسلمها ونقول لِمَ لا يجوز أن يكون الفعل مفسدة في وقت مصلحة في وقت؟. وذلك معلوم بالعوائد، بل اليوم الواحد يكون الفعل فيه حسناً في أوله قبيحاً في آخره، كما نقول في الأكل والشرب ولبس* الفَرَاء (2) وشرب الماء البارد وغيره، يَحْسُن جميع ذلك ويَقْبُح باعتبار وقتين من الشتاء والصيف، والحَرِّ والبرد، والصوم والفطر، والشِّبَع والجوع، والصِّحَّة والسَّقَم (3) .
حجة منكري النسخ سمعاً
احتج منكروه سمعاً بوجهين:
أحدهما: أنَّ الله تعالى لما شرع لموسى عليه السلام شَرْعَه، فاللفظ الدالُّ عليه إما أن يدل على الدوام أو لا، فإن دلَّ (4) على الدوام، فإمَّا أن يَضُمَّ إليه ما يقتضي أنه سينسخه أو لا، فإن كان الأول (5) فهو باطل من وجهين:
الأول: أنه يكون متناقضاً، وهو عَبَثٌ ممنوع (6) .
الثاني: أن هذا اللفظ الدال على النسخ وَجَب أن يُنْقَل (7) متواتراً، إذ لو جوَّزْنا
_________
(1) انظر: المحصول للرازي 3 / 298، كشف الأسرار للبخاري 3 / 304، نهاية السول للإسنوي 2 / 560، رفع النقاب القسم 2 / 388.
(2) الفَرَاء: جمع فَرْو وفَرْوَةٍ. وهي جلود بعض الحيوان، كالدِّبَبَة والثعالب، تُدبغ ويُتَّخَذ منها ملابس للدِّفْء وللزينة. المعجم الوسيط مادة " فرا ".
(3) انظر: بذل النظر للأسمندي ص 313، المحصول للرازي 3 / 302، الإحكام للآمدي 3 / 116، رفع النقاب القسم 2 / 388.
(4) هنا زيادة ((يكون)) في ن، ولا معنى لها.
(5) وهو: أن يضم إلى اللفظ الدال على دوام شرع موسى عليه السلام لفظاً يقتضي أنه سينسخه.
(6) وجه التناقض: أن الدوام يقتضي بقاء الحكم، والنسخ يقتضي زواله، فيكون الحكم باقياً زائلاً.
(7) في ن: ((ينتقل)) .

(2/54)


نَقْلَ الشرع غيرَ متواتر أو نَقْلَ صفته غير متواترة لم يحصل لنا علم بأن شرع الإسلام
غيرُ منسوخ، ولأن ذلك من الوقائع العظيمة التي يجب اشتهارها، فلا يكون نص
على النسخ وحينئذٍ لا يكون منسوخاً؛ لأن ذكر اللفظ الدال على الدوام [مع عدم الدوام] (1) تلبيسٌ، ولأنه يؤدي إلى عدم الوثوق بدوام الشرع (2) ، وأما إن لم ينص على الدوام فهذا مطلق يكفي في العمل به مرة واحدة، وينقضي بذاته، فلا يحتاج للنسخ ويتعذَّر النسخ فيه (3) .
الوجه الثاني (4) : أنه ثبت بالتوراة قول موسى عليه السلام: تَمَسَّكُوا بالسبت أبداً، ما دامت السموات والأرض (5) ، وهو متواتر، والتواتر حُجَّة.
والجواب عن الأول: أن نقول: اتفق المسلمون على أن الله تعالى شَرَع لموسىعليه السلام شَرْعه بلفظ الدوام، واختلفوا هل ذكر معه ما يدلُّ على أنه سيصير منسوخاً؟
فقال أبو الحُسَين (6) : يجب ذلك في الجملة وإلا كان تلبيساً (7) .
وقال جماهير أصحابنا وجماهير المعتزلة: لا يجب ذلك (8) ، وقد تقدَّم البحث في ذلك في تأخير البيان عن وقت الخطاب (9) .
_________
(1) ساقط من س، ن.
(2) في ن، س: ((الشرائع)) والمثبت أقرب؛ لأن الدوام لم يكتب لغير شرع الإسلام.
(3) انظر: المحصول للرازي 3 / 298، نهاية الوصول للهندي 6 / 2264.
(4) من احتجاج منكري النسخ سمعاً.
(5) انظر: العهد القديم (التوراة) ، سفر الخروج، الإصحاح: 31 الفقرتان: 16 - 17.
(6) في س: ((أبو الحسن)) وهو خطأ؛ لأن المراد به أبو الحسين البصري وهو: محمد بن علي بن الطيب البصري، أحد أئمة المعتزلة، كان مليح العبارة، قوي الحجة والعارضة، والدفاع عن آراء المعتزلة. من شيوخه: القاضي عبد الجبار، من تآليفه: المعتمد (ط) ، تصفح الأدلة وغيرهما. ت 436 هـ. انظر: شرح العيون للحاكم الجشيمي ص 382، وفيات الأعيان 4 / 271.
(7) انظر: المعتمد 1 / 371 - 372، وذكر الشيرازي هذا المذهب عن بعض الناس دون تسميتهم، انظر: التبصرة ص 257.
(8) وهو مذهب أكثر الأصوليين، ومن المعتزلة: أبو علي الجبائي وابنه أبو هاشم والقاضي عبد الجبار.
انظر في ذلك: المعتمد 1 / 315، إحكام الفصول ص 303، المحصول للرازي 3 / 302، المسودة ص 178، كشف الأسرار للبخاري 3 / 218.
(9) ذكر المصنف مسألة: تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة في الفصل الخامس من الباب الثاني عشر ص (282) من المطبوع. وذكر فيها ثلاثة مذاهب: الجواز للجمهور، المنع لجمهور المعتزلة، التفصيل لأبي الحسين البصري. وانظر: نفائس الأصول 6 / 2436.

(2/55)


والجواب* عن (1) رأي أبي الحُسَين: أن ذلك القيد لم ينقل لوقوع الخلل في اليهود في زمن بُخْتُنَصَّر (2) فإنه أباد اليهود حتى لم يبق منهم من يصلح للتواتر (3) ،
وبه يظهر (4) الجواب عن شرعنا نحن لسلامته (5) عن الآفات.
وعن الثاني: أن (6) هذا النقل أيضاً (7) لا يصحُّ الاعتماد عليه لانقطاع عدد اليهود كما تقدَّم، ولأن لفظ " الأبد " منقول في التوراة وهو على خلاف ظاهره (8) .
أمثلة من التوراة على أن لفظ " الأبد " لا يراد به الدوام (9) قال في العبد: يُسْتخدم ست سنين ثم يُعْتق في السابعة، فإن أبى العتق فَلْتُثْقَبْ (10) أذنه ويُستخدم أبداً (11) . مع تعذر الاستخدام أبداً، بل العمر، فأطلق الأبد على العمر فقط.
_________
(1) في ق، ن: ((على)) ولست أعلم لها وجهاً. انظر هامش (10) ص (8) .
(2) بُخْتُنَصَّر قيل هو: بُخْتُرشه وقيل: نَبُوخَذْنَصَّر، وبُوخت: ابن، ونَصَّر: صنم، وكان وُجد عند صنم ولم يُعْرف له أب، فقيل هو: ابن الصنم. كان في خدمة ملوكٍ من الفرس في زمن " زرادشت " مُدَّعِي النبوة ومشرع دين المجوس، حَكَمَ بابل (605 - 562) قبل الميلاد. سار إلى بيت المقدس " أورْشَلِيم " ودمَّرها وقتل بعض اليهود ونفى بعضهم الآخر، وهو ما يعرف عند اليهود بالأسر البابلي. انظر: تاريخ الأمم والملوك للطبري 1 / 534 - 565، الكامل لابن الأثير 1 / 175، المختصر في أخبار البشر لأبي الفداء 1 / 42، لسان العرب مادة " نصر "، الموسوعة العربية الميسرة 2 / 1821.
(3) ذكر المصنف فائدة في " نفائس الأصول " (6 / 2434) بأن مناظرة وقعت بينه وبين بعض اليهود. قال
بعضهم: كيف تَدَّعون أن شرعنا غير متواتر بسبب بُخْتُنَصَّر، والمنقول عندنا أن جمعاً منهم نحو الأربعين سلموا منه، وخرجوا إلى بعض الأقطار، ومثلهم يمكن أن يحصل به عدد التواتر؟ . فردَّ عليهم القرافي: أولاً: بعدم التسليم بصحة هذا النقل. وثانياً: سلَّمْنا، لكن لا يلزم أن يكون هذا الجمع حافظين للتوراة فلعلهم لا يعلمون شيئاً. وإذا شككنا في حالهم شككنا في التواتر، ويكفي في عدم الوثوق بأصل الشرائع الشك في بعض شروط التواتر.

وذكر المصنف في " الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة " ص (108 - 109) بأن بُخْتُنَصَّر قتل اليهود وحرق التوراة، ثم بعد سنين متطاولة لفَّق لهم عَزْرَا هذه التوراة الموجودة الآن مِنْ فصولٍ جمعها، لا يُدرى هل أصاب أو أخطأ؟ ، وفيها مالا يليق بالنبوات، وأين القطع بخبر الواحد؟!
(4) في ن: ((أظْهِر)) والمثبت أليق.
(5) في ص، ن: ((بسلامته)) .
(6) ساقطة من ن، س.
(7) ساقطة من ن، ق.
(8) قال الشوشاوي: ((إن لفظ " الأبد " ظاهر في عموم الأزمنة لا نَصٌّ ... )) رفع النقاب القسم
2 / 389. وسيأتي مثل هذا في كلام المصنف ص 80.
(9) هذا أول الأمثلة من التوراة على أن لفظ الأبد لا يراد به الدوام بل يأتي على خلاف ظاهره.
(10) في س، ن: ((فتثقب)) ، وفي ق: ((فليثقب)) . والمثبت من نسخة ص.
(11) انظر: سفر الخروج، الإصحاح: 21 الفقرتان: 2، 6، سفر التثنية، الإصحاح: 15 الفقرتان:
15 - 17.

(2/56)


وثانيها: قال في البقرة التي أمِروا بذبْحها تكون لكم سُنَّةً أبداً (1) ، ومعلوم أن ذلك ينقطع بخراب العالم وقيام الساعة.
وثالثها: أمِرُوا في قصة (2) دم الفِصْح (3) أن يذبحوا الحَمَل (4) ويأكلوا لحمه مُلَهْوَجاً (5)
ولا يكسروا منه عَظْماً ويكون لهم (6) هذا الحَمَل (7) سُنَّةً أبداً، ثم زال التعبد بذلك
أبداً (8) (9) .
_________
(1) انظر: سفر اللاَّويين، الإصحاح: 17 الفقرات: 1 - 7.
(2) في س: ((قضية)) ، وهي ساقطة من ق.
(3) في ق: ((الفسخ)) وهو تحريف. والفِصْح: مثل الفِطْر وزناً ومعنى، وهو الذي يأكلون فيه اللحم بعد الصيام، وهو عيد عند اليهود والنصارى. أما النصارى فبمناسبة قيام المسيح عليه السلام من القبر بزعمهم، ويسمى عيد القيامة، وهو يوافق ما بين 22 مارس و 25 إبريل حسب التقويم الميلادي ويُسبق هذا اليوم بالصيام لمدة أربعين يوماً. أما عند اليهود فيوافق 15 من الشهر السابع حسب التقويم العبري، ويسمى بعيد الفطير، وفي مثل هذا اليوم خرج بنو إسرائيل من مصر هرباً من فرعون الذي أنجاهم الله منه. انظر: العهد القديم: سفر التثنية الإصحاح: 16 الفقرات: 1 - 8، سفر اللاويين، الإصحاح: 23 الفقرة: 5، العهد الجديد إنجيل مَتَّى الإصحاح: 26 الفقرة: 5، إنجيل لوقا الإصحاح: 22 الفقرات: 7 - 23، الأجوبة الفاخرة ص 192، المصباح المنير مادة ((فصح)) ، كلمات غريبة: منصور الخميس ص 101.
(4) هكذا في نسخة و، وهو الصواب، خلافاً لجميع النسخ ففيها ((الجَمَل)) وهو خطأ؛ لأن الجمل من الحيوانات المحرَّمة على اليهود في شريعتهم جاء في سفر اللاَّويين، الإصحاح: 11 الفقرتان: 3 - 4 قوله: ((تأكلون كلَّ حيوانٍ مشقوقِ الظِّلْف ومُجْترٍّ. أما الحيوانات المجترَّة فقط أو المشقوقة الظلف فقط فلا تأكلوا منها، فالجَمَل غير طاهرٍ لكم؛ لأنه مجترٌّ ولكنه غير مشقوق الظلف)) .
(5) في ق: ((مملوحاً)) وهي ليست في التوراة.
والمُلَهْوَج: مفعول من لَهْوَج: بمعنى خَلَطَ، ولَهْوَج اللَّحْمَ: لم يُنْعِم شَيَّهُ. واللحم المُلَهْوَج: المَشْوي على النار من غير نُضْجٍ. قال الشاعر:
خير الشِّوَاء الطيِّبُ المُلَهْوَجْ قد هَمَّ بالنُّضْج ولَمَّا يَنْضَجْ

انظر: لسان العرب مادة " لَهَجَ ".
(6) في ق: ((لكم)) وهي غير مناسبة؛ لأن السياق ليس فيه توجيه الخطاب لهم.
(7) هكذا في نسخة و، وهو الصواب خلافاً لباقي النسخ. انظر هامش (4) من هذه الصفحة.
(8) كلمة ((أبداً)) ساقطة من ق.
(9) انظر: سفر الخروج، الإصحاح: 12 الفقرات: 1 - 17.

(2/57)


وقال في السِّفْر الثاني (1) : قَرِّبُوا إليَّ كل يوم خروفين، خروفاً غَدْوةً وخروفاً عَشِيَّةً قُرْباناً دائماً لأحْقَابكم (2) .
ثم مذهبهم منقوضٌ بصور، إحداها (3) : أن في التوراة أن السارق إذا سرق في المرَّة الرابعة تُثْقَب أذنه ويباع، وقد اتفقوا (4) على نسخ ذلك (5) .
وثانيها: اتفق اليهود والنصارى على أن الله تعالى فَدَىَ ولد إبراهيم من الذبح، وهو نص التوراة (6) ، وهو أشد أنواع النسخ؛ لأنه قبل الفعل الذي منعه المعتزلة (7) ، وإذا جاز في الأشدِّ جاز في غيره بطريق الأولى.
وثالثها: في التوراة أن الجمع بين الحُرَّة* والأمَة في النكاح كان
جائزاً في شرع إبراهيم عليه السلام لجمعه عليه السلام بين سارة (8) الحُرَّة
_________
(1) السفر الثاني هو سفر الخروج؛ لأن السفر الأول هو سفر التكوين. انظر: سفر الخروج، الإصحاح: 29 الفقرات: 38 - 42.
(2) وهم لا يفعلون ذلك لكونه منسوخاً. والأحْقَاب: جمع حُقُب وحُقْب وهو الدهر. والحُقُب: ثمانون سنة، وقيل أكثر من ذلك. قال الراغب: والصحيح أن الحِقْبة مدة مبهمة. انظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، القاموس المحيط كلاهما مادة " حقب ".
(3) هكذا في ق. وفي جميع النسخ بالتذكير ((أحدها)) ، والصواب ما في نسخة ق: ((إحداهما)) بالتأنيث موافقةً للمعدود وهو: ((صور)) ومفرده: صُورة. وهكذا يقال في بقية الأعداد الآتية، ففي كلِّ النسخ كُتبت: ثانيها، ثالثها، رابعها، خامسها. والصواب: ثانيتها، ثالثتها ... خامستها. بالتأنيث فإن العدد إذا كان اسم فاعل وجب فيه أبداً أن يُذكَّر مع المذكر ويُؤَنَّث مع المؤنَّث. انظر هذه القاعدة في: أوضح المسالك إلى ألفية ابن مالك لابن هشام 4 / 243، 248.
(4) في ن: ((اتفقنا)) والمثبت أوجه؛ لتستقيم الدعوى عليهم.
(5) انظر: سفر الخروج، الإصحاح: 22 الفقرات: 1 - 4، وانظر: نفائس الأصول 6 / 2430.
(6) انظر: سفر التكوين، الإصحاح: 22 الفقرات: 1 - 14، وانظر: الأجوبة الفاخرة ص 91، نفائس الأصول 6/2430. والذبيح - عند اليهود والنصارى كما هو عند بعض المسلمين - هو إسحاق عليه السلام، والصحيح أنه إسماعيل عليه السلام وقد سبق تفصيل الكلام في ذلك في حاشية رقم (1) ص 49.
(7) مسألة: النسخ قبل التمكن من الفعل وخلاف المذاهب فيها بحثها المصنف في ص 64.
(8) سارة: هي زوجة إبراهيم عليه السلام، وابنة عَمِّه: هاران الأكبر، وقيل: كانت ابنة ملك حرَّان، وكانت من أحسن النساء وجهاً، وكانت مُنِعَت الولد حتى أسنَّتْ، فوهبها الله إسحاق عليه السلام، ولها قصة - في البخاري برقم (3358) - مع فرعون مصر آنذاك. توفيت بالشام ولها 124 سنة. وسارة: اسم سامي، ومعناه: السيدة أو الأميرة. انظر: الكامل في التاريخ 1 / 88، فتح الباري لابن حجر 6 / 481.

(2/58)


وهاجر (1) الأمَة وحرمته التوراة (2) .
ورابعها: أن التوراة قال الله تعالى فيها لموسىعليه السلام: اخْرُجْ أنت وشعبك (3) لِتَرثوا الأرض المُقَدَّسة (4) التي وَعَدْتُ بها أباكم إبراهيم أن أورثها نَسْلَه. فلما ساروا إلى التِّيْهِ (5) قال الله تعالى: لا تدخلوها؛ لأنكم عصيتموني (6) . وهو عين النسخ.
وخامسها: تحريم السبت، فإنه لم يزل (7) العمل (8) مباحاً إلى زمن موسىعليه السلام وهو عين النسخ (9) .
_________
(1) هاجر: وقيل بالهمز: آجر، وهو اسم سرياني، معناه: المهاجرة. يقال: إن أباها كان من ملوك القبط، وهبها فرعون مصر آنذاك لسارة لتخدمها، فوهبتها لإبراهيم عليه السلام لعل الله يرزقه منها الولد، فولدت له إسماعيل عليه السلام، فحزنت سارة حزناً شديداً فوهبها الله تعالى إسحاق عليه السلام. وقعت الغيرة في قلب سارة وقالت في هاجر: لا تساكِنُنِي في بلد. فأوحى الله إلى إبراهيم أن يأتي مكة، وليس بها يومئذ زَرْعٌ ولا ضَرْعٌ. والقصة في البخاري برقم (3364) . انظر: الكامل في التاريخ 1 / 88، فتح الباري لابن حجر 6 / 485.
(2) انظر: سفر التكوين، الإصحاح: 16 الفقرة: 3، الأجوبة الفاخرة ص 91، نفائس الأصول
6 / 2430.
(3) في ق: ((شيعتك)) .
(4) اختلف المفسرون في تحديد الأرض المقدسة، فقيل: هي بيت المَقْدِس، وقيل: أريْحا، وقيل: الطُّوْر، وقيل: إيليا، وقيل: الشام، وقيل: فلسطين ودمشق وبعض الأردن. واختار الطبري عدم القطع بتحديدها غير أنها لا تخرج عن أن تكون من الأرض التي بين الفرات وعريش مصر. وصحح ابن كثير القول بأنها: بيت المقدس، وكذا الشيخ السعدي. انظر: جامع البيان للطبري مجلد: 4 / جزء: 6 / 234، تفسير البحر المحيط لأبي حيان 3 / 469، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 1 / 139، 3 / 69، تيسير الكريم المنان للسعدي 1 / 473.
(5) التِّيْه: هي الأرض التي تاهوا فيها وهي بين مصر والشام، اخْتُلِف في طولها وعرضها، فقيل طولها: ثلاثون ميلاً، وقيل: ثلاثون فَرْسخاً، وقيل: اثنا عشر فَرْسخاً. أما عرضها: فقيل: ستة فراسخ، وقيل: تسعة فراسخ. انظر: تفسير البحر المحيط لأبي حيان 3 / 473، والفرسخ: 5.04 كيلو متراتٍ،
والميل: 1.68 كيلو متراً. انظر: المقادير الشرعية والأحكام الفقهية المتعلقة بها لمحمد نجم الدين الكردي
ص 310.
(6) وردت هذه القصة في سورة المائدة، الآيات (20 - 26) . وانظر: سفر الخروج، الإصحاح:
6 الفقرات: 6 - 8، سفر العدد، الإصحاح: 14 الفقرات: 22 - 23، نفائس الأصول 6/2431.
(7) في ن: ((يدل)) وهو تحريف، لا معنى لها.
(8) ساقطة من س.
(9) انظر: سفر الخروج، الإصحاح: 20 الفقرة: 10، والإصحاح: 31 الفقرات: 12 - 17، الأجوبة الفاخرة ص 91 نفائس الأصول 6 / 2431.

(2/59)


وقد ذَكَرْتُ [صوراً كثيرةً] (1) غير هذه في: " شرح المحصول " (2) ، وفي كتاب: " الأجوبة الفاخرة عن الأسئلة الفاجرة " (3) في الرد على اليهود والنصارى.
وأما من أنكر النسخ من المسلمين فهو مُعْترفٌ بنسخ تحريم الشحوم (4) ، وتحريم السبت (5) وغير ذلك من الأحكام، غير أنه يفسر النسخ في هذه الصور (6) بالغاية، وأنها انتهت بانتهاء غايتها (7) ، فلا خلاف في المعنى (8) .
_________
(1) ساقط من ن.
(2) انظرها في: نفائس الأصول في شرح المحصول 6 / 2430 - 2432. وقد تقدم التعريف به في القسم الدراسي.
(3) انظرها فيه ص 90 - 92. وقد تقدَّم التعريف به في القسم الدراسي.
(4) لقوله تعالى: {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا} [الأنعام: 146] . وانظر أيضاً: سفر اللاويين، الإصحاح: 7 الفقرات: 22 - 25.
(5) لقوله تعالى: {وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُم مِّيثَاقًا غَلِيظًا} [النساء: 154] ، وانظر أيضاً: سفر الخروج، الإصحاح: 20 الفقرة: 10.
(6) في ق: ((الصورة)) وهي في الحقيقة عدة صور كما مرَّ.
(7) في ن: ((نهايتها)) .
(8) هذا هو وجه التأويل الذي ذكره المصنف في المتن ص (50) في قوله: ((وبعض المسلمين مؤولاً لما وقع من ذلك بالتخصيص)) أي التخصيص بالغاية. قال ابن السبكي في " رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب " (4 / 47) : ((وأنا أقول: الإنصاف أن الخلاف بين أبي مسلم والجماعة لفظي، وذلك أن أبا مسلم يجعل ما كان مغياً في علم الله تعالى كما هو مغياً باللفظ، ويسمى الجميع تخصيصاً، ولا فرق عنده بين أن يقول: وأتموا الصيام إلى الليل، وأن يقول: صوموا، مطلقاً، وعلمه محيط بأنه سينزل: لا تصوموا وقت الليل. والجماعة يجعلون الأول تخصيصاً والثاني نسخاً ... )) فالنسخ تخصيص في الأزمان كتخصيص الأشخاص. وانظر: شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني 2 / 89.

قال الشيخ الزُّرْقاني: ((إن أبا مسلم على فرض أن خلافه مع الجمهور لفظي لا يعدو حدود التسمية، نأخذ عليه أنه أساء الأدب مع الله في تحمسه لرأيٍ قائمٍ على تحاشي لفظٍ اختاره جَلَّتْ حكمته ودافع عن معناه بمثل قوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} [البقرة: 106] . وهل بعد اختيار الله اختيار؟! وهل بعد تعبير القرآن تعبير؟!)) . مناهل العرفان في علوم القرآن للزرقاني 2 / 162. ثم إن هناك فروقاً كبيرة بين النسخ والتخصيص.
والذي يظهر لي أن الخلاف مع أبي مسلم خلاف معنوي لمخالفته نصَّ الكتاب وإجماعَ الأمة، يدل على ذلك تعسفه الشديد في تأويل الآيات الدالة على وقوع النسخ كما تعسَّف في تأويل الآيات الناسخة والمنسوخة بما لا يقبله العقل ولا يتفق مع النقل. وما اعتذار العلماء له وأنه يُسمِّي النسخ تخصيصاً إلا خشية الإثم من مخالفة الإجماع، إذ كيف لمسلمٍ - فضلاً عن عالمٍ - أن يجحد وقوعه في القرآن مع قيام الحجج القاطعة على وقوعه؟! فلا مانع من تخطئته مع كونه متأولاً باجتهاده. انظر: حاشية رقم (5) للدكتور: سليمان اللاحم محقِّق كتاب: الناسخ والمنسوخ للنحاس 1 / 400.

