جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول

الباب الخامس عشر
في الإجماع
وفيه خمسة فصول:

(2/118)


الفصل الأول
في حقيقته (1)
ص: وهو (2) اتفاق أهل الحلِّ والعَقْد من هذه الأمة في أمرٍ من الأمور (3) .
ونعني بالاتفاق: الاشتراك إما في القول أو (4) الفعل أو (5) الاعتقاد.
وبأهل الحَلِّ والعَقْدِ: المجتهدين في الأحكام الشرعية (6) . وبأمرٍ من الأمور:
_________
(1) لحقيقة الإجماع اللغوية عدة معانٍ منها:
1 - العزم والتصميم. تقول: أجمعت على السفر، أي: عَزَمْت عليه وأزمَعْته.
2 ـ الاتفاق. تقول: أجمع القوم على كذا. أي: اتفقوا عليه.
3 - الصيرورة إلى الجمع، تقول: أجمع الرجل؛ إذا صار ذا جَمْع. مثل: ألْبَن وأتْمَر إذا صار ذا لبن وذا تمر وسيذكر المصنف هذا المعنى في آخر شرحه لهذا المتن. انظر: لسان العرب، تاج العروس كلاهما مادة " جمع ".
(2) في متن هـ: ((وهي)) ويكون مرجعه إلى: حقيقة.
(3) هذا تعريف الرازي وسار عليه المصنف والبيضاوي. انظر: المحصول 4/19، شرح البدخشي 2/377.
وفي هذا التعريف نظر، إذ ينبغي أن يزاد فيه قيدان، الأول: في عصر من العصور. لأن قوله: " اتفاق " اسم جنس أضيف إلى أهل الحل والعقد، فيعمُّ جميعهم إلى يوم القيامة، وهو باطل. والمصنف استدرك هذا القيد على الرازي في النفائس (6 / 2544) ولم يذكره هنا. القيد الثاني: بعد وفاة محمد صلى الله عليه وسلم، لأن أكثر العلماء على أن الإجماع لا يكون حجة في عصره صلى الله عليه وسلم، لأنه إن وافقهم كان قوله هو الحجة لاستقلاله بإفادة الحكم، وإن خالفهم لم ينعقد الإجماع بدونه. انظر: هامش (3) ص (97) . وانظر تعريفات أخرى للإجماع في: جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني 2/ 176، الإحكام للآمدي 1/195، منتهى السول والأمل ص 52، نهاية الوصول للهندي 6/2422، كشف الأسرار للبخاري 3/424، المختصر في أصول الفقه لابن اللحَّام ص 74، نشر البنود 2/75، حُجِيَّة الإجماع د. محمد فرغلي ص22.
(4) في ن زيادة: ((في)) .
(5) في ن زيادة: ((في)) .
(6) قال حلولو: ((عبَّر المصنف عن المجتهدين بأهل الحل والعقد، والأول أخص في العبارة، وأفيد للمعنى المقصود، فإن أهل الحل والعقد قد لا يكونون مجتهدين)) التوضيح شرح التنقيح ص274.

(2/119)


الشَّرْعِيَّات (1) والعَقْلِيَّات (2) والعُرْفِيَّات (3) .
الشرح
قال إمام الحرمين في " البرهان " (4) : ((لا أثر للإجماع في العقليات (5) ،
فإن المعتبر فيها الأدلة القاطعة، فإذا انتصبت لم يعارضْها شِقَاقٌ ولم يَعْضُدْها وفَاقٌ، وإنما يعتبر الإجماع في السمعيات)) .
((وإذا أجمعوا على فعلٍ نحو: أكلهم الطعام دلَّ إجماعهم على إباحته، كما يدل أكله عليه الصلاة والسلام على الإباحة، ما لم تقم (6) قرينة دالة على الندب أو (7) الوجوب)) (8) . فهذا تفصيل حسن.
_________
(1) كوجوب الصلاة والزكاة وتحريم الخنزير وحل البيع.
(2) كنفي الشريك عن الله تعالى وحدوث العالم وجواز رؤية الله تعالى.
(3) وهي العاديات كإباحة الأغذية النافعة كالخبز، وتحريم الأغذية الضارَّة كالسُّم. والذي في المحصول (4/21) : اللُّغَويَّات بدلاً من العرفيات، ولم يذكرها المصنف، والإجماع في اللغويات نحو: اتفاقهم على أن الفاء للترتيب والتعقيب. وكذلك يقع الإجماع في الدنيويات كالآراء والحروب وتدبير أمور الرعية. واعتبار الإجماع واقعاً في كل هذه الأمور ـ عند من لم يخصصه بالشرعيات فقط ـ إنما كان لأن تلك الأمور العقلية واللغوية والعرفية والدنيوية راجعة إلى الشرع، لأنها قد تترتب عليها أحكام شرعية، فيكون الإجماع فيها حجةً باعتبار ما يترتب عليها لا باعتبار ذاتها. أما مسألة شمول الإجماع للشرعيات واللغويات فمحلّ إجماع، وأما انعقاده في العقليات والدنيويات والعرفيات فمحل خلاف. انظر: ميزان الأصول للسمرقندي ص 765، الإبهاج للسبكي وابنه 2/349، الآيات البينات للعبادي 3/390، التوضيح لصدر الشريعة مع التلويح للتفتازاني 2 / 95، منهج التحقيق والتوضيح لمحمد جعيط 2/120، الجواهر الثمينة للمشاط ص 190.
(4) انظر: البرهان 1 / 458. وانظر: التلخيص لإمام الحرمين أيضاً 3 / 52.
(5) مسألة انعقاد الإجماع في العقليات محل خلافٍ، وسيبحثها المصنف في الفصل الخامس: في المجمع عليه

ص (182) . لكن يقال هنا: كون الدليل القاطع فيه كفايةٌ في إفادة العلم في العقليات لا يقتضي عدم حجية الإجماع في بعض المسائل العقلية. ولا مانع من تعدد الأدلة في إفادة مدلولٍ واحدٍ. انظر: سلم الوصول للمطيعي 3 / 238.
(6) في ق: ((يقم)) والمثبت أرجح. انظر: هامش (11) ص 27.
(7) في ن: ((و)) وهو خطأ، لأن القرينة لا تكون دالة على الندب والوجوب في آنٍ واحدٍ.
(8) هذه العبارة على مسألة أخرى، وهي: اتفاق أهل الإجماع على فعلٍ أو عمل، وهي في البرهان للجويني 1/456 ـ 457 الفقرات 660، 661، 662. وقد اختصرها المصنف هنا اختصاراً شديداً وبتصرف.

(2/120)


قال القاضي عبد الوهاب في " الملخص " (1) : اُخْتُلف في انعقاد الإجماع في العقليات، فقيل: لا يُعْلم بالإجماع عقلي؛ لأن العلوم العقلية (2) يجب تقديمها على السمعيات التي هي أصل الإجماع.
وقال القاضي أبو بكر رحمه الله (3) : ((العقليات قسمان: ما يُخِلُّ الجهلُ به بصحة الإجماع والعلم به كالتوحيد والنبوة ونحوهما، فلا يثبت بالإجماع (4) ، وإلا جاز ثبوته بالإجماع، كجواز رؤية الله تعالى، وجواز (5) العفو عن الكبائر، والتعبد بخبر الواحد، والقياس ونحو ذلك)) . (6) وقال أبو الحسين في " المعتمد " (7) : ((لا يجوز اتفاقهم على القول والفعل والرضا ويخبرون (8) عن (9) الرضا في أنفسهم، فيدل على حسن ما رضوا به، وقد يجمعون (10) على ترك القول [وترك] (11) الفعل فيدل (12) على أنه غير واجب، ويجوز أن يكون ما تركوه مندوباً إليه، لأن تركه غير محظور)) . فهذه التفاصيل أولى من التعميم الأول (13) وهو قول الإمام فخر الدين في " المحصول " (14) .
_________
(1) لم اهتد إلى توثيق هذا النقل في سائر كتب الأصول.
(2) في س: ((العلقلية)) وهو تحريف.
(3) انظر قوله هذا في البحر المحيط للزركشي 6 / 492.
(4) انظر بحث هذه المسألة في الفصل الخامس ص (182) .
(5) ساقطة من ق.
(6) هذا شرح المصنف على قوله في المتن: ((ونعني بالاتفاق: الاشتراك، إما في القول أو الفعل أو الاعتقاد)) .
(7) انظر: المعتمد 2 / 23 بمعناه.
(8) في ن: ((ويخبروا)) ولا وجه له لعدم الجازم أو الناصب، ولكن من النحاة من أجاز نصب الفعل على تقدير " أن " المحذوفة، وذكروا شواهد على ذلك. ونقل السيوطي عن أبي حيان: أن الصحيح قصره على السماع، فلا ينبغي أن يُجعل ذلك قانوناً كُلياً يقاس عليه. انظر: همع الهوامع 2 / 323، وانظر: شرح المفصّل لابن يعيش 7 / 8، 52.
(9) ساقطة من س.
(10) في ن: ((يجمعوا)) انظر: التعليق في الهامش قبل السابق، وفي ق: ((وإن أجمعوا)) بدلاً من قوله:
((وقد يجمعون)) .
(11) في ق: ((أو)) .
(12) في ق: ((دل)) .
(13) ساقطة من ن.
(14) وهو قوله: ((ونعنى بالاتفاق: الاشتراك، إما في القول أو الفعل أو الاعتقاد)) . انظر: المحصول للرازي 4 / 20.

(2/121)


حكم إجماع الأمم السالفة
وقال إمام الحرمين في " البرهان " (1) : ((اختلف الأصوليون في الإجماع في الأمم السالفة هل كان حجة؟ ً (2) فقيل: لا، وهو من خصائص هذه الأمة (3) ، وقيل: إجماع كلِّ أمةٍ حجةٌ، ولم يزل ذلك في الملل. وقال القاضي: لست أدري كيف كان (4) الحال؟)) .
قال الإمام (5) : ((والذي أراه أن أهل الإجماع إن قطعوا بقولهم في كل أمة فهو حجة؛ لاستناده إلى حجةٍ قاطعةٍ، لأن العادة لا تختلف في الأمم، وإن كان المستند مظنوناً فالوجه الوقف)) .
قال الشيخ أبو إسحاق في " اللُّمَع " (6) : ((الأكثرون على أن إجماع غير (7) هذه الأمة ليس بحجة*. واختار الشيخ أبو إسحاق الإسْفَرَاييني أنه حجة)) (8) .
_________
(1) انظر: البرهان 1 / 458.
(2) هذا تفريع للقيد المذكور في التعريف: ((من هذه الأمة)) . هل إجماع الأمم السابقة حجة أم لا؟ ذكر المصنف أربعة أقوال: أنه حجة، ليس بحجة، الوقف، التفصيل. قال الأبياري بتصرفٍ: ((ينبغي أن ينظر في هذه المسألة؛ هل لها فائدة في الأحكام وإلا فهي جارية مجرى التاريخ، كالكلام فيما كان عليه الصلاة والسلام قبل البعثة؟ والصحيح عندي بناؤها على أن شرع من قبلنا شرع لنا أم لا؟ فإن ثبت أنه شرع لنا، افتقر النظر في إجماعهم؛ هل كان حجة عندهم أم لا؟)) . التحقيق والبيان في شرح البرهان ص (965 - 966) . وقال ابن السبكي في الإبهاج 2/349 ((وإن وجب العمل به فيما مضى، لكن انتسخ حكمه منذ مبعث النبي صلى الله عليه وسلم)) .
(3) كرامةً لهذه الأمة، فإن اليهود والنصارى والمجوس قد أجمعوا على أشياء كانت باطلة. انظر: الغنية في الأصول لفخر الأئمة السجستاني ص (31) . والسر في اختصاص هذه الأمة بالصواب في الإجماع أنهم الجماعة بالحقيقة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم بُعِث إلى الكافَّة، والأنبياء يبعث كل نبي إلى قومه خاصة. انظر: البحر المحيط للزركشي 6 / 396.
(4) في ق: ((كانت)) ، وهو صواب أيضاً، لأن " الحال " تذكَّر وتؤنث، فيقال: حال حسن، وحال حسنة. وقد يؤنث بالهاء فيقال: حالة. وحال الإنسان أنثى، والحال من كل شيء مذكَّر. انظر: المذكر والمؤنث للأنباري ص 307، مادة " حول " في: لسان العرب، تاج العروس.
(5) إذا أطلق " الإمام " انصرف الذهن إلى الإمام فخر الدين الرازي. لكن هذا القول ليس له، وليس في كتبه: المحصول والمنتخب والمعالم. وإنما هو قول إمام الحرمين في البرهان (1 / 459) فقرة: 666. وانظر: شرح الكوكب المنير 2 / 236.
(6) انظر: اللمع ص 186، وشرح اللمع له أيضاً 1 / 702.
(7) ساقطة من ن.
(8) قال حلولو: ((الصحيح عدم حجيته)) التوضيح شرح التنقيح ص 274. وانظر: الإحكام للآمدي
1 / 225، كشف الأسرار للنسفي 2 / 108، البحر المحيط للزركشي 6 / 394، الضياء اللامع
2 / 243، شرح الكوكب المنير 2 / 236.

(2/122)


فائدة: تقول العرب: جَمَع الرجلُ قومَه وأجْمَع أمْرَه؛ قاله أبو علي (1) في
" الإيضاح " (2) . وتقول: أجْمَع الرجلُ؛ إذا صار ذا جَمْعٍ، مثل: ألْبَنَ إذا صار ذا لَبَنٍ وأتْمَر إذا صار ذا تَمْرٍ (3) ، فقولنا: أجمع المسلمون على وجوب الصلاة يصحُّ بمعنى: صاروا ذوي جَمْعٍ (4) ، وبمعنى: أجْمَعوا رأيهم (5) .
_________
(1) هو أبو علي الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسي الفَسَوِيّ النحوي، ولد في مدينة فسا، وهي من مدن فارس القديمة. رحل إلى بغداد وحلب وعاد إلى فارس ثم مات في بغداد عام 377هـ. أخذ النحو عن الأخْفَش الصغير، وأبي إسحاق الزَّجَّاج، وابن دُرَيْد وغيرهم. تخرَّج على يده ابن جِنِّي. انتهت إليه الرئاسة في النحو في عصره. انظر: معجم الأدباء للحموي 7 / 232، بغية الوعاة للسيوطي 1 / 496، وفيات الأعيان 2/80.
(2) انظره فيه: ص (194) وهذا الكتاب يُسمى بالإيضاح، وبالإيضاح والتكملة، وبالإيضاح في النحو، وهو مطبوع باسم: الإيضاح العَضُدِيّ، ألَّفه أبوعلي الفارسي لعَضُد الدولة بن بُوَيْه ت 372 هـ ليتعلم منه النحو، وهو كتاب سهل ومختصر في قواعد النحو. ويقال إن عضد الدولة استبسطه وقال لأبي علي:
((هذا الذي صنعته يصلح للصبيان)) فمضى أبو علي وصنف كتابه " التكملة " في فن الصرف ليكون تكملة للإيضاح. فلما وَقَفَ عليه عضد الدولة قال: ((غضب الشيخ وجاء بما لا نفهمه نحن ولا هو)) . انظر: مقدمة كتاب الإيضاح العضدي تحقيق د. حسن شاذلي فرهود، ومقدمة كتاب التكملة تحقيق د. كاظم بحر المرجان.
(3) العبارة السابقة جاءت في ق هكذا: ((مثل ألبن وأتمر إذا صار ذا لبن وذا تمر)) . وهذه الهمزة تسمى: همزة الصيرورة، ولمزيد معرفة مباحثها، انظر: شرح شافية ابن الحاجب لرضي الدين الاستراباذي
1 / 88.
(4) قال ابن التلمساني الفهري: ((ومن قال: إن أصله مِنْ أجْمع الرجل إذا صار ذا جَمْع فكان لا ضرورة إليه مع جريانه على الاشتقاق)) . انظر: شرح المعالم في أصول الفقه لابن التلمساني 2 / 54.
(5) ... في ق: ((أمرهم)) .

(2/123)


الفصل الثاني
في حكمه (1)
ص: وهو عند الكَافَّة حجةٌ خلافاً للنَّظَّام (2) والشيعة (3) والخوارج (4) (5) . لقوله
_________
(1) انظر الأدلة على حجية الإجماع والمناقشات في: الرسالة للشافعي 403، 471 ـ 476، المعتمد 2/4، الإحكام لابن حزم 1/539، العدة لأبي يعلى 4/1058، إحكام الفصول ص437، أصول السرخسي 1/295، المستصفى 1/328، التمهيد لأبي الخطاب 3/224، المحصول للرازي 4/35، تحفة المسؤول للرهوني القسم 1 / 469، فواتح الرحموت 2/397.
(2) في متن هـ: ((للناظم)) وهو خطأ. وهو أبو إسحاق إبراهيم بن سَيَّار بن هانيء البصري، سُمِّي بالنظَّام، لأنه كان يَنْظُم الخرز بسوق البصرة. كان يُظْهر الاعتزال، وتُنْسب إليه الفرقة " النظَّامية " من المعتزلة. وهو شيخ الجاحظ وابن أخت أبي الهُذَيل العلاَّف. قال ابن السبكي في الإبهاج (2/353) : ((وإنما أنكر الإجماع لقصده الطعن في الشريعة، وكذلك أنكر الخبر المتواتر مع قوله: إن خبر الواحد قد يفيد العلم!! وأنكر القياس، وكل ذلك زندقة، وله كتابٌ نَصَر فيه التَّثْلِيث على التوحيد، وإنما أظهر الاعتزال خوفاً من سيف الشرع، وله فضائح عديدة، وأكثرها طعن في الشريعة المطهرة)) . توفي عام 231هـ انظر تاريخ بغداد 6/97، فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة ص70، 264. وللدكتور محمد عبد الهادي أبو ريدة كتاب: ((إبراهيم بن سيار النظام وآراؤه الكلامية)) إصدار لجنة التأليف والترجمة والنشر بالقاهرة، عام 1365هـ.
(3) الشيعة: هم الذين شايعوا علياً رضي الله عنه، وقدموه على سائر الصحابة رضي الله عنهم، بل قالوا بأحقيته في الإمامة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم، واعتقدوا بأن الإمامة لا تخرج عن أولاده، وأنهم معصومون عن الذنوب. وهم فِرَقٌ شَتَّى، منهم الغالية الكافرة، ومنهم دون ذلك، ويُسَمَّون أيضاً بالرافضة. انظر: مقالات الإسلاميين للأشعري 1/65، الملل والنحل للشهرستاني 1/169، كتاب: الشيعة والتشيع لإحسان إلهي ظهير وكتبه الأخرى قيِّمة في هذا الموضوع.
(4) الخوارج: فرقة ضالة، كان أول نشأتهم خروجهم على الإمام علي رضي الله عنه في أعقاب معركة صِفِّين سنة 37هـ. وهم فِرَقٌ شَتْى، تُجْمِع أصولُهم ـ على اختلافهم ـ على تكفير مرتكب الكبيرة وتخليده في النار، ووجوب الخروج على الحاكم الجائر، ويُسَمَّون أيضاً بالحَرُوريَّة والنواصِب..وَرَدَ في ذمِّهم أحاديث صحيحة.
انظر: مقالات الإسلاميين 1/167، الملل والنحل 1/131، كتاب: الخوارج، تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية وموقف الإسلام منها، د. غالب بن علي عواجي.
(5) نقل المصنف في نفائس الأصول (6/2576) عن القاضي عبد الوهاب في " الملخص " بأن النظَّام قال بالإجماع، لكن عند تأمّل قوله ـ أي النظام ـ يقتضي عدم القول به. والرافضة تقول بالإجماع إذا وافقهم الإمامُ المعصومُ، فالحجة في قوله لا الإجماع. والخوارج قالوا بالإجماع من الصحابة قبل حدوث الفرقة والفتنة، وبالإجماع ممن بعدهم من أهل شيعتهم، لأن غيرهم ليس بمؤمنٍ عندهم. ونقل المصنف أيضاً عن ابن برهان في الأوسط: بأن المرجئة لا تقول بحجية الإجماع. انظر: منهج التحقيق والتوضيح لمحمد جعيط 2/121 وانظر مذاهب هذه الفرق الضالة في: المغني المجلد (17) قسم الشرعيات للقاضي عبد الجبار ص 160، المعتمد 2/4، البحر المحيط للزركشي 6/384، مبادىء الأصول إلى علم الأصول لأبي منصور جمال الدين الحِلِّي ص 190 (وهو كتاب في أصول فقه الشيعة) . شرح طَلْعة الشمس على الألفية لأبي محمد عبد الله السالمي 2/66 (كتاب في أصول فقه الأباضية من الخوارج) .

(2/124)


تعالى {وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ} جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا (1) وثبوت الوعيد على المخالفة يدل على وجوب المتابعة (2) . وقوله عليه الصلاة والسلام*: ((لا تجتمعُ أمتي على خطأ)) (3) يدل على ذلك.
الشرح
أيضاً (4) قوله تعالى {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} (5) . قال أئمة اللغة (6) والمفسرون (7) : الوَسَط الخيار، سمي الخيار وَسَطاً: لتوسُّطه بين طَرَفَي الإفراط والتفريط، وإنما يحسن هذا المدح إذا كانوا على الصواب (8) .
_________
(1) النساء الآية: 115.
(2) تتمة وجه الدلالة من الآية: والإجماع من سبيل المؤمنين فيجب اتباعه. وتعتبر هذه الآية من أشهر الأدلة على حجية الإجماع. ويُذْكر في الاستدلال بها على الإجماع قصة لطيفة وقعت للشافعي رحمه الله تعالى. انظرها في أحكام القرآن للشافعي 1/39.
(3) سبق تخريجه.
(4) ساقطة من ن.
(5) البقرة، من الآية: 143.
(6) انظر: الصحاح للجوهري، لسان العرب كلاهما مادة " وسط ". وانظر: عمدة الحفاظ للسَّمِين الحلبي 4/309.
(7) انظر: جامع البيان للطبري 2/10، التفسير الكبير للفخر الرازي 4/88، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/153.
(8) تتمة وجه الدلالة من هذه الآية: فيكون الله عز وجل أخبر عن خيرية هذه الأمة، فلو أقدموا على شيء من المحظورات لما اتصفوا بالخيرية، وإذا ثبت أنهم لا يقدمون على شيء من المحظورات وجب أن يكون قولهم حجة. انظر: المحصول للرازي 4/66.

(2/125)


وقوله تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ} (1) . وجه التمسك به (2) : ذِكْرُهم في سياق المدح يدلُّ على أنهم على الصواب، والصواب يجب اتباعه، فيجب اتباعهم. ولأنه تعالى وصفهم بأنهم يأمرون بالمعروف، واللام للعموم، فيأمرون بكل معروفٍ، فلا يفوتهم حقٌّ؛ لأنه من جملة المعروف، ولقوله تعالى: {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَر} (3) والمنكر باللام يفيد أنهم ينهون عن كل منكر، فلا يقع الخطأ بينهم (4) ويُوَافِقُوا عليه، لأنه منكر.
والعمدة الكبرى: أن كل نص من هذه النصوص مضمومٌ للاستقراء التام (5) من نصوص القرآن والسنة وأحوال الصحابة وذلك (6) يفيد القطع عند المطَّلِع عليه، وأن هذه الأمة معصومة من الخطأ وأن الحق لا يفوتها* فيما تثبته (7) شرعاً والحق واجب الاتباع، فقولهم واجب الاتباع.
احتجوا: بأن اتفاق الجمع العظيم على الكلمة الواحدة مُحالٌ في مجاري العادات، كما أن اتفاقهم على الميل إلى الطعام الواحد في الزمان الواحد محالٌ (8) .
_________
(1) آل عمران، من الآية: 110.
(2) ساقطة من ن.
(3) آل عمران، من الآية 104، 114. التوبة، من الآية 71.
(4) في ق: ((منهم)) .
(5) سبق تعريف " الاستقراء " هو ينقسم إلى قسمين: الاستقراء التام وهو: إثبات الحكم في جزئي لثبوته في كلِّي على الاستغراق. والاستقراء الناقص: وهو إثبات الحكم في كلِّي لثبوته في أكثر جزئياته من غير احتياج إلى جامعٍ، ويسمى عند الفقهاء: إلحاق الفرد بالأعم الأغلب.
فالأول حكمه يفيد القطع، والثاني يفيد الظن. انظر: الإبهاج 3 / 173، البحرالمحيط للزركشي 8/6، شرح الكوكب المنير4/418.
(6) ساقطة من ن.
(7) في س: ((يثبته)) . والمثبت هو الصواب. انظر: هامش (6) ص 109.
(8) هذا الدليل الأول، أورده المصنف حجةً لمنكري حجية الإجماع. ولكنه في الحقيقة دليل على من يقول بعدم إمكان الإجماع. انظر: منهج التحقيق والتوضيح لمحمد جعيط 2/123. ومسألة إمكان الإجماع والاطلاع عليه أو العلم به انظرها بتفصيل في: تحفة المسؤول للرهوني القسم 1 / 467، حجية الإجماع
د. محمد فرغلي ص 79.

