جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول

الباب السادس عشر
في الخبر
وفيه عشرة فصول

(2/188)


الفصل الأول
في حقيقته (1)
وهو المُحْتَمِل للصدق والكذب لذاته (2) ، احترازاً من خبر المعصوم (3) .
والخبر على (4) خلاف الضرورة (5) .
الشرح
الخبر من حيث هو خبرٌ يحتمل الصدقَ: وهو المطابقة (6) ، والكذبَ: وهو عدم المطابقة، والتصديقَ: وهو الإخبار عن كونه صدقاً، والتكذيب: وهو الإخبار عن كونه
_________
(1) الخبر لغة: اسم لما يُنقل ويُتحدَّث به، أو هو: ما أتاك من نبأ عمَّن تستخبر، وهو النبأ. وخَبَرتُ الشيء: علمته. انظر: مادة "خبر" في لسان العرب، المصباح المنير. وقال الزركشي: "الخبر مشتق من الخَبَار وهي: الأرض الرخوة، لأن الخبر يثير فائدة، كما أن الأرض الخَبَار تثير الغبار إذا قرعها الحافر". البحر المحيط 6/72.
(2) اختار المصنف في أول الكتاب في الباب الأول، الفصل السادس تعريفاً للخبر أدقَّ فقال: ((هو الموضوع لِلفْظين فأكثر أُسْند مسمَّى أحدهما إلى مسمَّى الآخر إسناداً يقبل التصديق والتكذيب لذاته؛ نحو: زيد قائم)) . ثم شرحه، فانظره هناك ص40 (المطبوع) . وانظر: تعريفات الخبر في: المعتمد 2 / 75، الإحكام للآمدي 2 / 9، جمع الجوامع بحاشية البناني 2 / 108، التوضيح لحلولو ص 294، شرح الكوكب المنير 2 / 289، نفائس الأصول 6 / 2793.
(3) وهو خبر الله تبارك وتعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم وخبر جميع الأمة (الإجماع) ، فإنها أخبار وإن كانت لا تحتمل الكذب لا لذاتها وإنما لما عرض عليها من جهة صدق المُخْبِر.
(4) في س متن هـ: ((عن)) .
(5) إن قيل: الاحتراز إنما يكون عما لا يراد دخوله في التعريف. وخبر المعصوم والضروري داخل فيه؟ فالجواب: بأن في كلام المصنف مضافاً محذوفاً تقديره: احترازاً من خروج خبر المعصوم ... إلخ، ولهذا نظير عند المصنف كما في تعريف "التخصيص" ص 51 (المطبوع) . انظر: رفع النقاب القسم 2/570
(6) أي: مطابقة الخبر لواقع المُخْبَر عنه.

(2/189)


كذباً، فالصدق والكذب نسبتان (1) بين الخبر ومتعلَّقه عدميَّتان لا وجود لهما في الأعيان [بل في] (2) الأذهان، والتصديق والتكذيب خبران وجوديان [في الأعيان] (3) .
شروع في شرح القيد " لذاته " المذكور في تعريف الخبر
ثم الخبر من حيث هو خبر يحتمل ذلك، أما إذا عرض له من جهة المتكلِّم به (4) ما يمنع الكذب والتكذيب فإنه لا يقبلهما؛ وكذلك إذا قلنا: الواحد نصف الاثنين؛ يمتنع (5) الكذب والتكذيب، أو الواحد نصف العشرة يمتنع (6) الصدق والتصديق، ولكن ذلك بالنظر إلى متعلَّقه لا بالنظر (7) إلى ذاته، فلذلك قُلْتُ - في الحدِّ - لذاته.
سؤال: التصديق والتكذيب* نوعان من الخبر، والنَّوع (8) لا يعرف إلا بعد معرفة الجِنْس (9) ، فتعريف* الجنس به دَوْر والصدق والكذب نسبتان بين الخبر ومتعلَّقه، والنسبة بين الشيئين لا تعرف إلا بعد معرفتهما، فتعريف الخبر بهما تعريف الشيء بما لا يُعْرف إلا بعد معرفته، فهذا دَوْر أيضاً (10) .
جوابه: أنه (11) تقدَّم في أول الكتاب (12) أنّ التحديد بمثل هذا يجوز، وأنّ الحدَّ: هو
_________
(1) النسبة: هي إيقاع التعلّق بين الشيئين. التعريفات ص296.
(2) في ق: ((و)) وهو خطأ ظاهر؛ لأن واو العطف تفيد امتناع وجو النسبة العدمية في الأذهان، وهو مستحيل.
(3) ساقطة من س.
(4) ساقطة من ق.
(5) في ن: ((يُمْنع)) .
(6) في ن: ((يُمْنع)) .
(7) ساقطة من ق.
(8) النَّوْع: هو كُلِّيٌ مَقُول على كثيرين متفقين بالحقيقة في جواب ما هو. مثل: إنسان فهو يصدق على أفراد كثيرة متفقة الحقائق، كزيد وعمرو. انظر: التعريفات ص302، شرح السلم المنورق للملَّوي بحاشية الصبّان ص70، تسهيل المنطق للبدخشاني ص46.
(9) الجِنْس: هو كلِّي مَقُول على كثيرين مختلفين بالحقيقة في جواب ما هو. مثل: حيوان فهو يصدق على أنواع كثيرة مختلفة الحقائق كإنسان وفرس انظر: التعريفات ص111 شرح السلم المنورق للملَّوي بحاشية الصبَّان ص68، تسهيل المنطق للبدخشاني ص47.
(10) انظر: التوضيح لحلولو ص295
(11) في ن: ((ما)) .
(12) انظر: الباب الأول: في الاصطلاحات، الفصل الأول: في الحد ص 6 (المطبوع) .

(2/190)


شرح اللفظ وبيان مسماه دون تخليص (1) الحقائق بعضها من بعض، [وبَسَطْتُهُ هنالك فَلْيُطالعْ ثَمَّة] (2) .

هل توجد واسطة بين الصدق والكذب في الخبر؟
وقال الجاحظ (3) : يجوز عُرُوُّة عن [الصدق والكذب] ، (4) (5)
والخلاف لفظي (6) .
الشرح
قال أهل السنة: لا واسطة بين الصدق والكذب، لأنه لا واسطة بين المطابقة وعدمها.
_________
(1) في ن: ((تخصيص)) .
(2) ما بين المعقوفين مثبت من م، ز. وفي ن، س: ((وبَسْطُها هنالك فيطالع منه)) ، وفي ق: ((فيطالع هنالك)) . قد بسط المصنف هذه المسألة في كتابه البديع " الفروق " (1/18) فليُطالعْ ثمّة.
(3) هو عمرو بن بَحرْ بن محجوب، أبوعثمان الجاحِظ، من أهل البصرة، ومن شيوخ المعتزلة، وإليه تنسب فرقة "الجاحِظية". تتلمذ على النظَّام، وكان ذكياً سريع الخاطر والحفظ، قيل له "الجاحظ" لجحوظ عينيه أو نتوئهما، وهو مكثر من التآليف، منها: الحيوان (ط) ، البيان والتبيين (ط) وغيرهما. توفي عام 255هـ. انظر: طبقات المعتزلة للقاضي عبد الجبار ص275، معجم الأدباء 16/74، وفيات الأعيان 3/470
(4) في ق: ((التصديق والتكذيب)) .
(5) انظر مذهب الجاحظ في المعتمد 2/75، بديع النظام لابن الساعاتي 2 / 321، أصول الفقه لابن مفلح 2 / 66، تحفة المسئول للرهوني القسم 2 / 543، تشنيف المسامع 2 / 932، وانظر رأي الراغب الأصفهاني في كتابه "مفردات القرآن" مادة "صدق" فإنه مِثْل رأي الجاحظ.
(6) هذه مسألة: هل الخبر ينقسم إلى صدق وكذب فقط أم توجد واسطة بينهما؟ فيها مذهبان؛ الأول: الخبر ينقسم إلى صدق وكذب ولا واسطة بينهما. وهو للجمهور وعبر المصنف عنهم في شرحه بـ"أهل السنة". الثاني: للجاحظ؛ وهو توجد واسطة بينهما، كأنْ يكون الخبر مطابقاً للواقع مع عدم الاعتقاد أو عكسه مثلاً. فهذه الصورة عريّة عن الصدق والكذب. ثم وقع اختلاف بين العلماء في نوع هذا الخلاف، فقيل: لفظي - وهو ما اختاره المصنف وأكثر الأصوليين. بمعنى أن الخلاف راجع إلى تفسير الصدق والكذب، فمن فسّر الصدق: بمطابقة الواقع ـ سواء اعتقد أم لم يعتقد ـ لم يقلْ بالواسطة، ومن فسَّره بالمطابقة مع الاعتقاد جعل الواسطة. وقيل: الخلاف معنوي وله أثر في الفروع الفقهية، وذكر له مثالاً الإسنويُّ في التمهيد ص (445) ، والزركشيُّ في البحر المحيط (6/84) . انظر: المعتمد 2/75، إحكام الفصول ص318، التمهيد لأبي الخطاب 3/11، المحصول للرازي 4/224، الإحكام للآمدي 2/10، منتهى السول والأمل ص66، رفع الحاجب لابن السبكي 2 / 294، تيسير التحرير 3/28، كتاب: الخلاف اللفظي عند الأصوليين د. عبد الكريم النملة 2/31.

(2/191)


وقالت المعتزلة: لفظ الكذب ليس موضوعاً لعدم المطابقة كيف كانت (1) ، بل لعدم المطابقة مع القصد لذلك (2) ، وبهذه الطريقة تثبت الواسطة، فإنه قد لا يكون مطابقاً ولا يقصد ذلك (3) ولا يعلم؛ فلا يكون صدقاً لعدم المطابقة ولا كذباً لعدم القصد [لعدم المطابقة] (4) .
حجتنا (5) : قوله عليه السلام: "مَنْ كَذَب عليّ متعمِّداً فَلْيتَبَوأْ مَقْعَدَه من النَّار" (6) . فلما قيدَّه بالعَمْد دل (7) على تصوره بدون العمد، كما قال تعالى {وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكم مُتَعَمِّداً} . (8)
وقال عليه السلام: "كفى بالرجل كذباً أنْ يُحدِّث بكلِّ ما سمع" (9) ، فجعله كاذباً إذا حدَّث بما سمع، وإن كان لا يعلم عدم مطابقته، فدل على أن القصد لعدم المطابقة ليس (10) شرطاً في تحقق (11) مسمَّى
الكذب.
حجة المعتزلة: قوله تعالى حكاية عن الكفار "أَفْتَرَى على اللهِ كذباً أمْ به
_________
(1) في ق: ((كان)) .
(2) في نسبة هذا القول للمعتزلة تجوُّزٌ، إذ المنقول في كتب الأصول أنه مذهب الجاحظ، وبعضها تذكر شيخه النظَّام. أما باقي المعتزلة، فقال أبوالحسين في المعتمد (2/76) : "وعند جماعة شيوخنا أن الخبر إما أن يكون صدقاً أو كذباً ـ ثم قال ـ ولقد أفسد قاضي القضاة قول أبي عثمان ... ". أي الجاحظ.
(3) في ن: ((لذلك)) .
(4) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(5) في ن: ((حجتها)) ربما كان وجهه عود الضمير إلى طائفة أهل السنة.
(6) رواه البخاري (110) ومسلم (3004) . بل هو متواتر. انظر: قطف الأزهار المتناثرة في الأخبار المتواترة للسيوطي ص23، نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتَّاني ص35. ورد في بعض النسخ مثل نسخة ن، س، و "من كذب علي عامداً متعمداً ... " وهي إحدى روايات الحديث، أخرجها أبونعيم الأصفهاني في حلية الأولياء 8/52.
(7) هنا زيادة: ((ذلك)) في س.
(8) المائدة، من الآية: 95
(9) رواه مسلم (5) بلفظ ((كفى بالمرء ... )) بدلاً من ((الرجل)) .
(10) في ن، س ((ليست)) .
(11) في ق، س ((تحقيق)) .

(2/192)


جِنَّةٌ " (1) فجعلوا (2) الجنون قَسِيْم (3) الكذب لعدم القصد فيه، مع أن خبره على التقديرين غير مطابق (4) فدل على اشتراط* القصد في حقيقة الكذب (5) .
وجوابهم: أنهم لم يقولوا كذب، بل افترى، والافتراء هو (6) ابتداء (7) الكذب واختراعه (8) ، فَهُمْ نوَّعوا (9) الكذب إلى اختراعٍ وجنونٍ، لا أنهم قسموا كلامه إلى كذبٍ وغيره، فيرجع الخلاف في ذلك إلى أن العرب هل وضعت لفظ (10) الكذب لغير المطابق كيف كان، [أو لعدم المطابقة مع القصد لذلك] (11) ؟ وهو معنى قولي: "والخلاف لفظي (12) ".
_________
(1) سبأ، من الآية: 8.
(2) في ق ((فجعل)) . والضمير في ((جعلوا)) عائد إلى الكفار.
(3) قَسِيْم الشيء: ما يكون مقابلاً للشيء ومندرجاً معه تحت شيء آخر، كالاسم قسيم للفعل، وكلاهما مندرجان (قِسْمان) تحت "الكلمة" التي هي أعم منهما. وقِسْم الشيء: ما يكون مندرجاً تحته وأخص منه، كالاسم أخص من الكلمة. انظر: التعريفات ص224.
(4) انفردت النسخة ص بزيادة "عندهم" هنا، وهي زيادة لطيفة إذْ من شأنها أن تخصّ التكذيب بالرسالة بالكفار.
(5) وجه الدلالة من طريق آخر: أن الكفار جعلوا إخباره صلى الله عليه وسلم عن نبوته إما كذباً وإما جنوناً. وإخباره عن نبوته حالة الجنون ليس كذباً، لأنه جُعل قسيماً للكذب، وقسيم الكذب لا يكون كذباً، وليس هو صدقاً أيضاً لأنهم لم يعتقدوا مطابقته على كلا التقديرين، فإخباره عن نبوته صلى الله عليه وسلم حالة الجنون ليس كذباً ولا صدقاً، وهو الواسطة. انظر: نهاية الوصول للهندي (7/2708) .
(6) ساقطة من ق
(7) شذَّت نسخة ز بلفظة "أشد" بدلاً من "ابتداء"، وهو شذوذ له وجه من اللغة كما ستراه في التعليق التالي.
(8) افْتَرى: اختلق، كما قال تعالى: {أمْ يقولون افْتَراهُ ... } [هود: 13] أي: اختلقه. وقال قوم مريم فيها كما حكى الله تعالى {لقد جئتِ شيئاً فرياً} [مريم: 27] أي: مصنوعاً مختلقاً. والفِرْية: الكِذْبة. انظر: لسان العرب مادة "فرا". لكن في كتاب "الفروق" لأبي هلال العسكري ص (51) فرَّق بين "اختلق" و"افترى" بأن "افترى": قَطَع على الكذب وأخبر به، و"اختلق": قدَّر كذباً وأخبر به. وقال السمين الحلبي في "عمدة الحفاط" مادة "فري" (3/225) : "الافتراء: أقبح الكذب، أو الكذب مع التعمد عند من يرى أن الكذب مخالفة ما في الواقع مطلقاً. وهناك توجيهات ومعانٍ أخرى للآية، منها؛ أن معنى الآية: افترى أم لم يَفْتَرِ فيكون مجنوناً، لأن الجنون لا افتراء له لعدم قصده. انظر: الكاشف عن المحصول للأصفهاني 5 / 582، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/50، روح المعاني للألوسي 11/284 وفيه أجوبة حسنة.
(9) في ق: ((قسموا)) .
(10) ساقطة من ق
(11) ما بين المعقوفين كُتب في ق هكذا ((أو لذلك مع عدم القصد له)) .
(12) ساقطة من ن.

(2/193)


هل يشترط في الخبر إرادة الإخبار؟
واختلفوا في اشتراط الإرادة في حقيقة كونه خبراً (1) ، فعند (2) أبي علي وأبي هاشم الخبريةُ معلَّلةٌ بتلك الإرادة (3) ، وأنكره الإمام (4) لخفائها، فكان (5) يلزم أن لا يُعْلم خبرٌ (6) ألبتَّة، ولاستحالة (7) قيام الخبرية بمجموع (8) الحروف لعدمه، ولا ببعضه وإلا لكان خبراً (9) ،
وليس فليس (10) .
الشرح
الخلاف في هذه المسألة مثلُ مسألة الأمر (11) .
قالوا (12) : الخبر قد يكون دعاءً نحو (13) : غفر الله لنا، وتهديداً (14) نحو قوله تعالى: {سَنَفْرُغُ لكم أيُّها الثَّقَلان} (15) وأمراً (16) نحو قوله تعالى: {والوالداتُ
_________
(1) في س ((كذباً)) وهو شذوذ لا توافقها عليه سائر النسخ.
(2) أطبقت نسخ المتن والشرح على إثبات كلمة ((وعند)) ما خلا نسختي ص، م ففيهما ((فعند)) وهو الأليق لكون الفاء فصيحةً، أفصحت عن جواب شرطٍ مقدّر تقديره: إذا أردت معرفة من اشترط الإرادة في الخبرية فأقول لك: عند أبي علي.. الخ
(3) معناه: أن الإرادة هي التي أوجبت كون اللفظ خبراً. انظر المسألة هذه في: المعتمد 2/73، شرح اللمع للشيرازي 2/567، المسودة ص232، شرح الكوكب المنير 2/298.
(4) أي: أنكر الإمام الرازي اشتراط الإرادة في الصيغة الخبرية لخفاء الإرادة، لأنها أمر باطني لا يُطَّلع عليه. انظر: المحصول 2/29، 4/223.
(5) في ق: ((وقال)) .
(6) في ن: ((الخبر)) .
(7) في ن متن هـ: ((والاستحالة)) وهو تحريف.
(8) في ن ((لمجموع)) .
(9) هذا جواب عن قول الجُبَّائيَيْن بأن الخبرية معللة بالإرادة، وسيشرحه المصنف.
(10) أي: وليس بعض الحروف خبراً، فليس الخبر معللاً بالإرادة. والله أعلم.
(11) انظرها في: مبحث الأمر من هذا الكتاب (المطبوع) ص138.
(12) هذه حجة المعتزلة على اشتراط الإرادة. انظر: المعتمد 2/73، المحصول للرازي 4/223، شرح الكوكب المنير 2/298.
(13) في ن: ((مثل قَدْ)) .
(14) في ن، س ((تهديد)) وهو خطأ نحوي؛ لأنه معطوف على خبر كان، فوجب فيه النصب.
(15) الرحمن، من الآية: 31.
(16) في ن، س: ((أمر)) وهو خطأ نحوي، لأن المعطوف على خبر كان منصوب.

(2/194)


يُرْضِعْنَ أولادَهُنَّ حَوْلَين} (1) وإذا [اختلفت موارد] (2) استعماله لا يتعيَّن للخبر إلا بالإرادة، كما قالوا لا تتعين صيغة الأمر للطلب إلا بالإرادة.
والجواب واحد: وهو أن الصيغة حقيقة في الخبر، فتنصرف لمدلولها بالوضع لا بالإرادة، وإذا فرَّعنا على هذه الإرادة (3) فهي علة عند أبي هاشمٍ للخبرية وهي كون اللفظ خبراً، وفَهِم عنهم الإمامُ (4) أن الخبرية أمر وجودي، فقال تلك الخبرية الموجودة لا يمكن أن يكون محلُّها مجموعَ الحروف؛ [لأن مجموع الحروف] (5) لا يوجد (6) ، بل يستحيل أن يوجد من الحروف دائماً إلا حرفٌ واحدٌ، لأن الكلام من المصادر السيَّالة، والمعدوم لا يكون محلاً للموجود (7) ، ولا يمكن أن يكون محلها بعض الحروف، لأن المحل يجب اتصافه بما قام به (8) فإذا (9) قام السَّوَاد بمحلٍّ يجب أن يكون [أسود، أو العلمُ (يجب أن) (10) يكون] (11) عالماً، كذلك إذا قامت الخبرية ببعض الحروف يجب أن يكون خبراً، ولكن بعض الحروف لا يكون خبراً إجماعاً (12)
_________
(1) البقرة، من الآية: 233.
(2) في س ((اختلف مراد)) .
(3) أي: إذا سلمنا اشتراط الإرادة، فهل هي علة الخبرية؟
(4) انظر: المحصول 2 / 29، وانظر نهاية الوصول للهندي 3 / 840.
(5) في ق: ((لأنه)) .
(6) أي: لا يوجد هذا المجموع دفْعةً واحدةً في آنٍ واحد.
(7) في ق، ن: ((للوجود)) ، والمراد من العبارة: أن المعدوم - وهو اجتماع الحروف دفعة واحدة لتكوين الخبرية - لا يكون محلاً للموجود الذي هو الخبرية.
(8) ساقطة من س.
(9) في س: ((فإن)) وهو سائغ.
(10) ما بين القوسين ساقط من ق.
(11) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(12) أوضح الشوشاوي الكلام السالف الذكر بعبارةٍ أسلس فقال: "إنّ ما قالته المعتزلة من كون الإرادة علةً للخبرية محال. وبيان استحالته: أن هذه الخبرية المعللة بالإرادة لا تخلو إما أن تقوم بمجموع حروف الخبر، وإما أن تقوم ببعض الحروف دون البعض، والكل باطل لأنه محال..فلا يصح قيامها بمجموع الحروف لعدم المجموع، لأن الكلام من المصادر السيَّالة كالماء يأتي بعض الحروف ويذهب بعضها، فلا يوجد منه أبداً إلا حرف واحد، فلا يمكن اجتماعها في حالةٍ واحدة من النطق، والإرادةُ تكون في دفعة واحدة فلا يصح قيامها بالمجموع لعدم المجموع، إذْ لو قلنا: قامت الخبرية بمجموع الحروف لأدَّى إلى قيام المعنى الوجودي بالأمر العدمي وذلك محال. ولا يصح أيضاً قيامها ببعض الحروف خاصة دون البعض، لأنه يلزم منه أن يكون ذلك البعض الذي قامت به خبراً، والبعض الآخر ليس بخبر، وذلك محال وهو خلال الإجماع" رفع النقاب القسم 2/580.

(2/195)


الفصل الثاني
في التواتر
وهو مأْخُوذٌ من مجيء الواحد بعد الواحد بفترة (1) بينهما (2) .
الشرح
و [من ذلك] (3) قوله تعالى: {ثمَّ أَرْسَلْنا رسلنا تَتْرَا} (4) أي: واحداً (5) بعد واحدٍ بفترة (6) بينهما (7) ، وقال بعض اللغويين (8) : مِنْ لَحْن العوام قولهم: ((تواترتْ كُتُبُك عليًّ (9)) ) ومرادهم: تواصَلتْ، وهو لَحْنٌ، بل لا يقال ذلك إلا في عدم التواصل (10) كما تقدَّم (11) .
وقال بعضهم: ليس هو مشتقّاً من هذا بل من التَّوَتُّر وهو الفَرْد، والوِتْر قد يتوالى وقد يتباعد بعضُه عن بعضٍ (12) .
_________
(1) في س: ((لفترة)) .
(2) والتواتر أيضاً: التتابع. انظر: لسان العرب، القاموس المحيط، المصباح المنير كلها مادة "وتر". وانظر: عمدة الحفاظ 4/281.
(3) ما بين المعقوفين في س: ((ومنه)) .
(4) الآية 44 من سورة المؤمنون. قرأ ابن كثير وأبو عمرو وأبوجعفر "تترا" بالتنوين منصرفاً "تتراً" على أنها مصدر منوَّن، والألف عوضٌ عن التنوين في حالة الوقف. والباقون قرأوها بالألف بلا تنوين، لأنه مصدر مؤنث كدعوى. انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12/125، اتحاف فضلاء البشر 2/284.
(5) في ن: ((واحد)) وهو خطأ نحوي، لأن ما بعد ((أي)) التفسيرية يكون عطف بيان لما قبلها، أو بدل، وهما تابعان لما يفسِّرانه. فيكون ((واحداً)) عطف بيان أو بدل لقوله ((تتراً)) وهو منصوب. انظر: مغني اللبيب لابن هشام 1 / 160.
(6) في س: ((لفترة)) .
(7) انظر: جامع البيان للطبري مجلد 10/ جزء 17/ صفحة 31، الفتوحات الإلهية (حاشية الجمل على الجلالين) 5/240.
(8) صرَّح المصنف باسمه في نفائس الأصول (6/2808) بأنه الجواليقي (ت 540 هـ) . انظر كتابه: تكملة إصلاح ما تغلط فيه العامة ص9.
(9) ساقطة من س.
(10) في ن: ((الواصل)) .
(11) قال الأصمعي: واتَرْتُ كتبي عليه: أتبعتُ بعضها بعضاً إلا أن بين كلّ واحدٍ منها وبين الآخر مهلة. وقال غيره: المواترة: التتابع بغير مهلة..وقال اللحياني: تواترت الإبل والقَطَا وكل شيٍء؛ إذا جاء بعضه في إثْر بعض، ولم تجىء مُصْطفَّة. وقال مرةً: التواتر: الشيء يكون هُنيْهةً ثم يجيء الآخر، فإذا تتابعت فليست متواترة، وإنما هي مُتَدَارِكة ومتتابِعة. انظر: لسان العرب مادة "وتر"، درة الغوَّاص في أوهام الخواص للحريري ص 12، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12/125.
(12) انظر: لسان العرب مادة "وتر".

(2/196)


وفي الاصطلاح (1) : خبر أقوامٍ عن أمرٍ محسوسٍ (2) يستحيل تواطؤهم (3) على الكذب عادةً (4) .
الشرح
الأخبار في الاصطلاح ثلاثة أقسام: المتواتر وهو ما تقدم، والآحاد وهو ما أفاد ظناً كان المخبر واحداً أو أكثر، وما ليس بمتواتر ولا آحاد وهو خبر المنفرد (5) إذا احتفَّتْ به القرائن؛ فليس متواتراً لاشتراطنا في التواتر العدد؛ ولا آحاداً لإفادته العلم، وهذا القسم ما علمت له اسماً في الاصطلاح (6) .
وقولي: "عن أمرٍ محسوسٍ" احتراز من النظريات، فإنَّ الجَمْع العظيم إذا أخبروا عن حدوث (7) العالم أو غير ذلك فإن خبرهم لا يُحصِّل العلم (8) ، ونعني "بالمحسوس" ما
_________
(1) هذا تعريف المتواتر، أما التواتر: فهو تتابعُ خبرِ أقوامٍ عن أمر محسوسٍ يستحيل تواطؤهم على الكذب عادةً. وقد فرقّ بينهما الآمدي في الإحكام 2/14، وانظر: الكاشف عن المحصول للأصفهاني 5 / 586.
(2) لو قال المصنف: ((مُحَسٍّ)) لكان أصوب من جهة الاشتقاق اللغوي، كما نبه عليه بنفسه ص (64) من المطبوع، والأمر واسع.
(3) في ق: ((طواطيهم)) ولعلّها لهجة. والله أعلم.
(4) تعريفات الأصوليين وكذا المحدثين للخبر المتواتر متقاربة، وهي صحيحة على اختلافٍ في الألفاظ. فمنها: أنه خبر جماعة يفيد بنفسه العلمَ بصدقه. انظر: ميزان الوصول 2 / 627، شرح المعالم لابن التلمساني 2 / 142، منتهى السول والأمل ص 68، أصول الفقه لابن مفلح 2 / 473، إرشاد الفحول 1/200، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص 16، إرشاد طلاب الحقائق للنووي ص179، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص161.
(5) في ق: ((الفرد)) .
(6) هذه القسمة مما انفرد بها المصنف فيما أعلم، وجمهور الأصوليين ـ ما عدا الحنفية ـ يقسمون الخبر إلى قسمين: متواتر وآحاد. والأحناف يقسمونه إلى: متواتر، ومشهور، وآحاد، ويجعلون المشهور واسطة بين المتواتر والآحاد، وهو الحديث الذي يُروى بطريق الآحاد ولكنه اشتهر في عصر التابعين أو تابعي التابعين، ويسمونه بالمستفيض على خلافٍ عندهم في عدد الرواة في كل طبقة. وأما الجمهور فيسمون مشهور الحنفية آحاداً، ويدخلون القسم الثالث الذي ذكره القرافي في الآحاد، لأن رواته آحاد وإن أفاد العلم لاحتفافه بالقرائن. والخطب سهل. انظر: إحكام الفصول ص319، روضة الناظر 1/347 الإحكام للآمدي 2/13، المغني في أصول الفقه للخبَّازي ص191، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/56، مفتاح الوصول للشريف التلمساني ص299، فواتح الرحموت 2/138.
(7) في ن، ق: ((حدث)) .
(8) بمعنى لو أخبر أهلُ السنة قاطبةً دَهْرياً بحدوث العالم لم يحصل له العلم لتجويزه غَلَطَهم. انظر: شرح الكوكب المنير 2/325.

(2/197)


يُدْرك بإحدى (1) الحواسِّ الخمس.
قال الإمام في " البرهان " (2) : "ويلحق بذلك ما كان ضرورياً بقرائن الأحوال كصُفْرة الوَجَل وحمُرْة الخَجَل، فإنه ضروري عند المشاهدة. "
وقولي: "يستحيل تواطؤهم على الكذب (3) " احترازُ (4) من (5) أخبار الآحاد.
وقولي: "عادةً" احترازُ (6) من (7) العقل، فإن العلم التواتري عادي لا عقلي، لأن العقل يُجوِّز الكذب على كل عددٍ وإنْ عَظُم، وإنما هذه الاستحالة عادية.
إفادة المتواترِ العلمَ والقَطعَ
وأكثر العقلاء على أنه مفيد للعلم (8) في الماضيات والحاضرات. والسُّمَنِيَّة (9) أنكروا العلم واعترفوا بالظن (10) ، ومنهم من اعترف به في الحاضرات فقط.
_________
(1) في س ((أحد)) ، وفي ن ((آحاد)) والمثبت هو الصواب؛ لأن المعدود مؤنَّث، والعدد ((إحدى)) يأتي موافقاً له. انظر: أوضح المسالك لابن هشام 4/243.
(2) انظر: البرهان لإمام الحرمين 1/369.
(3) هنا زيادة: ((عادة)) في س، والأولى عدمها، لأن المصنف سيذكرها في الاحتراز الآتي.
(4) في ن: ((احترازاً)) وقد سبق الكلام في مثلها.
(5) في س، ق: ((عن)) .
(6) في ن: ((احترازاً)) .
(7) في س: ((عن)) .
(8) انظر هذه في: الرسالة للشافعي ص 478، المقدمة في الأصول لابن القصار ص65، المعتمد 2/82، الإحكام لابن حزم 1 / 102، أصول السرخسي 1/283، قواطع الأدلة 2/240، الضروري من أصول الفقه لابن رشد ص 69، شرح مختصر الروضة للطوفي 2/74، 87 نشر البنود 2/23.
(9) السُّمَنيّة: بضم السين وفتح الميم، فرقة من أهل الهند، دهريون، تقول بالتناسخ وقدم العالم، زعموا ألا معلوم إلا من جهة الحواس الخمس. قيل: إنها تنسب إلى بلدٍ اسمه "سُوْمْنَا" وقيل: نسبة إلى صنم يعبدونه اسمه سُومْنات. انظر: الفهرست لابن النديم 480، المنية والأمل في شرح الملل والنحل للمهدي المرتضى ص 62، الفَرْق بين الفِرَق للبغدادي ص162، 214، 270، موسوعة الفرق الإسلامية د/محمد جواد مشكور ص 287، 316.
(10) انظر مذهب السُّمَنِية في: العدة لأبي يعلى 3/841، إحكام الفصول ص319، المستصفى 1/251، الوصول لابن بَرْهان 2/139، المحصول للرازي 4/227، التقرير والتحبير 2/307. ومن العلماء من نسب هذا المذهب أيضاً للبَرْهَمِيَّة، انظر: شرح اللمع للشيرازي 2/569، التمهيد لأبي الخطاب 3/15، الإحكام للآمدي 2/15، كشف الأسرار للبخاري 2/660 ونَسَبه اللاّمشي إلى النظَّام. انظر: كتاب في أصول الفقه له ص146.

(2/198)


الشرح
لنا: أنَّا نقطع بدولة الأكاسرة، والقياصرة (1) ، والخلفاءِ الراشدين، و (2) مَنْ بَعْدهم من بني أُميَّة وبني العباس من الماضيات، وإنْ كنا لا نقطع بتفصيل ذلك، ونقطع بوجود دِمَشْق وبغداد وخُرَاسان (3) ، وغير ذلك من الأمور الحاضرة، فقد حصل العلم بالتواتر من حيث الجملة*.
احتجوا: بأن كثيراً ما نجزم (4) بالشيء ثم ينكشف الأمر بخلافه، فلو كان التواتر يفيد العلم لما جاز انكشاف الأمر* بخلافه (5) .
ولأن كل واحد من المخبرين يجوز عليه الكذب فيجوز على المجموع (6) ، لأن (7) كل واحد من الزَّنْج (8) لمَّا كان أسود (9) كان مجموعهم سوداً (10) .
والجواب عن الأول: أن تلك الصور إنما حصل فيها الاعتقاد (11) ،
ولو حصل العلم
_________
(1) في ن، س: ((الأقاصرة)) ، والمثبت من ق، وهو الوارد في: المعجم الوسيط ص (770) مادة "قيصر" أن جمع قَيْصر قياصرة: وهو لقب يلقب به ملك الروم.
(2) الواو ساقطة من ن.
(3) هو أقليم قديم، قامت فيها الدعوة العباسية، من مدنها: نَيْسَابور، وهَرَات، وبَلْخ، ومَرْو. تتقاسمها اليوم إيران، وأفغانستان، وتركمانستان. انظر: المنجد في الأعلام ص230.
(4) في ن: ((يُجزم)) .
(5) هذا الدليل الأول للمنكرين إفادةَ المتواترِ العلمَ.
(6) هذا الدليل الثاني.
(7) في ن: ((ولأن)) بزيادة واو. وهو خطأ، لأن السياق ما يزال في بيان الدليل الثاني لهم.
(8) الزِّنْج والزَّنْج: بالكسر والفتح لغتان، جيل من السُّودان، وهم الزنوج، واحدهم: زَنْجي وزِنْجي. انظر: لسان العرب مادة "زنج".
(9) في ق: ((أسوداً)) وهو خطأ لأن ((أسود)) ممنوع من الصرف لعلتين: الوصفية، وأنه على وزن ((أفعل)) انظر: شرح المفصَّل لابن يعيش 1/58. ومع ذلك هنا رد من يجوّز صرف كلّ ما قيل فيه بأنه لا ينصرف. انظر: شيوخ الأشموني على ألفية ابن مالك بحاشية الصبان 3 / 403.
(10) في س، ن: ((أسود)) وهو صحيح أيضاً مراعاةً للَّفظ المفرد ((مجموع)) . والمثبت مراعاةً لاكتساب المفرد معنى الجمع بإضافته إلى ضمير الجمع، والله أعلم. انظر: حاشية الصبان على شرح الأشموني 2/372.
(11) الاعتقاد في اصطلاح المصنف يتناول جميع الإدراكات سواءً كانت قطعية أم ظنيةً غيرذلك. قال في نفائس الأصول (1/191) : "فظهر أن الاعتقاد المتعلق بالرجحان الكائن في الحقائق التي هي المعتقدات ينقسم إلى خمسة: العلم والظن والتقليد والجهل المركب والشك ... " والاعتقاد ـ في المشهور ـ هو الحكم الجازم المقابل للتشكيك انظر: الكليات للكفوي ص (151) .

فلعل المصنف يقصد به الإدراك الجازم في ظن المُعْتقِد ولو لم يكن مطابقاً للواقع أو الظن الغالب، بدليل أنه قال بعد ذلك: "ولو حصل العلم ... الخ" أي: اليقين المطابق للواقع، فإن الدرجة التي تنزل عن العلم هي الظن. والله أعلم.

(2/199)


لم يجز أن ينكشف الأمر بخلافه، ونحن لم نَدَّعِ حصول العلم في جميع الصور، بل ادَّعينا أنه قد يحصل، [وذلك لا ينافي] (1) عدم حصوله في كثير من الصور (2) .
وعن الثاني أن الأحكام قسمان، قسم: لا يجوز ثبوته للآحاد بل لمجموعها فقط، كإرواء مجموع القطرات من الماء، وإشباع مجموع لُقَم الخبز، وغَلَبة مجموع الجيش للعدو وغير ذلك، فهذه أحكام ثابتة للمجموعات دون الآحاد (3) . ومنها (4) : ما يثبت للآحاد فقط، كالألوان (5) والطُّعوم والروائح، فإنها (6) يستحيل (7) ثبوتها إلا للآحاد. أما المجموعات فأمور ذهنية، والأمور الذهنية لا يمكن أن تقوم بها كيفيات الألوان وغيرها، فحصول (8) العلم عند (9) مجموع إخبارات (10) المخبرين كحصول الرَّيِّ والشِّبع ونحوهما، فلا يلزم ثبوته للآحاد، فاندفع الإشكال.
وأما وجه الفرق بين الحاضرات والماضيات (11) : فلأن الماضيات غائبة (12) عن الحسِّ فيتطرَّق إليها احتمال الخطأ والنسيان، ولذلك (13) الدول المُتَقادِمة (14) لم يبقَ عندنا شيء من أحوالها. وأما الحاضرات فمعضودة بالحسِّ، فيبعد تطرُّق الخطأ إليها.
_________
(1) ما بين المعقوفين في س هكذا: ((ذلك، فلا يتنافى)) .
(2) في هذا الجواب نظر، إذ يفتح باب التشكيك في بعض صور المتواتر في إفادته العلم، والدعوى إنما كانت في إفادة كل صور التواتر للعلم لا أكثره، فمتى حكمنا بتخلِّف صورة واحدة انهدمت الدعوى. والله أعلم.
(3) في ق: ((الأفراد)) .
(4) في س، ق: ((ومنه)) . وهذا هو القسم الثاني من أقسام الأحكام.
(5) في س: ((كالأوزان)) وهو غير متَّجه.
(6) في ن: ((فإنه)) وهي ساقطة من ق.
(7) في ق: ((فيستحيل)) .
(8) في ن: ((فحصل)) .
(9) في س: ((غير)) وهو تحريف.
(10) في ق: ((إخبار)) .
(11) هذه حجة من اعترف بأن المتواتر يفيد العلم في الحاضرات دون الماضيات.
(12) في س: ((غابت)) .
(13) في ق: ((وكذلك)) .
(14) المُتَقَادمة: أي القديمة الماضية، من: تَقَادَم الشيءُ؛ بمعنى: قَدُم وطال عليه الأمد. انظر: المعجم الوسيط مادة "قدم".

(2/200)


والجواب: أن حصول الفرق لا يمنع من الاشتراك في الحكم، وقد بينَّاه فيما تقدم (1) .

إفادة المتواتر العلم الضروري
والعلم الحاصل منه ضروري (2)
عند الجمهور (3) خلافاً لأبي الحسين البصري (4) وإمام الحرمين (5) والغزالي (6) .
_________
(1) تقدم ذلك في حجة الجمهور بأن العلم حاصل بالدول الماضية والبلدان الغائبة، فبطل ما تعلَّقوا به. انظر: رفع النقاب القسم: 2/950.
ويمكن أن يُمثَّل لقول المصنف: "إن حصول الفرق لا يمنع من الاشتراك في الحكم" كما تقول: زيد فقيه وهو حيوان، وعمرو ليس بفقيه، فلا يلزم أن لا يكون عمرو حيواناً لوجود الفرق.
(2) هذه مسألة مفرَّعة عن سابقتها، وهي: هل المتواتر يفيد العلم الضروري؟
ابتداءً أذكر تقسيم العلماء للعلم إلى قسمين، الأول: العلم الضروري: وهو الذي لا يحتاج إلى نظرٍ واستدلال. أو هو: ما لزم المخلوقَ على وجهٍ لا يمكن دفعه عن نفسه بشكٍّ ولا شبهة، كالعلم الحاصل عن الحواس الخمس. والثاني: العلم النظري أو المكتسب أو الاستدلالي: وهو العلم الذي يحتاج إلى نظرٍ وفكرٍ واستدلالٍ؛ كالعلم بحدوث العالم مثلاً. انظر: العدة لأبي يعلى 1/80 وما بعدها، الحدود للباجي ص 25، 27، الشرح الكبير على الورقات للعبادي 1/258 وما بعدها.

أما مسألتنا هذه ففيها ثلاثة أقوال، الأول: المتواتر يفيد العلم الضروري وهو للجمهور، والثاني: يفيد العلم النظري، عزاه المصنف إلى أبي الحسين البصري والجويني والغزالي، ومعهم أيضاً الكعبي من المعتزلة، وأبوبكر الدقاق من الشافعية، واختاره أبوالخطاب. الثالث: التوقف، لتعارض أدلة الطرفين، وهو مختار الآمدي. وزاد الزركشي مذهباً رابعاً: وهو أنه بين الضروري والنظري. البحر المحيط له 6/107. انظر المسألة في: رسالة في أصول الفقه للعكبري ص119، التقريب والإرشاد للباقلاني 1/190، إحكام الفصول ص320، شرح اللمع للشيرازي 2/575، التمهيد لأبي الخطاب 3/22، المحصول للرازي 4/230، التوضيح لحلولو ص298 فتح الغفار 2/77، فواتح الرحموت 2/143، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص16.
(3) انظر المراجع السابقة.
(4) انظر: المعتمد 2/81.
(5) انظر: البرهان 1/375.
(6) انظر: المستصفى 1/ 252 - 254، المنخول ص 237.