(2/60)


وقوع النسخ في القرآن
ص: ويجوز عندنا وعند الكافة نسخ القرآن (1) خلافاً لأبي مُسْلِمٍ الأصفهاني (2) ؛
_________
(1) أي وقوع النسخ في بعض آياته.
(2) هو: محمد بن بَحْر الأصفهاني، من كبار المعتزلة، كان نحوياً كاتباً بليغاً كان يتصرف للسلطان بأصبهان ثم تاب عن ذلك، له كتاب في التفسير سماه: جامع التأويل لمحكم التنزيل، وله: الناسخ والمنسوخ، وكتاب في النحو، توفي عام 322 هـ. انظر: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة للبلخي والقاضي عبد الجبار ص 299، 323، معجم الأدباء لياقوت الحموي 18/ 35، بغية الوعاة للسيوطي 1/59.
* تحرير القول في مذهب أبي مسلم الأصفهاني:
اتفق العلماء على أنه يجيز النسخ عقلاً، ثم اختلفوا في مذهبه في جواز النسخ سمعاً على أقوالٍ ثلاثة:
الأول: ينكره سمعاً مطلقاً، وهو ظاهر نقل ابن عقيل عنه في: الواضح في أصول الفقه 4 / 197، والآمدي في: الإحكام 3 / 115، وابن الحاجب في: منتهى السول والأمل ص 154.
الثاني: ينكر وقوعه في الشريعة الواحدة. ذكره الجصاص في: أحكام القرآن 1 / 71، والرازي في: التفسير الكبير 20 / 93.
الثالث: ينكر وقوعه في القرآن فقط.. ذكره أكثر العلماء، ومنهم: النحَّاس في: الناسخ والمنسوخ
1 / 400، وانظر فواتح الرحموت 2 / 168.
أما النقل الأول: فإنه لا يصح عنه؛ لأنه لا يعقل. قال الشوكاني: ((فإنه إن اعترف بأن شريعة الإسلام ناسخة لما قبلها من الشرائع؛ فهذا بمجرده يوجب عليه الرجوع عن قوله، وإن كان لا يعلم ذلك فهو جاهل بما هو من الضروريات الدينية، وإن كان مخالفاً لكونها ناسخة للشرائع، فهو خلاف كفري لا يلتفت إلى قائله. نعم، إذا قال: إن الشرائع المتقدمة مُغيَّاةٌ بغايةٍ هي البعثة المحمدية، وأن ذلك ليس بنسخ، فذلك أخف من إنكار كونه نسخاً غير مقيد بهذا القيد)) إرشاد الفحول 2 / 76.

وأما النقل الثاني: فإنه مستبعدٌ أيضاً؛ لأنه ما من أحدٍ إلا ويعلم تحويل القبلة من بيت المقدس إلى المسجد الحرام وأن نكاح المتعة حُرم أبداً بعد الإباحة.
وأما النقل الثالث: فهو الأظهر في نسبته إليه. انظر: النسخ بين الإثبات والنفي د. محمد فرغلي
ص 87 - 98.
يلاحظ بأن المصنف ذكر في أول الفصل الثاني في حكم النسخ: أن بعض المسلمين أنكره مؤولاً لما وقع بالتخصيص. وهنا ذكر بأن أبا مسلم ينكر النسخ في القرآن. فصنيع المصنف أولاً يُشعر بأن أبا مسلم ينكر وقوع النسخ مطلقاً؛ لأنه لا يُعلم أحدٌ من المسلمين ينكر النسخ غير أبي مسلم، ثم صرَّح هنا بأن أبا مسلم ينكر النسخ في القرآن.
ثم لست أدري! لماذا تكلم المصنف عن مسألة نسخ القرآن هنا مع أن مكانها الصحيح في الفصل الثالث: " في الناسخ والمنسوخ " بدليل أنه أعاد ذكرها هناك؟ إلا أن يكون قد تابع الرازي عليها كما في المحصول 3 / 307. والله أعلم.

(2/61)


لأنَّ الله تعالى نسخ وجوب (1) وقوف الواحد للعشرة في الجهاد بثبوته للاثنَيْن، وهما في القرآن (2) .
الشرح
وثانيها: أن الله تعالى أوجب على المُتَوَفَّى عنها زوجُها الاعْتِدادَ (3) حَوْلاً بقوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ} (4) ثم نُسِخ بقوله تعالى: {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ} (5) .
_________
(1) ساقطة من ق، متن هـ.
(2) هذا الدليل الأول من أدلة وقوع النسخ عند الجمهور، فالآية المنسوخة هي قوله تعالى: { ... إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ..}
[الأنفال: 65] . والآية الناسخة هي قوله تعالى: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [الأنفال: 66] وقد سبق الكلام عن الخلاف في وقوع النسخ فيها في هامش (6) ص 51.
(3) الاعتداد لغة: مصدر اعتدَّ، واعتدَّت المرأة عِدَّتها من العدد والحساب. وعِدة المرأة: هي الأيام التي بانقضائها يحل لها التزوج. انظر: المصباح المنير، مفردات ألفاظ القرآن للأصفهاني كلاهما مادة
" عدد ". والعِدَّة اصطلاحاً: مدة منع النكاح لفَسْخِه أو موتِ زَوْجٍ أو طلاقِهِ. حدود ابن عرفة مع شرحه للرصَّاع 1 / 305.
(4) البقرة، من الآية: 240.
(5) البقرة، من الآية: 234 وأولها {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} .

ويشار هنا إلى وقوع خلافٍ في نسخ عِدَّة المتوفَّى عنها زوجُها: فقد نقل القرطبي عن القاضي عياض بأن الإجماع منعقد على أن الحول منسوخ، وأن عدتها أربعة أشهر وعشر، ورُوي فيه خلاف عن مجاهد، قال القرطبي: ثم روى ابن جريج عن مجاهد مثل ما عليه الناس، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 226، وانظر: الناسخ والمنسوخ في القرآن الكريم لابن العربي 2 / 31 - 32. وقيل: إن هذا ليس بنسخ، وإنما هو نقصان من الحول فلم يُنسخ الحولُ كله. انظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي القيسي ص 153، نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 213، وقد أطال الحديث عن هذه الآية أبو جعفر النحاس في كتابه: الناسخ والمنسوخ 2 / 70. والراجح هو القول بالنسخ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما هي أربعة أشهر وعشر، وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمى بالبعرة على رأس الحول)) البخاري (5336) مسلم (1488) . انظر أدلة كل فريق ومناقشتها في كتاب: الآيات المنسوخة د. عبد الله الشنقيطي ص 115.

(2/62)


ونسخ وجوب (1) التصدق [قبل النجوى] (2) الثابت (3) بقوله تعالى: {فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (4) .
احتجَّ أبو مُسْلمٍ رحمه الله: بأن الله تعالى وصف كتابه بأنه (5) لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه (6) ، فلو نُسِخ لبَطَل.
وجوابه (7) : أن معناه لم يتقدمه (8) من (9) الكتب ما يبطله، [ولا يأتي] (10) بعده ما يبطله ويبين أنه ليس بحق، والمنسوخ والناسخ حق، فليس هو (11) من هذا الباب.
_________
(1) ساقطة من ق.
(2) ساقط من س، ن.
(3) ساقطة من ق.
(4) المجادلة، من الآية: 12 وأولها قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} ، وهي الآية المنسوخة. أمَّا الآية الناسخة فهي قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَه} المجادلة، آية (13) . حكى ابن جزي المالكي في تفسيره الاتفاق على نسخ آية المجادلة. انظر كتابه: التسهيل لعلوم التنزيل 4 / 105، وانظر: الناسخ والمنسوخ للنحاس 3/ 53، قلائد المرجان في بيان الناسخ والمنسوخ في القرآن لمرعي الكرمي ص 202، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17 / 301.
(5) ساقطة من ن.
(6) في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} [فصلت: 41 - 42] .
(7) انظر حجة أبي مسلم ودحضها في: المحصول للرازي 3 / 311، الإحكام للآمدي 3 / 120، 124، الإبهاج للسبكي وابنه 2 / 233، وانظر: التفسير الكبير للرازي 27 / 114، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 15 / 367.
(8) في ن: ((يتقدَّم)) .
(9) في ق: ((في)) .
(10) في ق: ((ولم يأت)) والمثبت أولى؛ لأنه تعبير القرآن.
(11) ساقطة من ق.

(2/63)


فائدة: أبو مُسْلِمٍ كنيته، واسمه عمرو (1) بن يحيى (2) قاله أبو إسحاق (3)
في
" اللمع " (4) .
حكم نسخ الشيء قبل وقوعه
ص: ويجوز نسخ الشيء قبل وقوعه (5) عندنا خلافاً لأكثر الشافعية والحنفية
_________
(1) في جميع النسخ ((عمر)) ما خلا النسختين ش، م ففيهما ((عمرو)) وهو الصواب؛ لأنه هو المُثْبَت في:
" شرح اللمع " للشيرازي 1 / 482، و " التبصرة " له أيضاً ص 251.
(2) اختلف الأصوليون في اسمه فقيل: محمد بن يحيى، وقيل: عمرو بن يحيى، وقيل: الجاحظ، وقيل غير ذلك، وقد ذكر شيئاً من هذا الاختلاف المصنف في نفائس الأصول (6 / 2429، 2442) . والذي ذكَرَتْهُ كُتُب التراجم أنه: محمد بن بَحْر. راجع ترجمته في هامش (2) ص (61) . وأما كنيته بأبي مسلم فانظرها في: فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص 299، لسان الميزان لابن حجر 7 / 105.
(3) هو: جمال الدين إبراهيم بن علي بن يوسف الفيروزآبادي، الشهير بأبي إسحاق الشيرازي، وُلد
بفيروز آباد بلدة قريبة من شيراز بفارس، فقيه شافعي أصولي مؤرخ، كان مضرب المثل في الفصاحة والمناظرة مع التقوى والورع. كتبه في الفقه مشهورة منها: التنبيه (ط) ، المهذب (ط) وله في

الأصول: التبصرة (ط) ، اللمع (ط) ، شرح اللمع (ط) ، وله في الجدل: الملخص في الجدل (رسالة ماجستير في أم القرى 1408 هـ) ، والمعونة في الجدل (ط) ، وله: طبقات الفقهاء (ط) توفي عام 476 هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي 4 / 215، سير أعلام النبلاء 18 / 452.
(4) لم يذكر أبو إسحاق اسم أبي مسلم في " اللمع " وإنما ذكره في: شرح اللمع 1 / 482، والتبصرة
ص 251. واللمع: كتاب مختصر في أصول الفقه الشافعي، وهو كتاب متين رصين، له شروحات منها: شرح اللمع للمصنف نفسه، طُبع " اللمع " ومعه تخريج الأحاديث لعبد الله الصديقي الغماري وتعليق يوسف المرعشلي طبعة عالم الكتب. كما طبع بمفرده بتحقيق: محيي الدين مِسْتو، يوسف بديوي،
طبعة: دار الكلم الطيب ودار ابن كثير. وشرح اللمع مطبوع بتحقيقين، الأول: تحقيق د. علي العميريني (لم يكتمل) ، والثاني: تحقيق د. عبد المجيد تركي.
(5) اختلفت عبارات الأصوليين في ترجمة هذه المسألة بغية الوصول إلى عبارة جامعة تضم جميع صور المسألة وأقسامها. والمصنف هنا عبر بتعبير عام فقال: ((ويجوز نسخ الشيء قبل وقوعه)) . وهذا التعبير أعمّ من كونه لم يحضر وقته، أو حضر ولم يُفعل منه شيء، أو فُعل بعضه ... وهذه الصور مندرجة في كلامه.
تحرير محل النزاع: انعقد الإجماع على جواز نسخ الشيء بعد فعل المكلف له، واتفق العلماء على جواز نسخ الشيء بعد مضي فترة كافية للفعل ولو لم يقع أداؤه في الخارج، خلافاً للكرخي الذي يشترط وقوع الفعل حقيقة قبل أن ينسخ. ومحل الخلاف: نسخ الشيء قبل التمكن من فعله وقبل مضي فترة تكفي لأدائه. انظر: نهاية الوصول للهندي 6 / 2272، الإبهاج 2 / 234، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 191.

(2/64)


والمعتزلة (1)
كنسخ ذبْح إسحاقعليه السلام قبل وقوعه (2) .
الشرح
المسائل في هذا المعنى أربع (3) :
إحداهن: أن يوقت الفعل بزمان مستقبل، فينسخ قبل حضوره (4) . وثانيها (5) : أن يؤمر به على الفور، فينسخ قبل الشروع فيه (6) . وثالثها: أن يشرع فيه، فينسخ قبل كماله (7) . ورابعها: أن يكون الفعل يتكرر فيُفْعل مراراً، ثم يُنْسخ (8) .
_________
(1) عزو المصنف القول بالمنع لأكثر الشافعية والحنفية غير مُحَرَّر. والصواب في الأقوال، أن المجيزين هم: جمهور الحنفية، والمالكية عن بكرة أبيهم كما قاله ابن العربي، وجماهير الشافعية، وأكثر الحنابلة، وعامة أصحاب الحديث، وأكثر الفقهاء، والظاهرية.

وأما المانعون فهم: المعتزلة وبعض الحنفية كالكرخي والجصاص والماتريدي والدبوسي، وبعض الشافعية منهم الصيرفي، وبعض الحنابلة منهم التميمي ونُقل عنه الجواز. انظر: المعتمد 1 / 375، الإحكام لابن حزم 1 / 512، إحكام الفصول ص 404، المحصول لابن العربي ص 591، المسودة ص 207، كشف الأسرار للبخاري 3 / 323، الإبهاج 2 / 234، تيسير التحرير 3 / 187.
(2) سبق في حاشية (1) ص (49) أن الصواب في الذبيح هو إسماعيل عليه السلام. وقصة الذبيح تجدها في سورة الصافات 101 - 107.
قال حلولو: ((وقد طاشت عقول المعتزلة بالآية، وتخبطوا فيها تخبطاً عسر عليهم الخروج، حتى أفضى الحال ببعضهم في ذلك والعياذ بالله إلى الكفر كما ذكره إمام الحرمين في الإرشاد عن بعضهم، أعاذنا الله من الزيغ والزلل)) التوضيح شرح التنقيح ص 260. انظر المناقشات التي أثيرت حول الاستدلال بقصة الذبيح في: إحكام الفصول ص 405، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 256، الوصول لابن البرهان 2/ 39، الإحكام للآمدي 3 / 126، فواتح الرحموت 2 / 78.
(3) راجع هذه الصور في: نفائس الأصول 6 / 2448، البحر المحيط للزركشي 5 / 220 - 233 وقد عد ستة أقسام، والآيات البينات على شرح جمع الجوامع للعبادي 3 / 182.
(4) مثالها: كأن يقول الشارع في رمضان: حُجُّوا هذه السَّنَة. ثم يقول قبل يوم عرفة: لا تحجُّوا. انظر: الإحكام للآمدي 3 / 126.
(5) هكذا في جميع النسخ. وفي النفائس (6 / 2448) : ((وثانيتهن)) وهكذا في ((ثالثتهن)) و ((رابعتهن)) وهو الصواب خلافاً لما هنا؛ لأن المعدود مؤنث. ويجوز أن يقول: إحداها، ثانيتها، ثالثتها.. إلخ. أما التذكير فلا يجوز. انظر حاشية (3) ص (58) .
(6) مثالها: كأن يقول الشارع: اذبحْ ولدك. فيبادر إلى إحضار أسبابه، فيقول قبل ذبحه: لا تذبحْه. انظر: المستصفى 1 / 215.
(7) مثالها: كأن يقول الشارع: صُمْ غداً، ثم ينسخه بعد شروعه في الصوم وقبل إتمامه. انظر: تيسير التحرير 3 / 187.
(8) وهو أكثر حالات النسخ، كأن يقول الشارع: صَلِّ الصبح كل يوم، ثم ينسخه بعد يومين مثلاً، وسيُمثِّل له المصنف - بعد قليل - بنسخ القبلة.

(2/65)


فأما الثلاثة الأول (1) فهي في الفعل الواحد غير المتكرر. وأما الرابعة: فوافقنا عليها المعتزلة لحصول مصلحة الفعل بتلك (2) المرَّات (3) الواقعة قبل النسخ، ومنه نسخ القبلة (4) وغيرها، ومنعوا قبل الوقت وقبل الشروع لعدم حصول المصلحة [من الفعل] (5) ، وترك (6) المصلحة عندهم ممتنع على قاعدة الحسن والقبح (7) . [والنقل في هاتين المسألتين في هذا الموضع قد نقله الأصوليون] (8) . وأما بعد الشروع وقبل الكمال فلم أرَ فيه نَقْلاً (9) ، ومقتضى مذهبنا جواز النسخ في الجميع.
ومقتضى مذهب المعتزلة التفصيل لا المنع مطلقاً ولا الجواز مطلقاً (10) ، فإن الفعل الواحد قد [لا تَحْصُل مصلحته] (11) إلا باستيفاء أجزائه، كذبح الحيوان، وإنقاذ
_________
(1) في س: ((الأولى)) .
(2) في س: ((تلك)) بدون الباء.
(3) في ن: ((المدة)) .
(4) كانت القبلة الأولى لبيت المقدس، ثم نُسِخت إلى البيت الحرام في قوله تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ... } [البقرة: 144] ، وسيأتي كلام عنها في الفصل الثالث: في الناسخ والمنسوخ ص 87.
(5) في ن: ((للفعل)) .
(6) في ن: ((تلك)) وهو تحريف يقلب المعنى.
(7) انظر حجتهم في: المعتمد 1 / 376، ويُردُّ عليهم بحصول المصلحة، كتوطين النفس على الفعل، والعزم على الامتثال، فإنه يثاب على ذلك كله. انظر الرد على حجج المعتزلة في: الإحكام لابن حزم
1 / 512، شرح اللمع للشيرازي 1 / 487، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 362، المحصول لابن العربي
ص 590، كشف الأسرار للنسفي 2 / 145.
(8) ما بين المعقوفين في ق هكذا: ((وقد نقل الأصوليون هاتين المسألتين)) .
(9) تعقب الزركشي المصنف وحكى تصريح أبي إسحاق المروزي (ت 340 هـ) بجواز النسخ في هذه المسألة. انظر: البحر المحيط للزركشي 5 / 232.
(10) حكى الزركشي قول العَبْدَري في شرح المستصفى: أن النسخ في هذه المسألة متفق على جوازه عند الأشعرية والمعتزلة، ثم قال: ((وفي هذا رَدٌّ على القرافي وغيره حيث أجروا خلاف المعتزلة هنا)) البحر المحيط للزركشي 5 / 229. وفي كتاب: المعتمد (1 / 379) إشارة إلى عدم امتناعهم من النسخ في هذه الحالة في تأويله لمثال الذبيح. وانظر كذلك موضعاً آخر منه (1 / 381) .
(11) في ق: ((لا يُحصِّل مصلحةً)) .

(2/66)


الغريق، فإن مجرد قطع الجلد لا يُحصِّل مقصود الذكاة من إخراج الفضلات، وزهوق الروح على وجه السهولة، وإيصال (1) الغريق إلى قُرْب البَرِّ وتركه هناك لا يُحصِّل مقصود الحياة (2) ، وقد تكون المصلحة متوزِّعةً على أجزائه كسَقْي العَطْشان وإطعام الجَوْعان وكِسْوة العُرْيان، فإن كل جزءٍ من ذلك يُحصِّل جزءاً من المصلحة في الرَّي والشِّبَع والكِسْوة، ففي (3) القسم الأول مقتضى (4) مذهبهم المنع؛ لعدم حصول المصلحة. وفي الثاني الجواز؛ لحصول (5) بعض المصلحة المخرجة للأمر الأول عن العبث، كما انعقد الإجماع على حسن النهي عن القطرة الواحدة من الخمر، مع أن الإسكار لا يَحْصل إلا بعد قطرات، لكنه لا يتعين له بعضُها دون بعضٍ بل يتوزَّع عليها، فكذلك هاهنا (6) ، تتنزل (7) الأجزاء (8)
منزلة الجزئيات (9) ، كذلك يكتفى ببعض الأجزاء. غير أن هاهنا فَرْقاً أمكن ملاحظته، وهو أن المصلحة في الجزئيات الماضية في صورة المنقول عنهم مصالحُ تامةٌ أمكن أن يقصدها (10) العقلاء قصداً كلياً دائماً، بخلاف جزء المصلحة
_________
(1) في ق: ((إخراج)) .
(2) في ن: ((الجناية)) وهو تحريف.
(3) في ن: ((وفي)) .
(4) ساقطة من ن.
(5) في ن: ((كحصول)) وهو تحريف.
(6) في ق: ((هذا)) .
(7) في س: ((وتنزل)) ، وفي ق: ((يتنزل)) .
(8) الأجزاء جمع جزء وهو: ما يتركب الشيء منه ومن غيره. مثاله: كالسقف بالنسبة للبيت، فهو جزء

منه. انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 28، التعريفات للجرجاني ص 107، شرح السلم المنورق للملوي ص 80.
(9) الجزئيات جمع جزئي وهو: ما يمنع نفس تصوره من وقوع الشركة فيه. مثاله: زيد، وضع للذات المخصوصة. انظر: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 27، 28، التعريفات للجرجاني ص 107، شرح السلم المنورق للملوي ص 64.
(10) في ق: ((تقصدها)) وهو صحيح أيضاً، لأن الفاعل إذا كان جمعاً جاز إلحاق تاء التأنيث بالفعل وجاء ترك الإلحاق، فمن أنث فعلى معنى: الجماعة ومن ذكر فعلى معنى: الجمع. انظر: شرح قطر الندى لابن هشام ص 169 - 170.

(2/67)


في نقطة الماء ونحوها، فإن القصد إليها نادر، ومع هذا الفرق أمكن أن يقولوا بالمنع مطلقاً في هذا القسم من غير تفصيل (1) .
احتج الشيخ سيف الدين الآمدي (2) في هذه المسألة بنسخ الخمسين صلاةً ليلة الإسراء حتى* بقيت خمساً (3) .
ويردُ عليه: أنها خبر واحد فلا تفيد القطع، والمسألة قطعية (4) . ولأنه نسخ قبل الإنزال (5) ، [وقبل الإنزال] (6) لا يتقرَّر (7) علينا (8) حكم (9) ، فليس من صورة النزاع.
حكم النسخ لا إلى بدل
ص: والنسخ لا إلى بدل (10)
خلافاً
_________
(1) انظر مزيداً من توضيح مذهب المعتزلة كما استخرجه المصنف من مقتضى قاعدتهم في التحسين والتقبيح في: رفع النقاب القسم 2 / 396.
(2) انظر: الإحكام للآمدي 3 / 130، ذكِر هذا الاحتجاج أيضاً في: التمهيد لأبي الخطاب 2 / 360، تيسير التحرير 3 / 187.
(3) حديث الإسراء والمعراج وفرض الصلوات عليه صلى الله عليه وسلم من رواية البخاري (349) ومسلم (259) ، (263) من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
(4) أما كون الخبر آحاداً فقد قال علاء الدين البخاري: ((الحديث ثابت مشهور، قد تلقته الأمة بالقبول، وهو في معنى التواتر، فلا وجه إلى إنكاره)) . كشف الأسرار للبخاري 3 / 326. وعدَّه السيوطي والكتاني من الأحاديث المتواترة. انظر: قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة للسيوطي ص 263، نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني ص 219، 220. ثم إن المسألة ظنية اجتهادية والتمسك في الظنيات بخبر الواحد جائزٌ وفاقاً. انظر: نهاية الوصول للهندي 6 / 2283.
(5) فيه نظر، بل بعد الإنزال، لأنه أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في السماء، ولا عبرة في الإنزال إلى الأرض. انظر: رفع النقاب القسم 2 / 399.
(6) في ق: ((وحينئذٍ)) .
(7) في ن: ((يتعذر)) وهو تحريف.
(8) في ق: ((عليها)) وربما كان عود الضمير على: المسألة.
(9) لا يشترط في بلوغ الأمر أن يعمَّ جميع المكلفين، بل يكفي علم بعضهم. وقد علمه سيد الأمة وإمام المكلفين صلى الله عليه وسلم. انظر: شرح الكوكب المنير 3 / 531، والتقرير والتحبير 3 / 49.
(10) البَدَل لغة: هو قيام الشيء مقام الشيء الذاهب. ويقولون: بدَّلْتَ الشيءَ؛ إذا غَيَّرْتَه وإن لم تأت له
ببدل. معجم المقاييس في اللغة لابن فارس مادة " بدل ".

وفي الاصطلاح له معنيان، أحدهما عام، والآخر خاص. أما العام فهو: رَدُّ الحكمِ إلى ما قبل شرع الحكم المنسوخ ولو كان الإباحة الأصلية. مثاله: نسخ وجوب تقديم الصدقة عند مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم إلى الإباحة أو الاستحباب. والمعنى الخاص هو: قَصْر البدل على شرع حكمٍ جديدٍ ليحُلَّ محل الحكم المنسوخ. مثاله: نسخ صوم عاشوراء بصوم رمضان. ولكون البدل يرد على المعنيين السابقين وقع النزاع بين العلماء في اشتراط البدل أو عدمه في النسخ. انظر: شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 193، تيسير التحرير 3 / 197، النسخ في دراسات الأصوليين د. نادية العمري ص 257.

