جزء من شرح تنقيح الفصول في علم الأصول

الباب الثامن عشر
في التعارض (1) والترجيح (2)
وفيه خمسة فصول:
الفصل الأول
هل يجوز تساوي الأمارتين؟
ص: اختلفوا هل يجوز (3) تساوي الأمارتين (4) ؟. فمنعه الكَرْخي (5) ، وجوَّزه الباقون (6) ، والمجوِّزون اختلفوا، فقال القاضي أبوبكر (7) منا وأبو علي وأبو هاشم (8)
_________
(1) التعارض لغة: التقابل والممانعة، انظر: معجم المقاييس في اللغة، لسان العرب كلاهما مادة " عرض ". واصطلاحاً: هو التقابل بين الدليلين على سبيل الممانعة. انظر: بديع النظام (نهاية الوصول) لابن الساعاتي 2 / 695، البحر المحيط للزركشي 8 / 120، شرح الكوكب المنير 4 / 605. وعرَّفه صاحب نشر البنود (2 / 267) بأنه: أن يدل كلٌّ من الدليلين على منافي ما يدل الآخر.
(2) الترجيح لغة: التَمْييل، انظر مادة "رجح " لسان العرب. واصطلاحاً: عرَّفه الآمدي بأنه: اقتران أحد الصالحين للدلالة على المطلوب مع تعارضهما بما يوجب العمل به وإهمال الآخر. الإحكام 4/239.
(3) هنا زيادة ((اختلاف)) في ن وهي مدرجة خطأ؛ لاعوجاج المعنى بها.
(4) تساوي الأمارتين وتكافؤ الأدلة من وجهة نظر المجتهد متفق على وقوعه، إنما محل النزاع ما في نفس الأمر والواقع. انظر: الموافقات للشاطبي 5/342، تشنيف المسامع 3/475، شرح البدخشي 3/204، وللمطيعي بحث نفيس في هذا، فراجعه في: سلم الوصول بحاشية نهاية السول 4/433-435.
(5) انظر النسبة إليه في: بذل النظر ص658، فواتح الرحموت 2/243، الأقوال الأصولية للإمام أبي الحسن الكرخي ص121. والقول بالمنع هو مذهب الحنابلة واختيار بعض الشافعية وقال الزركشي: ((وهو الظاهر من مذهب عامة الفقهاء)) سلاسل الذهب ص432، انظر: شرح العمد 2/293، العدة لأبي يعلى 5/1536، شرح اللمع للشيرازي 2/1071، المسودة ص446، 448، الإبهاج 3/199، جمع الجوامع بحاشية البناني 2/360، التوضيح لحلولو ص370، شرح الكوكب المنير 4/608، نثر الورود 2/582.
(6) انظر: الوصول لابن برهان 2/333، 351، نهاية الوصول للهندي 8/3617، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/298، التمهيد للإسنوي ص505، نشر البنود 2/367.
(7) انظر: إحكام الفصول ص755، المنهاج للباجي ص234، تقريب الوصول ص466.
(8) انظر: شرح العمد 2/294، المعتمد 2/306.

(2/402)


يتخيَّر، ويتساقطان عند بعض الفقهاء (1) ، قال الإمام رحمه الله: إن وقع التعارض في فعل واحد باعتبار حكمين فهذا متعذِّر (2) ،
وإن وقع في فعلين والحكم واحد كالتوجُّه إلى جهتين للكعبة (3) فيتخيَّر (4) . قال الباجي في القسم الأول (5) : إذا تعارضا في الحظر (6) والإباحة يتخيَّر (7) ، وقال الأَبْهَري: يتعين الحظر (8) بناءً (9) على أصله أن الأشياءعلىالحظر (10) ، وقال أبو الفرج: تتعين (11) الإباحة بناءً (12) على أصله أن الأشياء على الإباحة (13) ، فالثلاثة رجعوا إلى حكم العقل (14)
بناءً (15) على أصولهم (16) .
_________
(1) أي: إن عجز عن الجمع والترجيح تساقط الدليلان كالبينتين إذا تعارضتا، ووجب التوقف حيئنذٍ. هذا الرأي نسبه الزركشي إلى ابن كُجّ. انظر: البحر المحيط 8/127.
(2) في ق: ((يتعذر)) ..
(3) في س: ((في الكعبة)) وليس في بقية النسخ ما يعضدها سوى: متن د، وفَرْقٌ بين التعبيرين، فالمثبت هو الصواب، لأن المراد - لإمكان حصول التعارض - التوجه إلى جهتين للقبلة، وهو تعبير المحصول (5/380) . أما التعبير بـ"في الكعبة" فهو لا يُحصِّل المراد لعدم تصوُّر التعارض في التوجّه إلى أي وجهٍ داخل الكعبة.
(4) ساقطة من ن. هذا النقل عن الإمام بمؤدى كلامه. انظر المحصول 5/380 - 388.
(5) وهو إذا وقع التعارض في فعل واحدٍ بين حكمين، وهما: الحظر والإباحة.
(6) في س: ((الحضر)) وهو خطأ إملائي.
(7) انظر: إحكام الفصول ص755، المنهاج للباجي ص234.
(8) انظر النسبة إليه في: إحكام الفصول ص755، المنهاج للباجي ص234، تقريب الوصول ص466.
(9) ساقطة من ن.
(10) سبق بحث مسألة " حكم الأشياء قبل ورود السمع " عند المصنف ص 88 - 93 من هذا الكتاب
(المطبوع) .
(11) في س ظ، ومتن هـ: ((يتعين)) ، وهو جائز، انظر: هامش (11) ص 27.
(12) ساقطة من ن.
(13) انظر النسبة إليه في: تقريب الوصول ص (467) . أما أبو الفرج فهو: عمرو بن محمد الليثي البغدادي. إمام في القضاء. عنه أخذ أبو بكر الأبهري، من تآليفه: الحاوي في مذهب الإمام مالك، اللمع في الأصول. توفي عام 331هـ. انظر الديباج المذهب ص 309، شجرة النور الزكية 1 / 79.
(14) مقتضى هذه العبارة أن مدرك هؤلاء الثلاثة في حكم الأشياء قبل ورود السمع هو حكم العقل. وهذا