(2/201)


الشرح
حجة الجمهور: أنَّا نجد العلم التواتري [حاصل] (1) للصبيان والنسوان ومن (2) ليس له أهلية النظر، [فلو أنه نظري لما حصل إلا لمن له أهلية النظر] (3) .
حجة الفريق الآخر: أنا نعلم بالضرورة أنَّ المخبرين إذا توهّم السامع أنَّهم مُتَّهمون فيما أخبروا به لا يحصل له العلم، وإذا لم يتوهم ذلك حصل له العلم، وإذا علم أنَّهم من أهل الدِّيانة والصدق حصل له العلم بالعدد اليسير منهم (4) ، وإذا لم يحصل له العلم بأنهم كذلك ـ بل بالضِّد ـ لم يحصل العلم بإخبار الكثير منهم، وإذا كان العلم يتوقف حصوله على ثبوت أسبابٍ وانتفاء موانع، فلابد من النظر في حصول تلك الأسباب وانتفاء تلك الموانع: هل حصلت كلها أو بعضها؟ فيكون العلم الحاصل عَقِيْب التواتر نظرياً لتوقفه على (5) النظر.
والجواب: أن ذلك صحيح، لكن تلك المقدمات حاصلة في أوائل الفطرة (6) ، فهذا (7) العلم لا يحتاج إلى كثير (8) تأمل، ولا يقال للعلم: إنه نظري إلا (9) إذا لم يحصل إلا لمن له أهلية النظر، وقد بيَّنَّا أن الأمر ليس كذلك (10) .
_________
(1) تواترت جميع النسخ وتواطأت على إثبات "حاصل" بالرفع، ولست أعلم لذلك وجهاً مستقيماً. والصواب "حاصلاً" على أنه مفعول ثانٍ للفعل "نجد". قال ابن مالك:
انْصِبْ بفعْلِ القلْبِ جَزْأي ابْتدا أعْنِي: رأى، خَالَ، علمْتُ، وَجَدا
انظر: شرح ابن عقيل 1/207.
(2) في س: ((ما)) والمثبت هو الأولى، لأن الغالب في ((من)) الموصولة وقوعها على العالِم (العاقل) ، و ((ما)) لما لا يعقل، وقد يخرجان عن الغالب في مواضع. انظر: همع الهوامع للسيوطي 1/297.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(4) سيأتي بعد قليل مبحث اشتراط العدد في التواتر.
(5) في س: ((عن)) .
(6) أي: تلك المقدمات النظرية - التي أشار إليها الفريق السابق في حجتهم - تحصل في أوائل الفكرة، ولا يتجاوز الأمر هذا الحد إلى النظر والبحث والاستدلال.
(7) في ق "و".
(8) في س "كبير".
(9) ساقطة من ق.
(10) من العلماء من اعتبر الخلاف في كون المتواتر يفيد العلم الضروري خلافاً لفظياً يرجع إلى مقصود كلٍّ من الطرفين بالضروري. انظر وجهه في: المنخول ص238 بذل النظر ص381، شرح مختصر الروضة للطوفي 2/79، شرح المحلي على جمع الجوامع بحاشية البناني 2/123.

(2/202)


{اشتراط العدد في التواتر}
والأربعة لا تفيد العلم (1) قاله القاضي أبوبكر، وتوقَّف في الخمسة (2) .
قال الإمام فخر الدين (3) : الحق أن عددهم غير محصور خلافاً لمن حصرهم في اثْنَي عَشَرَ عددِ (4) نُقَباء موسى عليه السلام (5) ، أو عشرين (6) عند أبي الهُذَيل (7) لقوله تعالى: {إنْ يَكُنْ مِنْكم عِشْرونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مائتين} (8) ، أو أربعين لقوله تعالى: {يا أيُّها النَّبيُّ حَسْبُك الله ومَنِ اتَّبَعك مِنَ المؤمنين} (9) وكانوا حينئذٍ أربعين (10) ،
أو سبعين عددِ المختارين من قوم موسى عليه السلام (11) ، أو
_________
(1) هذه مسألة: العدد في المتواتر؛ أهو محصور أم لا؟ فإن كان محصوراً فما أقل عددٍ يحصل به العلم؟ فيه الخلاف الذي سيذكره المصنف.
(2) انظر مذهبه في: البرهان 1/370، المنخول ص240، المحصول للرازي 4/260، المسودة ص235.
واشترط القاضي أبويعلى في العدة (3/856) والباجي في إحكام الفصول ص (323، 327) والجويني في التلخيص (2/288) أن يزيدوا عن الأربعة. وقال السمعاني: "والأحسن ما قاله أكثر الأصحاب" وهو أن يزيدوا عن الأربعة قواطع الأدلة 2/240.
(3) هذا مفاد كلامه في المحصول 4/265.
(4) في متن هـ: ((عِدَّة)) .
(5) الوارد في قوله تعالى: {ولقد أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بني إسرائيلَ وبَعَثْنَا منهمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيْباً ... } [المائدة:12] . والنقيب: كبير القوم، القائم بأمورهم الذي يُنقِّب عنها وعن مصالحهم، والتنقيب: التفتيش. والنقيب في كلام العرب كالعريف على القوم، غير أنه فوق العريف. انظر: جامع البيان للطبري مجلد 4/جزء 6/ 203، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 6/112. وانظر: لسان العرب مادة "نقب".
(6) في ق: ((العشرين)) .
(7) هو أبوالهُذَيل محمد بن الهُذَيل بن عبد الله العَلاَّف نسبةً إلى داره بالبصرة كانت في العَلاَّفين. شيخ المعتزلة، أخذ الاعتزال عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل بن عطاء، وإليه تنسب الفرقة "الهُذَيْلِيَّة"، له جهالات وضلالات ردّها بعض المعتزلة، وكان النظَّام من أصحابه، ت 235هـ وقيل غير ذلك. انظر: طبقات المعتزلة ص254، نَكْتُ الهِمْيان ص277، الملل والنحل للشهرستاني 1/64، كتاب "أبوالهُذَيل العلاف أول متكلم إسلامي تأثر بالفلسفة". تأليف مصطفى الغزالي القاهرة 1949م.
(8) الأنفال، من آية: 65.
(9) الأنفال، من آية: 64.
(10) انظر: أسباب النزول للواحدي، ص 238، تفسير القرآن العظيم لابن كثير 4/31، فتح القدير للشوكاني 2/344..
(11) الوارد في قوله تعالى: {واختار موسى قَوْمَهُ سبعين رجلاً لِمِقَياتِنَا ... } [الأعراف: 155] . وكان موسى قد اختارهم من بني إسرائيل - وهم الذين لم يعبدوا العجل - ليعتذروا عن عبادة أصحابهم، وذهب بهم إلى طُوْر سَيْناء لميقات ربه. انظر: جامع البيان للطبري مجلد 6/ جزء 9/ 97، الفتوحات الإلهية للجمل 3/119.

(2/203)


ثلاثمائة عددِ أهل بدر (1) ، أو [أربعَ عَشْرةَ مائة] (2) عددِ بيعة الرِّضْوان (3) .
الشرح
إنما جزم القاضي رحمه الله بأن الأربعة لا تفيد العلم، لأن شهود الزنا أربعة، وهم محتاجون للتزكية (4) . [فلو كان خبر الأربعة يفيد] (5) العلم لأفاد خبرُ كلِّ أربعةٍ وحينئذٍ لا يحتاج للتزكية في صورة، لكنَّه خلافُ الإجماع، وتوقَّف في الخمسة لاحتمال حصول العلم بخبرهم. وهذا البحث من القاضي رحمه الله يقتضي أن العدد - بما هو عدد - هو مدرك العلم، بل (6) الحق أن القرائن لابد منها مع الخبر كما تقدَّم تقريره (7) في حجة إمام الحرمين (8) ، [وإذا كانت القرائن لابد منها، فأمكن] (9) حصولها مع الأربعة، وفي تلك الصورة لا يحتاج للتزكية.
_________
(1) جاء من حديث البراء رضي الله عنه: أنهم بِضْعةَ عشرَ وثلاثمائة. أخرجه البخاري (3957) . وانظر: الفصول في سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم لابن كثير ص 121.
(2) في جميع نسخ المتن والشرح ((عشرة)) فقط. والمثبت هنا من نسخة ص. وما في النسخ خطأٌ بيِّن يمكن عزوه إلى النُّسَّاخ أو سهو المؤلف، ويعضده أن المصنف في نفائس الأصول (6/2855) نقل عن التبريزي أنهم ألف وسبعمائة وارتضاه.
(3) جاء عددهم أربع عشرة مائة في حديث البراء رضي الله عنه، ورواية أخرى عنه أنهم أربع عشرة مائة أو أكثر، ومن حديث جابر رضي الله عنه أنهم خمس عشرة مائة، ومن حديث عبد الله بن أبي أوفى أنهم ألف وثلاثمائة، وكلها في البخاري (4150 ـ 4155) ومسلم (1856 ـ 1658) . وانظر: السيرة النبوية لابن هشام 3/437، تاريخ الإسلام للذهبي" مجلد المغازي" ص382 وما بعدها.
(4) انظر: الذخيرة للقرافي 10/ 207، 12/54.
(5) ما بين المعقوفين في ق: ((ولو أفاد خبرهم)) .
(6) في ق: ((و)) .
(7) هذه القرائن ترجع إلى الهيئات المُقارِنة للخبر، واختلاف أحوال المخبرين في اطلاعهم على قرائن التعريف، واختلاف إدراك المستمعين لتفاوت الأذهان والقرائح، واختلاف الوقائع في عظمها وحقارتها. انظر: شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/54، شرح الكوكب المنير 2/335.
(8) انظر: البرهان 1/369.
(9) ما بين المعقوفين في ق: ((وحينئذٍ يمكن)) .

(2/204)


والحق عند الجمهور (1) :
أنه متى حصل العلم كان ذلك العدد* هو عدد التواتر قلَّ أو كَثُر، وربما أفاد عددٌ قليلٌ العِلْمَ لِزَيْدٍ [ولا يفيده لِعَمْرٍو] (2) وربما لم يفد عددٌ كثيرٌ العلم لِزَيْدٍ وأفاد بعضُه العلمَ لِعَمْرٍو، وكل ذلك إنما سببه اختلاف أحوال المخبرين (3) والسامعين.
وهذه المذاهب المتقدمة في اشتراط عددٍ معينٍ إنما مدرك الجميع أن تلك الرتبة [من العدد] (4) وُصفتْ بمنقبةٍ حسنة، فجعل ذلك سبباً لأَنْ يَحْصلَ (5) لذلك العدد منقبة أخرى وهي تحصيل العلم، وهذا غير لازم، والفضائل لا يلزم فيها التلازم، وقد يحصل العلم بقول الكفار أحياناً، ولا يحصل بقول الأخيار أحياناً، بل الضابط حصول العلم؛ فمتى حصل فذلك العدد المُحصِّل له هو عدد التواتر (6) .

انقسام التواتر إلى: لفظيّ ومعنويّ
وهو ينقسم إلى اللفظي (7) (8) وهو: أن تقع الشَّرِكة بين ذلك العدد (9) في
_________
(1) انظر مذهب الجمهور وحججهم في عدم اشتراط العدد في: التلخيص 2/300، أصول السرخسي 1/294، المستصفى 1/411، التمهيد لأبي الخطاب 3/28، الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 2 / 355، مجموع الفتاوي لابن تيمية 18/50، كشف الأسرار للبخاري 2/657، التوضيح لحلولو ص298، نشر البنود 2/30، إرشاد الفحول 1/204 شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص163، ظفر الأماني للّكْنوي ص33، نظم المتناثر للكتاني ص18.

تنبيه: إن قيل: كيف نعلم العلم بالمتواتر مع الجهل بأقل عدده؟ قيل: كما يُعلم أن الخبز مُشْبِع والماء مُرْوٍ وإن جهلنا عدده. شرح الكوكب المنير 2/335.
(2) في ق: ((دون عمرو)) .
(3) في س: ((المجتهدين)) والمثبت هو الصواب، لأن المسألة في باب الأخبار لا الاجتهاد.
(4) ساقط من س.
(5) في ن: ((تحصل)) وهو صحيح أيضاً.
(6) قال المصنف في نفائس الأصول (6/3853) "كل طائفة عَمَدتْ إلى طائفة نسب الله تعالى إليها مزية حسنة فجعلت هذه المزية سبب كون قولهم؛ يفيد العلم. وهذا باطل، فإنه لا يلزم من حصول مزيةٍ معينةٍ حصولُ غيرها، وأين إفادة العلم من كونهم نقباء لموسى عليه السلام أو غير ذلك؟! ".
(7) في ن: ((لفظي)) .
(8) هنا زيادة: ((ومعنوي)) في ن، وهي زيادة مقحمة غير مناسبة لأن ما بعدها تعريف للَّفظي.
(9) ساقطة من س.

(2/205)


اللَّفظ المرويِّ (1) . والمعنوي: وهو وقوع الاشتراك في معنىً (2) عامٍّ؛ كشجاعة عليٍّ رضي الله عنه وسخاء حاتمٍ (3) .

الشرح
اللفظي كما نقول: إنّ القرآن الكريم متواتر؛ أي: كل لفظةٍ منه اشترك فيها (4) العدد الناقل للقرآن، وكذلك " دمشق " و" بغداد " أي جميع النَّقَلة نطقوا بهذا اللفظ.
وأما المعنوي: فلا تقع الشَّرِكة في اللفظ (5) كما يُروى أن علياً رضي الله عنه قتل ألفاً في الغزوة الفلانية، وتروى قصص أخرى بألفاظٍ أخرى، وكلها تشترك (6) (7) في معنى الشجاعة، فنقول: شجاعة علي رضي الله عنه ثابتة بالتواتر المعنوي. ويُروى أن حاتماً (8) وهب مائة ناقةٍ، ويروي (9) آخر (10) أنه وهب ألف دينار ونحو ذلك، حتى تتحصَّل حكايات مجموعها يفيد القطع بسخائه، وإن كانت (11) كل حكاية من [تلك الحكايات] (12) لم يتواتر لفظها، فهذا هو التواتر المعنوي.
_________
(1) انظر: نفائس الأصول 6 / 2856، شرح الكوكب المنير 2 / 329، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص 187.
(2) هنا زيادة: ((وهو)) في ق. وانظر تعريفات أخرى للمتواتر المعنوي في: الإبهاج 2 / 294، البحر المحيط للزركشي 6 / 116، شرح الكوكب المنير 2 / 332، فواتح الرحموت 2 / 150.
(3) القصص كثيرة الدالة على شجاعة علي رضي الله عنه وسخاء حاتم بن عدي وهي مبثوثة في كتب التاريخ والسير، أشار إلى بعضها الزركشي في كتابه: المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر ص 107 ـ 108. وقال ابن حجر "الأخبار الواردة في سخاء حاتم فإنها كثيرة، لكنها لم تتفق على سياقٍ واحدٍ، ومجموعها يفيد القطع بأنه كان سخياً. وكذلك الأخبار الواردة في شجاعة علي، واستيعاب ذلك متعسِّر، فرأيت أن أشير إلى شيء من ذلك وفاءً بالتخريج ... " ثم ساق ابن حجر حكايات عن شجاعة علي وسخاء حاتم انظرها في موافقة الخُبْر الخَبَر في تخريج أحاديث المختصر 1/193 ـ 198.
(4) في ن: ((فيه)) .
(5) في ق: ((لفظه)) .
(6) في ن: ((مشترك)) .
(7) هنا زيادة: ((راجع إلى معنى كلٍّي كافٍ)) في ن.
(8) في س: ((حاتم)) وهو خطأ نحوي، لأن اسم إن منصوب
(9) في ن: ((وروى)) .
(10) في ق: ((أخرى)) .
(11) ساقطة من ن.
(12) ما بين المعوفين ساقط من ق.

(2/206)


شرط المتواتر
وشرطُهُ على الإطلاق (1) ، إن كان المُخْبِر لنا (2) غيرَ المباشر (3) .
استواءُ الطرفين والواسطة (4) . وإن كانَ المباشرَ فيكون (5) المُخْبَر عنه محسوساً (6) فإن الأخبار عن العقليات* لا يُحصِّل العلم (7) (8) .
الشرح
التواتر له أربع حالات: طَرَفٌ فقط إن كان المخبر هو المباشر. وطرفان بغير واسطة إن كان المخبر لنا غير المباشر. وطرفان وواسطةٌ وهو اجتماع ثلاثة: المباشر، وطائفة أخرى تنقل على الطائفة المباشرة، وطائفة ثالثة تنقل إلينا عن الواسطة الناقلة عن الطائفة المباشرة. وطرفان ووسائط كما في القرآن الكريم، فإن سامعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم نقله عنه (9) وسائطُ وقرونٌ حتى انتهى إلينا (10) .
بعد ستة أو
_________
(1) أي: وشرط المتواتر مطلقاً سواء كان لفظياً أم معنوياً. انظر: رفع النقاب القسم 2/597.
(2) ساقطة من ق.
(3) أي: غير مباشر للسماع من رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: رفع النقاب 2/597.
(4) المراد بالطرفين: الطبقة الأولى من الرواة، وهم: الطبقة المشاهدة المباشرة للسماع من النبي صلى الله عليه وسلم، والطبقة الأخيرة، وهم: الطبقة المخبرة التي وقف الإسناد عندها. والمراد بالواسطة: ما بين الطبقتين. والمراد بالاستواء: استواؤهم في الشرطين اللذين أشار إليهما المؤلف في حَدِّ التواتر، وهما: أن يكون كل طائفة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة، وأن يكون المُخْبَر عنه أمراً محسوساً. انظر المسألة في: قواطع الأدلة 2/236، الإحكام للآمدي 2/25، تقريب الوصول ص 287، الإبهاج 2/294، البحر المحيط للزركشي 6/101، فواتح الرحموت 2/145، نشر البنود 2/25.
(5) في ق: ((فكون)) .
(6) ظاهر هذا يوهم أن كونه محسوساً خاصٌّ بخبر المباشر، وليس الأمر كذلك، بل هذا شرط في جميع أنواع المتواتر، وظاهره أيضاً أنه لا يشترط في المباشر إلا هذا، وليس كذلك، بل يشترط فيه أيضاً استحالة التواطؤ على الكذب عادة وهذا ما سيشير إليه المصنف في شرحه. انظر: رفع النقاب القسم 2 / 598.
(7) هنا زيادة: ((به)) في س.
(8) قول المصنف: ((فإن الإخبار عن العقليات لا يحصل العلم)) لأن تواطؤ الجمِّ الغفير على الخطأ في المعقولات معقولٌ ليس يستحيل عادة، فهؤلاء آلاف البشر يكذِّبون الأنبياء، ويقولون بقدم العالم، وهو تواطؤ باطل. أما في المُحسَّات فيستحيل عادةً التواطؤ على الكذب. انظر: المنخول ص243، المسودة ص234 نهاية السول 3/83، نشر البنود 2/23، نيل السول للولاتي ص150، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص172.
(9) في ق: ((إلى)) وهو متَّجه.
(10) ساقطة من ن.

(2/207)


سبعة (1) ونحو ذلك، وعلى (2) كل واحدٍ من هذه الطرق لابد من شرطين في الجميع: أن تكون (3) كل طائفة يستحيل تواطؤهم على الكذب عادة، وأن يكون المُخْبَر عنه أمراً حسياً. فهذا معنى قول العلماء: من شرط التواتر استواء الطرفين والواسطة (4) ، معناه: إنْ كان له طرفان وواسطة، وإلا فقد لا يلزم ذلك في التواتر كما تقدم بيانه*.
_________
(1) أي بعد ستة قرون أو سبعة، وهذا كان في عصر المصنف عليه رحمة الله. وها هو قد انتهى إلينا ونحن في القرن الخامس عشر الهجري نسأل الله تعالى حسن الختام.
(2) ساقطة من س.
(3) في ق: ((يكون)) .
(4) هنا زيادة: ((هنا)) في ن.

(2/208)


الفصل الثالث
في الطرق المُحصِّلة للعلم غير التواتر (1) .
وهي سبعة: كون المُخْبَر عنه معلوماً (2) بالضرورةِ أو (3) الاستدلالِ، أو (4) خبرِ الله تعالى، أو (5) خبرِ الرسول صلى الله عليه وسلم، أو (6) خبرِ مجموع الأمة أو الجمعِ العظيم عن (7) الوِجْدَانيَّات (8) في نفوسهم، أو القرائنِ (9) عند إمام الحرمين (10)
_________
(1) يريد المصنف ـ في هذا الفصل ـ بيان الطرق التي يحصل بها العلم والقطع بصدق المُخْبَر عنه غير طريق التواتر، وهي طرق دالة على صدق الخبر. وهذا الفصل جاء عطفاً على الفصل الثاني: "في المتواتر" استطراداً منه رحمه الله. انظر المسألة في: المحصول للرازي 4/273، نهاية الوصول للهندي 6/2753، تقريب الوصول ص288، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/51، شرح الكوكب المنير 2/317، فواتح الرحموت 2/137، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص17.

تنبيه: ذكر الشوشاوي أن الطرق المحصلة للعلم مطلقاً سبعةٌ أو أن العلم سبعة أقسام هي: الضروري، النظري، الحسي، التواتري، التجريبي، الحدسي، الوجداني، انظر: رفع النقاب القسم (2/599) . وقد ذكرها المصنف في الباب الأول: الفصل الثاني عشر "في حكم العقل بأمرٍ على أمر" انظر: شرح التنقيح (المطبوع) ص63.
(2) في ن: ((معلوم)) وهو خطأ نحوي، لأن خبر المصدر ((كون)) حقّه النصب.
(3) في ن: ((و)) وهو مما انفردت به خلافاً لسائر نسخ المتن والشرح. والأنسب أن تكون ((أو)) للتنويع والتقسيم في الطرق.
(4) في ن، ق: ((و)) والأنسب "أو" كما أكثر نسخ المتن وموافقةً لأن يكون المتن على نَسَقٍ واحد.
(5) في ن، ق: ((و)) . انظر التعليق السابق.
(6) في ق: ((و)) .
(7) في س: ((عند)) وهو تحريف.
(8) الوِجْدانيات لغة: جمع وِجْدان ويكون بمعنى الغضب والحزن والغنى واليسار. انظر: لسان العرب مادة "وجد". واصطلاحاً: ما يكون مدركه الحواسَّ الباطنة، أو نقول: هي المشاهدات الباطنة التي يجدها الإنسان في نفسه، كالجوع والعطش واللذَّة والألم والفرح والغضب والنشاط والكسل وغير ذلك. انظر: التعريفات ص305، رفع النقاب القسم 2/603.
(9) القرائن: جمع قرينة وهي لغة: فعيلة بمعنى فاعلة، مأخوذة من المقارنة (المصاحبة) . انظر: لسان العرب مادة "قرن". واصطلاحاً: أمر يشير إلى المطلوب. أو هي: ما يوضِّح عن المراد لا بالوضع، تؤخذ من لاحق الكلام أو سابقه. وهي إما لفظية أو معنوية أو حالية. انظر: التعريفات ص223، الكليات ص734.
(10) البرهان 1 / 373، 1 / 376.

(2/209)


والغزالي (1) والنظَّام (2) .
خلافاً للباقين (3) .
الشرح
المعلوم بالضرورة (4) نحو: الواحد نِصْف الاثنين وبالاستدلال (5) نحو: الواحد سُدُس عُشْرِ الستِّين (6) فإن الخبر (7) عن هذين* يقطع بصدقه، وكذلك من أخبر عن خبر الله تعالى (8) ، أو أخبر (9) الله تعالى عن قيام الساعة فإن خبر الله تعالى وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم يُقْطع بصدقهما (10) ، وكذلك مجموع الأمة (11) لأنه معصوم، ومثال إخبار الجَمْع
_________
(1) المستصفى 1/255، المنخول 237.
(2) انظر مذهب النظَّام في: التبصرة ص298، البرهان 1/375، المحصول للرازي 4/282.
(3) لعلَّه يريد بالباقين الأكثرين، وإلا فإن عدداً من الأصوليين وافقوا الجويني والغزالي والنظام في أن القرائن المحتفَّة بالخبر الآحادي تفيد العلم لا مجرد الظن، ومن هؤلاء: ابن برهان، والرازي، والآمدي، وابن الحاجب، وابن قدامة، وابن السبكي، وابن حجر، وغيرهم، وإليه ميل المصنف كما يتضح في آخر شرحه لهذا المتن، وفي تقسيمه السابق للخبر إلى: متواتر، وآحاد، ولا متواتر ولا آحاد وهو خبر الواحد المحتفُّ بقرائن تُكْسبه العلم. انظر: الوصول 2/150، المحصول للرازي 4/284، الإحكام للآمدي 2/32، منتهى السول والأمل ص71، روضة الناظر 1/365، جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني 2/131، شرح شرح نخبة الفكر ص215. وعلى كل حال، المسألة فيها ثلاثة مذاهب شهيرة، الأول: خبر الآحاد لا يفيد العلم مطلقاً بل الظن، وهو للأكثرين. الثاني: خبر الآحاد يفيد العلم مطلقاً، وهو لجماعة من أهل الحديث وأهل الظاهر ونصره ابن القيم وغيره. الثالث: خبر الآحاد المحفوف بالقرائن يفيد العلم فإنْ عَرِي عنها لم يفده، وقد علمْتَ من ذهب إليه. انظر علاوة على المراجع السالفة الذكر: الإحكام لابن حزم 1/105، أصول السرخسي 1/321، قواطع الأدلة 2 / 258، نهاية الوصول للهندي 6/2801، البحر المحيط للزركشي 6/134، فواتح الرحموت 2/152، أصول مذهب الإمام أحمد د. عبد الله التركي ص273، خبر الآحاد وحجيته د. أحمد محمود عبد الوهاب ص، مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم ص 711 وما بعدها.
(4) هذا الطريق الأول.
(5) هذا الطريق الثاني.
(6) لأنك تستدل عليه بالقياس المنظوم من مقدمتين قطعيتين، كقولك: الواحد سُدُس الستة، والستَّة عُشْرِ الستين، فيُنْتِج لك: الواحد سُدُس عُشْرِ الستين. انظر: رفع النقاب القسم 2/602.
(7) في ن: ((المُخْبِر)) وهي سائغة أيضاً, والمثبت أليق لأن الكلام في الخبر لا المُخْبِر.
(8) هذا الطريق الثالث.
(9) في س، ق: ((خبر)) .
(10) في س، ن: ((بصدقه)) .
(11) هذا الطريق الخامس.

(2/210)


عن الوِجْدَانيات (1) أن يخبر كل واحد أنه وجد هذا الطعام شهيّاً أوكريهاً، فنقطع (2) بأن ذلك الطعام كذلك، فإن متعلَّق أخبارهم واحد (3) وإن لم يحصل القطع بما في نفس كل واحد من تلك الكراهة (4) ، لأن كراهة كل واحد منهم لم يُخْبِر عنها غيُره وإخبار الآخر إنما هو عن كراهة (5) أخرى قامت به فمُخْبَراتهم (6) متعددة وفي كل مُخْبَرٍ عنه خبر (7) واحد فلا يحصل القطع به، بخلاف متعلَّق تلك الكراهات أو اللذات، فإنه واحد، وهو كون ذلك الطعام كذلك، فإن إخبارات الجَمْع (8) اجتمعت فيه فحصل القطع، فهذا (9) هو (10)
صورة (11) هذه المسألة.
حجة إمام الحرمين (12) : أنا نجد المُخْبِر عن مرضه مع (13) اصفرار وجهه، وسقم جسمه، وغير ذلك من أحواله فإنا (14) نقطع بصدقه حينئذٍ. وكذلك كثير من الصور في غير المرض: من الغضب والفرح والبِغْضَة (15) وهو لا يُعدُّ ولا يحصى.
حجة المنع: أن كثيراً ما يقطع (16) بموت زيد ثم ينكشف الغيب عن كونه فُعِل
_________
(1) هذا الطريق السادس.
(2) في ق: ((فيقطع)) .
(3) وهو كونه شهياً أو كريهاً.
(4) في ق: ((الكراهية)) .
(5) في ن: ((كراهية)) .
(6) في س: ((مختبراتهم)) بدون الفاء.
(7) ساقطة من ق.
(8) في س: ((الجميع)) وهو سائغ، والمختار أوفق للسياق.
(9) في ق: ((فهذه)) .
(10) ساقطة من ق..
(11) في س: ((صور)) .
(12) انظر: البرهان 1/373، وكذلك 1/376.
(13) ساقطة من ن.
(14) في س: ((أنا)) خلافاً لسائر النسخ.
(15) البِغْضة: بالكسر والبَغْضاء: شِدَّة البُغْض وهو ضد الحب. انظر: مختار الصحاح، القاموس المحيط كلاهما مادة ((بغض)) .
(16) في ن: ((نقطع)) .

(2/211)


ذلك خوفاً من السلطان أو لغرضٍ آخر (1) .
ومع قيام [هذا الاحتمال] (2) لا يحصل العلم.
وجوابه: أنا نمنع أن الحاصل في تلك الصورة عِلْمٌ بل اعتقادٌ، ونحن لا ندَّعِي أن القرائن تفيد العلم في جميع الصور، بل في بعضها يحصل الظن، وفي بعضها الاعتقاد، وفي بعضها العلم. ونقطع في بعض الصور بما دلت عليه القرائن وأن الأمر لا ينكشف بخلافه، ومن أنصف (3) وراجع نفسه وجد الأمر كذلك في كثير من الصور. نعم؛ في بعضها ليس كذلك، و [ما النزاع فيه] (4) ، إنما النزاع: هل يمكن أن يحصل العلم (5) في صورة أم لا؟ فأنتم تنفونه على الإطلاق، ونحن نثبته في (6) صورة.
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) في ن: ((هذه الاحتمالات)) وهو مما انفردت به خلافاً لسائر النسخ.
(3) في س: ((اتصف)) وهو تصحيف.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(5) ساقطة من ن.
(6) في س: ((على)) وهو غير مستقيم.

(2/212)


الفصل الرابع
في الدالِّ على كذب الخبر (1)
وهو خمسة: منافاته لما علم بالضرورة، أو النظر، أو الدليل القاطع، أو فيما (2) شأنه أن يكون متواتراً [ولم يتواتر] (3) : كسقوط المؤذن (4) يوم الجمعة ولم يخبر به إلا واحد، وكقواعد (5) الشرع (6) ، أو لهما (7) جميعاً كالمعجزات، أو طُلِب في (8) صدور الرواة أو كتبهم بعد استقراء (9) الأحاديث فلم يوجد.
الشرح
قول القائل: "الواحد ليس نصف الاثنين" مخالف لما علم بالضرورة (10) (11)
_________
(1) المسألة في: المستصفى 1/ 267، المحصول للرازي 4/291، البحر المحيط للزركشي 6/123، شرح الكوكب المنير 2/318.
(2) ساقطة من ن.
(3) ساقطة من س.
(4) لو قال المصنف ((الخطيب)) لكان أوجه، إذ المؤذن قد يسقط دون أن يعلم به أحدٌ خلافاً للخطيب. ولعله سَبْقُ قَلمِ المصنفِ أو الناسخِ بقرينة قوله بعد ذلك: يوم الجمعة.
(5) في ن: ((وقواعد)) ، وفي متن هـ: ((أو لقواعد)) .
(6) ساقطة من ن، وفي ق: ((الشرائع)) .
(7) في س: ((هما)) . وضمير التثنية المذكور هنا يعود على: الغرابة كسقوط المؤذن، والشرف كقواعد الشرع، ويدل على ذلك سياق الكلام، وإن لم يتقدم لهما ذكر، نظير هذا في قوله تعالى: {كل من عليها فان} [الرحمن: 26] أي الأرض. وتقدير كلام المصنف: أو فيما شأنه أن يتواتر لغرابته كسقوط المؤذن، أو لشرفه كقواعد الشرع، أولهما جميعاً كالمعجزات، يعضد هذا التقدير ذكر المصنف لهما في الشرح. وانظر: رفع النقاب القسم 2/609.
(8) في ن: ((من الفرع)) وهي لا معنى لها هنا ألبتة.
(9) هكذا في أغلب نسخ الشرح والمتن حاشا ن، ق، ومتن د، ومتن الأزهرية أ، فإن فيها "استقرار" وهي تعطي معنىً مُتَّجِهًا بضميمة الاستقراء، فإن الأخبار النبوية استقرَّت في الدواوين فإذا فُتِّش فيها ولم يوجد، ولا في صدور الرواة دل على كذبه. وشرح المصنف قابلٌ لكلا اللفظين.
(10) ساقطة من ن.
(11) هذا الدال الأول.

(2/213)


ومثال الثاني (1) : الواحد ليس سُدُسَ عُشْرِ (2) الستين، ومثال الدليل القاطع (3) : أن (4) الشمس ليست طالعة ونحن نشاهدها طالعة (5) . وقواعد الشرائع (6) نحو: وجوب الصلاة والزكاة أو تحريم الخمر ونحو ذلك مما هو من قواعد الدين، فإن شأن هذا أن يتواتر لتوفر الدواعي على نقله، فسقوط المؤذن شأنه أن يتواتر لغرابته، وقواعد الدين شأنها أن تتواتر (7)
لشرفها، والمعجزات جمعت بين: الغرابةِ لكونها من خوارق العادات والشرفِ لأنها أصل النبوات، فإذا لم يتواتر شيء من ذلك ولم ينقله إلا واحد دل على كذب الخبر (8) إن كان قد حضره جمع عظيم (9) ولم يَقُمْ غيرُه مقامه في حصول المقصود منه (10) ،
فالقيد الأول احتراز (11) من انشقاق (12) القمر، فإنه كان ليلاً ولم يحضره عدد
_________
(1) هذا الدال الثاني.
(2) في ن: ((عُشْر سدس)) وهو قَلْبٌ حَميْد، لأنه غير مُخِلٍّ بالمعنى.
(3) هذا الدال الثالث.
(4) ساقطة من ق.
(5) فهذا الخبر كذب لمنافاته الدليل القاطع وهو الحس والمشاهدة. انظر: رفع النقاب القسم (2/606) . لكن الذي عناه الغزالي في المستصفى (1/267) وقريب منه الرازي في المحصول (4/291) بمنافاة الدليل القاطع أي: النص القاطع من كتاب أو سنة متواترة أو إجماع. وهو الأَسَدُّ، فتمثيل المصنف بطلوع الشمس يندرج تحت ما علم منافاته بالضرورة ولو حساً وهو الدال الأول، يعضد هذا أن ابن الحاجب في منتهى السول والأمل ص (67) اختصر ما يدل على كذب الخبر بقوله "وأما ما يعلم كذبه فما كان مخالفاً لما عُلم صدقه" وقد عَلِمْتَ أن مما يُعلم صدقُه خبرَ الله تعالى وخبرَ رسوله صلى الله عليه وسلم وإجماع الأمة، فأين ضدّه عند المصنف؟! والله أعلم.
(6) هذا الدال الرابع، وهو ما شأنه أن يتواتر ولم يتواتر، وهو على ثلاثة أقسام؛ الأول: أن يكون الخبر فيه غرابة كسقوط الخطيب من المنبر يوم جمعة. الثاني: أن يكون شريفاً يتعلق بقواعد الشرائع والدين كوجوب الصلاة أو النص على إمامة علي رضي الله عنه. الثالث: أن يجمع الخبر بين الغرابة والشرف كالمعجزات.
(7) في ن: ((يتواتر)) وهو تصحيف..
(8) في ن: ((المُخبِر)) وهو جائز، لأن علاقة المُخْبِر بالخبر كعلاقة اللازم بالملزوم، والدال بالمدلول.
(9) في ن: ((كثير)) .
(10) معنى ما سبق: أن الدال على المخبر يكون كاذباً إذا لم يتواتر الخبر وهو مما تتوفر الدواعي على نقله لغرابته أو لشرفه أو لهما معاً بعيدين: القيد الأول: أن يحضره جمع عظيم، القيد الثاني: ألا يقوم غير هذا الخبر مقامه في حصول المقصود منه. وسيأتي تمثيل المصنف له.
(11) في ن: ((احترازاً)) وقد سبق الكلام عنه.
(12) في ق: ((اشتقاق)) وهو تحريف.

(2/214)


التواتر (1) ، والقيد الثاني احتراز (2) عن بقية معجزات الرسول عليه الصلاة والسلام: كنبع الماء من بين أصابعه (3) ، وإشباع العدد العظيم من الطعام القليل (4) ،
فإنه حضره الجمع العظيم، غير أن الأمة اكتفت بنقل القرآن وإعجازه عن غيره من المعجزات، فنُقلتْ آحاداً (5) مع أن شأنها أن تكون متواترة.
وأما الأحاديث (6) فلها حالتان: أول الإسلام قبل أن تُدوَّن وتُضْبط، فهذه الحالة إذا طُلب حديث ولم يوجد ثُمَّ وجد لا يدل على كذبه، فإن (7) السنة كانت متفرِّقة في الأرض في صدور الحفظة.
_________
(1) انشقاق القمر معجزة حسية من معجزاته صلى الله عليه وسلم، جاء في ذكرها في القرآن الكريم في قوله تعالى: {اقتربت الساعة وانشقّ القمر} [القمر:1] ، كما جاء خبرها في كتب الصحاح والسنن ودلائل النبوة، انظر مثلاً: البخاري (3636) وصحيح مسلم (2800) ودلائل النبوة لأبي نعيم الأصفهاني ص 1 / 279، ودلائل النبوة للبيهقي 2/262. قال القاضي عياض: "أجمع المفسرون وأهل السنة على وقوعه" الشفا لتعريف حقوق المصطفى (1/543) . والحديث جاء في نظم المتناثر من الحديث المتواتر للكتاني ص (222) . وبهذا يعلم أن التمثيل بانشقاق القمر في هذا الموضع محل نظر. ولهذا قال ابن حجر "أما انشقاق القمر فنُوزِع في التمثيل به" موافقة الخُبر الخَبر (1/201) . وأشار ابن السبكي (2 / 322) بأن الانشقاق متواتر منصوص عليه في القرآن، ومروي في الصحيحين وغيرهما من طرق، وقال: ((وله طرق أُخَر شتى بحيث لا يمتري في تواتره محدِّث)) .
(2) في ن: ((احترازاً)) قد سبق الكلام عنه.
(3) نبع الماء من بين أصابعه الشريفة جاء في أحاديث كثيرة منها: البخاري (3571) ، مسلم (2279) ، دلائل النبوة لأبي نعيم 2 / 405، دلائل النبوة للبيهقي 4 / 115، نظم المتناثر ص224.
(4) تكثير الطعام القليل ببركته صلى الله عليه وسلم وإشباع العدد العظيم أيضاً جاء فيه أحاديث كثيرة منها: البخاري (3578، 4101) ، مسلم (2039، 2280) ، دلائل النبوة لأبي نعيم 2 / 415، دلائل النبوة للبيهقي 3 / 422، نظم المتناثر ص224.

تنبيه: هذان المثالان أيضاً مما نوزع فيه المصنف، لأنهما متواتران. قال النووي في شرح صحيح مسلم (15/31) "هذه الأحاديث في نبع الماء من بين أصابعه، وتكثيره وتكثير الطعام، هذه كلها معجزات ظاهرات وجدت من رسول الله في مواطن مختلفة وعلى أحوال متغايرة، وبلغ مجموعها التواتر". وقال القاضي عياض في الشِّفا (1/496) "وكذلك قصة نبع الماء وتكثير الطعام رواها الثقات والعدد الكثير عن الجمَّاء الغفير عن العدد الكثير من الصحابة ... " وقال أيضاً في (1/498) ((وما عندي أوجبَ قولَ القائل: إن هذه القصص المشهورة من باب خبر الواحد، إلا قلةُ مطالعته للأخبار وروايتها، وشغلُه بغير ذلك من المعارف، وإلا من اعتنى بطرق النقل، وطالع الأحاديث والسير، لم يَرْتَبْ في صحة هذه القصص المشهورة على الوجه الذي ذكرناه ... ".
(5) في ن، س: ((آحاد)) وهو خطأ نحوي، لأنها حالٌ.
(6) هذا الدال الخامس على كذب الخبر.
(7) في ن: ((لأن)) .

(2/215)


والحالة الثانية: بعد الضبط التام وتحصيلها، إذا طُلب حديثٌ فلم يوجد في شيء من دواوين الحديث ولا عند رواته (1) دل ذلك على عدم صحته، غير أنه يشترط استيعاب الاستقراء (2) بحيث لا يبقى ديوان ولا راوٍ إلا (3) كُشِف (4) أمره في جميع [أقطار الأرض] (5) ، وهو عَسِرٌ أو متعذِّر (6) . وأما الكشف في البعض فلا يحصل القطع بكذبه لاحتمال أن يكون في البعض الآخر. وقد ذكر أبو حازم (7) في مجلس هارون الرشيد حديثاً وحضره ابن شهاب الزهري (8)
فقال ابن شهاب: لا أعرف هذا الحديث [فقال له (9) أبو حازم] (10) أكلّ سنةِ رسول الله صلى الله عليه وسلم عَرَفْتَه (11) ؟ فقال: لا، فقال
_________
(1) في س: ((رواية)) وهو تحريف.
(2) في س: ((الإقراء)) وهو تحريف.
(3) في س: ((وإلا)) وهو تحريف.
(4) في ق: ((وكشف)) بزيادة واو الحال، وفي ن: ((وقد كشف)) بزيادة الواو وقد، وكلُّه له وجه في اللغة، بيد أن المثبت أقعد إذ قاعدة الجملة الفعلية الحالية إذا سُبق فعلها الماضي بـ "إلا" وقد تضمنت الجملة ضميراً يرجع إلى صاحب الحال فالأرجح حذف الواو و"قد" معاً انظر: شرح كافية ابن الحاجب للرضي 2 / 83 حاشية الصبان على شرح الأشموني 2/285.
(5) في ق: ((الأقطار)) .
(6) هذا توهين من المصنف للدال الخامس لتعذر الإحاطة، وهو حق. والله أعلم.
(7) في س "أبوحاتم" وهو تحريف. وأبوحازم هو سلمة بن دينار المدني الشهير بأبي حازم الأعرج، الإمام الزاهد الواعظ، وحديثه في الكتب الستة، وهو ثقة، روى عن الصحابي سَهْل بن سعد الساعدي وعن كبار التابعين، وأخذ عنه خلق كثير. له موقف مهيب مع الخليفة سليمان بن عبد الملك. ت 135 هـ وقيل: 140 هـ. انظر: حلية الأولياء 3 / 229، سير أعلام النبلاء 6/96، تهذيب التهذيب 2/373.
(8) هو أبوبكر محمد بن مسلم بن عبيد الله بن عبد الله بن شهاب الزهري، نسبةً إلى قبيلة زهرة بن كلاب. من مشاهير التابعين، أخذ عن عدد من الصحابة وعن فقهاء المدينة السبعة. وعنه أخذ مالك بن أنس وعمرو بن دينار وعطاء وخلق كثير. كان آية في الحفظ والضبط. ت125هـ..انظر: سير أعلام النبلاء 5/326 تذكرة الحفاظ للذهبي 1 / 108، تهذيب التهذيب 5/284.
(9) ساقطة من ن.
(10) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(11) في س، ن: ((عرفتها)) وهو جائر؛ لأن مرجع الضمير هو ((كلّ)) ، وقد اكتسب التأنيث بسبب إضافتها إلى المؤنث. وأما المثبت ((عرفته)) فالضمير فيه مراعاةً للفظ ((كل)) المذكَّر. قال ابن مالك:
ورُبَّما اكْسَبْ ثانٍ أوَّلا تأنيثاً إنْ كان لحذفٍ مُوْهِلا
انظر: شرح ابن عقيل 1 / 343.