(2/68)


لقوم (1)
كنسخ الصدقة في قوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} (2) لغير بدل.
الشرح
قيل: إن ذلك زال لزوال سببه وهو التمييز بين المؤمنين والمنافقين، وقد ذهب
_________
(1) المجوزون للنسخ لا إلى بدل: هم أكثر العلماء وجماهير الأصوليين. والمانعون من النسخ إلى غير بدل
هم قومٌ من أهل الظاهر والمعتزلة. أما ابن حزم فإنه يرى جواز نسخ الشيء بإسقاطه جملة، انظر: الإحكام (2 / 805) . وأمَّا أبو الحسين البصري في المعتمد (1 / 384) فمذهبه مع المجوِّزين، ونقل المنع عن بعض الناس دون تسميتهم. وذكر اللاَّمشي في كتابه أصول الفقه ص (174) أنه مذهب بعض أصحاب الحديث. واشتراط البدل ظاهر قول الشافعي حيث قال: ((وليس يُنسخ فَرْضٌ أبداً إلا أثبت مكانه فرضٌ، كما نُسخت قبلهُ بيت المقدس فأثْبِت مكانها الكعبة، وكلُّ منسوخٍ في كتابٍ وسنةٍ هكذا)) الرسالة ص (109) . ومن العلماء من أوَّلَ كلام الشافعي بحمله على غير ظاهره ليتوافق مع قول الجمهور. انظر: العدة لأبي يعلى 3 / 783، البرهان للجويني 2 / 856، الإبهاج 2 / 238، تحفة المسؤول للرهوني القسم 2 / 498، البحر المحيط للزركشي 5 / 237، التوضيح لحلولو ص 260.
* حقيقة الخلاف في المسألة:

المسألة لا نزاع فيها في واقع الأمر، لأن المشترطين للبدل فهموا البدل بالمعنى العام والجمهور لا يخالفونهم في اشتراطه. وأما الجمهور - غير الشارطين - فقد فهموا البدل بالمعنى الخاص، والخصم لا يخالفهم في عدم اشتراطه، ثم قد يقع النزاع في المثال تبعاً للاختلاف في معنى البدل. والله أعلم. انظر: الدرر اللوامع في شرح جمع الجوامع ص 455 (رسالة دكتوراه بالجامعة الإسلامية تحقيق: سعيد المجيدي) ، التقرير والتحبير 3 / 57، شرح الكوكب المنير 3 / 548، نشر البنود 1 / 286.
(2) المجادلة، من الآية: 12، وصدرها قوله تعالى: {إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً} وهي الآية المنسوخة. والآية التي نسختها هي قوله تعالى: {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ... } [المجادلة: 13] .

(2/69)


المنافقون* فاستغني عن الفرق (1) .
جوابه: روي أنه لم يتصدَّق إلا عليٌّ رضي الله عنه فقط (2) مع بقاء السبب بعد صدقته، ثم نسخ حينئذٍ.
احتجوا بقوله تعالى: {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا} (3) فنصَّ تعالى على أنه لابد من البدل بأحسن أو مِثْلٍ (4) .
جوابه: أنَّ هذه صيغة شرطٍ، وليس من شَرْط الشَّرْط أن يكون ممكناً فقد يكون متعذراً (5) كقولك (6) : إن كان الواحد نصف العشرة فالعشرة اثنان، وهذا الشرط محال
_________
(1) معنى هذا الاعتراض: أن زوال التصدق ليس من باب النسخ بل من باب رفع الحكم لزوال سببه. انظر هذا الاعتراض في: المحصول للرازي 3 / 308، الإبهاج 2 / 231، نهاية السول للإسنوي 2 / 561.
* ما روي في سبب نزول آية التصدق عند المناجاة:
أ - عن ابن عباس أن قوماً من المسلمين كثرت مناجاتهم للرسول صلى الله عليه وسلم في غير حاجة إلا لتظهر منزلتهم، وكان صلى الله عليه وسلم سمحاً لا يرد أحداً فنزلت الآية. انظر: روح المعاني للألوسي 14 / 224.
ب - عن مقاتل أن الأغنياء كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيكثرون مناجاته ويغلبون الفقراء على المجالس حتى كره عليه الصلاة والسلام طول جلوسهم ومناجاتهم فنزلت الآية. انظر: أسباب النزول للواحدي ص 412.
جـ - عن ابن زيد: لئلا يناجي أهل الباطل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشق ذلك على أهل الحق ... قال: وكان المنافقون ربما ناجوا فيما لا حاجة لهم فيه. انظر: جامع البيان للطبري مجلد 14 / جزء 28 / 28.

د - عن زيد بن أسلم: نزلت بسبب أن المنافقين واليهود كانوا يناجون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون إنه أذن ... فكان ذلك يشقُّ على المسلمين. انظر الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 17 / 301.
(2) عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن علي رضي الله عنه قال: ((إن في كتاب الله لآيةً ما عمل بها أحدٌ، ولا يعمل بها أحدٌ بعدي، آية النجوى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ... } قال: كان عندي دينار فبعته بعشرة دراهم، فناجيت النبي صلى الله عليه وسلم، فكنت كلما ناجيت النبي صلى الله عليه وسلم قدمت بين يدي نجواي درهماً ثم نسِختْ، فلم يعمل بها أحدٌ فنزلت {أَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ ... } رواه الحاكم في مستدركه 2 / 524 برقم (3794) . وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه، ووافقه الذهبي.
(3) البقرة، من الآية: 106.
(4) انظر: المعتمد 1 / 385، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 351، نهاية الوصول للهندي 6 / 2295، فواتح الرحموت 2 / 85.
(5) في ق: ((ممتنعاً)) .
(6) في س، ن: ((كقوله)) .

(2/70)


والكلام صحيح عربي، وإذا لم يستلزم الشرط الإمكان لا يدل على الوقوع مطلقاً فضلاً عن الوقوع ببدل (1) .
سلمناه (2) لكنه قد يكون رفعُ الحكم لغير بدل* خيراً للمكلف باعتبار مصالحه، والخِفَّة عليه، وبُعْده من الفتنة وغوائل التكليف (3) .
حكم النسخ بالأثقل
ص: ونسخ الحكم إلى الأثقل (4) خلافاً لبعض أهل الظاهر (5)
كنسخ عاشوراء
_________
(1) قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله: ((وما أجاب به صاحب نشر البنود شرح مراقي السعود
(1 / 286) تبعاً للقرافي من أن الجواب لا يجب أن يكون ممكناً فضلاً عن أن يكون واقعاً، نحو: إن كان الواحد نصف العشرة فالعشرة اثنان، ظاهر السقوط أيضاً، لأن مَوْرد الصدق والكذب في الشرطية إنما هو الرَّبْطُ، فتكون صادقة لصدق ربطها ولو كانت كاذبةَ الطرفين لو حُلَّ ربطها، ألا ترى أن قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا..} [الأنبياء: 22] قضية شرطية في غاية الصدق مع أنها لو أزيل منها الربط لكذب طرفاها، إذ يصير الطرف الأول: كان فيهما آلهة إلا الله؛ وهذا باطل قطعاً، ويصير الطرف الثاني: فسدتا أي السموات والأرض وهو باطل أيضاً، والربط لاشك في صحته، وبصحته تصدق الشرطية ... إلخ)) مذكرة أصول الفقه ص 142.
(2) في س، ن: ((سلمنا)) .
(3) وهناك أجوبة أخرى، انظر: المستصفى 1 / 227، الوصول لابن برهان 2 / 24، الضروري في أصول الفقه لابن رشد ص 85، كشف الأسرار للنسفي 2 / 155، شرح مختصر الروضة للطوفي 2 / 299.
(4) أي: ويجوز نسخ الحكم إلى الأثقل. وتحرير محل النزاع هو: أن النسخ إلى الأخف - كالنسخ في آيتي المصابرة، ونسخ الاعتداد بالحول إلى الأشهر - جائز وواقع بالاتفاق. وأن النسخ إلى المثل أو المساوي
- كنسخ القبلة من بيت المقدس إلى الكعبة - أيضاً جائز وواقع بالاتفاق. وإنما النزاع في النسخ إلى الأثقل والأغلظ والأشق. فمن العلماء من منعه مطلقاً عقلاً وسمعاً، ومنهم من منعه سمعاً، ومنهم من جوزه مطلقاً. وجمهور العلماء من الفقهاء والمتكلمين على جوازه ووقوعه. انظر: إحكام الفصول ص 401، الإحكام للآمدي 3 / 137، منتهى السول والأمل ص 158، بديع النظام (نهاية الوصول) لابن الساعاتي 2 / 539، أصول الفقه لابن مفلح 3 / 1136، البحر المحيط للزركشي 5 / 240، رفع النقاب القسم 2 / 403، تيسير التحرير 3 / 199.
(5) قال ابن حزم: ((قال قوم من أصحابنا ومن غيرهم: لا يجوز نسخ الأخف بالأثقل. وقد أخطأ هؤلاء القائلون)) الإحكام له 1 / 506، ونُسب هذا القول لمحمد بن داود الظاهري كما في المسودة
ص 201، والبحر المحيط للزركشي 5 / 240، وهو مذهب بعض الشافعية كما في شرح اللمع للشيرازي 1 / 494.

أما أهل الظاهر: هم طائفة من العلماء يأخذون بظواهر نصوص الكتاب والسنة، ويُعْرضون عن التأويل والقياس والرأي، وإمامهم في ذلك: أبو سليمان داود بن علي الأصبهاني (ت 270 هـ) ، وأبرز علمائهم أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأندلسي (ت 456 هـ) وله كتاب " المحلى " يتجلّى فيه الفقه الظاهري. انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1 / 243، كتاب: الإمام داود الظاهري وأثره في الفقه الإسلامي لعارف خليل أبو عيد ص 131 - 149.

(2/71)


برمضان (1) .
الشرح
ونسخ الحبس في البيوت إلى الجَلْد والرجم (2) ، والرجم (3) أشد من الحبس (4) .
_________
(1) انظر: هذا الدليل في: إحكام الفصول ص 403، ميزان الأصول للسمرقندي 2 / 1001، المحصول للرازي 3 / 321، الإحكام للآمدي 3 / 137، منتهى السول والأمل ص 158.
قال المصنف في نفائس الأصول 6 / 2462: ((فيه خلاف؛ هل كان عاشوراء واجباً في الأصل أم لا؟ وهل نسخ وجوبه برمضان أم لا؟)) .
ودليل النسخ هو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: إن قريشاً كانت تصوم يوم عاشوراء في الجاهلية، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصيامه حتى فرض رمضان، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من شاء فليصمه ومن شاء أفطره)) رواه البخاري (1893) ، (2002) وله روايات وألفاظ متعددة في الصحيحين وغيرهما.
وانظر اختلاف العلماء في حكم صيام عاشوراء قبل فرض رمضان في: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي ص 339، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي القيسي ص 122، المنتقى شرح الموطأ للباجي 3 / 58، الاستذكار لابن عبد البر 10 / 137، المغني لابن قدامة 4 / 441، المجموع شرح المهذب للنووي 6 / 433.
ومن العلماء من لم يُسلِّم بوقوع النسخ هنا، لأن من شرط النسخ تعذر الجمع بين الدليلين المتعارضين، والدليلان هنا لم يتواردا على محلٍ واحد، وإنما يكون ذلك من باب التوافق في كون الله تعالى، لما رفع صوم عاشوراء فَرَض صوم رمضان. والله أعلم. انظر: شرح الكوكب المنير 3 / 530، الآيات المنسوخة في القرآن د. عبد الله الشنقيطي ص 127.
(2) ساقطة من ن، س، ش، وهي مثبتة في باقي النسخ.
(3) في ق: ((وهما)) وهو من انفراداتها.
(4) انظر هذا الدليل في: الوصول لابن برهان 2 / 26، المحصول للرازي 3 / 321، منتهى السول والأمل ص 158، تيسير التحرير 3 / 201.

قال ابن العربي: ((ومن الناس من يرى أنه (أي الحبس) أشد من الجلد)) أحكام القرآن (1 / 461) ، وهذا ينطبق على رعاع الناس ودهمائهم، أما النفوس الأبيَّة فتؤثر الحبس على الجَلْد لما في الجَلْد من المعرَّة، فتتوجَّه الأثقلية في الجَلْد إلى النفوس الأبيَّة. انظر: نفائس الأصول 6 / 2461.
* أما وقوع النسخ هنا فقد اختلف العلماء في ذلك، فمن العلماء من حكى الاتفاق على نسخ حكم الحبس والأذى في الآيتين من قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَّحِيمًا} [النساء: 15 - 16] انظر: أحكام القرآن للجصاص 2 / 132، المحرر الوجيز لابن عطية 4/ 48، نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 262.
ويرى الشيخ السعدي عدم وقوع النسخ في الآيتين بل هما محكمتان انظر: تيسير الكريم المنان 1 / 329 وانظر: الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي القيسي ص 180.
ثم إن القائلين بالنسخ اختلفوا في الناسخ لهاتين الآيتين على أقوالٍ، انظرها في: هامش رقم (1) ص (91) .

(2/72)


احتجوا بقوله تعالى: {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} (1) وبقوله تعالى: {أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (2) والأثقل لا يكون خيراً ولا مِثْلاً ولا يُسْراً (3) .
والجواب عن الأول: قد يكون الأثقل أفضل للمكلف وخيراً له باعتبار ثوابه واستصلاحه في أخلاقه ومعاده (4) ومعاشه (5) . وعن الثاني: أنه محمول على اليسر في الآخرة حتى لا يتطرق إليه تخصيصات غير محصورة (6) ، فإن في الشريعة مَشَاقَّ (7) كثيرة (8) .
أنواع النسخ في القرآن وأحكامها
ص: ونسخ التلاوة دون الحكم (9) كنسخ: ((الشَّيْخُ والشَّيْخَة إذا زنيا
_________
(1) البقرة، من الآية: 106. وهذا الدليل الأول.
(2) البقرة، من الآية: 185. وهذا الدليل الثاني.
(3) انظر حجج المانعين في: إحكام الفصول ص 402، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 352، المحصول للرازي
3 / 321، الإبهاج 2 / 263.
(4) ساقطة من ن.
(5) انظر: إحكام الفصول ص 402، الوصول لابن برهان 2 / 26. وانظر وجهاً آخر من الجواب للمصنف في: نفائس الأصول 6 / 2463.
(6) في ق: ((محظورة)) وهو تحريف.
(7) في س، ن: ((مشاقاً)) وهو خطأ نحوي على المشهور؛ لأنها يجب أن تمنع من الصرف لِعلَّة كونها صيغة منتهى الجموع على وزن " مفاعل ". لكن أجاز قوم صرف صيغة منتهى الجموع إختياراً، وزعم قومٌ أن صرف مالا ينصرف لغة. انظر: شرح الأشموني على ألفية ابن مالك بحاشية الصبَّان 3 / 403.
(8) لكن المصنف لم يرتضِ تخصيص اليسر بالآخرة في النفائس (6 / 2463) إذ قال: ((بل يبقى على عمومه، والمراد باليسر ما يُسمى يُسراً لغة وعادة، وهو ما يستطيعه الإنسان، والله تعالى لم يكلفنا بغير المقدور، بل بما هو مقدور، والمقدور يسمى يسراً، ومنه قوله تعالى: {فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ} [البقرة: 196] أي ما قدرتم عليه ... ثم قال: فلا تخصيص حينئذٍ، ولا حَجْر للخصم فيه، ولم يقع النسخ بالأثقل الذي ليس بمقدور، بل بالمقدور)) . وانظر ردود ابن حزم القوية على حجج المانعين في الإحكام 1/506 - 512.
(9) أي: ويجوز نسخ التلاوة دون الحكم، وهكذا يجوز نسخ الحكم دون التلاوة، ونسخهما معاً. هذا مذهب جماهير العلماء، بل حكى بعض الأصوليين الإجماع والاتفاق على ذلك إلا ما نقل عن بعض المعتزلة وشواذهم. انظر المسألة وما قيل فيها في: المعتمد 1 / 386، الإحكام لابن حزم 1 / 477، إحكام الفصول ص 403، شرح اللمع للشيرازي 1 / 495، البرهان للجويني 2 / 855، أصول السرخسي 2 / 78، المحصول لابن العربي ص 587، روضة الناظر 1 / 294، الإحكام للآمدي 3 / 141، التقرير والتحبير 3 / 87، التوضيح لحلولو ص 262، شرح الكوكب المنير 3 / 553، الآيات المنسوخة في القرآن د. عبد الله الشنقيطي ص 74.

(2/73)


فارجموهما ألبتَّة نكالاً من الله)) (1)
مع بقاء الرجم.
والحكم دون التلاوة كما تقدَّم في الجهاد (2) .
وهما معاً لاستلزام [إمكان المفردات] (3) إمكان المركب* (4) .
الشرح
لأن التلاوة والحكم عبادتان منفصلتان (5) ، فلا يبعد في العقل أن يصيرا معاً
_________
(1) هذه تسمى: " آية الرجم ". قال ابن العربي: ((نسِخ هذا اللفظ كله إجماعاً، ويبقى حكمه إجماعاً)) المحصول له ص (588) . وقد ورد ذكر " آية الرجم " في الصحيحين عن حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه وهو جالس على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الله قد بعث محمداً بالحق، وأنزل عليه الكتاب، فكان مما أنزل عليه " آية الرجم " فقرأناها ووعيناها، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائل: ما نجد الرجم في كتاب الله، فيضلوا بترك فريضة أنزلها الله، وإن الرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن، من الرجال والنساء، إذا قامت البينة أوكان الحَبَل أو الاعتراف)) رواه البخاري (6830) ، ومسلم (1691) ، وزاد الإسماعيلي - بعد قوله: أو الاعتراف - وقد قرأناها: ((الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة)) فتح الباري لابن حجر 12 / 173..وانظر هذه الآية في: سنن ابن ماجة (2553) ، وسنن البيهقي 8 / 367، وموافقة الخُبْر الخَبَر لابن حجر 2 / 303، الناسخ والمنسوخ للنحاس 1 / 435، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 46. وهذه الآية كانت من سورة الأحزاب. انظر: هامش (2) ص (76) .
(2) الآية المنسوخة حكماً لا تلاوة هي قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ... } [الأنفال: 66] . انظر هامش (2) ص (62) .
(3) ساقط من س.
(4) معنى هذه العبارة: أن ما يُمْكن في المفردات يلزم منه أن يُمْكن في المركبات التي تركَّب من المفردات، فالنسخ لما جاز في حالة إفراد التلاوة دون الحكم، وفي حالة إفراد الحكم دون التلاوة جاز نسخهما معاً في حالة تركيبهما واجتماعهما. انظر: رفع النقاب القسم 2 / 408.
(5) في ق: ((مستقلتان)) .

(2/74)


مفسدةً (1) في وقتٍ أو إحداهما دون الآخرى (2) ،
وتكون الفائدة في بقاء التلاوة دون الحكم ما يحصل من العلم بأن الله تعالى أنزل مثل [هذا الحكم] (3) رحمة منه بعباده (4) . وعن أنس نزل (5) في قتلى بئر مَعُوْنة (6) : ((بلِّغوا إخواننا أنَّا لقينا ربَّنا فرضي عنَّا وأرضانا)) (7) .
وعن أبي بكر رضي الله عنه كنا نقرأ من القرآن: ((لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كُفْرٌ بكم)) (8) ومثال التلاوة والحكم معاً: ما روي عن عائشة رضي الله عنها قالت (9) : ((كان فيما أنْزل الله تعالى: عَشْرُ رَضَعَاتٍ، فنُسِخْنَ بخَمْسٍ)) (10) ، وروي أن سورة (11)
_________
(1) في ن: ((مفيدة)) وهو تحريف يقلب المعنى.
(2) انظر: إحكام الفصول ص 403، الضروري من أصول الفقه لابن رشد ص 86، أصول السرخسي

2 / 80، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 368.
(3) في ن: ((هذه الأحكام)) .
(4) في س، ن: ((على عباده)) . ومن فوائد بقاء التلاوة دون الحكم أيضاً: التعبد بحروف الآية، وبقاء الإعجاز والتحدي بالإتيان بمثله، ومعرفة أسرار التشريع والتدرج في أحكام الشرع.
(5) في ن: ((أنزل)) .
(6) في س: ((معاوية)) وهو تحريف. وبئر معونة: هي بئر لبني سليم بين مكة والمدينة، وقيل: لبني عامر كانت عندها قصة الرجيع الوَقْعة المعروفة. انظر: معجم البلدان لياقوت الحموي 1 / 358.
(7) هذا مثال نسخ التلاوة مع بقاء الحكم، والحديث عن أنس رضي الله عنه أن رعْلاً وذكْوان وعُصَيَّة وبني لِحْيَان استمدُّوا رسول الله صلى الله عليه وسلم على عدوٍّ، فأمدَّهم بسبعين من الأنصار، كنا نسميهم القُرَّاء في زمانهم، كانوا يحتطبون بالنهار ويُصَلُّون بالليل، حتى كانوا ببئر مَعُونة قتلوهم وغدروا بهم، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقَنَتَ شهراً يدعو في الصبح على أحياء العرب على رعْل وذكْوان وعُصَية وبني لِحْيَان. قال أنس: فقرأنا فيهم قرآناً ثم إنَّ ذلك رُفع: ((بلِّغوا عنَّا قومنا أنَّا لقينا ربنَّا فرضي عنَّا وأرضانا)) رواه البخاري واللفظ له برقم
(
4090) ، ومسلم (677) . وانظر القصة في: السيرة النبوية لابن هشام 3 / 260.
(8) حديث أبي بكر رضي الله عنه أورده السيوطي في مسند الصديق من كتابه: جمع الجوامع ص (65) . وأخرج البخاري (6830) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال - في خطبته الطويلة التي فيها آية الرجم -: ((ثم إنَّا كنَّا نقرأ من كتاب الله أن: لا ترغبوا عن آبائكم فإنه كُفْرٌ بكم أن ترغبوا عن آبائكم - أو - إن كُفْراً بكم أن ترغبوا عن آبائكم)) .
(9) ساقطة من ق.
(10) حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ((كان فيما أنْزل من القرآن عَشْرُ رضعاتٍ معلوماتٍ يُحَرِّمْنَ ثم نسِخْنَ بخمس معلومات، فتوفي رسول الله وهُنَّ فيما يُقرأ من القرآن)) رواه مسلم (1452) . يستدل في هذا الحديث بالعشر على نسخ الحكم والتلاوة معاً اتفاقاً، ويستدل بالخمس على نسخ التلاوة دون الحكم عند الشافعي ومن معه، أما عند مالك ومن معه فالخمس أيضاً نسِختْ تلاوةً وحكماً بالمصَّة والمصَّتين. انظر: نيل السول على مرتقى الوصول لمحمد يحيى الولاتي ص 140.
(11) في ق: ((صورة)) وهو تحريف.

(2/75)


الأحزاب كانت تَعْدِل سورة (1) البقرة (2) .
حكم النسخ في الأخبار
ص: ونسخ الخبر (3) إذا كان متضمِّناً لحكمٍ عندنا (4) ، خلافاً لمن جوزه (5) مطلقاً (6) ،
أو منعه (7) مطلقاً (8) وهو أبو علي (9)
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) عن زرِّ بن حُبيش قال: قال لي أبَيّ بن كعب: ((كم تَعُدُّون سورة الأحزاب؟ قلتُ: ثلاثاً وسبعين آية..قال: لقد رأيْتُها وإنها لتعادل سورة البقرة، ولقد قرأنا فيها: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما ألبتة نكالاً من الله والله عزيز حكيم)) ، وفي رواية ((والذي يُحْلف به إنْ كانتْ لَتَعْدِلُ سورة البقرة)) رواه الإمام أحمد في مسنده 5 / 132، والحاكم في المستدرك 4 / 40 برقم (8068) وصححه، وابن حبان في صحيحه (4428، 4429) ، وحسَّنه ابن حجر في موافقة الخُبْر الخَبَر 2 / 304.
(3) أي: ويجوز نسخ الخبر ... إلخ. وتحرير محل النزاع هو: إن كانت الأخبار مما لا يمكن تغييره بأن لا يقع إلا على وجهٍ واحدٍ، كصفات الله تعالى، وخبر ما كان من الأمم الماضية، وما يكون كقيام الساعة، فلا يجوز نسخه بالإجماع؛ لأنه يفضي إلى الكذب، وذلك مستحيل في الوحي. وإن كان مما يصح تغييره بأن يقع على غير الوجه المُخْبَر عنه ماضياً كان أو مستقبلاً أو وعداً أو وعيداً أو خبراً عن حكم شرعي، فهو محل النزاع. انظر: الإحكام للآمدي 3 / 144، الكاشف عن المحصول 5 / 265، البحر المحيط للزركشي 5 / 244، رفع النقاب القسم 2 / 410.
(4) انظر: إحكام الفصول ص 399، التوضيح شرح التنقيح لحلولو ص 263، رفع النقاب القسم 2/409.
ومن الأصوليين من نقل الاتفاق على جواز نسخ هذا النوع من الأخبار. انظر: الوصول لابن برهان 2 / 63، ونهاية الوصول للهندي 6 / 2318. وانظر: الإحكام لابن حزم 1 / 486، شرح اللمع للشيرازي 1 / 489، كشف الأسرار للبخاري 3 / 313.
(5) في متن هـ: ((جوَّز)) .
(6) وهم: أبو عبد الله البصري والقاضي عبد الجبار وأبو الحسين البصري من المعتزلة، ومن غيرهم: القاضي أبو يعلى، وابن تيمية وغيرهم. انظر: المعتمد 1 / 387، العدة لأبي يعلى 3 / 825، المحصول للرازي

3 / 326، المسودة ص 196، رفع النقاب القسم 2 / 410.
(7) ساقطة من ن وكذا الكلمة التي بعدها. وفي س: ((ومنع)) ، وفي متن هـ: ((أو منع)) .
(8) ومن المانعين: الجبائيان، والصيرفي، وأبو إسحاق المروزي، والباقلاني، وابن السمعاني، وابن الحاجب، ونسبه العضد للشافعي، وقال الباجي: هو مذهب الجمهور من الفقهاء والمتكلمين. انظر: المعتمد 1 / 389، إحكام الفصول ص 399، قواطع الأدلة 2 / 87، البحر المحيط للزركشي 5 / 245، مختصر ابن الحاجب بشرح العضد 2 / 195، رفع النقاب القسم 2 / 410.
(9) هو: أبو علي محمد بن عبد الوهاب بن عبد السلام الجُبَّائِي - نسبة إلى جُبَّى، قرية من قرى البصرة - شيخ المعتزلة، وكان فقيهاً وزاهداً، تنسب إليه طائفة الجُبائية من تلاميذه: ابنه أبو هاشم. وله تفسير للقرآن، توفي عام 303هـ. انظر: طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار ص287، وفيات الأعيان 3/398.