(2/126)


ولأن الله تعالى نهاهم عن المنكر بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} (1) ، {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى} (2) ، {وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ} (3) ، وغير ذلك من النصوص، ولولا أنهم قابلون للمعاصي لما صح نهيهم عن هذه المناكير (4) (5) .
والجواب عن الأول: أن اتفاقهم في زمن الصحابة ممكن، ولا يكاد يوجد إجماعٌ اليومَ إلا وهو واقع في عصر الصحابة (6) رضي الله عنهم، واجتماعهم (7) حينئذٍ ممكنٌ لعدم انتشار الإسلام في أقطار الأرض. ولأن (8) مقصودنا أنه حجة إذا وقع، ولم نتعرض للوقوع، فإن لم يقع فلا كلام، وإن وقع كان حجة، هذا هو المقصود (9) . وعن الثاني: أن الصيغ
_________
(1) النساء، من الآية: 29.
(2) الإسراء، من الآية: 32.
(3) الأنعام، من الآية: 151، والإسراء، من الآية: 33.
(4) في ن: ((المناكر)) وهو صحيح أيضاً، انظر مادة " نكر " في: لسان العرب، العين للخليل بن أحمد، وانظر: شذا العَرْف في فن الصَّرْف للحملاوي ص 144.
(5) هذا الدليل الثاني لمنكري الإجماع. وتتمة حجتهم: فذلك يدل على عدم عصمة المؤمنين، فلا يكون الإجماع حجة. انظر: إحكام الفصول ص437، رفع النقاب القسم 2/482.
(6) قال المصنف في نفائس الأصول (6/2552) : ((أكثر الإجماعات - بل الكلُّ إلا اليسير منها جداً ـ إجماع الصحابة رضوان الله عليهم، وكانت الصحابة محصورين، يُعلم أحوالهم وعددهم قبل انتشارهم في أقطار الأرض. وتطرُّق الشك إلى اليسير من الإجماعات لا يبطل هذه المسألة، ولا يقدح فيها، بل في تلك المسائل الفروعية التي يُدَّعَى الإجماع فيها)) .
(7) في ق: ((وإجماعهم)) .
(8) ساقطة من ن.
(9) هناك جوابٌ أقرب، ذكره المصنف في نفائس الأصول (6/2550) مفاده: أن العادة قضت بتعذر اتفاق الجمع العظيم على شهوة الطعام الواحد، والميل إلى الكلمة الواحدة في الزمن الواحد، لأن هذه الأمور مبناها على الدواعي البشرية التي جُبلوا عليها، ودواعي البشر في الشهوة والنُّفْرة مختلفة جداً بل الشخص الواحد يخالف نفسه في ساعةٍ أخرى. أما اجتماع أهل الاجتهاد على حكم واحد فممكنٌ عادةً لوجود الداعي إليه من نصٍّ قاطعٍ أو ظنٍّ غالبٍ، كما لو رأى الجمعُ العظيمُ الغيمَ الرَّطِب في بلاد الأمطار والثلوج لاشتركوا جميعاً في ظن هطول المطر، وكذلك الرجل العدل الأمين يشترك كل من عرف حاله في ظن صِدْقِهِ وإن كانوا آلافاً، فظهر بهذا الفرقُ. وانظر: التوضيح لحلولو ص275.

(2/127)


العامة موضوعة في لسان العرب لكل واحدٍ واحدٍ (1) . لا للمجموع، فيكون كل واحد منهم (2)
غير معصوم، ولا نزاع في ذلك، إنما النزاع في مجموعهم لا في آحادهم، وقد تقدَّم بَسْطُ هذا في باب العموم (3) .
وأما إمام الحرمين في " البرهان " (4) . فسلك طريقاً آخر (5) ، وهو أن إجماعهم على (6) دليلٍ قاطعٍ أوجب لهم الاجتماع (7) ، فيكون قولهم حجة قطعاً لذلك القاطع، لا لقولهم (8) . والجمهور يقولون (9)
بل النصوص شهدت لهم بالعصمة (10) ، فلا يقولون إلا حقاً، استندوا لعلمٍ أو ظنٍّ. كما أن الرسول عليه الصلاة والسلام معصوم لا ينطق عن الهوى، وما يقوله في التبليغ يجب اعتقاد أنه حق، كان مستنده ظناً أو علماً، فالقطع نشأ عن العصمة لا عن المستند.
_________
(1) ساقطة من ق.
(2) المثبت هنا من ش، م، لأن عود الضمير إلى مجموع المؤمنين أنسب، يؤيده سياق الكلام بعده. بينما في

س، ق: ((منها)) ربما كان عوده إلى الأمة، وفي ن: ((منهما)) وهو تحريف.
(3) انظر ص 180، ص 195 من شرح تنقيح الفصول (المطبوع) .
(4) انظر: البرهان 1 / 436. والنقْل هنا بالفحوى ومُؤَدَّى الكلام. وانظر: رفع النقاب القسم 2/284.
(5) السِّرّـ والله أعلم ـ في انتهاج إمام الحرمين هذا المسلك ـ وهو مسلك عقلي ـ أن الاستدلال على حجية الإجماع بالأدلة السمعية ـ كتاباً وسنهً كما هو صنيع الجمهور ـ يداخله التأويل ويتطرَّقه الاحتمال، ولا يسوغ التمسك بالمحتملات في مطالب القَطْع. انظر: البرهان 2/434-436. ويمكن أن يجاب عما أثاره إمام الحرمين من تضعيف الاستدلال بأدلة السمع على حجية الإجماع بأن حجيته استُفِيدتْ من مجموع أدلة الكتاب والسنة لا من دليلٍ واحدٍ بعينه، فالآيات الكثيرة والأحاديث العديدة وأمارات العقول تُنْتِج مجتمعةً أن الأمة الإسلامية لا تجتمع على ضلالة، والظن إذا احتفَّت به قرائن وتعاضدتْ مع كثرتها على معنىً واحدٍ كان ذلك مفيداً لحصول القطع. انظر: الإبهاج 2 / 364. وانظر: اختلاف العلماء في مستند حجية الإجماع: أهو السمع أم العقل أم هما معاً؟ في البحر المحيط للزركشي 6 / 386، إرشاد الفحول 1/292.
(6) في ق: ((عن)) .
(7) في ق: ((الإجماع)) .
(8) معنى كلامه: أن الإجماع صار حجةً بالنظر إلى مستنده، فلما كان مُسْتَنِداً إلي نصٍ قطعيٍ صار قولهم حجةً، لأنهم لا يجتمعون على رأيٍ واحدٍ في مسألة إلا ونصُّها مقطوعٌ به من كتابٍ أو سنةٍ متواترةٍ.
(9) في س: ((تقول)) ، ووجهه على تقدير: جماعة الجمهور. والمثبت أولى لعدم التقدير..
(10) انظر: المحصول للرازي 4 / 101.

(2/128)


حكم إحداث قولٍ ثالثٍ إذا أجمعت الأمة على قولين
ص: وعلى (1) منع القول الثالث (2) .
الشرح
قال الإمام فخر الدين في " المحصول " (3) : ((إحداث القول الثالث غير جائز عند الأكثرين. والحق أنه إن لزم منه الخروج عمَّا أجمعوا عليه امتنع وإلا جاز)) .
فيتحصل في المسألة ثلاثة أقوال: الجواز مطلقاً (4) ، والمنع مطلقاً (5) ، والتفصيل (6) .
_________
(1) العطف هنا معناه: أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) الذي ذكره المصنف في آخر المتن السابق يدل على ثلاثة أشياء: الأول: على حجية الإجماع ومنع مخالفته، والثاني: على منع إحداث قول ثالث، والثالث: على عدم الفصل فيما جمعه الصحابة رضي الله عنهم (سيرد ذكره في المتن القادم) .
وإنما قدَّم المصنف الدليل على المدلول للاختصار. لأنه لو قدم المدلول لاحتاج إلى إعادة الدليل بعد كلِّ
مدلولٍ، فيكون تكراراً وتطويلاً. انظر: رفع النقاب للشوشاوي القسم 2 / 487.
(2) صورة المسألة: إذا اختلف أهل عصرٍ في مسألة على قولين؛ فهل يجوز لمن بعدهم أن يُحْدِث قولاً ثالثاً فيها؟.
ذكرالمصنف فيها ثلاثة أقوال كما في الشرح. والغريب من المصنف أنه كرَّر بحث المسألة مرة أخرى في عبارة المتن بعد القادمة. انظر: ص (134) .
(3) انظر المحصول 4 / 127. والنقل هنا بالمعنى.
(4) وهو لبعض الحنفية والظاهرية. انظر: المُحلَّي لابن حزم 1 / 561، النُّبَذ في أصول الفقه له أيضاً ص42، بديع النظام لابن الساعاتي 1 / 308، التوضيح لصدر الشريعة ومعه التلويح للتفتازاني 2 / 98، فتح الغفار لابن نجيم 3 / 7.
(5) وهو قول الجمهور انظر: المعتمد 1/44، إحكام الفصول ص 496، التبصرة للشيرازي ص 387، المنخول للغزالي ص 320، المحصول لابن العربي ص 517، لباب المحصول لابن رشيق المالكي ص 357، المسودة 326، كشف الأسرار للبخاري 3/435، التوضيح لحلولو ص 279.
(6) التفصيل هو: ما إذا كان في القولين قَدْرٌ مشتركٌ بينهما لم يجز إحداث قولٍ ثالثٍ فيها وإلا جاز. أو بعبارةٍ أخرى: إنْ لزم من القول الحادث رفْعُ القولين السابقين لم يجز إحداثه وإلا جاز. والقول بالتفصيل هو اختيار الرازي في المحصول (4/128) ، والآمدي في الإحكام (1/269) ، وابن الحاجب في منتهى السول والأمل ص 61، وصفي الدين الهندي في نهاية الوصول (6 / 2527) ، والطوفي في شرح مختصر الروضة
3 / 88، 93 وغيرهم.
ومن العلماء من ذكر قولاً رابعاً في المسألة، ذهب إليه بعض الحنفية، وهو: إنْ حَدَث القولان من الصحابة لم يجز إحداث قولٍ ثالثٍ وإلا جاز: انظر: أصول السرخسي 1/310، كشف الأسرار للبخاري 3/435.

(2/129)


احتج المانعون: بأن الأمة أجمعت قبل الثالث على الأخذ [بهذا القول، أو بهذا القول (1) ] (2) ، فالأخذ بالثالث خارقٌ للإجماع (3) .
ولأن الحق لا يفوت الأمة، فلا يكون الثالث حقاً، وإلا لَمَا فاتهم، فيكون باطلاً قطعاً وهو المطلوب (4) .
ويرد على الأول: أن الإجماع الأول (5) مشروط بألاَّ يجتمعوا (6) على أحدهما وقد أجمعوا ففات الشرط. فإن قلت: يلزمك ذلك في القول الواحد إذا أجمعوا عليه، فجاز أن يقال تمتنع (7) مخالفته بشرط ألاَّ يذهب أحد إلى خلافه. قلتُ: لو كان الأول مشروطاً لما كان هذا مشروطاً، [بسبب أن] (8) القول الواحد تعيَّنتْ فيه المصلحة، فلا معنى للشرطية، بخلاف القولين لم تتعين المصلحة في أحدهما عَيْناً، ولم يقل بكل واحد منهما إلا بعض الأمة، وبعض الأمة غير معصوم (9) .
وعن الثاني: لا نسلم تعيّن الحق في قول الأمة إلا إذا اتفقت كلها على قول، أما مع الاختلاف فممنوع، فظهر بهذه الأجوبة حجة الجواز.
مثال التفصيل: اختلفت الأمة على قولين: هل الجدُّ يقاسم الإخوة أو يكون المال كله له؟ (10) .
فالقول الثالث: أن الإخوة يحوزون المال كله على خلاف الإجماع،
_________
(1) ساقطة من ق.
(2) ما بين المعقوفين في ن: ((بهذين القولين)) .
(3) هذا الدليل الأول للمانعين.
(4) هذا الدليل الثاني للمانعين.
(5) ساقطة من ق. والمراد بالإجماع الأول أي: إجماعهم على وجوب الأخذ بأحد القولين.
(6) أي: بألاَّ يجمع من بعدهما على أحد القولين.
(7) في ق: ((يمتنع)) .
(8) في ق: ((لأن)) .
(9) انظر: نفائس الأصول 6 / 2653.
(10) هذه العبارة في ق هكذا: ((هل يقاسم الجد الإخوة أو يحجبهم؟)) .

مسألة توريث الإخوة مع الجدِّ فيها مذهبان شهيران، الأول: الجد يحجب الإخوة والأخوات من جميع الجهات كما يسقطهم الأب، وهو قول جمع من الصحابة، منهم: أبوبكر وابن عباس رضي الله عنهم وجمع من التابعين وداود الظاهري وقول أبي حنيفة ورواية عن أحمد.

(2/130)


فالقول الثالث مُبْطِل لما أجمعوا عليه، فيكون باطلاً، لأن الحق لا يفوتهم، هذا قول الإمام فخر الدين وتمثيله (1) .
وقال ابن حَزْم (2) في " المُحلَّى " (3) : ((
إن بعضهم قال: المال كله للإخوة تغليباً للبُنوَّة على الأبوة)) (4) فلا يصح على هذا ما قاله الإمام من الإجماع (5) .
_________
(1) الثاني: الإخوة يرثون مع الجد، وهو قول علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت وابن مسعود رضي الله عنهم، وبه قال مالك والشافعي وأحمد وأبو يوسف ومحمد، ثم اختلف هؤلاء في كيفية توريث الجد مع الإخوة على أقوال عدة. انظر: المبسوط للسرخسي 29/179، الحاوي الكبير للماوردي 8/119، المغني لابن قدامة 9/65، بداية المجتهد 5/413، حاشية الدسوقي 4/462.
() انظر: المحصول للرازي 4/128.
(2) هو: أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم الأمَوي ـ بالولاء ـ الظاهري ـ مذهباً ـ القرطبي مولداً. إمام عبقري في المعقول والمنقول والأدب والشعر. كان شافعياً، ثم انتقل إلى مذهب داود الظاهري. كان لآبائه رئاسة وإمارة. من مصنفاته في الأصول: الإحكام في أصول الأحكام (ط) ، النبذ في أصول الفقه (ط) . وفي الفرق: الفِصَل في الملل والنحل (ط) ، وفي الفقه: المحلَّي (ط) . وفي الأدب: طوق الحمامة في الألفة والإلاف (ط) . ت 456هـ. انظر: سير أعلام النبلاء 18/184، ابن حزم خلال ألف عام لأبي عبد الرحمن الظاهري، ابن حزم: فقهه وآراؤه لمحمد أبو زهرة.
(3) انظر: المحلي 9/283، 292.

وكتاب المحلَّى اسمه: " المُحلى بالآثار شرح المُجلَّى بالاختصار " وهو مشهور متداول في الفقه الظاهري، مشحون بالآثار، فيه قوة حجة وبرهان. قال العز بن عبد السلام: ((ما رأيت في كتب الإسلام في العلم مثل: المحلى لابن حزم والمغني للشيخ الموفق)) . يؤخذ عليه سلاطة لسان مؤلفه على الأئمة والعلماء، وإنكاره للتعليل والقياس. عليه مختصرات منها: الأنور الأعلى في اختصار المحلى لأبي حيان. وعليه رَدٌّ اسمه: السيف المُجلَّى.. وكتاب المحلى مطبوع بتحقيق: أحمد شاكر، وله طبعة أخرى. انظر: كشف الظنون 2 / 394
(4) يمكن أن يكون هذا قولاً ثالثاً في مسألة الجد والإخوة، وهو: توريث الإخوة وحجب الجدّ، لأن الجدّ يدلي بولادته لأبي الميت، فطريقه من الأبوَّة. والإخوة يدلون بولادة أبي الميت فطريقهم من البنوة. والبنوة أقوى من الأبوة. وهذا القول قال به: زيد بن ثابت وعلي بن أبي طالب وعبد الرحمن بن غَنْم رضي الله عنهم. فعلى هذا لا يكون ثَمَّةَ إجماع على ضرورة توريث الجدِّ بكل حال. لأن القول الثالث نُقِل عن بعض الصحابة، لكن قيل برجوع زيدٍ وعليٍ رضي الله عنهما إلى مقاسمة الجد للإخوة. والله أعلم. انظر: تيسير التحرير 3/251.
(5) لئلا يُعْترض على القول بالتفصيل، بمثالٍ غير صحيح، يمكن أن يُمثَّل له بعِدَّة الحامل المتوفَّى عنها زوجها. قيل: تعتدُّ بالوضع، وهو لابن مسعود وأبي هريرة وغيرهما. وقيل تعتدُّ بأبعد الأجلين؛ الوَضْع أو الأشْهرُ (أربعة أشهرٍ وعشر) وهو لعلي وابن عباسٍ وغيرهما، فالقول بعدهم بالاعتداد بالأشهر فقط رفع لما اتفقوا على نفيه، فيكون خرقاً للإجماع. انظر: تيسير التحرير 3 / 251، الحاوي الكبير 11 / 235، بدائع الصنائع 3/286، شرح الزرقاني على مختصر خليل 4/106، المغني 11 / 227. .

(2/131)


حكم الفَصْل فيما أجمعوا على الجَمْع فيه
ص: وعدمُ (1) الفَصْل (2) فيما جمعوه فإن جميع ما خالفهم يكون خطأً لتعيُّن الحق في جهتهم.
الشرح
قال الإمام فخر الدين: ((إن قالوا لا يُفْصَل (3) بين المسألتين لم يَجْز الفَصْلُ، وكذلك إن علم أن طريقة الحكم واحدة في المسألتين، وإن لم يكن كذلك فالحق جواز الفرق، وإلا كان من وافق الشافعي في مسألةٍ لدليلٍ يلزمه أن يوافقه في الكل. وإنما لم يَجُز الفصل؛ لأنهم صرحوا بعدمه فيكون عدمه هو الحق، والفصلُ باطلاً (4) فيمتنع، ومثاله: ذوو الأرحام، اتفقوا على عدم الفصل بينهم، فمن ورَّث العَمَّة ورَّث الخالة بموجِب القرابة والرَّحِم، ومن لم يورِّث العمَّة لم يورِّث الخالة لضعف* القرابة
_________
(1) وأما مثال ما يجوز فيه إحداث قول ثالث ـ لأنه لا يرفع ما اتفق عليه ـ فهو: اختلافهم في جواز أكل المذبوح بلا تسمية. قال بعضهم: يَحِلُّ مطلقاً سواء كان الترك عمداً أم سهواً وهو مذهب الشافعية. وقال آخرون: لا يَحِلُّ مطلقاً وهو مذهب ابن حزم. فإحداث قولٍ ثالثٍ وهو التفريق بين العمد فلا تَحِلُّ والسهو فتحِلُّ لا يكون خرقاً للإجماع، وبه قال الأحناف والمالكية والحنابلة، انظر: المحلى لابن حزم 7/412، الحاوي الكبير للماوردي 15/10، 95، تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق للزيعلي 5/288، الذخيرة للقرافي 4/134، الروض المربع للبهوتي ص480.
() العطف هنا معناه: أن قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) الذي ذكره المصنف في المتن قبل السابق يدل على عدم الفصل فيما جمعوه. أما صورة المسألة وشرحها فسيأتي في الشرح. أما الأقوال فيها فهي ثلاثة: الجواز مطلقاً، والمنع مطلقا، والتفصيل بين أن يُصرِّحوا بعدم الفصل في المسألتين أو تكون العلة في القولين واحدة، فلا يجوز الفصل حينئذٍ وإلا جاز. انظر: العدة لأبي يعلى 4/1116، إحكام الفصول ص499، شرح اللمع للشيرازي 2/730 التمهيد لأبي الخطاب 3/314، الوصول لابن برهان 2/110، بذل النظر للأسمندي ص559، نهاية الوصول للهندي 6/2534، التوضيح لحلولو ص281.
(2) في ق: ((التفصيل)) .
(3) في ق: ((لا فصل)) .
(4) في ن: ((باطل)) وهو صحيح إذا كانت الواو للاستئناف في قوله: ((والفصل باطل ... )) والمثبت ((باطلاً)) باعتبار أن الواو للعطف لكونها خبر ((فيكون)) .

(2/132)


عن التوريث فلا يجوز لأحدٍ أن يورث العمَّة دون الخالة، ولا الخالة دون العمَّة (1) ، فالطريقة واحدة في المسألتين..)) (2) .
وإن كان المدرك مختلفاً، بأن يقول [أحد الفريقين] (3) : لا أورِّث الخالة لأنها تُدْلي بالأم، ويقول الآخر: لا أورِّث (4) العمَّة لبعدها من الأب، جاز (5) بسبب أن اختلاف المدارك يسوِّغ ذلك، لأنه إذا قال: أورِّث العمة لشائبة الإدلاء بالأب ولا أورِّث الخالة لإدلائها بالأم، وجهة الأمومة ضعيفة. فهذا قد قال بالتوريث في العمَّة، وقد قاله بعض الأمة، فلم يَخْرِق الإجماع، وقال بعدم التوريث في الخالة، وهو قول بعض الأمة، فلم يخرق الإجماع، وكذلك قال باعتبار ما اعتبره من العلة بعضُ الأمة، وبإلغاء ما ألغاه بعض الأمة، فلم يخالف (6) الإجماع. أما لو كانت الطريقة واحدة كما في التمثيل الأول كان خارقاً (7) للإجماع باعتبار المدرك، لأن كل من قال باعتبار أحد المدركين قال باعتباره في الجميع، وانعقد الإجماع (8) على أنه إذا أُلغيت إحدى العلتين بقيت (9) الأخرى، فالقول بإلغائها في البعض دون اعتبار الآخر خلاف الإجماع.
_________
(1) مسألة توريث ذوي الأرحام ـ وهم الأقارب الذين لا فَرْض لهم ولا تعصيب ـ فيها قولان مشهوران، الأول: عدم توريثهم، فإذا لم يوجد مَنْ يرث فرضاً أو تعصيباً فإن المال يذهب إلى بيت المال، وبه قال زيد ابن ثابت رضي الله عنه والمالكية والشافعية. الثاني: يرثون إذا لم يوجد العاصب ولا صاحب الفرض ما عدا أحد الزوجين، وهو قول جمهور الصحابة والفقهاء والحنفية والحنابلة. ثم اختلف هؤلاء في كيفية توريثهم، أهو كالتعصيب أم بتنزيلهم منزلة من أدْلَوا به؟ انظر المسألة مبسوطة في: المبسوط للسرخسي 30/2، الحاوي للماوردي 8/73، المغني لابن قدامة 9/82، الذخيرة للقرافي 13/53، التحفة الخيرية على الفوائد الشنشورية للباجوري ص217.
(2) انظر: المحصول 4 / 130.
(3) ما بين المعقوفين في ق: ((واحد)) .
(4) في ق: ((أرث)) وهو تحريف.
(5) في ق: ((التفصيل)) .
(6) في ق: ((يخرق)) .
(7) في ن: ((خلافاً)) .
(8) ساقطة من ن.
(9) في ق: ((ثبتت)) .

(2/133)


ومن هاهنا حسن التنظير بالشافعي رضي الله عنه، فإن الإنسان إذا وافقه في مسألة لمدركٍ فقد اعتقد صحة ذلك المدرك، فيلزمه أن يتبعه في فروع ذلك المدرك كلها. أما إذا كانت مدارك الشافعي رضي الله عنه مختلفةً (1) كما هو الواقع فلا يلزم من موافقته في مسألة موافقته في جميع المسائل؛ لأن مدرك تلك المسائل غير مدرك تلك المسألة، فكذلك الأمة توافق بعضها في بعض مداركه، ولا توافق في البعض الآخر، فلا جَرَم صحَّ التفريق فيما قالوا فيه بعدم الفصل إذا اختلفت المدارك.
قال القاضي عبد الوهاب في " الملخص " (2) : إن عيَّنوا الحكم وقالوا لا يُفْصَل (3) حَرُم الفَصْل، وإن لم يُعيِّنوا ولكن أجمعوا عليه مجْملاً فلا يعلم تفصيله إلا بدليلٍ غير الإجماع، فإنْ دل الدليل على أنهم أرادوا مُعيناً تعيَّن أو أرادوا العموم تعيَّن العموم، وإن لم يدل دليل حصل العموم أيضاً، فإنَّ ترك البيان مع الإجمال (4) دليل التعميم، ومتى كان مدرك أحد الصِّنْفين مختلفاً أو جاز أن يكون مختلفاً جاز التفصيل بين المسألتين.
إحداث قول ثالث، والفصْل فيما جمعوا بينهما
ص: وإذا اختلف أهل (5) العصر الأول على قولين [لم يَجُزْ] (6) لمن بعدهم إحداث قولٍ ثالثٍ عند الأكثرين، وجوزه أهل الظاهر (7) . وفصَّل الإمام فقال: إنْ لزم منه خلاف ما أجمعوا عليه امتنع وإلا فلا، كما قيل: للجدِّ كل المال، وقيل: يقاسم الأخ، فالقول بجعل المال كلِّه للأخ [مناقض للأول] (8) . وإذا أجمعت (9) الأمة
_________
(1) في ن: ((مخلفة)) وهو تحريف.
(2) انظر قوله في: البحر المحيط للزركشي 6 / 522، وقد أشار شيخ الإسلام ابن تيمية إليه في المسودة ص 328. وانظر: شرح الكوكب المنير 2 / 269.
(3) في ق: ((فصل)) .
(4) في ق: ((الإجماع)) وهو تحريف.
(5) ساقطة من ق.
(6) في متن هـ: ((فلا يجوز)) .
(7) هنا زيادة: ((والحنفية)) في متن هـ خلت منها جميع نسخ المتن والشرح. وهذا مذهب بعض الحنفية. انظر هامش (4) ص (129) .
(8) في ق: ((يناقض الأول)) .
(9) في ن، متن هـ: ((اجتمعت)) .

(2/134)


على عدم الفصل بين مسألتين (1) [لا يجوز] (2) لمن بعدهم الفصل بينهما.
الشرح
[هذه هي (3) التي تقدَّمت، وقد (4) تقدَّم بسطها (5) ، غير أني قدمتها] (6) في أول الكلام مجْملةً، ثم ذكرتها مفصَّلة (7) .
والفرق بين قولهم: لا يجوز إحداث القول الثالث، وبين قولهم: لا يجوز
الفصل بين مسألتين؛ أن القول الثالث يكون في الفعل الواحد [في ذاتٍ واحدةٍ] (8) ، كما نقول في سِبَاع الوحوش: قال بعضهم هي حرام (9) ، وقال بعضهم ليس بحرام (10) ، فالقائل (11) بأن (12) بعض السباع حرام وبعضها ليس بحرام خارق للإجماع فيكون باطلاً (13) ، وعدم الفصل يكون (14) في مسألتين مثل (15) توريث ذوي الأرحام [كما
_________
(1) في متن هـ: ((مُسْلِمين)) وهو تحريف.
(2) في متن هـ: ((لم يجز)) .
(3) ساقطة من ن.
(4) ساقطة من س.
(5) انظر ص (129) .
(6) ما بين المعقوفين في ق هكذا: ((هذه تقدَّم ذكرها)) .
(7) أي ذَكَرها في المتن أولاً مجملة حينما قال: ((وعلى منع القول الثالث)) ثم ذكرها هنا في المتن مفصلة. لكن المصنف بسط شرحها عند أول ذكرها.
(8) ما بين المعقوفين ساقط من ق، ن.
(9) وهو ظاهر مذهب الحنفية. انظر: شرح فتح القدير لابن الهمام 9 / 510.
(10) وهو مذهب بعض المالكية، الكراهة دون التحريم. انظر: القوانين الفقهية لابن جُزَيّ ص166، مواهب الجليل 4/356.
(11) في ق: ((فالقول)) .
(12) ساقطة من ن.
(13) كيف يكون خارقاً للإجماع والفريقان لم يتفقا على قَدْر مشترك بينهما؟ بل القول الثالث هنا موافق لكل واحدٍ من القولين في وجه، ومخالف له في وجهٍ آخر. ولهذا أباحت الشافعية: الضَّبُع والثعلب، والحنابلة: الضبع فقط، وحرَّموا ما عدا ذلك. فيتوجَّه أن يكون هذا مثالاً على جواز إحداث قول ثالث، لأنه لا يلزم منه خلاف ما أجمعوا عليه. والله أعلم. انظر: رفع النقاب القسم 2/491، المغني لابن قدامة 13/319، الروض المربع ص476، مغني المحتاج 6/148.
(14) ساقطة من ن. والصواب إثباتها ليتحقق معنى الفرق بين: إحداث قول ثالث، وعدم الفصل فيما جمعوه، فالأول يكون في مسألة واحدة والثاني يكون في مسألتين. والله أعلم.
(15) في س: ((مع)) ولا معنى لها.