(2/216)


له (1) : أثُلُثَيْها؟ فقال: لا، فقال له (2) : أنصفها؟ فسكت، فقال له (3) : اجعل هذا من (4) النصف الذي لم (5) تعرفه (6) ، [وهذا هو] (7) ابن شهاب الزهري [شيخ مالك] (8) ، فما ظنك بغيره؟!
_________
(1) ساقطة من ن، س.
(2) ساقطة من ن، س
(3) ساقطة من ن
(4) في س: ((في)) .
(5) في س: ((لا)) .
(6) نقل حلولو في التوضيح شرح التنقيح ص (305) عن العراقي اعتراضه على القرافي في إيراد هذه القصة، قال: إنهما ماتا قبل مجيء الدولة العباسية، وإنما كان اجتماعهما في مجلس سليمان بن عبد الملك". وهو حقٌّ لما علم من تاريخ وفياتهم.
(7) في ق: ((هذا وهو)) وهو مما انفردت به دون سائر النسخ.
(8) ساقطة من ن.

(2/217)


الفصل الخامس
في خبر الواحد (1)
وهو خبر العَدْلِ (2) الواحدِ (3) أو العدولِ المفيد للظن (4) وهو عند مالك رحمة الله عليه، وعند (5) أصحابه حجة (6) . واتفقوا على جواز العمل به (7) في الدنيويات والفتوى (8) والشهادات، والخلاف إنما هو في كونه حجة في حق المجتهدين* (9) ، فالأكثرون على أنه حجة لمبادرة الصحابة رضوان الله عليهم إلى العمل به.
الشرح
كون خبر الجماعة إذا أفاد الظن يُسمَّى: خبر واحد، هو اصطلاح (10) لا لغة (11) .
_________
(1) ويُسمى: خبر الآحاد، وهو لغة: جمع أحد بمعنى واحد، وهمزته مُبْدلة من واو، فأصلها: وحد. انظر: لسان العرب مادة "أحد" و"وحد" واصطلاحاً: عرفوه بتعريفات متقاربة فمنها: هو خبر الواحد أو الجماعة الذين لا يبلغون حد التواتر.. وقيل: هو ما رواه الواحد أو الاثنان فصاعداً ما لم يبلغ حد الشهرة أو التواتر. وقيل: هو ما لم يَجْمع شروط المتواتر. انظر: تقريب الوصول ص289، التوضيح لحلولو 305، شرح الكوكب المنير 2/345. الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص16، شرح شرح النخبة للقاري ص209.
(2) العَدلْ: بمعنى العادل أو ذي عَدْل أو على طريقة المبالغة لأن المصدر وُضع موضع الصِّفة، وهو من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة. انظر: شرح شرح النخبة للقاري ص247.
(3) ساقطة من متن هـ.
(4) عرَّف المصنف خبر الآحاد المقبولَ، لأنه سيُرتِّب عليه الحُجيّة والعمل، وإلا فهو اصطلاحاً أعمُّ من كونه مقبولاً.
(5) ساقطة من س، ق.
(6) انظر: المقدمة في الأصول لابن القصار ص67، إحكام الفصول ص324.
(7) عبرّ المصنف في المتن بقوله: "جواز العمل به ... " تبعاً للحصول (4/354) ، ومن الأصوليين من يعبِّر بوجوب العمل به، وآخرون يقولون بالتفصيل، أي: بالجواز في الدنيويات والوجوب في الفتوى والشهادات، وهو ما مشى عليه المصنف في آخر شرحه هذه العبارة، والقول بالتفصيل أولى.
(8) في ن: ((الفتاوى)) وهو مما استقلّت به، وهو صحيح أيضاً.
(9) في ق: ((المجتهد)) خلافاً لجميع النسخ.
(10) في ق: ((إصلاح)) وهو تحريف.
(11) لأن خبر الواحد لغة: خبر إنسانٍ واحدٍ، بينما في الاصطلاح يشمل خبر الواحد والاثنين والثلاثة ما لم يصل حدَّ التواتر، فكلُّه يُسمَّى: خبر واحد أو آحاد. انظر: التلخيص 2/325.

(2/218)


وقد تقدَّم أول الباب أن الأخبار ثلاثة أقسام: تواتر، وآحاد، ولا تواتر ولا آحاد وهو: خبر الواحد المنفرد إذا احتفت به القرائن حتى أفاد العلم:
وجمهور أهل العلم على أن خبر الواحد حجة عند (1) مالكٍ والشافعي وأبي حنيفة وأحمد بن حنبل وغيرهم (2) .
قال القاضي عبد الوهاب في "الملخص" (3) : "اختلف الناس في جواز التعبد بخبر الواحد، فقال به الفقهاء والأصوليون، وخالف بعض المتكلمين (4) . "، والقائلون بجواز التعبد (5) به (6) اختلفوا في وقوع التعبد به (7) ، فمنهم من قال: لا يجوز (8) التعبد به (9) ، لأنه لم يرد التعبد به بل ورد السمع بالمنع منه، ومنهم من يقول (10) : يجوز العمل به إذا عضده غيره ووجد أمر (11) يقويه. ومنهم من يقول: لا يقبل إلا خبر
_________
(1) سقطت من جميع النسخ ما خلا نسخة ز.
(2) طال بحث الأصوليين كثيراً في حجية خبر الواحد والعمل به، ومذهب أهل السنة والجماعة والأئمة ـ كما ذكر المصنف ـ أنه حجة يجب العمل به لدلالة الكتاب والسنة والإجماع والقياس عليه. وذهب بعض المتكلمين إلى أنه ليس بحجة، فمنهم من يردُّ حجيته عقلاً، ومنهم سمعاً، ومنهم من يمنع حجيته عقلاً وسمعاً، ومنهم من لا يحتج به إلا إذا عضده دليل آخر ... الخ. انظر تفصيلات الأدلة والمناقشات في: الرسالة للشافعي ص401، المعتمد 2/98، العدة لأبي يعلى 3/859، الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي 2/279، الكفاية في علم الرواية له أيضاً ص 18، إحكام الفصول ص330، التلخيص 2/325، قواطع الأدلة 2/264، المحصول للرازي 4/353، الإحكام للآمدي 2/45، كشف الأسرار للبخاري 2/682، التوضيح لحلولو ص306، خبر الواحد وحجيته د. أحمد محمد عبد الوهاب، خبر الواحد في التشريع الإسلامي وحجيته لأبي عبد الرحمن القاضي برهون، الأدلة والشواهد على وجوب الأخذ بخبر الواحد د. سليم الهلالي.
(3) انظر رفع النقاب للشوشاوي القسم 2/617.
(4) وهم: جماهير القدرية، والرافضة، والقاساني وغيرهم. انظر: إحكام الفصول ص330، الإبهاج 2/300، التقرير والتحبير 2/361، أصول الفقه لمحمد رضا المظفر (رافضي) (2 / 61) إلا أنه نقل خلافاً في مذهبهم وقال بأن التحقيق أنهم يقولون بحجيته، وانظر: الفصول اللؤلؤية في أصول فقه العترة النبوية ص257.
(5) أي: عقلاً.
(6) ساقطة من س.
(7) أي: شرعاً.
(8) هنا زيادة: ((وقوع)) في س.
(9) ساقطة من ن.
(10) في ن: ((قال)) .
(11) في ن: ((أمراً)) ووجهه إذا كان الفعل ((وجد)) مبنياً للمعلوم.

(2/219)


اثنين فصاعداً إذا كانا عدلين ضابطين (1) ، قاله الجُبائي (2) . وحكى المازري وغيره (3) "أنه (4) قال (5) : لا يُقْبل في الأخبار التي تتعلق بالزنا إلا أربعة قياساً للرواية على الشهادة. " (6)
حجة المنع من جواز التعبد به (7) : أن التكاليف تعتمد تحصيلَ (8) المصالح* ودفعَ المفاسد وذلك يقتضي أن تكون (9) المصلحة أو المفسدة معلومة، وخبر الواحد لا يفيد إلا الظن، وهو يجوز خطؤه فيقع المكلف في الجهل والفساد، وهو غير جائز.
وهذه الحجة باطلة إما لأنها مبنية على قاعدة الحُسْن والقبح ونحن نمنعها (10) ، أو لأن الظن إصابته (11) غالبة وخطؤه نادر، ومقتضى القواعد أن (12) لا [تُتْرك المصالح] (13) الغالبة للمفسدة النادرة (14) ، فلذلك أقام صاحب الشرع الظن مقام العلم* لغلبة صوابه وندرة خطئه (15) .
_________
(1) الضابط: هو من يُثبت ما سمعه بحيث يتمكن من استحضاره متى شاء. انظر: شرح شرح النخبة للقاري ص248.
(2) انظر: المعتمد 2/138، التبصرة ص312، البرهان 1/392، وسيأتي مزيدُ بيانٍ لمذهبه وحجته ومناقشته في الفصل السابع من هذا الباب.
(3) انظر: رفع الحاجب لابن السبكي 2 / 406، وانظر: المعتمد 2/138.
(4) أي الجبائي.
(5) ساقطة من ن.
(6) في رفع النقاب للشوشاوي القسم (2/615) تحرير بديع لهذه التقسيمات فطالِعْه ثمة.
(7) أي عقلاً.
(8) في ن: ((حصول)) .
(9) في س: ((يكون)) .
(10) سبق الكلام عنها وأن مذهب أهل السنة والجماعة الوسطية وهو عدم قبول قاعدة الحسن والقبح مطلقاً وعدم منعها مطلقاً.
(11) في س: ((إصابة)) وهو تحريف.
(12) ساقطة من ن.
(13) في ق: ((نترك المصلحة)) .
(14) راجع في ذلك كتاباً فريداً في بابه وهو: قواعد الأحكام في مصالح الأنام للعز بن عبد السلام ص145، وانظر: ترتيب الفروق للبقُّوري 1/43.
(15) يدل عليه قوله تعالى: {وما شهدنا إلا بما علمنا} [يوسف: 81] ، وقوله: {فإن علمتموهن مؤمنات ... } [الممتحنة: 10] ، وقوله تعالى: {فكاتبوهم إن علمتم فيهم خيراً} [النور: 33] وكل ذلك بمعنى الظن وأقامه مقام العلم لغلبته. انظر: القطع والظن عند الأصوليين د. سعد الشثري.

(2/220)


حجة المنع من الوقوع (1) : قوله تعالى: {ولا تقف ما ليس لك به علم} (2) وخبر الواحد لا يوجب علماً فلا يُتَّبع (3) . وقوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} (4) وقوله تعالى: {إن يتبعون إلا الظن} (5) في سياق الذم وذلك يقتضي (6) تحريم اتباع الظن وهذه النصوص كثيرة (7) .
وجوابها: أن ذلك مخصوص بقواعد الديانات وأصول العبادات القطعيات (8) ، ويدل على ذلك قوله عليه السلام " نحن نقضي بالظاهر والله يتولَّى السرائر" (9) ، وقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة} (10) فجعل [الله تعالى] (11) الموجب للتبين (12) كونه فاسقاً، فعند عدم الفسق يجب العمل وهو المطلوب، وقوله تعالى (13) : {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (14) [أوجب تعالى الحذر] (15) بقول الطائفة الخارجة من الفرقة [مع أن] (16) الفرقة تصدق
_________
(1) أي شرعاً.
(2) الإسراء، من الآية: 36.
(3) في ن: ((يقع)) .
(4) يونس، من الآية: 36. والآية لم ترد في نسخة ن.
(5) الأنعام، من الآية: 116.
(6) ساقطة من س.
(7) يمكن أن يجاب عن الاستدلال بالآيات التي نَعَتْ على الظن بأن المراد به الظن المذموم المبني على التخمين والحَدْس ولا دليل عليه، لأن الظن في هذه الآيات مطلق، فيُحمل على الظن الكاذب جمعاً بين الأدلة. انظر: العدة لأبي يعلى 3/872، التمهيد لأبي الخطاب 3/402، نفائس الأصول 7/2943.
(8) انظر: نفائس الأصول 7/2942.
(9) مرَّ تخريجه.
(10) الجحرات، من الآية: 6.
(11) ساقط من ق.
(12) في ق: ((للتثبت)) وهي صحيحة أيضاً، وفي س: ((للتثبيت)) وهو تحريف.
(13) في س: ((ولقوله)) ، وفي ق: ((وكقوله)) .
(14) التوبة، الآية: 122.
(15) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(16) في ق: ((و)) .

(2/221)


على الثلاثة (1) ، فالخارج منها يكون أقل منها، فإذا وجب الحذر عند قولهم كان قولهم حجة وهو المطلوب، وقياساً على الفتوى والشهادة.
ومعنى قولي "اتفقوا على أنه حجة في الدنيويات. " أنه يجوز الاعتماد على قول العدل في الأسفار وارتكاب الأخطار إذا أخْبر أنها مأمونة، وكذلك سقي الأدوية، ومعالجة المرضى وغير ذلك من أمور الدنيا.
ويجوز بل يجب الاعتماد على قول المفتي وإن كان قوله لا يفيد عند المستفتي إلا الظن، ولذلك (2) أجمعت (3) الأمة على أن الحاكم يجب عليه أن يحكم بقول (4) الشاهدين، وإن (5) لم يحصل عنده إلا الظن، وإنما الخلاف إذا اجتهد العلماء في الأحكام المتعلقة بالفتاوى هل يجوز للمجتهد الاعتماد على ذلك؟
شروط قبول خبر الآحاد المتعلِّقة بالراوي
ويشترط في المخبر (6) العقلُ والتكليفُ (7) ، وإن كان تحمُّل الصبي صحيحاً، والإسلامُ، والضبْطُ (8) واخْتُلف في المبتدعة إذا
_________
(1) قال أبو هلال العسكري "والطائفة في الشريعة قد تكون اسماً واحداً. قال تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما} [الحجرات: 9] . ولا خلاف في أن اثنين إذا اقتتلا كان حكمهما هذا الحكم ـ ثم قال ـ ويجوز قبول الواحد بدلالة قوله تعالى: {فلوا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} [التوبة: 122] أي ليحذروا، فأوجب في خبر الطائفة، وقد تكون الطائفة واحداً " كتاب الفروق ص305، وانظر أيضاً: عمدة الحفاظ 2/425 مادة "طوف".
(2) في ق: ((وكذلك)) .
(3) في ن: ((اجتمعت)) .
(4) في ن: ((بحكم)) .
(5) ساقطة من س
(6) هذه شروط قبول خبر الآحاد المتعلقة بالراوي وهو المُخبْر.
(7) كان على المصنف أن يختار أحد الأمرين؛ إما أن يجعل من شروط المُخْبِر: العقل والبلوغ. أو يقول: التكليف، لأنه يتضمَّنهما.
(8) ساقطة من جميع نسخ المتن والشرح ما عدا نسخة متن هـ. وإثباتها واجب متحتّم، لأن هذا الشرط من أهم الشروط في المُخْبِر فلو كان عاقلاً بالغاً مسلماً عَدْلاً غير ضابط لم تقبل روايته باتفاق. قال ابن الصلاح "أجمع جماهير أئمة الحديث والفقه على أنه يشترط فيمن يحتجُّ بروايته أن يكون عَدْلاً ضابطاً لما يرويه" علوم الحديث ص 104، انظر هذا الشرط وبقية الشروط في: العدة لأبي يعلى 3/924، 948، قواطع الأدلة 2/305، التمهيد لأبي الخطاب 3/105، الإحكام للآمدي 2/71، المغني للخبازي ص199، كشف الأسرار للبخاري 2/727 التوضيح لحلولو ص 309، رفع النقاب القسم 2/629، الكفاية في علم الرواية ص54، تدريب الراوي للسيوطي 1/352، ظفر الأماني للكنوي ص486.

(2/222)


كفرناهم (1) ، فعند القاضي أبي بكر (2) مِنَّا والقاضي عبد الجبار (3) لا تقبل روايتهم، وفصَّل الإمام فخر الدين (4) وأبوالحسين (5) بين من يبيح الكذب وغيره. والعدالةُ (6) ،
والصحابة رضوان الله عليهم عُدُول إلا عند قيام المعارض.
الشرح
حكم رواية الصبي
أما العقل فلأنه أصل الضبط (7) ، والتكليف هو الوازع عن الكذب، فمَنْ لا تكليف عليه هو آمن من عذاب الله تعالى في كذبه فيُقْدِم عليه، ولا يحصل الوثوق به، وتحمُّل (8) الصبي جائز؛ لأنه إنما يقبل أداؤه (9) وروايته بعد بلوغه وحصول التكليف (10) الوازع (11) في حقه (12) . وكذلك تحمَّل الفاسق والكافر، ويؤدون إذا زالت هذه النقائص (13)
_________
(1) لو قال المصنف: "واختلف في المبتدعة" مطلقاً دون قوله: "إذا كفرناهم" لكان أحسن، لأن هذا القيد يشعر بأن الخلاف مخصوص بالقول بتكفيرهم، وليس الأمر كذلك، بل وقع الخلاف أيضاً في المبتدعة ببِدَعٍ مفسِّقة كما سيأتي في الشرح.
(2) انظر: المحصول للرازي 4/396، الإبهاج 2/314، البحر المحيط للزركشي 6 / 143، شرح الكوكب المنير 2/405.
(3) انظر: المعتمد 2/135، الإبهاج 2/314.
(4) انظر: المحصول 4/396.
(5) انظر المعتمد 2/135.
(6) ساقطة من ق، متن هـ..
(7) فلا تقبل رواية المجنون ولا الصبي غير المميز لعدم العقل بالإجماع. انظر: نهاية السول 3/119، ظفر الأماني ص 486
(8) التحملَّ هو: تلقي الحديث وأخذه عن الشيوخ، ولا يشترط له الإسلام والبلوغ. انظر: شرح شرح النخبة للقاري ص792، تيسير مصطلح الحديث للطحان ص157.
(9) الأداء هو: رواية الحديث وإعطاؤه للطلاب، ويشترط له الإسلام والبلوغ. انظر: المرجعين السابقين.
(10) ساقطة من ق
(11) في ن: ((والوازع)) .
(12) انظر: إحكام الفصول ص365، إرشاد الفحول 1/214، الكفاية في علم الرواية ص25، الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع للقاضي عياص ص 62، الباعث الحثيث لأحمد شاكر شرح اختصار علوم الحديث لابن كثير 1/323.
(13) في ن: ((الموانع)) .

(2/223)


عنهم (1) ، فإنَّ من حَصَل له العلم بشيء (2) جاز له الإخبار عنه [ولا تضرُّه الحالة المقارنة لحصول العلم] (3) . ونقل في مذهب الشافعي (4)
رضي الله عنه قول (5) بجواز رواية الصبي، وهو منكر من حيث النظر والقواعد بخلاف التّحمُّل (6) ، وما زال الصحابة رضوان الله عليهم يسمعون رواية العدول [فيما تحمَّلوه] (7) في حالة الكفر (8) والصبا (9) وذلك غير قادح، وكذلك الشهادة لا يقدح فيها أن وقت التحمُّل كان عدواً أو صبياً أو كافراً أو فاسقاً إذا سَلِمتْ حالة الأداء عن ذلك، فكذلك هاهنا.
حكم رواية الكافر
وأما الكافر الذي هو من غير أهل القبلة (10) فلا تقبل روايته في الدين، وإن كان أبو حنيفة رضي الله عنه قَبِل شهادة أهل الذمة (11) في الوصية وعلى بعضهم لقوله تعالى:
_________
(1) انظر: البحر المحيط للزركشي 6/148، تيسير التحرير 3/41، الباعث الحثيث 1/323، اليواقيت والدرر شرح شرح نخبة الفكر للمناوي 2/666.
(2) في ق: ((لشيء)) وهو تحريف.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من ق.
(4) وهو رواية عن الإمام أحمد. انظر: المسودة ص 258، الإبهاج 2/312، التمهيد للإسنوي ص445، البحر المحيط للزركشي 6/140، شرح الكوكب المنير 2/380، المجموع شرح المهذب للنووي 3/108، توضيح الأفكار للصنعاني 2/89..
(5) في ن: ((قولاً)) وهو خطأ نحوي؛ لأنه نائب فاعل لـ ((نُقل)) .
(6) وجه إنكاره ثلاثة أمور، الأول: لكونه غير مكلف فلا يحترز عن الكذب. الثاني: إذا لم تقبل رواية الفاسق مع وجود الوازع في حقه، فرواية الصبي أولى بالردّ لعدم الوازع أصلاً. الثالث: إقراره على نفسه لا يُقْبل، فأحرى أن لا يقبل قوله على الشريعة. انظر: المستصفى 1/291، المحصول للرازي 4/394، نهاية الوصول 6/2869 رفع النقاب القسم 2/630
(7) ساقط من س، وفي ق: ((فيما يحملوه)) .
(8) وانظر مثاله في: البحر المحيط للزركشي 6/148، التقرير والتحبير 2 / 318، فتح الباري لابن حجر 2 / 315.
(9) وانظر مثاله في: التقرير والتحبير 2 / 315، فتح الباري لابن حجر 7 / 102.
(10) أهل القبلة: هم من يدَّعي الإسلام، ويستقبل الكعبة وإن كان من أهل الأهواء أو من أهل المعاصي، ما لم يكذّب بشيء مما جاء به رسول الله صلى الله عليه وسلم. انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (3/282) ، شرح العقيدة الصحاوية ص (426) .
(11) أهل الذَّمَّة: هم الكفار المقيمون تحت ذِمَّة المسلمين بالجزية. الدر النقي في شرح ألفاظ الخرقي لابن المبرد الحنبلي 2/289.

(2/224)


{أو آخران من غيركم (1) } ، فالجمهور يقولون من غير تلك القبيلة، وأبو حنيفة يقول من غير دينكم، والمسألة مُسْتَقْصَاة في الفقه والخلاف (2) .
حكم رواية المبتدع
وأما المبتدعة فقد قَبِل البخاري (3) وغيره روايتهم كعَمْرو بن عُبيد (4)
وغيره من المعتزلة
_________
(1) الآية 106 من المائدة، وأولها: {يا أيها الذين آمنوا شهادة بينكم إذا حضر أحدكم الموت حين الوصية اثنان ذوا عدل منكم أو آخران من غيركم إن أنتم ضربتم في الأرض فأصابتكم مصيبة الموت ... } .
(2) أخطأ المصنف في حكاية خلاف أبي حنيفة مع الجمهور في مسألة شهادة الذمي على المسلم في الوصية في السفر، وأصاب في حكاية خلافه مع الجمهور في مسألة شهادة بعضهم على بعض. أما المسألة الأولى، فالخلاف فيها مع الإمام أحمد، فقد أجازها وقال به بعض الصحابة والتابعين. انظر: مسائل الإمام أحمد برواية ابنه صالح (2/218) ، كشاف القناع للبهوتي (6 / 528) . ومما يدل على أنه ليس مذهباً للأحناف ما ذكره الجصاص في أحكام القرآن (2/617) بانتساخ حكم شهادة غير المسلم على المسلم الوارد في قوله تعالى: {أو آخران من غيركم} [المائدة: 106] بآية {واستشهدوا شهيدين من رجالكم..} [البقرة: 282] ..وأما المسألة الأخرى، فقال المرغيناني "وتقبل شهاد أهل الذمة بعضهم على بعض وإن اختلفت مللهم" شرح فتح القدير لابن الهمام 7/390، وانظر الخلاف في المسألتين في: المبسوط للسرخسي 16/133، بدائع الصنائع للكاساني 9 / 58، الذخيرة للقرافي 10/224، وقد عزا القرافي في ذخيرته المسألة الأولى للإمام أحمد والثانية لأبي حنيفة، المغني لابن قدامة 14 / 170، 173، الحاوي للماوردي 17 / 105، إيثار الإنصاف في آثار الخلاف لسبط ابن الجوزي ص341، جامع البيان للطبري مجلده / جزء 7 / 140.
(3) هو أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجُعْفي مولاهم، نسبةً إلى قبيلة جُعْفي بن سعد، إمام الحفاظ، صاحب "الجامع الصحيح المسند ... " الذي تلقته الأمة بالقبول، وله: الأدب المفرد (ط) ، التاريخ الكبير (ط) وغيرهما توفي عام 256 هـ، له ترجمة حافلة في: هداية الساري مقدمة فتح الباري لابن حجر، وانظر: وفيات الأعيان 4 / 188، تذكرة الحفاظ 2/555.
أما قبول البخاري رواية بعض المبتدعة، فهذا واقع لا شك فيه، لكن يجمعهم الصدق والضبط والاتقان. وقد توسَّع الحافظ ابن حجر في الجواب عن كل راو تُكُلِّم فيه وهو من رجال البخاري. انظر: هدي الساري ص (543) ، البدعة وأثرها في الدراية والرواية للشيخ عائض القرني ص 180.
(4) هو أبو عثمان عَمْرو بن عُبيد بن باب التميمي مولاهم، البصري. تلميذ الحسن البصري وصاحب واصل بن عطاء. قال ابن حجر فيه "المعتزلي المشهور، كان داعية إلى بدعته" تقريب التهذيب ص (740) ، عُرف بالزهد والعبادة، له مقالات شنيعة. روى عن الحسن وأبي العالية وأبي قلابة، وروي عنه الأعمش والحمَّادان وابن عيينة وغيرهم. قال أبو حاتم فيه: متروك الحديث. وقيل عنه: يكذب في الحديث، وقال النسائي عنه: ليس بثقة ولا يكتب حديثه.. إلى آخر ما قيل فيه. ت عام 143هـ انظر: طبقات المعتزلة ص35، تهذيب الكمال للمزي 22/123، سير أعلام النبلاء 6/104.

تنبيه: لم يَرْوِ البخاري أي حديث عن عمرو بن عبيد، ولم يذكره ابن حجر في هدي الساري ص (543) في سياق أسماء من طُعن فيه من رجال البخاري، ولا ذكره السيوطي في تدريب الراوي (1/388) في سرد أسماء من رُمِي ببدعةٍ ممن أخرج لهم البخاري ومسلم، ولا جاء ذكره في: رجال الصحيحين للباجي، فلعل المصنف أراد غير البخاري ممن روى لعمرو بن عبيد، ولم أجد أحداً قبل روايته وقد جرَّحوه

(2/225)


وغيرهم (1) ، نظراً إلى أنهم من أهل القبلة من حيث الجملة، وردَّها غيرُهم لأنهم إما كفرة أو فسقة (2) ، وهو مذهب مالك (3) رحمه الله لقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة} (4) وهؤلاء إما فسقة أو كفرة (5) .
اشتراط العدالة في الراوي
والعدالةُ شَرْطٌ: لقوله تعالى: {ذوى عدل منكم} (6) مع قوله تعالى: {واستشهدوا شهيدين من رجالكم} (7) فهذا مطلق وذاك مقيد، والمطلق يحمل
_________
(1) في ق: ((وغيره)) .
(2) ضابط البدعة المكفرة هو: من أنكر أمراً مُجمعاً عليه متواتراً، ومنكر علم الله للأشياء حتى يخلقها، أو منكر علمه بالجزئيات، والقائلون بحلول الإلهية في علي رضي الله عنه أو غيره، ونسبة وقوع التحريف في القرآن، أو نسبة التهمة لعائشة رضي الله عنها، أو كبدع الجهمية، أو المنكرون لصفات الله تعالى، وأمثال ذلك مما كان التكفير به متَّفقاً عليه. وضابط البدعة المفسقة هو: ما لم يلزم منها تكذيبٌ بالكتاب ولا السنة، كبدع الخوارج والروافض غير الغلاة وبدع الطوائف المخالفين لأصول أهل السنة ولهم مستند في تأويلاتهم. انظر: شرح الكوكب المنير 2/402، هدي الساري لابن حجر ص544، فتح المغيث للسخاوي 2/ 58 ـ 70، معارج القبول للحكمي 3/1228.
(3) انظر مذهبه في عدم قبول رواية المبتدع مطلقاً في: إحكام الفصول ص377، التمهيد لابن عبد البر 1/66، الكفاية في علم الرواية ص116، 120.
(4) الحجرات من الآية: 6.
(5) مسألة الرواية عن المبتدعة تعدَّدتْ مشارب العلماء في حكمها، فمِنْ متحفِّظٍ لا يرى النقل عنهم ألبتة، لأنهم موطن تهمة وزيغ، فتُمْنع الرواية عنهم مطلقاً سواء خفَّت بدعتهم أم غَلُظتْ، دَعَوا إلى بدعتهم أم لا. وفريق ثانٍ يرى ألاَّ مانع من الرواية عنهم ـ مهما كانت بدعتهم ما لم تكن مكفِّرة ـ ما داموا صادقين. وتوسط فريق ثالث، فلم يرَ فتح الباب لكل مبتدع مهما كانت حاله ولا إغلاقَه في وجه كل مبتدع ولو كان ثَبْتاً لا يدعو لبدعته. فعلى هذا قالوا: تقبل رواية المبتدع بدعةً مفسِّقةً لا مكفِّرةً إذا لم يكن داعية إليها..قال ابن الصلاح "وهذا المذهب أعدل المذاهب وأولاها، وهو قول الأكثر من العلماء" علوم الحديث ص (114) . لكن لو قيل بقبول رواية المبتدع بدعةً مفسِّقةً سواء كان داعيةً أم لا مادام صادقاً ثبتاً لما بَعُدْنا عن الحقيقة، إذ العبرة في الرواية بصدق الراوي وأمانته. انظر المسألة في: نهاية الوصول (7/4874) ، التقرير والتحبير 2/319، شرح الكوكب المنير 2/402، رفع النقاب القسم 2/633، الكفاية في علم الرواية ص120، الباعث الحثيث 1/299، المُوْقِظة في مصطلح الحديث للذهبي ص66، شرح شرح النخبة ص521، البدعة وأثرها في الدراية والرواية للشيخ عائض القرني.
(6) الطلاق، من الآية: 6، وأولها {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف، وأشهدوا ذوي عَدْل منكم وأقيموا الشهادة لله ... } الآية.
(7) البقرة، من الآية: 282.

(2/226)


على المقيد. ولقوله تعالى في الآية الأخرى {ممن ترضون من الشهداء} (1) وإذا اشْتُرِطتْ العدالة في الشهادة المتعلقة بأمر جزئي لا يتعداه الحكم المشهود به فأولى الرواية، لأنها (2) تُثْبتُ حكماً عاماً على الخلق إلى يوم القيامة، ولأن الدليل ينفي العمل بالظن خالفناه في حق العدل (3) ، فيبقى فيما عداه على مقتضى الدليل. ولقوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (4) دل على عدم قبول قول الفاسق فلابد من العلم بعدم الفسق حتى يتغيَّر حكم التوقف (5) وذلك هو ثبوت العدالة، وهو المطلوب.
تعريف الصحابي وعدالته
ومعنى قول العلماء: "الصحابة رضوان الله عليهم عدول (6)
" أي: الذين كانوا ملازمين له والمهتدين بهديه عليه الصلاة والسلام، وهذا هو أحد التفاسير للصحابة (7) . وقيل: الصحابة من رآه ولو مرةً، وقيل: من كان في زمانه (8) ،
وهذان القسمان
_________
(1) البقرة، من الآية: 282.
(2) في ن: ((التي)) وهي سائغة، وفي س: ((لا)) وهي خطأ إلا أن يكون قد سقط مها جزء الكلمة ((نها)) .
(3) في ق: ((العدول)) .
(4) الحجرات، من الآية: 6.
(5) الإضافة هنا بيانية، والمعنى حتى يتغير الحكم الذي هو التوقف. والتوقف يكون عند عدم العلم بالعدالة.
(6) اختلف في عدالة الصحابة على مذاهب شتى، منها:
1- ... الصحابة كلهم عدول مطلقاً، وهو مذهب أهل السنة ومن وافقهم، وهو الحق الذي تؤيده أدلة الكتاب والسنة والإجماع والمعقول.
2- ... سلب العدالة عن الصحابة إلا قلة منهم، وهو مذهب الرافضة عليهم من الله ما يستحقون.
3- ... كلهم عدول إلا من قاتل علياً رضي الله عنه أو لابس الفتنة، وهو للمعتزلة.

4- ... إنما تثبت العدالة لمن لازم النبي صلى الله عليه وسلم دون من رآه أو زاره أو وفد عليه مدة يسيره.
5- ... الصحابة كغيرهم من المسلمين، فيهم العدل وغيره. وهذه الأقوال ما خلا الأول جرأة على الصحابة رضي الله عنهم. انظر: إحكام الفصول ص374، المستصفى 1/307، الموافقات للشاطبي 4/446، شرح الكوكب المنير 2/273، فواتح الرحموت 2/198، الباعث الحثيث 2/498، الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 1/162، ظفر الأماني ص539، تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة للعلائي ص71.
(7) ساقطة من ق.
(8) الصحابي لغة: نسبة إلى الصحابة، والصحابة في الأصل مصدر ثم صارت جمعاً، مفرده: صاحِب، ولم يُجمع فاعِل على فَعَالهَ إلا هذا، وصَاحَبَه: عَاشَرَه. انظر: مختار الصحاح، القاموس المحيط كلاهما مادة "صحب".

وأما اصطلاحاً: فالخلاف قائم بين المحدثين والأصوليين في تعريفه. قال ابن السمعاني: "وأما اسم الصحابي فهو من حيث اللغة والظاهر يقع على من طالته صحبته مع النبي صلى الله عليه وسلم وكثرت مجالسته، وينبغي أن يطيل المكث معه على طريقة السمع له والأخذ عنه ـ ثم قال ـ وهذا الذي ذكرناه طريق الأصوليين. وأما عند أصحاب الحديث فيطلقون اسم الصحابي على كل من روى عنه حديثاً أو كلمة، ويتوسعون حتى يعدوُّن من رآه رؤيةً من الصحابة، وهذا لشرف منزلة النبي صلى الله عليه وسلم أعطوا الكل ممن يراه حكم الصحبة. قواطع الأدلة 2 / 486 - 489. وقال ابن حجر: "وأصح ما وقفت عليه من ذلك أن الصحابي هو: من لقي النبي صلى الله عليه وسلم مؤمناً به ومات على الإسلام ـ ثم قال ـ هذا التعريف مبني على الأصح المختار عند المحققين كالبخاري وشيخه أحمد بن حنبل، ومن تبعهما، ووراء ذلك أقوال شاذة، كقول من قال: لا يُعدُّ صحابياً إلا من وصف بأحد أوصاف أربعة: من طالت مجالسته، أو حفظت روايته، أو ضبط أنه غزا، أو استشهد بين يديه ... " الإصابة في تمييز الصحابة 1 / 158 ـ 159. ثم إن ثمرة الخلاف تظهر في تعديل الصحابة، جاء في تيسير التحرير (3 / 67) " وينبني عليه ـ أي على الخلاف في حقيقة الصحابي ـ ثبوت عدالة غير الملازم وعدم ثبوتها، فلا يحتاج إلى التزكية كما هو قول المحدثين وبعض الأصوليين، أو يحتاج إلى التزكية كما هو قول جمهور الأصوليين " انظر المسألة في: العدة لأبي يعلى 3 / 987، الإحكام للآمدي 2 / 92، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/67، جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني 2/166، البحر المحيط للزركشي 6/190، رفع النقاب القسم 2/639، فواتح الرحموت 2/202، علوم الحديث لابن الصلاح ص292، شرح المواهب اللدنية للقسطلاني 7/24، اليواقيت الدرر للمناوي 2/503، ظفر الأماني للكنوي ص925، تحقيق منيف الرتبة لمن ثبت له شريف الصحبة للعلائي ص 33 وما بعدها.

(2/227)


لا تلزم فيهما العدالة مطلقاً، بل فيهم العَدْل وغيره، بخلاف الملازمين له عليه السلام، وفَاضَتْ عليهم (1) أنواره، وظهرتْ فيهم بركاته وآثاره، وهو المراد بقوله عليه السلام "أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم" (2) .
وقولي: "عند قيام المعارض": حَذَراً (3) من زنا مَاعِزٍ (4) والغَامِدِيَّة (5) وغير ذلك مما
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) سبق تخريجه.
(3) في ن: ((احترازاً)) .
(4) هو ماعز بن مالك الأسلمي. قال ابن حبَّان: له صحبة، وهو الذي رُجم في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، ثبت ذكره في الصحيحين وغيرهما، ويقال: اسمه غريب، وماعزٌ لقب. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة لابن حجر 5/521، أُسْد الغابة لابن الأثير 5 / 8. وحديث رجمه في البخاري (6814، 6824) ، مسلم (1692، 1695) .
(5) في ن: ((العامرية)) وهو تحريف، ولم أجد لها ترجمة، ولكن ذكر النووي في شرح مسلم (11/167) أنَّ غامد بَطْنٌ من جُهَينة من الأزدِ. وحديث رجمها في مسلم (1695، 1696) . وجاء في: المستفاد من مُبهمات المتن والإسناد لأبي زرعة العراقي (2 / 1124) بأن اسمها: سُبيعة، وقيل: أمية بنت فرج، وقيل: أبية.

(2/228)


جرى في زمن عمر في قصة أبي بَكَرة (1) وما (2)
فيها من القذف والجلد؛ القصة المشهورة (3) ،
فمع (4) قيام أسباب الردِّ لا تثبت العدالة، غير أنها هي (5) الأصلُ فيهم من غيرِ عصمةٍ (6) ، وغيرُهم الأصلُ
_________
(1) في س، ن: ((أبي بَكْرٍ)) وهو تحريف. وترجمته هو: نفيع بن الحارث بك كِلْدة الثقفي، يقال: ابن مسروح، مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم، صحابي جليل كبير القدر، من فضلاء الصحابة، سُمِّي بأبي بَكْرة لأنه تدلَّى من حِصْن الطائف ببَكْرة. سكن البصرة، وأنجب أولاداً لهم شهرة، توفي عام 51هـ. انظر: الإصابة في تمييز الصحابة 6/369، البداية والنهاية 8/59.
(2) في س، ن زيادة: ((وما جرى)) وهي غير مثبتة في جميع النسخ..
(3) فحوى القصة أن أبا بكرة ومعه ثلاثة شهدوا على المغيرة بن شعبة بالزنا، وكان ولاَّه عمر على البصرة، وكانت بينهما منافرة. فكتب أبوبكرة لعمر بذلك، فعزله عمر وولَّى أبا موسى الأشعري بدله. ثم لما جاء الشهود والمغيرة إلى المدينة تلكَّأ أحدهم في الشهادة، فجلد عمر الثلاثة حدّ الفِرْية، ثم استتابهم فتابوا إلا أبا بكرة. وقال المغيرة: يا أمير المؤمنين اشْفِني من هذا العبد، وكان عبداً ثم أعتقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنهره عمر وقال له: اسكت، لو كملتْ الشهادة لرجمتُك بأحجارك. انظر القصة بوقائعها المثيرة في البداية والنهاية لابن كثير 7/83، 8/59، الكامل في التاريخ لابن الأثير 2 / 159. قال ابن حجر في فتح الباري (5/321) "وأخرج القصة الطبراني في ترجمة شِبْل بن مَعْبد، والبيهقي من رواية أبي عثمان النهدي أنه شاهد ذلك عند عمر وإسناده صحيح. ثم انظر توجيه الشيرازي بأن هذا المعارض لا يجوِّز ردَّ أخبارهم في: شرح اللمع (2/638) . اقتصر البخاري على إيراد موضع الشهادة من القصة أورده معلقاً في صحيحه في كتاب الشهادات، باب شهادة القاذف والسارق والزاني. قال وجلد عمر أبا بكرة وشبل بن معبد ونافعاً بقذف المغيرة، ثم استتابهم وقال: من تاب قبلت شهادته. وأخرجه عبد الرزاق في مصنفه (7/384) ، والبيهقي في سننه الكبرى (8/235) ، (10/152) وجمع الألباني طرق هذا الحديث في إرواء الغليل (8/28) وصححه. وأورد الحاكم القصة كاملة في مستدركه (3/448) وسكت عنه الذهبي. أورد ابن حجر في فتح الباري (5/321) استشكالاً في إخراج البخاري هذه القصة واحتجاجه بها في عدم قبول شهادة غير التائب من القذف، ومع ذلك احتج البخاري بحديث أبي بكرة في عدة مواضع، فكان الجواب بالفرق بين الشهادة والرواية، وأن الشهادة يُطْلب فيها مزيد تثبُّتٍ خلافاً للرواية..قال ابن حزم في المحلى (9/431، 433) "ما سمعنا أن مسلماً فسَّق أبا بكرة ولا امتنع من قبول شهادته على النبي صلى الله عليه وسلم في أحكام الدين".
(4) في ق: ((ومع)) .
(5) ساقطة من ن.
(6) قال الأبياري: ((وليس المراد بعدالتهم ثبوت العصمة لهم واستحالة المعصية، وإنما المراد قبول رواياتهم من غير تكلُّف بحثٍ عن أسباب العدالة وطلب التزكية إلا من ثبت عليه ارتكاب قادح ولم يثبت ذلك والحمد لله، فنحن على استصحاب ما كانوا عليه في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى يثبت خلافه. ولا الْتِفَاتٌ إلى ما يذكره أهل السِّيَر، فإن أكثره ضعيف، وما صحَّ فله تأويل صحيح". التحقيق والبيان في شرح البرهان (رسالة جامعية) ص 839.