(2/76)


وأبو هاشم (1) وأكثر المتقدمين (2) . لنا: أن نسخ الخبر يوجب عدم المطابقة (3) وهو مُحَالٌ (4) ،
فإذا تضمن الحُكْمَ جاز نسخه؛ لأنه مستعار له ونَسْخُ الحكم جائز كما لو (5) عبَّر عنه بالأمر.
الشرح
قال " الإمام فخر الدين ": إن كان الخبر خبراً عما لا يجوز تغييره، كالخبر عن حَدَث العالم، فلا يتطرق (6) إليه النسخ. وإن كان عما يجوز تغييره، وهو إما ماضٍ أو مستقبل، والمستقبل إما [وعدٌ أو وعيدٌ أو خبرٌ] (7) عن حكم: كالخبر عن وجوب
الحج، فيجوز النسخ في الكل، ومنع أبو علي وأبو هاشم وأكثر المتقدمين الكل (8) .
قال (9) : لنا أنَّ الخبر إذا كان عن أمرٍ ماضٍ نحو: ((عمّرتُ نوحاً ألْفَ سَنَةٍ)) جاز أن يُبَيِّن مِنْ (10) بَعْدُ أنه ((ألف سنة إلا خمسين عاماً)) . وإن كان خبراً عن مستقبل
- كان وعداً أو وعيداً - فهو كقوله ((لأعاقبن الزاني أبداً)) فيجوز أن يُبَيِّن أنه أراد
_________
(1) هو: أبو هاشم عبد السلام بن محمد بن عبد الوهاب الجُبَّائي، كان ذكياً، بصيراً، وإليه تنتسب طائفة البهشمية من المعتزلة، من تآليفه: كتاب في الاجتهاد، توفي سنة 321 هـ. انظر: طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار ص 304، وفيات الأعيان 2 / 335.
(2) بقي مذهب رابع، وهو التفرقة بين الماضي والمستقبل، فمنع النسخ في الماضي؛ لأنه يكون تكذيباً، وأجازه في المستقبل؛ لجريانه مجرى الأمر والنهي، لأن الكذب يختص بالماضي، أما المستقبل فيُسمى خلف الوعد. انظر: نفائس الأصول 6 / 2469، الإبهاج 2 / 243، البحر المحيط 5 / 245، إرشاد الفحول 2 / 89.
(3) أي عدم مطابقة الخبر للمُخْبَر عنه، انظر: رفع النقاب القسم 2 / 411.
(4) انظر: نفائس الأصول 6 / 2470..
(5) ساقطة في س.
(6) في ن: ((يَطَّرَّق)) .
(7) في ن: ((وعداً أو وعيداً أو خبراً)) ولست أعلم لها وجهاً، لأنها خبر للمبتدأ " المستقبل ". إلا أن نقدّر محذوفاً تقديره ((أن يكون..)) .
(8) انظر: المحصول 3 / 325.
(9) أي الفخر الرازي، انظر: المحصول له 3 / 326.
(10) ساقطة من ن.

(2/77)


ألف سنة. وإن كان عن (1) حكم الفعل في (2) المستقبل فإنَّ الخبر كالأمر في تناوله الأوقات المستقبلة فيجوز أن يراد بعضها (3) .
احتجوا بأن نسخ الخبر يُوْهِم (4) الخُلْف.
قال (5) : وجوابه أن نسخ الأمر أيضاً يُوْهِم البَدَاء (6) .
قلت: أسماء الأعداد (7) نصوص لا يجوز فيها المجاز (8)
وإرادة (9) المتكلم بالألف (10) ألفاً (11) إلا خمسين عاماً (12) مجاز فلا يجوز، وأما إطلاق الأبد على ألف سنة فهو
_________
(1) ساقطة من س.
(2) ساقطة من ن.
(3) قال المصنف في النفائس (6 / 2471) : ((وهذه المُثُل كلها غرور لا حجة فيها، بل الحق استحالة النسخ في الخبر المحض)) . وقد ردّ المصنف على هذه الأدلة التي ذكرها الرازي بالتفصيل. انظر: نفائس الأصول 6 / 2469 - 2472.
(4) في ق: ((يوجب)) والمثبت هو المراد.
(5) أي الفخر الرازي. انظر: المحصول له 3 / 327.
(6) البداء لغة: من بدا يبدو بُدُواً وبداءً وبداءةً بمعنى: ظهر ونشأ رَأيٌ بعد أن لم يكن. انظر: الصحاح للجوهري مادة " بدا ". واصطلاحاً: عرَّفه المصنف في النفائس (6 / 2471) بقوله: ((هو الظهور بعد الخفاء، لقوله تعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} [الزمر: 47] ، وقال:
{ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ} [يوسف: 35] ، وسيذكر المصنف معناه بعد قليل.
والبداء مما قالت به الشيعة. انظر: الأصول من الكافي لمحمد بن يعقوب الكليني، دار الكتب الإسلامية، طهران (1388 هـ) 1 / 146، بحار الأنوار لمحمد باقر المجلسي، دار الكتب الإسلامية، طهران (1387 هـ) 4 / 92 - 129. وانظر: شرح اللمع للشيرازي 1 / 485، التلخيص للجويني 2 / 462، 469. قال الفتوحي: ((والقول بتجدد علمه جلّ وعلا كفر بإجماع أئمة أهل السنة)) شرح الكوكب المنير 3 / 536.
(7) أسماء الأعداد اثنا عشر اسماً وهي: الواحد فما فوقه إلى التسعة، والعشرة، والمائة، والألف، وما عداها من أسامي العدد فمتشعِّبٌ منها. انظر: المفصل للزمخشري مع شرحه لابن يعيش 6 / 15.
(8) المجاز لغةً: مصدر ميمي من جاز المكان يجوزه إذا تعدَّاه. انظر: شروح التلخيص 4/20، واصطلاحاً: عرَّفه المصنف بقوله هو: اللفظ المستعمل في غير ما وضع له لعلاقة بينهما. شرح التنقيح (المطبوع)

ص 43.
(9) في س: ((وأراد)) وهي غير موفية بالمراد.
(10) في ن: ((بألفٍ)) .
(11) في س: ((ألف سنة)) .
(12) ساقطة من ن، ق.

(2/78)


تخصيص في الخبر وهو مجمع عليه، إنما النزاع في النسخ وأين أحدهما من الآخر؟ وقد تقدَّمت الفروق بينهما (1) .
وأما قولهم: يوهم الخُلْف، فذلك (2) مدفوع بالبراهين الدالة على استحالة الخُلْف على الله تعالى والبَدَاء عليه، والبداء هو أحد الطرق التي استدلت به اليهود على استحالة النسخ (3) ، ومعناه: أمر بشيءٍ ثم بدا له أن المصلحة في خلافه، وذلك إنما يتأتى في حق من تخفى عليه الخفيات، والله تعالى منزَّهٌ عن ذلك (4) .
وجوابهم: أن الله تعالى عالم بأن الفعل الفلاني مصلحةٌ في وقتِ كذا مفسدةٌ في وقت كذا، وأنه ينسخه إذا وصل إلى وقت المفسدة، فالكل معلوم في الأزَل (5) ، وما تَجَدَّدَ العلمُ بشيءٍ، [فما لزم من النسخ البداء، فيجوز] (6) .
حكم نسخ الحكم المقيّد بالتأبيد
ص: ويجوز [نسخ ما] (7) قال فيه: افعلوه (8) أبداً (9) خلافاً
_________
(1) انظرها شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 230، وانظر: قواطع الأدلة 3 / 182، الإحكام للآمدي 3 / 113، مناهل العرفان للزرقاني 2 / 145.
(2) في س: ((ذلك)) والصواب المثبت كما في: ن، ق؛ لوجوب اقتران جواب " أمَّا " الشرطية بالفاء.
انظر: مغني اللبيب لابن هشام 1 / 120، وانظر: القسم الدراسي ص 173.
(3) مع أنَّه قد ورد في التوراة المحرَّفة نصوص تتضمن نسبة البداء إلى الله، تعالى عما يقولون. جاء في سفر التكوين، الإصحاح: 6 الفقرات: 5 - 7 ((ورأى الربُّ أن شر الإنسان قد كثر في الأرض، وأن كلَّ تصوِّر فكرِ قلبِهِ يتَّسم بالإثم، فملأ قلبَه الأسفُ والحزن لأنه خلق الإنسان. وقال الرب: أمحو الإنسان الذي خلقته عن وجه الأرض مع سائر الناس والحيوانات والزواحف وطيور السماء، لأني حزِنْتُ أني خلقته)) .
(4) انظر: البحر المحيط للزركشي 5 / 206، ففيه شرح موسّع للبداء.
(5) الأزَل: القِدم، ومنه قولهم: هذا شيء أزَليٌّ، أي قديم، وأصل الكلمة قولهم للقديم: لم يَزَلْ، ثم نسِب إلى هذا، فلم يستقمْ إلا بالاختصار، فقالوا: يَزَلِيٌّ، ثم أبدلت الياء ألفاً، لأنها أخف، فقالوا: أزَلِيٌّ، كما قالوا في الرُّمْح المنسوب إلى ذِيْ يَزَن: أزَنِيٌّ. انظر: لسان العرب مادة " أزل ".
(6) ما بين المعقوفين في ق هكذا: ((فلم يلزم البداء من النسخ فجاز)) .
(7) في ق: ((النسخ فيما)) .
(8) في متن هـ، ق: ((افعلوا)) .
(9) الجواز هو مذهب الجمهور وبعض الحنفية. انظر: المعتمد 1 / 382، قواطع الأدلة 3 / 83، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 348، نهاية الوصول للهندي 6 / 2304، كشف الأسرار للبخاري 3 / 316، التوضيح شرح التنقيح لحلولو ص 263، وقد حكى الآمدي في الإحكام (3 / 134) اتفاق الجمهور على ذلك.

(2/79)


لقومٍ (1) ؛
لأن صيغة " أبداً " بمنزلة العموم في الأزمان (2) ، والعموم قابل للتخصيص والنسخ (3) .
الشرح
احتجوا بأن (4) صيغة " أبداً " لو جاز أن لا يراد بها الدوام لم يبق لنا طريق إلى
_________
(1) وفرّق ابن الحاجب بين قيد التأبيد في الفعل نحو: صوموا أبداً، وقيد التأبيد في الحكم (الخبر) نحو: الصوم واجب عليكم أبداً أو واجب مستمر، فأجاز النسخ في الأول، ومنعه في الثاني. انظر: منتهى السول والأمل ص 157، نشر البنود 1 / 290. وتبع الإسنويُّ وابنُ الهمام ابنَ الحاجب في التفريق. انظر: زوائد الأصول للإسنوي ص 309، التقرير والتحبير 3 / 71، وصرّح ابن السبكي والفتوحي بأن لا فرق بين العبارتين. انظر: جمع الجوامع بشرح المحلِّي وحاشية البناني 2 / 86، شرح الكوكب المنير 3 / 540.
(
) وهم بعض المتكلمين وعامة الحنفية منهم: الماتريدي، الجصاص، الدبوسي، البزدوي، السرخسي، ووجه عند الشافعية. انظر: التبصرة للشيرازي ص 255، أصول السرخسي 2 / 60، كشف الأسرار للبخاري 3 / 316، البحر المحيط للزركشي 5 / 217، فتح الغفار بشرح المنار لابن نجيم 2 / 131.
* هل للخلاف ثمرة؟ قيل: إن هذا الخلاف لا طائل تحته، لأنه لم يرد في الشرع نسخ عبادة مقيدة
بالتأبيد، وقال بعضهم: ثمرته تظهر في قلع شبهات اليهود لعنهم الله في ادعائهم تأبيد أحكامهم التوراتية. انظر: فواتح الرحموت 2 / 184.
(2) الأبد: الدهر والدائم، والتأبيد: التخليد. انظر: لسان العرب مادة " أبد ".
والأصل في " الأبد " التعميم في الأزمان، ولكن يمكن إطلاق " الأبد " على فترة محدودة وتريد بها غير التعميم في جميع الأبد، ويكون هذا من باب المبالغة مجازاً. انظر: شرح التسهيل لابن مالك 2 / 205، همع الهوامع للسيوطي 2 / 109.
قال الكفوي: ((أبداً (منكراً) يكون للتأكيد في الزمان الآتي نفياً وإثباتاً، لا لدوامه واستمراره، يقال: لا أفعله أبداً)) . الكليات له ص (32) . وذكر ابن العربي: أن لفظة " الأبد " تحتمل لحظة واحدة، وتحتمل جميع الأبد، وفرّع عليه: أن الرجل لو قال لامرأته: ((أنت طالق أبداً)) ، وقال: نويت يوماً أو شهراً كانت له عليها الرجعة. انظر: أحكام القرآن له 3 / 116.
(3) معنى هذا الدليل: أن لفظ التأبيد في تناوله لجميع الأزمان كلفظ العموم في تناوله لجميع الأعيان الداخلة تحته، ومعلوم أنه يجوز تخصيص العام فيُقْتصر على بعض أفراده بدليلٍ هو المخصِّص له، فيجوز كذلك قصر المؤبَّد على بعض الأزمان بدليلٍ هو الناسخ له. فلفظ " الأبد " ظاهرٌ في عموم الأزمنة لا نصٌّ فيها، وإرادة غير الظاهر بدليلٍ يدلُّ عليه أمرٌ لا غبار عليه. انظر بقية الأدلة في: المعتمد 1 / 371 وما بعدها، شرح اللمع للشيرازي 1 / 491، المحصول للرازي 3 / 328، الإحكام للآمدي 3 / 134، النسخ في دراسات الأصوليين د. نادية العمري ص 217 - 240.
(4) هنا زيادة: ((من)) في س وهي مقحمةٌ خطأً.

(2/80)


الجزم بخلود أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار؛ [لأن ذلك كُلَّه] (1) مستفادٌ من قوله تعالى: {خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا} (2) .
والجواب: [أن الجزم إنما حصل في الخلود ليس بمجرد لفظ " أبداً " بل
بتكرُّره] (3) تَكَرُّراً (4) أفاد القطع بسياقاته (5) وقرائنه (6) على ذلك (7) ، أما مجرد لفظة واحدة من " أبداً " (8)
فلا (9) توجب الجزم، والكلام في هذه المسألة إنما هو في مثل هذا (10) .
_________
(1) في ق: ((لأنه)) .
(2) هذه جزء من آيتين وردتا في خلود أهل الجنة وخلود أهل النار. أما خلود أهل الجنة - نسأل الله من
فضله - فقوله تعالى: {وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً} [النساء: 122] . وأما خلود أهل النار - نسأل الله السلامة - فقوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَظَلَمُواْ لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا} [النساء: 168 - 169] .
(3) في ن: ((بسياقته)) وهو تحريف.
(4) في ق، ن: ((تكراراً)) .
(5) ما بين المعقوفين جاء في ق هكذا: ((أن الخلود إنما حصل بتكرر لفظ الأبد)) .
(6) ساقطة في س، وفي ن: ((وقرائنة دالةٍ)) .
(7) تكرر لفظ ((أبداً)) في خلود أهل الجنة وأهل النار ما يربو على عشر مرات. انظر: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم لمحمد فؤاد عبد الباقي لفظة " أبداً ".
(8) في س: ((أبد)) .

ساقطة في س.
(9) في س، ن: ((لا)) بدون الفاء، والمثبت من ق هو الصواب لوجوب اقتران " أما " الشرطية بالفاء. انظر: مغني اللبيب لابن هشام 1 / 120.
(10) انظر: رفع النقاب القسم 2 / 412.

(2/81)


الفصل الثالث
في الناسخ والمنسوخ
ص: يجوز عندنا نسخُ الكتاب بالكتاب وعند الأكثرين (1) .
الشرح
حجتنا: ما تقدَّم (2) في الرد على أبي مسلم الأصفهاني (3) .
احتجوا بقوله تعالى: {لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ} (4) . وقد تقدَّم جوابه (5) .
ص: والسنة المتواترة بمثلها (6) .
الشرح
السنة المتواترة بمثلها هو (7) كالكتاب (8) بالكتاب لحصول المساواة والتواتر في البابين (9) : الناسخ والمنسوخ.
_________
(1) سبق بحث هذه المسألة في الفصل الثاني عند قول المصنف: ((ويجوز عندنا وعند الكافة نسخ القرآن، خلافاً لأبي مسلم الأصفهاني ... إلخ)) وقد ذكرتُ في هامش (2) في تلك الصفحة (61) بأن المصنف تبع الفخر الرازي في محصوله (3 / 307) عندما بحثها هناك، بينما موقعها المناسب هنا. ثم إن المصنف تبع الرازي هنا أيضاً في قوله: ((الأكثرين)) ، علماً بأن العلماء القائلين بجواز النسخ معظمهم حكى الإجماع والاتفاق على جواز النسخ في الصور الثلاث: الكتاب بمثله، والتواتر بمثله، والآحاد بمثله. انظر: الإحكام لابن حزم 1 / 518، الإشارة للباجي ص 267، إحكام الفصول ص 417، أصول السرخسي 2 / 67، الإحكام للآمدي 3 / 146، شرح مختصر الروضة للطوفي 2 / 315، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 67، رفع النقاب القسم 2 / 413، إرشاد الفحول 2 / 96، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص 148.
(2) انظر ص (61 - 63) .
(3) في س، ن: ((الأصبهاني)) وهذه النسبة صحيحة أيضاً، لأن " الباء " الفارسية تارةً تُعرَّبُ باءً خالصةً، وتارةً فاءً. انظر: المعرَّب من الكلام الأعجمي للجواليقي ص (55) ، القاموس المحيط مادة " أصص ".
(4) فصلت، من الآية 42.
(5) انظر: ص (63) .
(6) قال الفتوحي: ((وأما مثال نسخ متواتر السنة بمتواتِرها، فلا يكاد يوجد، لأن كلها آحاد ... )) شرح الكوكب المنير 3 / 560.
(7) ساقطة من ق.
(8) سقطت كاف التشبيه من نسخة ن.
(9) هنا زيادة ((بين)) في ق، وهي مقحمة.

(2/82)


ص: والآحاد بمثلها (1) .
الشرح
[لأنَّا نشترط] (2) في الناسخ أن يكون مساوياً للمنسوخ أو أقوى (3) ، والآحاد مساويةٌ للآحاد فيجوز.
ص: وبالكتاب والسنة (4) المتواترة إجماعاً (5) .
الشرح
سبب (6) أن الكتاب والسنة المتواترة ينسخان خبر الواحد، أنَّهما (7) أقوى منه، والأقوى أولى بالنسخ.
_________
(1) مثال: حديث بريدة رضي الله عنه قال قال رسول صلى الله عليه وسلم: ((نهيتكم عن زياة القبور فزوروها)) رواه سلم (977) . وانظر: منتهى السول والأمل ص 160، وشرح الكوكب المنير 3 / 561.
(2) في ن، ق: ((يشترط)) .
(3) هذا الاشتراط قال به كثيرٌ من الأصوليين، وذكر المصنف في كتابه نفائس الأصول (6 / 2481) بأن هذه قاعدة الباب على الجادّة. وانظر: البرهان للجويني 2 / 854، نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 79، التوضيح لحلولو ص 264.
لكن هناك من العلماء من لم يسلّم بهذا الاشتراط، منهم: ابن حزم والشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمهما الله، ومن حججهم: أن المتواتر والآحاد كلاهما وحيٌ من الله تعالى، فجاز أن ينسخ أحدهما الآخر، وأن المتواتر في وقته قطعي، ولكن استمرار حكمه إلى الأبد ليس بقطعي، فنسخه بالآحاد إنما نفي استمرار حكمه، وقد عَرفْتَ أنه ليس بقطعي. ثم إن النسخ إنما يرد على الحكم الشرعي بغض النظر عن طريق ثبوته. انظر: الإحكام لابن حزم 1 / 518، إرشاد الفحول 20 / 98، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص 153، أضواء البيان للشنقيطي 3 / 366، 6 / 63.
(4) في ن: ((بالسنة)) .
(5) صنيع حلولو في شرحه: التوضيح شرح التنقيح ص (264) يدل على أن قول المصنف ((إجماعاً)) يرجع إلى نسخ الآحاد بالكتاب، ونسخ الآحاد بالسنة المتواترة. أما الشوشاوي في شرحه: رفع النقاب عن تنقيح الشهاب القسم (2 / 415) فقال: ((قوله " إجماعاً " راجع إلى الثلاث مسائل الآحاد)) . أي: نسخ الآحاد بالآحاد، والآحاد بالكتاب، والآحاد بالمتواتر، أما المسألة الأولى والثالثة فالإجماع فيهما مسلّم، وأما مسألة نسخ الآحاد بالكتاب فهي مسألة نسخ السنة بالكتاب التي قررَّ فيها المصنف بنفسه - كما في ص (87) - خلاف الشافعي وبعض أصحابه، فهي ليست محلَّ إجماع. ولهذا قال حلولو: ((أما نسخ السنة بالقرآن، فالصحيح جوازه، ومقابله مروي عن الشافعي ونسبه الرافعي لاختيار أكثر أصحابهم ... )) التوضيح ص 264.
(6) في ق، ن: ((بسبب)) والمثبت هو الصواب، لاستقامة السياق بها.
(7) في ق، ن: ((لأنهما)) .

(2/83)


حكم نسخ الكتاب بالآحاد
ص: وأما جواز نسخ الكتاب بالآحاد فجائز عقلاً غير واقع سَمْعاً (1) ، خلافاً لبعض أهل الظاهر (2)
والباجي (3) منا مستدلاً بتحويل القبلة عن بيت (4) المَقْدِس إلى
مكة (5) .
_________
(1) هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال:
الأول: الجواز مطلقاً.
الثاني: الجواز عقلاً والمنع سمعاً.
الثالث: المنع مطلقاً. انظر: إحكام الفصول ص 426، شرح اللمع للشيرازي 1 / 501، الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 4 / 258، الوصول لابن برهان 2 / 48، ميزان الوصول للسمرقندي 2 / 1005، رفع النقاب القسم 2 / 416، نشر البنود 1 / 285، حاشية التوضيح والتصحيح لابن عاشور 2 / 81.
(2) انظر: الإحكام لابن حزم 1 / 505.

وممن وافق الظاهرية في جواز نسخ الكتاب بالآحاد الحنفية، انظر: التلويح إلى كشف حقائق التنقيح للتفتازاني 2 / 79، التقرير والتحبير 3 / 85، والطوفي في: شرح مختصر الروضة 2 / 325، والشوكاني في: إرشاد الفحول 2 / 98، والشيخ محمد الأمين الشنقيطي في: مذكرته في أصول الفقه
ص 152، وهو رواية عن الإمام أحمد، انظر: المسودة ص 106، أصول الفقه لابن مفلح 3/1144.
(3) مذهب الباجي ومن معه يوافق الظاهرية ومن معهم في الجواز عقلاً وسمعاً، لكن الباجي يفصّل فيقول بوقوع نسخ المتواتر بالآحاد في زمن النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: إحكام الفصول ص 426، والإشارة للباجي
ص 270 - 272. وممن ذهب إلى هذا التفصيل: الباقلاني كما في: البحر المحيط للزركشي 5/ 261، والسرخسي في أصوله 2 / 77 - 78، وابن رشد في: الضروري في أصول الفقه ص 86، والقرطبي في: الجامع لأحكام القرآن 2 / 151.
(4) ساقطة من س.
(5) يدل عليه حديث ابن عمر رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آتٍ فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآنٌ، وقد أُمِر أن يستقبل الكعبة، فاسْتقبلُوها. وكانت وُجوهُهم إلى الشام، فاستداروا إلى الكعبة)) رواه البخاري (403) ، ومسلم (526) .
الاستدلال بهذا الدليل على نسخ الكتاب بالآحاد غير متجه، لأن من العلماء من قال بأن استقبال بيت المقدس لم يثبت بالقرآن وإنما ثبت بالسنة، لأنه تواتر فعله صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. فالاستدلال به يتم على نسخ المتواتر بالآحاد. انظر هامش (2) ص (88) .
ولهذا كانت عبارة الباجي في الاستدلال هكذا: ((وقد كانوا يعلمون استقبال بيت المقدس من دين النبي صلى الله عليه وسلم ضرورةً)) إحكام الفصول ص 426، الإشارة له ص 271، إلاَّ أن يقال بأن استقبال بيت المقدس ثابت بالقرآن الكريم في قوله تعالى: س أَقِيمُوا الصَّلاةَ ش [الأنعام: 72] ، فإنه مجمل بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم بفعله، والبيان يُعدّ كأنه منطوق به في ذلك المبيّن. انظر: رفع النقاب القسم 2 / 417.