(2/135)


تقدم تقريره] (1) (2) .
حكم الإجماع على أحد القولين بعد الاتفاق على القول بهما
ص: ويجوز حصول الاتفاق بعد الاختلاف في العصر الواحد (3) خلافاً للصيرفي (4)
_________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(2) انظر: ص 132. وانظر الفرق بينهما في: اللمع للشيرازي ص 192، نفائس الأصول 6/2659، الإبهاج 2/372، نشر البنود 2 / 88. لكن من العلماء - كالآمدي وابن الحاجب - من جعلهما مسألة واحدة، ولم يفرق بينهما لتقاربهما في المعنى. انظر: الإحكام للآمدي 1/268، منتهى السول والأمل ص61، منهج التحقيق والتوضيح لجعيط 2/125.
(3) هذه المسألة الأولى في هذا المتن، وصورتها: إذا اختلف أهل العصر الواحد في مسألةٍ على قولين. فهل يجوز لهم -بعد ذلك -أن يجمعوا على أحدهما؟ ينبغي- عند تحرير النزاع فيها -أن يُفرَّق بين حالة استقرار الخلاف وثبوته، وحالة عدم استقرار الخلاف وأنهم مازالوا في مهلة النظر والبحث.
أما الحالة الأولى: وهي اتفاقهم قبل استقرار الخلاف، أو كما عبَّر الشيرازي في اللمع ص (190)
قبل أن يبرد الخلاف ويستقر، ففيها قولان، القول الأول: يجوز، وتصير المسألة إجماعية، وهو مذهب الجمهور. القول الثاني: لا يجوز.
أما الحالة الثانية: وهي اتفاقهم بعد استقرار الخلاف ففيها ثلاثة أقوال، الأول: لا يكون حجةً مطلقاً. الثاني: يكون حجةً وإجماعاً مطلقاً. الثالث: التفصيل، يكون حجة إذا كان مستند كلٍ منهم ظنيّاً كالقياس والاجتهاد، ولايجوز إذا كان مستندهم قطعياً حذراً من إلغاء القاطع. والمصنف-رحمه الله- لم يذكر الفرق بين حصول الاتفاق قبل خلافٍ مستقرٍ أو بعده، مع أنه ذكر ذلك في نفائس الأصول (6 / 2675) ، وكذلك الرازي في المحصول (4/135، 145) جَعَل لكل واحدةٍ منها مسألةً مستقلة. انظر المسألة في: الحدود للباجي ص63، شرح اللمع للشيرازي 2 / 734، شرح جمع الجوامع بحاشية البناني 2 / 185، التوضيح لحلولو ص281، شرح الكوكب المنير 3 / 276.
(4) ... هو أبو بكر محمد بن عبد الله البغدادي الصيرفي، نسبةً إلى صِرَافة الدراهم والدنانير. أحد أصحاب الوجوه في المذهب الشافعي. من شيوخه: ابن سُريج، قال القفال عنه: بأنه أعلم الناس بالأصول بعد الشافعي، من مؤلفاته: شرح الرسالة للشافعي، كتابٌ في الإجماع، كتابٌ في الشروط وغير ذلك. ت 330هـ.

انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 3/186، وفيات الأعيان 4/199.

(2/136)


(1) .
وفي العصر الثاني (2)
لنا (3) وللشافعية (4) والحنفية (5) فيه قولان (6) مبنيَّان على أن إجماعهم على الخلاف (7) يقتضي أنه الحق، فيمتنع الاتفاق أو هو مشروط بعدم الاتفاق، وهو الصحيح.
_________
(1) ... ممن نقل هذا المذهب عن الصيرفي الإمامُ الرازي في المحصول (4/135) ، والهندي في نهاية الوصول
(6/2540) ، وفي هذه الحكاية عنه نَظَرٌ إن كان في حالة الاتفاق قبل استقرار الخلاف، قال الزركشي في البحر المحيط (6 / 503) ((ولم أره في كتابه، بل ظاهر كلامه يشعر بالوفاق في هذه المسألة)) . ويعضد هذا أن الشيرازي في اللمع ص (190) نفى أن يكون في هذه المسألة خلاف. وإن كان هذا النقل عنه بعد استقرار الخلاف، فقال الزركشي في البحر المحيط (6/505) ((ومنهم من نقل هاهنا عن الصيرفي: أنَّا إذا لم نشترط انقراض العصر لا يكون إجماعاً، لتقدُّم الإجماع منهم على تسويغ الخلاف)) . أما مذهب الصيرفي في المسألة الثانية وهي اتفاق أهل العصر الثاني على أحد قولي العصر الأول بعد خلافٍ مستقرٍ فقد نقل الآمدي في الإحكام (1 / 278) عنه المنع. وانظر أيضاً: الكاشف عن المحصول 5 / 459.
(2) ... هذه هي المسألة الثانية، وصورتها: إذا اختلف أهل عصرٍ في مسألة على قولين، فهل يجوز للعصر الثاني أن يجمعوا على أحدهما؟ ، للحكم عليها حالتان:

الأولى: الاتفاق قبل استقرار الخلاف، فالجمهور على جوازه. الحالة الثانية: الاتفاق بعد خلافٍ مستقرٍّ. فكل من قال باشتراط انقراض العصر في الإجماع جوّز قطعاً حصول الاتفاق وجعله إجماعاً. ومن لم يعتبر انقراض العصر اختلفوا على ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقاً، المنع مطلقاً، التفصيل: إن كان مستند إجماعهم القياس والاجتهاد لا دليلاً قاطعاً جاز حصول الاتفاق وإلا فلا. انظر: المراجع السابقة المذكورة في المسألة الأولى هامش (3) ص (136) ، وانظر أيضاً: المستصفى1/369، والإحكام للآمدي1/278.
(3) رأي أكثر المالكية هو: جواز انعقاد الإجماع وارتفاع الخلاف السابق. ومنهم من يرى بقاء الخلاف السابق وعدم انقطاعه كالأبهري والباقلاني وابن خويز منداد. انظر: المقدمة في الأصول لابن القصار
ص 159، إحكام الفصول ص492، لباب المحصول لابن رشيق ص 360، مفتاح الوصول ص 750، التوضيح لحلولو ص281.
(4) عامة الشافعية على امتناع الاتفاق، وبعضهم يجوّز حصول الاتفاق. انظر: التبصرة ص 378، البرهان للجويني 1 / 456، الوصول لابن بَرْهان 2/102.
(5) رأي أكثر الأحناف جواز انعقاد الإجماع على أحد القولين وارتفاع الخلاف، لكن هذا الإجماع عندهم بمنزلة خبر الواحد في كونه موجباً للعمل غير موجبٍ للعلم. انظر: أصول السرخسي 1/319، كشف الأسرار للبخاري 3 /456، التقرير والتحبير 3 / 88.
أما مذهب الحنابلة فأكثرهم على أن اتفاق أهل العصر الثاني علىأحد قولي العصر الأول بعد استقرار الخلاف لا يكون إجماعاً، ويجوز الأخذ بالقول الآخر. وخالفهم أبو الخطاب وغيره. انظر: العدة لأبي يعلى 4 / 1105، التمهيد لأبي الخطاب 3 / 297، أصول الفقه لابن مفلح 2 / 445.
(6) ساقطة من س.
(7) هنا زيادة: ((هل)) في ن.

(2/137)


الشرح
لنا: أن الصحابة رضوان الله عليهم اختلفوا في أمر الإمامة ثم اتفقوا عليها (1) ، فدلَّ على ما قلناه.
وأما المسألة الثانية: فصورتها أن يكون لأهل (2) العصر (3) الأول قولان، ثم يتفق أهل العصر الثاني على أحد ذَيْنِك القولين.
لنا: أنَّ هذا القول قد صار قولَ كلِّ (4) الأمة، لأن أهل العصر الثاني (5) هم كل الأمة، فالصواب لا يفوتهم فيتعيَّن قولهم هذا (6) حقاً وما عداه باطلاً (7) .
حجة المخالف: أن أهل العصر الأول قد اتفقوا على جواز الأخذ بكل واحدٍ من القولين بدلاً عن الآخر، فالقول بحصر الحق في [هذا القول] (8) خلاف الإجماع (9) .
ولقوله تعالى: {فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ} (10) وهذا حكم وقع فيه النزاع في العصر الأول، فوجب رده إلى كتاب الله تعالى وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا تنحسم مادة النظر فيه لظاهر الآية (11) . ولقوله عليه الصلاة والسلام:
_________
(1) هذا دليل المصنف على جواز الاتفاق بعد الاختلاف في العصر الواحد. فقد وقع ذلك في عصر الصحابة في مسألة إمامة أبي بكر رضي الله عنه. والوقوع دليل الجواز. وأما مسألة اختلاف مبايعة بعض الصحابة لأبي بكر رضي الله عنه ثم اتفاقهم عليها انظرها في: صحيح البخاري (6830) ، مسند الإمام أحمد 1/55، مسند أبي بكر رضي الله عنه للسيوطي ص 88، الطبقات الكبرى لابن سعد 3/182، تاريخ الإسلام (عهد الخلفاء الراشدين) للذهبي 5 ـ 14.
(2) ساقطة من ن، س.
(3) في س: ((للعصر)) .
(4) في ن: ((أكثر)) وهو خطأ، لأن الإجماع لا ينعقد إلا بكل الأمة، وسياق الكلام بعد ذلك يدلُّ عليه.
(5) ساقطة من ن.
(6) ساقطة من ق.
(7) في ن: ((باطل)) خلافاً لجميع النسخ، ووجهه أنه خبرٌ للمبتدأ " ما " الموصولة باعتبار أن الواو مستأنفة.
(8) في ق: ((واحد)) وهي صحيحة، لكنها ليست في سائر النسخ.
(9) هذا الدليل الأول للمخالفين.
(10) النساء، من الآية: 59.
(11) هذا الدليل الثاني للمخالفين ومعنى العبارة الأخيرة: أنه لا يمكن حسم الخلاف الواقع في العصر الأول بمجرد إجماع أهل العصر الثاني على أحد القولين، لأن ظاهر الآية أوجب الرَّد إلى الكتاب والسنة فقط. والله أعلم. انظر: نفائس الأصول 6/2670.

(2/138)


((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) (1) وهذا عام سواء حصل بعدهم إجماع أو لا، ووجب إذا قال قائل بذلك القول المتروك (2) (3) أن يكون حقاً لظاهر الحديث (4) .
والجواب عن الأول: أن تجويز الأخذ بكلا القولين مشروط بألاَّ يحدث إجماع.
فإن قُلْتَ: يلزمك ذلك في الإجماع على القول الواحد أن يكون مشروطاً بعدم طريان الخلاف.
قُلْتُ: قد (5) تقدَّم الجواب عنه (6) .
وعن الثاني: أن موجب الرد هو التنازع، وقد ذهب بحصول (7) الاتفاق فينتفي الرد (8) .
_________
(1) رواه عَبْد بن حميد في " المنتخب من المسند " برقم (782) ، وابن حزم في: " الإحكام " وأنكر معناه 2/61، 251، وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله 2/923 ـ 925، وابن عدي في الكامل في ضعفاء الرجال 3/1057، وجلُّ المحققين والنقاد من أهل الحديث على تضعيفه أو تكذيبه. ولا تتقوى طرقه بعضها ببعض، لأنها لا تخلو من وضّاع أو انقطاع أو مجهول أو متروك ... إلخ. انظر: تحفة الطالب لابن كثير ص 137، تخريج أحاديث مختصر المنهاج للعراقي ص 23، المعتبر للزركشي ص80، سلسلة الأحاديث الضعيفة والموضوعة للألباني 1/ 78 - 85.
(2) لكن ورد من حديث مسلم (2531) أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((النجوم أَمَنةٌ للسماء، فإذا ذهبت النجوم أتى السماءَ ما تُوعدون، وأنا أمَنةٌ لأصحابي، فإذا ذهبْتُ أتى أصحابي ما يوعدون، وأصحابي أمنةٌ لأمتي، فإذا ذهب أصحابي أتى أمتي ما يوعدون)) قال ابن حجرـ بتصرِّفٍ ـ هذا الحديث يؤدي صحة تشبيه الصحابة بالنجوم خاصةً، أما في الاقتداء فلا يظهر، نعم يمكن أن يُتَلمَّح ذلك في معنى الاهتداء بالنجوم..وظاهر الحديث إنما هو إشارة إلى الفتن الحادثة بعد انقراض عصر الصحابة، من طَمْسِ السنن، وظهور البدع، وفشو الفجور في أقطار الأرض. والله المستعان. انظر تلخيص الحبير 4/ 191.
() في ن: ((المتواتر)) وهو تحريف.
(3) هنا زيادة: ((وجب)) في ق، ز وهي زيادة حسنة يمكن إيرادها إذا طال الفصل بين العامل ومعموله، يشهد لذلك ما جاء في التنزيل في قوله تعالى: {ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ} [النحل: 110] .
(4) هذا الدليل الثالث للمخالفين.
(5) ساقطة من ن.
(6) انظر ص 130.
(7) في ق: ((لحصول)) .
(8) وكذلك يمكن أن يجاب عنه بأن التعلّق بالإجماع يكون ردّاً إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. انظر: المحصول 4/141.

(2/139)


وعن الثالث: لا نسلم أن قوله باقٍ في العصر الثاني بعد الاتفاق حتى يحسن الاقتداء به.
مسألة: اشتراط انقراض عصر المجمعين
ص: وانقراض العصر (1)
ليس شرطاً (2) - خلافاً لقومٍ من الفقهاء والمتكلمين (3) - لتجدُّد الولادة كلَّ يومٍ فيتعذَّر الإجماع.
الشرح
لنا: النصوص الدالة على كون الإجماع حجةً (4) . ولأن التابعين يولدون في
زمن الصحابة، ويصير منهم فقهاء قبل انقراض (5) عصرهم، فيلزم ألاَّ ينعقد إجماع الصحابة دونهم، ثم عصر التابعين أيضاً كذلك، فتتداخل الأعصار في بعضها، فلا ينعقد
إجماع.
_________
(1) المراد بانقراض العصر: أي موت جميع مَنْ هو مِنْ أهل الاجتهاد في وقت نزول الحادثة بعد اتفاقهم على حكمٍ فيها. انظر: كشف الأسرار للبخاري (3 / 450) . وانقراض العصر يمكن أن يتحقق في لحظة واحدةٍ بانهدام سقف أو غرق سفينة مثلاً. انظر: البحر المحيط للزركشي 6 / 483.

ومسألة اشتراط انقراض عصر المجمعين لانعقاد الإجماع اختلف فيها العلماء على مذهبين، الأول: لا يشترط، وهو للجمهور. الثاني: يشترط، وهو لبعض العلماء. ثم اختلف المشترطون على أقوالٍ؛ فمنهم من اشترطه مطلقاً، ومنهم اشترطه في عصر الصحابة دون غيره، ومنهم من اشترطه في الإجماع السكوتي دون غيره، وهناك أقوال أخرى أوصلها الزركشي في البحر المحيط (6/478 ـ 483) إلى ثمانية مذاهب. انظر المسألة في: المعتمد 2 / 41، الإحكام لابن حزم 1/558 إحكام الفصول ص467، البرهان للجويني 1/444، أصول السرخسي 1/315، المنخول ص317، التمهيد لأبي الخطاب 3/346، المحصول للرازي 4 / 147، المسودة ص 320، كشف الأسرار للبخاري 3/450، تحفة المسؤول للرهوني القسم
2 / 508، التوضيح لحلولو ص282.
(2) هذا مذهب جمهور العلماء. انظر المصادر الآنفة الذكر.
(3) منهم: ابن فورك، وقول بعض الشافعية، ورواية لأحمد اختارها أكثر أصحابه: انظر المصادر السابقة وأيضاً: شرح العمد لأبي الحسين البصري 1/153، العدة لأبي يعلى 4/1095 شرح اللمع للشيرازي 2/697، الإحكام للآمدي 1/256، المختصر في أصول الفقه لابن اللحام ص78، التقرير والتحبير
3 / 115.
(4) فإنها مطلقة لم تفصِّل بين انقراض العصر وعدمه، فوجب أن تكون حجةًّ مطلقاً، والتقييد خلاف الأصل. انظر: إحكام الفصول ص 468، نهاية الوصول 6/2554.
(5) في ق: ((انقضاء)) .

(2/140)


احتجوا: بأن الناس ما داموا أحياء فهم في مهلة (1) النظر، فلا يستقرُّ الرأي، فلا ينعقد الإجماع (2) .
ولأن الله تعالى يقول: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} (3) وأنتم تجعلونهم شهداء على أنفسهم (4) .
والجواب عن الأول: أن اتفاق الآراء الآن دل على صحتها عملاً بأدلة الإجماع، فيكون ما عداها باطلاً فلا يفيد الانتقال إليه (5) .
وعن الثاني: أن كون الإنسان شاهداً على غيره لا يمنع من قبول شهادته (6) على نفسه، قال الله تعالى: {وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ} (7) ، ثم المراد بهذه الآية الدار الآخرة، والشهادة على الأمم يوم القيامة، فلا تعلُّق لها بما نحن فيه (8) .
_________
(1) في ن: ((مهتلة)) وهو تحريف.
(2) هذا الدليل الأول للمشترطين.
(3) البقرة، من الآية: 143.
(4) هذا الدليل الثاني للمشترطين، ومعنى هذا الاستدلال: أنه لو كان إجماعهم حجة عليهم ـ لا يجوز لهم مخالفته ـ لكانوا شهداء على أنفسهم، وهو خلاف دلالة الآية. نهاية الوصول للهندي 6 / 2556، وانظر: إحكام الفصول ص470.
(5) ساقطة من ن. وللغزالي أيضاً جواب سديد إذ يقول: ((فإنَّا لا نجوِّز الرجوع من جميعهم، إذ يكون أحد الإجماعين خطأ، وهو محال. أما بعضهم فلا يحلّ له الرجوع، لأنه برجوعه يخالف إجماع الأمة التي وجبت عصمتها عن الخطأ. نعم يمكن أن يقع الرجوع من بعضهم ويكون به عاصياً فاسقاً، والمعصية تجوز على بعض الأمة ولا تجوز على الجميع)) . المستصفى 1 / 361. وانظر: إحكام الفصول ص 472.
(6) في ن: ((قوله)) .
(7) النساء، من الآية: 135.
(8) انظر: شرح اللمع للشيرازي 1 / 699، نفائس الأصول 6 / 2682، كون المراد بالآية الدار الآخرة فيه نظر، فإن بعض المفسرين جعل الشهادة عامة في الدنيا والآخرة وهو الأوجه، ومما يدلًّ على الشهادة في الدنيا قول النبي صلى الله عليه وسلم لصحابته حينما أثنوا على جنازةٍ قال: ((أنتم شهداء لله في الأرض)) رواه البخاري (1367) ، مسلم (949) . انظر: المحرر الوجيز لابن عطية 2/3، التفسير الكبير للرازي 4/91، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 2/154.

(2/141)


حجية الإجماع السكوتي
ص: وإذا حكم بعض الأمة وسكت الباقون (1)
فعند الشافعي والإمام ليس بحجة ولا إجماع (2) . وعند الجُبَّائي (3) إجماع وحجة بعد انقراض العصر (4) .
_________
(1) هذه مسألة: " الإجماع السكوتي " وهو: أن يقول بعض المجتهدين في مسألة قولاً أو يفعل فعلاً ويسكت الباقون بعد إطلاعهم عليه دون إنكار. ويسمى الإجماع السكوتي عند الحنفية " بالرخصة " لأنه جُعِل إجماعاً ضرورةً للاحتراز عن نسبة الساكتين إلى الفسق والتقصير، ويسمى الإجماع القولي عندهم " عزيمة ". انظر: أصول السرخسي 1/303، كشف الأسرار للبخاري 3 / 326.
وقبل عرض مذاهب العلماء في حجيته، لابد من معرفة الشروط المعتبرة فيه، وهي:
1 - ألاَّ تظهر من الساكتين أمارةٌ دالةٌ على الرضا أو السخط. 2 - ظهور الحكم وانتشاره واشتهاره بين العلماء. 3 - أن تمضي مدة كافية للتأمل والنظر في حكم الحادثة. 4 - أن تنتفي دواعي السكوت من خوف أو اعتماده أن غيره كفاه مئونة الرد أو نحو ذلك. 5 - أن يكون السكوت قبل استقرار المذاهب في المسألة. 6 - أن تكون المسألة تكليفية. 7 - ألاَّ تتكرر المسألة مراراً مع طول الزمان.
انظر: رفع الحاجب لابن السبكي 2 / 203، البحر المحيط للزركشي 6/470، التوضيح لحلولو ص283، شرح الكوكب المنير 2/253، تيسير التحرير 3/246.

أما المذاهب فيها؛ فقد ذكر المصنف فيها أربعة مذاهب وهي أبرزها. وقد ذكر الزركشي فيها اثني عشر قولاً وكذا الشوكاني. انظر: البحر المحيط 6/456، إرشاد الفحول 1/326.
(2) هذا المذهب الأول، وهو للشافعي في الجديد، وداود الظاهري، وعيسى بن أبان، والباقلاني، وأبو عبد الله البصري من المعتزلة. انظر: شرح العمد 1/248، الإحكام لابن حزم 1/615 إحكام الفصول ص474، المنخول ص318، المحصول للرازي 4/153، كشف الأسرار للبخاري 3/427. وفصّل الزركشي في اختلاف نسبة هذا القول للشافعي. انظر: البحر المحيط 6/456ـ462.
(3) المراد به الأب: أبوعلي الجبائي. انظر مذهبه في شرح العمد 1/248، المعتمد 2/66.
(4) من العلماء من ذكر بأنه إجماع وحجة دون شرط الانقراض. ومنهم من قال: بأنه إجماعي قطعي، وآخرون بأنه ظني. وممن ذهب إلى أنه إجماع وحجة ـ على خلافٍ في التفصيل ـ أكثر الحنفية والمالكية، وبعض الشافعية وهو قول الإمام أحمد وأكثر أصحابه. انظر: إحكام الفصول ص473، شرح اللمع للشيرازي 2/691، أصول السرخسي 1/303، المسودة ص 335، جامع الأسرار للكاكي 3/930، مفتاح الوصول ص 745، الضياء اللامع لحلولو 2 / 246، المختصر في أصول الفقه لابن اللحام ص77، غاية الوصول للأنصاري ص108، نشر البنود 2/94.
لم يذكر المصنف مذهب المالكية في هذه المسألة، وفي نفائس الأصول (6/2691) نقل عن القاضي
عبد الوهاب بأن مذهب المالكية أنه إجماع وحجة.

(2/142)


وعند أبي هاشم (1) ليس بإجماع، وهو حجة (2) . وعند أبي علي بن أبي هريرة (3) إن كان القائل حاكماً لم يكن إجماعاً ولا حجة، وإن كان غيره فهو إجماع وحجة (4) .
الشرح
حجة الأول: أن السكوت قد يكون لأنه في مهلة النظر، أو يعتقد أن (5) قول خصمه مما يمكن أن يذهب إليه ذاهب، أو يعتقد أن كل مجتهد مصيب، أو هو عنده (6) منكر ولكن يَعْتقد أن غيره قام بالإنكار عنه، أو يعتقد أن إنكاره لا يفيد، ومع هذه الاحتمالات (7)
لا يقال للساكت موافق للقائل، وهو معنى قول الشافعي رضي الله عنه: ((لا يُنْسب إلى ساكتٍ قولٌ)) (8) وإذا لم يكن إجماعاً لا يكون حجة، لأن قول بعض الأمة ليس بحجة.
_________
(1) المراد به أبو هاشم بن أبي علي الجبائي. انظر مذهبه في: شرح العمد 1/249، المعتمد 2 / 66.
(2) وهو مذهب بعض الشافعية كالصيرفي وغيره، وهو اختيار ابن الحاجب. انظر: التبصرة ص392، منتهى السول والأمل ص58، البحر المحيط للزركشي 6/461.
(3) في ن: ((هبيرة)) وهو تحريف. وابن أبي هريرة هو: القاضي أبو علي الحسن بن الحسين البغدادي. انتهت إليه إمامة الشافعية بالعراق، تفقه على ابن سريج، وله بعض المصنفات منها: شرح مختصر المزني ت 345 هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 3 / 256، وفيات الأعيان 2 / 75.
(4) وذهب أبو إسحاق المروزي إلى عكس هذا المذهب. انظر المذهبين في: البحر المحيط للزركشي 6/463، 465، الإبهاج للسبكي وابنه 2/380.
(5) ساقطة من ن.
(6) ساقطة من ق.
(7) هذه الاحتمالات ذكرها الرازي في المحصول (4/153) وأوصلها إلى ثمانية. والمصنف عدَّ منها خمسة.
وانظر: المستصفى 1/359، روضة الناظر 2/493، الإبهاج للسبكي وابنه 2/381.

ولقد فنَّد هذه الاحتمالات جميعها الآمدي في الإحكام (1 / 253) ، وصفي الدين الهندي في نهاية الوصول (6/2570) . وقال المصنف في نفائس الأصول (6/2691) ((والأصل عدم هذه الاحتمالات، وندرة بعضها يسقطه عن الاعتبار)) .
(8) هذه من العبارات الرشيقة للشافعي رحمه الله كما قال الجويني في البرهان (1/448) فقرة (646) . ونص عبارة الشافعي ((لا يُنْسب إلى ساكتٍ قولُ قائلٍ ولا عملُ عاملٍ، وإنما يُنْسب إلى كلٍّ قولُه وعملُه))
الأم 1/152.
لكن هذا القول ـ الذي صار قاعدة ـ ليس على إطلاقه، لهذا وضع العلماء قيداً فقالوا: لا ينسب إلى ساكتٍ قولٌ، لكنَّ السكوتَ في مَعْرض الحاجة بيانٌ. انظر فروع القاعدة واستثناءاتها في: الأشباه والنظائر للسيوطي ص266، شرح القواعد الفقهية للشيخ أحمد بن الشيخ محمد الزرقا ص337.