(2/229)


فيه (1) عدُم العدالة (2) [حتى تثبت العدالة] (3) عملاً بالغالب في الفريقين.
تعريف العدالة
والعدالة (4) : اجتنابُ الكبائرِ وبعضِ الصغائر والاصرارِ عليها (5) والمباحاتِ القادحةِ في المروءة.
الشرح
الكبيرة والصغيرة يرجعان (6) إلى كِبَر (7) المفسدة
_________
(1) في ن، ق: ((فيهم)) . وهو صحيح أيضًا باعتبار معنى الجمع في قوله: ((غيرهم)) . ووجه المثبت باعتبار لفظ الإفراد في ((غير)) .
(2) ما حكم به المصنف هنا من أن الأصلَ في غير الصحابة عدمُ العدالة حتى تثبت العدالة هو قول الجمهور من المالكية والشافعية ورواية عن أحمد، ويقابل هذا القول رأي الأحناف وابن حبان وابن الوزير اليماني. انظر المسألة مبسوطة في كتاب: الإضافة دراسات حديثية د. محمد بازمول ص 40.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(4) العدالة لغة: مصدر عَدُل من باب ظَرُف، تقول: عَدُل يعدُل عدالةً وعُدولةً. والعَدْل: ضدّ الجور، وما قام في النفوس أنه مستقيم. انظر: لسان العرب، القاموس المحيط، مختار الصحاح كلها مادة "عدل". واصطلاحاً: لها تعريفات متقاربة، منها ما ذكره المصنف، ومنها ما قاله ابن حجر: "والمراد بالعدل: من له ملكة تحمله على ملازمة التقوى والمروءة. والمراد بالتقوى: اجتناب الأعمال السيئة من شِرْكٍ أو فسقٍ أو بدعةٍ.." نزهة النظر المطبوع مع شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (247 - 248) . وقال السبكي "العدالة: هيئة راسخة في النفس تحمل على الصدق في القول في الرضا والغضب، ويعرف ذلك باجتناب الكبائر وعدم الاصرار على الصغائر، وملازمة المروءة، والاعتدال عند انبعاث الأغراض، حتى يملك نفسه عن اتباع هواه" الأشباه والنظائر له (1/451) . لكن الأمير الصنعاني له وجْهة نظرٍ أخرى، فهو يستدرك على تفسيرهم العدالة بالملكة بأنه ليس هذا معناها لغةً ولا أتى عن الشارع في ذلك حَرْف واحد، وتفسيرها بالملكة تشدُّدٌ لا يتم وجوده إلا في المعصومين وأفرادٍ خُلَّص المؤمنين، بل في الحديث: إن كل بني آدم خطَّاؤون، ولا يخفى أن حصول هذه الملكة لكل راوٍ من رواة الحديث معلوم أنه لا يكاد يقع. ومن طالع تراجم الرواة علم ذلك يقيناً. فالتحقيق أن العَدْل من قارب وسدد وغلب خيره على شرِّه. انظر: ثمرات النظر في علم الأثر له ص (55 ـ 60) . وانظر: المستصفى 1 / 293، جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني 2/148، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/63، البحر المحيط للزركشي 6/149، تيسير التحرير 3/44، الكفاية في علم الرواية ص 78، ظفر الأماني ص 540.
(5) في س: ((عليه)) وهو جائز. انظر: هامش (1) ص 31.
(6) هكذا أثبتت في جميع النسخ ((يرجعان)) ، والصواب ((ترجعان)) .
(7) هنا زيادة: ((المعصية)) في ن ولا معنى لها.

(2/230)


وصغرها (1) ، وقال بعض العلماء (2) : لا (3)
يقال في معصية الله تعالى صغيرةٌ نظراً إلى من عُصِى (4) بها مع حصول الاتفاق على أن العدالة لا تذهب بجميع الذنوب، بل الخلاف في التسمية.
قال بعض العلماء*: كل معصية فيها حَدٌّ فهي كبيرة، وكذلك [كلُّ ما] (5) ورد في الكتاب أو السنة لعنةُ فاعله أو التشديدُ في الوعيد عليه فهو (6) كبيرة ثم ما وقع من غير ذلك اعتبر بالنسبة إليه، فإن ساواه في المفسدة حُكِم بأنه كبيرة (7) ،
ووردت السنة
_________
(1) اختلف العلماء في انقسام الذنوب إلى: كبائر وصغائر، وطائفة من المعتزلة تجعلها كلها كبائر، ويحكمون بالتخليد في النار، والمرجئة تقول: الذنوب كلها صغائر مع الإيمان، فلا كبيرة مع الإيمان ولا حسنة مع الكفر. ومذهب أهل الحق ـ أهل السنة والجماعة ـ ومن وافقهم بأن الذنوب منها الكبائر ومنها الصغائر، ولا يليق إنكار الفرق بينهما وقد قال تعالى {إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم ... } [النساء: 31] وقال: {الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللَّمم} [النجم: 32] . انظر: الفروق للقرافي 4/65، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/158، مجموع الفتاوى لابن تيمية 11/657، البحر المحيط للزركشي 6/152، الزواجر عن اقتراف الكبائر لابن حجر الهيتمي 1/5، رفع النقاب القسم 2/641.
(2) أورد الطبري في تفسيره مجلد 4/جزء 5/ 59 أثراً عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "كل شيء عُصي الله فيه فهو كبيرة". من العلماء من شكك في صحة هذا القول إلى ابن عباس لمخالفته ظاهر القرآن، بينما صححه ابن حجر وأوَّله. انظر: فتح الباري (10/502) . وقال النووي في شرح صحيح مسلم (2/72) "ولا شك في كون المخالفة قبيحةً جداً بالنسبة إلى جلال الله تعالى، ولكنْ بعضها أعظم من بعض ـ ثم قال ـ فسمَّى الشرع ما تكفِّره الصلاةُ ونحوها صغائرَ وما لا تكفِّره كبائرَ، ولا شك في حُسْن هذا، ولا يخرجها هذا عن كونها قبيحةً بالنسبة إلى جلال الله تعالى فإنها صغيرة بالنسبة إلى ما فوقها، لكونها أقلَّ قبحاً ولكونها متيسّرة التكفير والله أعلم".
(3) ساقطة من ن..
(4) في س، ن: ((عصا)) وهو خطأ. والصواب بناؤه على المجهول؛ لأن النظر في صغر المعصية لا يكون إلى العاصي وإنما إلى الله الذي عُصي بها.
(5) فه س: ((كلما)) وهو تحريف لأنه أداة شرط، يشترط في جوابها أن يكون فعلاً ماضياَ، ولا وجود له هنا. انظر: همع الهوامع للسيوطي 2/499.
(6) في ق: ((فهي)) . وهو ممكن باعتبار جعل " ما " الموصولة بمعنى التي. انظر: حاشية الصبَّان على شرح الأشموني 1 / 219.
(7) اختلف العلماء في الكبائر، هل تعرف بالحدِّ أم بالعدِّ؟ فالذين قالوا بالعدّ اختلفوا في حصرها، فأقلّ ما قيل سبع، وأكثره سبعون وقيل: سبعمائة. والذين قالوا بالحدّ اضطربوا في حدَّها، فابن حجر الهيتمي ذكر في حدّها في كتابه الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/5) ما يربو على الثمانية. وأحسن ما يقال في تعريف الكبير هو: كل ما يوجب حَدَّاً في الدنيا أو وعيداً في الآخرة كالوعيد بالنار أو الغضب أو اللعنة أو عدم دخول الجنة أو لا يشمُّ ريحها أو قيل فيه: ((ليس مِنّا)) أو نحو ذلك. انظر: الإرشاد للجويني ص 328، مجموع الفتاوى لابن تيمية 11/650 ـ 658، الداء والدواء (الجواب الكافي) لابن القيم ص225، شرح العقيدة الطحاوية لابن أبي العز ص525، قواعد الأحكام للعز بن عبد السلام ص46، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/158، البحر المحيط للزركشي 6/153..

(2/231)


بأن القُبْلَةَ أو النَّظْرة في الأجنبية صغيرة (1) ، فيُنْظر أيضاً ما ساواهما (2) فهو صغيرة.
وأما الإصرار فيُخْرج الصغيرة عن [أن تكون] (3) صغيرة، ولذلك يقال: "لا صغيرة مع إصرار*، ولا كبيرة مع استغفار" (4) . والإصرار أن يكون العزم حاصلاً على معاودة مثل (5) تلك المعصية، أما من تقع (6) منه الصغيرة فيقلع عنها ويتوب ثم يواقعها من غير عَزْمٍ (7) سابقٍ على تكرار الفعل فليس بإصرار.
_________
(1) جاء في القُبْلة حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: إن رجلاً أصاب من امرأةٍ قُبْلةً، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فأُنزلتْ عليه {أقم الصلاة طرفي النهار وزلفاً من الليل إن الحسنات يذهب السيئات ذلك ذكرى للذاكرين} [هود: 114] . قال الرجل: ألي هذه؟ قال صلى الله عليه وسلم "لمن عمل بها من أمتي" رواه البخاري (4687) ومسلم (2763) . قال النووي في شرح صحيح مسلم (17/68) "وهي هنا من الصغائر لأنها كفرَّتها الصلاة ... ".
وجاء في النظرة حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ما رأيت شيئاً أشبه باللَّمم مما قال أبوهريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم "إن الله كتب على ابن آدم حظَّه من الزنا أدرك ذلك لا محالة، فزنا العين النظر، وزنا اللسان المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه" رواه البخاري (6612) ومسلم (2657) . واللَّمم: صغائر الذنوب. وعدَّ ابن النحاس النظرة من جملة الصغائر في كتابه: تنبيه الغافلين عن أعمال الجاهلين ص310.
(2) في س: ((ما سواها)) .
(3) في ق: ((كونها)) .
(4) روي هذا القول حديثاً، ولكنَّه لا يصح مرفوعاً. انظر: المغني عن الأسفار في الأسفار للعراقي بذيل إحياء علوم الدين 4/28، المقاصد الحسنة للسخاوي ص (545) ، كشف الخفاء للعجلوني (2/364) . ضعيف الجامع الصغير للألباني رقم (6308) . وروى موقوفاً عن أنس قال: "لا صغيرة مع إصرار" قال العراقي وابن النحاس: "وإسناده جيد" المغني عن الأسفار (تخريج إحياء علوم الدين) (4/28) ، تنبيه الغافلين ص (631) . وروى الطبري في تفسيره (مجلد 4/ جزء 5/59) وابن أبي حاتم في تفسيره 3 / 934 من طريق قيس بن سعد عن سعيد بن جبير قال: إن رجلاً قال لابن عباس: كم الكبائر؟ أسبعٌ هي؟ قال: ((إلى سبعمائةٍ أقرب منها إلى سبعٍ، غير أنه لا كبيرة مع استغفارٍ ولا صغيرة مع إصرار)) والحديث إسناده صحيح، فقيس بن سعد من رجال مسلمٍ وهو ثقة مكي، وسعيد بن جبير تابعي ثقة ثبت فقيه. انظر: تقريب التهذيب لابن حجر ص 374، 804.
(5) ساقطة من ن، ق. وهي مثبتة في باقي النسخ.
(6) في س، ق: ((يقع)) .
(7) ساقطة من ق.

(2/232)


فائدة (1) : ما ضابط الإصرار الذي يُصيِّر (2) الصغيرةَ (3) كبيرةً؟ قال بعض العلماء (4) : [حد ذلك] (5) أن يتكرر منه تكراراً (6) يُخِلُّ بالثقة (7) بصدقه كما تُخِلُّ (8) به ملابسة الكبيرة، فمتى وصل إلى هذه الغاية صارت الصغيرة كبيرة، وذلك يختلف باختلاف الأشخاص واختلاف (9) الأحوال، والنظر في ذلك لأهل الاعتبار والنظر الصحيح من الحُكَّام وعلماء الأحكام الناظرين في التجريح (10) والتعديل.
والمباحات القادحة في المروءة (11) :
نحو الأكل في الطرقات، والتعرِّي في الخلوات ونحو ذلك مما يدل على أنه غير مكترث باستهزاء الناس به. قال* الغزالي (12) : إلا أن يكون (13) ممن يعمل ذلك على سبيل كسر النفس وإلزامها التواضع كما يفعله كثير من العباد.
_________
(1) انظر هذه الفائدة مبسوطة في: الفروق للقرفي 1/120، 4/67، وانظر: الذخيرة 10/223.
(2) في ن: ((تصير)) .
(3) في ق: ((الصغير)) .
(4) لعلَّ منهم شيخ المصنف: العز بن عبد السلام. انظر: قواعد الأحكام في مصالح الأنام ص51.
(5) في ق: ((حدّه)) .
(6) في س: ((تكرار)) وهو خطأ، لأنه يجب انتصابه على المصدرية (مفعول مطلق) .
(7) في ق: ((الثقة)) بدون الباء.
(8) في س، ق: ((يخل)) .
(9) ساقطة من ق.
(10) في س: ((الترجيح)) وهو تحريف.
(11) المروءة لغة: مأخوذة من مَرُؤ ككَرُم، يَمْرُء مروءةً ومروَّة بالتشديد فهو مريء ككريم، أي ذو إنسانية وكمال رجولية. انظر: لسان العرب، القاموس المحيط، المصباح المنير مادة "مرأ".

واصطلاحاً: الاحتراز عن المباح مما يُستهجن من أمثاله عرفاً. وقيل: آدابٌ نفسانية تَحْمِل مراعاتُها على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات. وقيل: هي صيانة النفس عن الأدناس وما يشينها عند الناس. وقيل: هي التخلق بأخلاق أمثاله وأقرانه في لبسه ومشيه وحركاته وسكناته وسائر صفاته. وكلها معانٍ متقاربة صحيحة. انظر: الغاية القصوى في دراية الفتوى للبيضاوي 2/1019، تيسير التحرير 3/44، شرح شرح النخبة للقاري ص248، المروءة وخوارمها لمشهور بن حسن آل سليمان ص21. وهو كتاب نفيسٌ فريدٌ في بابه، وقد عدَّ جملةً وافرةً من قوادح المروءة.
(12) لم أهتد إلى موضع هذا النقل من كتب الغزالي. وهو موجود في رفع النقاب للشوشاوي القسم 2/645.
(13) هنا زيادة: ((ذلك)) في ق لا حجة لها.

(2/233)


وقولي "بعض الصغائر": معناه أن من الصغائر ما لا يكون فيه إلا مجرد المعصية (1) كالكِذْبة التي لا يتعلق بها ضرر، والنظر لغير ذات مَحْرم، ومنها (2) ما يكون دالاً على الاستهزاء بالدين أو (3) المروءة كما لو قَبَّل امرأة في الطريق أو أمسك (4) فرجها بحضرة الناس (5) غير مُكْتَرِث بهم، فهذه أفعال من لا يوثق بدينه ولا مروءته، فلا تأمنه في (6) الشهادة على الكذب فيها.
فائدة (7) : (8) ما تقدَّم من أن الكبيرة تَتَبْع عِظَم المفسدة، فما لا تعظم مفسدته لا يكون كبيرة، استثنى صاحب الشرع من ذلك أشياء حقيرةَ المفسدة، وجعلها مسقطة للعدالة موجبة للفسوق (9) لقبح ذلك الباب (10) في نفسه لا لعظم المفسدة، وذلك (11) كشهادة الزور فإنها فسوق (12) مطلقاً وإن كان (13) لم يُتْلِف بها (14) على المشهود عليه إلا (15) فَلْساً واحداً (16) ، ومقتضى القاعدة (17) : أنها لا تكون كبيرة إلا إذا عظمت
_________
(1) هنا زيادة: ((لله تعالى)) في س، وقد عَرَتْ منها جميع النسخ.
(2) في س: ((ومثله)) .
(3) في س: ((و)) .
(4) في ن، س: ((مسك)) والمثبت من ق ولعله الصواب، إذ في المعاجم أن ((أمسك)) يتعدَّى بنفسه خلافاً لـ ((مسك)) . انظر: لسان العرب مادة " مسك ".
(5) هنا زيادة: ((من)) في ن ولا معنى لها.
(6) في س: ((على)) .
(7) هذه الفائدة طرفٌ مما سبق ذكره مما استفاده المصنف سماعاً من شيخه العز بن عبد السلام. انظر تصريحه بذلك في كتابه: نفائس الأصول 7/2960.
(8) هنا زيادة: ((معنى)) في ن ولا معنى لها.
(9) في س: ((للفسق)) .
(10) ساقطة من ن.
(11) ساقطة من ق.
(12) في ن: ((فسق)) .
(13) ساقطة من ق.
(14) ساقطة من س.
(15) ساقطة من ق.
(16) ساقطة من ق، ن.
(17) في ق: ((العادة)) وهو تحريف.

(2/234)


مفسدتها، وكذلك السرقة والغصب لقبح هذه الأبواب في أنفسها، ومما يدل على التفرقة بين أسباب الفسوق وغيرها قوله تعالى: {وكرَّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان} (1) فرَّق تعالى بين الكفر والفسوق الذي هو الكبائر، [والعصيان الذي هو الصغائر] (2) التي ليست فسوقاً (3) .
حكم رواية الفاسق
ثم الفاسق (4)
إن كان فسقه مظنوناً قُبلتْ روايته بالاتفاق (5) ، وإن كان
_________
(1) الحجرات من الآية: 7.
(2) ما بين المعقوفين ساقط من ق.
(3) انظر لبيان الفرق بين هذه المصطلحات في: الفروق للقرافي 1/120، 4/67، كتاب الفروق لإبي هلال العسكري ص253، فتح الرحمن بكشف ما يلتبس في القرآن للأنصاري ص529، التفسير الكبير للرازي 28/107.
(4) الفسق لغة: الخروج، يقال: فسقت الرُّطبة؛ إذا خرجت عن قشرتها. انظر: لسان العرب، المصباح المنير مادة " فسق ".

واصطلاحاً: الخروج عن طاعة الله عز وجل، وهو أعم من الكفر، فيشمل الكفر ومادونه، ويقع بالقليل من الذنوب والكثير، لكن الفسق عُرِف فيما كان كبيرة. ولهذا قال البيضاوي: "الفاسق: الخارج عن أمر الله بارتكاب الكبيرة" انظر تفسيره: أنوار التنزيل وأسرار التأويل (1/41) ، وانظر: مفردات ألفاظ القرآن للراغب الأصفهاني، مادة " فسق "، عمدة الحفاظ 3/230، روح المعاني للألوسي 1/212، مدارج السالكين لابن القيم (1/359) وفيه تفصيل جيد.
(5) ممن حكى الاتفاق الرازي في محصوله (4/399) ، وعبَّر الآمدي في الإحكام (2/83) بالأظهر، ومن العلماء من استظهر الخلاف في المسألة كصفي الدين الهندي في: نهاية الوصول 7/2881، وانظر: البحر المحيط للزركشي 6/157. وللمسألة تحرير ألطف، ذكره الآمدي في الإحكام (2/83) ـ بعد أن نعلم أن المُقْدِم على الفسق عامداً عالماً به لا تقبل روايته إجماعاً ـ قال بتصرف: "الفاسق المتأول ـ الذي لا يعلم فسق نفسه ـ لا يخلو إما أن يكون فسفه مظنوناً أو مقطوعاً به، فإن كان مظنوناً كفسق الحنفي إذ شرب النبيذ، فالأظهر قبول روايته وشهادته. وإن كان فسقه مقطوعاً به فإما أن يكون ممن يتديّن بالكذب كالخطابية فلا نعرف خلافاً في ردّ روايته وشهادته، أو لا يكون ممن يرى الكذب كفسق الخوارج الذين يستبيحون الدار وقتل النساء والأطفال، فهو موضع خلاف، مذهب الشافعي وأكثر الفقهاء والأصوليين قبول روايته وشهادته، ومذهب الباقلاني والجبائيين وجماعة من الأصوليين امتناع قبول روايتهم وشهادتهم وهو المختار". وانظر أيضاً: المعتمد 1/134، إحكام الفصول ص377، المستصفى 1 / 299.

(2/235)


مقطوعاً به قبل الشافعي
رواية أرباب الأهواء إلا الخَطَّابِيَّة (1) من الرافضة لتجويزهم الكذب لموافقة مذهبهم (2) ، ومنع القاضي أبوبكر من قبولها (3) . واختلف العلماء في شارب النبيذ من غير سُكْر (4) ، فقال الشافعي أحُدُّه وأقْبَلُ شهادته (5)
بناءً على أن فِسْقه مظنونٌ وقال مالك: أحُدُّه ولا أقْبَلُ شهادته (6) ، كأنه قطع بفسقه.
الشرح
معنى (7) ((الفسق المظنون الذي تقبل معه الرواية)) : أن يكون هو يعتقد أنه على (8)
_________
(1) الخَطَّابِيَّة: طائفة من غلاة الرافضة، أتباع أبي الخطاب محمد بن أبي زينب الأجدع، الأسدي مولاهم، زعم أن الألوهية حلَّت في جعفر الصادق وفي آبائه من قبل، واستباح مع اتباعه ما حرَّم الله، وزعموا أن الجبت والطاغوت هما أبوبكر وعمر وأن البقرة هي عائشة عليهم لعنة الله وسخطه. تبرأ منهم جعفر وحاربهم، وقتله والي الكوفة آنذاك من العباسيين سنة 143هـ، وكانت دعوته سبباً في نشأة الإسماعيلية الباطنية. اقرأ عن هذه الفرقة في: التنبيه والرد على أهل الأهواء والبدع للملطي ص172، عقائد الثلاث والسبعين فرقة لأبي محمد اليمني 1/461، الملل والنحل للشهرستاني 1/210، موسوعة الفرق الإسلامية لمحمد جواد مشكور ص234.
(2) انظر نص الشافعي في قبول رواية أهل الأهواء إلا من يستحل الكذب في: الأم 6/205، السنن الكبرى للبيهقي 10/208، حلية الأولياء للأصفهاني 9/114، الكفاية في علم الرواية ص 120، 126.
(3) انظر: المحصول للرازي 4/401، الإحكام للآمدي 2/83، ظفر الأماني ص490.
(4) انظر نزاع العلماء في شارب النبيذ، هل يُعدُّ فاسقاً أصلاً، وهل فسقه مظنون أم مقطوع؟ في: شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/62، البحر المحيط للزركشي 6/158، شرح الكوكب المنير 2/408، تيسير التحرير 3/43. ثم انظر خلافهم في حكم شارب النبيذ في: تحفة الفقهاء للمسرقندي 3/325 الحاوي للماوردي 13/387، بداية المجتهد 4/174، المغني لابن قدامة 12/513، الذخيرة للقرافي 4/117، البناية في شرح الهداية للعيني 11/434، حاشية البيجوري 2/245.
(5) انظر قوله في: الأم 8/310، السنن الكبرى للبيهقي 10/210..
(6) انظر: المدونة 4/410، الكافي لابن عبد البر ص 2 / 896، نفائس الأصول 7/2961، جواهر الأكليل 2/235. قال يحيى الرهوني "قال بعض أصحابنا: إن ذلك منه ـ أي الإمام مالك ـ بناءً على أنه فاسق قطعاً، والظاهر أنه فاسق ظناً عنده، لكن لم يبعّض الحكم كما فعل الشافعي" ثم نقل قولاً آخر عند مالك أنه لا يُحدُّ وتقبل شهادته وقال: صححه جمع من متأخري المالكية. انظر كلامه في: تحفة المسؤول القسم 2 / 585. وانظر: حاشية محمد الرهوني على شرح الزرقاني 8/155، التوضيح شرح التنقيح لحلولو ص (312) وفيه تفصيل جيد.
(7) هنا زيادة: ((قولي)) في ن.
(8) ساقطة من س.

(2/236)


صواب لمستندٍ حصل له، ونحن نظن بطلان ذلك المستند (1) ولا نقطع ببطلانه، فهو في حكم الفاسق لولا ذلك المستند، أما لو ظننا فسقه ببيِّنةٍ شَهِدتْ بارتكابه أسبابَ الفسوق فليس هو (2) من هذا القبيل، بل تُردُّ روايته.
ومعنى ((أن أرباب الأهواء مقطوع بفسقهم)) أي: خالفوا قطعياً (3) ، وهم يعتقدون أنهم على صواب. والقسم الأول خالف ظناً فقط.
حجة الشافعي (4) : أنه من أهل القبلة فنقبل (5) روايتهم كما نورِّثهم ونَرِثهم ونُجْرِي (6) عليهم أحكام الإسلام.
حجة القاضي: أن مخالفتهم القواطع (7) تقتضي القطع بفسقهم، فيندرجون في قوله تعالى: {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (8) . ولأن قبول (9) روايتهم ترويج (10) لبدعتهم فيحرم (11) .
وأما شارب النبيذ (12) : فالأمر فيه مبني على قاعدتين؛ إحداهما: أن الزواجر تعتمد المفاسد ودرأها لا حصول العصيان (13) ، ولذلك (14) نؤلم (15) الصبيان والبهائم
_________
(1) ساقطة من ق.
(2) ساقطة من س.
(3) في ن، س: ((قطعاً)) .
(4) قبول رواية أهل الأهواء الذين لا يجوزّن الكذب.
(5) في ق: ((فتقبل)) .
(6) في ق، س: ((تجري)) .
(7) في ق: ((للقواطع)) ، وفي ن: ((لقواطع)) والمثبت هنا من سائر النسخ.
(8) الحجرات من الآية: 6.
(9) ساقطة من ن.
(10) في ن: ((تدريج)) وهو تحريف.
(11) في ق، س: ((فتحرم)) وهو متجه أيضاً، والمثبت من باقي النسخ.
(12) في س: ((الخمر)) وهو شذوذ عن جميع النسخ، وأين الخمر من النبيذ؟!
(13) أي: التأديب والزجر كان بسبب المفاسد الناجمة عن المعصية كإتلاف العقل، لا لمجرد المعصية، فإنه يظنها مباحة. انظر كلاماً للمصنف عن هذه القاعدة في: الفروق 4 / 180.
(14) في ق: ((فلذلك)) ، وفي س: ((فكذلك)) .
(15) في ن: ((يؤلم)) ، وفي ق: ((تؤلم)) .

(2/237)


استصلاحاً لهم وإن لم يكونوا عصاة، فكذلك (1) يقام الحدُّ على الحنفى لدرء (2) مفسدة السُّكْر وفساد العقل والتسبب له وإن لم يكن عاصياً لتقليده أبا حنيفة، فهذه القاعدة هي الموجبة لحدِّه وقبول (3) شهادته، ولا تَنَاقُض حينئذٍ [لأن الزواجرَ] (4) لدرء المفسدة، وقبولَ الشهادة لعدم المعصية (5) .
ويَرِدُ على الشافعي في هذه القاعدة (6) أنها وإن كانت صحيحة غير أنَّا لم نجدها إلا في (7) الزواجر التي ليست محدودة (8) ، أما المحدودة (9) فما عهدناها في الشرع إلا في المعاصي (10) .
القاعدة الثانية: وهي أن قضاء القاضي يُنْقَض (11) إذا خالف أحد أربعة أشياء: الإجماع أو النص الجلي (12) أو القياس الجلي أو القواعد (13) .
_________
(1) في ن: ((فلذلك)) .
(2) في س: ((لأن)) وهي غير موفية بالمراد.
(3) هنا زيادة: ((العقل والتسبب له)) وهي مقحمة لا معنى لها.
(4) في س: ((لأن الزجر)) ؛ وفي ن: ((إنما الموجب)) .
(5) وبمثله وجَّه الزركشي كلام الشافعي. انظر: البحر المحيط (6/158) . وفي هذا التوجيه حَلٌّ لإشكالٍ أورده المزني على الشافعي: كيف يحدُّ من شرب قليلا من نبيذٍ شديدٍ ويجيز شهادته. انظر: مختصر المزني بآخر الأم 8 /310.
(6) في ن: ((المسألة)) .
(7) هنا زيادة: ((هذه)) في ق.
(8) محدودة: أي لا حدٌّ فيها.
(9) في س ((المحدود)) وهو خطأ.
(10) عبارة المصنف في نفائس الأصول (7/2961) أوضح إذ يقول: "غير أنه يرد عليه ـ أي الشافعي ـ أن التأديب المعهود في الشرع للاستصلاح مع عدم الذنب غير محدود بعدد، وما عهدنا في الشرع حدّاً على مباح، وهذا حدٌّ عنده، فيتعيّن إما أن لا يَحُدَّه أو يُعصِّيه (أي يؤثّمه) ويحُدّه، كما قال مالك" أحدُّ وأردُّ شهادته".
(11) ساقطة من ق.
(12) ساقطة من س، ن.
(13) تفنن المصنف في توضيح هذه القاعدة ومُثُلِها في كتابه البديع النفيسي: "الإحكام في تمييز الفتاوى عن الأحكام وتصرفات القاضي والإمام" ص88، 135. وانظر أيضاً: الفروق 2 / 101، 109، 4 / 40، نفائس الأصول 7 / 2961، الحاوي للماوردي 16/172، بدائع الصنائع للكاساني 9/133، المغني لابن قدامة 14/34، الذخيرة للقرافي 10/133، 139، تبصرة الحكام لابن فرحون 1/64، إيضاح المسالك إلى قواعد الإمام مالك ص150، 161.

(2/238)


[فمتى خالف إحدى (1) ] (2) هذه (3) الأربعة قضاءُ قاضٍ لا لمعارض له (4) في القياس أو النص أو القواعد نُقَض، هذا هو (5) مدار الفتاوى في المذاهب (6) المعمول بها، وإذا كنا لا نقرِّه شرعاً مع تأكده بقضاء القاضي وبنقضه، فأولى أن لا نقره شرعاً إن لم يتأكد، وإذا لم نقِّره شرعاً لم يجز التقليد فيه، ويكون الناطق به من المجتهدين كأنه ساكت لم يقل شيئاً، والمقلد لذلك المجتهد كأنه لم يقلد أحداً، ومن (7) لم يكن مقلداً في شرب النبيذ كان عاصياً، والعاصي بمثل هذه الفِعْلة يكون فاسقاً؛ فلهذه القاعدة قال مالك: أحُدُّه للمعصية، وأردُّ شهادته لفسقه (8) ، وهو أوجه في النظر من قول الشافعي، لما تقدم من الإشكال على قول الشافعي، ومسألة النبيذ خولف فيها النصوص كقوله عليه السلام: "كل مسكر خمر وكل خمر حرام" (9) ونحوه (10) ،
وهو كثير في السنة، والقياس الجلي على الخمر، والقواعد من جهة أن القاعدة سد الذريعة في صون العقول لانعقاد الاجماع على تحريم النقطة من الخمر وإن كانت لا تُسْكِر سداً [لذريعة الإسكار] (11) .
_________
(1) في ن، س: ((أحد)) والمثبت من ق، وهو الصواب لأن "إحدى" تجرى على القياس.
(2) ما بين المعقوفين ساقط في ق.
(3) هنا زيادة: ((القواعد)) في س ولا حاجة لها.
(4) ساقطة من ق، س.
(5) ساقطة من ن.
(6) في س، ن، ق: ((المذهب)) والمثبت من بقية النسخ وهو الصحيح، لأن مرجع الضمير في قوله بعد ذلك: ((المعمول بها)) إلى المذاهب.
(7) ساقطة من ق.
(8) ساقطة من ن.
(9) رواه مسلم في كتاب الأشربة برقم عام (2003) وخاص (75) عن ابن عمر رضي الله عنهما. ومن الأحاديث التي بنحوه قوله صلى الله عليه وسلم "كل شراب أسكر فهو حرام" رواه البخاري (5585) ، ومسلم (2001) ، وحديث "ما أسكر كثيره فقليله حرام" رواه أبوداود (3681) ، والترمذي (1865) ، وابن ماجة (3393) وصححه الألباني في إرواء الغليل 8/42.
(10) ساقطة من ق..
(11) في ق: ((للذريعة في الإسكار)) .

(2/239)


حكم رواية المجهول:
وقال أبوحنيفة (1) : يُقْبل قولُ المجهول (2) .
الشرح
خالفه الجمهور في ذلك لقوله عليه السلام "يَحْمِل هذا العلمَ من كلِّ خَلَفٍ عُدُوْلُه" (3) .
_________
(1) في متن هـ: ((الحنفية)) .
(2) والمجهول: هو كل من لم تُعرف عينه أوصفته. فعلى هذا جهالة الراوي على ضَربين. الضرَّبْ الأول: مجهول العين: وهو كل من لم يَرْوِ عنه إلا راوٍ واحدٌ ولم تُعلم حاله. أي لم يُوثَّق. والضرب الثاني: مجهول الحال ويّسمى بالمستور: وهو من روى عنه اثنان فأكثر لكن لم يوثَّق ولم تعلم عدالته ولا فسقه. وقيل بغير هذين التقسيمين. انظر: جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني 2/151، شرح الكوكب المنير 2/410، إرشاد طلاب الحقائق للنووي ص112، توضيح الأفكار للصنعاني 2/113.
وأما حكم روايته فالجمهور على عدم قبول روايته إلا إذا ارتفعت جهالته. ورأي أبي حنيفة ورواية عن الإمام أحمد في مقابل المشهور قبول رواية المجهول، لكن ليس أيَّ مجهول كان. وقال السرخسي في أصوله (1/352) "المجهول من القرون الثلاثة عَدْل بتعديل صاحب الشرع إياه ما لم يتبين منه ما يزيل عدالته، فيكون خبره حجة على الوجه الذي قررنا". قال علاء الدين النجاري في كشف الأسرار (2 / 719) ((فأما في زماننا فخبر مثل هذا المجهول لا يقبل، ولا يصح العمل به ما لم يتأيّد بقول العدول، ولهذا لم يجوّز أبو يوسف ومحمد رحمهما الله القضاء بشهادة المستور لأنهما كانا في زمن فشو الكذب)) .

وبهذا التحقيق والتحرير عُلم أن أبا حنيفة وأتباعه لا يقبلون رواية المجهول مطلقاً ما لم يكن من أهل القرون المفضلة الثلاثة الأولى. انظر المسألة في: الفصول في الأصول للجصاص 3 / 134، إحكام الفصول ص367، شرح اللمع للشيرازي 2/639، التمهيد لأبي الخطاب 3/121، المحصول للرازي 4/402، المغني في أصول الفقه للخبازي ص202، البحر المحيط للزركشي 6/159، التلويح للتفتازاني 2/10، 13، تيسير التحرير 3/48، فتح المغيث للسخاوي 2/52، شرح شرح النخبة للقاري ص514.
(3) تمام الحديث "ينفون عنه تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين" رواه البزار كما في: كشف الأستار للهيثمي (1/86) ، والطبراني في مسند الشاميين (1/344) ، والعقيلي في الضعفاء (1/9) ، وابن عدي في الكامل (1/152، 153) ، وغيرهم.
* وحشد الخطيب البغدادي طرقاً عديدة للحديث في كتابه: "شرف أصحاب الحديث" ص (63 - 68) ، كما عقد ابن القيم فصلاً خاصاً في بيانه طرقه في كتابه "مفتاح دار السعادة" (1/497) بتحقيق علي بن حسن الحلبي.
? ... أما درجة الحديث: فمن العلماء من ضعفه، ومنهم من حسّنه. فمن ضعفه: زين الدين العراقي في "التقييد والإيضاح" ص138، والبُلقيني في "محاسن الاصطلاح" ص219. والسخاوي في "فتح المغيث" 2/14. وضعَّفه الشيخ فهد الدوسري في كتابه: الروض البسام في تخريج أحاديث فوائد تمام (1/142 ـ 146) .
? ... وممن صححه: العلائي في "بغية الملتمس في سباعيات مالك بن أنس" بتحقيق حمدي السلفي ص34 ـ 35 وقال عنه "هذا حديث غريب صحيح". والقسطلاني في "إرشاد الساري" (1/4) . وقال الشيخ علي بن حسن الحلبي "وخلاصة القول في هذا الحديث ـ إن شاء الله ـ أنه حسن لغيره، لأن عدداً من طرقه خالٍ من الضعف الشديد، فمثلها بالتعدد تَجْبرُ الضعف" هامش (3) على مفتاح دار السعادة لابن القيم بتحقيقه (1/500) . وقال ابن الوزير اليماني في "العواصم والقواصم" (1/312) "وقد رويت له شواهد كثيرة.. وضعفها لا يضرُّ، لأن القصد التقّوي بها، لا الاعتماد عليها مع أن الضعف يعتبر إذا لم يكن ضعفاً بمرَّة أو باطلاً أو مردوداً أو نحو ذلك. فهذه الوجوه مع تصحيح أحمد وابن عبد البر وترجيح العقيلي لإسناده مع أمانتهم واطلاعهم يقتضي بصحته أو حسنه إن شاء الله تعالى".

(2/240)


وهو (1) صيغته (2) صيغةُ الخبر ومعناه الأمر، تقديره (3) : لِيَحْملْ هذا العلم [من كل خَلَفٍ عُدولُه] (4) . فلولا أن العدالة شرط (5) لبطلتْ (6) حكمة (7) هذا الأمر فإن العدل وغيره سواء حينئذٍ.
احتج أبوحنيفة: بقوله تعالى (8) : {إن جاءكم فاسق بنبأ فتثبتوا} (9) . أوجب الله تعالى التثبت عند وجود الفسق، فعند عدم* الفسق وجب أن لا يجب التثبت، فيجوز العمل وهو المطلوب.
ولقوله (10) تعالى: {فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون} (11) .
_________
(1) ساقطة من ق.
(2) ساقطة من ن.
(3) في ق: ((أي)) .
(4) ما بين المعقوفين ساقط من ق. قد جاء في بعض طرق الحديث رواية بلفظ "لِيَحْمِلْ هذا العلم ... " بلام الأمر، انظرها في كتاب: الجرح والتعديل لابن أبي حاتم 2/17.
(5) هنا زيادة: ((وإلا)) في ن، والسياق مستقيم بدونها.
(6) في س: ((لبطل)) ، وفي ن: ((أُبطلتْ)) .
(7) ساقطة من س.
(8) هذا الدليل الأول لأبي حنيفة.
(9) الجحرات، الآية: 6.
(10) في ق: ((وبقوله)) خلافاً لجميع النسخ، وهو صحيح، تقديره: واحتج أبو حنيفة بقوله تعالى.. وهذا هو الدليل الثاني.
(11) التوبة، الآية: 122.

(2/241)


أوجب الحذر عند قولهم ولم يشترط العدالة، فوجب جواز (1) قبول (2) قول (3) المجهول.
ولأن (4) أعرابياً جاء يشهد (5) عند رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهلال فقبل شهادته وأمر الناس بالصوم (6) . وإذا جاز ذلك في الشهادة جاز في الرواية بطريق الأولى؛ لأن الشهادة يشترط فيها ما لا يشترط في الرواية من الذكورية (7) والحرية والعدد وغير ذلك (8) .
والجواب عن الأول: أنا إذا علمنا زوال الفسق ثبتت (9) العدالة؛ لأنهما ضدَّان لا ثالث لهما، متى عُلم نفي (10) أحدهما ثبت الآخر. وعن الثاني: أن الطائفة مطلقةٌ في الآية فتُحمل على ما تقدَّم من تقييد السنة بقوله عليه السلام ". يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله". وعن الثالث: أن القصة محتملة من حيث اللفظ، وليس في الحديث أنه كان مجهولاً ولا معلوماً (11) ، غير أن قضايا الأعيان تتنزل (12) على القواعد،
_________
(1) ساقطة من ق.
(2) ساقطة من ق، ن.
(3) ساقطة من س.
(4) في س: ((أو لأن)) وهو تحريف. وهذا هو الدليل الثالث لأبي حنيفة.
(5) في ق: ((فشهد)) .
(6) لفظ الحديث، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرابي فقال: إني رأيت الهلال ـ يعني رمضان ـ فقال: ((أتشهد أن لا إله إلا الله؟)) . قال: نعم. قال: ((أتشهد أن محمداً رسول الله؟)) قال: نعم. قال: ((يا بلال، أذَّنْ في الناس فليصوموا غداً)) . هذا لفظ أبي داود في سننه (2340) وأخرجه الترمذي (691) ، والنسائي (2111) ، وابن ماجة (1652) وغيرهم. والحديث ضعفه الألباني في إرواء الغليل (4/15) ، وحسين سليم أسد في تحقيقه لمسند أبي يعلى (4/407) ، وصححه الحاكم في مستدركه (1/424) ووافقه الذهبي، وصححه الأعظمي في تحقيقه لصحيح ابن خزيمة (3/208) .
(7) جاءت هذه العبارة في ن هكذا "ما لا يشترط في الرواية المذكورة من الحرية ... "، والمثبت أنسب.
(8) انظر الفروقات بين الشهادة والرواية في: الرسالة للشافعي ص 372، أصول السرخسي 1/353، الفروق للقرافي 1/4، نفائس الأصول 7/2969، جمع الجوامع شرح المحلي بحاشية البناني 2/161، شرح الكوكب المنير 2/378، الكفاية في علم الرواية ص94، تدريب الراوي للسيوطي 1/392.
(9) في ق: ((تثبت)) .
(10) ساقطة من ق، وهو سقطُ مُخِلّ.
(11) يمكن أن يقال بأن هذا الأعرابي صحابيٌ ـ على حدّ من عرَّفه بكل من لقي النبي صلى الله عليه وسلم وآمن به ـ وإذا كان صحابياً فالصحابة عدول.
(12) في س: ((تمزل)) وهي تحرَّفه.