(2/84)


لنا: أن الكتاب متواتر قَطْعِيٌ (1) فلا يُرْفع بالآحاد المظنونة؛ لتقدُّمِ العلم على
الظنِّ (2) .
الشرح
[واستدلوا أيضاً بقوله تعالى] (3) : {قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ} (4) الآية نُسِختْ بنهيه عليه الصلاة والسلام عن أكْل كُلِّ ذي نابٍ من السِّبَاع* (5) وهو خبر واحد (6) .
وبقوله تعالى*: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} (7) نُسِخ ذلك بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تنْكَح المرأةُ على عَمَّتِها ولا على خَالَتِها)) (8) الحديث.
_________
(1) هنا زيادة ((قطع)) في س، ولا حاجة لها.
(2) انظر هذا الدليل في: البرهان للجويني 2 / 854، نواسخ القرآن لابن الجوزي من 101، التقرير والتحبير 3 / 82، وانظر مناقشة هذا الدليل في: إحكام الفصول ص 426، المستصفى 1 / 240، الوصول لابن برهان 2 / 48، منهج التحقيق والتوضيح في حلّ غوامض التنقيح للشيخ محمد جعيط 2 / 112.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(4) الآية 145 من الأنعام وتمامها: { ... إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} .
(5) ورد النهي من حديث أبي ثَعْلبة الخُشَنِي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن أكل كل ذي نابٍ من السباع. رواه البخاري (5530) ، ومسلم (1932) . ومن العلماء من عدَّه من الأحاديث المتواترة. انظر: نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني ص 161.
(6) يرى ابن العربي وابن الجوزي ومكي بن أبي طالب أن الآية مُحْكَمة وليست منسوخة بل السنة خصَّصتْ عمومها انظر: الناسخ والمنسوخ لابن العربي 2 / 218، نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 236، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي القيسي ص 249.
(7) الآية 24 من النساء، وقد سبقتها الآية 23 التي فيها المحرَّمات من النساء.
(8) الحديث من رواية أبي هريرة رضي الله عنه، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا تُنْكَح المرأةُ على عمّتِها ولا على خالتها)) رواه مسلم برقم (1408) والرقم الخاص (37) ، ورواه البخاري بنحوه برقم (5109) .
لكن يرى ابن الجوزي وابن العربي ومكي بن أبي طالب أن الآية مُحْكَمة وليست منسوخة، وإنما السنة جاءت بالتخصيص. انظر: نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 269، الناسخ والمنسوخ لابن العربي
2 / 162 - 167، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي ص 184.

(2/85)


ولأنه دليل شرعي فَيَنْسَخ كسائر الأدلة.
ولأنه يخصِّص الكتاب فينسخه؛ لأن النسخ تخصيص في الأزمان (1) .
والجواب عن الأول: أن الآية إنما اقتضت التحريم إلى تلك الغاية فلا ينافيها ورود (2) تحريم بعدها، وإذا لم ينافِها (3) لا يكون نسخاً (4) ، لأن من شرط النسخ التنافي (5) .
وعن الثاني: أن العام في الأشخاص مطلق في الأحوال*، فيُحمل العام على حالة عدم القرابة المذكورة (6) . سلمناه لكنه تخصيص، ونحن نسلمه إنما النزاع في النسخ.
وعن الثالث: الفرق، أن تلك الأدلة المتفق عليها مساوية أو أقوى (7) ، وهذا رجوع (8) ، فلا يلحق بها.
وعن الرابع: أن النسخ إبطال لما اتصف بأنه مراد، فيحتاط فيه أكثر من التخصيص؛ لأنه بيانٌ للمراد فقط.
وأما تحويل القبلة فقالوا احتفَّتْ به قرائن وجدها أهل قُبَاء (9) لما أخبرهم المُخْبر من
_________
(1) انظر: المعتمد 1 / 390، التبصرة للشيرازي ص 270، المحصول للرازي 3 / 333.
(2) في ن: ((وجود)) .
(3) في ن: ((ينافيها)) وهو خطأ نحوي على المشهور لعدم حذف حرف العلة من الفعل المجزوم بـ" لم ".
انظر: هامش (3) ص (26) ، وفي ق: ((ينافه)) وهي صحيحة، فيكون مرجع الضمير الغائب:
((ورود تحريم)) ومرجع الضمير الظاهر: ((التحريم)) الذي في الآية.
(4) في س: ((ناسخاً)) .
(5) معنى هذا الجواب: أن الآية تفيد حصر المحرمات في الماضي إلى وقت نزولها، وليس فيها منافاةٌ لتحريم شيءٍ جديدٍ في المستقبل. انظر: نفائس الأصول 6 / 2497، الكاشف عن المحصول للأصفهاني
5 / 274، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 195.
(6) كأنه يقول: وأحل لكم ما بقي من النساء في حالةٍ ما. انظر: رفع النقاب القسم 2 / 419.
(7) في ز: ((قوى)) وهو تحريف.
(8) في س: ((مرجوع)) وهو تحريف.
(9) قُبَاء: بضمٍّ وفتح، اسم بئر عُرفتْ بها، وهي مساكن بني عمرو بن عوف من الأنصار، وهي قرية على ميلين من المدينة، وجاءت في فضائل مسجدها أحاديث. انظر: معجم البلدان 4 / 342، أما الآن فهو حي من أحياء المدينة.

(2/86)


ضجيج أهل المدينة (1) ، وغير ذلك (2) حصل لهم العلم، فلذلك قبلوا تلك الرواية (3) . سلمنا عدم القرائن لكن ذلك فِعْل بعض الأمة، فليس حجة، ولعله مذهب لهم فإنه مسألة خلاف.
حكم نسخ السنة بالكتاب
ص: ويجوز نسخ السنة بالكتاب عندنا (4) خلافاً للشافعي رضي الله عنه وبعض أصحابه (5) .
لنا: نَسْخُ القبلة بقوله تعالى: {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ} (6)
_________
(1) انظر: المحصول للرازي 3 / 339، الكاشف عن المحصول للأصفهاني 5 / 275.
(2) من كون الراوي صحابياً عظيماً يخشى افتضاح كذبه، وأن الصحابة كانوا يتوقعون تغير القبلة، بدليل تشوفه صلى الله عليه وسلم إلى تغييرها، قال تعالى: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء ... } [البقرة: 144] . انظر: نيل الأوطار للشوكاني 2 / 168.
(3) لكن المصنف في نفائس الأصول (6 / 2481) قال: ((والأصل عدم ذلك (أي عدم القرائن) ، والمروي أن المخبر أخبرهم في الصلاة فتحولوا فيها إلى القبلة)) . وذكر الغزالي بأن القول بالقرائن يؤدي إلى إبطال أخبار الآحاد. انظر: المستصفى 1 / 241، وانظر: إحكام الفصول ص 426.
(4) هذا مذهب جماهير العلماء. قال مكي بن أبي طالب القيسي: ((وعلى جوازه عامة الفقهاء، وهذا مذهب مالك وجماعة من أهل المدينة وأكثر أهل العلم)) الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه ص 67.
انظر: المعتمد 1 / 391، إحكام الفصول ص 424، التلخيص للجويني 2 / 521، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 384، منتهى السول والأمل ص 160، تيسير التحرير 3 / 202.
(5) في س: ((أصحابنا)) وهو خطأ واضح؛ لأنه لم ينقل عن أحدٍ من المالكية موافقةً للشافعي في هذه المسألة، بل المنقول فيها عن بعض أصحاب الشافعي. انظر: الإبهاج 2 / 248، البحر المحيط للزركشي
5 / 262. وأومأ إليه الإمام أحمد، انظر: العدة لأبي يعلى 3 / 80.
أما مذهب الشافعي في مسألة نسخ السنة بالكتاب فقد حُكِى فيه قولان، الجواز وعدمه، وعبارة الشافعي في الرسالة تفيد امتناع نسخ السنة بالقرآن. قال رحمه الله: ((فإن قال قائل: هل تُنسخ السنة بالقرآن؟ قيل: لو نُسِخت السنة بالقرآن كانت للنبي صلى الله عليه وسلم فيه سنةٌ تبين أن سنته الأولى منسوخة بسنته الآخرة، حتىتقوم الحجة على الناس، بأن الشيء يُنْسخ بمثله)) الرسالة ص 110، وقال: ((وهكذا سنة رسول الله لا ينسخها إلا سنة رسول الله)) الرسالة ص 108.
وهناك من العلماء من عدَّ هذه هفوةً للشافعي رحمه الله وهناك من أوّل كلامه، انظر بحث ذلك في: قواطع الأدلة 3 / 176، جمع الجوامع بشرح المحلِّي وحاشية العطار 2 / 112، البحر المحيط للزركشي

5 / 260 - 279، الآيات البينات للعبادي 3 / 188 - 195.
(6) البقرة، من الآية: 144. وجاء في حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صلّى نحو بيت المقدس ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله يحب أن يُوجّه إلى الكعبة، فأنزل الله
{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء} [البقرة: 144] فتوجَّه نحو الكعبة. رواه البخاري (399) واللفظ له، ومسلم (525) .

(2/87)


ولم يكن التوجه لبيت (1) المَقْدِس ثابتاً بالكتاب (2) عملاً بالاستقراء (3) .
الشرح
في كون التوجه لبيت المقدس ليس من القرآن، فيه نظر، من جهة أن القاعدة أن كل بيان لمُجْملٍ يُعدُّ مراداً [من ذلك] (4) المجمل وكائناً فيه (5) . والله تعالى قال: {وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ} (6) ولم يبين صفتها، فبينها عليه الصلاة والسلام بفعله لبيت (7) المقدس [فكان ذلك مراداً بالآية، كما أنَّا نقول في قوله عليه الصلاة والسلام: ((فيما سَقَت السماءُ العُشْر)) (8) بيان لقوله تعالى: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} (9) وهو مراد منها،
_________
(1) ساقطة من س.
(2) اختلف العلماء في قبلة بيت المقدس المنسوخة، هل كانت ثابتة بالكتاب أو بالسنة؟
أ - أكثر العلماء على أن التوجه لبيت المقدس ليس في القرآن ذكره. قال القاضي عياض: ((الذي ذهب إليه أكثر العلماء أنه كان بسنةٍ لا بقرآن)) انظر: شرح صحيح مسلم للنووي 5 / 9، وانظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 151، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص 149.
ب - رُوي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه كان عن أمر الله، لقوله تعالى: {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا ... }
[البقرة: 143] ، قال ابن العربي: ((فإن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس بأمرٍ منه، لأن هذا مما لا يدرك بالاجتهاد ... )) الناسخ والمنسوخ له 2 / 46.
ثمرة الخلاف: إن كان التوجه بأمر الله فهو نسخ قرآن بقرآن، وإن كان باجتهاده وفعله صلى الله عليه وسلم فهو نسخ سنة بقرآن. انظر: الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار للحازمي ص 191، نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 146، الإيضاح لناسخ القرآن ومنسوخه لمكي القيسي ص 109 - 112.
(3) الاستقراء في اللغة: من القَرْو، واسْتَقْرَيْتَ البلادَ: تَتَبَّعْتَها، تخرج من أرضٍ إلى أرضٍ. انظر لسان

العرب مادة " قرأ ". واصطلاحاً: هو تتبُّع الجزئيات كلِّها أو بعضها للوصول إلى حكمٍ عامٍ يشملها
جميعاً. انظر: الكليات للكفوي ص 105، حاشية العطار على شرح الخبيصي ص 249، وانظر تعريف المصنف له: ص 502.
(4) في ص: ((بذلك)) ، وفي س: ((لذلك)) .
(5) سبق أن ذكر هذه القاعدة المصنف.
(6) البقرة، من الآية: 43.
(7) في ز: ((إلى البيت)) .
(8) رواه البخاري (1483) من حديث ابن عمر رضي الله عنهما ولفظه: ((فيما سقت السماء والعيون أو كان عَثَريّاً العُشْر، وما سُقي بالنَّضْج نصف العشر)) .
(9) البقرة، من الآية: 43.

(2/88)


وكذلك هاهنا، وهو القاعدة: أن كل بيان لمجملٍ يُعدُّ مراداً من ذلك المجمل، فكان التوجه لبيت المَقْدِس] (1) بالقرآن بهذه الطريقة (2) .
حجة الشافعي (3) رضي الله عنه قوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (4) فجعله عليه الصلاة والسلام مبيِّناً بالسنة للكتاب المنزل، فلا يكون الكتاب ناسخاً للسنة، لأن الناسخ مبيِّن للمنسوخ، فيكون كل واحد منهما مبيِّناً لصاحبه فيلزم الدَّوْر (5) .
والجواب عنه: أن الكتاب والسنة ليس كل واحد منهما محتاجاً للبيان، ولا وقع فيه النسخ، فأمكن أن يكون بعض الكتاب بياناً لبعض السنة، والبعض الآخر الذي لم يبينه الكتاب [بياناً للكتاب] فلا دور، لأنه لم يوجد شيئان (6) كل واحد منهما متوقف على الآخر، بل الذي يتوقف عليه من السنة غير متوقف، [والبعض المتوقف عليه من الكتاب غير متوقف (7) . سلمناه، لكنه معارَض بقوله تعالى في حق الكتاب العزيز: {تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ} (8) ، والسنة شيء، فيكون الكتاب تبياناً لها، فينسخها وهو المطلوب (9) .
_________
(1) ما بين المعقوفين ساقط في س، من قوله [فكان ذلك مراداً بالآية ... - إلى قوله - ... لبيت المقدس] .
(2) انظر: نفائس الأصول 6 / 2486، نهاية السول 2 / 581، رفع النقاب القسم 2 / 417، منهج التحقيق والتوضيح للشيخ محمد جعيط 2 / 113 وقد جوّد هذا الكلام الطوفي في: شرح مختصر الروضة
(2 / 318) لكن الاصفهاني دفع هذا بأن كلام الرازي في محصوله (3 / 340) أن قبلة بيت المقدس لم تثبت بالكتاب نصاً ومنطوقاً، والذي ذكره القرافي هنا أنه كالمنطوق به، وفرق بين المنطوق به والمشبه بالمنطوق به. انظر: الكاشف عن المحصول 5 / 284.
(3) انظر معنى هذه الحجة في الرسالة للشافعي ص 111 - 113، وانظر: المحصول للرازي 3 / 342، نهاية السول 2 / 584.
(4) النحل، من الآية: 44.
(5) الدَّور لغة: مصدر، يدور، ومنه قولهم: دارت المسألة أي كلما تعلّقتْ بمحلٍّ توقفّ ثبوت الحكم على
غيره، فينتقل إليه، ثم يتوقّف على الأول وهكذا. المصباح المنير ص 202. واصطلاحاً: هو توقف كل واحدٍ من الشيئين على الآخر. الكليات للكفوي ص 447، وانظر التعريفات للجرجاني ص 140.
(6) في س: ((بيان)) .
(7) انظر هذا الجواب في: شرح مختصر الروضة للطوفي 2 / 317، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب
2 / 197.
(8) النحل، من الآية 89 قال تعالى: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ} .
(9) انظر: أصول السرخسي 2 / 76. وهناك جواب آخر ذكره الرازي في محصوله (3 / 343) فانظره.

(2/89)


حكم نسخ الكتاب بالسنة المتواترة
ص: ويجوز نسخ الكتاب بالسنة المتواترة لمساواتها له في الطريق العلمي عند أكثر أصحابنا (1) ، وواقع كنسخ الوصية للوارث (2) بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا وصية لوارث)) (3) (4) .
ونسخ آية (5) الحبس (6) في البيوت
_________
(1) في المسألة ثلاثة أقوال، الأول: الجواز عقلاً والوقوع سمعاً، وهو مذهب أكثر الفقهاء والمتكلمين والحنفية والمالكية وبعض الشافعية ورواية عن أحمد وبعض الحنابلة. الثاني: عدم الجواز سمعاً، وهو قول الشافعي وأكثر أصحابه ورواية عن الإمام أحمد، وقول ابن بكير من المالكية. الثالث: يجوز سمعاً لكنه لم يقع، وهو قول ابن سُرَيج من الشافعية، وقواه أبو الخطاب من الحنابلة. انظر: الرسالة للشافعي ص 106، المقدمة في الأصول لابن القصار ص 141، المعتمد 1 / 392، الإحكام لابن حزم 1 / 518، إحكام الفصول ص 417، التبصرة ص 264، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 379، المسودة ص 202، كشف الأسرار للبخاري 3 / 335.
(2) آية الوصية المنسوخة هي قوله تعالى: {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِن تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالأقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} [البقرة: 180] .
(3) الحديث روي عن جماعة كثيرة من الصحابة رضي الله عنهم بألفاظ متقاربة، وأوردها كلها الشيخ الألباني مع تخريجاتها، ثم قال: ((وخلاصة القول: أن الحديث صحيح لاشك فيه بل هو متواتر..)) إرواء الغليل 6 / 87 - 96، وانظر: نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني ص (179) . والحديث أخرجه أبو داود (2870، 3465) ، والترمذي (2121) ، وابن ماجة (2713) وغيرهم. وانظر تحفة الطالب لابن كثير ص 3342، نصب الراية للزيلعي 4 / 403.
(4) اختلف العلماء القائلون بنسخ آية الوصية - في تعيين الناسخ لها على أقوال منها:

أ - أنها منسوخة بآية المواريث: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ..}
[النساء: 11] ، وبه قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وغيرهم، وهو رواية عن مالك.
ب - أنها منسوخة بحديث: ((لا وصية لوارث)) وهو الرواية الأخرى عن مالك، وبه قال القرطبي.
جـ - أنها منسوخة بالحديث مع ضميمة الآية وبه قال الشافعي وابن جزي من المالكية. انظر: الرسالة للشافعي 137 - 139، الإحكام لابن حزم 1 / 524، الناسخ والمنسوخ للنحاس 1 / 480، الناسخ والمنسوخ لابن العربي 2 / 18، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2 / 263، التسهيل في علوم التنزيل
4 / 105، التوضيح لحلولو ص 267.
(5) ساقطة من متن هـ.
(6) وهي قوله تعالى: {وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِن نِّسَآئِكُمْ فَاسْتَشْهِدُواْ عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّىَ يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً} [النساء: 15] .

(2/90)


بالرجم (1) . وقال الشافعي رضي الله عنه: لم يقع، لأن آية الحبس في البيوت نُسِختْ بالجلد (2) .
الشرح
واحتجوا أيضاً [على الوقوع] (3) بقوله عليه الصلاة والسلام: ((لا وصية
لوارث)) (4) . نَسَخت الوصيةَ للأقربين الذين في الكتاب، وبقوله عليه الصلاة والسلام:
((
لا تُنْكَح المرأة على عَمَّتِها)) (5) الحديث ناسخ لقوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} (6) .
وأما قول الشافعي رضي الله عنه إن آية الحبس نُسختْ بالجلد، فذلك يتوقف على تاريخٍ لم يتحقَّقْ، ومن أين لنا أن آية الجلد نزلت بعد آية الحبس؟! بل ظاهر السنة يقتضي خلاف ما قاله، لأنه عليه الصلاة والسلام قال: ((خذوا عني قد جعل الله لهنَّ سبيلاً:
_________
(1) سبق تقرير الخلاف في القول بالنسخ في آية الحبس. واختلف القائلون بالنسخ في الناسخ لها على أقوال منها:
أ - أنها منسوخة بآية الجلد في قوله تعالى: {الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ ... } .
[النور: 2] وقد حكى ابن عطية الإجماع على ذلك.
ب - أنها منسوخة بآية الجلد وبحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه: ((خذوا عني قد جعل الله لهن
سبيلاً، الثيب بالثيب جلد مائة والرجم ... )) الحديث رواه مسلم (1690) .
جـ - أنها منسوخة بحديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه السابق، وحديث رجمه صلى الله عليه وسلم لماعزٍ رواه البخاري (6824) وغيره. انظر: الرسالة للشافعي 128 - 132، 248، أحكام القرآن للجصاص 2 / 135، نواسخ القرآن لابن الجوزي ص 262، المحرر الوجيز لابن عطية 4 / 48.
(2) انظر: الرسالة للشافعي ص 129، وانظر: المحصول للرازي 3 / 349.
(3) في س: ((بالوقوع)) .
(4) تقدَّم تخريجه.
(5) سبق تخريجه. ومن الغريب أن المصنف أورد هذه الحجة في مسألة نسخ الكتاب بخبر الآحاد، ثم يوردها هنا على مسألة نسخ الكتاب بالخبر المتواتر، فلعلّ هذا عائد إلى اختلاف كل قوم في طريق ثبوته. قال الفخر الرازي: ((وهذا خبر مشهور مستفيض، وربما قيل: إنه بلغ مبلغ التواتر)) التفسير الكبير 10 / 35.
(6) النساء، من الآية: 24، وهي آية المحرمات من النكاح.

(2/91)


الثيِّب بالثيِّب رَجْمٌ بالحجارة والبكْر بالبكْر جَلْدُ مائة جلدة وتَغْريبُ عام)) (1)
فظاهره يقتضي أنه (2) الآن نُسِخ ذلك الحكم (3) .
ويرد على الأول: أن الوصية (4) جائزة لغير الوارث إذا كان قريباً فدخله (5) التخصيص، والمُدَّعَى النسخ (6) .
وعلى الثاني (7) : أنه أيضاً تخصيص دخل في الكتاب لا نسخ؛ لأن بعض ما أحِلَّ حرم ولا تنازع فيه.
_________
(1) الحديث من رواية عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني، خذوا عني، قد جعل الله لهنَّ سبيلاً، البكْر بالبكْر جَلْد مائةٍ ونفي سنة، والثيّب بالثيّب، جلدة مائة جلدة والرجم)) رواه مسلم
(1690) وغيره.
لم أطلع في روايات حديث عبادة أن الثيب عليه الرجم فقط، كما ذكر ذلك المصنف، بل جميع ما اطلعتُ عليه أن الثيب عليه جلد مائة جلدة والرجم.

وقد ذكر الحازمي في كتابه " الاعتبار في الناسخ والمنسوخ من الآثار " ص (473) اختلاف العلماء في حديث عبادة أهو مُحْكم أم منسوخ في حق الزاني المحصن؟ والأكثرون على الثاني، وتمسكوا بأحاديث تدلُّ على النسخ، منها حديث رجمه صلى الله عليه وسلم ماعزاً دون الجلد. البخاري (6824) ، والله أعلم.
(2) في س: ((أن)) ، وهي غير مفيدة للمعنى.
(3) انظر: نفائس الأصول للمصنف 6 / 2494. وقال أبو بكر الجصاص: ((وأن آية الجلد التي في سورة النور لم تكن نزلت حينئذٍ، لأنها لو كانت نزلت كان السبيل متقدماً لقوله: ((خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً..)) ولما صحَّ أن يقول ذلك، فثبت بذلك أن الموجب لنسخ الحبس والأذى قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث عبادة بن الصامت وأن آية الجلد نزلت بعده)) أحكام القرآن له 2 / 135.
(4) الوصية في اللغة: من أوصى الرجل ووصَّاه: عهد إليه وسُميت وصيّةً لاتصالها بالميت. انظر: لسان العرب مادة: وصي، واصطلاحاً: عَقْدٌ يُوجب حقاً في ثلُث عاقده، يلزم بموته أو نيابةً عنه بعده. حدود ابن عرفة مع شرحه للرصَّاع 2 / 681.. وفي مواهب الجليل للخطاب (8 / 513) هي: تمليكٌ مضافٌ لما بعد الموت بطريق التبرع. وحكمها: الوجوب عند بعض العلماء، والجمهور على الندب. انظر: الذخيرة للقرافي 7 / 6.
(5) في س: ((فيدخله)) .
(6) من العلماء من رجَّح أن آية الوصية محكمة غير منسوخة، بل هي عامة دخلها التخصيص في الوالدين من غير رقٍّ أو اختلاف دِيْن وفي الأقربين الوارثين. أما ما عدا ذلك فلهم الوصية، وهو رأي الطبري في تفسيره 2 / 158، والنحاس في الناسخ والمنسوخ 1 / 486، والسعدي في تيسير الكريم الرحمن
1 / 218.
(7) وهو ادِّعاء أن حديث ((لا تُنْكح المرأة على عمتها)) نسخ قوله تعالى: {وَأُحِلَّ لَكُم مَّا وَرَاء ذَلِكُمْ} وقد مرَّ جوابٌ للمصنف نحواً من هذا في ص (86) ، وانظر هامش (8) ص (85) .

(2/92)


حكم نسخ الإجماع والنسخ به
ص: والإجماع لا يُنْسخ ولا يُنْسخ به (1) .