(2/143)


حجة الجُبَّائي (1) : أن السكوت ظاهر في الرضا ولاسيما (2)
مع طول المدة، ولذلك (3) قال عليه الصلاة والسلام في البِكْر: ((وإذْنُها صُمَاتُها)) (4) وإذا كان الساكت موافقاً كان إجماعاً وحجة، عملاً بالأدلة الدالة (5) على كون الإجماع حجة (6) .
حجة (7) [أبي هاشم] (8) : أنه ليس إجماعاً لاحتمال السكوت ما
تقدم (9) من غير الموافقة، وأما أنه حجة فإنه يفيد الظن والظن، حجة لقوله عليه الصلاة والسلام: ((أمِرْتُ أن أقضي بالظاهر والله يتولَّى السرائر)) (10) . وقياساً على
_________
(1) المراد به الأب أبو علي.
(2) في ق، س: ((لا سيما)) بدون الواو قال الأشموني: ((وتشديد يائها، ودخول " لا " عليها، ودخول الواو على " لا " واجب، قال ثعْلب: من استعمله على خلاف ما جاء في قوله ((ولا سيما يوم)) فهو

مخطيء. وذكر غيره أنها قد تخفف وقد تحذف الواو ... )) شرح الأشموني على ألفية ابن مالك بحاشية الصبان 2/249.
(3) في ن: ((وكذلك)) ، والمثبت أليق بالسياق.
(4) رواه البخاري (6971) من حديث عائشة رضي الله عنها قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((البكر تستأذن)) قالت: إن البكر تستحيي قال: ((إذْنُها صُمَاتُها)) ورواه مسلم (1421) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما. والصُّمَات والصُّموُت هو السُّكات والسكوت وزناً ومعنىً. انظر: لسان العرب مادة " صمت ".
(5) ساقطة من ن.
(6) ليس سياق حجة الجبائي هكذا، بل هذه الحجة صالحة للقائلين بأن الإجماع السكوتي حجة وإجماعٌ مطلقاً من غير اشتراط انقراض العصر، كما قررها الشوشاوي في رفع النقاب (2/504) أما حجة الجبائي باختصار فهي: أن الساكتين إذا سمعوا الحكم وطال بهم زمان التفكير فإن اعتقدوا خلاف ما انتشر من القول فيها أظهروه إذا لم تكن تقية، فإن كانت ذكروا سببها، وإن ماتوا قبل من يَتَّقُونه صارت المسألة إجماعاً، وإن مات من يَتَّقُونه وجب أن يظهروا قولهم، فبان أنه لا يجوز انقراض العصر من غير ظهور خلافٍ لما انتشر، لهذا اشترط انقراض العصر. انظر: المغني المجلد (17) قسم " الشرعيات " للقاضي عبد الجبار ص236، المعتمد 1/67.
(7) ساقطة من س.
(8) ساقطة من س، ن.
(9) تقدَّم.
(10) هذا الحديث لا أصل له. قال ابن كثير: ((هذا الحديث كثيراً ما يلهج به أهل الأصول، ولم أقف له على سند، وسألت عنه الحافظ أبا الحجَّاج المِزِّي فلم يعرفه)) تحفة الطالب ص (145) وقال الزركشي: ((هذا الحديث اشتهر في كتب الفقه وأصوله، وقد استنكره جماعة من الحفاظ منهم المزي والذهبي، وقالوا: لا أصل له)) المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر ص (99) . وقد نبّه الحافظ بن حجر أنه من كلام الشافعي فظنَّه بعض من رأى كلامه أنه حديثٌ للنبي صلى الله عليه وسلم. انظر: موافقه الخُبْر الخَبَر (1/181) .

(2/144)


المدارك الظنية (1) .
حجة أبي علي (2) : أن الحاكم يُتْبِعُ أحكامَه ما يَطَّلع عليه من أمور رعيته (3) ، فربَّما علم في حقهم ما يقتضي عدم سماع دعواه (4) لأمر باطن يعلمه، وظاهر الحال يقتضي (5) أنه (6) مخالفٌ للإجماع، وكذلك في تحليفه وإقراره، وغير ذلك مما انعقد الإجماع على قبوله (7) ، وأما المفتي فإنما يفتي بناءً على المدارك الشرعية، وهي معلومة عند غيره، فإذا رآه خالفها نبَّهه، وأما أمور الرعية (8) وخواص أحوالهم فلا يَطّلع عليها إلا من ولي عليهم، فتلجئه الضرورة للكشف عنهم، فلا يشاركه غيره في ذلك، فلا يحسن الإنكار عليه، ثم إنه قد يرى المذهب المرجوح في حق غير هذا الخصم هو
_________
(1) وقال السخاوي: ((اشتهر بين الأصوليين والفقهاء ... ولا وجود له في كتب الحديث المشهورة، ولا الأجزاء المنثورة)) المقاصد الحسنة ص (117) .
ولكن هذا القول صحيح المعنى يشهد له حديث أم سلمة رضي الله عنها ترفعه ((إنما أنا بشر، وإنكم تختصمون إليّ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعضٍ، فأقضي له بنحو ما أسمع، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه، فإنما أقطع له قطعة من النار)) رواه البخاري (6967) ومسلم (1713) وترجم له النسائي (5416) باب الحكم بالظاهر. كما يشهد له حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه موقوفاً عليه ((أن ناساً كانوا يُؤْخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم فمن أظهر خيراً أَمِنَّاه وقرَّبناه وليس إلينا من سريرته شيء، الله يحاسب سريرته، ومن أظهر لنا سوءاً لم نَأْمَنه ولم نصدّقه وإن قال: إنَّ سريرته حسنة)) رواه البخاري (2641) .
(
) ليس سياق حجة أبي هاشم هكذا كما وردت في كتب المعتزلة، بل حجته هي: أن الإجماع إنما ثبت من طريق القول أو الفعل أو الرضا به والاعتقاد له، فإذا ظهر من بعض الصحابة في الحادثة قول مخصوص، وظهر من الباقين السكوت عنه، لم يحصل فيه إجماع لا من طريق القول ولا الفعل ولا الرضا، لأن السكوت لا يعلم بمجرده الرضا. وأما أنه حجة لأن التابعين ومن بعدهم أجمعوا على الاحتجاج به، والمنع من مخالفته كالمنع من إحداث قول ثالث إذا اختلفوا على قولين. انظر: المغني المجلد (17) قسم " الشرعيات " للقاضي عبد الجبار ص237، شرح العمد 1/251، المعتمد 2/67
(2) أي: ابن أبي هريرة.
(3) في ن: ((عايبته)) ، ولست أعلم لها وجهاً.
(4) دعواه: أي دعوى الخصم.
(5) ساقطة من س.
(6) أي: أن حكم الحاكم.
(7) أي: قبول حكم الحاكم، لأن حكمه يرفع الخلاف والنزاع.
(8) في ن: ((الدعية)) وهو تحريف.

(2/145)


الراجح المتعين في حق هذا الخصم لأمر اطلع عليه، فلا يمكن الاعتراض عليه لهذه الاحتمالات (1) .
إذا قال بعض المجتهدين قولاً ولم ينتشر ولم يعلم له مخالف، هل يكون إجماعاً سكوتياً؟
ص: فإن قال بعض الصحابة قولاً ولم يُعْرف له مخالف (2) ، قال الإمام (3) : إن كان مما تَعُمُّ به البلوى (4) ، ولم ينتشر (5) ذلك القول فيهم، [ففيه مخالف لم يظهر] (6) ،
_________
(1) لكن اعترض ابن عاشور على قول المصنف هنا فقال: ((قوله (أي المصنف ... سَهْو ظاهر في تقرير حجته فالسكوت إنما كان تحاشياً للافتيات على الأمراء، لا لموافقتهم، ولا يردون أن في الإنكار فائدة؛ لأن الأحكام لا تنقض؛ ولأن الخلاف يرتفع بالحكم ... أما ما قرره المصنف فيفضي إلى أن ابن أبي هريرة يجوّز للحاكم خرق الإجماع لأمور ظنية، وهذا لا قائل به، ولو أراده المصنف لكان ذريعةً للظلمة يخرقون به الإجماعات، ولكن المصنف أجلّ من أن يقرّ هذا لو أعاد عليه النظر بعد أن سبقه القلم)) . حاشية التوضيح والتصحيح 2 / 105.
(2) الفرق بين هذه المسألة وسابقتها: أن الأولى القول فيها منتشر وظاهر، بينما في هذه لم يبلغ القول جميع المجتهدين. انظر: نفائس الأصول 6/2693، رفع النقاب القسم 2/507.
أمَّا الأقوال فيها فهي ثلاثة، لم يذكر المصنف منها سوى واحدٍ، وهي، الأول: يُلحق بالإجماع السكوتي، فيكون حكمه حجةً وإجماعاً. الثاني: لايكون إجماعاً ولاحجة، لأنه لم يبلغهم، فلو بلغهم ربما لم يسكتوا عليه. الثالث: التفصيل ـ وهو ما حكاه المصنف عن الرازي ـ فإن كان مما تعمُّ به البلوى ألْحِق بالسكوتي، لأنه لابدّ أن يكون للباقين قولٌ في المسأله لكنه لم يظهر، فيجري مجرى قول البعض بحضرة الباقين وسكوتهم عنه، وإن كان ممالا تعم به البلوى فلا يكون إجماعاً سكوتياً، أي ليس بإجماع ولا حجة، لاحتمال ذهول البعض عنه. انظر المسألة في: المعتمد 2/71، الإحكام لابن حزم 1/615، شرح اللمع للشيرازي 2/742، التمهيد لأبي الخطاب 3/330، المحصول للرازي4/159، الإحكام للآمدي 1/255، منتهى السول والأمل ص 59، التوضيح لحلولو ص283
(3) انظر: المحصول 4/159. وقد سبق تقرير مذهبه قريباً في الهامش السابق.
(4) ما تعم به البلوى هو: ما يحتاج الكل إليه حاجةً متأكدة تقتضي السؤال عنه مع كثرة تكرره، كمس الذَّكَر ونحوه. انظر: شرح جمع الجوامع بحاشية البناني 2/136، تيسير التحرير 3/112، رفع النقاب القسم 2/508.
(5) في ق: ((يَفْشُ)) .
(6) وقع في هذه العبارة اضطراب في النسخ المخطوطة للمتن والشرح، والمثبت من س، ص، و، ش، ومتن ز، ومتن د. وقريبٌ من ذلك في نسخة ن بزيادة كلمة " قول ": ((ففيه قول مخالف لم يظهر)) ..وسبب الاختيار المثبت أن المصنف قال في شرح هذا المتن ص (147) وقولي: ((فيه مخالف)) ، وهو ما أجمعت عليه نسخ الشرح، فكان ما أثبت أقرب لعبارة المصنف في شرحه. وفي ق: ((فيحتمل أن يكون فقيه مخالف لم يظهر)) . وفي متن هـ، ومتن ف ((فيحتمل أن يكون فيهم مخالف لم يظهر)) . وفي نسخة م: ((وفيهم فقيه مخالف لم يظهر)) . وفي ز: ((وبينهم وفيه مخالف لم يظهر)) .

(2/146)


فيجري مَجْرى قول البعض وسكوت البعض، وإنْ كان مما لا تعم به (1) البلوى فليس بإجماعٍ ولا حجةٍ.
الشرح
إذا كانت الفتوى مما تعم بها البلوى فإنَّ (2) سببها عامٌّ كدم البراغيث (3) وطين المطر والفِصَادة (4) وكونها تَنْقُض الطهارةَ ونحو ذلك (5) ، فشأن هذه الفتوى (6) أن تنتشر (7) بينهم لعموم سببها وشموله لهم، فإذا لم تنتشر (8) فبعضهم عنده علم تلك الفتوى لوجود سببها في حقه وهو إما موافق لما ظهر أو مخالف له.
وقولي: ((فيه مخالف)) : غير هذه العبارة أجود، بل نقول (9) : ((فيه قائل)) ، أما المخالف فلا يتعيَّن لاحتمال أنه موافق (10) .
وأما إذا لم تعم به البلوى فيتخرَّج على الإجماع السكوتي، هل هو إجماع وحجة أم
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) هنا زياد ة: ((كان)) في ق ولا وجه لها.
(3) جمع بُرْغُوث. الباء فيه مثلَّثة والأشهر الضَّم. وهي دويبة من صغار الهوامَّ، عضوض، شديد الوَثبِ، تعيش على جسم الإنسان والحيوانات اللبونة، تتغذى من الفضلات، لدغتها سامَّة، وقد تُسِّبب وباء الطاعون. انظر: تاج العروس، المعجم الوسيط كلاهما مادة " برغث "، ربيع الأبرار للزمخشري 4/478.
(4) الفِصَادة: مِنْ فَصَد يفصِد فَصْداً وفِصَاداً، وهي شَقُّ العِرْق ليسيل الدم. والفَصْد والحجامة والشَّرْط كلها تجتمع في أنها إخراجٌ للدم، لكنْ الشَّرْط: شَقُّ العِرْق طولاً، والفَصْد: شَقُّه عرضاً، والحجامة: مصُّ الدم بعد خروجه. انظر: تاج العروس مادة " فصد "، الموسوعة الفقهية إصدار وزارة الأوقاف بالكويت مادة
" حجامة " (17/14) ، الشرح الممتع على زاد المستنقع للشيخ محمد العثيمين 6/396.
(5) انظر أحكام المذكورات من حيث نقضها للطهارة في: الحاوي للماوردي 1/200، 295، المبسوط للسرخسي 1/85، 86، المغني لابن قدامة 2/484، 500، الذخيرة للقرافي 1/180، 193، 198.
(6) في ن: ((الفتاوى)) .
(7) في ق: ((تُفشى)) .
(8) في ق: ((تُفْشَ)) .
(9) في ن: ((يقول)) .
(10) ما كان أغنى المصنف عن هذا الاستدراك على نفسه لو أنه التزم نص عبارة المحصول (4/159) حيث قال: ((فلا بد وأن يكون لهم في تلك المسألة قول إما موافق وإما مخالف ولكنه لم يظهر)) .

(2/147)


لا؟ (1) . وهذا الذي نقلته هو قول الإمام فخر الدين في " المحصول " (2) ، ولما كان مذهبه في الإجماع السكوتي أنه ليس إجماعاً ولا حجة، [قال هنا] (3) كذلك، [وهو يتخرج] (4) على الخلاف المتقدِّم (5) .
ص: وإذا جوَّزنا الإجماع السكوتي فكثيرٌ ممن لم يَعتبر انقراض العصر في القولي اعتبره في السكوتي (6) .
الشرح
سبب الفرق أن الإجماع القولي قد صرَّح كل واحد بما (7) في نفسه، فلا معنى للانتظار، و [في السكوتي] (8) احتمال أن يكون الساكت في مهلة النظر (9) ،
_________
(1) لعلَّ هذا وقع سهواً من المصنف، لأن ما لا تعم به البلوى ولم ينتشر لا يتخرَّج على الإجماع السكوتي. وإنما الذي يتخرّج عليه هو ما تعم به البلوى ولم ينتشر، هذا ما ذكره الرازي في المحصول (4/159) . وربّما كان السبب في وقوع المصنف في هذا الوهم أن الرازي قال في الإجماع السكوتي بأنه ليس إجماعاً ولا حجة، فكذلك فيما تعم به البلوى ولم ينتشر أو ما لا تعم به البلوى. ولهذا قال حلولو: ((قول المصنف في الشرح: إن كان مما لا تعم به البلوى فيتخرج على الإجماع السكوتي ... غير صحيح، لما تقدَّم من أنَّ مثار الخلاف إنما هو بلاغ فتياه للباقين بالقيود المتقدمة، وفرض الصورة هنا إنما هو مع عدم البلاغ فلا يصح ـ ثم قال ـ وإذا لم يكن كذلك لم يكن للتفصيل بين ما تعم به البلوى وغيره معنى. والله أعلم)) التوضيح شرح التنقيح ص283. وانظر: منهج التحقيق والتوضيح لمحمد جعيط 2/129.
(2) انظر: المحصول 4/159.
(3) في ق: ((فهنا)) .
(4) في ق: ((فيتخرج)) .
(5) بل تتخرج المسألة حينئذٍ على مسألة قول الصحابي هل هو حجة؟ ، والله أعلم. انظر: العدة لأبي يعلى 4/1178، التبصرة ص395، إجمال الإصابة في أقوال الصحابة للعلائي ص35، إعلام الموقعين لابن القيم 4/104.
(6) سبق في مسألة حجية الإجماع السكوتي أن مذهب أبي علي الجبائي اشتراط انقراض العصر في حجية الإجماع السكوتي. وحكاه الشيرازي عن بعض الشافعية، وهو رواية عن الإمام أحمد، واختاره الآمدي. انظر: المعتمد 2/66، شرح اللمع للشيرازي 2/698، المحصول للرازي 4/151، الإحكام للآمدي 1/257، المسودة ص320، 335، البحر المحيط للزركشي 6/480.
(7) ساقطة من ن.
(8) ساقط من ن.
(9) حدَّها بعضهم بثلاثة أيام، والصحيح أنها تختلف باختلاف الواقعة ووضوح مستند الإجماع وغموضه، ويُجرى في ذلك مجرى العادة. انظر: التقرير والتحبير 3/135.

(2/148)


فيُنْتَظر (1) حتى ينقرض العصر، فإذا مات علمنا رضاه. قال الإمام فخر الدين: ((وهذا ضعيف؛ لأن السكوت إن (2) دل على الرضا دل في الحياة أو لايدل، فلا يدل عند الممات)) (3) .
حكم الإجماع المروي بخبر الآحاد
ص: والإجماع المرويُّ بأخبار الآحاد حجة خلافاً لأكثر الناس (4) ،
لأن هذه الإجماعات وإن لم تُفِد العلم (5) فهي تفيد الظن، والظن (6) معتبرٌ في الأحكام كالقياس وخبرالواحد (7) . غير أنَّا لا نكفِّر مخالفها (8) ، قاله الإمام (9) .
_________
(1) في س، ن: ((فينظر)) .
(2) في ن، س: ((إذا)) وهو ممكن. انظر: هامش (7) ص (16) . والمثبت هنا موافق للمحصول
4 / 151.
(3) عبارة الرازي في المحصول (4/151) أوضح مما ذكرها المصنف وهي: ((وهذا ضعيف، لأن السكوت إنْ دلَّ على الرضا وجب أن يحصل ذلك قبل الموت، وإن لم يدل عليه، لم يحصل ذلك أيضاً بالموت، لاحتمال أنه مات على ما كان عليه قبل الموت. والله أعلم)) .
(4) ممن قال بحجيته: الحنفية في المختار عندهم، والحنابلة، وبعض الشافعية كالرازي والآمدي، وبعض المالكية كالباجي وابن الحاجب، وصححه أبو الحسين البصري. وممن أنكر حجيته: بعض الحنفية وبعض المالكية كالباقلاني والغزالي من الشافعية. انظر: المعتمد 2/67، إحكام الفصول ص503، المستصفى 1/575، المحصول للرازي4/152، روضة الناظر 2/500، الإحكام للآمدي 1/281، مختصر ابن الحاجب مع بيان المختصر للأصفهاني 1/614، تحفة المسؤول للرهوني القسم 1 / 529، التوضيح لحلولو 284، التقرير والتحبير 3/153، فواتح الرحموت2/301، ومنشأ الخلاف: اختلاف نظر كل فريق إلى دليل أصل الإجماع أيجوز أن يكون ظنياً أم لا؟ انظر: نهاية الوصول للهندي 6/2665.

وقول المصنف هنا ـ تبعاً للرازي ـ ((خلافاً لأكثر الناس)) فيه نظر قد تبيَّن لك وجهه عند عرض رأي القائلين بحجية الإجماع المروي بأخبار الآحاد. ولهذا جاء في المسودة ص (344) ، وكشف الأسرار للبخاري (3/485) بأن أكثر العلماء على حجية العمل بالإجماع المنقول بالآحاد.
(5) في متن هـ: ((القطع)) .
(6) في متن هـ: ((وهو)) .
(7) هنا زيادة: ((عندنا)) في ق.
(8) هذا حكم منكر الإجماع الظني المستند للآحاد، لأنه مظنون بل لا يُضَلَّل منكره، بل يجوز الاجتهاد على خلافه إذا كان مع المجتهد دليل، وستأتي هذه المسألة في آخر هذا الفصل ص 166. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية 19/270، رفع النقاب القسم 2/514، التقرير والتحبير 3/153، نشر البنود2/86.
(9) ليس كل ما سبق ذكره قولاً للرازي بل عبارته تنحصر في قوله ((والإجماع المروي بأخبار الآحاد حجة خلافاً لأكثر الناس)) فقط، انظر المحصول4/152.

(2/149)


الشرح
ولأنه حجة شرعية فيصح التمسك (1) بمظنونه كما يصح بمقطوعه كالنصوص والقياس.
حجة المنع: أن خبر الواحد إنما يكون حجة في السنة وهذا ليس منها، ثم الفرق أن إجماع الأمة من الوقائع العظيمة فتتوفر الدواعي على نقلها، بخلاف وقائع أخبار الآحاد، فحيث نُقِل بأخبار الآحاد كان ذلك ريبة في ذلك النقل (2) .
فإن قلت: الصحيح قبول خبر الواحد فيما تعم به البلوى (3) ، مع أنه مما تتوفر الدواعي على نقله، فما الفرق؟ (4) . قلتُ: الفرق أن عموم البلوى أقل من الكل قطعاً (5) .
حكم الاستدلال بدليل أو تأويل لم يتعرض أهل العصر الأول لهما في إجماعهم
ص: قال (6) : وإذا استدل أهل (7) العصر الأول (8) بدليلٍ وذكروا (9) تأويلاً،
[واستدل أهل العصر الثاني بدليلٍ آخر* وذكروا تأويلاً] (10) آخر (11) ، فلا
_________
(1) في ق: ((التمثيل)) وهو تحريف.
(2) ساقطة من ق.
(3) انظر مسألة خبر الواحد فيما تعم به البلوي ص (267) من هذا الكتاب.
(4) هذا اعتراض على حجة المنع حاصله: قولكم بأن الإجماع مما تتوفر الدواعي على نقله لانتشاره يلزم أيضاً في خبر الواحد فيما تعم به البلوي، ومع هذا فهو مقبول، فليقبل الإجماع المنقول بالآحاد إذ لا فرق.
(5) قال الشيخ محمد الطاهر بن عاشور ((هذا نص العبارة في جميع النسخ، ولاشك أن بها نقصاً. والظاهر أن أصلها: أن عموم البلوى أقل من اتفاق الكل قطعاً ... والمراد بكونه أقل أنه أضعف من اتفاق الكل ... )) حاشية التوضيح والتصحيح 2 / 106.
(6) ساقطة من ن، والقائل هو الإمام الرازي في المحصول 4/159.
(7) ساقطة من س، ق.
(8) ساقطة من ن.
(9) لو قال المصنف ((أو ذكروا)) لكان أولى إفادةً للتنويع والتقسيم، كما هي عبارة المحصول (4/159) .
(10) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(11) مثال الدليل: كأن يجمع أهل العصر الأول على أن النية واجبة بدليل قوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ... } [البنية: 5] . ثم يستدل أهل العصر الثاني على وجوبها بقوله صلى الله عليه وسلم: ((إنما الأعمال بالنيات ... )) رواه البخاري (1) ، ومسلم (1907) . ومثال التأويل (بمعنى التفسير) كما إذا قال المجمعون في قوله صلى الله عليه وسلم: ((وعفِّرُوه الثامنةَ بالتراب)) رواه مسلم (280) أن تأويله عدم التهاون بالسبع بأن يُنقص عنها. ويؤوله من بعدهم بأن معناه أن التراب لمَّا صحب السابعة صار كأنه ثامنة، وهناك تأويلات أخرى. انظر: سبل السلام للصنعاني 1/53. وانظر هذه الأمثلة في: حاشية البناني على شرح الجوامع2/199، سلم الوصول للمطيعي3/936، وانظر مثالاً آخر في رفع النقاب القسم 2/515.

(2/150)


يجوز إبطال التأويل القديم، وأما الجديد فإن لزم منه إبطال القديم بطل وإلا فلا (1) .
الشرح
مثاله (2) : اللفظ المُشْتَرك، يحمله أهل العصر الأول على أحد معنييه، ثم في العصر الثاني يعتبرون المعنى الآخر الذي لم يعتبره العصر الأول (3) .
قال الإمام فخر الدين: ((المشترك لا يستعمل في مفهوميه وأحدهما (4) مرادٌ، والآخر ليس بمرادٍ، فلا يستقيم اعتبار التأويلين)) (5) .
_________
(1) كان الأنسب أن تكون هذه المسألة عقب مسألة حكم إحداث قول ثالث لقرب المناسبة بينهما، كما فعل حلولو في التوضيح ص (281) .
ـ ثم إن هذه المسألة تتعلق بدليل الحكم المجمع عليه، والعادة جرت بأن يكون الإجماع على حكم، فهذا الإجماع لا تجوز مخالفته. لكن كيف يكون الأمر لو أجمعوا على دليل الحكم أو تأويلٍ ما فهل يجوز الاستدلال بدليل آخر؟
? ... تحرير محل النزاع: إذا استدل أهل العصر الأول بدليل أو ذكروا تأويلاً، فلا يخلو الحال من أحد أمور ثلاثة:
أ - أن ينصُّوا على إبطال ما عداهما، فلا يجوز حينئذٍ لمن بعدهما إحداث دليل أو تأويل، لما فيه من تخطئة
الأمة فيما أجمعت عليه.
ب - أن ينصُّوا على صحة الاستدلال بدليلٍ آخر أو ذكر تأويلٍ آخر، فيجوز لمن بعدهم إحداث دليل جديد
أو تأويل جديد.