- في الحقيقة - ما نفاه المصنف بعينه عنهم، وأثبت أن مداركهم في أصلهم هذا مدارك شرعية، خلافاً لأهل الاعتزال فإن مدركهم العقل. فصواب العبارة أن تكون: فالثلاثة رجعوا إلى حكم النص على أصولهم. والله أعلم. انظر ما قررَّه المصنف ص (92) من المطبوع. وانظر: رفع النقاب القسم 2/953.
(15) ساقطة من متن هـ.
(16) وجه هذا الرجوع أن الأمارتين عندهم لما تعارضتا تساقطتا، فلما تساقطتا رجع كل واحدٍ منهم إلى أصله في حكم الأشياء قبل ورود الشرائع.

(2/403)


الشرح
حجة منع تساويهما: أن (1) الظنون لها مراتب تختلف باختلاف العقول (2) والسجايا، [ولكن العقول والسجايا] (3) غير منضبطة المقدار، [فما (4) نشأ (5) عنها غير منضبط المقدار] (6) ، فيتعذَّر (7) تساوي الأمارتين (8) .
حجة الجواز: أن الغيم الرَّطْب المُسِفَّ (9) في زمن الشتاء يستوي العقلاء أو
عاقلان (10) فقط (11) في موجَبه وما يقتضيه حاله (12) ، وكذلك الجدار المتداعي للسقوط لابد أن يجتمع في العالم اثنان على حكمه، وإن خالفهما (13) الباقون، فيحصل المقصود، فإنا لا ندعي وجوب (14) التساوي بل [جواز التساوي] (15) وذلك (16) كافٍ فيما
ذكرناه.
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) في س: ((القبول)) وهو تحريف.
(3) ما بين المعقوفين ساقط من س، ق.
(4) في ق: ((فيما)) وهو تحريف.
(5) في ن: ((ينشأ)) .
(6) ما بين المعقوفين ساقط من س
(7) هنا زيادة: ((عدم)) في ن، وهي مفسدة للمعنى.
(8) معنى هذا أنه لابد أن تكون إحدى الأمارتين راجحة، والأخرى مرجوحة فيُعمل بالراجحة.
(9) أسَفّ الطائر والسحابة وغيرهما: دنا من الأرض. والسحاب المُسِفّ هو المتداني من الأرض. انظر: لسان العرب مادة "سفف "، الإفصاح في فقه اللغة ص 478.
(10) في ق: ((عاقلين)) وهو خطأ نحوي؛ لأنها معطوفة على مرفوع.
(11) في س: ((قط)) وهو تحريف.
(12) وهو هطول المطر.
(13) في ن، ق: ((خالفهم)) وهو جائز، لأنه قد يقع لفظ الجمع على التثنية، كما في قوله تعالى: { ... إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ} [ص: 21] انظر: كتاب سيبويه 2/201، 296 شرح المفصل لابن يعيش 3/3.
(14) في ن: ((وجود)) وهو تحريف.
(15) في ق: ((جوازه)) .
(16) هنا زيادة: ((فقط)) في ن.