(2/242)


وقاعدة الشهادة العدالة (1) ، ولو نُقِل عن بعض قُضَاة الزمان أنه حكم بقول رجلٍ ولم يذكر صفته حُمِل على أنه ثبتتْ (2) عنده عدالته [فرسول الله صلى الله عليه وسلم أولى] (3) لاسيما وهو يقول: "إذا شهد ذَوَا عَدْل فصوموا وأفطروا وانْسُكوا" (4) فتصريحه (5) عليه السلام بالعدالة يأبى قبول شهادة المجهول.
طرق معرفة العدالة
وتثبت العدالة إما بالاختبار أو بالتزكية (6) واختلف الناس* في اشتراط العدد (7) في التزكية والتجريح (8) فشَرَطَه بعض المحدثين (9)
في التزكية والتجريح
_________
(1) انظر: الكفاية في علم الرواية للخطيب ص82، فتح المغيث للسخاوي 2/58.
(2) في ق: ((تثبت)) ، وفي س: ((ثبت)) .
(3) في ن فكيف برسول الله صلى الله عليه وسلم.
(4) الحديث من رواية عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب قال: إنا صحبنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وتعلمنا منهم، وإنهم حدثونا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن أغمي علكيم فعدُّوا ثلاثين، فإن شهد ذوا عدلٍ فصوموا وأفطروا وانسكوا" رواه الدارقطني في سننه 2/167، وبألفاظٍ متقاربة رواه الإمام أحمد في مسنده 4/321، والنسائي (2115) ، وصححه الألباني في إرواء الغليل 4/16.
(5) في ن: ((فصريحه)) وهو تحريف.
(6) ذكر المصنف في المتن طريقين من طرق معرفة العدالة، منها الأول: الاختبار بمعرفة أحواله بالمخالطة، والثاني: التزكية، ويُطْلق عليها المحدثون "التنصيص على العدالة". وذكر المصنف ـ في شرحه ـ طريقاً ثالثاً وهو: الاستفاضة واشتهار أمره بالعدالة بين أهل النقل. انظر المسألة في: المحصول للرازي 4/408، فواتح الرحموت 2/188، رفع النقاب القسم 2/658، نشر البنود 2 / 47، علوم الحديث لابن الصلاح ص105، المنهج الإسلامي في الجرح والتعديل د. فاروق حمادة ص164.
(7) مأخذ خلافهم نابع عن توصيف حالة المزكّي؛ أهو مُخْبِرٌ فيكتفى بالواحد أم شاهدٌ فيُشترط العدد؟ انظر: شرح مختصر الروضة للطوفي 2/168، وانظر المسألة في: إحكام الفصول 369، التلخيص للجويني 2/361، نهاية الوصول للهندي 6/2895، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/64، شرح الكوكب المنير 2/424، تيسير التحرير 3/58، الكفاية في علم الرواية للخطيب ص96، الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكنوي ص111، فتح المغيث للسخاوي 2/7.
(8) في متن هـ ((الترجيح)) وهو تحريف.
(9) نسبه الغزالي في المستصفى (1/303) ، والرازي في المحصول (4/408) لبعض المحدثين. وحكاه الباقلاني عن أكثر فقهاء المدينة. انظر: البحر المحيط للزركشي 6/166، قال الأبياري: ((أما عدد مزكِّي الشاهد ومجرِّحه فهو ثابت عند مالك، ولا أعرف له نصاً في تعديل الراوي وتخريجه، والذي يقتضيه قياس مذهبه أن يشترط العدد فيهما جميعاً)) التحقيق والبيان في شرح البرهان (رسالة جامعية) ص 729 - 730. وقال ابن حجر في فتح الباري (5/274) "إنه المُرجَّح عند الشافعية والمالكية وقول محمد بن الحسن واختاره الطحاوي"..وانظر: الضياء اللامع 2 / 199، توضيح الأفكار للصنعاني 2/87، البيان والتحصيل لابن رشد 10 / 112.

(2/243)


في (1) الرواية والشهادة.
واشترطه القاضي أبو بكر (2) في تزكية الشهادة (3) فقط (4) واختاره الإمام فخر الدين (5) .
إبداء أسباب الجرح والتعديل:
وقال الشافعي (6) : يشترط إبداء سبب التجريح دون التعديل (7) لاختلاف المذاهب، والعدالة شيء واحد، وعكس* قوم (8) لوقوع الاكتفاء بالظاهر في العدالة
_________
(1) في س: ((و)) وهو خطأ، لإخلالها بالمعنى المراد.
(2) في نسبة اشتراط العدد في الشهادة فقط دون الرواية للقاضي أبي بكر نظر، بل مذهبه جواز الاكتفاء بمزكٍّ واحدٍ في الرواية والشهادة. قال الجويني في التلخيص (2/362) "والقاضي رضي الله عنه يشير في تضاعيف الكلام إلى الاكتفاء بمزكٍّ واحدٍ في الشهود" وقال الرازي في المحصول (4/408) "وقال القاضي أبوبكر: لا يشترط العدد في تزكية الشاهد ولا في تزكية الراوي، وإن كان الأحوط ـ في الشهادة ـ الاستظهار بعدد المزكيّ". وانظر: الإحكام للآمدي 2/85، رفع الحاجب 2 / 388.
(3) في ن: ((الشاهد)) .
(4) هنا زيادة جاءت في النسخة ن: " ولم يشترطه القاضي أبوبكر فيهما، واشترطه قومٌ في تزكية الشهادة فقط" لم ترد هذه الزيادة بتَّةً في كل نسخ المتن والشرح المخطوطة، ولا عند كلِّ مَنْ شرح تنقيح الفصول، علماً بأن هذه الزيادة تهدم ما قبلها من مذهب القاضي وتفيدنا بمذهبه على الحقيقة.
(5) انظر: المحصول له (4/408) .
(6) انظر النسبة إليه في: الأم 6/205، البرهان للجويني 1/400، المحصول للرازي 4/409.
(7) هذه مسألة يُعْنون لها في علوم الحديث: بالجرح المبهم أو المجمل والجرح المفسَّر وكذا التعديل. فهل يشترط إبداء أسباب الجرح والتعديل؟. فيها أربعة أقوال، الأول: يكفي إطلاق الجرح والتعديل دون إظهار سببهما. الثاني: عكسه، يشترط إظهار سببهما، لأن الجارح قد يجرح بما لا يقدح، وثناء الناس في الثناء والتوثيق بما لا يقتضي العدالة. الثالث: يشترط إبداء أسباب الجرح دون التعديل، أما الأول فلاختلاف الناس فيما يجرح فلو أظهره ربما لم يُوافق عليه، وأما الآخر فلكثرة أسباب التعديل. الرابع: عكسه، يشترط إظهار أسباب التعديل دون الجرح، لكثرة التصنُّع في أسباب العدالة. انظر: الإحكام للآمدي 2/86، كشف الأسرار للبخاري 3/143، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/65، البحر المحيط للزركشي 6/178، التوضيح لحلولو ص314، شرح الكوكب المنير 2/420، تيسير التحرير 3/61، الكفاية للخطيب ص99، 107، توضيح الأفكار للصنعاني 2/94، تدريب الراوي للسيوطي 1/359، الرفع والتكميل في الجرح والتعديل للكنوي ص79.
(8) لم أر أحداً ذكر تسميتهم غير أن الجويني في البرهان (1/400) ، والغزالي في المنخول ص (262) نسبه للقاضي أبي بكر، وهو وَهْم كما أبانه الزركشي في البحر المحيط (6/180) ، إذ مذهب القاضي عدم اشتراط إبداء أسباب الجرح والتعديل كما سيأتي.

(2/244)


دون التجريح، ونفى ذلك القاضي أبو بكر فيهما (1) .
الشرح
الاختبار: كالمعاملة (2) والمخالطة (3) التي تطلَّع على خبايا النفوس ودسائسها، والتزكية: ثناء العدول* المبرِّزين عليه بصفات العدالة على ما تقرَّر في كتب (4) الفقه (5) . وتُعلم العدالة أيضاً بغير هاتين الطريقتين وهي السُّمْعة (6) الجميلة المتواترة (7) أو المستفيضة، ولذلك نقطع بعدالة أقوام من العلماء والصلحاء من سلف هذه الأمة ولم نختبرهم (8) ، بل بالسماع المتواتر أو المستفيض، فهذا كافٍ وقد نصَّ الفقهاء على أن (9) من عُرِف بالعدالة لا تطلب (10) له تزكية (11) .
_________
(1) قال الزركشي في البحر المحيط (6/180) "وهذا هو اختيار القاضي أبي بكر، كذا نصَّ عليه في التقريب"، وممن نسبه إليه الخطيب البغدادي في الكفاية في علم الرواية ص (107) ، والغزالي في المستصفى 1/303، والرازي في المحصول 4/410.
(2) في ن: ((بالمعاملة)) .
(3) هنا زيادة: ((والمعاملة)) في ن وهي مكررة.
(4) في س: ((كتاب)) والمثبت أنسب، لأنه جمع وهو أدلُ على المراد.
(5) هذه مسألة: ما تقع به ألفاظ التعديل، وصفتها مذكورة في كتب الفقه. حكى الباجي بأن مذهب مالك أن يقول المزكِّي: "فلان عَدْل رَضِيٌّ" ومذهب الشافعي بأن يقول: "فلان عَدْل مقبول الشهادة عَليَّ ولي". وبعضهم يقول: "لا أعلم إلا خيراً" انظر: إحكام الفصول ص370، رفع النقاب القسم 2/659، وانظر: كتب الفقه في أبواب الشهادة مثل: الحاوي للماوردي 16/194، المغني لابن قدامة 14/47، الذخيرة 10/204.
(6) في ن: ((السمعية)) وهو تحريف.
(7) ساقطة من ن.
(8) تفردت نسخة ق بكلمة ((ولم نرهم)) وهو متَّجِه.
(9) ساقطة من ن.
(10) في ق: ((يطلب)) .
(11) عقد الخطيب البغدادي في الكفاية ص (86) باباً ترجمته: "في المحدِّث المشهور بالعدالة والثقة والأمانة لا يحتاج إلى تزكية المعدِّل"، ومثَّل: بمالك والثوري وابن عيينة وشعبة والأوزاعي والليث بن سعد، وحماد بن زيد، وابن القطان، وابن المبارك، وابن حنبل، وابن المديني، وابن معين، ومن جرى مجراهم في نباهة الذكر واستقامة الأمر. فهؤلاء لا يُسأل الناس عنهم، بل هم يُسألون عن الناس.

(2/245)


حجة اشتراط العدد في الجميع: أن التجريح والتعديل [صفتان فيحتاجان] (1) إلى عَدْلين فصاعداً كالترشد والتسفيه والكفاءة وغيرها.
حجة القاضي أبي بكر: أن الرواية يكفي فيها الواحد على الصحيح فأصلها كذلك، والشهادة لا يكفي فيها الواحد، فلا يكفي في أصلها (2) الواحد تسويةً بين البابين والفروع والأصول (3) ، وأما إبداء أسباب التجريح و (4) التعديل (5) فالفقه (6) فيه أن المُجرِّح والمُعدِّل إذا كان (7) عالماً مبرزاً (8) اكتفى الحاكم بعلمه عن سؤاله، فإن العالم لا يجرِّح إلا بما لو صرَّح به للحاكم (9) كان جرحاً، وكذلك التعديل.
وأما اختلاف المذاهب (10) : فالعالم المُتْقِن لا يجرح بأمرٍ مُخْتَلف فيه يمكن أن يصح التقليد فيه، ولا يُفسِّق بذلك إلا جاهل، فما من مذهب إلا وفيه أمور ينكرها أهل المذهب الآخر، ولا سبيل إلى التفسيق بذلك، وإلا لفسَّقتْ كلُّ طائفةٍ الطائفةَ (11) الأخرى، فتفْسُق جميع الأمة، وهو خلاف الاجماع، بل كل من قلَّد تقليداً صحيحاً فهو مطيع لله تعالى، وإن كان غيره من المذاهب يخالفه (12) في ذلك.
_________
(1) في س: ((صنفان محتاجان)) .
(2) ساقطة من ن.
(3) قد علمت أن هذا ليس مذهباً للقاضي أبي بكر، بل هو ما اختاره الرازي وغيره. فعلى هذا تكون حجة القاضي في الاكتفاء بمزكٍّ واحدٍ في الرواية والشهادة هي: أن إخبار المعدِّل عن عدالة الراوي أو الشاهد من قبيل الأخبار، ولهذا لا يشترط فيها لفظ الشهادة، فتزكيته لا تجري مجرى الشهادات. انظر: التلخيص للجويني 2/362.
(4) في ق: ((دون)) بدلاً من الواو، وهو خطأ بيّن، يتناقض بما جاء بعده.
(5) مراد المصنف هنا إيراد حجة القاضي أبي بكر في نفي اشتراط إبداء أسباب التجريح والتعديل، لأنه ذكر حجة الشارطين لإبداء سبب التجريح دون التعديل وذكر حجة الشارطين لإبداء سبب التعديل دون التجريح، ولم يذكر حجة النافين فيهما، فكان من الأولى للمصنف أن يقول هنا "وأما عدم إبداء أسباب التجريح والتعديل ... " أمْناً للبّسْ. والله أعلم.
(6) في س: ((والفقه)) وهو خطأ لوجوب اقتران جواب ((أما)) الشرطية بالفاء.
(7) في ق: ((كانا)) وهو تصحيف بقرينة ما بعدها.
(8) في ن: ((ممَّيزاً)) .
(9) في ق: ((الحاكم)) وهو تحريف.
(10) هذا جواب عمن اشترط إبداء سبب التجريح دون التعديل لاختلاف المذاهب، فقد يَجْرح بأمرٍ يسع فيه الخلاف فلا يكون جرحاً.
(11) ساقطة من ن.
(12) في ن: ((مخالفاً)) ، وفي س: ((مخالفه)) .

(2/246)


وأما الاكتفاء بالظاهر (1) ؛ فهو (2) شأن الجهلةِ (3) الأغبياءِ (4) الضعفاءِ الحزم (5) والعزم ومثل هؤلاء لا ينبغي للحاكم الاعتماد على قولهم في التزكية. وكل من كان يغلب عليه حسْنُ الظن بالناس لا ينبغي أن يكون مزكِّياً ولا حاكماً لبعده من الحزم (6) . وقد قال صلى الله عليه وسلم "الحزْمُ سوءُ الظن" (7)
فمن ضيع سوء
_________
(1) هذا جواب عمن اشترط إبداء سبب التعديل دون التجريح، وذلك لأن الناس يكتفون بالظاهر في العدالة، وهو لا يكفي.
(2) في س: ((هو)) وهو خطأ لأن جواب ((أما)) الشرطية يجب اقترانه بالفاء.
(3) هنا زيادة: ((و)) في ن.
(4) هنا زيادة: ((من)) في ق.
(5) في ق: ((الجزم)) وهو بمعنى العزم، والمثبت هو الصواب للحديث الآتي، ولأن التأسيس أولى من التأكيد.
(6) في س، ق: ((الجزم)) راجع هامش قبل السابق.
(7) روى هذا الحديث مرفوعاً وموقوفاً. فأما المرفوع فأخرجه القُضاعي في "مسند الشهاب" (1/48) عن عبد الرحمن بن عائذ رفعه مرسلاً، وأورده العلائي في "جامع التحصيل في أحكام المراسيل" ص (223) على أنه مرسل. وقال الألباني عنه في "سلسلة الأحاديث الضعيفة" برقم (1151) "ضعيف جداً"، وضعَّفه ابن الدبيغ في "تمييز الطيب من الخبيث" ص (70) . وأما الموقوف فقال السيوطي في "الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة " ص112: "رواه أبو الشيخ بسندٍ واه جداً عن علي موقوفاً". ويُروى مَثَلاً كما في "شعب الإيمان" للبيهقي (8/543) و"روضة العقلاء" لابن حبان ص (22) عن جرير عن الحكم بن عبد الله قال: "كانت العرب تقول: العقل التجارب، والحزم سوء الظن" وانظر: "مجمع الأمثال" للميداني (1/208، 214) . وللحديث شواهد، منها: حديث "احترسوا من الناس بسوء الظن". روُي مرفوعاً ومقطوعاً..فأما المرفوع فأخرجه الطبراني في "الأوسط" بتحقيق محمود الطحان برقم (602) ، وابن عدي في الكامل (6/403) ، وتمَّام في فوائده بتحقيق حمدي السلفي (1/692) ، وقال الألباني عنه في: سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم (156) "ضعيف جداً". وأما المقطوع فله طريقان؛ الأول: من قول التابعي مطرِّف بن عبد الله بن الشِّخِّير، وصححه ابن حجر في "فتح الباري" (10/650) . والثاني: من قول الحسن البصري وصححه الألباني في: سلسلة الأحاديث الضعيفة برقم (156) ، وقال السخاوي عن هذين الحديثين في "المقاصد الحسنة" ص (43) : "وكلها ضعيفة، وبعضها يتقوى ببعض، وقد أفردْتُه في جزء، وأوردتُ الجمع بينها وبين قوله تعالى: {اجتنبوا كثيراً من الظن} [الحجرات:12] وما أشبهها مما هو في الحديث ... ". قال المناوي في "فيض القدير" (1/235) "ولا يعارض هذا خبر ((إياكم وسوء الظن" لأنه فيمن تحقق حسن سريرته وأمانته، والأول فيمن ظهر منه الخداع والمكر وخُلْف الوعد والخيانة، والقرينة تُغلِّب أحد الطرفين، فمن ظهرت عليه قرينةُ سوءٍ يُسْتعمل معه سوء الظن وخلافه خلافه، وفي إشعاره تحذيرٌ من التغفُّل وإشارةٌ إلى استعمال الفطنة". وقال البغوي في "شرح السنة" (13/111) . "فأما استعمال سوء الظن إذا كان على وجه الحذر وطلب السلامة من شر الناس فلا يأثم الرجل". وفي "الجرح والتعديل" لابن أبي حاتم (2/35) "قال أحمد بن سنان: سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول: "خصلتان لا يستقيم فيهما حسن الظن: الحكم، والحديث. يعني لا يُسْتعمل حسن الظن في قبول الرواية عمن ليس بمَرْضي". وانظر: "روضة العقلاء" لابن حبان ص (127) .

(2/247)


الظن (1) فقد ضيَّع الحزم (2) ، نعم (3) لا ينبغي أن يبني على سوء ظنه شيئاً إلا لمستند شرعي، وهو معنى قوله تعالى "اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم" (4) أي: اجتنبوا العمل به حتى يثبت بطريق شرعي (5) . فالحقُّ مذهبُ القاضي.
تعارض الجرح والتعديل
ويُقدَّم الجرح على التعديل (6) إلا أن يَجْرَحه (7) بقتل إنسانٍ، فيقول المعدِّل: رأيْتُهُ حيّاً. وقيل: يُقدَّم المعدِّل إن (8) زاد عدده.
الشرح
إنما قُدِّم الجرح (9) لأن الجارح مطَّلع على ما لم (10) يطَّلعْ عليه المُعدِّل؛ [لأن المعدِّل] (11) مدركه استصحاب الحال، والمطَّلعُ على الرافع للاستصحاب (12) مقدَّمٌ على
_________
(1) في س: ((الجزم)) وهو خطأ واضح.
(2) في ق: ((الجزم)) راجع هامش.
(3) في ن: ((ثم)) .
(4) الجحرات، من الآية: 12.
(5) انظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 16/331، روح المعاني للألوسي 13/307.
(6) هذه مسألة تعارض الجرح والتعديل. ذكر المصنف فيها قولين؛ الأول: تقديم الجرح على التعديل ولو زاد عدد المعدِّلين. والمراد بالجرح هنا الجرح المفسَّر. وهذا رأي جمهور المحدثين والأصوليين. الثاني: عكسه إذا زاد عدد المعدِّلين. الثالث: التوقف لأجل التعارض، فلا يُقدَّم أحدهما إلا بمرجِّحٍ. انظر: إحكام الفصول ص376، المحصول للرازي 4/410، الإحكام للآمدي 2/87، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/65، البحر المحيط للزركشي 6/183، فواتح الرحموت 2/197، الكفاية للخطيب ص 105، تدريب الراوي للسيوطي 1/364، اليواقيت الدرر للمناوي 2/624، الرفع والتكميل للكنوي ص114.
(7) هنا زيادة: ((إنسان)) في ن وقد خلت منها جميع نسخ المتن.
(8) في متن هـ: ((إذا)) وهو مقبول أيضاً.
(9) في ن: ((المجرح)) .
(10) في س: ((لا)) وهو خطأ نحوي، لأن " لا " النافية إذا دخلت على المضارع تخلِّص المضارع بها للاستقبال، ونفي الاطلاع في الاستقبال حاصل للجارح والمعدِّل. وأما "لم" فلنفي المضارع وقلبه ماضياً. انظر: مغني اللبيب لابن هشام 1 / 474، 1 / 528.
(11) ساقطة من ن.
(12) ساقطة من ن.

(2/248)


المتمسِّك بالاستصحاب. أما إذا (1) جَرَحه بقتل من شُهِد بحياته فلا يمكن أن يقال اطَّلع الجارحُ على ما ذَهَل عنه المعدِّل فيحصل التعارض (2) والتوقف (3) ، وليس أحدهما أولى من الآخر فتُسْتصحِب الحالةَ السابقة المتقرِّرة من غير هاتين البيِّنتين، وكأنَّ هاتين البينتين ما وجدتنا.
ووجه تقديم (4) العدد الأكثر: أن الكثرة تقوِّي الظن والعمل بأقوى الظنين واجب كما في الأمارتين والحديثين وغيرهما.
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) في س: ((للتعارض)) التحمت الألف باللام.
(3) لأن كل واحدٍ منهما ادعى المعرفة بما أخبر به.
(4) في ن: ((تقدم)) ، وفي س: ((القول)) وهو خطأ إلاّ أن يكون بعدها ((بالعدد)) وهو ما لم يكن.

(2/249)


الفصل السادس
في مستند الراوي (1)

[فأعلى مراتبه] (2) أن يَعْلم (3) قراءته على شيخه أو (4) إخباره به (5) (6) و (7) يتفكر (8) ألفاظ قراءته. وثانيها: أن يَعْلم قراءة (9) جميع الكتاب ولا يَذْكُر الألفاظ ولا الوقت.
وثالثها: أن يشكَّ في سماعه فلا يجوز (10) له روايته (11) بخلاف الأوَّلين (12) .
_________
(1) أي في بيان الشيء الذي يستند إليه راوي الحديث، وترجم الرازي في المحصول (4/415) لهذا الباب بقوله: "في الأمور التي تجب ثبوتها حتى يحلّ للراوي أن يروي الخبر".
تنبيه: كان الأليق بالمصنف أن يُدرج هذا الفصل ضمن مسائل الفصل التاسع "في كيفية الرواية" لتشابه مباحثهما. انظر: التوضيح لحلولو ص315.
(2) في جميع نسخ المتن والشرح "فأعلاه" فقط، ويكون عود الضمير إلى "مستند" والمثبت هنا من النسختين م، ش، وهو الأوفق، لأنه سيذكر بعد ذلك: ثانيها وثالثها ورابعها فيكون عود الضمير حينئذٍ إلى "مراتبه". وهكذا كان الشأن في المحصول للرازي 4/415.
(3) في ق: ((تعلم)) والمثبت أنسب للسياق.
(4) في ن: ((و)) والمثبت أنسب لإفادة معنى التنويع والتقسيم.
(5) ساقطة من س. وفي ن، ق: ((له)) . والمثبت من بعض نسخ المتن، هـ، ومتن د، ومتن ف، وهو الأنسب لأن أخبر تارة يتعدّّى بنفسه، وتارة يتعدَّى بالباء. انظر: معاجم اللغة مادة " خبر ".
(6) هنا زيادة: " أو إجازته له " في س، خلت منها جميع نسخ المتن.
(7) انفردت النسخة س بالواو، وهو الصواب، لإفادتها معنى التشريك والعطف، وهي هكذا في المعتمد (2 / 142) ، والمحصول (4 / 415) ، ثم إن السياق يقتضيها بقرينة ما جاء في المرتبة الثانية.
(8) يريد المصنف بقوله: ((يتفكَّر)) أي. يتذكَّر بقرينة ما جاء في المرتبة الثانية، و" التذكر " عبارة عن المحصول 4/415.
(9) ساقطة من ق، وفي س: ((قرآءته)) وهي صحيحة أيضاً.
(10) في ق: ((تجوز)) .
(11) في س: ((رواية)) .
(12) حق هذه المرتبة أن تكون في المرتبة الرابعة، والرابعة في الثالثة، لأن المرتبة الثالثة انْزلُ في العلو من المرتبة الرابعة، إذ الجمهور على جواز اعتماد الراوي على خطه، وعدم جواز اعتماده على رواية خبرٍ يشكُّ في سماعه.

(2/250)


ورابعها: أن يعتمد على خطه (1) فيجوز عند الشافعي وأبي يوسف (2) ومحمد (3) خلافاً لأبي حنيفة (4) .
الشرح
إذا عَلِم قراءة جميع الكتاب (5) ولا يَذْكُر نطقه به (6) فهو جازم بروايته عن (7) شيخه من حيث الجملة، فيجوز العمل بما رواه لحصول الثقة بذلك، كما أن (8) مَنْ يَقْطع بأنه رأى مسألة في كتاب ولا يتذكر (9) صورة حروفها يجوز له (10) الاعتماد على ما جزم به
_________
(1) أي: أن الراوي لم يتذكر سماعه ولا قرآءته، لكنه يظن ذلك لما رآه من خطه. والضمير في "خطة" يحتمل عَوْده على شيخه أو على نفس الراوي، ولا مانع من كليهما. انظر: رفع النقاب القسم (2/675) ، قال الخبازي "والكتابة إن كانت تُذكِّره فهو حجة يُعمل به، بخطّه أو خط غيره، معروفٍ أو مجهولٍ، إذ المقصود هو الذكر" المغني في أصول الفقه ص222.
(2) هو يعقوب بن إبراهيم بن حبيب الأنصاري، كنيته أبويوسف، ولقبه القاضي، اشتهر بصاحب أبي حنيفة، وله آراء خالف فيها إمامه، ومن تلاميذه: أحمد بن حنبل، ومحمد بن الحسن، من تآليفه: كتاب الخراج (ط) ، أدب القاضي على مذهب أبي حنيفة، وغيرهما. ولد بالكوفة عام 311هـ، وتوفي عام 182هـ. انظر: الجواهر المضنية 2/220، الفوائد البهيَّة 225، وفيات الأعيان 6/378.
(3) هو محمد بن الحسن بن فَرْقد الشيباني، المكْنّى بأبي عبد الله، صاحب أبي حنيفة، لازمه ثم لازم أبا يوسف، ثم رحل إلى المدينة، وأخذ الحديث من الإمام مالك. من تلاميذه: الشافعي. ومن تآليفه: الجامع الكبير (ط) ، الجامع الصغير (ط) ، المبسوط (ط) المسمَّى بالأصل، الحجة على أهل المدينة (ط) . الموطأ بروايته (ط) وغيرها. ولد عام 132هـ وتوفي عام 189هـ. انظر: الجواهر المضية 1/243، الفوائد البهية ص163، وفيات الأعيان 4/184.
(4) انظر المسألة ونسبة هذه المذاهب في: المعتمد 2/142، العدة لأبي يعلى 3/974، شرح اللمع للشيرازي 2/649، قواطع الأدلة 2/354، بذل النظر ص447، المحصول للرازي 4/416، كشف الأسرار للبخاري 3/104، جامع الأسرار للكاكي 3/753، شرح الكوكب المنير 2/258، الكفاية في علم الرواية ص233، 257، الإلماع للقاضي عياض ص 120، 139، علوم الحديث لابن الصلاح ص213.
(5) هذا تعليل جواز استناد الراوي ـ في رواية الخبر ـ إلى ما ذُكِر في المرتبة الثانية.
(6) ساقطة من ن.
(7) في ن: ((على)) .
(8) في س: ((أنه)) .
(9) في ن: ((يذكر)) .
(10) ساقطة من ن.

(2/251)


من ذلك بخلاف الشَّاكِّ (1) لا مستند له، لا علمٌ ولا ظنٌّ.
وأما الاعتماد على الخط فهي مسألةٌ ذاتُ (2) ثلاثةِ أقوال: اعتبره مالك في الرواية والشهادة بناءً على الإنسان قد (3) يقطع بصور الحروف وأنها لم تُبدَّل بقرائن حالية عنده لتلك الحروف لا (4) يمكن التعبير* (5) عن تلك القرائن، كما أن المُنْتَقِد للفضة والذهب يَقْطع [بجيِّدهما ورديئهما] (6) بقرائن في (7) تلك الأعيان لا يمكنه أن يعبر عنها.
وقيل: لا يعتمد على الخطِّ مطلقاً؛ لقوة احتمال التزْوير، ومن استقرأ أحوال المزوِّرين للخطوط علم أن وضع مثل (8) الخط ليس من البعيد المتعذِّر بل من القريب، حتى روى بعض المصنفين في مذهب مالك [أن مالكاً] (9) رجع عن الشهادة على الخطِّ (10) .
وفصّل الشافعي بين الرواية فتجوز؛ لأن الداعية (11) في التزوير فيها ضعيفة، لأنها لا تتعلق بشخص معين، وبين الشهادة (12) فيمتنع، لأنها تتعلق (13) بمعين وهو مظنة العداوة، ولا يتصور أن يعادي أحدٌ الأمةَ إلى [قيام الساعة] (14) ، ولأن الشهادة إنما تقع غالباً في
_________
(1) هنا زيادة: ((لأنه)) في ق، ولا حاجة لها.
(2) ساقطة من أكثر النسخ، والمثبت من نسخة ز، م هو الأنسب.
(3) ساقطة من ن.
(4) في ن: ((ولا)) بزيادة واو.
(5) في ن: ((التغير)) وهو تحريف.
(6) في ن: ((بجيدها ورديئها)) .
(7) ساقطة من ن.
(8) في ق: ((هذا)) وليس لها وجه.
(9) ما بين المعكوفين في ق، ن: ((أنه)) .
(10) انظر: المنتقى للباجي 5/199، الكافي لابن عبد البر 2/915، الذخيرة 10/156، 160، المعيار المعرب للونشريسي 10/196، 210، التوضيح لحلولو 315.
(11) في ن: ((الدعاية)) وهو تحريف.
(12) في س: ((الشهرة)) وهو تحريف.
(13) في ق: ((متعلقة)) ، وفي س: ((متعلق)) وهو خطأ معدوم تأنيثها.
(14) في ق: ((يوم القيامة)) .

(2/252)


الأموال النفيسة، وما (1) هو متعلِّق بالأغراض (2) من الأمور الخطرة (3) فتتوفر (4) الدواعي على التزوير فيها لتحصيلها بمقتضى الطباع البشرية (5) .
_________
(1) ساقطة من س.
(2) في ق، س: ((الأعراض)) بدون الباء. والمثبت هو الصواب لتصوّر تزوير الخطوط في الأغراض دون الأعراض.
(3) في ق: ((الخطيرة)) .
(4) في ن: ((فتتوافر)) .
(5) انظر: نفائس الأصول 7/2973.

(2/253)


الفصل السابع
في عدده (1)
والواحد عندنا وعند جمهور الفقهاء يكفي خلافاً للجُبَّائي (2) في اشتراط (3) اثنين (4) أو يعضد الواحدَ ظاهرٌ (5) أو عملُ بعض الصحابة أو اجتهادٌ (6) أو يكون منتشراً فيهم، ولم يقبل في الزنا إلا أربعة. لنا أن الصحابة رضوان الله عليهم قبلوا خبر عائشة رضي الله عنها في التقاء الختانين (7) وحدها وهو مما تعم به البلوى.
الشرح
احتج الجُبَّائي بأن رسول الله (8) صلى الله عليه وسلم لما سلم من اثنين قال له ذو اليدين (9) : أقَصُرتْ الصلاة أم نسِيْتَ يا رسول الله؟ ‍فقال: ((كلُّ ذلك لم يكن. فقال: قد كان بعض ذلك يا رسول الله، فقال عليه السلام للصحابة "أحقٌّ ما يقول ذو اليدين؟ "
_________
(1) المراد بالمسألة: هل يشترط أن يتعدد خبر الواحد حتى يحتجَّ به؟ وقد تقدَّم طَرَفٌ منها في الفصل الخامس، عند ذكر أقوال وجوب التعبد بخبر الواحد، ولو ألحقها المصنف في الفصل الثامن "فيما اختلف فيه من الشروط لكان أليق بالترتيب، وهو صنيع المحصول 4/417.
(2) انظر مذهبه ومذهب الجمهور في: المعتمد 2/138، إحكام الفصول ص334، شرح اللمع للشيرازي 2/603، التبصرة ص312، البرهان 1/392، أصول السرخسي 1/321، 331، الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 4 / 386، المحصول للرازي 4/417، شرح مختصر الروضة 2/133، النكت على كتاب ابن الصلاح لابن حجر ص42، تدريب الراوي للسيوطي 1/69.
(3) في س، متن هـ: ((اشتراطه)) .
(4) في ق: ((الاثنين)) .
(5) أي: نص ظاهر من كتاب أو سنة.
(6) أي قياس.
(7) سبق تخريجه.
(8) هذا الدليل الأول.
(9) ذو اليدين هو: الخِرْباق بن عمرو السُّلمي، ثَبَتَ ذكره بوصف "ذي اليدين" وبأنه رجل من بني سُليم، وبأنه الخِرْباق في صحيح مسلم ((574) في حديث السَّهو. انظر: الإصابة لابن حجر 2/350، أسد الغابة لابن الأثير 2 / 179، شرح صحيح مسلم للنووي 5 / 58 - 60.

(2/254)


فقالوا: نعم (1) فلم يقبل عليه السلام قول ذي (2) اليدين وحده، ولأن عمر رضي الله عنه لم يقبل خبر أبي موسى الأشعري وحده في الاستئذان (3) ، ولم ينكر عليه أحد فكان إجماعاً (4) ، ولأن النصوص مانعة من العمل بالظن كما تقدَّم بيانها (5) خالفناه في العدد إذا أجبروا فيبقى فيما عداه (6) على مقتضى الدليل (7) .
والجواب عن الأول: أنا نقول بخبر المنفرد ما لم تحصل (8) فيه رِيْبةٌ وتلك واقعة عظيمة في جمع عظيم فلو لم يخبر بها غير ذي اليدين لكان ذلك ريبة توجب الرد، فسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم لزوال الريبة، لا لأن العدد شرط.
وكذلك (9) لم يَردَّ عمر رضي الله عنه الخبر إلا لحصول الريبة بسبب أن الاستئذان أمر يتكرر فلو لم يعرفه إلا واحد لكان ذلك ريبة توجب (10) الرد.
_________
(1) حديث ذي اليدين من رواية أبي هريرة وغيره أخرجه البخاري (482) ومسلم (573، 574) بنحوه.
(2) في ق: ((ذو)) والمثبت هو الصواب، لأن الأسماء الخمسة ترفع بالواو، وتنصب بالألف وتجرُّ بالياء. و ((ذو)) من الأسماء الخمسة. انظر: شرح التصريح على التوضيح للأزهري 1 / 61.
(3) قال أبوسعيد الخدري: كنت في مجلسٍ من مجالس الأنصار، إذْ جاء موسى كأنه مذعور، فقال: استأذنت على عمر ثلاثاً فلم يؤذن لي، فرجعْتُ. فقال: ما منعك؟ قلتُ: استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي فرجعْتُ وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤن له فليرجع" فقال: والله لتُقِيمنَّ عليه بيّنة. أمنكم أحدٌ سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. فقال أبيّ بن كعب: والله لا يقوم معك إلا أصغر القوم، فكنتُ أصغر القوم، فقمتُ معه، فأخبرتُ عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال ذلك. أخرجه البخاري (6245) ومسلم (2153) .
(4) هذا الدليل الثاني.
(5) ساقطة من ق. ومن هذه النصوص قوله تعالى: "إن يتَّبعون إلا الظن ... " [الأنفال: 116] ، وقوله "إن الظن لا يغني من الحق شيئاً" [يونس: 36] . انظر ص:
(6) في س: ((عداها)) .
(7) هذا هو الدليل الثالث.
(8) في ق: ((يحصل)) وهو سائغ أيضاً.
(9) هذا الجواب عن الثاني.
(10) في س: ((يوجب)) وهو خطأ نحوي.

(2/255)


وعن الثالث: أن ظواهر تلك النصوص مخصوصة بعمل الصحابة رضوان الله عليهم لقبولهم خبر عائشة المتقدِّم وخبر عبد الرحمن بن عوف في أخذ الجِزْيَة من المجوس (1) لمَّا روى لهم قوله عليه السلام "سُنُّوا بهم سُنَّةَ أهل الكتاب" (2) .
_________
(1) في س "اليهود" وهو خطأ بّين.
(2) رواه الإمام مالك في الموطأ 2/278 برقم (42) عن جعفر بن محمد بن علي عن أبيه أن عمر بن الخطاب ذكر المجوس، فقال: ما أدري كيف أصنع في أمرهم؟ فقال عبد الرحمن بن عوف: أشهد لسمِعْتُ رسول الله يقول: "سُنُّوا بهم سنة أهل الكتاب". قال ابن عبد البر في التمهيد 2/114 "هذا حديث منقطع، لأن محمداً لم يلْقَ عمر ولا عبد الرحمن بن عوف ـ ثم قال ـ ولكن معناه متصل من وجوهٍ حسان". وقال ابن حجر في موافقة الخبر الخبر 1/179 "حديث غريب وسنده منقطع أو معضل". وأورد ابن حجر في تلخيص الحبير (3/177) طريقاً آخر عن زيد بن وهب قال: كنت عند عمر بن الخطاب فذكر عنده المجوس، فوثب عبد الرحمن بن عوف، فقال: أشهد بالله على رسوله الله لسمعته يقول: "إنما المجوس طائفة من أهل الكتاب فاحملوهم على ما تحملون عليه أهل الكتاب" وحسَّن إسناده ابن حجر. والحديث له شاهد عند البخاري برقم (3157) . وانظر: إرواء الغليل للألباني 5/88.

(2/256)


الفصل الثامن
فيما اخْتُلِف (1) فيه من الشروط (2)
قال الحنفية: إذا لم يَقْبَل راوي الأصلِ الحديث لا تُقْبل روايةُ الفرع، قال الإمام: إن جزم* كل واحد منهما لم يُقْبل وإلا عُمِل بالراجح (3) ، وقال أكثر أصحابنا والشافعية والحنفية: إذا شكَّ الأصل في الحديث لا يضر ذلك، خلافاً للكرخي (4) .
_________
(1) في س، ز: ((اختلفوا)) خلافاً لسائر نسخ المتن والشرح.
(2) هذا الفصل في بيان الشروط المختلف فيها؛ هل تعتبر هذه الرواية أو الراوي أم لا؟. قال الرازي في المحصول (4/417) "والضابط في هذا الباب: كل خصلة لا تقدح في غالب الظن بصحة الرواية ولم يعتبر الشرع تحقيقها تعبداً، فإنها لا تمنع من قبول الخبر".
(3) هذا النقل عن الإمام من المحصول (4/421) بمعناه، ولفظُه: "والضابط: أنه حيث يكون قول الأصل مُعادِلاً بقول الفرع تعارضا، وحيث ترجح أحدهما على الآخر فالمعتبر هو الراجح".
(4) يمكن تقسيم مسألة اختلاف الأصل (الشيخ) والفرع (التلميذ) إلى حالتين، الأولى: حالة الجزم، بأن يجزم الأصل بتكذيب الفرع، كأن يقول: ما حدثتك به، ونحو ذلك. وحكمها: حكى الآمدي في الإحكام (2/106) ، وابن الحاجب في منتهى السول ص (84) وغيرهما الاتفاق على ردّ رواية الفرع. فتخصيص المصنف الحنفية بالذكر في رد رواية الفرع فيه قصور من جهة أن المصنف لم يفصح عن نوع عدم قبول راوي الأصل الحديث، هل كان على سبيل الجزم والجحود والتكذيب أم على سبيل الشك والتوقف والنسيان؟ فالأول حُكي فيه الاتفاق على رد رواية الفرع، وليس خاصاً بالحنفية، علماً بأن السيوطي في تدريب الراوي (1/ 395) نقل في المسألة أربعة أقوال؟ الأول: الرد وهو مختار الأكثرين، الثاني: القبول، اختاره السمعاني، وعزاه الشاشي للشافعي، الثالث: تكذيب الأصل لا يقدح في صحة الحديث، إلا أنه لا يجوز للفرع أن يرويه عن الأصل، جزم به الماوردي والروياني، الرابع: أنهما يتعارضان فيُصار إلى ترجيح أحدهما، اختاره الجويني. الحالة الثانية: حالة الشك، بأن يقول الأصل، لا أذكره، لا أعرفه، دون أن يجزم بعدم تحديثه، فجماهير الأصوليين والمحدثين على قبول الحديث، وبعض الحنفية ومنهم الكرخي، وبعض المحدثين يردُّون الحديث..انظر المسألة ومذهب الجمهور ومذهب الكرخي في: العدة لأبي يعلى 3/959، إحكام الفصول ص346، التلخيص للجويني 2/392، أصول السرخسي 2/3، قواطع الأدلة 2/355، كشف الأسرار للنسفي 2/75، البحر المحيط للزركشي 6/221، التوضيح لحلولو ص316، رفع النقاب القسم 2/691، شرح الكوكب المنير 2/537، فواتح الرحموت 2/218، الأقوال الأصولية للإمام الكرخي لفضيلة شيخنا د. حسين الجبوري ص78، الكفاية في علم الرواية للبغدادي ص418، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص651.