جـ - أن يسكتوا عن الأمرين، فهذه صورة النزاع. جمهور العلماء على الجواز إذا لم يلزم منه إبطال دليل أو
تأويلٍ للعصر الأول وإلا فلا. وقلَّة من العلماء على المنع مطلقاً. وفي المسألة أقوال أخرى، ذكرها
الزركشي في البحر المحيط (6 / 514) .
انظر المسألة في: المعتمد 2/51، الوصول لابن برهان 2/113، الإحكام للآمدي 1/246، منتهى السول والأمل ص62، المسودة ص328، تحفة المسؤول للرهوني القسم 1 / 519، التوضيح لحلولو ص281، تيسير التحرير 3/253.
(2) أي مثال التأويل.
(3) ومثال اللفظ المشترك: القُرْء فهو موضوع للطُّهْر والحيض. فإذا فسَّره أهل العصر الأول بالطُّهر فلا يجوز ـ عند الرازي لأهل العصر الثاني تفسيره بالحيض، لأنه يؤدي إلى إبطال تفسير أهل العصر الأول لعدم إمكان اجتماعهما. انظر: رفع النقاب القسم 2/515.أما المصنف فإنه يرى جواز حمل المشترك على معنييه. وقدسبقت منازعة المصنفِ للرازي في هذه المسألة ص (114) من هذا الكتاب المطبوع. وانظر أيضاً: نفائس الأصول 2/740 ففيه توسُّع.
(4) في ن، س ((فأحدهما)) . والمثبت أنسب، لأن الواو حالية.
(5) انظر المحصول 4/160.

(2/151)


ويرِدُ عليه: أن مذهب الشافعي* ومالكٍ والقاضي (1) وجماعةٍ كثيرة جوازه (2) فجاز أن يعتبر العصر الأول أحد المعنيين لحضور سببه ولا يَخْطُر (3) الآخر ببالهم لعدم حضور سببه، ثم في العصر الثاني يحضر سببه فيعتبرونه (4) دون الأول، والأمة لا يلزمها علم ما تحتاجه وعلم ما لا تحتاجه فقط (5) .
قال القاضي عبد الوهاب في " الملخص " (6) : إذا استدل أهل (7) الإجماع بدليل على حكم هل (8) يجوز أن يُسْتَدَلَّ بدليلٍ آخر على ذلك الحكم؟. منعه قوم لأن استدلال الأوَّلِين يقتضي أن ما عداه خطأ. قال: والحق أنه إن فهم عنهم (9) أن ما عداه (10) ليس بدليل على ذلك الحكم (11) امتنع الاستدلال بغيره، وإلاّ فلا يمتنع، لأنه لا يجب (12) عليهم ذكر كل ما يصلح الاستدلال به. وهل يصحُّ في كلِّ دليل (13) أن يُجْمِعوا أنه (14) ليس بدليل، أو (15) يُفَصَّل في ذلك؟ فيقال: كل ما يقبل النسخ أو
_________
(1) ساقطة من ق.
(2) انظر: المصادر المذكورة في هامش (1) ص (151) . وانظر أيضاً: شرح المعالم 2 / 125، بديع النظام (نهاية الوصول) لابن الساعاتي ص 311، رفع الحاجب لابن السبكي 2 / 237، أصول الفقه لابن مفلح 2 / 444.
(3) في ن: ((يحضر)) .
(4) في ن: ((فيتعين)) .
(5) انظر: النفائس الأصول6/2679.
(6) انظر قوله في: نفائس الأصول 6 / 2777، وقد جاء بعض قوله في: رفع الحاجب لابن السبكي 2 / 237 - 239، البحر المحيط للزركشي 6/516.
(7) سقطت من جميع النسخ ما خلا نسختي ص، و.
(8) هكذا في جميع النسخ، والصواب" فهل" لأن القاعدة النحوية هي: كل جوابٍ يمتنع جَعْلهُ شرطاً فإن الفاء تجب فيه، من هذه المواضع أن يكون جواب الشرط جملة طلبية والاستفهام من الجمل الطلبية. انظر: أوضح المسالك لابن هشام4/192.
(9) في ن: ((عنه)) .
(10) هنا زيادة: ((دليل)) في ن، ولا حاجة لها.
(11) في ن زيادة: ((لأن استدلال الأولين)) ولا معنى لها.
(12) في ن: ((تجب)) ، وهو تصحيف.
(13) هنا زيادة: ((كلي)) في ق ولا حاجة لها.
(14) في ن: ((بين ما)) ، وهي ليست مناسبة.
(15) الحرف ((أو)) مثبت في جميع النسخ، وهو ليس مثبتاً في نفائس الأصول (6/2777) ، فعلى حذفها يكون قوله: ((يُفصَّل ... إلخ)) جواباً لسؤاله: ((هل يصح ... إلخ)) .

(2/152)


التخصيص صحَّ إجماعهم على عدم دلالته وإلا لم يَجُزْ إجماعهم لأنه حينئذٍ* خطأ؛ لأنه لا يصح أن يخرج عن كونه دليلاً (1) .
وإذا قلنا بجواز الاستدلال بغير ما استدلوا به، فهل يجوز الاستدلال بعِدَّة أدلةٍ وإنْ كانوا هم لم يستدلوا إلا بدليل واحدٍ؟ وهل يُسْتدل بغير جنس دليلهم ولا فرق بين الجنس الواحد والجنسين (2) ؟. هذا في الأدلة.
وإنْ عللوا بعلةٍ فهل (3) لنا أن نعلل بغيرها (4) ؟. لا يخلو إما أن يكون الحكم عقلياً أو شرعياً، فإنْ كان عقلياً لم يجز بغير علتهم على أصولنا في أن الحكم العقلي لا يعلل بعلتين، بخلاف الاستدلال عليه بعلتين (5) ، ومن جوزه جوزه هاهنا (6) .
وأما الشرعي: فإنْ فرَّعنا على أنه لا يجوز تعليله امتنع، وإلا جاز بشرط أن لا تُنَافي عِلَّتُنا عِلَّتَهم إلا أن يجمعوا على عدم التعليل بغير علّتهم فيمتنع مطلقاً.
حكم إجماع أهل المدينة
ص: وإجماع أهل المدينة عند مالكٍ رحمه الله فيما طريقه التوقيف حجةٌ خلافاً للجميع (7) .
_________
(1) أي: أن الدليل مُحْكم غير منسوخ ولا مخصّص، فيصحُّ لمن بعدهم الاستدلال به، ولايصح لأهل العصر الأول أن يجمعوا على أنه ليس بدليلٍ.
(2) أي: لا فرق بين أن يكون كلا الدليلين من القرآن أو السنة أو أحدهما من أحدهما والآخر من الآخر.
(3) في ن: ((هل)) وهو خطأ سبق التنبيه عليه. انظر هامش (8) ص (152) .
(4) كأن يجعل أهل العصر الأول العلة في الربا في البر الاقتيات، يجعل آخرون بعدهم العلة الادخار. انظر: حاشية العطار على شرح جمع الجوامع 2/235.
(5) هكذا في جميع النسخ، بينما في نفائس الأصول 6/2778 ((بدليلين فأكثر فإنه يجوز)) .
(6) المراد بالعبارة: من جوَّز تعليل الحكم العقلي بعلتين جوَّز أن يُعلَّل بغير ما علَّل به أهل العصر الأول.
(7) المصنف رحمه الله تعالى لم يبسط هذه المسألة بالشرح والتفصيل مع كونها من أبرز مسائل المالكية الأصولية، كما أن قوله هنا ((خلافاً للجميع)) غير محرَّر.
انظر المسألة في: المقدمة في الأصول لابن القصار ص75، 219، 242، 311، 317. إحكام الفصول

ص 480، الضروري في أصول الفقه (مختصر المستصفى) لابن رشد ص93، نفائس الأصول 6 / 2701، تقريب الوصول لابن جُزَيّ ص337، مفتاح الوصول ص 752، التوضيح لحلولو ص284، رفع النقاب القسم 2/517، نشر البنود 2/89، منهج التحقيق والتوضيح لمحمد جعيط 2/130، الجواهر الثمينة لأدلة عالم المدينة حسن المشاط ص207ـ213. وانظر أيضاً: المعتمد 2/34، المحصول للرازي4/162، مجموع الفتاوي لابن تيمية 20/294 التقرير والتحبير 3/133، عمل أهل المدينة بين مصطلحات مالكٍ وآراء الأصوليين د. أحمد محمد نور سيف.

(2/153)


الشرح
لنا (1) : قوله عليه الصلاة والسلام: ((إنَّ المدينة لَتَنْفِي (2) خَبَثَها كما ينفي الكِيْرُ خَبَثَ الحديد)) (3) والخطأ خَبَثٌ فوجب نفيه (4) ، ولأن أخْلافهم تَنْقُل (5) عن أسلافهم، وأبناءهم (6)
عن آبائهم، فيخرج الخبر عن حَيِّز (7) الظن والتخمين (8) إلى حَيِّز (9) اليقين. ومن الأصحاب (10) من قال: إجماعهم مطلقاً حجةٌ وإنْ كان في عَمَلٍ عَمِلُوه أو (11) في نَقْل نَقَلُوه، ويدل على هذا القسم (12) الدليل الأول دون الثاني.
احتجوا: بقوله عليه الصلاة والسلام ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) (13) ، ومفهومه أن بعض الأمة يجوز عليه (14) الخطأ، وأهل المدينة بعض الأمة.
_________
(1) ساقطة من ق.
(2) في ق: ((تنفي)) .
(3) رواه البخاري (1871، 1883، 7209) ، ومسلم (1381، 1383) كلاهما بنحوه، والكِيْر: الزِّقُّ الذي تُنْفخ فيه النار، وكير الحدَّاد هو المبني من الطين انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر مادة " كير ".
(4) لكن المصنف في نفائس الأصول (6/2712) نفى أن يكون في الحديث دلالة على الدعوى، لأن الخبث في عُرْف الشرع هو ما نُهي عنه، كقوله صلى الله عليه وسلم: ((كَسْب الحَجَّام خبيثٌ)) [رواه مسلم في كتاب المساقات حديث رقم (41) ] . والخطأ والنسيان لا يتعلَّق بهما نهيٌ ولا غيره من الأحكام الشرعية.
(5) في ن، ق: ((ينقلون)) .
(6) في ن: ((وأبناؤهم)) وهي صحيحة أيضاً، قال ابن مالك:
وجائزٌ رفْعُكَ معطوفاً على منصوبِ إنَّ بعد أنْ تَسْتكْمِلا

وأشعر قوله هذا بأن النصب هو الأصل والأرجح؛ لكونه معطوفاً على اسم إن المنصوب، انظر: شرح ابن عقيل 1/191، حاشية الصبان على شرح الأشموني على الألفية 1/420.
(7) ساقطة من س، ق. وفي ن: ((خبر)) . والمثبت من ص، و، ز، لأنه أنسب للسياق.
(8) في ن: ((التخير)) وهو تحريف.
(9) في س: ((خبر)) .
(10) وهم أكثر المغاربة. انظر: إحكام الفصول ص 480، تحفة المسؤول للرهوني القسم 1/ 495 - 496.
(11) هكذا في ق، ص، وهو الصواب؛ لإفادته معنى الإطلاق. وفي باقي النسخ ((لا)) .
(12) في ق: ((التقسيم)) .
(13) تقدَّم تخريجه.
(14) في س: ((عليهم)) وهو جائز بالنظر إلى معنى " بعض الأمة "، والمثبت بالنظر إلى لفظ " بعض " في كونه مفرداً.

(2/154)


وجوابه: أن منطوق الحديث المُثْبِت أقوى من مفهوم الحديث النافي.
حكم إجماع أهل الكوفة
ص: ومن الناس (1) من اعتبر إجماع أهل (2) الكوفه (3) .
الشرح
... ... سببه أن علياً رضي الله عنه وجَمْعاً كثيراً (4) من الصحابة والعلماء كانوا بها فكان ذلك دليلاً على أن الحق لا يفوتهم (5) .
حكم إجماع العِتْرة
ص: وإجماع العترة (6)
حُجة (7)
_________
(1) لم أجدْ أحداً سمّاهم فيما وقفت عليه من كتب الأصول.
(2) ساقطة من ق.
(3) من الأصوليين مَنْ يَذْكر حِيال هذه المسألة: ((إجماع المِصْرَين)) أي: الكوفة والبصرة، و ((إجماع الحرمين)) أي: مكة والمدينة، و ((إجماع أهل الفسطاط)) . انظر: الإحكام لابن حزم1/615، المستصفى1/351، نهاية السول3/265، البحر المحيط للزركشي 6 / 449، نشر البنود2/83.
(4) في س: ((كبيراً)) .
(5) اعتراض الجمهور على هذا الاستدلال بأن أهل الكوفة أو البصرة أو غيرهم هم بعض الأمة، والإجماع لاينعقد إلا بجميع مجتهدي الأمة عملاً بقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا تجتمع أمتي على ضلالة)) سبق تخريجه. ثم لا مزية للكوفة ونحوها من حيث الشرع إلا وجود بعض الصحابة فيها، فيؤول الخلاف إلى حجية أقوال الصحابة رضي الله عنهم. انظر: الإحكام لابن حزم1/615، رفع النقاب القسم2/522.
(6) في ق، ن: ((العشرة)) وهو تصحيف.
والعِتْرة: بكسرٍ فسكون لغةً: لها معانٍ عدة منها: أقرباء الرجل من ولدٍ وغيره ورهطه وعشيرتة
الأدنون ممن مضى. انظر: لسان العرب مادة " عتر ". وفي الاصطلاح: هم أهل بيت رسول
الله صلى الله عليه وسلم أزواجه وعلي وفاطمة والحسن والحسين رضي الله عنهم. وقيل: هم بنو عبد المطلب، وقيل: هم بنو هاشم، وقيل: هم الأقربون والأبعدون، فيدخل فيهم كلُّ قرشيٍّ. انظر: النهاية في غريب الحديث

والأثر مادة " عتر " لابن الأثير، فتح القدير للشوكاني 4/271، سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني 4/359، نفائس الأصول 6/2716، 2722، رفع النقاب القسم2/522، منهاج الوصول للمهدي بن المرتضى (زيدي) ص 619.
(7) ساقطة من جميع نسخ الشرح والمتن ما عدا النسختين: ق، ص.

(2/155)


عند الإمَامِيَّة (1) (2) .
الشرح
... ... لقوله تعالى: {إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا} (3) والخطأ رجْسٌ، فوجب نفيه.
وجوابه: أن الرجس ظاهر في المعصية (4) ، والاجتهادُ الخطأُ (5) ليس بمعصية، ولأن
_________
(1) الإمَامِيَّة: هي فرقة كبيرة من فرق الشيعة، بل يكاد يطلق اسم الرافضة والشيعة عليهم، ويُسمَّون: بالجَعْفَرِيَّة نسبة إلى جعفر الصادق، وبالاثني عشرية، لأنهم يقصرون الإمامة على اثني عشر إماماً، ابتداءً بعليِّ رضي الله عنه وأولاده وأحفاده وانتهاءً بالمهدي المنتظر. ويقابل هذه الفرقة: الزيدية والإسماعيلية. وسُميت الإمامية بذلك لقولهم بوجوب الإمامة ووجودها في كل زمانٍ، وبالعصمة له. وهم أكبر فرق الرافضة اليوم، ويقطنون إيران والعراق وباكستان وما جاور الخليج العربي. انظر: الملل والنحل للشهرستاني 1/189، موسوعة الفرق الإسلامية د. محمد جواد مشكور (رافضي) ص 121، مسألة التقريب بين أهل السنة والشيعة د. ناصر القفاري 2/171، فرق معاصرة د. غالب عواجي 1/170.
(2) وممن قال بإجماع العترة: الزيدية، وجاء في المسودة ص (333) ((وقد ذكر القاضي في المعتمد هو وطائفة من العلماء أن العترة لا تجتمع على خطأ)) . انظر: منهاج السنة النبوية لابن تيمية 7/ 395، وانظر: عدة الأصول للخراساني (رافضي) ص 288، أصول الفقه لمحمد الرضا المظفر (رافضي) 2/91، الفصول اللؤلؤية في أصول فقه العترة النبوية للقاضي إبراهيم الهادي (زيدي) ص228، البحر الممحيط للزركشي6/450.
قال المهدي بن المرتضى (زيدي) ((وفي هذه الحكاية (أي حجية إجماع العترة) عن الإمامية نظر، لأن الحجة عندهم إنما هي في قول المعصوم، يعني الإمام، فانضمام العترة إليه لا يكمِّله، وانفرادهم عنه لا ينقصه. فهذه الرواية لا تصح على مذهبهم. نعم ذكر الشريف المرتضى أن إجماع الإمامية حجة، لأنهم إذا أجمعوا على الخطأ وجب ظهور الإمام)) منهاج الأصول إلى معيار العقول ص 621.
(3) الأحزاب، الآية: 33.
(4) الرجس: هو اسم لكلِّ ما يُسْتقذر من عملٍ، ويطلق على القذر، والعذاب، والشك، والمأثم (المعصية) . انظر: لسان العرب مادة: " رجس "، عمدة الحفاظ 2/72، تفسير البحر المحيط لأبي حيان 7/224.
(5) ساقطة من ق.

(2/156)


صيغة الحصر متعذرة في ذلك (1) ، لأن إرادة الله تعالى شاملة لجميع أجزاء العالم، فيتعين إبطال الحقيقة، ووجوه المجاز غير منحصرة، فيبقى مُجْملاً، فسقط الاستدلال به (2) (3) .
حكم إجماع الخلفاء الراشدين
ص: وإجماع الخلفاء الأربعة حجة (4) عند أبي خازم (5) ، ولم يعتدَّ بخلاف زيد بن ثابت في توريث ذوي الأرحام (6) .

الشرح
... ... مستنده (7) : قوله عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بسنتي وسنة الخلفاء
الراشدين من بعدي عضُّوا عليها بالنواجذ)) (8) وهذه صيغةُ تخصيصٍ تفيد الأمر
_________
(1) أي يتعذَّر حمل صيغة الحصر على إذهاب الرجس بمعنى الخطأ، لأن الله تعالى كتب على بني آدم وقوعهم في الخطأ، قال صلى الله عليه وسلم: ((كل بني أدم خطاء)) . رواه الترمذي (2499) ، ابن ماجه (4251) وحسنه الألباني في مشكاة المصابيح 2 / 724.
(2) ساقطة من ق.
(3) وجواب آخر هو: أن الله كتب العصمة لمجموع الأمة، والعِتْرة هم بعض الأمة فلا إجماع. انظر: نهاية الوصول للهندي 6/2588، التوضيح لحلولو ص285، فواتح الرحموت2/286، إرشاد الفحول1/323.
(4) ساقطة من س. وحجية إجماع الخلفاء الأربعة رواية عن الإمام احمد وقال به أبو حازم من الحنفية كما سيأتي. انظر: العدة لأبي يعلى4/1198، أصول السرخسي 1/317 المسودة ص 340، تيسير التحرير 3/242، فواتح الرحموت 2 / 289.
(5) في ق: ((أبي هاشم خازم)) وإقحام هاشم هنا خطأ. وفي سائر نسخ الشروح والمتن بالحاء المهملة. والذي في أكثر كتب التراجم بالخاء المعجمة. وترجمته: هو عبد الحميد بن عبد العزيز البغدادي، كان ورعاً ذكياً عالماً بمذهب أبي حنيفة، ولي قضاء الشام والكوفة والكَرْخ، وكان شديداً على الأمراء. من كتبه: المحاضر والسجلات، أدب القاضي، الفرائض. ت 292هـ. انظر: الفوائد البهية ص86، الجواهر المضية1/296، الطبقات السنية4/267.
(6) ذكر الجصاص قصة أبي خازم مع الخليفة العباسي المعتضد بالله، وفيها أن أبا خازم حكم بردِّ أموالٍ تحصلَّت في بيت المال إلى ذوي الأرحام فهم أولى بها، فأنفذ المعتضد قضاءه وكتب به إلى الآفاق. انظر: الفصول للجصَّاص 3 / 302، كتاب الإجماع لأبي بكر الجصاص تحقيق زهير شفيق كبي ص183، وانظر: المبسوط للسرخي30/2، البداية والنهاية 11/78. ومسألة توريث ذوي الأرحام والخلاف فيها سبق الإشارة إليها.
(7) ساقطة من ن.
(8) هذا الحديث جزء من حديثٍ طويلٍ للعِرْبَاض بن سارية رضي الله عنه يرفعه. أخرجه أبو داود (4607) ، والترمذي (2676) ، وابن ماجه (43) ، والحاكم في مستدركه (1/95) وصححه ووافقه الذهبي، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1/13) وإرواء الغليل 8/107.

(2/157)


باتباعها (1) واتباعهم (2) وهو المطلوب.
والجواب: أنه محمول على [اتباعهم للسنن] (3) والكتاب العزيز، ونحن نفعل ذلك (4) .
حكم إجماع الصحابة مع مخالفة التابعي
ص: قال الإمام (5) : وإجماع الصحابة مع مخالفة من أدركهم من التابعين ليس بحجة (6) ، خلافا لقوم (7) .
الشرح
... ... لأن التابعين إذا حصل لهم أهلية الاجتهاد في زمن الصحابة بقى الصحابةُ بعضَ الأمة، وقولُ بعض الأمة ليس بحجة. قال القاضي عبد الوهاب: ((الحق التفصيل: إن حدثت (8) الواقعة قبل أن يصير التابعي مجتهداً، وأجمعوا على الفتيا فيها فلا عبرة بقوله (9) ، أو اختلفوا أو كانوا متوقِّفين (10) ، فإن اختلفوا امتنع عليه إذا صار مجتهداً إحداثُ قولٍ ثالثٍ، وإن توقَّفوا (11) فله أن يفتي بما يراه، فهذه ثلاثة أحوال. وإن
_________
(1) في ن: ((باعتبارها)) .
(2) ساقطة من ن.
(3) في ن: ((إتباع السنن)) .
(4) وجواب آخر وهو: أن العصمة إنما تكون لجميع الأمة، والخلفاء الراشدون هم بعض الأمة. انظر: شرح اللمع للشيرازي 2/715، التمهيد لأبي الخطاب3/280، التقرير والتحبير 3/131، رفع النقاب القسم 2/256، نثر الورود 2/430.
(5) انظر: المحصول للرازي 4/177.
(6) هذا مذهب الجمهور. انظر: إحكام الفصول ص 464، التبصرة ص 384، التمهيد لأبي الخطاب 3 / 267، بذل النظر ص 543، مختصر ابن الحاجب بشرح العضد 2/35.
(7) منهم: ابن خويز منداد من المالكية، وابن بَرْهان من الشافعية، ورواية عن الإمام أحمد، وداود الظاهري. انظر إحكام الفصول ص 464، روضة الناظر2/460، المسودة ص333، البحر المحيط للزركشي6/435.
(8) في ق: ((كانت)) .
(9) هذا الرأي لمن لا يقول باشتراط انقراض العصر. أما من يشترط انقراض العصر فإنه يعتبر خلاف التابعي، فلا ينعقد إجماع الصحابة إذا أدركهم. انظر: الإحكام للآمدي1/240.
(10) في ن: ((متفقين)) وهو تحريف.
(11) في ن: ((اتفقوا)) وهو خطأ لإخلاله بالمعنى المراد.

(2/158)


حدثتْ بعد أن صار من أهل الاجتهاد فهو كأحدهم)) (1) . فصار للمسألة حالتان، في إحداهما (2) ثلاث حالات (3) .
حجة المخالف: قوله تعالى: {لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ} (4) ولو لم يكونوا عدولاً ما (5) رضي عنهم (6) .
ولقوله عليه الصلاة والسلام: ((لو أنفق أحدكم (7) مِلْءَ الأرض ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدِهم ولا نصيفَه)) (8) (9) .
والجواب عن الأول: أن الآية تقتضي (10) عدمَ المعصية، وحصولَ الطاعة في البيعة (11) ، ولا تعلَّق لذلك بالإجماع (12) .
_________
(1) انظر قوله في: شرح مختصر الروضة للطوفي 3 / 62، وأشار إليه الزركشي في البحر المحيط 6 / 436.
(2) في س: ((أحدهما)) وهو خطأ نحوي، لأن المعدود مؤنث فتجب الموافقة. انظر: شرح ابن عقيل 1/524
(3) انظر: رفع النقاب القسم 2/529.
(4) الفتح، من الآية: 18.
(5) في س، ق: ((لما)) وكلاهما جائز وإن كان الغالب في جواب " لو " الماضي المنفيّ تجرده من اللاّم. انظر: مغني اللبيب لابن هشام 1 / 517. وذكر الأستاذ/ عباس حسن في: " النحو الوافي " (4/498) عن بعض النحاة أن هذه اللام تسمى: ((لام التسويف)) .
(6) هذا الدليل الأول للمخالف. وبقية وجه الدلالة: فإذا كانوا عدولاً كان إجماعهم حجةً.
(7) في ن: ((أحدهم)) وقد جاءت رواية فيها هذا اللفظ، وعلى هذه الرواية يكون اللفظ الآخر في الحديث
((أحدكم)) بدلاً من ((أحدهم)) وسياق هذه الرواية هو: عن يوسف بن عبد الله بن سلام قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أنحن خيرٌ أم مَنْ بعدنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لو أنفق أحدهم أُحُداً ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدكم ولا نصيفه)) رواه الإمام أحمد (6/6) وبتحقيق أحمد شاكر برقم (22715) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (10/16) ((وفيه ابن لهيعة، وحديثه حسن، وبقية رجاله رجال الصحيح)) . ويتقوى الحديث بشواهده.
(8) لم أجده بهذا اللفظ، وبلفظٍ مقاربٍ له عند البخاري (3673) ومسلم (2541) عن أبي سعيد الخدري قال صلى الله عليه وسلم ((لا تسبوا أصحابي، فلو أن أحدكم أنفق مثل أُحُدٍ ذهباً ما بلغ مُدَّ أحدهم ولا نصيفه)) .
(9) هذا الدليل الثاني للمخالف.
(10) في س: ((يقتضي)) وهو خطأ. انظر: هامش (6) ص 109.
(11) في ن، ق: ((التبعية)) وهو تحريف.
(12) جواب الرازي في المحصول (4/180) : أن الآية مختصة بأهل بيعة الرضوان، وبالاتفاق لا اختصاص لهم بالإجماع.