الشرح
هذا نقل " المحصول " (2) ، وقال " الشيخ سيف الدين " (3) : كون الإجماع يُنْسخ الحكمُ الثابت به (4) نفاه الأكثرون وجوَّزه الأقلُّون (5) ، وكون الإجماع ناسخاً منعه الجمهور (6) .
وجوَّزه بعض المعتزلة وعيسى بن أبَان (7) .
_________
(1) شرح هذه المسألة الذي هنا منقول من نفائس الأصول (6 / 2500 - 2503) بحروفه تقريباً.
(2) المحصول في علم الأصول للفخر الرازي من أجلِّ كتب الأصول وأفخرها. ذكر الإسنوي أن استمداد المحصول كان من المعتمد لأبي الحسين البصري، والمستصفى للغزالي. وذكر ابن خلدون بأن الإمام الرازي أميل إلى الاستكثار من الأدلة والاحتجاج. له شرحان كبيران: نفائس الأصول للقرافي (ط) ، الكاشف عن المحصول للأصفهاني (ط) ، له مختصرات كثيرة منها الحاصل (ط) ، والتحصيل (ط) وغيرهما. انظر: نهاية السول 1 / 4، مقدمة ابن خلدون 3 / 1065.
(3) انظر كتابه: الإحكام في أصول الأحكام 3 / 160 - 161.
(4) ساقطة في س.
(5) لم أقف على تسمية هؤلاء الأقلِّين.
(6) قال ابن العربي: ((اتفق علماؤنا على أن الإجماع لا يَنْسَخ، لأنه ينعقد بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم، وتجديد شرعٍ بعده لا يتصور، وهذا الظاهر على الجملة، بَيْد أن فيه تفصيلاً بديعاً: وذلك أن الإجماع ينعقد على أثرٍ ونَظَرٍ، فإن كان الإجماع على نَظَرٍ لم يَجُزْ أن يَنْسَخ، وإن انعقد على أثرٍ جاز أن يكون ناسخاً، ويكون الناسخ الخبر الذي انبنى عليه الإجماع)) . الناسخ والمنسوخ له 2 / 19.
(7) انظر تفصيل هذه المسألة والأقوال فيها في: المعتمد 1 / 400، الإحكام لابن حزم 1 / 530، إحكام الفصول ص 428، أصول السرخسي 2 / 66، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 388، نهاية الوصول للهندي 6 / 2366، كشف الأسرار للبخاري 3 / 334، تحفة المسؤول للرهوني القسم 2 / 528، التلويح للتفتازاني 2 / 79.
أما عيسى بن أبَان فهو: عيسى بن أبَان بن صدقة، أبو موسى الحنفي، كان من أصحاب الحديث ثم غلب عليه الرأي؛ تفقّه على محمد بن الحسن الشيباني، تولّى قضاء العسكر ثم قضاء البصرة من تآليفه:
" اجتهاد الرأي "، " خبر الواحد "، " إثبات القياس " ت عام 221 هـ. انظر: الفوائد البهية في تراجم الحنفية ص 151، الجواهر المضيّة في تراجم الحنفية 1 / 401. وقد جُمِعتْ أقواله الأصولية في رسالة ماجستير بجامعة أم القرى عام 1415 هـ إعداد الباحث / أحمد باكر الباكري.

(2/93)


وبنى الإمام فخر الدين هذه المسألة على قاعدةٍ (1) وهي: أن الإجماع لا ينعقد في زمانه عليه الصلاة والسلام، لأنه بعض المؤمنين بل سيّدهم، ومتى وُجِد قوله عليه الصلاة والسلام فلا عبرة بقول (2) غيره (3) ، وإذا لم ينعقد إلا بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لم يمكن (4) نَسْخُه بالكتاب والسنة لتعذرهما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام، ولا بالإجماع لأن هذا الإجماع الثاني إن كان لا عن دليل فهو خطأ، وإن كان عن دليل فقد غفل عنه الإجماع الأول فكان خطأً، والإجماع لايكون خطأً (5) ، فاستحال النسخ بالإجماع (6) . ولا بالقياس لأن من شرطه أن لا يكون على خلاف الإجماع، فيتعذر (7) نسخ الإجماع مطلقاً.
وأما كون الإجماع ناسخاً فقال (8) : لا يمكن أن يَنْسَخ كتاباً ولا سنةً؛ لأنه يكون على خلافهما فيكون خطأً، ولا إجماعاً (9) لأن أحدهما يلزم أن يكون خطأً لمخالفته لدليل الإجماع الآخر، ولا قياساً (10) لأن من شرط القياس عدم الإجماع، فإذا أجمعوا على خلاف حكم القياس زال القياس لعدم شرطه (11) .
_________
(1) انظر: المحصول للرازي 3 / 354.
(2) ساقطة من س.
(3) انظر ردّ المصنف على الرازي في قوله: ((فلا عبرة بقول غيره)) في نفائس الأصول 6 / 2501، ثم انظر تعقيب الأصفهاني على هذا الرد في: الكشاف عن المحصول 5 / 302.
(4) في س: ((يكن)) .
(5) ساقطة من ن.
(6) هنا زيادة: ((فيتعذر نسخ الإجماع مطلقاً)) وهي تكرار لا داعي لها.
(7) في ص: ((فاستحال)) .
(8) أي الإمام فخر الدين. انظر: المحصول 3 / 357.
(9) في ن: ((إجماع)) وهو خطأ فيما يبدو لي، لأنها معطوفة على منصوب، والعاطف حرف الواو، و" لا " زائدة لتوكيد النفي. انظر: مغني اللبيب 1 / 468.
(10) في ن: ((قياس)) انظر الهامش الآنف الذكر.
(11) أورد المصنف في نفائس الأصول (6 / 2502) إشكالاً على الرازي في كون الإجماع لا يُنسخ به مع أنه يُخصص به، لأن التخصيص لابد له من مستند، فكذا في النسخ، ويكون ذلك المستند هو الناسخ. وقد ردّ هذا الإشكال الأصفهاني في الكاشف عن المحصول 5 / 300.

(2/94)


وهذه الطريقة مشكلة بسبب أنَّ وجود (1) النبي صلى الله عليه وسلم لا يمنع وجود الإجماع، لأنه عليه الصلاة والسلام شهد لأمته بالعصمة فقال: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) (2) وصفة المُضَاف غير المضاف إليه، وهو عليه الصلاة والسلام لو شهد لواحدٍ في زمانه عليه الصلاة والسلام بالعصمة لم يتوقف ذلك على أن يكون بعده عليه الصلاة والسلام، فالأمة أولى (3) .
ثم إنه نقض هذه القاعدة بعد ذلك فقال* (4) : يمكن نسخ القياس في زمانه عليه الصلاة والسلام بالإجماع، فصرح بجواز انعقاد الإجماع في زمانه عليه الصلاة والسلام (5) .
_________
(1) ساقطة من س.
(2) لم أجده بهذا اللفظ فيما اطلعتُ عليه من كتب السنة، بل فيها لفظ " ضلالة " بدلاً من " خطأ "، والحديث رواه الإمام أحمد في مسنده 6 / 396، وأبو داود (4253) ، والترمذي (2167) ، وقال عنه: غريب من هذا الوجه، وابن ماجة (3950) وقال البوصيري: إسناده ضعيف. قال ابن حجر في: تلخيص الحبير (3 / 295) : ((حديث مشهور له طرق كثيرة، لا يخلو واحدٌ منها من مقال)) وقال الزركشي: ((واعلم أن طرق هذا الحديث كثيرة ولا يخلو من علّة وإنما أوردتُ منها ذلك ليتقوى بعضها ببعض)) المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر ص 62. وقال الحاكم - بتصرف - في مستدركه (1 / 116) : ((لابد أن يكون له أصل وله شواهد، لا أدعي صحتها ولا أحكم بتوهينها، بل يلزمني ذكرها لإجماع أهل السنة على هذه القاعدة من قواعد الإسلام)) . وانظر كلاماً للخطيب البغدادي في الحديث في: الفقيه والمتفقه 1 / 424. والحديث حسَّنه الألباني بطرقه في سلسلة الأحاديث الصحيحة، الجزء الثالث (1331) .
(3) انظر: نفائس الأصول 1 / 2500. والجواب عما أورده مشكلةً أن يقال: إن الإجماع لا ينعقد بمخالفته، ومع موافقته العبرة بسنته، وحينئذٍ يتوجه النسخ إلى مستند الإجماع. انظر: المعتمد 1 / 40، الإحكام لابن حزم 1 / 530، الناسخ والمنسوخ لابن العربي 2 / 19، الكاشف عن المحصول للأصفهاني 5 / 298 - 299.
(4) أي: الرازي في محصوله 3 / 358.
(5) قال تاج الدين الأرموي عن هذا التناقض في كتابه: الحاصل من المحصول (2 / 664) : ((وفيه إشكال)) ، وعبّر عنه سراج الدين الأرموي في: التحصيل من المحصول (2 / 28) بأن فيه نظر. وذكر هذا التناقض ابن السبكي في الإبهاج (2 / 254 - 255) دون أن يجيب عنه. وأما الأصفهاني فاعتذر عنه بأنه وقع سهواً من الإمام، انظر: الكاشف عن المحصول (5 / 308) ، وبمثله أجاب الإسنوي في نهاية السول
(2 / 594) . أما العبادي في الآيات البينات (3 / 179) فلم يرتضِ جواب السهو وقال بأن قول الرازي بإمكان نسخ القياس في زمانه صلى الله عليه وسلم بالإجماع، أي: على تقدير انعقاده.

(2/95)


وأما سيف الدين فلم يقل ذلك، بل قال: الإجماع الموجود بعد وفاته عليه الصلاة والسلام لا ينسخ بنص ولا غيره إلى آخر (1) التقسيم (2) .
وقال أبو الحسين البصري في " المعتمد " (3) - الموضوع له في أصول الفقه - كما قاله المصنف، ثم قال: إن قيل: أيجوز (4) أن يُنْسَخ إجماعٌ (5) وقع في زمانه عليه الصلاة والسلام؟ قلنا: يجوز، وإنما منعنا (6) الإجماع بعده أن يُنْسخ، وأما في حياته فالمنسوخ الدليل الذي أجمعوا عليه لا حكمه (7) .
وقال أبو إسحاق: ينعقد الإجماع في زمانه عليه الصلاة والسلام (8) .
_________
(1) في ن: ((أخير)) وهو تحريف.
(2) انظر: الإحكام للآمدي 3 / 160.
(3) المعتمد هو أحد الكتب الأربعة التي اعتبرها ابن خلدون في مقدمته (3 / 1065) بأنها أركان هذا العلم، (العمد، المعتمد، البرهان، المستصفى) وهو مصدر أصيل في آراء واستدلالات المعتزلة، وقفتُ على طبعتين له، الأولى: بتهذيب وتحقيق / محمد حميد، وتعاون محمد بكر وحسن حنفي في مجلدين، دمشق: المعهد العلمي الفرنسي للدراسات العربية عام 1384 هـ، والأخرى: تقديم وضبط / الشيخ خليل الميس، دار الكتب العلمية، بيروت. انظر: الفكر الأصولي د. عبد الوهاب أبو سليمان ص 226 وما بعدها.
(4) في ق، ن: ((يجوز)) . والمثبت من س، وهو الموافق لما في المعتمد 1 / 401.
(5) في ن: ((إجماعاً)) ، فيكون تقدير العبارة: أيجوز أن يَنْسخ الله حكماً أجمعت عليه الأمة؟ انظر: المعتمد
1 / 401.
(6) في ن: ((معنى)) وهي بلا معنى.
(7) لعلَّ غرض المصنف من سوق هذا النقل عن أبي الحسين البصري ليُفْهم منه تجويز انعقاد الإجماع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم. ولكن هيهات! لأن أبا الحسين صرَّح قبل هذه النقل عنه بأسطرٍ فقال: ((ومعلوم أن الإجماع إنما انعقد بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم)) المعتمد 1 / 401.
فإيراد أبي الحسين هذا إنما هو السؤال هنا على سبيل التقدير والفَرْض والتقسيم العقلي، وهو لا يدلُّ على الوقوع. وانظر: الكاشف على المحصول للأصفهاني 5 / 309.
(8) هكذا نقل المصنف هنا عن أبي إسحاق الشيرازي، والذي نقله في النفائس (6 / 2503) عنه أنه لا ينعقد في زمانه صلى الله عليه وسلم، والنقل الذي في النفائس هو الصواب كما في شرح اللمع (1 / 490) حيث قال: ((ولا يتصور الإجماع في زمانه ... )) .

(2/96)


وقال ابن بَرْهان في كتاب " الأوسط " (1) : ينعقد الإجماع في زمانه عليه الصلاة والسلام (2) . وجماعةٌ من المصنِّفين وافقوا الإمام فخر الدين على دعواه على ما فيها من الإشكال (3) .
وحجة الجواز لمن خالف (4) في هذه المسألة، فهي مبنية على أنه يجوز أن ينعقد إجماع بعد إجماعٍ مخالفٍ له، ويكون كلاهما حقاً، ويكون انعقاد الأول مشروطاً بأن لا يطرأ عليه إجماع آخر وهو شذوذ من المذاهب، فبُنِيَ (5) الشاذ على الشاذ، والكل ممنوع.
حكم نسخ الفحوى والنسخ به
ص: ويجوز نسخ الفَحْوى (6) - الذي هو مفهوم الموافقة - تبعاً* للأصل، ومنع أبو الحسين (7) من نسخه مع بقاء الأصل دفعاً للتناقض بين تحريم التأفيف - مثلاً -
_________
(1) كتاب الأوسط: هو واحدٌ من الكتب الأصولية الستة لابن برهان وهي: الوجيز، الأوسط، البسيط، الوسيط، التعجيز، الوصول إلى الأصول. والأخير منها مطبوع، والكتب الأخرى لم أقف عليها، وقد نقل بعض علماء الأصول من كتاب الأوسط كالقرافي هنا، والإسنوي في نهاية السول، والزركشي في البحر المحيط، والشوكاني في إرشاد الفحول. انظر: مقدمة: كتاب الوصول إلى الأصول لابن برهان، تحقيق د. عبد الحميد أبو زنيد ص 31.
(2) هكذا نَقَل المصنف هنا عن ابن برهان، والذي نقله في النفائس (6 / 2503) عنه أنه لا ينعقد، والنقل الذي في النفائس هو الصواب، كما قاله الزركشي: ((والذي وجدتُه في الأوسط لابن برهان في الكلام على حجية الإجماع أنه إنما يكون حجة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم)) البحر المحيط 6 / 454، وهكذا وجدتُ كلام ابن برهان في الوصول (2 / 51) ظاهره أن الإجماع لا ينعقد إلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم.
(3) انظر: إحكام الفصول ص 428، أصول السرخسي 2 / 66، الواضح في أصول الفقه لابن عقيل
4 / 317، البحر المحيط للزركشي 5 / 284، نشر البنود 1 / 282.
(4) في ن: ((خلافه)) .
(5) في س: ((فينبني)) .
(6) الفحوى، لغة: معنى ما يعرف من مذهب الكلام، وفهمْتُهُ من فحوى كلامه، أي: معناه ولحنه. انظر مادة " فحا " في: لسان العرب، المصباح المنير. واصطلاحاً: هو إثبات حكم المنطوق به للمسكوت عنه بطريق الأولى. وهو مفهوم الموافقة الأولوي، ويسميه الأحناف: دلالة النص. انظر: شرح تنقيح الفصول للمؤلف ص 54 (المطبوع) ، كشف الأسرار للبخاري 1 / 184.
(7) انظر: المعتمد 1 / 405.

(2/97)


وحِلِّ الضرب (1) .
ويجوز النسخ به وفاقاً (2) لفظيةً كانت دلالته أو قطعيةً على الخلاف.

الشرح
قال الإمام فخر الدين: اتفقوا على جواز نسخ الأصل والفحوى معاً، وأما نسخ الأصل وحده فإنه يقتضي نسخ الفحوى، [لأن الفحوى تبع. وأما نسخ الفحوى] (3) مع بقاء الأصل فمنعه أبو الحسين (4) ، لئلا يَنْتَقِض الغَرَض [في الأصل] (5) كما تقدَّم في (6) التأفيف، فتحريمه لنفي العقوق وإباحة الضرب أبلغ في العقوق، فيبطل المقصود من تحريم التأفيف (7) .
وقال سيف الدين (8) : تَرَدَّد قول القاضي عبد الجبار (9) في نسخ الفحوى دون
_________
(1) مسألة نسخ الفحوى فيها ثلاثة أوجه، الأول: نسخ الفحوى والأصل معاً، كنسخ تحريم الضرب تبعاً لنسخ تحريم التأفيف، فهذا جائز بالاتفاق. والثاني: نسخ الفحوى مع بقاء الأصل، فهذا جوزه بعض العلماء ومنعه آخرون. الثالث: نسخ الأصل مع بقاء الفحوى، فهذا كذلك جوزه بعضهم ومنعه آخرون. وهناك تفصيلات أخرى في المسألة. انظر: المعتمد 1 / 404، المحصول للرازي 3 / 360، الاحكام للآمدي 3 / 165، مختصر ابن الحاجب بشرح العضد 2 / 200، المسودة ص 221، مفتاح الوصول ص 600، البحر المحيط للزركشي 5 / 300، التوضيح لحلولو ص 268، رفع النقاب القسم 2 / 429، شرح الكوكب المنير 3/ 576، فواتح الرحموت 2 / 155.
(2) مسألة: النسخ بالفحوى، حكى الرازي (3 / 361) ، والآمدي (3 / 165) ، الاتفاق على جوازه، لكن ذكر ابن السبكي عن إدعاء الاتفاق بأنه ليس بجيد، ونقل الخلاف في المسألة. وتعجّب الزركشي من حكاية الاتفاق، واختار أبو إسحاق الشيرازي المنع. انظر: اللمع للشيرازي ص 30، قواطع الأدلة 3 / 93، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب لابن السبكي 4 / 105 - 106، البحر المحيط للزركشي 5 / 301، الضياء اللامع لحلولو 2 / 102، رفع النقاب القسم 2 / 432.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(4) انظر: المعتمد 1 / 504.
(5) ساقطة من ن، وفي ق: ((في ذلك)) .
(6) في ق: ((من)) .
(7) انظر: المحصول للرازي 2 / 360.
(8) انظر: الإحكام للآمدي 3 / 165.
(9) هو: القاضي عبد الجبار بن أحمد بن عبد الجبار، أبو الحسن الهَمَذَاني - نسبةً إلى هَمَذَان مدينة بالجبال نحو العراق - إمام المعتزلة في زمانه، شافعي المذهب، عدّ ابن خلدون في مقدمته (3 / 1065) كتابه:
" العمد " من أركان فن أصول الفقه، ومن تآليفه: المغني في أبواب التوحيد والعدل (ط) وهو كتاب كبير جداً، تنزيه القرآن عن المطاعن (ط) . ت عام 415هـ. انظر: شرح العيون للجشيمي ص365، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 5 / 97.

(2/98)


الأصل، فجوزه تارة ورآه من باب التخصيص؛ لأنه نص على الجميع، ثم خصص البعض (1) ، ومنعه مرة للتناقض، ونقْضِ الغرض (2) .
وقولي: ((كانت دلالته لفظيةً أو قطعيةً)) : أريد بالقطعية العقلية (3) الذي هو القياس، فإن الناس اختلفوا في تحريم الضرب مثلاً في تلك الآية (4) : هل هو ثابت بالقياس على تحريم التأفيف* بطريق الأولى، أو هو بدلالة اللفظ عليه التزاماً (5) لا بالقياس (6) ؟.
فإن كانت [دلالته التزاماً] (7) صحَّ النسخ بها، أو قياساً صحَّ النسخ بها، لأنه (8) حُكْمٌ [صار مناقضاً] (9) لحكمٍ متقدِّمٍ (10) ، فصحَّ النسخ (11) به كسائر ما يجوز به النسخ. نعم يشترط في المنسوخ أن يكون مثله في السند أو أخفض رتبة.
_________
(1) وجه التخصيص: أن قوله تعالى: {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} [الإسراء: 33] نَصٌّ عام يقتضي تحريم كل أنواع الأذى، ثم خُصّص من ذلك بعض أنوعه، كالضرب مثلاً، لأن كل واحدٍ من الفحوى والأصل له دلالة مستقلة بنفسها.
(2) قال في المعتمد 1 / 405: ((ومَنَع منه في الدَّرْس، وهو الصحيح)) .
(3) وهو تعبير الرازي في محصوله 3 / 361، فسر معناها المصنف في كتابه: النفائس 6 / 2510: أي العقل أدرك الحكمة التي لأجلها ورد الحكم، فقاس في الصورة التي لم يرد فيها النص. ثم قال: يرد عليه أن القياس ليس يقيناً (قطعياً) لاحتمال الغلط.
(4) وهي آية الإسراء: 23: { ... فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} .
(5) دلالة الالتزام: عرَّفها المصنف بقوله: هي فهم السامع من كلام المتكلم لازم المسمّى البيِّن. انظر التعريف وشرحه ومثاله في: شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 24 - 25.
(6) انظر اختلاف العلماء في ثبوت تحريم ضرب الوالدين أهو مستفادٌ بدلالة اللغة أم بالقياس؟ في: الرسالة للشافعي ص 515، إحكام الفصول ص 509، التبصرة للشيرازي ص 227، نفائس الأصول

6 / 2510، جامع الأسرار في شرح المنار للكاكي 2 / 505، أصول الفقه لابن مفلح 3 / 1061.
(7) في س، ق: ((دلالة التزام)) .
(8) هذا تعليل لجواز النسخ بالفحوى على كلا التقديرين في دلالته، سواء كانت لفظية أم عقلية.
(9) هكذا في ن، وفي س، ق: ((طاريءٌ مناقضٌ)) وهو سائغ أيضاً.
(10) مثال النسخ بالفحوى: كما لو ورد نصٌ بتحليل الضرب، فيستدلُّ به - عن طريق الفحوى - على نسخ تحريم التأفيف الثابت بنصٍ متقدِّم.
(11) ساقطة من س.

(2/99)


حكم نسخ القياس والنسخ به
مسألة (1) : قال الإمام فخر الدين في " المحصول " (2) : نسخ القياس إن كان في حياته عليه الصلاة والسلام فلا يمتنع رفعه بالنص وبالإجماع وبالقياس، بأن يَنُصَّ عليه الصلاة والسلام في الفرع (3) بخلاف حكم القياس بعد استقرار التعبُّد بالقياس. وأما بالإجماع فلأنه إذا اختلفت الأمة على قولين قياساً، ثم أجمعوا على أحد القولين، كان إجماعهم رافعاً لحكم القياس المقتضي للقول الآخر. وأما بالقياس فبأن ينصّ في
صورةٍ بخلاف ذلك الحكم ويجعله معللاً بعلةٍ موجودةٍ في ذلك الفرع، [وتكون أمارة عِليَّتها] (4) أقوى من أمارة عِليِّة (5) الوصف للحكم الأول في الأصل (6) الأول.
وأما بعد وفاته عليه الصلاة والسلام فإنه يجوز نسخه في المعنى وإن كان لا يسمى نسخاً في اللفظ (7) ، كما إذا أفتى المجتهد بالقياس ثم ظفر بالنص أو بالإجماع أو بالقياس المخالف للأول (8) ، فإن قلنا: ((كلُّ مجتهدٍ مصيبٌ)) (9) كان هذا الوُجْدان ناسخاً لقياسه الأول (10) ، وإن قلنا: ((المصيب واحد)) لم يكن القياس الأول متعبَّداً به (11) .
_________
(1) هذه مسألة: نسخ القياس والنسخ به، وقد نقلها المصنف بأكملها من المحصول (3 / 358 - 360) بتصرفٍ يسيرٍ، وكان ترتيبها الأولوي أن تأتي في المتن بعد مسألة: نسخ الإجماع والنسخ به وقبل نسخ الفحوى والنسخ به كما هي عادة كتب الأصول. انظر المسألة في: المعتمد 1 / 402، إحكام الفصول ص 429، المسودة ص 216، نهاية السول للإسنوي 2 / 593، كشف الأسرار للبخاري 3 / 331، التوضيح لحلولو ص 268.
(2) انظر: المحصول للرازي 3 / 358 - 360.
(3) في س: ((الفروع)) .
(4) في س: ((ويكون أمارة عِلّتها)) ، وفي ن: ((أمارة عليها)) ، وفي ق: ((فتكون أمارته عليها)) . والمثبت من ص، وهو الموافق لما في المحصول 3 / 359.
(5) في س: ((علة)) .
(6) ساقطة من س.
(7) ساقطة من ن.
(8) في المحصول للرازي (3 / 359) : ((أو قياسٍ أقوى من القياس الأول على خلافه)) .
(9) ستأتي هذه المسألة مبسوطة في الباب التاسع عشر: في الاجتهاد، الفصل السادس: في التصويب، ص 468
(10) هنا زيادة في المحصول 3 / 360: ((لكنه لا يُسمى ناسخاً، لأن القياس إنما يكون معمولاً به بشرط أن لا يعارضه شيء من ذلك)) .
(11) قال المصنف في النفائس 6 / 2505: ((لا نسلّم، فقد انعقد الإجماع على أنه يجب على كل مجتهد أن يعمل هو ومن قلّده بما أدى إليه اجتهاده من قياسٍ أو غيره، وإن كان قد أخطأ الحكم المقرر في نفس الأمر - ثم قال - ولا نعني بالتعبد إلا الوجوب ... )) .