(2/257)


الشرح
حجة الحنفية: أن اعتبارَ الفرعِ، فرعُ اعتبار الأصل، والأصل أنكر أن يكون الفرع روى عنه فلا يقبل الفرع، كما لو قال الأصل في الشهادة: لم أعلم هذه الشهادة، أو أجْزِمُ بعدم تحمُّلِها، فإن الشهادة لا تقبل.
قال الإمام فخر الدين (1) : إذا لم يجزم بعدمه بل قال: لا أذْكُر أنه رواه عني قُبِلتْ رواية الفرع، لأن عدالته تقتضي (2) صدقه، وعدم علم الأصل لا ينافي صدقه (3) ، فالمُثْبت مقدَّم على النافي، وإن جزم الأصل بعدم الرواية ولم يجزم الفرع بل قال: الظاهر أني رويته، قدم الأصل لجزمه، وإن جزم كل واحد منهما: هذا بالرواية وهذا بعدمها حصل التوقف، إذ ليس أحدهما أولى من الآخر.
ووجه قول أصحابنا: أنه يقبل في شك الأصل أن عدالة الفرع تمنعه الكذب، والشك من الأصل لا يعارض اليقين.
هل يشترط في الراوي الفقه؟
والمنقول عن مالك رحمه الله أن الراوي إذا لم يكن فقيهاً فإنه كان يَتْرك روايته* (4) ووافقه أبوحنيفة (5) ، وخالفه الإمام فخر الدين وجماعة (6) .
_________
(1) هذا النقل من المحصول (4/421) بمعناه ومفاده، وقد زاد المصنف فيه تعليلات من عند نفسه.
(2) ساقطة من ق.
(3) في س: ((ضده)) وهو تحريف.
(4) نقل عن مالك قوله: ((ما كنا نأخذ الحديث إلا من الفقهاء)) انظر: ترتيب المدارك 1 / 125، إسعاف المبطأ للسيوطي ص 3 وقد فسَّر الولاتي مراد الإمام مالك بالفقه بأنه الفهم لمعنى الخبر الذي يرويه لأمن الغلط فيها. انظر: نيل السول شرح مرتقى الوصول ص 260. وقال حلولو "وعندي أن هذا المروي عن مالك لا يدلُّ على أنه يقول باشتراط الفقه في الراوي، بل لعلَّه على جهة الاحتياط ليبني عليه مذهبه، لا أنه يقول: لا تقبل الرواية إلا من فقيه" التوضيح شرح التنقيح ص (318) .. وممن نسب اشتراط الفقه في الراوي لمالك الشوشاوي في: رفع النقاب القسم 2/695، الرهوني في: تحفة المسئول القسم 2/603، وابن جزي في: تقريب الوصول ص298، والعلوي الشنقيطي في: نشر البنود 2/41.
(5) لكن من الأحناف من يقيد "اشتراط الفقه في الراوي" فيما إذا خالفت الرواية القياس، ومنهم من لا يشترط الفقه أصلاً. انظر مذهب الحنفية في: أصول السرخسي 1/338، المغني في أصول الفقه للخبازي ص207، فتح الغفار لابن نجيم 2/80، تيسير التحرير 3/52، فواتح الرحموت 2/185. وممن اشترط الفقه في الرواية ابن حزم في الإحكام 1/133.
(6) انظر: مذهب الإمام الرازي في المحصول 4/422، وانظر: إحكام الفصول ص366، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/68، شرح مختصر الروضة 2/157، البحر المحيط للرزكشي 6/213، شرح البدخشي 2/350.

(2/258)


الشرح
حجة مالك: أن غير الفقيه يسوء فهمه فيفهم الحديث على خلاف وضعه، وربما خطر له أن ينقله بالمعنى الذي فهمه مُعْرِضاً عن اللفظ (1) ، فيقع الخلل في مقصود الشارع، فالحزم (2) أن لا يُروى عن غير فقيه، [ولقوله صلى الله عليه وسلم "نضَّر الله امْرءاً سمع مقالتي فأداها كما سمعها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقه منه، ورُبَّ حاملِ فقهٍ (إلى من) ليس بفقيه" (3)
فجعل الحامل إما فقيهاً وغيره أفقه منه أو غيره جاهلاً (4) ، ولم يجعل من جملة الأقسام أن الحامل جاهل] (5) .
_________
(1) سيأتي مبحث حكم رواية الحديث بالمعنى في الفصل العاشر.
(2) في ق، س، ن: ((الجزم)) والمثبت من ز، م، ش وهو أنسب.
(3) الحديث هكذا جاء رسمه في النسخ: ق، ص، و، م، ز، وهو ساقط من النسختين س، ش. بينما جاء في النسخة ن بلفظ: "وربّ حامل فقه ليس بفقيه" بدون الزيادة المثبة فيما بين الحاصرتين (إلى من) . والصواب حذف هذه الزيادة لأنها مخلَّة بمعنى الحديث، ولم أجدها في كلّ ما وقفت عليه من طرق وألفاظ الحديث. لكني لم أشأ حذفها بل أثبتها هنا كما هي؛ لأن المصنف أثبتها هنا وفي الفصل العاشر من هذا الباب، وفرَّع عليها استدلاله على اشتراط الفقه في الراوي بأن الحديث لم يجعل من جملة الأقسام أن الراوي ليس بفقيه. وهذا الاستدلال لم أجده إلا عند المصنف. والذي عليه جماهير العلماء استدلالهم بالحديث على أنه ليس من شرط المخبر أن يكون فقيهاً، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ورب حامل فقه ليس بفقيه". انظر: الرسالة للشافعي ص 403، إحكام الفصول 366 المحصول للرازي 4/422، روضة الناظرين 1/394، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/68. أما تخريج الحديث: فقد رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم أربعة وعشرون صحابياً، وقيل ثلاثون. وقد أخرجه جمع غفير من المحدثين في كتبهم، من ذلك أبو داود (3660) ، والترمذي (2656) ، وابن ماجة (230) وغيرهم وصححه ابن حجر في موافقه الخُبْر الخَبَر 1/363 ـ 378، والألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة المجلد الأول رقم الحديث (404) ..ومن العلماء من عدَّ الحديث من قبيل المتواتر. انظر: قطف الأزهار المتناثرة للسيوطي ص28. وقد أفرد هذا الحديث بالتصنيف ـ بجمع طرقه وألفاظه ـ أبو عمرو أحمد المديني ت (333هـ) في كتاب بعنوان: "جزء فيه قول النبي صلى الله عليه وسلم: نضر الله امرءاً سمع مقالتي فأداها" تحقيق بدر البدر. دار ابن حزم ط (1) عام 1415هـ. وكذلك كتاب عظيم القدر للشيخ الدكتور/ عبد المحسن العباد بعنوان "دراسة حديث: نضّر الله امرأ سمع مقالتي.. رواية ودراية" مطابع الرشيد. ط (1) عام 1401هـ.
(4) في ن: ((جاهل)) وهو متجه على أنه خبر و: ((غيره)) مبتدأه.
(5) ما بين المعقوفين ساقط من س، ش.

(2/259)


حجة الجواز: قوله عليه السلام "يحمل هذا العلم من كلِّ خَلَفٍ عُدولُه" (1) ولم يشترط الفقه، فكان ساقطاً عن الاعتبار، ولأن العدالة تمنع من تبديل اللفظ إلا بشروطه، ومتى كان هذا هو لفظَ صاحب الشرع أو بدلَ لفظِه بشروطه، أمِنَّا الخَلَل فإن من شرط تبديل اللفظ مساواتَه في الدلالة.
أمور لا تقدح في الراوي:
قال الإمام (2) : ولا يُخِلُّ بالراوي تساهُله في غير الحديث، ولا جهلُه بالعربية، ولا الجهلُ بنسبه، ولا مخالفةُ (3) أكثر الأمة لروايته، وقد اتفقوا على أن (4) مخالفةَ الحُفَّاظ (5) لا تمنع من القبول، ولا كونُه على خلاف الكتاب، خلافاً لعيسى بن أبَان (6) .
الشرح
المقصود ضبط الشرائع فالتساهل في غيرها لا يضرُّ، إذا عُلم ضبطه وتشديده (7) في الحديث (8) .
_________
(1) سبق تخريجه.
(2) هذا النقل عن الإمام جاء في عدة مسائل متفرقة، فجمعها المصنف مختصرةً ونسبها إليه. انظر: المحصول (4/425، 426، 437، 438) . ثم إن المصنف ذكر في المتن ستة أمور لا تقدح في رواي الحديث، وذكر في الشرح الأدلة عليها.
(3) في متن هـ: ((خلاف)) .
(4) ساقطة من س.
(5) في ن: ((الحافظ)) وهو متجه أيضاً، فيكون هذا من باب: إضافة المصدر إلى فاعله، والمثبت ـ هنا ـ من باب إضافة المصدر إلى مفعوله.
(6) ممن عزا النسبة إليه: أبوبكر الجصاص في كتابه الفصول في الأصول 3/113، والمعتمد 2/154 وقواطع الأدلة 2/392، 412، والمحصول للرازي 4/438، والموافقات 3/189. وقال محمد المطيعي في سلم الوصول بحاشية نهاية السول للإسنوي (3/175) "وبذلك يعلم أن ما قاله عيسى بن أبان منفرداً به عن مشايخ الحنفية وعن أكثر العلماء لا وجه له ... " والواقع أنه قول جمهور الحنفية كما جاء في تقويم الأدلة لأبي زيد الدبوسي ص (377) رسالة دكتوراة بالجامعة الإسلامية، وأصول السرخسي 1/364، وكشف الأسرار للبخاري 3/20.
(7) في ق: ((تسديده)) ولعل لها وجهاً سائغاً من حيث المعنى، وهو قريب من معنى ((الضبط)) ، والمثبت أولى لأن التأسيس مقدّم على التأكيد.
(8) وقيل بردّ رواية المتساهل. انظر: أصول السرخسي 1/373، المسودة ص266، جمع الجوامع بشرح المحلي وحاشية البناني 2/148، رفع النقاب القسم 2/699 تدريب الراوي للسيوطي 1/401.

(2/260)


وإذا جَهِل العربيةَ فعدالته تمنعه أن يروى الحديث (1) إلا كما سمع وعلى إعرابه (2) وصورته، وأنه متى شكَّ في شيء تركه. [هذا كله أثر العدالة وهي موجودة] (3) فيُكْتفَى بها (4) .
والجهل بنسبه إنما يتوقع منه التدليس به (5) ، وتركيبه على نَسَبٍ آخر [فيقع التدليس] (6) ، ولكنْ هذا أمرٌ يتعلق بالراوي عنه الذي يُدلّس به، أما هو فلا (7) .
ومخالفة الأكثر [لروايته أو الحفاظ] (8) لا تقدح (9) ؛ لأنه قد ينفرد بما لم يطَّلعوا عليه (10) .
حجة عيسى بن أبان (11) : ما روى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال "إذا رُوي لكم عني
_________
(1) ساقطة من ق، س.
(2) في ق: ((إعبرابه)) وهو تحريف.
(3) ما بين المعقوفين كُتب في ق هكذا: ((فهذه آثار العدالة)) .
(4) انظر المسألة في: المعتمد 2 / 136، نهاية الوصول للهندي 7/2922، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/68، التوضيح لحلولو ص318، فواتح الرحموت 2 / 184.
(5) ساقطة من س.
(6) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(7) انظر المسألة في: نهاية الوصول للهندي 7/2919، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/68، شرح الكوكب المنير 2/419، رفع النقاب القسم 2/699، فواتح الرحموت 2/184، الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي ص533.
(8) هكذا في ق، س، وفي ن: ((لرواية الحافظ)) وهو مقبول أيضاً.
(9) في س، ن، ق: ((لا يقدح)) . والمثبت من و، ص، وهو الصواب، وقد سبق التنبيه على مثله.
(10) في مخالفة الحفاظِ لما انفرد به الراوي الثقة حالتان: يُقْبل ما انفرد به في القَدْر الذي لم يخالفوه فيه، وأما في القَدْر الذي خالفوه فيه فقال الرازي: "الأولى أن لا يقبل، لأنه وإن جاز أن يكونوا سَهَوا وحفظ وهو، لكن الأقوى أنه سها وحفظوا هم، لأن السهو على الواحد أجْوزُ منه على الجماعة" المحصول (4/437) وبهذا يُعلم عدم تحرير المصنف قولَ الرازي في المسألة. ثم إن هذه المسألة تُعَنْون: ((بزيادة الثقة)) وسيأتي مزيد بحثها في الفصل العاشر وانظر: المنخول ص 280، آخر الكفاية في علم الرواية للبغدادي ص597، الإحكام للآمدي 2 / 108، نهاية الوصول للهندي 7 / 2948، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 72.
(11) حجته على اشتراطه ـ في قبول الرواية ـ عدمَ مخالفتها للكتاب. والحقيقة بأن الخلاف لا أثر له، لأن قبول خبر الواحد مرهون بتوافر شروطه، ومن شروطه عدم مصادمته للقرآن، فيُنظر حينئذٍ إلى التخصيص والتقييد والتأويل والنسخ. وقد نصَّ الشافعي رحمه الله بأن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تخالف كتاب الله تعالى أبداً. انظر: الرسالة ص149، 221، 228، وانظر: المعتمد 2/154، قواطع الأدلة 2/392.

(2/261)


حديثٌ فاعْرِضُوه على كتاب الله فإن وافقه (1) فاقبلوه وإن خالفه فردُّوه" (2) .
جوابه: أنه مُعارَضٌ بقوله تعالى: {لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ} (3) ومن البيان التخصيص، والمخصِّص (4) ، مخالف للعام المخصَّص، فكان يلزم (5) ردُّه (6) وليس كذلك لظاهر الآية، ولأن ظاهر الحديث يقتضي ردَّه (7) وإن كان متواتراً وليس كذلك، بل يُحمل الحديث على ما إذا دلَّت قواطع الكتاب على نقيض مقتضاه مع تعذُّر التأويل (8) .
هل العبرة في الراوي بما رأى أم بما روى؟
ولا كونُ مذهبه على خلاف روايته وهو مذهب أكثر* أصحابنا (9) ،
_________
(1) في س: ((وافقوه)) ، وهو تحريف.
(2) رواه الدارقطني في "سننه" (4/208) ، والطبراني في "المعجم الكبير" برقم (13276) ، وابن عدي في "الكامل" 4/1387، وغيرهم، عن ابن عمر وثوبان رضي الله عنهما. قال الشافعي في "الرسالة" ص (225) "ما روى هذا أحدٌ يثْبُت حديثه في شيءٍ صَغُر ولا كبر ـ ثم قال ـ وهذه أيضاً رواية منقطعة عن رجل مجهول". وقال الشوكاني في "الفوائد المجموعة في الأحاديث الموضوعة" ص (260) "قال الخطابي: وضعته الزنادقة، ويدفعه حديث: أوتيت القرآن ومثله معه. وكذا قال الصَّغاني..قلت: وقد سبقهما إلى نسبة وضعه إلى الزنادقة يحيى بن معين ... على أن في هذا الحديث الموضوعِ نفسِه ما يدل على ردّه، لأناَّ إذا عرضناه على كتاب الله خالفه، ففي كتاب الله: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} [الحشر: 7] ونحو هذا من الآيات" وقال أحمد شاكر "هذا المعنى لم يرد فيه حديث صحيح ولا حسن، بل ورد فيه ألفاظ كثيرة كلها موضوع أو بالغ الغاية في الضعف، حتى لا يصلح شيء منها للاحتجاج أو الاستشهاد ... وقد كتب ابن حزم في هذا المعنى فصلاً نفيساً جداً في كتابه الإحكام (2/76 ـ 82) ، وروى بعض ألفاظ هذا الحديث المكذوب، وأبان عن عللها فشفى ... " هامش (4) من الرسالة للشافعي ص224. وانظر: المعتبر في تخريج أحاديث المنهاج والمختصر للزركشي ص175، الابتهاج في تخريج أحاديث المنهاج للغُمَاري ص103، سلسلة الأحاديث الضعيفة للألباني المجلد الثالث رقم (1087 ـ 1089) .
(3) النحل، من الآية: 24.
(4) في ن: ((التخصيص)) .
(5) في ن: ((يلزمه)) .
(6) في ق: ((دره)) وهو تحريف.
(7) في ق: ((دره)) وهو تحريف.
(8) هذا جواب على فرض التسليم بثبوته، ولا داعي لهذا الحمل إذا ثبتت نكارته وبطلانه.
(9) لم يجعل المصنف من شرط قبول الرواية عدم مخالفة الراوي لما رواه، إذ العبرة بما روى، وهو رأي أكثر المالكية وعليه الجمهور. انظر: النبذ في أصول الفقه لابن حزم ص98، العدة لأبي يعلى 2/589، إحكام الفصول ص345، التبصرة ص343، قواطع الأدلة 2/419، الوصول لابن برهان 2/195، التوضيح لحلولو ص318، إجمال الإصابة في أقوال الصحابة للعلائي ص83.

(2/262)


وفيه أربعة مذاهب، قال الحنفية (1) : إن خصصه رُجِع إلى مذهب الراوي لأنه أعلم (2) . وقال الكرخي (3) : ظاهر الخبر أولى. وقال الشافعي (4) : إن خالف ظاهرَ الحديث رُجِع إلى الحديث، وإن كان (5) أحدُ الاحتمالين (6) .
رجع إليه (7) . وقال القاضي عبد الجبار (8) : إن كان تأويله (9) على خلاف الضرورة ترك (10) وإلا وجب النظر في ذلك.
الشرح
هذه المسألة عندي ينبغي أن تُخصَّص (11) ببعض الرواة، فتحمل على الراوي المباشر للنقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى يحسن أن يقال هو أعلم بمراد المتكلم، أما مثل (12) مالك
_________
(1) في ن: ((الحنفي)) .
(2) هذا مقيد عند الحنفية بما إذا عمل الراوي بخلاف روايته بعد الرواية، أما قبلها أو لم يعرفْ تاريخه فليس ذلك بجرحٍ. انظر: أصول السرخسي 2/5، كشف الأسرار للبخاري 3/38، جامع الأسرار للكاكي 3/769، فواتح الرحموت 2 / 208.
(3) انظر مذهبه في: ميزان الوصول للسرقندي ص 655، بذل النظر ص482، التقرير والتحبير 2/352، الأجوبة الفاضلة للكنوي ص222، الأقوال الأصولية للإمام أبي الحسن الكرخي لفضيلة شيخنا الدكتور حسين الجبوري ص86، وقد ذكر بأن النقل عن الكرخي في هذه المسألة غير متفق.
(4) انظر النسبة إليه في: المحصول للرازي 4/439 وقال: "وهو ظاهر مذهب الشافعي"، الإحكام للآمدي 2/115، جمع الجوامع بحاشية البناني 2/146.
(5) في ق: ((رجح)) وهو شذوذ مخالف لجميع نسخ المتن والشرح. و ((كان)) هنا تامَّة بمعنى: حصل أو وُجد.
(6) هنا زيادة: ((أولى)) في ن وهي شاذة.
(7) معنى هذه العبارة: إذا كان مذهبُ الراوي وتأويلُه أحدَ محتملات ظاهر الحديث فإنه يُرجع إلى تأويل الراوي ومذهبه. وهذا يظهر جلياً في الأحاديث المجملة، والله أعلم.
(8) انظر مذهبه في: المعتمد 2/175، المحصول للرازي 4/439، إرشاد الفحول 1/243.
(9) في ق: ((تأوله)) .
(10) في ن: ((تركه)) .
(11) في ن: ((يخصص)) وهو تصحيف.
(12) ساقطة من س.

(2/263)


و (1) مخالفتِه لحديث بيع الخيار (2) الذي رواه (3) وغيره من الأحاديث فلا يندرج في هذه المسألة، لأنه لم يباشر المتكلّمَ حتى يحسن أن يقال فيه لعله شاهد من القرائن الحالية أو المقالية ما (4) يقتضي مخالفته، فلا تكون المسألة على عمومها (5) .
حجة الاعتماد على الحديث مطلقاً: أن الحجة في لفظ صاحب الشرع لا في مذهب الراوي فوجب المصير إلى الحديث.
حجة الحنفية: أن (6) المباشر يُحصِّل من القرائن ما يقتضي تخصيص العام، فيُرجع إليه في التخصيص، كما يُرجع إليه في أصل الحديث.
حجة الشافعي: أن الحديث إذا كان له ظاهر رُجع إليه، لأن الحجة في ظواهر (7) الشريعة لا في مذاهب (8) الرواة، أما إذا لم يكن له ظاهر فقد سقطت الحجة منه فيعتمد على تفسير الراوي، لأنه أعلم بحال المتكلم ولم يعارضْه ظاهر شرعي، وهذا كاللفظ
_________
(1) في ق: ((في)) بدل الواو وهو متجه أيضاً.
(2) عرَّفه ابن عرفة بأنه: "بيْعٌ وقِّف بَتُّهُ أولاً على إمضاءٍ يُتَوقَّع" شرح حدود ابن عرفة للرصَّاع 1/365. والمراد بالخيار هنا: خيار المجلس وهو: "أن يثبت الخيار للمتابعين مدةَ جلوسهما معاً حتى يتفرقا" مواهب الجليل 6/302. وأما حكمه: فقال المصنف في الذخيرة 5/20 "وخيار المجلس عندنا باطل، والبيع لازم بمجرد العقد، تفرَّقا أم لا، وقاله أبوحنيفة. وقال الشافعي وابن حنبل بعدم اللزوم، وخيار المجلس حتى يتفرقا أو يختارا الإمضاء، وحكاه أبوالطاهر عن ابن حبيب ... ".
(3) رواه الإمام مالك في الموطأ (2/671) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "المتبايعان كلٌ منهما بالخيار على صاحبه ما لم يتفرَّقا إلا بيع الخيار" ورواه البخاري (2111) ومسلم (1531) . وانظر مذهب مالك في مخالفته لما رواه في المنتقى للباجي 5/55، التمهيد لابن عبد البر 24/290، 14/7، الاستذكار لابن عبد البر 20/222.
(4) في س: ((فلا)) وهو تحريف.
(5) قد نبه المصنف إلى هذا المعنى في باب العموم من هذا الكتاب (المطبوع) ص219. وانظر: نفائس الأصول 7/2998، التوضيح لحلولو ص319.
(6) ساقطة من ن.
(7) في ن: ((ظاهر)) .
(8) في س: ((مذهب)) .

(2/264)


المشترك (1) ، كما إذا (2) قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اعتدِّي بقرء وقرء وقرءة فحمله الراوي على الأطهار صحَّ ذلك (3) .
وأما مذهب القاضي عبد الجبار فقد حكى خلافاً وذلك عَسِرٌ؛ لأن ما هو على خلاف الضرورة كيف يمكن أحداً (4) أن يقول هو معتبر؟! فكأنه تفسير لا خلاف (5) . وأما قوله: ((نظر في ذلك)) ، فهو خلافٌ لمن جَزَم بتقديم الخبر أو (6) المذهب، ووجهه: أنه موضعُ تَعَارُضٍ لما تقدَّم من المدارك المتعارضة، فينظر في كل مادة ما يقتضي ترجيح بعض ذلك (7) [على بعض] (8) .
حكم قبول الخبر في مسائل الاعتقاد
وإذا ورد الخبر في مسألة علمية (9) وليس في الأدلة القطعية ما يَعْضُده رُدَّ؛
_________
(1) عرَّفه المصنف في الفصل السادس من الباب الأول ص (29) من المطبوع. بأنه ((اللفظ الموضوع لكل واحدٍ من معنيين فأكثر كالعين)) فالعين تطلق على الباصرة والجارية والذهب. انظر: الكليات للكفوي مادة "عين" ص599، 642.
(2) في ق: ((لو)) .
(3) القُرْء والقَرْء بالضم والفتح يطلق على الحيض والطهُّر. انظر: لسان العرب، النهاية في غريب الحديث، عمدة الحفاظ جميعها مادة "قرأ".
(4) هكذا في ق، ص، وهو الصواب، ويكون حينئذٍ منصوباً بنزع الخافض، تقديره: لأحدٍ. وفي سائر النسخ ((أحدٌ)) ولستُ أعلم وجهه. ولو قال المصنف: ((كيف يمكن أن يقول أحدٌ هو معتبر؟!)) لكان أبعد عن الإشكال.
(5) هنا زيادة ((فيه)) وهي شاذة تفردَّت بها نسخة: ق. وتوضيح هذه العبارة: أن القاضي عبد الجبار لما قال: إن كان مذهب الراوي يخالف الرواية ضرورةً، فكأنه يصوِّر خلافاً في هذه الحالة، وهو عَسِرٌ، لأن كل من خالف الضرورة لا يُلْتفُ إلى قوله، وهذا باتفاق. فآلت حكاية القاضي عبد الجبار للخلاف تفسيراً وشرحاً. والله أعلم.
(6) في س: ((أن)) وهو تحريف.
(7) معنى هذه العبارة: أن قول القاضي عبد الجبار: إذا لم يكن مخالفاً للضرورة فننظر في المرجحات. هذا القول مخالف لمن جزم بتقديم الرواية مطلقاً، ومخالفٌ لمن جزم بتقديم مذهب الراوي مطلقاً. وانظر: رفع النقاب القسم 2/507.
(8) ساقطة من ن.
(9) المسائل العلمية هي: مسائل الاعتقاد التي يعلمها السامع ويعتقدها كصفات الرَّبِّ تبارك وتعالى، ورؤيته في الآخرة، وعذاب القبر ونعيمه، وإثبات العرش.

(2/265)


لأن الظن لا يكفي في القطعيات وإلا قُبِل (1) .
الشرح
مسائل أصول الدين المطلوب فيها اليقين وهو المكلف به فيها عند الجمهور، فإذا ورد ما يفيد الظن وفي الأدلة العقلية ما يقتضي ذلك المطلب بعينه حصل المقصود بذلك القطعي (2) وبقى السَّمْعي مؤكِّداً (3) له ومؤنِّساً؛ فإن اليقين بما ورد فيه السمع والعقل
_________
(1) هذه المسألة مفرَّعة على مسألة: إفادة خبر الآحاد العلمَ، التي سبقت الإشارة إليها، فمن قال بإفادة الآحاد الظن لم يقبله في مسائل الاعتقاد، ومن قال بإفادته العلم احتج بالآحاد في مسائل الاعتقاد. والذي أعتقده صواباً في هذه المسألة أن خبر الآحاد حجة في العقائد والأحكام. قال ابن عبد البر "ليس في الاعتقاد في صفات الله وأسمائه إلا ما جاء منصوصاً في كتاب الله أو صحّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أجمعت عليه الأمة. وما جاء من أخبار الآحاد في ذلك كله أو نحوه يُسلّم له ولا يناظر فيه" جامع بيان العلم وفضله (2/ 943) . وقال أبو المظفّر السمعاني "وكذلك أجمع أهل الإسلام ـ متقدموهم ومتأخروهم ـ على رواية الأحاديث في صفات الله عز وجل، وفي مسائل القدر والرؤية وأصول الإيمان والشفاعة والحوض وإخراج الموحِّدين المذنبين من النار، وفي صفة الجنة والنار ... وفضائل النبي صلى الله عليه وسلم ومناقب الصحابة وأخبار الأنبياء المتقدمين عليه، ما أشبه ذلك مما يكثر عدُّه ذكره. وهذه الأشياء كلها علمية لا عملية، إنما تروى لوقوع علم السامع بها. فإذا قلنا إن: خبر الواحد بها لا يجوز أن يُوجِب العلمَ، حملنا أمر الأمة في نقل هذه الأخبار على الخطأ، وجعلناهم لاغين هاذِّين مشتغلين بما لا يفيد أحداً شيئاً ولا ينفعه، ويصير كأنهم قد دوَّنوا في أمور الدين مالا يجوز الرجوع إليه، والاعتماد عليه " الانتصار لأصحاب الحديث ص 36 - 37..وانظر أيضاً: مختصر الصواعق المرسلة لابن القيم ص (479 ـ 761) ، شرح الكوكب المنير 2/352، مذكرة أصول الفقه للشنقيطي ص (179 - 184) . وهناك كتبٌ استبحرت في معالجة هذا الموضوع الخطير معالجةً مُحْكمةً، منها:
1 - وجوب الأخذ بحديث الآحاد في العقيدة، والرد على شبه المخالفين للألباني. 2 - أصل الاعتقاد د. عمر الأشقر.
3 - الأدلة والشواهد على وجوب العلم بخبر الواحد في الأحكام والعقائد. سليم الهلالي. 4 - حجية أحاديث الآحاد في الأحكام والعقائد للأمين الحاج محمد أحمد. 5 - حجية الآحاد في العقيدة ورد شبهات المخالفين د/ الوهيبي.
(2) في ن: ((العقيلي)) .
(3) في ن: ((مؤكد)) وهو خطأ نحوي، لأنه حال منصوب.

(2/266)


[أشد] (1) بخلاف العقل وحده (2) ، وإن لم يكن غيره رُدَّ لعدم الفائدة فيه، لأن ما يفيده ذلك الخبر لا يعتبر، والذي هو معتبر لا يفيده ذلك الخبر، فيسقط (3) اعتباره.
حكم الخبر فيما تعمُّ به البلوى
وإنْ اقتضى عملاً تعمُّ به البلوى (4) قُبِل عند المالكية (5) والشافعية (6) ، خلافاً للحنفية (7) . لنا حديث عائشة المتقدِّم في التقاء الختانين (8)
الشرح
قالت الحنفية: ما تعم به البلوى شأنه أن يكون معلوماً عند الكافة، لوجود سببه عندهم، فيحتاج كلٌّ منهم لمعرفة حكمه، فيسأل عنه ويُروَى الحديث فيه، فلو كان فيه حكم لعلمه الكافَّة، فحيث [لم يعلمه الجمهور] (9) دلَّ ذلك (10) على بطلانه.
_________
(1) هذه الزيادة أثبتُّها من النسختين و، ص، وهي تضفي معنىً مناسباً للسياق أنسب من عدمها. والله أعلم.
(2) هذا بناءً على القول بحصول التفاوت في العقليات، وهي مسألة خلاف، وتترجم بـ: "تفاوت العلم". والأرجح ـ والله أعلم ـ حصول التفاوت. انظر: كشف الأسرار للنسفي 1/311، مجموع فتاوى ابن تيمية 7/564، البحر المحيط للزركشي 1 / 79، رفع النقاب القسم 2/707، شرح الكوكب المنير 1/61، القطع والظن عند الأصوليين د. سعد بن ناصر الشثري (1/27) وفيه بحث نفيس.
(3) في ق: ((مسقط)) .
(4) معنى: خبر الآحاد فيما تعمّ به البلوى: أي ما تمس إليه حاجة الناس في عموم الأحوال ويكثر السؤال عنه. وقد سبق التعريف بعموم البلوى.
(5) انظر مذهبهم في: إحكام الفصول ص344. الضروري في أصول الفقه (مختصر المستصفى) لابن رشد ص81، تحفة المسئول للرهوني القسم 2 / 631، التوضيح لحلولو ص319.
(6) انظر مذهبهم في: المستصفى 1 / 321، شرح اللمع للشيرازي 2/606، المحصول للرازي 4/442، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني ص62. وهو مذهب الحنابلة والظاهرية أيضاً، انظر: العدة للقاضي أبي يعلى 3/885، الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 4 / 389، شرح مختصر الروضة للطوفي 2/233، الإحكام لابن حزم 1/153.
(7) لكن خلاف الأحناف مقصور على ما إذا كان حكم مسألة عموم البلوى الوجوب. أما المندوب فيقبلون فيه خبر الواحد. انظر: أصول السرخسي 1/368، كشف الأسرار للنسفي 2/52، كشف الأسرار للبخاري 3/35، التقرير والتحبير 2 / 394.
(8) سبق تخريجه.
(9) ما بين المعقوفين كتب في ق: ((لم يعلموه)) .
(10) ساقطة من ق.

(2/267)


وقد نقضوا أصلهم بأحاديث قبلوها فيما تعم به البلوى، فأثبتوا الوضوء من القهقهة (1) والفِصَادة (2) والحِجَامة (3) (4) أخبار آحاد، مع [أن هذه الأمور] (5) مما تعم بها (6) البلوى، وكذلك الوضوء من القيء والرعاف (7)
ونحو ذلك*.
واحتجوا أيضاً (8) بقوله تعالى: {إن الظن لا يغني من الحق شيئاً} (9) خالفناه في قبول خبر الواحد إذا لم تعم به البلوى، فيبقى على مقتضى الدليل فيما عداه،
_________
(1) أحاديث القهقهة رويت مرسلة ومسندةً. فمن المرسل حديث أبي العالية: أن رجلاً تردَّى في بئر والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي بأصحابه، فضحك بعض من كان يصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم من كان ضحك منهم أن يعيد الوضوء والصلاة. رواه أبو داود في مراسيله ص 118. ومن المسند: حديث ابن عمر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ضحك في الصلاة قهقهةً فليُعدْ الوضوء والصلاة" رواه ابن عدي في الكامل (3/167) ، ومنها حديث أبي هريرة في سنن الدارقطني (1/164) . وهذه الأحاديث مخرجةً باستيفاء في "نصب الراية" للزيلعي (1/47ـ54) وفي أسانيدها نظر، ولهذا قال الإمام أحمد وغيره: ليس في الضحك حديث صحيح انظر: تلخيص الحبير لابن حجر 1/ 115.
(2) في ق: ((القصد)) .
(3) استدلوا بحديث تميم الداري مرفوعاً "الوضوء من كل دم سائل" رواه الدارقطني في سننه (1/157) وفيه انقطاع وجهالة. انظر: نصب الراية للزيلعي 1/37.
(4) هنا زيادة كلمة: ((بأحاديث)) في ن، س، ولا حاجة لها.
(5) ما بين المعقوفين في ق: ((أنها)) .
(6) في ن، ق ((به)) وهو سائغ باعتبار عود الضمير على ((ما)) المصولة في قوله: ((مما تعم)) . والمثبت: وجهه عود الضمير إلى ((الأمور)) .
(7) استناداً إلى حديث عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "من أصابه قيء أو رعاف أو قَلَس أو مَذْيٌ فلينصرف فليتوضأ ثم ليبْنِ على صلاته وهو في ذلك لا يتكلم" رواه ابن ماجة (1221) . وصححه الزيلعي في "نصب الراية" 1/38. وضعفه البوصيري. انظر: سنن ابن ماجة 2/69..وانظر مسألة نواقض الوضوء بهذه الأشياء عند الأحناف في: بدائع الصنائع 1/37، 48، شرح فتح القدير 1/39، 51.
تنبيه: مهَّد المصنف العذر للأحناف في نفائس الأصول (7/3003) بأن بإمكانهم ادعاء التواتر في زمن أبي حنيفة، لأنه أدرك الصدر الأول وعشرة من الصحابة، فلا يلزم من عدم تواترها عندنا عدم تواترها عنده" وفي الحقيقة هذا اعتذار ضعيف لأن ادعاء التواتر والاشتهار أمرٌ موكولٌ إلى أهله في هذا الشأن، وهم أهل الحديث وأئمته. والله أعلم. وانظر: شرح مختصر الروضة 2/235.
(8) ساقطة من ن.
(9) يونس، من الآية: 36.

(2/268)


وهو معارَضٌ بقوله تعالى: س {إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا} (1) ومقتضاه الجزم بالعمل عند عدم الفسق كان فيما تعم به (2) البلوى أم لا
_________
(1) الحجرات، من آية: 6.
(2) في ق: ((فيه)) .

(2/269)


الفصل التاسع
في كيفية الرواية (1)
مراتب رواية الصحابي
ص: إذا قال الصحابي: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم أو أخبرني أو شافهني فهذا أعلى المراتب (2) .
وثانيها: أن يقول: قال عليه السلام (3) .
وثالثها: [أن يقول] (4) أمَر (5) بكذا أو نَهَى عن كذا، فهذا (6) كله محمول عند المالكية (7) على أمره عليه السلام، خلافاً لقوم (8) .
_________
(1) بحث علماء الأصول وعلماء الحديث كيفيات تحمُّل الرواية وأدائها وألفاظ الرواية ومراتبها وحكمها، ووقع بينهم اختلاف في التقسيم والترتيب والحصر، ولا ضير في ذلك إذ الغاية من معرفة ألفاظ الرواية ومراتبها الحكم عليها من جهة القبول والرفض. والله أعلم.
(2) حكم هذه المرتبة: أنها حجة مجمع عليها، لعدم تطرّق الاحتمال إليها، وهي الأصل في الرواية والتبليغ. انظر: المستصفى 1/309، الإحكام للآمدي 2/95، الإبهاج 2/328، البحر المحيط للزركشي 6/296، شرح الكوكب المنير 2/481، نشر البنود 2/62.
(3) حكم هذه المرتبة: أنها حجة عند الأكثرين؛ لأن قول الراوي: ((قال عليه الصلاة والسلام)) ظاهره النقل عن النبي صلى الله عليه وسلم، والصحابي لا يقول ذلك إلا وقد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم. قال ابن قدامة في روضة الناظر (1/342) ((ولهذا اتفق السلف على قبول الأخبار مع أن أكثرها هكذا، ولو قُدِّر أنه مرسل فمرسل الصحابي حجة)) . انظر: التمهيد لأبي الخطاب 3/185، الإحكام للآمدي 2/95، نهاية الوصول للهندي 7/3000، التقرير والتحبير 2/350، التوضيح لحلولو ص320.
(4) ساقطة من جميع النسخ، والمثبت هنا من نسخة ن، وهو الأنسب تمشِّياً مع سياق جميع المراتب المذكورة.
(5) هنا زيادة: ((عليه السلام)) في جميع نسخ المتن والشرح ما خلا النسختين س، ومتن د. وقد رأيت إسقاطها؛ لأن المصنف سيذكر في الشرح ـ بعد قليل ـ ما يدلُّ على عدم ذكر الفاعل، وأن لفظ ((أَمَر بكذا ونَهى عن كذا)) يحتمل أن يكون فاعل هذا الأمر هو النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره. انظر هامش (10) ص (271) .
(6) س، متن هـ، ن: ((وهذا)) .
(7) انظر: إحكام الفصول ص (385) ، تقريب الوصول ص (304) ، نيل السول للولاتي ص (151) ، وهذا مذهب الجمهور، قال الآمدي في الإحكام (2/96) : ((والذي عليه اعتماد الأكثرين أنه حجة، وهو الأظهر، وذلك لأن الظاهر من حال الصحابي مع عدالته ومعرفته بأوضاع اللغة أن يكون عارفاً بمواقع الخلاف والوفاق ... )) وانظر: العدة لأبي يعلى 3/999، المحصول للرازي 4/446، فواتح الرحموت 2/206، الكفاية في علم الرواية للبغدادي ص 419.
(8) نُسب إلى داود الظاهري وبعض المتكلمين. انظر: التلخيص للجويني 2/411، التمهيد لأبي الخطاب 3/186، البحر المحيط للزركشي6/297، التبصرة والتذكرة (شرح ألفية العراقي) 1 / 127.

(2/270)


الشرح
الفرق بين قال وما قبلها، أن قوله: ((قال)) يصدق مع الواسطة وإن لم يُشَافَهْ، كما يقول أحدنا اليوم: قال النبي عليه السلام، [وإن كان لم يسمعه] (1) ، ولا شك أن اللفظ الدال على المشافهة أنَصُّ (2) في المقصود وأبعد عن الخلل المتوقع من الوسائط.
ودون ذلك أمر أو نهى؛ لأنه يدخله احتمالُ الوسائط وتوقُّعُ الخلل من قِبَلها مضافاً إلى الخلل الحاصل من اختلاف الناس في صيغتي (3) الأمر والنهي، هل هما للطلب الجازم أو (4) لا؟ (5) واحتمال آخر وهو أن ذلك الأمر للكل أو للبعض (6) وهل (7) دائماً أو غير دائم (8) ؟
وقولي: ((إنه محمول عند المالكية على أمره عليه السلام)) : أريد إذا لم يُذْكر النبي صلى الله عليه وسلم في الأمر، بل يقول الراوي: أمر بكذا أو أمرنا بكذا، فان (9) اللفظ يحتمل أن فاعل هذا الأمر هو النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره (10) ، لكن العادة أن من له رئيس معظّم فقال أمر بكذا أو
_________
(1) في ق: ((وإن لم يكن سمعه)) .
(2) في ن: ((نص)) .
(3) في ن: ((صيغة)) .
(4) في س، ن: ((أم)) وهو مالا يجيزه الأكثر، وجوَّزه سيبويه. انظر الهامش (6) ص 29.
(5) راجع مسألة صيغة الأمر موضوعة للوجوب أم لغيره ص (177) من هذا الكتاب (المطبوع) .
(6) راجع مسألة قول الصحابي: "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كذا أمر أو قضى بكذا" هل يقتضي العموم
ص (188) من هذا الكتاب (المطبوع) .
(7) ساقطة من ق.
(8) راجع مسألة الأمر للتكرار والاستمرار أم لا ص (130) من هذا الكتاب المطبوع.
(9) في ن: ((لأن)) .
(10) هنا يبدو وقوع المصنف في خلطٍ بين المرتبة الثالثة هذه، والمرتبة الرابعة التي في المتن التالي، فقد جعلهما سواءً في عدم تسمية الفاعل. والذي وقفتُ عليه في كتب الأصوليين والمحدثين هو التفريق بينهما بأن صيغة المرتبة الثالثة ((أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم بكذا أو نهى عليه الصلاة والسلام عن كذا)) ففيها التصريح بفاعل الأمر أو النهي، أما المرتبة الرابعة فصيغتها "أُمِرْنا بكذا أو نُهينا عن كذا" لم يُسمَّ فيها الفاعل. وهذا الفرق هو الذي جعل المرتبة الرابعة أحط من المرتبة الثالثة والله أعلم. انظر: العدة للقاضي أبي يعلى 3/992، 1000، إحكام الفصول ص 385، 386، المحصول للرازي 4/446، 447، الضياء اللامع لحلولو 2/219، فواتح الرحموت 2/207، الكفاية في علم الرواية ص 419ـ420، شرح ألفية السيوطي في الحديث 1 / 104، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص569 ـ 571.