(2/159)


وعن الثاني: أنه يقتضي أن يكون قول كل واحد حجة، وأنتم لا تقولون به (1) .
هل يعتبر أهل البدع من أهل الإجماع؟
ص: قال (2) : ومخالفة مَنْ خالَفَنا في الأصول (3) إن كفَّرناهم لم نعتبرهم (4) ، ولا يَثْبُت تكفيرهم بإجماعنا، لأنه فرع تكفيرهم، فإن (5) لم نكفرهم اعتبرناهم (6) .
الشرح
... ... لا نعتبر (7) الكفار في الإجماع، لأن العصمة (8) ثبتت لهذه الأمة (9) وليس من جملتها الكفار، لأن المقصود بالعصمة (10) من اتصف بالإيمان، لا من بُعِثَ له عليه الصلاة والسلام (11) .
_________
(1) في نفائس الأصول (6/2728) جواب آخر وهو: إن هذا الحديث يقتضي أن مواهب الله تعالى وثوابه للسابقين أكثر، ولا يقتضي أنه معصوم من الخطأ بدليل أن عوام الناس لم يبلغ أحدهم نصف حال مالكٍ
والشافعي ونحوهما، ومع ذلك فليس قول كل واحدٍ منهم حجة.
(2) أي الإمام الرازي في المحصول 4/180. والنقل هنا بالمعنى.
(3) أي: في أصول الدين والعقائد.
(4) في ق: ((نقبلهم)) . والمراد بقوله: ((لم نعتبرهم)) أي في الإجماع.
(5) في ن: ((وإن)) بالواو.
(6) في المسألة أقوال أخرى منها: لا يُعْتبر بهم مطلقاً سواء كفَّرناهم أم بدَّعْناهم، لعدم اتصاف المجتهد الفاسق أو المبتدع بالعدالة. قال الأستاذ أبو منصور: ((قال أهل السنة: لا يعتبر في الإجماع وفاق القدرية والخوارج والرافضة ... )) البحر المحيط للزركشي (6/419) . وهو رأي جمهور الأحناف وبعض الحنابلة وبعض الشافعية وحكي عن مالك، وذكر أبو ثور بأنه قول أئمة أهل الحديث، وعزاه الجويني وابن السمعاني إلى معظم الأصوليين. ومن الأقوال في المسألة: أن المخالف يُعْتبر في حق نفسه خاصةً دون غيره. ومنها: التفريق بين الداعية لبدعته فلا يُعْتدّ به في الإجماع أو غيره فيعتدَّ به. انظر المسألة بأقوالها وتفصيلها في: الإحكام لابن حزم 1/629، إحكام الفصول ص 464، البرهان للجويني 1/441، أصول السرخسي1/311، قواطع الأدلة للسمعاني 3/254، المستصفى 1/343، التمهيد لأبي الخطاب3/252، الوصول لابن برهان2/86، الإحكام للآمدي 1/229، كشف الأسرار للبخاري3/439، تحفة المسؤول للرهوني القسم 1 / 485، التوضيح لحلولو ص286، شرح الكوكب المنير2/228، نشر البنود2/78.
(7) في ن، س: ((لا يعتبر)) .
(8) في س: ((المعصية)) وهو تحريف فاحش.
(9) أي أمة الإجابة. قال صدر الشريعة المحبوبي: ((والمراد بالأمة المطلقة: أهل السنة والجماعة، وهم الذين طريقتهم طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه دون أهل البدع)) التوضيح مع التلويح للتفتازاني 2 / 107.
(10) في س: ((المعصية)) وهو تحريف شنيع.
(11) وهم أمة الدعوة.

(2/160)


وأهل البدع (1) اختلف العلماء في تكفيرهم (2) نظراً (3) لما يلزم من مذهبهم من الكفر الصريح، فمن اعتبر ذلك وجعل لازم المذهب مذهباً (4) كَفَّرهم، ومن لم [يجعل لازم المذهب مذهباً] (5) لم يُكفِّرهم، فلهذه القاعدة (6) لمالكٍ والشافعي وأبي حنيفة والأشعري (7)
والقاضي في تكفيرهم قولان (8) ، فحيث بنينا على أنهم كفار ينبغي أن
_________
(1) قال ابن تيمية رحمه الله: ((والبدعة التي يُعدُّ بها الرجل من أهل الأهواء ما اشتهر عند أهل العلم بالسنة مخالفتُها للكتاب والسنة كبدعة الخوارج والروافض والقدرية والمرجئة" مجموع الفتاوى 35/414.
(2) باب التكفير والتفسيق والتبديع خطر جداً، زلَّتْ فيه أقلام وأقدام، وطاشت فيه أحلام وأفهام، ووقعت فيه فتن عظام. والناس في تكفير أهل البدع طرفان ووسط. أما الطرفان فأحدهما: نفي التفكير مطلقاً عن أحد من أهل القبلة؛ وثانيهما: القول بالتكفير مطلقاً. أما الوسط فهو التفصيل في المسألة وذلك بأن أهل البدع ليسو على درجةٍ واحدةٍ من حيث البدعة ومن حيث توافر الشروط وانتفاء الموانع. انظر: شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص 432، موقف أهل السنة والجماعة من أهل البدع والأهواء د. إبراهيم الرحيلي 1/163.
(3) ساقطة من ن.
(4) في ن: ((مذهب)) وهو خطأ نحوي، لأن الصواب أن تكون مفعولاً ثانياً لـ" جعل ".
(5) ما بين المعقوفين: ((يعتبره)) في ق.
(6) هذه العبارة في س كتبت ((وهذه هي القاعدة ولمالك والشافعي ... إلخ)) . وفي ن: ((وهذه القاعدة لمالك والشافعي ... إلخ)) والمثبت من ق.
(7) هو أبوالحسن علي بن إسماعيل الأشعري، يرجع نسبه إلى أبي موسى الأشعري، إليه تنسب الأشاعرة. كان معتزلياً، ثم انتقل إلى الأشعرية وأخيراً استقر حاله على مذهب السلف أهل الحديث. قيل: إنه مالكي، وقيل: شافعي، وقيل: كان مستقلاً في استنباط الأحكام. من تآليفه: إثبات القياس، الإبانة في أصول الديانة (ط) مقالات الإسلاميين (ط) . ت 324هـ..انظر: الديباج المذهب ص 293، طبقات الشافعية الكبرى لابن السبكي 3/247، وفيات الأعيان 3/284، وله ترجمة حافلة في كتاب: موقف ابن تيمية من الأشاعرة
د. عبد الرحمن المحمود 1/337.
(8) يبحث الأصوليون قاعدة: ((لازم المذهب)) في أبواب الاجتهاد والتقليد. انظر مثلاً: التبصرة ص 517، التمهيد لأبي الخطاب 4/368، تحرير المقال فيما تصح نسبته للمجتهد من الأقوال د. عياض السلمي ص (88) . وسئل شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/217) : هل لازم المذهب مذهب أم لا؟ فأجاب: الصواب؛ أن مذهب الإنسان ليس بمذهبٍ له إذا لم يلتزمه ـ ثم قال ـ ولو كان لازم المذهب مذهباً للزم تكفير كل من قال عن الاستواء أو غيره من الصفات أنه مجاز ليس بحقيقة، فإن لازم هذا القول يقتضي أن لا يكون شيء من أسمائه أو صفاته حقيقة ... الخ)) . وانظر: الشفا للقاضي عياض 2/586 ـ 625، مجموع الفتاوى لابن تيمية 29/41، توضيح المقاصد شرح قصيدة ابن القيم للشيخ أحمد بن إبراهيم بن عيسى 2/394، نواقض الإيمان الاعتقادية د. محمد الوهيبي 2/35.

(2/161)


يثبت ذلك بدليل غير إجماعنا، فإن إجماعنا لا يكون حجة على تكفيرهم، إلا (1) إذا كنَّا نحن كلَّ الأمة، ولا نكون (2) نحن [كل الأمة] (3) حتى يكون غيرنا كفاراً (4) ، فيتوقف كون إجماعنا حجة على كونهم كفاراً (5) ، ويتوقف كونهم كفاراً (6) على إجماعنا، فيتوقف* كل واحد منهما على الآخر، فيلزم الدور (7) .
هل ينعقد الإجماع بالأكثر مع مخالفة الأقل؟
ص: ويعتبر (8) عند أصحاب مالك رحمه الله مخالفة الواحد في إبطال الإجماع (9) خلافاً لقوم (10) .
_________
(1) في س: ((إذا)) وهو خطأ لأنه تكرار، ولاختلال المعنى.
(2) ساقطة من ق.
(3) في ق: ((كلها)) .
(4) في س: ((كافرا)) وهو صحيح أيضاً، وفي ن: ((كافر)) وهو خطأ نحوي، لأن خبر كان حقُّه النصب.
(5) في س، ن: ((كفار)) وهو خطأ نحوي، لأن خبر كان حقه النصب.
(6) هذه العبارة في س: ((فيتوقف تكفيرهم ... إلخ)) وفي ن: ((كفار)) وهو خطأ نحوي؛ لأن خبر " كون " حقه النصب.
(7) انظر: نفائس الأصول 6/2830
(8) هذه المسألة عنوانها: هل ينعقد الإجماع بالأكثر مع مخالفة الأقل؟. ذكر المصنف في المتن مذهبين تبعا للمحصول (4/181) . وزاد في الشرح مذهبين. وفي نفائس الأصول (6/2734) حكى خمسة مذاهب نقلاً عن الإحكام للآمدي (3/235) .
(9) وهو قول جماهير الأصوليين والفقهاء وبعض المعتزلة. انظر: شرح العمد 1/183، الإحكام لابن حزم 1/591، إحكام الفصول ص 461، أصول السرخسي 1/316 التمهيد لأبي الخطاب 3/260، نهاية الوصول 6/2614، كشف الأسرار للبخاري 3/453، التوضيح لحلولو ص286.
(10) وهو قول كثير من معتزلة بغداد، ورواية عن ابن حنبل في مقابل الأصح. انظر: شرح العمد 1/183، العدة لأبي يعلى 4/1118، البرهان 1/460، المسودة ص329، جامع الأسرار للكاكي 3/944، التقرير والتحبير 3 / 124. ولقد أوصل ابن السبكي الخلاف في المسألة إلى تسعة أقوال، والزركشي إلى عشرة. انظر: رفع الحاجب لابن السبكي 2 / 183، البحر المحيط 6/430، منها: أن اتفاق الأكثرية مع مخالفة الأقل يكون حجة لا إجماعاً، اختاره ابن الحاجب في منتهى السول والأمل ص (56) ، والشريف التلمساني في مفتاح الوصول ص (748) . ومنها: إن سَوَّغ الأكثرُ اجتهادَ الأقل كخلاف أبي بكرٍ رضي الله عنه في مانع الزكاة، وابن عباس رضي الله عنه في العول فلا إجماع، وإن لم يُسَوِّغه كخلاف ابن عباس رضي الله عنه في نكاح المتعة، وربا الفضل فلا تضرُّ مخالفته الإجماع، وبه قال الجصاص. انظر: الإجماع للجصاص تحقيق زهير كبي ص 177 ـ 183.

(2/162)


الشرح
... قال القاضي عبد الوهاب (1) : إذا خالف الواحد والاثنان ومَنْ قَصُر عن عدد التواتر فلا إجماع حينئذٍ. وقال قوم لا يضرُّ (2) الواحد والاثنان. وحكى عن بعض أصحابنا (3) وعن بعض المعتزلة (4) : لا يضرُّ مَنْ قَصُر عن عدد التواتر، وقاله أبو الحسين (5) الخيَّاط (6) من المعتزلة. وقال ابن الإخْشَاد (7) : لا يضر الواحد والاثنان في أصول الدين وما يتعلق بالتأثيم والتضليل، بخلاف مسائل الفروع (8) .
حجة الجواز (9) : قوله (10) عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالسواد الأعظم)) (11) .
_________
(1) انظر هذا النقل عنه في: شرح مختصر الروضة للطوفي 3/55، التوضيح لحلولو ص 286.
(2) في ق: ((لا يعتبر)) .
(3) كخويز بن منداد: انظر: إحكام الفصول ص461، رفع النقاب القسم 2/535.
(4) انظر: المعتمد 2/29.
(5) في ن: ((الحسن)) وهو تحريف.
(6) هو أبو الحسين عبد الرحيم بن محمد بن عثمان الخيَّاط، رأس الفرقة " الخيَّاطية " من المعتزلة، وأستاذ أبي القاسم الكعبي البلخي المعتزلي. من كتبه: الانتصار في الرد على ابن الراوندي الملحد (ط) . ت 300هـ وقيل: 290هـ. انظر: طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار ص296، الملل والنحل للشهرستاني 1/89.
(7) هو أحمد بن علي بن بيغجور، أبوبكر الإخْشَاد، ويقال: الإخْشِيد، ويروى بالذال المعجمة في اللفظين. أحد رؤوس المعتزلة، بل إمام وقته، صاحب معرفة بالعربية والفقه. من كتبه: المعونة في أصول الفقه، كتاب الإجماع، مختصر تفسير الطبري. ت 326 هـ. انظر: الفهرست لابن النديم ص303، طبقات المعتزلة ص100، لسان الميزان للذهبي 1/231.
(8) انظر قوله في: شرح مختصر الروضة للطوفي 3/55، البحر المحيط للزركشي 6/433، رفع النقاب القسم 2/535.
(9) هذه أدلة المجوزين لانعقاد الإجماع مع مخالفة الواحد.
(10) هذا الدليل الأول.
(11) الحديث قطعة من حديث ابن ماجه (3950) عن أنس رضي الله عنه قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن أمتي لا تجتمع على ضلالة، فإذا رأيتم اختلافاً فعليكم بالسواد الأعظم)) وضعفه البوصيري. انظر: سنن ابن ماجه تحقيق خليل شيخا (4/327) . وقال الألباني: ((ضعيف جداً)) ضعيف سنن ابن ماجه ص318.
وعبارة ((السواد الأعظم)) جاءت في حديث الافتراق من حديث أبي أمامة مرفوعاً ((تختلف هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، اثنتان وسبعون في النار وواحدة في الجنة)) قال: انعتهم لنا. قال: ((السواد الأعظم)) أخرجه ابن أبي عاصم في السنة رقم (68) ، والبيهقي في سننه 8/188. وإسناده حسن. انظر: نصح الأمة في فهم أحاديث افتراق هذه الأمة لسليم الهلالي ص19.
أما وجه الدلالة من الحديث: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر باتباع السواد الأعظم، والسواد الأعظم هم الأكثر، فيكون قولهم حجة. انظر: منهج التحقيق والتوضيح لمحمد جعيط 2/132.

(2/163)


ولأن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا ينكرون على الواحد والاثنين المخالفة لشذوذهم (1) .
ولأن اسم الأمة لا ينخرم بهم كالثور الأسْود - فيه شعرات بيض - لا يخرج عن كونه أسْود (2) .
ولأنه إذا كان (3) الإجماع حجة وجب أن يكون معه من يجب عليه الانقياد له (4) .
وجوابهم (5) عن الأول: أن ذلك يفيد غلبة الظن مع الأكثر (6) ، وأما الإجماع والقطع بحصول العصمة فذلك لا يفيده (7) . وعن الثاني: أن الإنكار وقع منهم لمخالفة الدليل الذي عليه الجمهور لا لخرق الإجماع. وعن الثالث: أن اسم الأسود حينئذٍ إنما يصدق مجازاً، بل الأسود بعضه، وكذلك الأمة لا يصدق على بعضها إلا مجازاً. وعن الرابع: أن المنقاد للإجماع (8) مَنْ بعدهم، ومِنْ عَصْرِهم (9) مَنْ (10) ليس له أهلية النظر، والنزاع هاهنا فيمن له أهلية النظر (11) .
_________
(1) هذا الدليل الثاني.
(2) هذا الدليل الثالث.
(3) في ق: ((قال)) وهو تحريف.
(4) هذا الدليل الرابع، ومعناه: لكي يكون الإجماع حجة فلا بد من وجود مخالف له، وإلا لما تحققت هذه الحجية.
(5) أي: جواب المانعين للإجماع إذا وجد المخالف عن أدلة المجوِّزين.
(6) ومع ذلك قد يفوتهم الحق ويصير مع الأقل. فالجماعة ما وافق الحق ولو كان وحده.
(7) وهناك جواب آخر لطيف ذكره الجويني في التلخيص 3/68. قال: ((ليس المعنى بقوله: ((عليكم بالسواد الأعظم)) التعرض للإجماع والاختلاف الراجع إلى مسائل الفروع التي الاختلاف فيها رحمة، وإنما أراد بذلك ملازمة جماعة الأمة وترك اقتفاء المبتدعة في عقائدها)) .
(8) في س: ((لإجماع)) .
(9) في ق: ((يحضرهم)) ، وفي ص: ((عاصرهم)) .
(10) في ن، ق: ((ممن)) .
(11) معنى هذا الجواب: أن الإجماع يكون حجة على المخالف إذا كان بعد انعقاده، ويكون حجة في عصر المجمعين على العوام ممن ليس لهم أهلية النظر. ومحل النزاع فيما إذا خالف المجتهد في وقت اجتماع الباقي على حكم المسألة.

(2/164)


حجة المنع: أن الأدلة إنما (1) شهدت بالعصمة لمجموع الأمة، والمجموع ليس بحاصلٍ فلا تحصل العصمة (2) .
حجة الفَرْق: أن أصول الديانات مداركها نظرية، والعقول قد تَعْرِض لها الشبهات، فلا يقدح ذلك في الحق الواقع للجمهور، ومدرك الفروع (3) (4) سمعي واجب النقل والتعلم (5) ، [وحصوله واجب] (6) على كل مجتهد، فما خالف الاثنان إلا لمدرك صحيح.
وجوابه*: كما تعرض الشبهة في العقليات تعرض في السمعيات، من جهة دلالتها ومن جهة سندها (7) ، ومن جهة [ما يعارضها بنسخها وغيره] (8) ، فالكل سواء.
تقدُّم الإجماع على الكتاب والسنة والقياس
ص: وهو (9) مُقدَّم (10) على الكتاب والسنة والقياس.
الشرح
... ... لأن الكتاب يقبل النسخ والتأويل (11) وكذلك السنة. والقياس يحتمل قيام
_________
(1) في س: ((إذا)) .
(2) ذكر الجويني في التلخيص (3/63) ، والشوشاوي في رفع النقاب القسم (2/536) : بأن أقوى دليل وأوضحه في المسألة أن ابن عباس رضي الله عنه خالف الصحابة في مسألة العول ولم يعدُّوه خارقاً للإجماع. انظر: المحلى لابن حزم 9/262.
(3) في ن: ((الفرق)) وهو تحريف.
(4) هنا زيادة ((غير)) وهي خطأ، لانقلاب المعنى المذكور.
(5) في ن: ((التعليم)) .
(6) ما بين المعقوفين ساقط من ق.
(7) مطموسة في ن.
(8) ما بين المعقوفين كتب في ق: ((تعارضها ونسخها وغير ذلك)) وهو سائغ متجه أيضاً.
(9) أي: الإجماع، والمراد به الإجماع القطعي، كما سيذكره المصنف في الشرح. ووجه تقدمه على الأدلة الأخرى أن دلالته على الحكم قطعية، وليس المراد بتقدمه من حيث الرُّتْبة.
قال حلولو في التوضيح ص287: ((الصواب ذكر هذه المسألة في الترجيح كما يفعل غير المصنف)) .
(10) في ق: ((متقدم)) .
(11) التأويل: لغة: الرجوع، مِنْ آل يؤول أوْلاً. انظر: معجم المقاييس في اللغة مادة " أول ".
واصطلاحا: صرف الكلام عن ظاهره إلى محتمل مرجوح لدليلٍ. انظر: الحدود للباجي ص 45، التعريفات ص77، شرح الكوكب المنير 3/360

(2/165)


الفارق وخفاءَ هُ الذي مع وجوده يبطل القياس وفواتَ شرطٍ من شروطه (1) ، والإجماع معصوم قطعي ليس فيه احتمال، وهذا الإجماع المراد به (2) هاهنا هو الإجماع النطقي (3) القطعي (4) المشاهد، أو المنقول بالتواتر، وأما أنواع الإجماع الظنية كالسكوتي (5) ونحوه (6) ، فإنَّ الكتاب قد يُقَدَّم عليه.
حكم المخالف أو المنكر للإجماع القطعي
ص: واخْتُلف في تكفير مُخَالِفِه (7) بناءً على أنه قطعيٌّ (8) وهو الصحيح، ولذلك يَتَقَدَّم (9) على الكتاب والسنة، وقيل: ظني (10) .
_________
(1) انظر شروط القياس في: المعتمد 2/244، تقريب الوصول ص352، المختصر في أصول الفقه لابن اللحام ص142، تيسير التحرير 3/278.
(2) ساقطة من ن، ق.
(3) ساقطة من س.
(4) في س، ن: ((اللفظي)) .
(5) في ن: ((كالسكوت)) .
(6) كالإجماع القولي المروي بطريق الآحاد، والإجماع الذي وقع بعد خلافٍ مستقِرٍّ، والإجماع الذي لم ينقرض فيه المجمعون. انظر: الإحكام للآمدي 3/181، التقرير والتحبير 3/151، فواتح الرحموت 2/303.
(7) تحرير محل النزاع: اتفق العلماء على تكفير منكر ما عُلِم من الدين بالضرورة، وهو ما اشترك خاصة المسلمين وعامتهم في معرفة أنه من دين الإسلام، كالصلوات الخمس والزكاة والصوم والحج وحرمة الزنا والقتل ونحو ذلك، فهذا القسم خارج عن الكلام في حكم منكر الإجماع، لأن المراد بحكم الإجماع القطعي أثره الثابت به، ومنكر ما علم من الدين بالضرورة وإن كان مجمعاً عليه، لكنه ليس أثراً خاصاً بالإجماع القطعي. أما المجمع عليه القطعي ولم يعلم من الدين بالضرورة فالمشهور فيه ثلاثة أقوال: الأول: تكفير منكره، وهو قول الحنفية والجويني، لأنه بمثابة إنكاره الشرع الثابت. الثاني: لا يَكْفُر منكره وهو قول كثير من الأصوليين والمتكلمين، لأن طريق ثبوت الإجماع ظني. الثالث: التفريق بين إجماع الصحابة فيكفر منكره، وإجماع غيرهم فلا يكفر، قال به البزدوي من الأحناف. وبهذا يُعلم أن منشأ الخلاف في التكفير هو طريق ثبوت الإجماع، فمن أثبته بطريق القطع قال بتكفير منكره وإلا فلا. انظر: البرهان 1/462، المنخول ص309، شرح مختصر الروضة للطوفي 3/136، كشف الأسرار للبخاري 3/479، بيان مختصر ابن الحاجب للأصفهاني 1/617، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 44، التلويح للتفتازاني 2/108، البحر المحيط للزركشي 6/496، التوضيح لحلولو ص287، تيسير التحرير 3/258 حاشية البناني على شرح جمع الجوامع 2/202، نشر البنود 2/95.
(8) هنا زيادة: ((أوظني)) في س وهي زيادة غير صحيحة، لإخلالها بالمعنى.
(9) في متن هـ، ق: ((يقدم)) .
(10) قاله الرازي في المحصول 4/210، والطوفي في شرح مختصر الروضة 3/139.

(2/166)


الشرح
تكفير المخالف له إن قلنا به فهو مشروط بأن يكون المجمع عليه ضرورياً
من الدين، أما من جحد ما أُجْمِع عليه من الأمور الخفية في (1) الجنايات وغيرها [من الأمور] (2) التي لا يَطَّلع عليها ألا المتبحِّرون في الفقه فهذا لا نكفره (3) ، [إذا عُذِر] (4) بعدم الاطلاع على الإجماع.
سؤال: كيف تكفِّرون مخالف الإجماع*، وأنتم لا تكفِّرون جاحد أصل الإجماع كالنظَّام والشيعة وغيرهم، وهم أولى بالتكفير (5) ؛ لأن جحدهم يشمل كل إجماعٍ بخلاف جاحد إجماعٍ خاصٍّ لا (6) يتعدَّى جحدُه (7) ذلك الإجماع في مخالفة حكمه؟ (8) .
جوابه: أن الجاحد لأصل الإجماع لم يستقرَّ (9) عنده حصول الأدلة السمعية الدالة على وجوب متابعة الإجماع، فلم (10) يتحقق منه تكذيب صاحب الشريعة، ونحن إنما نكفر من جحد حُكْماً مجمعاً عليه ضرورياً من الدين، بحيث يكون الجاحد ممن يتقرَّر عنده أن خطاب الشارع ورد بوجوب متابعة الإجماع، فالجاحد على هذا التقرير يكون مكذِّباً لتلك النصوص، والمكذِّب كافرٌ، فلذلك كفَّرناه، فظهر الفرق.
_________
(1) في ن: ((من)) .
(2) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(3) في ن: ((لا نكفرهم)) ولا يسعفه السياق.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(5) في س: ((بالكفر)) .
(6) في ن: ((فلا)) .
(7) في س: ((جحوده)) ، وفي ن: ((جحد)) .
(8) انظر: نفائس الأصول 6/2769، شرح مختصر الروضة للطوفي 3/143، وانظر كلام محمد الطاهر بن عاشور في القسم الدراسي ص 221.
(9) في ق: ((تستقر)) وهو تصحيف.
(10) في ن: ((لم)) .

(2/167)


الدلالة على قطعية الإجماع
وأما وجه كونه قطعياً عند الجمهور (1) ، فهو ما حصل من العلم الضروريّ (2) من استقراء نصوص الشريعة بأنه حجة وأنه معصوم، والقائل بأنه ظني يلاحظ ما يستدل (3) به العلماء من ظواهر الآيات والأحاديث التي لا تفيد إلا الظن، وما أصله الظن أولى أن يكون ظنيَّاً.
ووجه الجواب: أن الواقع في الكتب (4) ليس هو المقصود، فإنَّا نذكر آيةً خاصةً أو خبراً خاصاً وذلك لا يفيد إلا الظن قطعاً. قال التَّبْرِيْزِيّ في كتابه المسمى
بـ" التنقيح في اختصار المحصول " (5) : ((وليس هذا (6) مقصود العلماء، بل هذا
الخبر مضاف (7) إلى (8) الاستقراء التام الحاصل من تتبُّع موارد الشريعة ومصادرها، فيحصل من ذلك المجموعِ القطعُ بذلك المدلول، وأن الإجماع حجة، والعلماء
في الكتب (9) ينبِّهون بتلك الجزئيات من النصوص على ذلك الاستقراء الكلي؛ وليس في الممكن أن يضعوا (10) ذلك المفيد للقطع في كتاب، كما أن المنبِّه (11) على سخاء
_________
(1) انظر: أصول السرخسي 1/295، الوصول لابن بَرْهان 2/72، المسودة ص315، البحر المحيط للزركشي 6/388، الضياء اللامع لحلولو 2 / 250.
(2) هنا زيادة: ((أي)) في ق.
(3) في ق: ((يسلك)) والمثبت أليق.
(4) في ن، س: ((الكتاب)) .
(5) هذا النقل بالمعنى. انظره في ص (365) وما بعدها. والكتاب أحد مختصرات المحصول، واسمه:
" تنقيح محصول ابن الخطيب " وقد زاد فيه بعض المباحث والمسائل، قام بتحقيقه الدكتور / حمزة زهير حافظ في رسالة دكتوراه من جامعة أم القرى عام 1402 هـ.
(6) هنا زيادة ((هو)) في س ويسمى ضمير الشأن.
(7) في ق: ((المضاف)) وهو خطأ، لأنه ينبغي أن يكون خبراً. وفي ن: ((مضافاً)) وهو خطأ لأن الخبر
مرفوع.
(8) ساقطة من ن.
(9) في ن: ((الكتاب)) وهو خطأ.
(10) في س: ((تضعوا)) وهي تصحيف.
(11) في ن: ((التنبيه)) .