(2/100)


وأما كون القياس ناسخاً فيمتنع في الكتاب والسنة (1) والإجماع، لأن تقدُّمَها يبطله (2) ، وأما القياس فقد تقدَّم القول فيه (3) .
حكم النسخ بالعقل
ص: والعقل يكون ناسخاً في حقِّ مَنْ سَقَطَتْ (4) رجْلاه فإن الوجوب ساقط عنه، قاله الإمام (5) .
الشرح
هذا (6) ليس نسخاً، فإنَّ بقاء المَحَلِّ شرطٌ، وعدمُ الحكم لعدم سببه أو شرطه
أو قيام مانعه ليس بنسخ وإلا كان النسخ واقعاً طول الزمان؛ لطريان (7) الأسباب
وعدمها (8) .
_________
(1) قال المصنف في النفائس 6 / 2506: ((قوله (أي الرازي) : نسخ القياس للسنة باطل بالإجماع. قلنا: كيف يُتصوَّر الإجماع مع أن العلماء اختلفوا في تقديم القياس على خبر الواحد، فعلى القول بتقديمه، لا يبعد أن يُتَصوَّر النسخ بأن يستقر التعبد بخبر الواحد، ثم ينص الشرع في زمان النبوة على حكم عليه يقتضي ضدّ مقتضى الخبر، فيبطل مقتضى الخبر)) .
(2) هذا التعليل ليس في المحصول، وإنما علّل الرازي امتناع كون القياس ناسخاً بالإجماع. انظر: المحصول
3 / 360.
(3) انظره في الصفحة السالفة.
(4) انفردت نسخة ق بقولها: ((سَقَطَ فانكسرتْ)) . وهو تعبير لا يفضي إلى الغرض المقصود من سقوط الرجلين، وهو سقوط فرض غسلهما، كما أن المثبت هو عبارة المحصول 3 / 74.
(5) عبارة الإمام الرازي في محصوله (3 / 74) في تخصيص العموم بالعقل هي: ((فإن قيل: لو جاز التخصيص بالعقل، فهل يجوز النسخ به؟ قلنا: نعم، من سقطت رجلاه سقط عنه فرض غسل الرجلين، وذلك إنما عُرف بالعقل)) .
ظاهر هذه العبارة يتناقض مع ما قرره في باب النسخ (3 / 285 - 286) ((ولا يلزم أن يكون الشرع ناسخاً لحكم العقل، لأن العقل ليس بطريقٍ شرعي، ولا يلزم أن يكون العجز ناسخاً لحكم شرعي لأن العجز ليس بطريق شرعي)) . والصواب أن العقل لا يجوز النسخ به. انظر: إحكام الفصول

ص 391، شرح اللمع للشيرازي 1 / 513، رفع النقاب القسم 2 / 433. ولتوجيه ومناقشة قول الرازي انظر: جمع الجوامع لابن السبكي بشرح المحلّي وحاشية البناني 2 / 67، نهاية السول للإسنوي 2/ 551، التوضيح لحلولو ص 269، الآيات البينات للعبادي 3 / 177.
(6) ساقطة في س.
(7) في س، ق: ((بطريان)) .
(8) انظر: نفائس الأصول 5 / 2073.

(2/101)


الفصل الرابع
فيما يتوهم (1) أنه ناسخ
حكم الزيادة على النص
ص: زيادة صلاةٍ على الصلوات أو عبادةٍ على العبادات ليست نسخاً وفاقاً (2) ،
_________
(1) عبّر المصنف هنا: ((بالتوهم)) بينما تعبير الرازي في محصوله (3 / 363) هو: ((فيما يظن أنه ناسخ وليس كذلك)) ، والظن والوهم متباينان، فالظن يستعمل في الراجح، والوهم في المرجوح، وبينهما الشك وهو في الاحتمالين المتساويين. والجواب عن ذلك بأن الإمام نَظَر إلى من أثبت النسخ في هذه المسائل فعبّر بالظن، والمصنف نظر إلى من منعه فعبّر بالوهم. انظر: رفع النقاب القسم 2 / 436. وانظر تعريفات: الظن، والشك، والوهم في: الكليات للكفوي ص 528.
(2) هذه المسألة تعرف بمسألة: الزيادة على النص، هل تكون نسخاً؟
والمراد بالزيادة على النص: أن يوجد نص شرعي يفيد حكماً ثم يأتي نص آخر يزيد على الأول زيادة لم يتضمنها، ويسمى النص الأول: المزيد عليه، والثاني: المزيد. انظر كتاب: الزيادة على النص لفضيلة أستاذنا الدكتور عمر بن عبد العزيز ص 26.

ولحكم الزيادة على النص حالات؛ بحسب الزيادة، فهي: إما أن تكون مستقلة بنفسها عن النص المزيد عليه، أو لا تكون. فإن كانت مستقلة، فإما أن تكون من غير جنس المزيد عليه، أو تكون من جنسه فإن كانت من غير جنسه كزيادة الحج على الصلاة والزكاة، فهذه لا تكون نسخاً إجماعاً لعدم التنافي بين الزيادة والمزيد عليه، وممن حكى الإجماع والاتفاق على هذا: الجويني في التلخيص 2 / 105، والغزالي في المنخول ص 299، والرازي في المحصول 3 / 363، والطوفي في شرح مختصر الروضة2 / 291، والكاكي في جامع الأسرار 3 / 888، الضياء اللامع 2 / 111.
وإن كانت الزيادة المستقلة من جنس المزيد عليه، كزيادة صلاة على الصلوات الخمس، فقد قال جماهير العلماء - وهو الأصح عند الحنفية - أنها ليست بنسخ، وقال بعض العراقيين من الحنفية بأنها
نسخ. انظر: كشف الأسرار للبخاري 3 / 361، تيسير التحرير 3 / 220، فواتح الرحموت
2 / 113، بدائع الصنائع للكاساني 2 / 222 - 225. قال فضيلة الشيخ الدكتور عمر بن
عبد العزيز: ((غير أن المنقول (عن بعض العراقيين) لا يُعكِّر الاتفاق، ولا يمسُّه بالخَرْق، لأن العلماء تصدَّوا له بالإجابة عنه، وزيَّفُوه من أربعة أوجه ... إلخ)) الزيادة على النص ص 31.
أما الزيادة غير المستقلة فسيأتي حكمها بعد قليل في عبارة المتن القادمة ص (104) .
انظر هذه المسألة في: المعتمد 1 / 405، إحكام الفصول ص 411، أصول السرخسي 2 / 82، المستصفى للغزالي 1 / 222، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 398، الإحكام للآمدي 3 / 170، شرح المعالم في أصول الفقه لابن التلمساني 2 / 41، المغني في أصول الفقه للخبازي ص 259، التوضيح شرح التنقيح لحلولو ص 269 - 272.

(2/102)


وإنما جعل أهل العراق (1) الوتر ناسخاً لما فيه من رفع قوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ والصَّلاَةِ الْوُسْطَى} (2) فإن المحافظة على الوسطى تذهب لصيرورتها غير وسطى.
الشرح
زيادة الحج على العبادات في آخر الإسلام ليس نسخاً لما تقدَّمه من العبادات، لعدم المنافاة، ومن شرط النسخ التنافي. وأما زيادة الوتر لما اعتقد الحنفية أنه واجب (3) صارت الصلوات عندهم ستاً، وكلُّ عددِ زوجٍ لا توسُّط فيه، إنما يمكن التوسُّط في عددِ الفرد، كالخمسة اثنان واثنان وواحدٌ بينهما، أما الستة ثلاثة (4) وثلاثة، [لا يبقى شيء يتوسط] (5) بينهما، فارتفع الطلب المتعلِّق بالوسطى لزوال الوصف، والطلب لذلك حكم شرعي، فقد ارتفع حكم شرعي، فيكون نسخاً (6) .
_________
(1) المراد بهم بعض مشايخ الحنفية من أهل العراق، ولم أقف على أسمائهم. انظر: ميزان الوصول للسمرقندي 2 / 1013، كشف الأسرار للبخاري 3 / 361، التقرير والتحبير 3 / 102.
(2) البقرة، من الآية: 238.
(3) صلاة الوتر عند أكثر الحنفية واجبة، وعند بعضهم وغيرهم من المالكية والشافعية والحنابلة والظاهرية سنة مؤكدة. انظر: شرح فتح القدير لابن الهمام 1 / 436، رد المحتار (حاشية ابن عابدين) 2 / 438، الذخيرة للقرافي 2 / 392، مواهب الجليل للحطاب 2 / 384، مغني المحتاج للشربيني 1 / 451، معونة أولي النهى لابن النجار الفتوحي 2 / 8، المحلَّى لابن حزم 2 / 226.
(4) هكذا في جميع النسخ، والصواب أن يقال: ((فثلاثة)) بأن تقْرن الفاء في جواب أمَّا الشرطية، انظر هامش (2) ص (79) .
(5) في ق: ((ولا وسط)) بدلاً عما بين المعقوفين.
(6) ترَدُّ هذا الحجة بأن النسخ إنما يكون لحكم شرعي، وكون العبادة وسطى أمر حقيقي ليس بحكم شرعي. ثم إن وجوب المحافظة عليها قد ثبت بقوله تعالى: {حَافِظُواْ عَلَى الصَّلَوَاتِ} [البقرة: 238] والتصريح بها ثانياً موصوفةً بهذه الصفة إظهارٌ لزيادة الاهتمام بشأنها من حيث هي هي، والصفة لمجرد التعريف. انظر: الإحكام للآمدي 3 / 170، كشف الأسرار للبخاري 3 / 361، شرح البدخشي
2 / 263.

(2/103)


وهذا البحث مبني على أنها سُمِّيت وسطى لتوسُّطها بين عددين، وقيل: لتوسُّطها بين الليل والنهار وهي الصبح، وقيل: لتوسُّطها بين الأعداد الثُّنَائية والرُّبَاعية، وهي (1) الثُّلاثية، فتكون المغرب. وعلى القول الأول تكون العصر، لأن قبلها الصبح
والظهر، وبعدها المغرب والعشاء (2) .
حكم الزيادة غير المستقلة على النص
ص: والزيادة على العبادة الواحدة (3)
ليست نسخاً عند مالك* رحمه الله وعند
أكثر أصحابه* والشافعي (4) ، خلافاً للحنفية (5) ، وقيل: إن نفت
_________
(1) في ق: ((فتتوسط)) .
(2) جمع الحافظ الدمياطي (ت 705 هـ) كتاباً في بيان المراد بالصلاة الوسطى سماه: ((كشف المُغَطَّى في تبيين الصلاة الوسطى)) ، تحقيق مجدي فتحي السيد. عدَّ فيه سبعة عشر قولاً، كما ذكر الشوكاني في المسألة سبعة عشر قولاً في نيل الأوطار (1 / 311) ، ورجَّحا قول الجمهور: بأنها صلاة العصر مستدلين بحديث علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب: ((شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر. ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً)) ثم صلاها بين العشاءين، بين المغرب والعشاء. رواه البخاري
(4533) وليس فيه: ((صلاة العصر)) ، ورواه مسلم واللفظ له برقم (627) ، والخاص (205) .
وأما قول الإمام مالك وأصحابه في المسألة فهو أنها: صلاة الصبح. انظر: أحكام القرآن لابن العربي
1 / 299، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 3 / 209، البحر المحيط لأبي حيان 2 / 249.
(3) هذه مسألة الزيادة غير المستقلة على النص، كزيادة جزء أو شرط أو صفة، فالجزء كركعة على ركعات الصلاة أو زيادة التغريب على الزنا، والشرط كاشتراط الطهارة لصحة الطواف، والصفة كإيجاب الزكاة في المعلوفة بعد القول بإيجابها في السائمة من الغنم.

اتفق العلماء على أن الزيادة إذا وردت مقارنة فإنها لا تكون نسخاً كورود عدم قبول شهادة من حد في قذف زيادة على الجلد، واختلفوا في مجيء الزيادة متأخرة عن المزيد عليه إلى عدة مذاهب، ذكر المصنف منها هنا أربعة، وفي المسألة أقوال أخرى لم يذكرها المصنف، فانظر: المعتمد 1 / 405، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 398، نهاية الوصول للهندي 6 / 2390، كشف الأسرار للبخاري 3 / 361، البحر المحيط للزركشي 5 / 306، الزيادة على النص د. عمر بن عبد العزيز ص 37.
(4) هذا المذهب الأول وهو للجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة والجبائيين من المعتزلة. انظر: المقدمة في الأصول لابن القصار ص 146، المعتمد 1 / 405، العدة لأبي يعلى 3 / 814، المحصول لابن العربي ص 394، المحصول للرازي 3 / 363، المسودة ص 207، مفتاح الوصول للشريف التلمساني
ص 600، رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب لابن السبكي 4 / 116.
(5) هذا المذهب الثاني انظر: الغنية في الأصول لمنصور السجستاني ص 182، كتاب في أصول الفقه للاّمشي ص 174، المغني في أصول الفقه للخبازي ص 259، بديع النظام (نهاية الوصول) لابن الساعاتي
2 / 543، التوضيح لصدر الشريعة مع التلويح للتفتازاني 2 / 85.

(2/104)


الزيادة ما دل عليه المفهوم (1) الذي هو دليل الخطاب أو الشرط (2) كانت (3) نسخاً وإلا فلا (4) ، وقيل: إن لم يَجْزِ (5)
الأصلُ بعدها فهي نسخ وإلا فلا (6) ، فعلى مذهبنا زيادة التغريب (7) [على الجلد] (8) ليست نسخاً، وكذلك تقييد الرقبة بالإيمان (9)
_________
(1) المقصود به مفهوم المخالفة الذي يسمى: دليل الخطاب، وهو: إثبات نقيض حكم المنطوق به للمسكوت عنه. شرح التنقيح (المطبوع) ص 53. والمصنف يريد بالمفهوم هنا: مفهوم الصفة وهو: تعليق الحكم بصفةٍ من صفات الذات، يدل على نفي الحكم عن الذات عند انتفاء تلك الصفة. نهاية السول للإسنوي 2 / 208.
(2) مفهوم الشرط: هو تعليق الحكم على شيء بأداة الشرط، يدل على نفي الحكم عما انتفى فيه ذلك
الشيء. شرح البدخشي 1 / 433.
(3) هنا زيادة: ((الزيادة)) في س.
(4) هذا المذهب الثالث، ولم أقف على قائله. انظر: المعتمد 1 / 405، المحصول للرازي 3 / 364، الإحكام للآمدي 3 / 170، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 202.
(5) هكذا في جميع النسخ، وهي صحيحة، مأخوذة من جَزَى الشيء يَجْزي بمعنى كفى. وجَزَى عنك الشيء: مَضَى، وبعض الفقهاء يقولون أجْزَى بمعنى قضى. وهي هنا بمعنى الإجزاء. انظر مادة

" جزي " في: لسان العرب.
(6) هذا المذهب الرابع وهو قول القاضي الباقلاني والقاضي عبد الجبار وابن رشد، واختاره الباجي والغزالي وابن برهان وغيرهم. انظر: المعتمد 1 / 405، إحكام الفصول ص 411، المستصفى 1/ 222، الوصول لابن برهان 2 / 23، الضروري في أصول الفقه ص 85، رفع النقاب القسم 2 / 452.
(7) التغريب: الإبعاد، مصدر غَرَّب، والغَرْب: البُعْد، وتغريب الزاني: نفيه عن بلده الذي وقعت فيه الجناية. انظر مادة " غرب " في: المصباح المنير، النهاية في غريب الحديث والأثر. وقد جاء التغريب في حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً، البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم)) رواه مسلم (1690) ولفظ ابن ماجة برقم (2550) : ((تغريب سنة)) وقد تقدم الحديث والكلام عليه أهو مُحْكَم أم منسوخ؟ في
ص (92) هامش (1) .
(8) ما بين المعقوفين ساقط من جميع النسخ ما خلا نسختي م، ز.
(9) الوارد في كفارة قتل الخطأ في قوله تعالى: {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَئًا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ ... } [النساء:
92] ، وأطْلِقتْ في كفارة الظهار في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَة} مِّقَبْلِ أَن يَتَمَاسَّاش [المجادلة: 3] ، كما أطْلِقتْ في كفارة اليمين في قوله تعالى: {وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} [المائدة: 89] .

والتقييد هو: تناول اللفظ لمعيَّنٍ أو موصوفٍ بأمر زائد على الحقيقة الشاملة لجنسه. انظر: شرح التنقيح (المطبوع) ص 39، 266، الحدود للباجي ص 47، شرح الكوكب المنير 3 / 393.

(2/105)


وإباحة قطع السارق في الثانية، والتخيير بين (1) الواجب وغيره، لأن المنع من إقامة الغير مُقَامه عقلي (2) لا شرعي، وكذلك لو وجب الصوم إلى الشفق (3) .
الشرح
حجتنا أن الله تعالى إذا أوجب الصلاة ركعتين ركعتين ثم جعلها أربعاً فإن هذه الزيادة لم تبْطِل وجوب الركعتين الأوليين (4) ولا تنافيهما، وما لا ينافي (5) لا يكون نسخاً.
فإن قلت: التشهد كان يجب بعد (6) ركعتين والسلام بآخر (7) ذلك (8) ، وبطل ذلك (9) ، وصار في موضع آخر، وهو بعد الأربع (10) ، فقد بطل حكم شرعي فيكون نسخاً.
_________
(1) في س: ((قبل)) وهو تحريف.
(2) أي حكم عقلي ويسمى بالإباحة الأصلية والبراءة الأصلية. انظر تعريفها ص 500.
(3) الشَّفَق: هو اختلاط ضوء النهار بظلام الليل عند غروب الشمس. وهما شفقان: الأحمر والأبيض، والأحمر قبل الأبيض، وبضيائه يدخل وقت عشاء الآخرة وقيل: الشفق: الحمرة التي في الغروب عند غيبوبة الشمس. عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ للسمين الحلبي 2 / 279، وانظر: لسان العرب مادة: شفق.
(4) في س، ن: ((الأولتين)) وهي خطأ، والصواب المثبت؛ لأن تثنية المقصور الزائد على ثلاثة أحرف تجعل آخره ياءً، وتضيف إليه ياءً ونوناً مكسورة في النصب والجر. قال ابن مالك في الألفية:
آخِرَ مَقْصور تثنِّي اجْعَلْهُ يا إن كان عن ثلاثةٍ مُرْتقِيَا
فكلمة: أوْلَى تصير مثنَّاها: أوْلَيَان في الرفع، وأوْلَيَيْن في النصب والجر. انظر: شرح التسهيل لابن مالك 1 / 91، شرح ابن عقيل 1 / 532.
(5) في س، ن: ((يتنافى)) .
(6) انفردت بها نسخة ق وهو الأصوب، وفي سائر النسخ ((عَقِيب)) والتعبير بـ" عَقِيْب " بمعنى " بعد " مما لم يجوزه بعض أهل اللغة. انظر مادة " عقب " في: مختار الصحاح، المصباح المنير.
(7) في س: ((تأخر عن)) ، وهي ساقطة من ق.
(8) ساقطة من ق.
(9) ساقطة من س، ن.
(10) في س: ((أربع)) .

(2/106)


قلت (1) : لا نسلم أن الله تعالى أوجب السلام عقيب الركعتين لكونهما ركعتين بل أوجبه (2) آخر الصلاة كيف كانت ثنائيةً أو ثلاثيةً أو رباعيةً ولا مدخل للعدد في إيجاب السلام (3) ، بل كونه آخر الصلاة فقط، [وكون السلام آخر الصلاة] (4) لم يبطل، بل هو على حاله [فليس هو بنسخ] (5) .
وهذا السؤال هو مدرك الحنفية (6) ، واحتجوا أيضاً بأن الركعتين كانتا مجزئتين
[والآن هما] (7) غير مجزئتين، والإجْزَاء (8) حكم شرعي فقد ارتفع حكم شرعي، فيكون نسخاً (9) .
ولأن إباحة الأفعال بعد الركعتين كانت حاصلة ومع الزيادة بطلت هذه الإباحة والإباحة حكم شرعي ارتفع فيكون نسخاً (10) .
والجواب عن الأول: أنَّ معنى [قولنا: هما مجزئتان] (11) ، أنه لم يبقَ شيءٌ آخر يجب على المكلف، وقولنا: لم يجب عليه شيء (12) ، إشارة إلى عدم التكليف، وعدم التكليف حكم عقلي لا شرعي [والحكم العقلي رفعه ليس نسخاً، بدليل أن العبادة إذا وجبت (13) ابتداء فإن وجوبها رافع للحكم (14) العقلي] (15) ، وليس ذلك نسخاً إجماعاً.
_________
(1) في ق: ((قلنا)) .
(2) في ن: ((أوجب)) .
(3) في س: ((الصلاة)) ، وهو خطأ، لعدم دلالتها على المعنى المراد هنا.
(4) ما بين المعقوفين جاء في ق مختصراً هكذا ((وذلك)) .
(5) في ق: ((وهو غير نسخ)) ، وفي ن: ((فهو نسخ)) وهو خطأ، لأنه قلْبٌ للمعنى.
(6) انظر: تيسير التحرير 3 / 218، فواتح الرحموت 2 / 113.
(7) في ق: ((فصارتا)) .
(8) الإجْزَاء لغة: الاكتفاء، مِنْ أجْزَأ إجزاءً. انظر: مختار الصحاح مادة " جزأ ". واصطلاحاً: عرَّفه المصنف بقوله: هو كون الفعل كافياً في الخروج عن عهدة التكليف، وقيل: ما أسقط القضاء. شرح تنقيح الفصول (المطبوع) ص 77.
(9) هذا الدليل الأول للحنفية.
(10) هذا الدليل الثاني للحنفية.
(11) في ق: ((الإجزاء)) .
(12) ساقطة من ن.
(13) في ز: ((أوجبت)) .
(14) في ز: ((الحكم)) .
(15) ما بين المعقوفين ساقط من ق.

(2/107)


وعن الثاني: أن إباحة الأفعال (1) بعد الركعتين تابع لكونه ما وجب عليه شيء
آخر، وقولنا: ما وجب عليه (2) إشارة إلى نفي الحكم الشرعي، وبراءة الذمة التي هي حكم عقلي، [والتابع للعقلي عقلي] (3) ، فلا يكون رفعه نسخاً.
ومثال [نفي الزيادة بالشرط، أن يقول صاحب الشرع: إنْ كانت الغنم سائمةً ففيها الزكاة (4) ، ثم يقول: في الغنم] (5) مطلقاً الزكاة، فإن هذا العموم ينفي مفهوم الشرط المتقدِّم.
ومثال المفهوم، أن يقول: في الغنم السائمة الزكاة، ثم يقول: في الغنم
الزكاة، فإن هذا العموم رافعٌ للمفهوم المتقدِّم فيكون نسخاً، فإنه رفع ما هو ثابت بدليلٍ شرعي وهو الشرط* أو المفهوم، وهذا التقرير (6) مبني على أن النفي (7) الأصلي قد تقرَّر بمفهوم الشرط ومفهوم الصفة، وأن تقرير (8) النفي الأصلي حكم شرعي، وليس كذلك، لأن الله تعالى لو قال لا أشرع لكم في هذه السنة حكماً ولا أكلفكم بشيء لم يكن لله تعالى في هذه السنة شريعة عملاً بتنصيصه تعالى على ذلك، مع أنه تعالى قد قرَّر النفي الأصلي، وكذلك لما قرَّر رفع التكليف عن المجنون والنائم وغيرهما
_________
(1) في ن: ((الاشتغال)) .
(2) ساقطة في س.
(3) ساقط من ن.
(4) هذا القول على الفَرْض والتقدير، وإلا فقد جاء ما في معناه من حديث أنسٍ أن أبا بكر رضي الله عنه كتب له هذا الكتاب لما وجَّهَهُ إلى البحرين: بسم الله الرحمن الرحيم هذه فريضة الصدقة التي فرضها رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، وذكر كتاباً طويلاً في صدقة الماشية، فيه: وفي صدقة الغنم في سائمتها إذا
كانت أربعين إلى عشرين ومائة شاةٌ. رواه البخاري وهذا لفظه (1448) ، ولفظ أبي داود
(7651) : ((وفي سائمة الغنم إذا كانت أربعين شاةٌ)) . والسائمة من الماشية: الراعية، يقال: سَامَتْ تسُوم سَوْماً. وأسَامَها صاحبُها: أخرجها إلى المرعى. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر، مختار الصحاح كلاهما مادة " سوم ".
(5) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(6) في س، ق: ((التفريق)) وهو تحريف.
(7) في ن: ((المفهوم)) ولا مفهوم لها هنا.
(8) في ن: ((التقدير)) .