(2/271)


أمرنا بكذا، إنما يريد أمر رئيسه، ولا يفهم عنه إلا ذلك، ورسول الله صلى الله عليه وسلم هو عظيم الصحابة ومرجعهم والمشار إليه في أقوالهم وأفعالهم. فتنصرف إطلاقاتهم إليه صلى الله عليه وسلم، أما مع تعيين الفاعل للأمر فلا يبقى هنالك احتمال ألبتَّة (1) .
حجة غير المالكية: أن الفاعل إذا حذف احتمل (2) النبي صلى الله عليه وسلم وغيره، فلا نثبت شرعاً بالشك*.
وجوابه: ظاهر الحال صارف للنبي صلى الله عليه وسلم كما تقدَّم تقريره.
ص: ورابعها: أن يقول: أُمِرْنا بكذا أو نُهِيْنا عن كذا (3) ، فعندنا (4) وعند الشافعي (5) يحمل على أمره ونهيه (6) صلى الله عليه وسلم، خلافاً للكرخي (7) .
وخامسها: أن يقول: السنة كذا، فعندنا يحمل على سنته عليه السلام* خلافاً لقوم (8) .
_________
(1) مراده ـ والله أعلم ـ لا يبقى احتمال في أن يكون فاعل هذا الأمر هو النبي صلى الله عليه وسلم أو غيره، لكن يبقى الاحتمالان السابقان اللذان ذكرهما المصنف قريباً، وهما: دخول الوسائط أو حصول خللٍ في فهم صيغة الأمر والنهي.
(2) في ن: ((احتمال)) وهو تحريف.
(3) بصيغة البناء للمجهول أو على ما لم يسمَّ فاعله. وكذا إذا قال: رُخَّص لنا، وأبيح لنا، وحُرِّم علينا.
(4) انظر: إحكام الفصول ص386، تحفة المسؤول للرهوني القسم 2 / 605، التوضيح لحلولو ص321، نشر البنود 2/64.
(5) انظر: الوصول لابن برهان، 2/198، المحصول للرازي 4/447، نهاية السول للإسنوي 3/178، الكفاية في علم الرواية ص 420.
هذا هو مذهب الجمهور ومنهم الحنابلة انظر: العدة لأبي يعلى 3/991، التمهيد لأبي الخطاب 3/177 وهو مذهب عامة الأحناف، قال علاء الدين السمرقندي في ميزان الأصول ص (659) ((قال عامة مشايخنا بأنه يكون حجةً ... )) وانظر: كتاب في أصول الفقه للاَّمشي ص151، تيسير التحرير 3/169، وانظر تدريب الراوي للسيوطي 1/208.
(6) أثبتتْ من النسختين ز، م، وقد خلت منها سائر النسخ.
(7) وكذا السرخسي والصيرفي وداود وابن حزم، وحجتهم: أن قول الصحابي ((أمرنا)) يتطرق إليه ثلاثة احتمالات: الواسطة، اعتقاد ما ليس بأمرٍ أمراً، كون الآمر غير النبي صلى الله عليه وسلم من العلماء أو الأمراء. انظر: الإحكام لابن حزم 1 / 208، التبصرة ص 331، أصول السرخسي 1 / 380، المنخول ص 279، بذل النظر ص 478، البحر المحيط للزركشي 6 / 299، التقرير والتحبير 2 / 351، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص 563، الأقوال الأصولية للإمام الكرخي لشيخنا د. حسين الجبوري ص 78.
(8) الخلاف في هذه المسألة كسابقتها، ولهذا من الأصوليين من دمجهما في مرتبةٍ واحدةٍ. انظر: المراجع السابقة المذكورة في هامش (4) ، (5) من هذه الصفحة.

(2/272)


الشرح
قد [تقدم تقرير] (1) أمرنا ونهينا (2) . وأما السنة فأصلها في اللغة: الطريقة (3) ، ومنه سنن الطريق (4) الذي يُمْشَى (5) فيه، غير أنها في عرف الاستعمال صارت موضوعة لطريقته (6) عليه السلام في الشريعة، فمن رجَّح اللغة توقَّفَ لعدم تعين ذلك النوع من السنة التي تقتضيها اللغة (7) ، ومن لاحظ النقل (8) حمله على الشريعة.
وللعلماء خلاف في لفظ السنة، فمنهم من يقول: السنة هو المندوب (9) ولذلك تُذْكر قُبَالة الفرض، فيقال فروض الصلاة كذا (10) [وسننها كذا] (11) ، ومنهم من يقول: السنة ما ثبت من قبله (12) عليه السلام بقول (13) أو فعل [غير القرآن] (14) كان واجباً أو سنةً (15) ، فيقال من السنة كذا، ويريد أنه وجب (16) بالسنة، ولذلك يقول الشافعي الختان
_________
(1) في ن: ((تقرر تقدم)) والمثبت أوضح في المعنى.
(2) انظر ص (271) وانظر هامش (10) ص (271) .
(3) أصل السُّنة من قولهم: سننْتُ الشيء بالمِسَنِّ، إذا أمررته عليه حتى يؤثِّر فيه سَنَناً، أي: طرائق. وتطُلق السنة على السيرة؛ حميدة كانت أم ذميمة. انظر: لسان العرب، المصباح المنير، تاج العروس جمعيها مادة:
"سنن ". وانظر: البحر المحيط للزركشي 6/5.
(4) سَنَن الطريق وسُنَنه وسِنَنه وسنُنُه أي: نَهْجه ومحجته وجهته. انظر: لسان العرب، القاموس المحيط كلاهما مادة " سنن ".
(5) هنا زيادة: ((هو)) في ن، ولا حاجة لها.
(6) في ق، س: ((لطريقه)) .
(7) ساقطة من س.
(8) انظر كلام المصنف على " النَّقل " في اللغةِ والخلاف فيه في هذا الكتاب ص (43) من المطبوع.
(9) هذا إطلاق للسنة في عُرْف الفقهاء. انظر: تهذيب الأسماء واللغات للنووي 3 / 148، الدرر النقي في شرح ألفاظ الخرقي لابن المبرد 1/67.
(10) ساقطة من ن.
(11) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(12) في س: ((فعله)) وهو تحريف.
(13) في ق: ((من قول)) .
(14) ساقطة من ن.
(15) هذا إطلاق للسنة في عُرْف الأصوليين، ولو زاد في التعريف "أو تقرير" لكان أكمل، وإن كان بعضهم يُدخل التقرير في الفعل؛ لأن التقرير عبارة عن الكفّ عن الإنكار، والكفُّ فِعْل. انظر: الإحكام للآمدي 1/169، منتهى السول والأمل ص47، نهاية السول للإسنوي 3/5، شرح الكوكب المنير 2/160
(16) في ن: ((واجب)) وهو سائغ أيضاً.

(2/273)


من السنة وهو عنده واجب (1) ،
ومنهم من يقول: السنة ما فعله عليه السلام وواظب عليه (2) .
ص: وسادسها: أن يقول عن النبي عليه السلام، فقيل: يُحمل على سماعه هو، وقيل: لا.
الشرح
يحتمل أن يكون المراد رَوَى عن النبي، فلا يلزم أن يكون هو سامعاً، أو يكون المراد أخذْتُ (3) عن النبي صلى الله عليه وسلم أو نقلتُ [عن النبي صلى الله عليه وسلم] (4) فيكون هو السامع (5) ، فاللفظة (6) محتملة (7) ، فمنهم من غلَّب ظاهر حال (8) الصحابي، [وأن الغالب عليه أن يكون] (9) هو
_________
(1) في حكم الاختتان ثلاثة آراء، الأول: أنه واجب في حق الرجال والنساء وهو الصحيح المشهور من مذهب الشافعية، وهو المذهب عند الحنابلة. الثاني: أنه واجب في حق الرجال ومكرمة أو مستحب في حق النساء. وهو قول بعض الشافعية ورواية عند الإمام أحمد. الثالث: أنه سنة في حق الرجال والنساء وهو مذهب الحنفية والمالكية ووجه عند الشافعية. انظر: المجموع شرح المهذب 1/349، طرح التثريب للعراقي

2/75، شرح فتح القدير لابن الهمام 1/63، المنتقى للباجي 7/232. معونة أولى النهي لابن النجار 1/247، تحفة المودود بأحكام المولود لابن القيم ص 100.
(2) وكذلك تطلق السنة على ما يقابل البدعة، فيقال: أهل السنة وأهل البدعة. انظر: الفِصَل في الملل والنحل (2/271) ، الموافقات للشاطبي (4/290) ـ والسنة عند المحدثين: كل ما أُثر عن النبي صلى الله عليه وسلم من قولٍ أو تقرير أو صفةٍ خَلْقية أو خُلُقية أو سيرة، سواء كان قبل البعثة أم بعدها. انظر: توجيه النظر للجزائري 1/37، السنة ومكانتها من التشريع الإسلامي للسباعي ص48، وقد توسَّع شيخنا د. شعبان محمد إسماعيل في تعريفات " السنة " في كتابه: دراسات حول القرآن والسنة ص (80 - 95) فطالعه ثمة.
(3) في س: ((أُحدِّث)) وهو سائغ أيضاً.
(4) ما بين المعقوفين ساقط من س، ق.
(5) قال المصنف في كتابه: نفائس الأصول (7/3009) ((إن هذه الصيغة تحتمل في العامل في المجرور أمرين، أحدهما: تقريره روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم مشافهةً. وثانيهما: نُقل لي عن النبي صلى الله عليه وسلم. والأول ظاهر حال الصحابي؛ لأن النفوس مجبولة على طلب علو السند، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم، والصحابي متمكّن من سؤاله، فلا يتركه تحصيلاً لزيادة الظن أو اليقين)) .
(6) في ق: ((فاللفظ)) .
(7) في ق: ((محتمل)) ، وفي ن: ((مجملة محتملة)) .
(8) ساقطة من س، ن.
(9) ما بين المعقوفين في ق: ((من أنّه)) .

(2/274)


السامع فجَعَله (1) مباشراً، أو ينظر إلى احتمال اللفظ فلا تتعين المباشرة (2) .
ص: وسابعها: كُنَّا نفعل كذا، وهو يقتضي كونه شرعاً (3) .
الشرح
لأن مقصود (4) الصحابي أن يخبرنا بما يكون شرعاً بسبب أنهم كانوا يفعلون ذلك، وأن الغالب اطلاعه عليه السلام على ذلك وتقريره عليه (5) ، وذلك يقتضي الشرعية (6) ،
_________
(1) في ق: ((فيكون)) .
(2) جاء في " فواتح الرحموت " (2/207) بأن أكثر أهل الأصول في هذه الرتبة على احتمال الإرسال، وأن لفظة ((عن)) تدلُّ على الواسطة، لكن يكون حجة بناء على مسألة تعديل الصحابة. وانظر: المعتمد 2/174، نهاية الوصول للهندي 7/3006، الإبهاج 2/330، البحر المحيط للزركشي 6/304، علوم الحديث لابن الصلاح ص61.
(3) هذه المرتبة ذكر لها ابن السبكي وغيره أربعة ألفاظ؛ أعلاها: كناَّ معاشر الناس، أو كانت الناس تفعل كذا في عهده صلى الله عليه وسلم، وهذه حجة؛ لأن ظاهره الإجماع مع تعضيده بتقرير النبي صلى الله عليه وسلم. الثاني: كناّ نفعل كذا في عهده صلى الله عليه وسلم، فهذه دون ما قبلها لاحتمال عود الضمير في "كنَّا" إلى طائفة مخصوصة، وهل لها حكم الرفع؟ فيه خلاف. الثالث: كان الناس يفعلون كذا، دون إضافته إلى عهد النبوة، فهذه دون الثانية من جهة عدم التصريح بعهده صلى الله عليه وسلم، وفوقها من جهة تصريحه بجميع الناس، وهل تكون حكاية إجماع؟ فيه خلاف. الرابع: كنا نفعل كذا، أو كانوا يفعلون كذا، أو كان يُفعل كذا، وهو دون الكلّ، لعدم التصريح بالعهد وبما يعود عليه الضمير، ألطائفةٍ أم للناس؟ . وهل هو موقوف أو له حكم الرفع؟ فيه خلاف. وبهذا تُدْرك عدم تحرير المصنف لألفاظ هذه المرتبة. انظر هذه الألفاظ وأحكامها مستوفاةً في: الإبهاج 2/330، البحر المحيط للزركشي 6/305، التوضيح لحلولو ص (322) . وانظر: العدة لأبي يعلى 3/998، إحكام الفصول ص388، قواطع الأدلة 2/198، 470، المستصفى 1/249، تيسير التحرير 3/69، فواتح الرحموت 2/207، نشر البنود 2/65، الكفاية في علم الرواية ص 422، تدريب الراوي 1/204، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص555.
(4) في ق: ((قصد)) .
(5) قال المصنف في كتابه: نفائس الأصول (7/3010) ((يكفي في تنبيهنا على شرعيته أن الراوي رأى السواد الأعظم يفعله، فيغلب على ظنه أنهم على الصواب، فيخبرنا بذلك، سواء اطلع على علم النبي عليه الصلاة والسلام أم لا. وقد كان مالك وجماعة من العلماء يعتمدون على أقضية الصحابة وإن صدر ذلك من بعضهم، من غير أن ينضم إليه علم النبي عليه الصلاة والسلام بذلك، لقوله عليه السلام: ((أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم)) ـ سبق تخريجه_ فلعلّ هذا مدرك الراوي)) .
(6) في ن: ((الشريعة)) .

(2/275)


وأيضاً فالصحابة رضوان الله عليهم يقتضي حالهم أنهم لا يُقِرُّون بين أظهرهم إلا ما يكون شرعاً، فيكون ذلك شرعاً.
مراتب رواية غير الصحابي
ص: وأما غير الصحابي: فأعلى مراتبه أن يقول: حدَّثني أو أخْبَرني [أو سمعتُه (1) ، وللسامع منه أن يقول حدثني أو أخبرني أو سمعته يحدّث عن فلان، إن قصد إسماعه خاصةً أو في جماعة، وإلا فيقول] (2) : سمعته يحدث (3) .
الشرح
إذا حدَّث جماعةً هو أحدُهم صَدَق لغةً أن يقول: حدثني وأخبرني، وأما إذا لم يقصِدْ إسماعَه ولا إسماع جماعةٍ هو فيهم لا يصْدُق أنه حدَّثه ولا أخبره، بل يصدق أنه
سمع فقط، فإن سماعه (4) لا يتوقف على [قصد إسماعه] (5) .
ص: وثانيها (6) : أن يقول له (7) : أسمعت هذا من فلان؟ فيقول (8) : نعم، أو يقول (9) بعد الفراغ (10) : الأمر كما قُرِيء (11) ، فالحكم مثل الأول في وجوب العمل ورواية
_________
(1) في ن: ((سمعت)) .
(2) ما بين المعقوفين ساقط من س.
(3) هذه المرتبة يصطلح عليها المحدثون بالسماع من الشيخ سواء من صدره أو سطره. ويسمّيها الأصوليون: قراءة الشيخ، وفي كون هذه المرتبة أعلى من التي تليها وهي: القرآءة على الشيخ خلافٌ، مع الاتفاق بكونهما أعلى المراتب. انظر: المستصفى 1/309، المحصول للرازي 4/450، شرح مختصر الروضة للطوفي 2/203 كشف الأسرار للبخاري 3/78، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/69، البحر المحيط للزركشي 6/309، التوضيح لحلولو ص323، شرح الكوكب المنير 2/490 فواتح الرحموت 2/210، علوم الحديث لابن الصلاح ص132، فتح المغيث للسخاوي 2/151، ظفر الأماني للكنوي ص504.
(4) هنا زيادة: ((هو)) في ن، س.
(5) في س: ((قصده سماعاً)) والمثبت أوضح في المراد.
(6) في س: ((وثالثها)) وهو تحريف. والمرتبة الأولى هي المذكورة في المتن السابق.
(7) أي: أن يقول الراوي لشيخه بعد القراءة.
(8) أي: الشيخ.
(9) أي: الشيخ.
(10) أي: بعد فراغ التلميذ من القراءة.
(11) تسمَّى هذه المرتبة بالقراءة على الشيخ أو العرض أو عرض القراءة. انظر المراجع السالفة في هامش (3) في هذه الصفحة.

(2/276)


السامع (1) .
الشرح
لأن لفظة ((نعم)) في لغة العرب تقتضي إعادة الكلام الأول وتقريره، فإذا قلْتَ لغيرك: أقام زيد؟ فيقول: نعم، تقديره: نعم قام زيد، فإذا قيل له: أسمعت هذا؟ فقال (2) : نعم؛ [تقديره: نعم] (3) سمعته.
وقوله الأمر كما قُرِيء المراد بالأمر مسموعه وما ضَبَطه، تقديره الذي سمعْتُه وضبطْتُه (4) مثلُ الذي قُرِيء، فيكون عين المسموع له، لأنا (5) لا نعني بعينه إلا ذلك، فإن اللفظ إذا أعيد بعينه كان الثاني مثل الأول قطعاً، وكلما كرَّر الإنسان (6) الفاتحة كانت أصواته الثانية مِثْلَ أصواته الأولى (7) لا عَيْنَها، بل هي أمثالٌ تُكَرَّرُ.
_________
(1) قال الشوشاوي في " رفع النقاب " القسم 2/726 ((أما كون هذا القسم مثل القسم الأول في
وجوب العمل فهو أمر متفق عليه. أما كونه مثل الأول في رواية السامع فهو مختلَفٌ فيه، فجرى
كلام المؤلف على قولٍ، إذ فيه للمحدَّثين ثلاثة أقوال؛ قيل: قراءة الشيخ على الطالب أصح، وهو
مذهب الجمهور. وقيل: قراءة الطالب على الشيخ أصح على عكس الأول، وهو مذهب
مالكٍ رضي الله عنه. وقيل: هما سواء، وهو مذهب أهل المدينة قديماً وحديثاً ... )) ثم ذكر مأخذ كل قول.
وانظر: التوضيح لحلولو ص324، الكفاية في علم الرواية ص 262، تدريب الراوي للسيوطي 1/426، الباعث الحثيث 1/330.

* لكن اختلفوا في كيفية أداء السامع لما تحمَّله قراءةً على شيخه، فقيل: له أن يقول: حدثني وأخبرني وسمعته، وقيل: بل لابد من تقييد ذلك بالقراءة، وقيل: ليس له أن يقول إلا أخبرني وأخبرنا، بناء على التفريق بينها وبين حدثني وحدثنا، وقيل غير ذلك. انظر: إرشاد طلاب الحقائق للنووي ص123، توضيح الأفكار للصنعاني 2/188، توجيه النظر للجزائري 2/712.
(2) في ق: ((فيقول)) .
(3) ساقطة من س.
(4) في ق: ((وما ضبطته)) .
(5) ساقطة من ن.
(6) في ق: ((إنسان)) .
(7) في ق: ((الأُوَل)) .

(2/277)


ص: وثالثها: أن يكتب (1) إلى غيره سماعه (2) ، فللمكتوب إليه [أن يعمل
بكتابه] (3) إذا تحقّقه أو ظنه (4) ، ولا يقول: سمعتُ ولا حدثني (5) ، ويقول: أخبرني (6) .
الشرح
قد تقدَّم أن (7) الاعتماد على الخط والكتابة جوَّزه في الرواية كثيرٌ ممن منعه في الشهادة، وتقدَّم الفرق بينهما، وتوجيهُ الخلاف في ذلك (8) ، وكونُ المكتوب إليه يقول: ((أخبرني)) معناه: أعلمني، والإعلام والإخبار يصدق لغةً (9) بالرسائل (10) ، وفي التحقيق
_________
(1) أي: أن يكتب الشيخ إلى الطالب شيئاً من حديثه.
(2) في ق: ((بسماعه)) ، وفي ن: ((سماعاً)) .
(3) ما بين المعقوفين في ق هكذا ((العمل بكتابته)) .
(4) هذه هي المرتبة الخامسة عند المحدثين، وتسمَّى: بالكتابة أو المكاتبة، وهي: أن يكتب الشيخ للطالب الذي يريد الرواية عنه شيئاً من مروياته (مسموعاته) ، أو يأذن لغيره أن يكتب عنه للطالب، سواء كان الطالب حاضراً مجلس الشيخ أم غير حاضر. وهي نوعان، الأول: كتابة مقرونة بالإجازة، كأن يقول له في آخر الكتاب: ((ارْوِ عنّي ما في الكتاب)) أو يقول: ((هذا سماعي وأجزتك أن ترويه عني)) . وحكمه: جواز الرواية بها اتفاقاً. الثاني: كتابة مجردة عن الإجازة، وحكمه: منع قوم الرواية بها، والأكثرون على جواز الاحتجاج بها. انظر: الإحكام للآمدي 2/101، نهاية الوصول للهندي 7/3011، رفع النقاب القسم 2/729، شرح الكوكب المنير 2/509، تيسير التحرير 3/92، المُحدِّث الفاصل للرامهرمزي ص 441، 452، الكفاية في علم الرواية ص336، الإلماع للقاضي عياض ص83، تدريب الراوي 1/480.
(5) لأن الكتابة ليست مما يُسمع، ولا هي من الحديث. انظر: رفع النقاب القسم 2/730.
(6) نُقل عن الليث بن سعد وغيره جواز إطلاق: حدثنا وأخبرنا. وجوّز آخرون: أخبرنا دون حدثنا. وقال الصنعاني في توضيح الأفكار 2/209 ((والمختار الصحيح اللائق بمذهب أهل التحرّي والنزاهة أن يقيد ـ عند الرواية ـ ذلك فيقول: أخبرنا كتابةً، أو كتب إليّ، أو نحو ذلك تحرزاً من اللبس والإيهام)) وانظر: البحر المحيط للزركشي 6/322، علوم الحديث لابن الصلاح ص173.
(7) ساقطة من ن.
(8) انظر ص 251 وما بعدها.
(9) ساقطة من ن.
(10) قال ابن فارس: ((الخاء، والباء، والراء، أصلان، فالأول: العلم ... )) معجم المقاييس في اللغة، مادة "خبر" وجاء في لسان العرب ((قولهم: لأخْبُرَنَّ خُبْرَك، أي: لأعْلَمَنَّ عِلْمك)) انظر مادة " خبر ". وانظر الفرق بين الإخبار والإعلام في كتاب: الفروق في اللغة لأبي هلال العسكري ص104.

(2/278)


هو مجاز لغوي حقيقة اصطلاحية (1) ، فإن الإخبار لغةً إنما هو في اللفظ، وتسمية الكتابة (2) إخباراً أو خَبَراً؛ لأنها تدل على ما يدل عليه الإخبار، والحروف الكتابية موضوعة للدلالة على الحروف اللسانية، فلذلك سميت خبراً أو إخباراً من باب تسمية الدليل باسم المدلول.
ص: ورابعها: أن يقال له: هل سمعْتَ هذا (3) ، فيشير برأسه أو بأصبعه، فيجب العمل به (4) ،
ولا يقول المشار إليه: أخبرني ولا حدثني ولا سمعته (5) .
الشرح
هذه الإشارة قائمة في اللغة والعُرْف مقام قوله: نعم، فتفيد غلبة الظن أنه معتقِدٌ صحةَ ما قيل له، والعمل بالظن واجب في [هذا الباب] (6) ، ولا تسمى هذه
الإشارة خبراً ولا إخباراً ولا حديثاً، ولا هي شيء يسمع (7) ، فلا يقول: سمعته (8) ،
_________
(1) الحقيقة قد تكون مجازاً، والمجاز قد يصير حقيقةً، والذي يَعْنِينا هو الثاني؛ وهو صيرورة المجاز حقيقةً عرفية، لأن المجاز إذا كثر استعماله صار حقيقةً عرفية وهُجِرتْ حقيقته اللغوية، فصار مجازاً لغوياً، مثل الغائط؛ كان مجازاً في قضاء الحاجة، وحقيقته في المكان المُطْمَئِن من الأرض، ثم تعُوُرف هذا المجاز، وكثر استعماله حتى صار حقيقةً سابقة إلى الفهم. انظر: الطراز ليحيى العلوي اليمني ص49، وانظر كلام المصنف في ذلك: ص44 (المطبوع) .
(2) ساقطة من ن، وفي ق: ((الكتاب)) .
(3) في ق: ((كذا)) .
(4) ساقطة من س، ق، متن هـ.

هذه المرتبة وكذا المرتبتان التاليتان؛ الخامسة السادسة تلتحق بالمرتبة الثانية عند المحدثين، وهي القراءة على الشيخ، سواء أقرَّ بالمسموع أو أشار أو سكت انظر: المستصفى 1 / 309، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/69، الكفاية في علم الرواية ص 259، تدريب الراوي 1/434. وحكم هذه المرتبة: وجوب العمل بها عند جماهير المحدثين والفقهاء، وخالف بعض الظاهرية وبعض الشافعية إذ شرطوا نطق الشيخ وإقراره تصريحاً. انظر: البحر المحيط للزركشي 6/317، علوم الحديث لابن الصلاح ص141، توضيح الأفكار للصنعاني 2/191.
(5) في ق، ن: ((سمعت)) . وهذا أحد الأقوال، إذ لابد من التقييد بالقراءة، وقيل: يجوز مطلقاً، وقيل: يجوز في ((أخبرني)) دون الباقي. انظر: شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/69، الكفاية في علم الرواية
ص 296، توضيح الأفكار للصنعاني 2 / 191.
(6) في ن: ((الشرع)) .
(7) في س: ((تسمع)) .
(8) لأنها من المُبْصَرات لا من المسموعات.

(2/279)


ويُحْتاج (1) في هذا المقام إلى الفرق بينها وبين الكتابة، فإنَّ كليهما فعل، وكلاهما لا يصدق عليه الإخبار حقيقةً لغويةً، فيقع الفرق من وجهين (2) ، أحدهما: أن الكتابة أمسُّ بالإخبار في كثرة الاستعمال، فلما اطَّرد* ذلك صار كأنه موضوع للإخبار، والإشارة أقل من الكتابة في ذلك، وتداولُ المُكاتَبات بين الناس أكثر من تداول الإشارات (3) ، ولذلك امتلأت الخزائن من الكتب، والدول من الدواوين كلها بطريق الكتابة. وثانيهما في الفرق: أن الكتابة فيها وضع اصطلاحي بخلاف الإشارة.
ص: وخامسها: أن يقرأ عليه، فلا ينكره* بإشارة ولا عبارة، ولا يعترف، فإن غلب على الظن اعترافهُ لزم العمل (4) ، وعامة الفقهاء جوّزوا روايته، وأنكرها (5) المتكلمون، وقال بعض المحدثين: ليس له أن يقول إلا أخبرني قراءة عليه (6) .
وكذلك الخلاف لو قال القاريء للراوي بعد قراءة الحديث: أأرويه (7) عنك؟ فقال: نعم، وهو السادس (8) ، وفي مثل هذا اصطلاحُ المحدِّثين (9) وهو من مجاز
_________
(1) في ن: ((ولا يحتاج)) بزيادة ((لا)) النافية وهو خطأ؛ لأنه خلاف المقصود.
(2) في س: ((جهتين)) .
(3) في ن، ق: ((الإشارة)) .
(4) أي: أن يقرأ الطالب على الشيخ فيقول الطالب لشيخه: هل حدّثك فلان بهذا؟ فيسكت دون إنكار أو إقرار أو إشارة. وهذه المرتبة ـ كما أسلفت ـ داخلة في مرتبة القرآءة على الشيخ عند المحدثين وبعض الأصوليين، والحكم عليها واحد. انظر: المستصفى 1/ 309، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/69، البحر المحيط للزركشي 6/317، الكفاية في علم الرواية ص 280، علوم الحيث لابن الصلاح ص141، توضيح الأفكار للصنعاني 2/191.
(5) في ق: ((وأنكره)) .
(6) انظر الخلاف في جواز الرواية بهذا الطريق في: شرح اللُّمع للشيرازي 2/651، المحصول للرازي 4/451، شرح مختصر الروضة للطوفي 2/203، كشف الأسرار للبخاري 3/78، البحر المحيط للزركشي 6/419، إرشاد طلاب الحقائق للنووي ص124، فتح المغيث للسخاوي 2/184.
(7) في ن متن هـ: ((أرويه)) .
(8) يعني أن الخلاف المذكور في المرتبة الخامسة هو أيضاً كذلك يجري في المرتبة السادسة، وهي، أن يقول القاريء للشيخ بعد الفراغ من قرآءة الحديث: أأرويه عنك؟ فيقول الشيخ: نعم. انظر: رفع النقاب للشوشاوي القسم 2/735.
(9) أي: أن المحدثين لا يفرِّقون في الحكم على الرواية بين سكوت الشيخ أو نطقه، فالكل تصحُّ الرواية به. انظر هامش (4) ص (279) .

(2/280)


التشبيه (1) (2) ، شُبِّه (3) السكوت بالإخبار (4) .
الشرح
إذا غلب على (5) الظن اعترافه لزم العمل به؛ لأن العمل بالظن واجب، غير أن هاهنا إشكالاً (6) : وهو أن مطلق الظن كيف كان لم يعتبره صاحب الشرع، بل [ظنٌ خاصٌّ] (7) [عند سببٍ خاصٍّ] (8) ، فما ضابط هذا الظن الحاصل (9) هاهنا؟. فإن قلنا: يكفي مطلق الظن ضَعُف من حيث القواعد، وإن قلنا: المطلوب ظن خاص ضعف ضبطه (10) .
ووجه تجويز الرواية أمران، أحدهما: قياساً على العمل به (11) ، وثانيهما: أن الظن حصل باعترافه فتجوز الرواية، كما لو قال: نعم.
_________
(1) في ق: ((الشبيه)) ، وفي س: ((الشبه)) .
(2) المجاز: ضد الحقيقة، وإنما يقع المجاز ويعُدل إليه عن الحقيقة لمعانٍ ثلاثة: التوسع، والتوكيد، والتشبيه، فإذا انعدمت هذه المعاني تعينَّت الحقيقة. كما أن للمجاز عدة أقسام وأنواع، كمجاز الحذف، والزيادة، والتضاد وغيرها، ومجاز التشبيه أحد هذه الأقسام. انظر: الخصائص لابن جني 2/442، المزهر في علوم اللغة وأنواعها للسيوطي 1 / 356.
(3) في س: ((يشبه)) وهو تحريف.
(4) هذا عجيب من المصنف، لأنه إذا وقع تشبيه السكوت بالإخبار فتشبيه الإشارة بالإخبار أولى بالوقوع منه. ومع ذلك منع المصنف هناك ـ في المرتبة الرابعة ـ أن يقول المشار إليه: أخبرني أو حدثني أو سمعته، وهنا نقل الخلاف في الرواية في حال السكوت، فنقْلُ الخلاف في الرواية حال الإشارة أولى وأظهر، وهذا ما فعله المحدثون وبعض الأصوليين. انظر المراجع المذكورة في هامش (5) ص 279، وهامش (6) ص 280. وانظر حكاية التعجب في: نهاية الوصول للهندي 7/3011، البحر المحيط للزركشي 6/311، 321.
(5) في س: ((عن)) .
(6) في س: ((إشكالان)) وهو تحريف لأنه إشكالٌ، وخطأ نحوي؛ لأن اسم " إن " منصوب.
(7) في ق: ((ظناً خاصاً)) وهو جائز على أن ((بل)) عاطفة على الضمير المفعول به في قوله ((يعتبره)) .
(8) ساقط من س.
(9) ساقط من ن.
(10) ماذا لو قيل في ضبطه بالنظر إلى قرائن الأحوال الظاهرة من تيقُّظِ الشيخ التام عند الإقراء عليه، وفهمه لما يقرأ، وإصغائه الدقيق مع عزوفه عن الصوارف القاطعة عن المتابعة، وكونه لا يقرُّ على خطأ أو وَهْم، بل يحرص على التصحيح والتصويب؟. انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص141، توضيح الأفكار للصنعاني 2/191.
(11) ساقطة من ق، ن.

(2/281)


حجة المنع: أن الرواية هي التحمُّل والنقل، وهو لم يأذن في شيء فيتحمَّل عنه، والتحمل بغير سماع ولا ما يقوم مقام السماع لا يجوز (1) .
وقوله: ((أخبرني قراءةً عليه)) : معناه أن إخباره لم يكن بإسماعي (2) لفظاً (3) [من قِبَله] (4) ، لأنه ساكت بل إخباري قراءةً عليه، فكأنه فسَّر* الإخبار بأنه قرأ عليه، فإن
((قراءةً)) منصوب على التمييز والتمييز مُفسِّر (5) .
وأما قوله: ((نعم)) فهو أقوى من الأول لوجود التصريح بالجواب من حيث الجملة (6) .
ص: وسابعها: إذا قال له: حدِّثْ عني ما في هذا الكتاب، ولم يقل له (7) : سمعتُه، فإنه لا يكون محدِّثاً له به، وإنما أذِن له في التحديث (8) عنه (9) .
_________
(1) لكن أجيب بمنع الثاني؛ لأن هاهنا ما يقوم مقام السماع، وهو غلبة الظن باعترافه. انظر: رفع النقاب القسم 2/734.
(2) في ق: ((بسماعي)) وهو تحريف، وفي ن: ((سماعياً)) وهو سائغ.
(3) في ن: ((لفظياً)) .
(4) ساقط من ق.
(5) التمييز عند النحاة: هو اسمٌ فَضْلةٌ نكرةٌ جامدٌ، مفسِّرٌ لما انبهم من الذوات. شرح قطر الندى لابن هشام ص 223. شرح الحدود النحوية للفاكهي ص 171.
(6) إذا كان الأمر كذلك كان الأولى تقديم المرتبة السادسة على المرتبة الخامسة التي ليس فيها إلا السكوت فقط.
(7) ساقط من ن.
(8) في ق، ن: ((التحدث)) وهكذا في سائر نسخ المتن ما عدا نسخة متن د، ونسخة س. والمثبت أقعد؛ لأن ((حدَّث)) مصدرها ((التحديث)) . انظر: لسان العرب مادة " حدث ".
(9) هذه المرتبة تسمى: بالمناولة: وهي إعطاء الشيخ للطالب شيئاً ـ ككتابٍ ونحوه ـ من مروياته، سواء كان الإعطاء تمليكاً أو هبةً أو بيعاً أو إجارة أو إعارة. انظر: ظفر الأماني للكنوي ص (519) . وهي نوعان، الأول: مناولة مقرونة بالإجازة، ولها صور منها، أن يقول الشيخ: خُذْ هذا الكتاب فهو سماعي وروايتي، فارْوِهِ عنَّي، أو أجزتُ لك روايته عني. أو يجيء الطالب إلى الشيخ بكتابٍ أو جزءٍ من حديثه فيَعْرِضه عليه ليتأملَّه، وهو عارف يَقِظ، فيقول الشيخ: وقفْتُ عليه، وهو سماعي، فارْوِ عني، وتسمَّى هذه الصورة عَرْضاً أو عَرْض المناولة للتفريق بينها وبين عرض القرآءة. وحكم هذا النوع: هو الاتفاق على صحة الرواية بها. الثاني: مناولة مجردة عن الإجازة، بأن يدفع الشيخ الكتاب، ويقول: هذا حديثي أو سماعي، ولا يقول له: ارْوِه عني، أو أجزت لك روايته عني. حكمها: أنها مناولة مختلَّة، لا تجوز الرواية بها، وحُكي عن طائفة جواز الرواية بها. انظر: المحصول للرازي 4/453، نهاية الوصول للهندي 7 / 3012، البحر المحيط للزركشي 6 / 324، التوضيح لحلولو ص 324، رفع النقاب القسم 2 / 737، شرح الكوكب المنير 2 / 503، فواتح الرحموت 2/211، الكفاية في علم الرواية ص 326، علوم الحديث لابن الصلاح ص165، توضيح الأفكار للصنعاني 2/204، تدريب الراوي 1/467.

(2/282)


وثامنها: الإجازة (1)
تقتضي أن الشيخ أباح له أن يحدث به، وذلك إباحة للكذب، ولكنه في عُرْف المحدثين (2) معناه: أن ما صحَّ عندك أني سمعته فارْوه عني. [والعمل عندنا (3) بالإجازة جائزٌ (4) خلافاً لأهل الظاهر (5) في اشتراطهم المناولة، وكذلك إذا كتب إليه أن الكتاب الفلاني رويتُه فارْوه عني إن (6) صح عندك، فإذا صح عنده جازت له الرواية، وكذلك إذا قال له مشافهةً: ما صح عندك من حديثي فارْوه
عني] (7) .
_________
(1) ينبغي أن يلاحظ أن ما ذكره المصنف هنا هو: مناولة مقرونة بالإجازة، لكن دخلها الخلل من جهة عدم تصريح الشيخ بالسماع، ومعلوم أن شرط الرواية السماع، لأجل ذلك لم تَجُزْ الرواية بها عنه. والمصنف ـ عفا الله عنه ـ اجتزأ كلام الرازي في المحصول (4/453) ، فأتى بهذه العبارة هنا دون عبارة المحصول السابقة لها التي هي أصلٌ لهذه.
() الإجازة، لغة: العبور، والانتقال، والإباحة القسيمة للوجوب والتحريم. انظر: لسان العرب مادة
" جوز "، وانظر: فتح المغيث للسخاوي 2/214، توضيح الأفكار للصنعاني 2/193.
واصطلاحاً: الإذن في الرواية لفظاً أو كتابة. انظر: شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص (677) ، ظفر الأماني للكنوي ص (512) . والإجازة أنواع وضروب، أطنب المحدثون في أوصافها. انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص151، الإلماع للقاضي عياض ص88، توجيه النظر للجزائري 1/479.

لو ذكر المصنف صورة الإجازة هنا ثم ذكر نوعيها من الإجازة المطلقة، والمقيدة، ثم حكم عليهما، كما ذكرهما في الشرح لكان أولى. انظر: المحصول للرازي 4 / 454.
(2) انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص151، الإلماع للقاضي عياض ص88، فتح المغيث للسخاوي 2/217، توضيح الأفكار للصنعاني 2/193.
(3) في ن: ((عنده)) والمثبت أوضح.
(4) هذا رأي جمهور الأصوليين والمحدثين، والمحكي عنهم الوجوب، فلعلَّ المصنف أصدر الحكم بالجواز في مقابلة قول الرأي الآخر في أنه غير جائز. انظر المعتمد 2/171، العدة لأبي يعلى 3 / 983، إحكام الفصول 382، الإبهاج 2/335، كشف الأسرار للبخاري 3 / 88، علوم الحديث لابن الصلاح ص 153، الإلماع للقاضي عياض ص 88.
(5) وهو رواية عن الشافعي. انظر: الإحكام لابن حزم 1/273، التلخيص للجويني 2/391، البحر المحيط للزركشي 6/328، الكفاية في علم الرواية ص316، تدريب الراوي 1 / 449.
(6) في متن هـ ((إذا)) وهو مقبول أيضًا. انظر هامش (7) ص 16.
(7) ما بين المعقوفين ساقط من س.

(2/283)


الشرح
إيضاح للمرتبة السابعة وحكمها
لا يمكنه أن يسند الرواية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لم يقل له (1) : سمعْتُه، فإنه لم يُثْبِتْ أصْلَ نفسه، فيبطل (2) العمل به.
إيضاح المرتبة الثامنة وهي الإجازة
والإجازة تقتضي بظاهرها الكذب؛ لأن لفظها أجزْتُ لك أن تروي عني كل شيء، أو أجزْتُ لك الرواية عني مطلقاً (3) ، فهذا يقتضي أنه يروي* عنه كل شيء، وهو إباحة الكذب، [أما لو قُيِّدتْ بقوله (4) : أجزت لك أن تروي عني (5) ما صح عندك أني أرويه (6) لم تكن إباحةً للكذب] (7) ، وكذلك إذا (8) قال له (9) المجيز: لك (10) ذلك بشرطه شرعاً (11) أو بشرطه المعتبر عند أهل الأثر، فهذا كله مقيد، وليس فيه إباحة كذب.
والعمل بالإجازة جائز، معناه إذا صح عنده أن مجيزه روى (12) هذا بطريق صحيح، فيرويه (13) هو عنه بمقتضى الإجازة، فيتصل السند وإذا اتصل السند جاز العمل.
_________
(1) ساقطة من ن. والمعنى المقصود هنا: إذا لم يقل الشيخ للتلميذ.
(2) في ن: ((فبطل)) .
(3) تسمى هذه بالإجازة المطلقة، وهي التي ظاهرها يقتضي إباحة الكذب؛ لأنه أباح له أن يحدِّث بما لم يحدثه به.
(4) في ق: ((نحو)) .
(5) ساقطة من ق.
(6) هذه تُسمَّى بالإجازة المقيدة، وهي التي أشار إليها المصنف في المتن بقوله: ((في عرف المحدثين)) سواء كانت مشافهةً أو مناولةً أو مكاتبةً، كما ذكر المصنف صورها في المتن.
(7) ما بين المعقوفين ساقط من ن.
(8) في ق: ((لو)) .
(9) ساقطة من س، ن.
(10) في س، ن: ((له)) .
(11) في ن: ((الشرعي)) .
(12) في قي: ((يروي)) .
(13) في ق: ((فيروي)) ، وفي س: ((ويرويه)) .

(2/284)


قال القاضي عبد الوهاب (1) : اختلف أهل العلم (2) (3) في الإجازة، وهي: أن يقول الراوي لغيره قد أجزْتُ لك أن تروي هذا الكتاب عني أو يكتب إليه بذلك فمنعها (4)
مالك وأشهب (5) وعليه أكثر الفقهاء، واختلفوا فيما يقول المُجَاز إذا أجزْنا (6) ذلك، فقيل: يقول ((أخبرني إجازة)) ولا يقول ((أخبرني مطلقاً، ولا حدثني)) . وقيل: يقول ((كتب إليّ (7) وأجازني)) فقط (8) .
_________
(1) انظر قوله في: رفع النقاب للشوشاوي القسم 2/740، وأشار إليه السيوطي في تدريب الراوي 1/449.
(2) في ن: ((المذهب)) .
(3) هنا زيادة: ((وأهل الحديث)) في ن.
(4) هكذا في أكثر النسخ ولا سيما العريقة منها. أما في النسخ ز، م، ش، ففيها ((فقبلها)) والمثبت أولى؛ لأن الثابت عن أشهب هو المنع. انظر: فتح المغيث (2 / 218) ، ولأنه نقل عن الإمام مالك المنع، قال ابن قاسم: سألت مالكاً عن الإجازة، فقال: لا أراها، إنما يريد أحدهم أن يقيم المقام اليسير ويحمل العلم الكثير. وبنحوه نقل عنه ابن وهب. انظر: الكفاية في علم الرواية ص (316) ، جامع بيان العلم وفضله لابن عبد البر (2/1159) ، فتح المغيث للسخاوي (2/219) . ومع ذلك قال الخطيب البغدادي ((ثبت عن مالك رحمه الله أنه كان يحكم بصحة الرواية لأحاديث الإجازة. فأما الذي حكيناه عنه آنفاً فإنما قاله على وجه الكراهة أنْ يجيز العلم لمن ليس من أهله ... )) الكفاية في علم الرواية ص (317) . وقال الأبياري: ((اختلف قول مالك في إسناد الرواية إلى الإجازة، والصحيح عندي ما قدمته فيها)) وهو عدم الجواز. التحقيق والبيان (رسالة جامعية) ص 848، وفي نشر البنود (2/69) حكى المنع عن مالك. وقال القاضي عياض ((وروى الوجهان عن مالك، والجواز عنه أشهر، وهو مذهب أصحابه من أهل الحديث وغيرهم، وظاهر رواية الكراهة عنه لمن لا يستحقها لا لنفسها)) . إكمال المعلم بفوائد مسلم (1 / 190) . وحكى ابن عاشور بأن لمالك ثلاثة أقوال: الإباحة، والمنع، والكراهة. انظر: حاشية التوضيح والتصحيح 2 / 148..
(5) هو أشْهَب بن عبد العزيز بن داود القيسي الجَعْدي، اسمه: مسكين، وأشهب لقب، روى عن مالك والليث والفضيل بن عياض وغيرهم، انتهت إليه الرئاسة في مصر بعد ابن القاسم. قال الشافعي عنه: ما رأيت أفقه من أشهب. توفي عام 204هـ. انظر: ترتيب المدارك 2/447، وفيات الأعيان 1/238، الديباج المذهب ص162.
(6) في ن: ((جوزنا)) وهي بنفس المعنى.
(7) في ق "أو".
(8) وقيل يجوز بأي لفظٍ مِنْ: حدثنا وأخبرنا ونحوهما مطلقاً. وقيل: يقول: أنبأنا. انظر هذه الأقوال في: إحكام الفصول ص382، شرح اللمع 2/651، المسودة ص288، كشف الأسرار للبخاري 3/90، الكفاية في علم الرواية ص 330، إرشاد طلاب الحقائق للنووي ص 136، فتح المغيث للسخاوي 2/305.