(2/168)


حاتم (1) في كتابه يَذْكُر (2) حكاياتٍ عديدةً، وهي وإن كثرت لا تفيد القطع، لكنَّ (3) القطعَ [بسخائه حاصلٌ] (4) بالاستقراء التام، فالغفلة (5) عن هذا هو الموجب لورود أسئلةٍ (6) وردت على الإجماع من عدم التكفير به (7) ، وكون أصله ظنياً وهو قطعي، إلى غير ذلك من الأسئلة (8) وهي بأسرها تندفع بهذا التقرير (9) .
_________
(1) هو أبو عدي حاتم بن عبد الله بن سعد الطَّائي، فارس وشاعر وجواد، صار مضرب المثل في الجود والكرم، حتى قيل في المثل: أجود من حاتم، وأسخى من حاتم عاش في الجاهلية.
انظر: الشعر والشعراء لابن قتيبة ص164، خزانة الأدب للبغدادي 3 / 127 وسيأتي الحديث عن سخائه في هامش (3) ص (206) .
(2) في ن: ((بذكره)) .
(3) في س: ((لأن)) .
(4) المثبت من ص، وفي سائر النسخ: ((حاصل بسخائه)) . وما في " ص " أليق؛ لأمن اللبس في تعلق الجار
والمجرور.
(5) في ق: ((والعقلية)) وهو تحريف.
(6) هكذا في ز، م. وفي سائر النسخ: ((أسولة)) وهي لغة في ((أسئلة)) انظر: لسان العرب مادة " سول ".
(7) ساقطة من ق.
(8) هكذا في ز، م. وفي سائر النسخ: ((الأسولة)) سبق قريباً التعليق على ذلك.
(9) في س، ن: ((التقدير)) ولقد ضعَّف الطوفي هذا التقرير فانظره في: شرح مختصر الروضة 3/139.

(2/169)


الفصل الثالث
في مُسْتَنَدِه (1)
ص: ويجوز عند مالك (2) رحمه الله تعالى انعقاده (3) عن (4) القياس (5) والدلالة والأمارة. وجوَّزه قوم بغير ذلك بمجرد الشبهة والبحث (6) . ومنهم من قال: لا ينعقد عن الأمارة بل لابد من الدلالة (7) ، ومنهم من فَصَّل بين الأمارة الجلِيَّة وغيرها (8) .
_________
(1) أي: مستند الإجماع. والمراد به: الدليل الذي اعتمد عليه الإجماع إبَّان صدوره. وقد اختلف العلماء في الإجماع، هل لابد له من مستندٍ؟ على قولين: الأول: لابد له من مستند وإن لم نطلَّع عليه، وهذا قول الجمهور. والثاني: يجوز صدوره من غير مستند بل على التبخيت والتوفيق من الله.

وعلى القول الأول ـ وهو وجوب وجود مستند للإجماع ـ هل ينعقد الإجماع عن دلالة وأمارة أم لاينعقد إلا عن دلالةٍ فقط؟ بكلٍّ قد قيل. والدلالة: نصٌ قاطع من كتابٍ أو سنةٍ متواترةٍ. والأمارة: دليل ظني من خبر آحاد أو قياس أو استحسان أو مصلحة ... إلخ.
(2) وهو قول الجمهور عامة. انظر: العدة لأبي يعلى 4/1125، إحكام الفصول ص500، أصول السرخسي 1/301، قواطع الأدلة للسمعاني 3/222، الإحكام للآمدي 1/261، 264، منتهى السول والأمل ص60، كشف الأسرار للبخاري 3/481، تحفة المسؤول للرهوني القسم 1 / 511، البحر المحيط للزركشي 6/399، الضياء اللامع لحلولو 2 / 244.
(3) في س: ((انعقاد)) وهو خطأ، لعدم تمام المعنى.
(4) ساقطة من س.
(5) خصَّ المصنفُ القياسَ بالذِّكْر مع أنه يدخل في الأمارة - لأنه دليل ظني - لأن الظاهرية يجوِّزون أن يستند الإجماع إلى الأمارة كخبر الواحد والعمومات، ولا يجوِّزونه عن القياس، إذ القياس ليس دليلاً شرعياً عندهم. أفاده الشوشاوي في رفع النقاب القسم 2/542.
(6) جلّ كتب الأصول لم تعيّن أصحاب هذا المذهب، بَيْدَ أن ابن بَرْهان في الوصول 1/114، والمجد ابن تيمية في المسودة ص330، وابن النجار في شرح الكوكب المنير 2/259 نسبوا هذا القول إلى بعض المتكلمين.
(7) من هؤلاء: ابن جرير الطبري، والظاهرية لأنهم ينفون القياس، وبعض المتكلمين. انظر: شرح العمد 1/234، الإحكام لابن حزم 1/538، شرح اللمع للشيرازي 2/683، رفع الحاجب لابن السبكي 2 / 226، البحر المحيط للزركشي 6/399.
(8) وهم بعض الشافعية. انظر: شرح العمد 1/234، البحر المحيط للزركشي 6/401.

(2/170)


الشرح
حجة الجواز بالأمارة: أنها أمر يفيد الظن فأمكن اشتراك الجميع في ذلك الظن كما أن الغَيْم الرَّطْب (1) إذا شاهده أهل الأرض كلهم اشتركوا (2) في غلبة الظن مِنْ قِبَلِهِ بالأمطار، وكذلك أمارات الخَجَل والوَجَل (3) المفيدة لظن (4) ذلك يمكن اشتراك الجمع* العظيم (5) في إفادة (6) ظنها لذلك، فكذلك أمارات (7) الأحكام من القياس وغيره، والمراد بالدلالة ما أفاد القطع، وبالأمارة ما أفاد الظن (8) ؛ لأن الدليل والبرهان (9) موضوعان (10) في عُرْف أرباب الأصول لما أفاد عِلْماً (11)
والأمارة لما أفاد ظناً (12) ؛
_________
(1) في ن: ((المركب)) وهو تحريف.
(2) هنا زيادة ((كلهم)) في س لا حاجة لها.
(3) أمارة الخجل: إحمرار الوجه، وأمارة الوجل (الخوف) : اصفراره. انظر: شرح السُّلَّم المُنَوْرَق للملَّوي بحاشية الصبان ص51.
(4) في س: ((الظن)) .
(5) ساقطة من ق.
(6) ساقطة من ق.
(7) في ن: ((أمارة)) .
(8) انظر تعريف كلٍّ من: الدلالة والأمارة في: المعتمد 1 / 5، المحصول للرازي 1 / 88، البحر المحيط للزركشي 1 / 53.
(9) جاء في تعريف البرهان عبارات متقاربة منها، هو: الحجة والدلالة، وهو: الذي يقتضي الصدق أبداً لا محالة، وهو: ما فَصَل الحق عن الباطل وميّز الصحيح من الفاسد بالبيان الذي فيه. انظر: الكليات للكفوي ص248ـ249. وعرَّفه الجرجاني في التعريفات ص (68) بقوله: هو القياس المؤلف من اليقينيات سواء كانت ابتداءً: وهي الضروريات، أو بواسطة: وهي النظريات.
(10) في ن: ((موضوع)) والأصل تطابق المبتدأ والخبر في التثنية، ومع ذلك يجوز هنا انفراد الخبر على تقدير: كلٌ منهما موضوعٌ. والله أعلم.
(11) جمهور الأصوليين على أن الدليل يشمل: القطعي والظني، وعرَّفوه بأنه: ما يتوصل بصحيح النظر فيه إلى مطلوب خبري، ويدخل في المطلوب الخبري ما يفيد القطع والظن..وذهب بعضهم إلى التفريق بين ما يفيد القطعَ فيُسمَّى دليلاً، وما يفيد الظنَّ فيُسمَّى أمارة. ولا مُشاحَّة في الاصطلاح. انظر: الحدود للباجي ص38، شرح اللمع للشيرازي 1/155، الإحكام للآمدي 1/9، تقريب الوصول ص99، البحر المحيط للزركشي 1/51، شرح الكوكب المنير 1/53.
(12) في ن، ق: ((الظن)) .

(2/171)


[والطريق صادق على الجميع، لأن الأوَّلَيْن طريق إلى العلم، والثالث طريق إلى الظن] (1) (2) .
وأما قولي: ((وجوزه قومٌ بمجرد الشبهة والبحث (3)) ) فأصل هذا الكلام أنه وقع في " المحصول " (4) أنه (5) : ((جوزه قوم بمجَّرد التَّبْخِيْت (6)
)) ، ووقع (7) معها من الكلام للمصنِّف ما يقتضي أنها شبهة لقوله في الرد عليهم: ((لو جاز بمجرد التبخيت (8) لانعقد الإجماع عن غير دلالة ولا أمارة وأنتم لا تقولون به)) (9) ، دل (10) على أن القائلين بالتبخيت (11) لا يجوِّزون (12) العُرُوَّ (13) عن الشبهة، وقال أيضاً عن الخصم: ((إنه جوَّزه
_________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من ق.
(2) انظر: المعتمد 1/5، نفائس الأصول 1/212.
(3) في س: ((البخت)) ولكن لا تشفع لها نسخ المتن والشروح. وإن كان ما بعدها يعضد هذه اللفظة، وسيأتي معناها بعد قليل.
(4) انظر: المحصول للرازي 4/187.
(5) ساقطة من ق.
(6) في ق: ((التبحيث)) وهو تصحيف، وليست في المحصول 4/187.

والتبخيت من البَخْت وهو الجَدّ والحَظُّ، كلمة فارسية معربة، وقيل: مولدة. قال الأزهري: لا أدري أعربي هو أم لا؟. ورجلٌ بخيت ذو جَدٍّ. قال ابن دريد: ولا أحسبها فصيحة. والمبخوت: المجدود (المحظوظ) . انظر: لسان العرب، المصباح المنير، تاج العروس، كلها مادة " بخت ". وعرَّفه الآمدي بقوله: ((وأما البَخْت والاتفاق: فعبارة عن وقوع أمرٍ ما لا عَنْ قصدٍ، ولا عن فاعل)) . المُبين في شرح معاني ألفاظ الحكماء والمتكلمين ص 118. وسيرد تفسير المصنف لها في ص 174.
(7) في ن: ((وقع)) بغير واو.
(8) في ق: ((التبحيث)) وهو تصحيف.
(9) عبارة المحصول (4/189) هي: ((أن ذلك يقتضي أن لا يصدر الإجماع لا عن دلالة ولا عن أمارة ألبتة، وأنتم لا تقولون به ... )) فأنت ترى أنه لم تقع في عبارته هذه كلمة ((التبخيت)) . والرازي قال ذلك جواباً على الدليل الأول للمخالفين وهو: ((أنه لو لم ينعقد الإجماع إلا عن دليلٍ، لكان ذلك الدليل هو الحجة، ولا يبقى في الإجماع فائدة)) . وبهذا يكون تفريع المصنف على قول الرازي بأن التبخيت هو الشبهة غير صحيح. والله أعلم.
(10) ساقطة من ق.
(11) في ن، ق: ((التبحيث)) وهو تصحيف.
(12) في ن، س: ((لا يجوز أن)) وهي غير مناسبة للسياق.
(13) في ن: ((يعدوا)) ، وفي س: ((يعروا)) وهما غير مناسبتين للسياق.

(2/172)


من غير دلالة ولا أمارة)) (1) ، ومتى انتفت الأمارة انتفت الشبهة قطعاً فصار لفظ المحصول فيه (2) تدافع (3) (4) .
واختلف المختصرون له: فمنهم من فسَّره بالشبهة (5) وهو سراج الدين (6) ، ومنهم من أعرض عنه بالكلية (7) ، ثم بعد وضع كتاب " الفصول " (8) طالعتُ كتباً كثيرة فوجدت هذه اللفظة فيها مضبوطة، ويقولون: منهم من جَوَّز الإجماع بالبخت (9) ، بالتاء المنقوطة باثنين من (10) فوقها، فدل على أن (11) قوله: ((بالتبخيت)) ليس بالثاء
_________
(1) ليست هذه العبارة في المحصول، لكن مؤداها أن الخصم يجوّز صدور الإجماع بالتبخيت، أي بغير مستند من دلالةٍ أو أمارة. انظر المحصول 4/187 ـ 189.
(2) ساقطة من س، ن.
(3) في ن: ((يتدافع)) .
(4) لفظ المحصول مستقيم لا تدافع فيه، فإنه لم ترد فيه عبارة ((الشبهة)) أصلاً بل وردت عبارة ((التبخيت)) ، وهي في مقابل: الدلالة والأمارة، بل إن عبارة المحصول ـ ابتداءً ـ توحي بأن التبخيت يفضي إلى التقوُّل في الدين بمجرد الحظ والهوى لا لشبهةٍ. انظر: المحصول (4/188) ..ثم إن صاحب المحصول في المسألة التي بعد هذه عبرّ عن الأمارة بالشبهة. انظر: المحصول 4/192، نفائس الأصول 6/2737.
(5) انظر: التحصيل من المحصول لسراج الدين الأُرْموي، (2/78) . لكن غلَّطه الأصفهاني في الكاشف عن المحصول 5 / 518. وكذلك ردَّه الإسنوي في نهاية السول 3/308.
(6) هو أبو الثناء سراج الدين محمود بن أبي بكر بن أحمد الأُرْموي، نسبةً إلى أُرْمِية من بلاد أذَربيجان، وتسمى الآن: ضيائية، تابعة لإيران. من علماء الشافعية في الأصول والمنطق، قرأ بالموصل وسكن دمشق وولي قضاء قُوْنية وتوفي بها. من تآليفه: التحصيل من المحصول (ط) بتحقيق د. عبد الحميد أبو زنيد، بيان الحق، شرح الوجير للغزالي. ت 682هـ. انظر: طبقات الشافعية الكبرى 8/371، مقدمة كتاب التحصيل للأرموي.
(7) كتاج الدين الأرْموي في كتابه: الحاصل من المحصول (ط) ، والتبريزي في: تنقيح محصول ابن الخطيب (رسالة دكتوراه بجامعة أم القرى) ، والنقْشَواني في: تلخيص المحصول (رسالة دكتوراه بالجامعة الإسلامية) .
(8) المراد به " تنقيح الفصول ". والله أعلم.
(9) في ن: ((البحث)) وهو تحريف وخطأ، لأنه يؤدي خلاف المعنى المراد عند المصنف. ومن الكتب التي ذكرت ((البخت أو التبخيت)) التمهيد لأبي الخطاب 3/ 285.
(10) ساقطة من ن.
(11) ساقطة من ق.

(2/173)


المثلثة من المباحثة (1)
بل من البخت، فتحصَّل من ذلك أن من الناس من جوَّز الإجماع بالقِسْم (2) والبخت (3) ، أيْ: يُفْتُون (4) بغير مستند أصلاً، وأيُّ شيءٍ أفْتوا به كان حقاً، وأن الله تعالى جعل لهم ذلك، وأنهم مُنْطَقون (5) بالصواب، ولا يُجْرِي الله تعالى على لسانهم (6) إلا إياه، وهو أمرٌ جائزٌ عقلاً، غير أنه لابد له من دليل سمعي، فقائلوه يقولون: ذلك الدليل هو قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) (7) ونحوه، فمتى أجمعوا (8) كان حقاً ولا نَظَر إلى المستند، والفريق الآخر يقول (9) : فُتْياهم بغير مستند اتباعٌ للهوى، واتباع الهوى خطأ. فهذا تحرير هذه (10) المسألة.
حجة من قال لابد من الدلالة، وهي الدليل القاطع (11) : لأن الظنون تتفاوت، فلا يحصل فيها اتفاق، والدليل القاطع قاهر (12) لا مجال للاختلاف فيه، فيُتَصور بسببه الإجماع.
وجوابه: أن الغَيْم الرَّطْب تستوي (13) الأمة في الظن الناشيء منه ممن هو عارف بأحوال السُّحُب (14) . وكذلك كل أمارة تثير الظن، مع أن الدليل القطعي قد تَعْرِض فيه
_________
(1) في س: ((المباخثة)) ، وفي ن: ((المباختة)) وكلاهما تصحيف. كان من الأولى أن يقول المصنف: والحاء المهملة، من بحث: إذا سال وفتَّش عن الأمارة؛ لأن سكوته عن الخاء المعجمة يُوحِي بوجود كلمة " بخث " ولم أجدْها في معاجم اللغة..فالتغيير يكون في أمرين؛ في الحاء المهملة والثاء المثلثة. انظر: لسان العرب مادة " بحث ".
(2) القِسْم: بالكَسْر هو النصيب والحظ. انظر لسان العرب مادة " قسم ".
(3) في ن: ((البحث " وهو تصحيف.
(4) ساقطة من ق.
(5) في ق: ((يُنْطَقون)) .
(6) في ق: ((ألسنتهم)) .
(7) سبق تخريجه.
(8) في س: ((اجتمعوا)) .
(9) في ن، ق: ((يقولون)) .
(10) ساقطة من ن.
(11) في س: ((القطعي)) .
(12) في ق: ((قاصر)) والمثبت أصح.
(13) في س: ((يستوي)) .
(14) في ن، س: ((السحاب)) .

(2/174)


الشبهات، ولذلك اختلف العقلاء في حدوث (1) العالم، وكثيرٍ من المسائل العقليات القطعيات، لكن عروض الموانع لا عبرة به (2) ؛ لأنَّا لا (3) ندَّعِي وجوب حصول الإجماع، بل ندَّعِي أنه إذا حصل كان حجة، وتعذر حصوله في كثير من الصور لا يقدح في ذلك.
وأما وجه الفرق بين الجلية والخفية فظاهر مما تقدم (4) .
_________
(1) في س، ن، ق: ((حدث)) . والمثبت من ص، ز، م.
(2) في س، ن: ((بها)) ويكون مرجع الضمير إلى " الموانع ".
(3) ساقطة من ن.
(4) قال الشوشاوي: ((فإن الأمارة الجلية يمكن اجتماع الكل في الظن بموجبها بخلاف الخفية)) رفع النقاب القسم 2 / 548.

(2/175)


الفصل الرابع
في المجمعين (1)
ص: لا (2) يُعْتبر فيه جملة الأمة إلى يوم القيامة، [لانتفاء فائدة الإجماع] (3) .
هل يعتبر العوام من أهل الإجماع؟
ولا العوام (4) عند مالك رحمه الله وعند غيره (5) خلافاً للقاضي أبي بكر (6) ، لأن الاعتبار فرع الأهليَّة، ولا أهلية فلا اعتبار.
الشرح
أما جميع الأمة إلى قيام الساعة فلم يَقُلْ به أحد (7) ؛ فإنَّ (8) المقصود من هذه المسألة
_________
(1) أي: في بيان المعتبرين في انعقاد الاجماع.
(2) هكذا في ق: ((لا)) بدون الفاء. وفي جميع نسخ المتن والشرح ((فلا)) .
(3) ما بين المعقوفين ساقط من متن هـ.
(4) مسألة اعتبار قول العامي في الإجماع اختلفوا فيها على أقوالٍ ثلاثة. ذكر المصنف منها اثنين في المتن، والثالث في الشرح. وهي: يعتبر، لا يعتبر، يعتبر في الإجماع العام ولا يعتبر في الإجماع الخاص.
(5) هذا القول الأول، وهو للجمهور. انظر: التبصرة ص371، المنخول ص310، التمهيد لأبي الخطاب 3/250، المحصول لابن العربي ص 509، تحفة المسؤول للرهوني القسم 1 / 484، تيسير التحرير 3/224، نشر البنود 3/75 ـ 78.
(6) تواطأ الأصوليون على نسبة القول باعتبار العوام للقاضي أبي بكر الباقلاني، واختاره الآمدي. انظر: الإشارة للباجي ص 276، قواطع الأدلة 3/239، الإحكام للآمدي 1/226. لكن ابن السبكي والزركشي ينفيان هذه النسبة، قال ابن السبكي: ((وهو مشهور عن القاضي، نقله الإمام وغيره، وينبغي أن يُتَمهَّل في المسألة، فإن الذي قاله القاضي في مختصر التقريب ما نصه: الاعتبار في الإجماع بعلماء الأمة، حتى لو خالف واحد من العوام ما عليه العلماء لم يُكْتَرث بخلافه. وهذا ثابت اتفاقاً وإطباقاً ... )) انظر بقية القول في: الإبهاج (3/384) . وقال الزركشي: ((والذي رأيته في كتاب التقريب للقاضي التصريح بعدم اعتبارهم، بل صرح بنقل الإجماع على ذلك، وإنما حكى القاضي الخلاف في هذه المسألة على معنى آخر، وهو: أنَّا إن أدْرَجنا العوام في حكم الإجماع أطلقنا القول بإجماع الأمة، وإلا فلا نطلق بذلك، فإن العوام معظم الأمة وكثيرها. قال: والخلاف يؤول إلى العبارة، فهذا تصريحٌ من القاضي بأنه لا يُتوقف في حجية الإجماع على وفاقهم، وإنما المتوقف اسم الإجماع. وتصير المسألة لغوية لا شرعية. وهذا موضع حسن، فليُتَنبَّه له)) . سلاسل الذهب له ص343، وانظر: التلخيص 3 / 41.
(7) انظر: التوضيح لحلولو ص290، رفع النقاب القسم 2/550.
(8) في س: ((لأن)) .

(2/176)


كون الإجماع حجة، وفي يوم القيامة تنقطع تكاليف (1) الشرائع (2) .
وأما العوام فقال القاضي: هم مؤمنون ومن الأمة فيتناولهم اللفظ فلا تقوم الحجة بدونهم.
جوابه: أن أدلة الإجماع* يتعيَّن حملها على غير العوام، لأن قول العامي بغير مستند خطأ، والخطأ لا عبرة به، ولأن الصحابة رضوان الله عليهم أجمعوا على عدم اعتبار (3) العوام، وإلزامِهم اتباع العلماء. قال القاضي عبد الوهاب (4) : وقيل: يعتبر (5) العوام في الإجماع العام (6) كتحريم الطلاق (7) والزنا والربا وشرب الخمر، دون الإجماع الخاص (8) الحاصل في دقائق الفقه (9) .
المعتبر في الإجماع بحسب المجتهدين في كل فنٍ
ص: والمعتبر في كلِّ فَنٍّ أهلُ الاجتهاد في ذلك الفن، وإنْ لم يكونوا من أهل الاجتهاد في غيره، فيعتبر في الكلام (10) المتكلمون، وفي الفقه الفقهاء، قاله الإمام (11) .
_________
(1) في ق: ((التكاليف)) .
(2) في ق: ((والشرائع)) . وانظر: الإحكام للآمدي 1/225، نهاية الوصول للهندي 6/2647.
(3) في ن: ((اتباع)) .
(4) انظر قوله في: نفائس الأصول 6/2750، سلاسل الذهب للزركشي ص 343.
(5) في ق: ((تعتبر)) وهو جائز بحسب التقدير: جماعة العوام أو جمع العوام. انظر هامش (11) ص 67.
(6) الإجماع العام: هو ما يَعْلم الحكمَ فيه العلماءُ والعوام، وهو ما عُلم حكمه من الدين بالضرورة. انظر: رفع النقاب القسم 2/551. لكن هذا النوع من الإجماع لا حاجة إليه، لاستناده إلى القواطع من الكتاب والسنة المتواترة.
(7) الطلاق يكون حراماً إذا كان بِدْعِيّاً كالطلاق في حيضٍ أو في طهرٍ جامعها فيه. والتمثيل بهذا فيه نظر لخفاء حكم الطلاق البدعي على كثير من العوام. إلاّ أن يكون قصْد المصنف تحريم المطلَّقة بائناً على من طلَّقها، لكن العبارة لا تسْعفه. والله أعلم.
(8) ساقطة من ن. والإجماع الخاص مثل: أحكام البيوعات والمساقاة والقراض وأحكام العتق والجنايات مما لا يعلمه إلا العلماء.
(9) وبهذا القول قال الباجي في إحكام الفصول ص (459) ، وعزاه السمعاني لبعض أصحاب الشافعي وبعض المتكلمين وأبطله. انظر: قواطع الأدلة 3 / 242.
(10) علم الكلام عرَّفه ابن خلدون بقوله: ((علم يتضمن الحجاج عن العقائد الإيمانية بالأدلة العقلية، والرد على المبتدعة المنحرفين في الاعتقادات عن مذهب السلف وأهل السنة)) . مقدمته بتحقيق د. علي عبد الواحد وافي (3 / 1069) . وعرَّفه الجرجاني بقوله: ((علم يُبحث فيه عن ذات الله تعالى وصفاته وأحوال الممكنات من المبدأ والمعاد على قانون الإسلام. وقيل: هو العلم بالقواعد الشرعية الاعتقادية المكتسبة من الأدلة)) التعريفات ص236. وللسلف وأهل السنة كلام في علم الكلام انظر مثلاً: ذم الكلام وأهله لأبي إسماعيل الهروي، شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للاَّلكائي 3 / 528 وما بعدها، 4 / 706 وما بعدها.
(11) انظر: المحصول (4/198) في المسألة الرابعة.