(2/108)


لم يكن ذلك حكماً شرعياً بل إخْبارٌ عن عدم الحكم (1) .
والجنوح إلى مفهوم الصفة هو (2) قول القاضي عبد الجبار، وهو مع تدقيقه قد فاته هذا الموضع (3) .
ومثال ما لا يجزئ بعد الزيادة: أن الصلاة فُرضتْ مَثْنَى مَثْنَى كما جاء في الحديث (4) ، فلما زيد في صلاة الحضر ركعتان، بقيت الركعتان الأوليان (5) لا تجزئان (6) بدون هذه الزيادة.
ومثال ما يجزئء منفرداً بعد الزيادة: زيادة التغريب بعد الجلد (7) ، فإن الإمام لو
_________
(1) في كلام المصنف هذا نظر - والله أعلم - لأنه ممن يرى أن مفهوم المخالفة أو دليل الخطاب حجة، فالحكم المستفاد منه يكون شرعياً لا عقلياً، ولهذا قال الآمدي: ((هذا على القول بإبطال دليل الخطاب، وإن سلمنا أن دليل الخطاب حجة، وأنه يدل على نفي الزكاة عن المعلوفة، فلا يخفى أن وجوب الزكاة فيها يكون رافعاً لما اقتضاه دليل الخطاب فيكون نسخاً)) . الإحكام 3 / 172. على أن القول بالنسخ يمكن أن يُدْفع بأن يُعْتبر قوله ((في الغنم - مطلقاً - الزكاة)) عاماً عَارَضَ مفهومَ قولِهِ ((في الغنم السائمة زكاة)) ، فمن العلماء من يخصِّص العمومَ بالمفهوم، وفي هذا إعمالٌ للدليلين، ومنهم من يقدِّم العام لأنه منطوق ولا يَعْمل بالمفهوم لأنه أضعف. انظر: شرح التنقيح (المطبوع) ص 215، 270، وانظر: نثر الورود للشنقيطي 1 / 307.
(2) ساقطة في س.
(3) هذا وهم - والله أعلم - من المصنف، لأن مذهب القاضي عبد الجبار هو المذهب الرابع وهو: إذا لم يُجْزئ الأصل بعد الزيادة فنسخ وإلا فلا. كما حكاه عنه جمع كثير من الأصوليين. انظر: المعتمد
1 / 405، المحصول للرازي 3 / 264، الإحكام للآمدي 3 / 261، الإبهاج للسبكي وابنه 2/285. علماً بأن القاضي عبد الجبار وجمهور المعتزلة لا يقولون بمفهوم الصفة ولا الشرط أصلاً. انظر: المعتمد
1 / 142، 154.
(4) وهو حديث عائشة رضي الله عنها قالت: فرض الله الصلاة حين فرضها ركعتين ركعتين في الحضر
والسفر، فأُقِرَّتْ صلاة السفر، وزيد في صلاة الحضر. رواه البخاري (350) واللفظ له، ورواه مسلم
(685) .
(5) في ق، ن: ((الأولتان)) والصواب المثبت كما سبق تعليله في هامش (4) ص (106) .
(6) في س: ((لا يجزئان)) والصواب المثبت؛ لأن تاء التأنيث تلْزَم الفعل إذا كان فاعله المؤنث ضميراً متصلاً. قال ابن مالك في الألفية: وإنما تلْزَمُ فِعْلَ مُضْمَرِ مُتَّصِلٍ أو مُفْهِمٍ ذاتَ حِرِ
انظر: شرح ابن عقيل 1 / 228.
(7) انظر: مفتاح الوصول للشريف التلمساني ص 599، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص 51. وانظر: المبسوط للسرخسي 9 / 43، الذخيرة للقرافي 12 / 88، الحاوي الكبير للماوردي 13/ 193، المغني لابن قدامة 12 / 322.

(2/109)


اقتصر على الجلد واسْتَفْتى بعد ذلك، فقيل له: لابد من التغريب، فإنه لا يحتاج إلى إعادة الجلد مرةً أخرى، بخلاف المُصلِّي يحتاج إلى إعادة الجميع، ووجه الفرق على هذا المذهب: أن الأصل إذا لم يُجْزيءْ بعد الزيادة اشتدَّ التغيير فكان نسخاً، بخلاف القسم الآخر، التغيير فيه قليل.
وأما على أصلنا فهذه (1) الصور كلها ليست نسخاً، أما التغريب فلأنه رافع [لعدم وجوبه] (2) ، وعدم الوجوب حكم عقلي، [ورفع الحكم العقلي ليس] (3) نسخاً. وتقييد الرقبة بالإيمان رافع (4) لعدم لزوم تحصيل الإيمان فيها (5) ، وذلك حكم عقلي، وإباحة قطع الساق في الثانية (6)
ليست نسخاً، لأنه رافع لعدم الإباحة وهو حكم عقلي فلا يكون نسخاً.
فإن قلتَ: الآدميُّ وأجزاؤه محرَّم مطلقاً، وهذا التحريم حكم شرعي فيكون نسخاً [لِمَا رُفِع] (7) .
قلتُ: لنا هاهنا مقامان، أحدهما: أن ندَّعي أن الأصل في الآدمي وغيره عدم الحكم لا تحريم ولا إباحة؛ لأنه الأصل في أجزاء العالم كلها حتى وردت الشرائع،
_________
(1) في س: ((هذه)) وهو خطأ؛ لعدم اقترانها بالفاء في جواب الشرط. انظر هامش (2) ص (79) .
(2) في س: ((للعدم)) .
(3) في ق: ((ورفعه لا يكون)) .
(4) في ن: ((رافعاً)) ولست أعلم لانتصابها وجهاً.
(5) انظر الخلاف في اشتراط الإيمان في الرقبة في: بدائع الصنائع للكاساني 6 / 396، رد المحتار ابن عابدين
5 / 135، الذخيرة للقرافي 4 / 64، شرح الزرقاني على مختصر خليل 4 / 175، الحاوي الكبير للماوردي 10 / 461، الروض المربع للبهوتي ص 417، المغني لابن قدامة 13 / 517.
(6) تقطع يد السارق في المرة الأولى عملاً بقوله تعالى: {وَالسَّارِق وَالسَّارِقَة فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا} [المائدة: 38] ، فإذا سرق مرة ثانية تقطع رجله اليسرى، وفي المرة الثالثة خلاف في القطع أو الحبس.

انظر الخلاف في المسألة: شرح فتح القدير لابن الهمام 5 / 382، الذخيرة 12 / 197، الحاوي الكبير للماوردي 13 / 321، المغني لابن قدامة 12 / 439، 446.
(7) في س: ((لأنه ارتفع)) وهو ساقط من ق.

(2/110)


كما تقرَّر أنه لا حكم للأشياء قبل الشرائع (1) ،
فعلى هذا الإباحة رافعة لعدم الحكم لا للتحريم فلا يكون نسخاً. أو نُسلِّم التحريم (2) ، ونقول حكمه التحريم* بمقتضى آدميَّته وشرفه من غير نظر إلى الجنايات، وهذا التحريم باقٍ، ولا تنافي بين تحريمه (3) من حيث هو هو (4) ، وإباحته من جهة الجنايات، كما أن إباحة الميتة من جهة الاضطرار لا تكون نسخاً للتحريم الثابت لها من حيث هي هي، وإنما يحصل التنافي أن لو أبحناه (5) من حيث هو هو، وأبحنا (6) الميتة من حيث هي ميتة، وإذا لم يحصل التناقض لا يكون نسخاً [فلا تكون إباحة يده مع الجناية نسخاً] (7) بل رفعاً (8) لعدم الحكم، فإن أحكام الجناية لم تكن مرتَّبةً (9) ، ثم (10) صارت مرتَّبةً (11) .
_________
(1) حكم الأشياء قبل ورود الشرع، إما أن يكون اضطرارياً كالتنفس في الهواء وغيره، فهذا لابد من القطع بأنه غير ممنوع، وإما أن لا يكون اضطرارياً كأكل الفاكهة ونحوها، فهذا فيه خلاف على أقوال، ذكر المؤلف أحد الأقوال وهو التوقف أو عدم الحكم في الأعيان قبل ورود الشرع. والثاني: أنها على
الإباحة، والثالث أنها على التحريم، والرابع: تحكيم العقل بناء على التحسين والتقبيح العقليين.

واعلم بأنه لا فائدة من عقد هذه المسألة إذ مجيء الشرع كافٍ في معرفة حكم هذه الأشياء، كما أن الأرض لم تخْلُ من نبي مرسل قال الله تعالى: {وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خلا فِيهَا نَذِير} [فاطر: 24] وقد تظهر فائدتها عند من نشأ في جزيرة أو بَرِّية مقطوعة ولم يَعرفْ شرعاً. انظر بحث المصنف لهذه المسألة في كتابه هذا شرح التنقيح (المطبوع) ص 88، 92، وانظر: كشف الأسرار للبخاري 3 / 193، الإبهاج للسبكي وابنه 1 / 142، شرح الكوكب المنير 1 / 323.
(2) هذا المقام الثاني.
(3) في س، ن: ((التحريم له)) .
(4) ساقطة من ن.
(5) في ن: ((أبحنا)) والمفعول به يُعلم من المقام أنه: الآدمي.
(6) في ق: ((حل)) .
(7) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(8) في ن: ((رفعٌ)) وهو جائزٌ أيضاً، باعتباره خبراً لمبتدأ محذوفٍ تقديره: هو. والمثبت أقعد، وهو على اعتبار أن " بل " عاطفة؛ لمجيء اسم مفرد بعدها. انظر: شرح الأشموني على ألفية ابن مالك بحاشية الصبان ص 3 / 167.
(9) في ق: ((مترتبة)) .
(10) ساقطة من ن.
(11) في ق: ((مترتبة)) .

(2/111)


وكذلك التخيير بين الواجب وغيره ليس نسخاً (1) ؛ لأنه إذا قيل لك: لِمَ لا تتخير بين صلاة الظهر وصدقة درهم؟ تقول (2) : لأن البدل لم يشرع، فيشير (3) إلى عدم المشروعية، وعدم المشروعية حكم عقلي، فمتى خُيِّر* بين واجب وغيره فقد رفع عدم مشروعية ذلك البدل فقط.
ووجوب الصوم إلى الشفق يرفع عدم الوجوب من المغرب إلى الشفق، فهو حكم عقلي (4) ، وبهذه التقريرات (5) يتضح لك ما هو نسخ مما ليس بنسخ، فتأملها.
حكم النقص من النص
ص: ونقصان العبادة نسخ (6)
لما سقط دون الباقي إن لم يتوقَّفْ (7) ، وإن توقَّف
_________
(1) مثَّل له كثير من الأصوليين كما لو أوجب الله غسل الرجلين ثم خير بين الغسل والمسح على الخفين، فلا يكون هذا التخيير نسخاً لوجوب الغسل، لأن عدم التخيير، إنما هو لعدم مشروعية المسح، وعدم المشروعية حكم عقلي. انظر: المحصول للرازي 3 / 368، الإحكام للآمدي 3 / 174، رفع النقاب للشوشاوي القسم 2 / 455.
(2) في ن: ((يقول)) .
(3) ساقطة من ن.
(4) انظر: نفائس الأصول للمصنف 6 / 1524.
(5) في ن: ((التقديرات)) .
(6) هذه مسألة: ((النقص من النص)) وقد كتب فيها شيخنا الدكتور عمر بن عبد العزيز بحثاً بديعاً فريداً
فانظره. قال الشيخ حلولو: ((أشار غير واحد إلى أن الخلاف الذي في الزيادة جار في نقص جزء من العبادة أو شرطها)) . التوضيح شرح التنقيح ص 272.

محل النزاع: اتفق العلماء على أن نسخ ما لا تتوقف العبادة عليه يكون نسخاً له دون باقي العبادة، كما لو قال: أوجبت عليك الصلاة والزكاة، ثم قال: نسخت الزكاة. كما اتفقوا على أن نسخ جزءٍ من العبادة - كركعةٍ من ركعاتها أو شرطٍ كالطهارة أو استقبال القبلة - يكون نسخاً لذلك الجزء أو الشرط. ثم اختلفوا في باقي العبادة - المنقوص منها - هل يتناوله النسخ أم يبقى على ما كان عليه من الحكم السابق؟ اختلفوا على أقوالٍ ثلاثة، ذكر المصنف قولين هما، الأول: أن نقصان العبادة ليس نسخاً لأصلها مطلقاً، والثاني: نسخ جزء العبادة نسخ لها دون الشرط. أما الثالث: فهو إن نقصان العبادة يكون نسخاً لأصلها وهو مذهب بعض المتكلمين وبعض الحنفية. انظر: الفصول في الأصول للجصاص 2 / 280، المعتمد 1 / 414، العدة لأبي يعلى 3 / 837، إحكام الفصول ص 409، شرح اللمع للشيرازي 1 / 524، المستصفى 1 / 221، المحصول للرازي 3 / 373، تحفة المسؤول للرهوني القسم 2/ 545، شرح الكوكب المنير 3 / 585، تيسير التحرير 3 / 220، فواتح الرحموت 2 / 117، منهج التحقيق والتوضيح لمحمد جعيط 2 / 119.
(7) في متن هـ: ((تتوقف)) وهو خطأ، لأن الفاعل ضمير عائد على " الباقي " وهو مذكر. انظر: شرح قطر الندى لابن هشام ص 170. والمعنى المراد من العبارة هو: أن نسخ بعض العبادة وبقاء بعضها الآخر إن لم تتوقف صحة الباقي على الساقط فلا يكون نسخ الساقط نسخاً للباقي.

(2/112)


قال القاضي عبد الجبار: هو نسخ في الجزء دون الشرط (1) ، واختار الإمام
فخر الدين والكَرْخِي (2) عدم النسخ (3) .

الشرح
مثال نسخ مالا تتوقف عليه العبادة: نسخ الزكاة بالنسبة للصلاة، فإنه لا يكون نسخاً (4) . مثال الجُزْء: ركعة من الصلاة. مثال الشَّرْط: الطهارة مع الصلاة (5) .
لنا: أنَّ إيجاب ذلك كله (6) يجري مجرى إثبات الحكم للعموم، وكما أن إخراج بعض صور العموم لا يقدح، فكذلك هاهنا (7) .
احتجوا بأن نسخ هذه الركعة مثلاً يقتضي نفي عدم إجْزاء الركعة الباقية، فإنها كانت ما تجزيء ثم صارت تجزيء، ويقتضي رفع وجوب تأخير التشهد إلى بعد الركعة المنسوخة، فإنه ما بقي ذلك بعد النسخ، بل يتعجَّل (8) التشهد عقيب الباقي بعد
_________
(1) وبنحو هذا التفصيل قال القاضي الباقلاني وصححه الباجي. انظر: إحكام الفصول ص 409، الإشارة للباجي ص 387، التلخيص للجويني 2 / 5306، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 408، إرشاد الفحول
2 / 118.
(2) هو عبيد الله بن الحسين بن دلال، المعروف بأبي الحسن الكرخي نسبة إلى كَرْخٍ بالعراق، انتهت إليه رئاسة الحنفية، وقد عدُّوه من المجتهدين في المسائل، كان عابداً متعففاً، من تلاميذه: أبو بكر الجصاص، وابن شاهين، من تآليفه: رسالة في الأصول، المختصر في الفقه، شرح الجامع الصغير. ت 340 هـ. انظر: تاج التراجم في طبقات الحنفية لابن قطلوبغا ص 39، الفوائد البهية في تراجم الحنفية للكنوي
ص 108، وقد جمع شيخنا الدكتور حسين الجبوري أقوال الكرخي الأصولية في رسالة منيفة.
(3) وهو مذهب الجمهور من الفقهاء والمتكلمين. انظر المراجع السابقة في أول المسألة، هامش (6)
ص 112.
(4) لأن كل واحدة منهما عبادة مستقلة، لا تفتقر صحتها إلى الأخرى. انظر: رفع النقاب القسم 2/458.
(5) هذا مثال الشرط المنفصل عن العبادة. ومثال الشرط المتصل بها: كاستقبال القبلة للصلاة. وقد حكى المجد بن تيمية الإجماع على أن الشرط المنفصل ليس نسخاً. وحكاية الإجماع محل نظر. انظر: المسودة ص 212، نهاية الوصول للهندي 6 / 2408، البحر المحيط للزركشي 5 / 316.
(6) معنى هذا: أن إيجاب الحكم لجميع العبادة.
(7) انظر مزيد توضيحٍ لهذه الحجة في: الكاشف عن المحصول للأصفهاني 5 / 340، رفع النقاب القسم
2 / 460.
(8) في ق: ((بتعجيل)) .

(2/113)


النسخ، وكانت الركعة الباقية (1) تجزيء إذا فعل معها المنسوخة، والآن وجب علينا إخلاء الصلاة منها، والإجْزاء حكم شرعي (2) .
والجواب: أن عدم الإجزاء يرجع إلى إيجاب الركعة الثانية، ونحن قد سلمنا أنه انتسخ (3) ، إنما نتكلَّم في الركعة الباقية. وأما تأخير التشهد، فالتشهد لم يشرع عقيب ركعتين ولا ركعة بل آخر الصلاة، [وما زال يجب آخر الصلاة] (4) ، فما حصل نسخ، وكذلك إجْزاء الصلاة مع المنسوخة كان تابعاً لوجوبها، [ونحن نسلم أن
وجوبها] (5) نسخ، إنما النزاع فيما بقي (6) .
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) انظر هذه الحجج ومناقشها في المستصفى 1 / 221، التمهيد لأبي الخطاب 2 / 409، بذل النظر للأسمندي ص 360، الإحكام للآمدي 3 / 178، فواتح الرحموت 2 / 117.
(3) في ق: ((نسخ)) .
(4) ساقط من ن.
(5) ما بين المعقوفين ساقط في س.
(6) انظر: المحصول للرازي 3 / 374، الإحكام للآمدي 3 / 178.

(2/114)


الفصل الخامس
فيما يُعْرف به النسخ
ص: يُعْرف بالنصِّ على الرَّفْع (1) أو على ثبوت النقيض أو الضدِّ (2) ،
ويُعْلَم التاريخ (3) : بالنص على التأخير، أو السَّنَة، أو الغزوة، أو الهجرة، ويُعْلَم نسبة ذلك إلى زمان الحكم، أو برواية من مات قبل رواية الحكم الآخر (4) .
قال القاضي عبد الجبار (5) : قولُ الصحابي في الخبرين المتواترين هذا قَبْل ذلك مقبول (6) ، وإن لم يُقْبَل قوله في نسخ (7) المعلوم (8) ، كثبوت
_________
(1) هذا هو الطريق الأول من طرق معرفة الناسخ والمنسوخ؛ أن ينص الشارع على النسخ كما في قوله تعالى في آية المصابرة: {الآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنكُمْ} [الأنفال: 166] ، أو قوله عليه الصلاة والسلام:
((نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ... )) رواه مسلم (977) .
(2) الفرق بين الضِّدَّيْن والنقيضين أن الضدَّيْن وصفان وجوديان يتعاقبان موضعاً واحداً يستحيل اجتماعهما، ولكن قد يرتفعان، كالسواد والبياض لا يجتمعان في مكانٍ واحدٍ لكن يمكن أن يكون الشيء لا أسود ولا أبيض بل أخضر مثلاً. أما النقيضان فيستحيل اجتماعهما وارتفاعهما كالعدم والوجود والحركة

والسكون. انظر: التعريفات للجرجاني ص 179 مادة " ضدان ".
(3) ساقطة من ن. وهذا هو الطريق الثاني، وهو: أن يأتي نص بنقيض الحكم الأول أو بضده ويعلم التاريخ، ولم يمكن الجمع بينهما. مثال النقيض: في آيتي المصابرة من الأنفال 165 - 166، نسِخ ثباتُ الواحد للعشرة، فالتخفيف نقيض للثقل، ووقوف الواحد للاثنين نقيض وقوفه للعشرة. ومثال الضد: تحويل القبلة من جهةٍ إلى أخرى، فالتوجه إلى الكعبة ضد التوجه إلى بيت المقدس. انظر: المحصول للرازي 3 / 377، رفع النقاب القسم 2 / 462. ثم إن معرفة التاريخ تكون بأمور، ذكر المصنف منها ستة.
(4) وتوضيح هذه العبارة هو: أن يروي أحدَ الحكمين رجلٌ متقدِّم الصحبة، ويروي الآخرَ رجلٌ متأخِّر الصحبة، فتنقطع صحبة الأول - بموتٍ مثلاً - عند ابتداء الآخر بصحبته، فهذا يقتضي أن يكون خبر الأول متقدِّماً. أما لو دامت صحبة الأول مع الرسول صلى الله عليه وسلم لم يصح هذا الاستدلال. انظر: المعتمد
1 / 417، المحصول 3 / 378، شرح مختصر الروضة للطوفي 2 / 344.
(5) انظر قوله في: المعتمد 1 / 417، المحصول 3 / 379، البحر المحيط للزركشي 5 / 320.
(6) قال غيره: لا يقبل، لأنه يقتضي نسخ المتواتر بخبر الواحد. انظر: الإحكام للآمدي 3 / 181، رفع النقاب القسم 2 / 468.
(7) ساقطة في س.
(8) في س: ((العموم)) وهو تحريف.

(2/115)


الإحْصان (1) بشهادة اثنين بخلاف الرجم وكشهادة النساء في الولادة دون
النسب (2) .
وقال الإمام فخر الدين (3) : قول الصحابي ((هذا منسوخ)) لا يُقْبل؛ لجواز أن يكون اجتهاداً منه، وقال الكَرْخي: إنْ قال ((ذا (4) نسخ ذاك)) لم يُقْبَل (5) ،
وإنْ قال: ((هذا منسوخ)) قُبل؛ لأنه لم يُخَلِّ للاجتهاد مجالاً فيكون قاطعاً به (6) ، وضعَّفه الإمام (7) .
_________
(1) الإحْصَان: مصدر أحْصَن، تقول: أحْصَن الرجلُ إذا تزوّج، والفقهاء يزيدون على هذا: مَنْ وَطِئ في نكاحٍ صحيحٍ، فهذا مُحْصِن ومُحْصَن. وأصل الإحْصَان: المنع، وله معانٍ منها: الإحصان المُوْجب رَجْمَ الزاني، والعفة، والحرية، والتزويج، والإسلام. انظر: المصباح المنير مادة " حصن "، تحرير ألفاظ التنبيه للنووي ص 323، الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي لابن المبرد الحنبلي 3/ 746.
(2) هذا تنظيرٌ للمسألة، كأنَّ سائلاً يقول: كيف قبلتم قوله في نسخ أحد المتواترين للآخر وقوله آحاد؟ . فالجواب: لا جَرَمَ في قبول شهادة شاهدين لإثبات الإحصان مع أنه يترتب عليه الرجم، ولا تقبل شهادتهما في إثبات الرجم نفسه، وكذلك يقبل قول القابلة في نسبة الولد لإحدى المرأتين ويترتب عليه ثبوت النسب لصاحب الفراش، مع أن شهادة المرأة لا تقبل ابتداء في ثبوت النسب.
قال المصنف في النفائس 6 / 2535: ((التقدم شرط النسخ، والإحصان شرط اعتبار الرجم، والولادة شرط ثبوت النسب، فقاس أحدهما على الآخر)) .
(3) انظر المحصول 3 / 379.
(4) في س: ((هذا)) .
(5) أي: إذا عيَّن الراوي النَّاسخَ لم يُقْبل؛ لأنه يجوز أن يكون قاله اجتهاداً. انظر: المحصول للرازي

3 / 381، التوضيح لحلولو ص 273.
(6) هذه مسألة: قول الصحابي: هذا منسوخ، أو هذا نسخ هذا، هل يقع به النسخ؟ فيها ثلاثة أقوال، الأول: يقع مطلقاً وهو للحنفية. الثاني: لا يقع مطلقاً وهو للأكثرين. الثالث: التفصيل، إذا عيّن الناسخ لم يقبل وإلا قُبل، وهو للكرخي. انظر: المعتمد 1 / 418، العدة لأبي يعلى 3 / 835، إحكام الفصول ص 427، نهاية الوصول للهندي 6 / 2417، التقرير والتحبير 3 / 78، تيسير3 / 222.
(7) وجه تضعيفه كما قال: لعلّه قاله - أي الصحابي - لقوة ظنّه في أن الأمر كذلك، وإن كان قد أخطأ فيه. انظر: المحصول 3 / 381، نهاية الوصول للهندي 6 / 2416.

(2/116)


الشرح
متى ثبت نقيضُ الشيء أو ضدُّه انتفى، فكان ذلك دليل الرفع. وأما النص
على السَّنَة (1) بأن يقول: كان (2) هذا التحريم سَنَةَ خَمْسٍ، ونعلم (3) أن الإباحة سَنَةَ
سَبْعٍ، فتكون الإباحة ناسخة لتأخُر تاريخها، وإن قال: في غزوة كذا، كان (4)
ذلك كتعيين السَّنَة، فإن الغزوات معلومة السنين، وينظر نسبة ذلك لزمان الحكم فينسخ المتأخر المتقدم، وكذلك إذا قال قبل الهجرة أو بعدها تتبيّن السَّنَة أيضاً.
ونظيرُ قولِهِ: [هذا منسوخ فيقبل] (5) لأنه لم يُخَلِّ للاجتهاد مجالاً قولُهم في الخبر المُرْسَل (6) : هو أقوى من المُسْند (7) عند بعضهم (8) ، لأنه إذا بيَّن (9) السند ورجاله (10) فقد جعل ذلك مجالاً في الاجتهاد في عدالتهم، أما إذا سكت عنه فقد التزمه في ذِمَّتِهِ، فهو أقوى في العدالة ممن لم يلتزم (11) .
_________
(1) في س: ((النسبة)) وهو تحريف.
(2) ساقطة من ق.
(3) في ن: ((يُعْلم)) .
(4) في ق: ((فإن)) .
(5) ساقط من ق.
(6) انظر تعريفه في هامش (3) ص (288) .
(7) المُسْند لغة: المرفوع اسم مفعول من أسند بمعنى: رفع. انظر: لسان العرب مادة " سند ". اصطلاحاً: هو ما اتصل سَنَدُه مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم. انظر: الباعث الحثيث لأحمد شاكر 1 / 144، تدريب الراوي للسيوطي 1 / 199.
(8) انظر بحث كون المرسل أقوى من المسند في: هامش (8) ص (289) .
(9) في ق: ((تبيّن)) .
(10) ساقطة من ق.
(11) هناك طرق أخرى يعرف بها النسخ، وطرق ملغاة في اعتبار الناسخية لم يتعرَّض لها المصنف فانظرها في: الإحكام لابن حزم 1 / 497، شرح اللمع للشيرازي 1 / 516، الإحكام للآمدي 3 / 181، تقريب الوصول لابن جزي ص 317، التوضيح شرح التنقيح لحلولو ص 273، شرح الكوكب المنير
3 / 563، تيسير التحرير 3 / 222، فواتح الرحموت 2 / 119.

(2/117)