(2/285)


حجة أهل الظاهر: أن خصوص هذا الكتاب الذي وجده الآن لم يسمعه من شيخه، فلم يتصل السند فيه، فلا يجوز نسبته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يجوز العمل به.
وجوابهم: أن السند متصل بالطريق الذي بيَّناه. وقد صح عنده (1) رواية مجيزه له فاتصل السند، ولا حاجة للمناولة؛ لأنه إذا ثبت أن مجيزه يرويه، فهذا (2) الطريق (3) يقوم (4) مقام المناولة، والمقصود حصول اتصال السند بطريق صحيح كيف كان.
ومعنى قوله: ((إن الكتاب الفلاني رويته فاروه عني إذا صح عندك)) معناه: إذا صحَّ عندك [أن النسخة التي معك هي] (5) النسخة التي رويتُها أنا، أو هي مُقابَلةٌ (6) عليها مُقَابَلةً لا يُشك أن هذه مثلَ تلك من غير زيادة ولا نقص. أما صحة أصل الرواية في ذلك الديوان من حيث الجملة لا تبيح له إباحة جميع نُسَخه كيف كانت؛ لاحتمال الزيادة أو النقص، فلا تجوز الرواية ولا العمل (7) ،
وفي الأول تجوز الرواية والعمل، ومعنى جواز العمل: أنه يجوز للمجتهد أن يجعله مستنده في الفتيا بحكم الله تعالى، أما
_________
(1) في ن: ((عند)) وهو تحريف.
(2) في ق: ((فهذه)) ، وفي س: ((هذه)) وهو مقبول، لأن ((الطريق)) تذكر وتؤنث، والتذكير فيه أكثر وأجود. انظر: المذكر والمؤنث للفراء ص 87، لسان العرب مادة " طرق ".
(3) في ق: ((الطريقة)) .
(4) في ن، ق: ((تقوم)) وهو متَّجه؛ لما ذكر في هامش (2) من هذه الصفحة.
(5) ساقط من ن.
(6) ساقطة من س.
والمقابلة في اللغة من قابل الشيء بالشيء مقابلةً وقِبالاً، أي: عارضه. ومقابلة الكتاب بالكتاب أي معارضته، إذا جعلت ما في أحدهما مثل ما في الآخر. انظر: لسان العرب مادة " قبل "، فتح المغيث للسخاوي 3/75.
وفي الاصطلاح: أن يقابل الناسخ نسخته أو ما نقله بأصل شيخه أو بأصل موثوق به، وإصلاح ما يوجد من فروق أو تصحيف أو تحريف أو زيادة أو نقص. انظر: الكفاية في علم الرواية ص239، فتح المغيث للسخاوي 3/78، توثيق النصوص وضبطها عند المحدثين د. موفق بن عبد الله ص125.
(7) قال الخطيب البغدادي: ((يجب على من كتب نسخةً من أصل بعض الشيوخ أن يُعارض نسخته بالأصل. فإن ذلك شرط في صحة الرواية من الكتاب المسموع)) الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع 1/428.

وقال القاضي عياض: ((وأما مقابلة النسخة بأصل السماع ومعارضتها به فمتعيّنة لابد منها. ولا يحلُّ للمسلم التقّي الروايةُ ما لم يُقَابِل بأصل شيخه أو نسخةٍ تحقّق ووَثِق بمقابلتها بالأصل ... )) الإلماع إلى معرفة أصول الرواية وتقييد السماع ص 158 - 159.

(2/286)


من ليس بمجتهد فلا يجوز له العمل بمقتضى حديثٍ وإن صحَّ عنده سنده، لاحتمال نسخه وتقييده وتخصيصه وغير ذلك من عوارضه التي (1) لا يضبطها إلا المجتهدون (2) ، وكذلك لا يجوز للعامي الاعتماد على آيات الكتاب العزيز لما تقدَّم، بل الواجب على العامي تقليدُ مجتهدٍ مُعْتَبرٍ ليس إلا، لا يُخلِّصه من (3) الله تعالى إلا ذلك، كما أنه لا يخلِّص المجتهدَ التقليدُ، بل يؤدي إليه اجتهادُه بعد بذل جهده بشرطه.
_________
(1) في س، ن: ((الذي)) .
(2) في ن: ((المجتهدين)) وهو خطأ نحوي، لأن موقعها الإعرابي فاعل مرفوع بالواو؛ لأنه جمع مذكر سالم.
(3) في ق: ((مع)) .

(2/287)


الفصل العاشر
في مسائل شتى (1)
حجية الحديث المرسل
ص: فالأولى (2) : المراسيل (3)
عند مالك وأبي حنيفة وجمهور المعتزلة حجة (4) ،
_________
(1) أي: في بيان مسائل متفرقة مختلفة، لم تجتمع في جنسٍ واحد، ولا ينظمها عِقْد واحد. وهي ثلاث مسائل، الأولى: في حجية الحديث المرسل. والثانية: في حكم رواية الحديث بالمعنى. والثالثة: في حكم زيادة الثقة.
(2) في ق: ((الأولى)) وفي س، ن: ((فالأول)) والمثبت من ز، م، ش ومتن ر، ومتن أ.
(3) جمع مُرسل، لغة: المُطْلق، والمُهْمَل، وهو اسم مفعول من أرسل. انظر: لسان العرب مادة " رسل ".

واصطلاحاً: اختلفت عبارات الأصوليين والمُحدِّثين، والأقدمين منهم والمتأخرين في تعريف المرسل، ومردُّ اختلافهم إلى الاختلاف في موقع السقط من الإسناد. فالحديث المرسل عند المتقدمين: هو ما سقط من سنده رجل واحد، سواء كان المُرسِل تابعياً أو من بعده. فعلى هذا الاصطلاح يكون الحديث المرسل والمنقطع سواء. والمُرسل عند أهل الأصول: ما رواه العدل من غير إسناد متصل، أو هو قول العدل غير الصحابي ((قال رسول الله صلى الله عليه وسلم)) . والحديث المرسل الذي استقرَّ عليه اصطلاح المتأخرين: هو ما سقط من آخر إسناده مَنْ بَعد التابعي. وصورته: أن يقول التابعي ـ سواء كان صغيراً أو كبيراً ـ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كذا أو فعل كذا أو فُعِل بحضرته كذا ونحو ذلك. انظر اصطلاح الأصوليين للمرسل في: الرسالة للشافعي ص461، المعتمد 2/143، منتهى السول والأمل 87، البحر المحيط للزركشي 6/338، التوضيح لحلولو ص326، شرح الكوكب المنير 2/574، فواتح الرحموت 2 / 222. وانظر اصطلاح المحدثين للمرسل في: معرفة علوم الحديث للحاكم ص32، الكفاية في علم الرواية ص 384، جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي ص16. فتح المغيث للسخاوي 1/156، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص 399.
(4) وهو أيضاً رواية عن أحمد وبعض المحدثين، واشترطوا العدالة في المُرْسِل. والأحناف قيدوا الحجية بمراسيل أهل القرون الثلاثة الأولى المفضلة. انظر: المقدمة في الأصول لابن القصار ص 71، المعتمد 2 / 143 العدة لأبي يعلى 3/906، 917، إحكام الفصول ص349، أصول السرخسي 1/360، الواضح في أصول الفقه لابن عقيل 4 / 421، الإحكام للآمدي 2/123، المسودة ص250، كشف الأسرار للبخاري 3/7، الضياء اللامع 2 / 209، نشر البنود 2/56 جامع التحصيل في أحكام المراسيل للعلائي ص27، 92، فتح المغيث للسخاوي 1/161، تدريب الراوي للسيوطي 1/223، ظفر الأماني للكنوي ص351.

(2/288)


خلافاً للشافعي (1) ؛ لأنه إنما أرسل حيث جزم بالعدالة [فيكون حجة] (2) .
الشرح
حجة الشافعي رضي الله عنه: أنه إذا سكت عن الراوي جاز أن يكون إذا اطلعنا نحن عليه
لا نقبل (3) روايته، ولم نُكلَّف نحن بحسن ظن المُرْسِل (4) فيه، فحصول الظن لنا إذا كشفنا حاله أقوى من حصوله إذا قلدناه فيه وجهلناه، والدليل ينفي العمل بالظن (5) كما تقدَّم (6) ، خالفناه إذا عُلِمتْ عدالة الراوي بالبحث والمباشرة، فيبقى على مقتضى الدليل فيما عداه.
حجة الجواز: أن سكوته عنه مع [عدالة الساكت] (7) وعلمِهِ أن روايته يترتَّب عليها شرع عام، فيقتضي ذلك أنه ما سكت عنه إلا وقد جزم بعدالته، فسكوته كإخباره بعدالته، وهو لو زكَّاه عندنا قبلنا تزكيته وقبلنا روايته، فكذلك سكوته عنه، حتى قال بعضهم: إن المُرْسَل أقوى من المُسْند (8)
بهذا (9) الطريق، وهو أن المُرْسِل قد
_________
(1) وهو أيضاً مذهب جماهير المحدثين، وأهل الظاهر، وبعض الأصوليين، ورواية أخرى عن أحمد. انظر: المراجع السابقة، وانظر أيضاً: الرسالة للشافعي ص461ـ465 الإحكام لابن حزم 1/145، التبصرة ص326، المستصفى 1/318، التمهيد لأبي الخطاب 3/131، نهاية الوصول للهندي 7/2976، التمهيد لابن عبد البر 1/51، علوم الحديث لابن الصلاح ص54، توجيه النظر للجزائري 2/559.
وقداختلفت الروايات عن الإمام الشافعي في قبول المرسل، هل يردُّه مطلقاً أم يقبله بشروط؟ وسيأتي في الشرح ذكرها.
(2) ساقط من ق.
(3) في ن: ((لا تقبل)) .
(4) في ن: ((المراسل)) والمثبت هو الصواب؛ لأنه الموافق للاصطلاح.
(5) ساقطة من ن.
(6) انظر: ص 221.
(7) ما بين المعقوفين في ق: ((عدالته)) .
(8) قال به عيسى بن أبان، وهو رأي لبعض الحنفية وبعض المالكية. قال ابن عبد البر: ((وقالت طائفة من أصحابنا: مراسيل الثقات أولى من المسندات، واعتلُّوا بأن من أسند لك فقد أحالك بالبحث عن أحوال من سمَّاه لك. ومن أرسل من الأئمة حديثاً مع علمه ودينه وثقته، فقد قطع لك على صحته وكفاك النظر ... )) التمهيد له (1/3) . وانظر: الفصول في الأصول للجصاص 3 / 146، أصول السرخسي 1/361، قواطع الأدلة 3 / 41، كشف الأسرار للبخاري 3 / 13، التقرير والتحبير 2/385.

لكن اعتبر العلائي تقديم المرسل على المسند غلواً، وذكر أقوالاً في أرجحية أحدهما على الآخر ولا سيما عند التعارض. انظر: جامع التحصيل في أحكام المراسيل ص29.
(9) في ن: ((لهذا)) والخطب سهل؛ لأن اللام كما تكون للتعليل فكذا الباء السببية.

(2/289)


تذمَّم الراوي وأخذه [في ذمته] (1) عند الله تعالى، وذلك يقتضي وثوقه بعدالته، أما إذا أسند فقد فوَّض أمره للسامع ينظر فيه ولم يتذمَّمه، فهذه الحالة أضعف من الإرسال (2) .
المراسيل التي يقبلها الشافعي
فرع: نُقِل عن الشافعي رضي الله عنه أنه قال: لا أقبل المراسيل (3) إلا مراسيل سعيد بن المسُيَّب (4) ، فإني اعتبرتها فوجدتها مسندةً (5) ، ففي الحقيقة ما اعتبر إلا مسنداً.
قال القاضي عبد الوهاب (6) في " الملخص ": ظاهر مذهب الشافعي رد المراسيل مطلقاً وهو قول أصحاب الحديث، ومن أصحابه من يقول: إن مذهبه قبول مراسيل الصحابة، وأما مراسيل التابعين فيعتبرها بأمور تقويها (7) ، أحدها: إذا كان ظاهر حاله أن ما يرسله يسنده (8) غيره (9) . وثانيها: أن ما أرسله قال به بعض الصحابة. وثالثها: أن يفتي به عامةُ العلماء. ورابعها: أن يُعْلم [من حاله] (10) أنه إذا سمَّى لا يُسمِّي
_________
(1) ساقط من ن.
(2) سلف نقل هذا القول من المصنف في ص (117) .
(3) في س، ن: ((المراسل)) لم أقف على هذا الجمع إلا إذا قيس على: مُسند مساند مسانيد، ومنكر مناكر مناكير. انظر: المغرب في ترتيب المعرب لابن المطرز، لسان العرب كلاهما مادة " رسل "، وانظر: مادة " سند " في القاموس المحيط، هامش (4) ص 127.
(4) هو سعيد بن المُسَيَّب بن حَزَن المخزومي، من كبار التابعين والمحدثين، وأحد فقهاء المدينة السبعة، ولد في أول خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وكان أحفظ الناس لأحكام عمر وأقضيته. توفي عام 94هـ
وقيل غير ذلك. انظر: وفيات الأعيان 2 / 375، تهذيب التهذيب 2 / 335، سير أعلام النبلاء
4 / 217.
(5) قال الشافعي: ((إرسال ابن المسيب عندنا حسن)) مختصر المزني بهامش الأم (8 / 78) ، وقال: ((ليس المنقطع بشيء ما عدا منقطع سعيد بن المسيب)) المراسيل لابن أبي حاتم ص (12) ، وقال: ((لا نحفظ أن ابن المسيب روى منقطعاً إلا وجدنا ما يدلُّ على تسديده، ولا أَثره عن أحدٍ فيما عرفناه عنه إلا ثقة معروف، فمن كان بمثل حاله قبلنا منقطعه ... )) الأم 3/ 188.
(6) أشار إليه الزركشي في البحر المحيط 6/349.
(7) في س: ((بأحد أمور أربعة تقويها)) وهو خطأ؛ لأنه يعتبر المراسيل بالأمور الأربعة مجتمعة لا بواحدٍ منها. وفي ن، ق: ((بأمور أربعة)) والمثبت هنا من سائر النسخ.
(8) ساقطة من س.
(9) في ن: ((غيرها)) ولا أعلم لها وجهاً.
(10) ساقط من ن.

(2/290)


مجهولاً ولا من فيه علةٌ تمنع من (1) قبول حديثه*. ومن أصحابه من يقول مذهبه قبول مراسيل سعيد والحسن (2)
دون غيرهما (3) ، وحُكي عن بعض من يقبل المراسيل أنه شرط أن يكون المُرْسِل صحابياً أو تابعياً دون تابعي التابعي (4) إلا أن يَثْبتَ أنه إمام، وقاله عيسى بن أبان (5) .
سؤال: الإرسال هو إسقاط صحابي من السند* (6) ، والصحابة كلهم عدول، فلا فرق بين ذكره والسكوت عنه، فكيف جرى الخلاف فيه؟
جوابه (7) : أنهم عدول إلا عند قيام المعارض (8) وقد يكون المسكوت [عنه منهم] (9)
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) هو الحسن بن أبي الحسن يسار البصري، مولى الأنصار، ولد في خلافة عمر رضي الله عنه سنة 21هـ، روى عن جمع من الصحابة، وهو من علماء التابعين وزهادهم، ومن المجاهدين. توفي عام 110هـ. انظر: وفيات الأعيان 2 / 69، تهذيب التهذيب 1 / 481، سير أعلام النبلاء 4 / 563.

عامة كتب الأصول ومصطلح الحديث تذكر قبول الشافعي مراسيل ابن المسيب، أما نسبة قبول مراسيل الحسن إليه فلم أرها إلا هنا، وفي التوضيح شرح التنقيح لحلولو ص327، ورفع النقاب للشوشاوي القسم 2/746، وابن التلمساني في شرح المعالم ص 2 / 208، ونقله الزركشي في البحر المحيط (6/353) عن الجويني. وقال ابن التركماني: ((وقد ذكر البيهقي في رسالته إلى الجويني أن الشافعي لم يخص مرسل ابن المسيب بالقبول، بل يقبل مرسله ومرسل غيره من كبار التابعين كالحسن وابن سيرين وعطاء وسليمان بن يسار إذا اقترن بها ما يؤكدها من الأسباب)) الدر النقي بذيل السنن الكبرى للبيهقي 10/304 وانظر: شرح علل الترمذي لابن رجب ص 186.
(3) اختلف أئمة الشافعية في توجيه مذهب الشافعي في الحكم على المرسل، وقد أطال النفسَ في تحريره واستقصائه ـ بلا مزيد فيما أعلم ـ الزركشي، فانظره في: البحر المحيط 6/353 ـ 367 وانظر: الرسالة للشافعي ص461 ـ 467.
(4) في ق: ((التابعين)) وهو مقبول.
(5) انظر النسبة إليه في: أصول السرخسي 1/363، ميزان الأصول للسمرقندي 2 / 644، بديع النظام (نهاية الوصول) لابن الساعاتي 1 / 390.
(6) هذا التحديد للإرسال وفْق ما استقر عليه اصطلاح المحدثين، وإلا فهو أعم مما ذكر، كما هو عند الأصوليين. ثم يمكن أن يُسقْط التابعي تابعياً آخر من السند. ولهذا تعقَّب السخاوي المصنف في هذه العبارة فقال: ((ليس بمتعيّن فيه)) انظر: فتح المغيث للسخاوي 1/156، وراجع هامش (3) ص 288.
(7) هذا الجواب ساقط من ق.
(8) تقدم إيضاح معنى المعارض عند المصنف.
(9) ما بين المعقوفين في ن: ((عند من)) .

(2/291)


عَرَض في حقه ما يوجب القَدْح فيُتَوقَّف في قبول (1) الحديث حتى يعلم سلامته عن القادح. وإسقاط تابعيٍّ أو غيرِه يسمى منقطعاً [لا مرسلاً] (2) في الاصطلاح (3) .
حكم رواية الحديث بالمعنى
ص: ونَقْل الخبر بالمعنى عند أبي الحسين البصري (4) ، وأبي حنيفة (5) والشافعي (6) جائز خلافاً لابن سيرين (7) [وبعض المحدثين] (8)
بثلاثة شروط: أن لا تزيد الترجمة،
_________
(1) ساقط من ق.
(2) ساقط من س، ن.
(3) انظر: نفائس الأصول 7/3032.
(4) انظر: المعتمد 2/141.
(5) وهو مذهب أكثر أتباعه، لكن بشرط ألاَّ يكون اللفظ مشتركاً أو مجملاً أو مشكلاً. انظر: أصول السرخسي 1/355، ميزان الاصول للسمرقندي 3 / 650، فتح الغفار لابن نجيم 2/104، تيسير التحرير 3/97، فواتح الرحموت 2 / 213.
(6) انظر: الرسالة للشافعي ص270ـ275، 370، 374، 380، وانظر: التلخيص 2/404، المحصول للرازي 4/466، الإحكام للآمدي 2/103، البحر المحيط للزركشي 6/270، وممن جوز الرواية بالمعنى من المالكية الباجي في إحكام الفصول ص384، وابن العربي في محصوله ص497، وابن الحاجب في منتهى السول والأمل ص83، وانظر: نشر البنود 2/57 ـ 62، وجوَّز الحنابلة أيضاً الرواية بالمعنى؛ انظر: العدة لأبي يعلى 3/968، التمهيد لأبي الخطاب 3/161، شرح الكوكب المنير 2/530.
(7) هو أبو بكر محمد بن سيرين الأنصاري، وسيرين مولى لأنس بن مالك رضي الله عنه ولد في آخر خلافة عثمان بن عفان، روى عن جمع من الصحابة، كان ورعاً فقيهاً عالماً مشهوراً بتعبير الرؤيا. توفي عام 110هـ. وفيات الأعيان 4 / 181، تهذيب التهذيب 5 / 139، سير أعلام النبلاء 4 / 606.
(8) ما بين المعقوفين ساقط من س. وممن ذهب إلى منع الرواية بالمعنى ابن حزم والجصاص وبعض الشافعية، وحكاه الخطيب في الكفاية ص (198) عن كثير من السلف وأهل التحري في الحديث، ونقله الجويني في البرهان (1/656) عن معظم المحدثين وشرذمة من الأصوليين.

واختلفت الرواية عن الإمام مالك، فنقل عنه الخطيب في الكفاية ص (288) أنه لا يُجوِّز الرواية بالمعنى وأيده القرطبي، وقال هو الصحيح من مذهب مالك. وروُي عنه أنه يجيزها وأيده القاضي عياض في الإلماع ص (179) ، وحمل رواية المنع على الاستحباب. وجاء في شرح العضد لمختصر ابن الجاجب (2/70) أنه روي عن مالك أنه كان يشدد في الباء والتاء في مثل: بالله وتالله، فلا يجوِّز أحدهما مكان الآخر مع ترادفهما وتوازيهما، وحُمل تشديده ذلك على المبالغة في أن الأولى صورته، لا أنه يجب صورته. وللباجي توضيح جيد لمذهب الإمام مالك. انظر: إحكام الفصول ص 384. انظر: المسألة في: الفصول في الأصول للجصاص 3 / 211، الإحكام لابن حزم 2/87، التبصرة ص346، كشف الأسرار للبخاري 3/111، الضياء اللامع 2 / 214، نثر الورود 1/408، الكفاية في علم الرواية ص178، 188، فتح المغيث للسخاوي 3/140، تدريب الراوي 1/533

(2/292)


ولا تَنْقُص، ولا تكون أخفى (1) ؛ لأن المقصود إنما هو إيصال المعاني (2) ، فلا يضر فوات غيرها (3) .
الشرح
متى زادت عبارة الراوي أو نقصت، فقد زاد في الشرع أو نقص، وذلك حرام إجماعاً، ومتى كانت عبارة الحديث جلِيَّة فغيَّرها (4) بعبارة خفية فقد أوقع في الحديث وَهْناً يوجب (5) تقديم غيره عليه بسبب خفائه، فإن الأحاديث إذا تعارضتْ (6) في الحكم الواحد يُقدَّم أجْلاها على أخفاها، فإذا كان أصل الحديث جلِياً فأبدله بخفيٍّ فقد أبطل (7)
_________
(1) وفي المسألة مذاهب أخرى، منها: يجوز للصحابة دون غيرهم، لظهور الخلل في اللسان بعدهم، وقيل:
يجوز للصحابة والتابعين فقط، وقيل: يجوز إذا نسي اللفظ دونما إذا ذكره، إلى غير ذلك من الأقوال.
ومنهم من جوَّز في الأوامر والنواهي دون الأخبار، ومنهم من جوَّز في الإفتاء والاحتجاج والمذاكرة دون الرواية والتبليغ. انظر هذه الأقوال وأدلتها في: أحكام القرآن لابن العربي 1 / 35، البحر المحيط للزركشي 6 / 275، التوضيح لحلولو ص 328، فتح المغيث للسخاوي 3 / 141، تدريب الراوي
1 / 536، وقد استبحر في بحث هذه المسألة في صفحات كثيرة كتاب " توجيه النظر " للجزائري 2/671 فانظره.
() مرد هذه الشروط إلى اشتراط عدم إحالة المعنى بأن يكون عالماً بدقائق الألفاظ، بصيراً بمقادير التفاوت بينها. وكذلك اتفقوا على عدم جواز تغيير الألفاظ المتعبَّد بها كالأذان والأذكار والتشهد، وكذلك عدم تغيير الألفاظ التي من جوامع الكلم، كالخراج بالضمان، ومِنْ حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه، والبينة على المدعي، وأن لا يكون المروي بالمعنى من باب المتشابه الذي استأثر الله بعلمه، وكذلك لا يجري الخلاف فيما يستدل به على حكم لغوي إلا أن يكون المغيِّر عربياً ممن يُستدّل بكلامه، وكذلك لا يجوز لأحد أن يغيِّر لفظ كتابٍ مصنَّفٍ ويُثبت بدله لفظاً آخر بمعناه. انظر مواضع الاتفاق هذه في: الكفاية في علم الرواية ص198، علوم الحديث لابن الصلاح ص213، البحر المحيط للزركشي 6/271، شرح علل الترمذي لابن رجب ص 108، نشر البنود 2/62.
(2) في س: ((المعنى)) .
(3) في ق، ن: ((غيره)) وهو تحريف.
(4) في س: ((فعبّرها)) ، وفي ق: ((فعبَّر عنها)) .
(5) في ق: ((فوجب)) .
(6) في ن: ((كان)) ولا أعلم لها وجهاً.
(7) في ق: ((بطل)) .

(2/293)


منه مزية (1) حسنة تُخِلُّ به عند التعارض، وكذلك إذا كان الحديث خفي العبارة فأبدلها بأجلى منها، فقد أوجب له حكم التقديم على غيره، وحكم الله أن يُقدَّم غيرُه عليه عند التعارض. فقد تسبَّبَ (2) بهذا التغيير (3) في العبارة إلى تغيير (4) حكم الله تعالى وذلك لا يجوز، فهذا هو مستند (5) هذه الشروط، [فإذا حصلت هذه الشروط] (6) حينئذٍ يجري الخلاف في الجواز، أما عند عدمها فلا يجوز إجماعاً (7) .
حجة الجواز: أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يسمعون (8) الأحاديث، ولا يكتبونها، ولا يكررون عليها، ثم يروونها بعد السنين الكثيرة، ومثل هذا يَجْزِم الإنسان فيه أن نفس العبارة لا تنضبط بل المعنى فقط، ولأن أحاديث كثيرة وقعت بعباراتٍ مختلفة وذلك مع اتحاد القصة، وهو دليل جواز النقل بالمعنى، ولأن لفظ السنة ليس متعبَّداً (9) به بخلاف لفظ القرآن، فإذا ضُبِط المعنى فلا يضرُّ (10) فوات ما ليس بمقصود.
حجة المنع: قوله عليه السلام ((رحم الله ـ أو نضَّر الله ـ امْرَءاً سمع مقالتي فأدَّاها كما سمعها، فرُبَّ حاملِ فقهٍ إلى من هو أفقهُ منه، ورُبَّ حاملِ فقه (إلى من) (11)
ليس بفقيه)) (12) ، فقوله: ((أدَّاها كما سمعها)) يقتضي أن يكون اللفظ المؤدَّى كاللفظ
_________
(1) في ق: ((مرتبة)) .
(2) في س: ((تسببت)) .
(3) في ق، ن: ((التعبير)) وهو سائغ.
(4) في ق، ن: ((تغير)) .
(5) في ق: ((سبب)) وهو متَّجِه أيضاً.
(6) ساقط من ن.
(7) انظر: نفائس الأصول 7/3035.
(8) في س: ((يستمعون)) .
(9) في س: ((معتبراً)) وهذا التعبير غير لائقٍ إطلاقه على ألفاظ النبي صلى الله عليه وسلم.
(10) في ن: ((يضدّ)) ولعلَّه تحريف.
(11) ما بين الحاصرتين ساقط من النسختين ن، س، وهو الصواب؛ لأن الحديث لم يثبت بها فيما وقفت عليه. وإنما لم أحذفها؛ لأن المصنف أمعن في إثباتها ليستقيم له استدلاله المذكور في ص (259) .

كما أن سائر النسخ الخطية قد صححت إثبات هذه الزيادة. انظر: هامش (3) ص (259) .
(12) سبق تخريجه.

(2/294)


المسموع عملاً بكاف التشبيه، والمسموع في الحقيقة إنما هو اللفظ وسماع المعنى تَبَعٌ له، والتشبيه وقع بالمسموع فلا يشبهه (1) حينئذٍ إلا مسموع (2) ، أما المعنى فلا، وذلك يقتضي أنه عليه السلام أوجب نَقْلَ مثل ما سمعه لا خلافَه، وهو المطلوب (3) .
حكم زيادة الثقة
ص: وإذا زادتْ إحدى الروايتين على الأخرى - والمجلسُ مختلفٌ - قُبِلتْ، وإن كان واحداً - ويتأتَّى (4) الذُّهُول عن تلك الزيادة - قُبِلتْ، وإلا لم تقبل (5) .
_________
(1) في ن، س: ((يشبه)) .
(2) في س: ((مسموعاً)) وهو صحيح بالنسبة لما سبقها وهو ((يشبه)) .
(3) والجواب عنه أنه صلى الله عليه وسلم أوجب ذلك على غير الفقيه دون الفقيه، وإلا فلا فائدة من هذا التعليل. ثم إن هذا الحديث بعينه قد رُوي بالمعنى، فروى بعضهم ((نضرَّ الله)) ، وبعضهم ((رحم الله)) ، وغير ذلك من الألفاظ. انظر: إحكام الفصول ص385، المستصفى 1/317.
* لعل هنا نكتة في إيراد المصنف الحديث باللفظين، وإلا فقد سبق له إيراده بلفظ واحد كما في
ص (259) . والله أعلم.
(4) في ق: ((وتأتى)) .
(5) هذه مسألة ((زيادة الثقة)) . والمراد بزيادة الثقة: ما تفرد به الراوي الثقة من زيادة في الحديث عن بقية الرواة الثقات عن شيخ لهم. انظر الباعث الحثيث (1/190) . وأما حكم هذه الزيادة من حيث القبولُ والردُّ فينظر أولاً إلى أحوال مجلس الرواية، وهي ثلاثة أحوال؛ الأولى: أن يُعْلم تعدُّدُه فتقبل قطعاً، وهذا قد حكاه المصنف. الثانية: أن يُشْكل الحال، فلا يُعلم تعدُّدُه أو اتحاده، فمن العلماء من جزم بقبولها، ومنهم من رجح القبول، ومنه من توقف حتى يوجد المرجِّح. الثالثة: أن يُعلم اتحادُ المجلس، ففي هذه الحالة اختلف العلماء على مذاهب؛ منها: قبولها مطلقاً سواء تعلق بها حكم شرعي أم لا، وسواء غيرَّتْ الحكم أم لا، وثانيها: عدم قبولها مطلقاً، وثالثها: الوقف، ورابعها: إن كان غيره لا يتأتى منه الذهول لم تقبل وإلا قبلت، وهذا حكاه المصنف، وخامسها: إن كانت الزيادة تُغيِّر إعراب الباقي كما لو رَوَى راوٍ: في أربعين شاةً شاةٌ، وروى الآخر: نصف شاة، لم تقبل ويتعارضان فلابد من الترجيح، وسادسها: لا تقبل إلا إذا أفادتْ حكماً شرعياً، ذكره المصنف في الشرح. وسابعها: عكسه. وقيل غير ذلك. انظر هذه المذاهب وحججها في: المعتمد 2/128 الإحكام لابن حزم 1/223، أصول السرخسي 2/25، قواطع الأدلة 3/13، المحصول للرازي 4/473، الإحكام للآمدي 2/108 المسودة ص 299، نهاية الوصول للهندي 7/2949، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/72، البحر المحيط للزركشي 6/232 ـ 246، التقرير والتحبير 2/391، التوضيح لحلولو ص329، شرح الكوكب المنير 2/541، فواتح الرحموت 2/221، نشر البنود 2/36، النكت على ابن الصلاح لابن حجر 2/686، فتح المغيث للسخاوي 1/245 تدريب الراوي 1/285..

(2/295)


الشرح
قال القاضي عبد الوهاب (1) في " الملخص ": إذا انفرد بعض رواة الحديث بزيادة وخالفه بقية الرواة، فعند (2) مالك (3) وأبي الفرج (4) من أصحابنا تقبل (5) إن كان ثقة ضابطاً (6) . وقال الشيخ أبوبكر الأبهري (7) وغيره لا تقبل (8) ، ونفوا الزيادة المروية في حديث عدي بن حاتم* ((وإن أكَل فلا تأكل)) (9)
وبالأول قال الشافعية.
حجة الجواز: أن انفراده بالزيادة كانفراده بحديثٍ آخر، فتقبل كما يقبل
الحديث الأجنبي، وأما ما يُفرق به [من أن] (10) انفراده بالزيادة يُوجِب [فيه
وَهْناً] (11) بخلاف الحديث الأجنبي، فمدفوع بأنه قد يسمع ولا يسمعون، ويذكر
_________
(1) انظر: رفع النقاب القسم 2/768. وإلى مذهبه أشار الزركشي في البحر المحيط 6/235، 236.
(2) في ن: ((فعن)) والمثبت أنسب للسياق.
(3) انظر مذهبه في: المقدمة في الأصول لابن القصار ص92، الضياء اللامع لحلولو 2/171، نشر البنود 2/36.
(4) هو عمرو بن محمد بن عمرو الليثي البغدادي، ولي قضاء طرسوس وأنطاكية والثغور، أخذ عنه أبوبكر الأبهري، كان فصيحاً فقيهاً. من مؤلفاته: الحاوي في مذهب مالك، اللمع في أصول الفقه. توفي عام 331هـ انظر: الديباج المذهب ص309، شجرة النور الزكية 1/79.
(5) في ن، ق: ((يقبل)) والصواب المثبت؛ لأن مرجع الضمير مؤنث. انظر: هامش (6) ص 109.
(6) وهو ما ذهب إليه الباجي في: الإشارة ص251، وابن العربي في: محصوله ص508، وغيرهما.
(7) انظر الضياء اللامع لحلولو 2/171.
(8) في س: ((لا يقبل)) والمثبت هو الصواب، لأن مرجع الضمير مؤنث. انظر: هامش (6) ص 109.
(9) روى عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: سألت النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ((إذا أرسلت كَلْبكَ المُعَلَّم فقتل فكُلْ، وإذا أكل فلا تأكل، فإنما أمسكه على نفسه ... )) الحديث رواه البخاري (175) وبنحوه مسلم برقم عام (1929) وخاص (2) في كتاب الصيد.

قال ابن رشد في المقدمات الممهدات (1/418) : ((وما روى شعبة عن عدي بن حاتم عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا أكل الكلب فلا تأكل)) [بنحوه البخاري برقم (5487) لكن عن الشعبي لا شعبة] قد خالفه فيه همَّام ولم يذكر هذه الزيادة [حديث همام عن عدي عند البخاري برقم (5477) ] . واللفظة إذا جاءت في الحديث زائدة لم تقبل إذا كانت مخالفة للأصول. وقد روى ابن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم ما تشهد الأصول بصحته، وهو أنه قال: ((إذا أكل فكل)) )) . [رواية ابن عمرو عن أبي ثعلبة الخشني عند أبي داود برقم (2852) ] ، لكن ابن حجر في فتح الباري (9/752) قال: ((وسلك بعض المالكية الترجيح، فقال: هذه اللفظة ذكرها الشعبي ولم يذكرها همام، وعارضها حديث أبي ثعلبة، وهذا ترجيح مردود)) .
(10) في س، ن: ((بأن)) .
(11) في ن: ((وَهْيٌ)) لو قال: ((وَهْياً)) لكانت صحيحة لانتصابها على المفعولية. والوَهْيُ: الضَعْف. انظر مادة " وهي " في: مختار الصحاح.

(2/296)


وينسون، وعدالته وضبطه يوجب (1) قبول قوله مطلقاً، وقد يكون المجلس (2) واحداً (3) ، ويَلْحَق بعضَهم ما يشغله عن سماع جميع الكلام.
حجة المنع: أن روايةَ جميع الحفاظ (4) - غيرَ هذا الراوي - عدمَ الزيادة [في روايتهم تقوم (5) مقام تصريحهم] (6) بعدمها، وتصريحهم مقدَّم على روايته هو.
والجواب: أنه ليس كالتصريح بل يتعين حمله على الذهول الشاغل، جمعاً بين ظاهر عدالة راوي الزيادة وعدالة التاركين لها.
قال القاضي (7) : ((واختلف في صفة (8) الزيادة المعتبرة، فقيل: الاعتبار بالزيادة اللفظية فقط المفيدة لحكم شرعي، ولا تكون (9) تأكيداً ولا قصة (10) لا يتعلق بها حكم شرعي، كقولهم في مُحْرِمٍ وَقَصَتْ (11)
به ناقته في أُخَاقِيق جُرْذان (12) فإنَّ ذِكْر الموضعِ لا يتعلق به
_________
(1) في ن: ((توجب)) .
(2) في س: ((الملجس)) وهو تحريف.
(3) في ق: ((واحد)) وهو خطأ نحوي، لأن خبر كان حقه النصب.
(4) في س، ق: ((الحافظ)) .
(5) في س، ن: ((يقوم)) والمثبت من و، ص وهو الصواب. انظر: هامش (6) ص 109.
(6) ما بين المعوقفين في ق هكذا: ((فذلك كتصريحهم)) .
(7) جرت عادة المصنف إطلاق لفظ ((القاضي)) على القاضي أبي بكر الباقلاني. غير أن المراد بالقاضي هنا القاضي عبد الوهاب الذي مرَّ ذكره قريباً، يؤيد ذلك أن الزركشي في البحر المحيط (6/238) حكى هذا القول عن القاضي عبد الوهاب. والله أعلم.
(8) ساقطة من س.
(9) في ق: ((ولا يكون)) وهو خطأ. انظر: هامش (6) ص 109.
(10) في ن: ((ولا قضية)) .
(11) قال ابن الأثير: ((وفي حديث المحرم ((فوقصت به ناقته فمات)) . الوَقْص: كسر العنق. وَقَصْتُ عنقه أقِصُها وَقْصَاً، ووَقَصَتْ به راحلته، كقولك: خُذِ الخطام، وخُذْ بالخطام. ولا يقال: وقَصَتْ العنقُ نفسها، ولكن يقال وُقِصَ الرجل فهو موقوص)) . النهاية في غريب الحديث والأثر. مادة " وقص ".

وقد جاء حديث المحرم الذي وقصته دابته في: البخاري (1265) ، ومسلم (1206) وغيرهما من حديث ابن عباس رضي الله عنهما من غير ذكرٍ لـ" أخَاقيق جُرْذان ".
(12) جاءت هذه اللفظة في حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه، وفيه: ((فوقعت يَدُ بَكْرِهِ - الإبل الفتي - في أخَاقيق الجُرْذان، فاندقَّتْ عنقه ... فمات)) أخرجه الطبراني في المعجم الكبير. (2/362) برقم (2329) . وفي رواية عند الإمام أحمد في مسنده (4/359) ((ثم إن بعيره دخلت يده في شبكة جُرْذان

(2/297)


حكم شرعي، وكذلك الناقة دون الفرس. وأما الزيادة في المعنى فلا عبرة بها، بل يجب الأخذ بالزيادة اللفظية وإن أدَّتْ إلى نقصانٍ من جهة المعنى، ولا يُعتدّ بزيادة المعنى في باب الترجيح؛ لأن الزيادة إنما تكون في النقل، والنقل إنما يكون في اللفظ، ويصير (1)
ذلك كخبرٍ مفيدٍ مبتديءٍ.
_________
(1) فهوى بعيره، وهوى الرجل، فوقع على هامته فمات)) . وفي رواية عنده أيضاً ((وقعت يدُ بَكْره في بعض تلك التي تَحْفِرُ الجُرذان)) . وفي روايةٍ عنده (4/357) ((فدخل خُفُّ بعيره في جحر يَرْبوع فوقصه بعيره فمات)) . قال الهيثمي في مجمع الزوائد (1/42) ((رواها كلها أحمد والطبراني، وفي إسناده أبوجناب وهو مدلس وقد عنعنه. والله أعلم)) .
? ... أما معنى ((أُخَاقيق جُرذان)) فالأخاقيق: شقوق الأرض كالأخاديد، واحدها: أُخْقُوق. يقال: خَقَّ في الأرض وخّدَّ بمعنىً. وقيل: إنما هي: لخُاقيق، واحدها: لُخْقُوق. والأول أصح. والخُقّ: الجُحرْ. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر لابن الأثير، مادة: خفق، وكذلك لسان العرب. وأما الجُرْذان: جمع الجُرَذ، وهو الذكَر الكبير من الفأر، وقيل: هو ضَرْب من الفأر، أعظم من اليربوع أكْدَر، في ذَنَبه سواد. انظر: النهاية لابن الأثير 1/249، لسان العرب مادة " جُرد ".

وأنبه هنا بأني لم أجد في كل ما وقفت عليه من روايات الحديث السالف الذكر أن هذا الرجل كان مُحرماً، ولا أنه كان في عرفة؛ فعلهما واقعتان منفصلتان، وحينئذٍ لا يصلح التمثيل به، وربما كان منشأ اللَّبس اشتراك الرجلين في كونهما وقصَتْ بهما دابتهما. والله أعلم.
() في ن: ((ويكون)) .

(2/298)