(2/177)


وقال: لا (1) عبرة بالفقيه الحافظ للأحكام والمذاهب إذا لم يكن مجتهداً. والأصولي المتمكن من (2) الاجتهاد غير الحافظ للأحكام خلافه معتبرٌ على الأصح (3) .
حكم اشتراط التواتر في المجمعين
ولا يشترط بلوغ المجمعين إلى حَدِّ التواتر، بل لو لم يبْقَ إلاَّ واحدٌ - والعياذ
بالله - كان قوله حجة (4) .
حكم إجماع غير الصحابة
وإجماع غير الصحابة حجة خلافاً لأهل الظاهر (5) .
الشرح

الكلام في اشتراط التواتر في المجمعين
قال القاضي عبد الوهاب (6) : ((اختُلِف هل يشترط في الإجماع العددُ المفيدُ للعلم وهو عدد التواتر، فإن قَصُرُوا عن ذلك لم يكن حجة، قاله القاضي أبوبكر الباقلاَّني)) .
حجة عدم الاشتراط: قوله تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (7) ولم
_________
(1) ساقطة من س.
(2) هنا زيادة: ((أهل)) في ن، ومتن أ، وليست في سائر نسخ المتن والشرح.
(3) مسألة اعتبار الفقيه والأصولي من أهل الاجتهاد فيها أربعة أقوال: اعتبار قولهما، عدم اعتباره، اعتبار قول الأصولي دون الفقيه، عكسه. انظر: العدة لأبي يعلى 4/1136، الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 5 / 180، الإحكام للآمدي 1/228، نهاية الوصول للهندي 6/2651، كشف الأسرار للبخاري 3/444، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/33، التوضيح لحلولو ص291، شرح الكوكب المنير 2/225.
(4) انظر هذا القول للرازي في المحصول (4/199) المسألة الخامسة. ومسألة اشتراط التواتر في المجمعين فيها قولان: الأول: لا يشترط، وهو للجمهور. والثاني: يشترط، قال به الجويني في البرهان 1/443. وانظر: الإحكام للآمدي 1/250، نهاية الوصول 6/2654، التوضيح لحلولو ص292، شرح الكوكب المنير 2/252، تيسير التحرير 3/235، نشر البنود 2/81.
(5) انظر هذا القول للرازي في المحصول (4/199) المسألة السادسة. وانظر المسألة في: المعتمد 2/27، الإحكام لابن حزم 1/553، النبذ في أصول الفقه لابن حزم ص38، العدة لأبي يعلى 4/1090، إحكام الفصول ص486، شرح اللمع للشيرازي 2/702، المحصول لابن العربي ص 520، منتهى السول والأمل ص55، المسودة ص317، فواتح الرحموت 2/277.
(6) انظر: التوضيح لحلولو ص292.
(7) النساء، من الآية: 115.

(2/178)


يُفَصِّل بين قليلهم وكثيرهم. وكذلك قوله عليه الصلاة والسلام: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) (1) ، وغير ذلك من الأدلة السمعية.
حجة الاشتراط: أنَّا مكلفون بالشريعة وأنْ (2) نقطع بصحة قواعدها في جميع الأعصار، ومتى قَصُر عددهم عن التواتر لم يحصل العلم [فيختلُّ العلم] (3) بقواعد الدين.
وجوابهم: أن التكليف بالعلم يعتمد سببَ حصول العلم، فإذا تعذَّر سبب حصول (4) العلم سقط التكليف به، ولا عجب في سقوط التكليف لعدم أسبابه أو شرائطه (5) .
العبرة في الإجماع بأهل كلِّ فنٍّ
وأما أن (6) العبرة بأهل ذلك الفن [خاصةً؛ فلأن غير أهل ذلك الفن] (7) كالعوام بالنسبة إلى ذلك الفن، والعامة لا عبرة بقولهم. وينبغي على رأي القاضي أن يَلْزَم اعتبارَ جميع أهل الفنون في كلِّ فَنٍّ، لأن غايتهم أن يكونوا كالعوام وهو يعتبر العوام (8) .
وأما قولي في الفقيه: " الحافظ " والأصولي: " المتمكن " فهو قول* الإمام فخر الدين رحمه الله (9) ، وفيه إشكالٌ من جهة أن الاجتهاد من شرطه معرفة الأصول والفروع (10) ، فإذا انفرد أحدهما يكون شرط الاجتهاد مفقوداً (11) ، فلا ينبغي اعتبار واحدٍ منهما حينئذٍ.
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) في ق: ((وأنَّا)) .
(3) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(4) ساقطة من ق.
(5) في ق: ((شروطه)) .
(6) ساقطة من ن.
(7) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(8) سبق الكلام في تحرير نسبة هذا القول للقاضي الباقلاني.
(9) انظر: المحصول (4/198) . وحجة الإمام في التفريق بينهما: أن الفقيه الحافظ للأحكام غيرَ المتمكِّن من الاجتهاد كالعامي فلا عبرة بقوله. وأما الأصولي المتمكِّن من الاجتهاد ـ وإن لم يكن حافظاً للأحكام ـ فلديه القدرة على التمييز بين الحق والباطل، فاعْتُبِر قولُه قياساً على غيره.
(10) اختلفوا في اشتراط معرفة التفاريع الفقهية، والأصح عدم الاشتراط وإلا لزم الدوْر، إذ كيف يحتاج إليها وهو الذي يولّدها بعد حيازة منصب الاجتهاد؟!. وقيل: يشترط معرفته بجُمَلٍ من فروع الفقه يحيط بالمشهور وببعض الغامض. وقيل: المراد بالفروع مواضع الإجماع والاختلاف خاصة؛ لئلا يفتي على خلاف الإجماع. انظر: تقريب الوصول ص434، البحر المحيط للزركشي 8/237، رفع النقاب القسم 2/553.
(11) في س: ((مفقود)) وهو خطأ نحوي؛ لعدم انتصابه على أنه خبر كان.

(2/179)


والقاضي عبد الوهاب أبو محمد ذكر عبارة تَقْرُب من السداد فقال: ((إذا أجمع (1) الفقهاء وخالفهم من هو من أهل النظر ومشاركون للفقهاء في الاجتهاد، غير أنهم لم يَتَسَمَّوا (2) بالفقه ولم يتصدَّوا (3) له، فالأصح اعتبار قولهم)) (4) . فهذه* العبارة تَقْرُب لأنه لم يُسْلب عنهم إلا التصدِّي للفقه والتوجه إليه، فأمكن أن يكون كل واحد منهم من أهل الاجتهاد، وحَكَى في اعتبار هؤلاء قولين (5) ، قال (6) : ((وقيل أيضاً: لا يُعْتَبر بقول من لا يقول بالقياس (7) ، لأن المُقَايسة هي طريق الاجتهاد، فمن لم يعتبرها لم يصلح للاجتهاد - قال - وهذا غير صحيح، فإنه لو لم يُعتبر مَنْ لا يَعْتبر بعض المدارك لألغينا من لا يعتبر المراسيل أو الأمر للوجوب أو العموم أو غير ذلك، وما من طائفة إلا وقد خالفت في نوع من الأدلة)) (8) . وأمَّا أن إجماع غيرالصحابة حجة: فلظواهر النصوص، والأدلة الدالة على كون الإجماع حجة.
واحتج أهل الظاهر: بأن ظاهر قولِهِ تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} (9) وقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} (10) [لا يتناول مَنْ يَحْدُث بَعْدُ] (11) ، وهذه الضمائر إنما وُضِعتْ للمشافهة ومن هو حاضر (12) .
_________
(1) في س: ((اجتمع)) .
(2) في ق: ((يرتسموا)) ، وفي و، م: ((يتوسموا)) ، وكلها جائزة.
(3) في ق: ((يتصدَّروا)) وهي جائزة.
(4) انظر قوله في: نفائس الأصول 6/2751، التوضيح لحلولو ص292.
(5) في ن: ((قولان)) وله وجه إذا كان الفعل ((حُكي)) مبني على ما لم يُسمَّ فاعله.
(6) ساقطة من ن.
(7) عقد الرزكشي مسألة بعنوان: هل يعتبر بخلاف الظاهرية في الإجماع؟ فانظرها في البحر المحيط 6/424.
(8) انظر: نفائس الأصول 6/2751، البحر المحيط للزركشي 6/425.
(9) آل عمران، من الآية: 110.
(10) البقرة، من الآية: 143.
(11) ما بين المعقوفين مثبت من ص، وفي ن: ((فلا يتناول من يحدث بعد)) .
(12) العبارة في س، ق، ز، و، ش، م كتبت هكذا: ((واحتج أهل الظاهر بأن ظاهر قوله تعالى ... الآيات ... وهذه الضمائر إنما وضعت للمشافهة ومن هو حاضر، فلا يتناول من يحدث بعد)) والمشكل فيها تأخير خبر " أن " وهو ((فلا يتناول)) واقترانُه بالفاء، ولعلَّها زائدة، وأجاز الأخفش زيادتها في الخبر مطلقاً. انظر: مغني اللبيب لابن هشام 1 / 331. والجملة ((وهذه الضمائر ... إلخ)) معترضة. والله أعلم. والمثبت هنا من نسخة ص، وهو أضبط وأظهر.

(2/180)


وجوابهم: أن (1) النصوص (2) تتناول الجميع [مثل قوله] (3) تعالى: {وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ} (4) ، وقولِهِ (5) عليه الصلاة والسلام: ((لا تجتمع أمتي على خطأ)) (6) ، ((ولا تزال طائفةٌ من أمتي على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك)) (7) ، وهذه صيغ (8) لا تختصُّ بعَصْرٍ (9) ، فوجب التعميم.
_________
(1) هنا زيادة: ((من)) في س، ن، ولا حاجة لها.
(2) هنا زيادة: ((ما)) في س، ن، ولا حاجة لها.
(3) في ق: ((لقوله)) .
(4) النساء، من الآية: 115.
(5) في ن: ((كقوله)) .
(6) سبق تخريجه.
(7) في ق: ((وهم على ذلك)) ، والحديث أخرجه البخاري (3116) ، (7311) ومسلم (1920) كلهما بلفظٍ مقارب لما ها هنا.
(8) في س: ((صيغة)) .
(9) في س: ((بنص)) وهو تحريف.

(2/181)


الفصل الخامس
في المُجْمَع عليه (1)
الإجماع في العقليات
ص: كلُّ ما يتوقف العلم بكون الإجماع حجة عليه لا يثبت بالإجماع (2) ، كوجود الصانع وقدرته وعلمه والنبوة.
وما لا يتوقف عليه كحدوث (3) العالم والوحدانية فيَثْبُت (4) (5) .
الإجماع في الدنيويات
واختلفوا* في كونه حجة في الحروب والآراء (6) .
_________
(1) أي: في بيان ما يثبت بالإجماع وما لا يثبت، أو في بيان ما يصح فيه الإجماع ويكون حجة، وما لا يصح فيه ولا يكون حجة.
(2) العبارة في س هكذا ((كل ما يتوقف عليه كون الإجماع به عليه حجة لا يثبت بالإجماع)) . وفي ن: ((كل ما يتوقف عليه العلم بكون الإجماع حجة لا يثبت الاجماع)) وكلتاهما مختلَّتان. والمثبت من ق وسائر نسخ المتن والشرح.
(3) في س، ن: ((كحدث)) .
(4) في ق: ((فتثبت)) ، وهو تصحيف، أي: الإجماع , وفي س: ((فيُثْبِته)) .
(5) هذه المسألة مسألة الإجماع في العقليات (العقائد) . تحرير محل النزاع: اتفقوا على أن كل ما يتوقف العلم بكون الإجماع حجة عليه أنه لا يثبت بالإجماع. ثم اختلفوا في جريان الإجماع على باقي العقليات على ثلاثة مذاهب: الجواز مطلقاً، المنع مطلقاً، التفصيل بين كليات أصول الدين فلا يثبت به، وجزئياته فيثبت به. انظر: المعتمد 2/35، البرهان 1/458، المنخول ص316، منتهى السول والأمل ص63، التوضيح لصدر الشريعة مع التلويح للتفتازاني 2/95، البحر المحيط للزركشي 6/492، التوضيح لحلولو ص292، شرح الكوكب المنير 2/277، تيسير التحرير 3/262.
(6) صورة المسألة: إذا أجمع الصحابة رضي الله عنهم على كيفيةٍ معينةٍ في الحروب مثلاً، كترتيب الجيوش وتقسيمها إلى خمسة أقسام: المقدمة والساقة والميمنة والميسرة والقلب، وكذلك في تدبير أمور الرعية، فهل تجوز مخالفتهم فيما أجمعوا عليه في هذا ونحوه من مصالح الدنيا أو لا تجوز مخالفتهم؟. اختلفوا في جريان الإجماع على الدنيويات والحروب والسياسات على أقوال ثلاثة: لا يجرى مطلقاً، يجري مطلقاً، التفصيل، بجريانه في الدنيويات التي يترتب عليها حكم شرعي دون غيرها. انظر: المعتمد 2/35، شرح اللمع للشيرازي 2/687، الإحكام للآمدي 1/279، شرح مختصر الروضة للطوفي 3/132 وفيه تفصيل جيد، تحفة المسؤول للرهوني القسم 1 / 532، البحر المحيط للزركشي 6/494، رفع النقاب القسم 2/562.

(2/182)


حكم اشتراك الأمة في الجهل بشيءٍ ما
ويجوز اشتراكهم في عدم العلم بما لم يُكلَّفوا به (1) .
الشرح
الكلام على الإجماع في العقليات
كون الإجماع حجة فرع النبوة، والنبوة فرع الربوبية، وكونِ الإله سبحانه وتعالى عالماً: فإن من لم يعلم زيداً لا يرسله، مريداً (2) : فإنَّ اختيار زيدٍ دون (3) الناس للرسالة (4) فرع ثبوت الإرادة، والحياة (5) : لأن الحياة شرط في العلم والإرادة، فهذه شروط (6) في الرسالة، فلو ثبتت (7) بالإجماع الذي هو فرع الرسالة لَزِم الدَّوْر (8) ، وأما حدوث (9) العالم فلا يتوقف عليه الإجماع (10)
إلا بالنظر البعيد من جهة أنه يلزم من قدم العالم انتفاء
_________
(1) كتفضيل عمار بن ياسر على حذيفة بن اليمان أو عكسه رضي الله عن الجميع. انظر المسألة في: المعتمد 2/47، الإحكام للآمدي 1/279، التوضيح لحلولو 293، شرح الكوكب المنير 2/284.
(2) ساقطة من ق.
(3) هنا زيادة: ((اختيار)) في ن لا معنى لها.
(4) في س: ((للمراسلة)) .
(5) لو قال: ((حياً)) ، لكان أوفق للسياق، إذ يصير السياق: وكون الإله سبحانه وتعالى عالماً ... .، مريداً ... .، حياً ... .
(6) في ق: ((شرط)) .
(7) في ن، س: ((ثبت)) .
(8) وجه الدور: أن الإجماع متوقف على الدليل السمعي، والدليل السمعي متوقف على النبوة، والنبوة متوقفة على الربوبية وعلى كونه تعالى حياً عالماً قادراً مريداً، فظهر بذلك توقف الإجماع على هذه الأمور، إذ لولاها لما وجد الإجماع، فلو توقفت هذه الأمور على الإجماع للزم الدور، وهو ممنوع؛ لأنه محال. انظر: رفع النقاب القسم (2/260) . ونظير ذلك: أنه لا يسوغ الاحتجاج بالقرآن على وجود الصانع وإثبات النبوة، إذ لا نعلم صحته إلا بعد تقدُّم العلم بوجود الصانع وثبوت النبوة فيلزم الدور. انظر: التلخيص للجويني 3/52.
(9) المثبت من ز، م. وفي سائر النسخ: ((حدث)) .
(10) لأن العقل لو فرض قِدَم العالم لم يكن الإرسال مستحيلاً في ذاته، أي لا يتوقف إثبات النبوة على قِدَم العالم أو حدوثه، ومن ثمَّ فلا يتوقف الإجماع على حدوث العالم. انظر: رفع النقاب 2 / 561. وقال الفخر الرازي: ((لا يمكننا إثبات الصانع بحدوث الأعراض، ثم نَعْرِف صحة النبوة، ثم نَعْرِف به الإجماع، ثم نعرف به حدوث الأجسام)) المحصول 4/205. وانظر: شرح الكوكب المنير 2/278.

(2/183)


الإرادة، فإنَّ القديم يستحيل أن يراد؛ لأن (1)
الفاعل المختار لا يُتَصوَّر منه أن يقصد إلى إيجاد أثره إلا حالة عدمه (2) ، غير أنه لو فرضنا أن الله تعالى ما أحدث عَالَماً لم يكن الإرسال مستحيلاً عليه في ذاته، بل لابد من مُرْسَلٍ ومُرْسَلٍ إليه فقط (3) فهذا مانع خارجي (4) ، وكذلك (5) لو فرض العقل إلهين (6) أو أكثر تصوَّر (7) من كل واحد منهما الإرسال، هذا بالنظر إلى باديء النظر، وإن كان (8) من المحال أن يَثْبُت عَالَم مع الشركة حتى يُتَصَوَّر (9) فيه إرسال (10) ،
لكن المقصود في هذا الموضع ما يتوقف عليه الإرسال في مجاري العادات (11) .
_________
(1) ومن العلماء ـ كالشيرازي والسمعاني ـ من جعل حدوث العالم مما يتوقف الإجماع عليه فلا يثبت به. انظر: شرح اللمع للشيرازي 2/687، قواطع الأدلة 3/258 وانظر: البحر المحيط للزركشي 6/492 ـ 493. وقد أشار إلى ذلك المصنف في نفائس الأصول 6/2761.
(
) في ق، ن: ((ولأن)) .
(2) هذا تعليل على استلزام قدمِ العالم انتفاءَ الإرادة، وحاصله: أن القول بقدم العالم يفضي إلى سلب صفة الفاعلية والاختيار عن الرَّب تبارك وتعالى، إذ يستحيل تصور إيجاد أثر الفاعل ـ وهو المفعول ـ إلا عند عدمه. وإذا امتنعت الإرادة امتنع إرسال الرسل وامتنع الإجماع، فصار الإجماع متوقفاً على حدوث العالم لكن بنظر بعيد. والله أعلم.
(3) ساقطة من ن.
(4) يقصد ـ والله أعلم ـ أن افتراض أن الله لم يُحدِثْ عالماً لا يُحيل إرسال الرسل في حدّ ذاته، هذا الافتراض يمنع توقف الإجماع على حدوث العالم بالنظر البعيد. لكن هذا المانع خارجي من جهة وقوع الإرسال خارج العالم.
(5) في س: ((ولذلك)) .
(6) في س: ((المعين)) وهو تحريف.
(7) هنا زيادة: ((العقل)) في س، ن.
(8) ساقطة من ن.
(9) المثبت من ق، ص. وفي ن: ((ينتشر)) ، وفي س: ((ينشر)) ، وفي باقي النسخ: ((يتيسر)) .
(10) دلَّ عليه قوله تعالى: {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ}
[الأنبياء: 22] . وقوله تعالى: {مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ} [المؤمنون: 91] .
(11) أي العبرة فيما يتوقف عليه الإرسال النظر القريب كوجود الصانع وصفاته، دون النظر البعيد الذي لا يُتوصّل إليه إلا بلزوماتٍ على خلاف العادة. لكن وقع خلاف فيما يتوقف عليه الإجماع من العقليات بالنظر البعيد، هل يكون الإجماع فيه حجة؟ فيه قولان. انظر: رفع النقاب القسم 2/561.
صحح الطوفي كلام المصنف الآنف الذكر وقال: إنه صحيح وإنْ نفر منه بعض من لا يفهمه أو من يفهمه بادي الرأي. انظر: شرح مختصر الروضة 3/132.

(2/184)


الإجماع في الحروب والآراء
قال القاضي عبد الوهاب (1) : والأشبه بمذهب مالكٍ أنه لا يجوز مخالفتهم فيما اتفقوا فيه من الحروب والآراء، غير أني لا أحفظ عن أصحابنا فيه شيئاً.
وحجته: أن عموم الأدلة يقتضي (2) أنهم معصومون مطلقاً [فيحرم مخالفتهم] (3) .
حجة الجواز: أن الأدلة إنما دلَّت على عصمتهم فيما يقولونه عن الله تعالى، وهذا ليس منه، فلا يكون قولهم حجة.
وجوابه: أن هذا تخصيصٌ، والأصل عدمه.
الكلام في اشتراك الأمة في الجهل بشيءٍ ما
وأما إشتراكهم في الجهل وعدم العلم بما (4) لم يكلفوا به (5) فهذا هو من ضرورات المخلوقات، ولم تجب الإحاطة إلا لله تعالى، وأما جهلهم بما كلفوا به فذلك محال عليهم؛ لأنه معصية تأباها العصمة.
قال القاضي عبد الوهاب (6) : ولا يجوز أن يجمعوا على فعل معصيةٍ في وقت (7) أو أوقات متفرقة؛ لأن تفرَّق (8) الأوقات لا يخرجهم عن كونهم مجمعين على معصية وكذلك الخطأ في الفتيا.
واختلفوا: هل يصح أن يجمعوا على خطأ في مسألتين كقول بعضهم بمذهب الخوارج، والبقية بمذهب المعتزلة (9) ، وفي الفروع مثل: أن يقول البعض بأن العبد يَرِث
_________
(1) انظر قوله في: شرح مختصر الروضة 3/133، البحر المحيط للزركشي 6 / 494، رفع النقاب القسم 2/562، حاشية التوضيح والتصحيح لابن عاشور 2 / 123.
(2) في س، ق: ((تقتضي)) وهو تحريف.
(3) في ق: ((فيحرم خلافهم)) .
(4) في ن: ((مما)) وهي غير مناسبة.
(5) في ن: ((فيه)) وهي غير مناسبة.
(6) انظر ما يشبه هذا النقل في: الرد على من أخلد إلى الأرض وجهل أن الاجتهاد في كل عصرٍ فَرْض للسيوطي ص 103.
(7) ساقطة من ق.
(8) في ق: ((تفريق)) .
(9) كما في مسألة مرتكب الكبيرة، فإن الخوارج يحكمون عليه بالكفر، والمعتزلة يجعلونه في منزلة بين المنزلتين، فليس هو بمؤمن ولا كافر. ويتفق كلا المذهبين على تخليده في النار. وكلا المذهبين باطل، فإن مذهب أهل السنة والجماعة ـ المذهب الحق ـ أنه مؤمن عاصٍ، تحت مشيئة الربّ تبارك وتعالى، إن شاء عذبه ولا يُخلَّد في النار، وإن شاء عفا عنه. انظر شرح العقيدة الطحاوية ص442. وانظر مذهب الخوارج في: العقود الفضية في أصول الإباضية لسالم بن حمد العُماني ص 285، ومذهب المعتزلة في: شرح الأصول الخمسة للقاضي عبد الجبار ص 137، 697.

(2/185)


والبقية بأن (1) القاتل عمداً يرث (2) ؟! فقيل: لا يجوز (3) لأنه إجماع على الخطأ، وقيل: يجوز (4) لأن كل خطأ من هذين الخطأين لم يساعد عليه الفريق الآخر، فلم يوجد فيه إجماع.
تنبيه (5) : الأحوال ثلاث (6) : الحالة (7) الأولى: اتفاقهم على الخطأ في مسألة واحدة كإجماعهم على أن العبد يرث، فلا يجوز ذلك عليهم.
الحالة (8) الثانية: أن يخطيء كل فريق في مسألة أجنبية عن المسألة (9) الأخرى، فيجوز، فإنَّا نقطع أن كل مجتهد يجوز أن يخطيء، وما من مذهب من المذاهب إلا وقد وقع فيه ما يُنْكر وإن قلَّ، فهذا لابد للبشر منه، ولذلك قال مالك رحمه الله: ((كلُّ أحدٍ مأخوذٌ من قوله ومتروكٌ، إلا صاحبَ هذا القبر صلى الله عليه وسلم)) (10) .
_________
(1) ساقطة من ق.
(2) انعقد الإجماع على عدم توريث العبد والقاتل. وما ذكره المصنف إنما هو من باب التمثيل. انظر: مراتب الإجماع لابن حزم ص174 - 175، المغني لابن قدامة 9/123، 150.
(3) قال به الأكثرون. انظر: نهاية الوصول 6 / 2676، الإبهاج 2 / 371، التوضيح لحلولو ص 293، شرح الكوكب المنير 2 / 284.
(4) قال به الأقلُّون. انظر: روضة الناظر 2/491، الإحكام للآمدي 1/279، غاية الوصول للأنصاري ص109.
(5) انظر هذه الأحوال الثلاث بصورة بديعة في: نفائس الأصول 6/2763.
(6) في س، ق: ((ثلاثة)) وهو صحيح مراعاة لمعنى التذكير في كلمة ((أحوال)) لأن مفردها ((حال)) تؤنث وتذكّر. انظر: هامش (4) ص 122.
(7) ساقطة من ق، وفي س: ((الحال)) وهو جائز كما سبق ذكره آنفاً.
(8) ساقطة من ق.
(9) ساقطة من ق.
(10) نسبة هذا القول إلى الإمام مالك هي المشهورة عند المتأخرين. وصححه عنه ابن عبد الهادي في " إرشاد السالك " (مخطوط) 1/227. قاله الألباني في صفة صلاة النبي صلى الله عليه وسلم ص49.
وأورد هذا الأثر أبو شامة المقدسي في " مختصر المؤمَّل في الردّ إلى الأمر الأول " ص66 عن الإمام مالك بلفظ ((ليس من أحدٍ إلا يؤخذ من قوله ويترك إلا صاحب هذا القبر)) وأشار إلى قبر النبي صلى الله عليه وسلم.
ورواه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/91) ، وابن حزم في الإحكام (2 / 302، 331) وأبو شامة المقدسي في مختصر المؤمل ص66، كلهم من قول الحَكَم بن عتيبة ومجاهد.
وأخرج الطبراني في المعجم الكبير (11 / 339) عن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً ((ليس أحدٌ
إلا يؤخذ من قوله ويُدَع غير رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد 1 / 179: ((ورجاله موثوقون)) وانظر: الأسرارالمرفوعة في الأخبار الموضوعة لملا علي القاري ص 264.

(2/186)


الحالة الثالثة: أن يخطئوا في مسألتين في حكم المسألة الواحدة مثل (1) هذه المسألة، فإن العبد والقاتل كلاهما يرجع إلى فرعٍ واحدٍ وهو مانع الميراث، فوقع الخطأ فيه كله، فمن نظر إلى اتحاد الأصل منع، ومن نظر إلى تعدد الفروع (2) أجاز. فهذا تلخيص هذه المسألة*.
_________
(1) في س: ((مثال)) .
(2) في ق: ((الفرع)) .

(2/187)