(2/404)


حجة القول بالتخيير (1) : أن (2) التساوي يمنع الترجيح، والعمل بالدليل الشرعي واجب بحسب الإمكان، فإذا خيَّرناه بينهما فقد أعملنا (3) الدليل الشرعي من حيث الجملة، بخلاف إذا قلنا بالتساقط فإنه إلغاء بالكلية.
حجة التساقط: أنا (4) إذا خيرناه فقد أعملنا (5) دليل* الإباحة، والتقدير أنه (6) مساو (7) لأمارة الحظر، فيلزم الترجيح [من غير مرجِّح] (8) .
ولأنهما (9) إذا تعارضا لم يحصل في نفس المجتهد ظن، وإذا فُقِد الظنُّ والعلم حَرُمت الفتيا.
والجواب عن الأول: لا نسلم أنه ترجيح لأمارة الإباحة من حيث هي أمارة إباحة، بل هذا التخيير نشأ عن التساوي لا عن أمارة الإباحة، وقد تشترك المختلفات في لازم واحد (10) ، فلم (11) يلزم الترجيح من غير مرجح.
وعن الثاني: أن ظن اعتبار أحدهما عيناً منفي (12) ، أما ظن التخيير الناشيء عن التساوي فلا نسلم أنه غير حاصل.
وقول الإمام: ((هذا يتعذر في حكمين في فعل واحد)) ليس كما قال، المتعذِّرُ ثبوت حكمين لفعل واحد من وجهٍ، أما ثبوتهما له من وجهين فليس كذلك، كالصلاة
_________
(1) في ق: ((التخير)) .
(2) في س: ((أو)) وهو تحريف.
(3) في ن: ((عمَّلنا)) .
(4) هذا الدليل الأول
(5) في ن: ((عمَّلنا)) .
(6) في ن، س: ((أنها)) ويكون مرجع الضمير "الإباحة" أو "أمارة" المضمَّنة في معنى " الدليل ".
(7) في ن: ((مساوية)) ، وفي س: ((متساوية)) .
(8) ساقط من س
(9) هذا الدليل الثاني
(10) كاشتراك الإنسان والفرس في الحيوانية.
(11) في س، ن: ((ولا)) .
(12) في ن: ((منفياً)) وهو خطأ؛ لأن خبر " إن " مرفوع.

(2/405)


في الدار المغصوبة حرام وواجبة، وليس (1) من ذلك تعارض الأمارتين فإنَّا [لم نقل] (2) بمقتضاهما (3) ، بل قلنا اقتضيا (4) حكمين متضادين، فلو امتنع ذلك (5) لامتنع وجود المقتضي والمانع في جميع صور (6) الشريعة وليس كذلك (7) ، فلا محال حينئذٍ. ومثاله في حكم واحد في فعلين: أن تدلَّه أمارة على أن القبلة في استقبال جهةٍ (8) وأمارة أخرى على أنها في استدبار تلك الجهة، فالاستقبال والاستدبار فعلان وحكمهما واحد، وهو وجوب التوجه، فيتخيَّر في الجهتين (9) كما قاله الإمام.
ورجَّح السيف الآمدي الحظر على الإباحة عند التعارض بثلاثة أوجهٍ (10) :
أحدها: أن الحظر إنما يكون لتضمن المفاسد، وعناية (11) الشارع والعقلاء بدرء (12) المفاسد أعظم من رعايتهم (13) لتحصيل المصالح، فيقُدَّم الحظر عنده على الواجب والمندوب والمباح.
وثانيها: أن القول بترجيح الحظر يقتضي موافقة الأصل، فإن موجبه عدم الفعل، وعدم الفعل هو الأصل، أما الوجوب ونحوه فموجِبه الفعل (14) وهو خلاف الأصل.
_________
(1) في س: ((وأيسر)) وهو تحريف؛ ولهذا قال ابن عاشور، حسب النسخة التي اطلع عليها ((لم أفهم كونه أيسر ... )) حاشية التوضيح 2 / 93.
(2) في ن: ((لا نقول)) .
(3) في ن: ((لمقتضاهما)) وهو تحريف.
(4) في ق: ((اقتضا)) وهو تحريف.
(5) ساقطة من ن
(6) في ن: ((الصور)) وهي مختلَّة بما بعدها.
(7) قول المصنف هنا ((فلو امتنع ذلك لامتنع وجود المقتضي والمانع ... إلخ)) ، هو استدلال بمحل النزاع، فإن مذهب الإمام الرازي منع اجتماعهما، وقد تقدَّمت شبهة الإمام والرَّد عليها في باب القياس. انظر
ص 384 - 385.
(8) في ن، س: ((وجهة)) .
(9) في ن: ((الوجهين)) .
(10) انظر: الإحكام 4/259-260. علماً بأن الآمدي رجَّح تقديم الحظر على الإباحة بوجهٍ واحد، وتقديم الحظر على الوجوب بوجهين، فالمصنف دمج الأمرين معاً، ولو قال: رجَّح الآمدي الحظر على الإباحة والوجوب عند التعارض بثلاثة أوجهٍ، لكان أسدّ.
(11) في ق: ((رعاية)) .
(12) في ق: ((لدرء)) .
(13) في س: ((عنايتهم)) .
(14) في س، ن: ((العقل)) . وهو تحريف

(2/406)


وثالثها: أن الحظر يُخْرج الإنسان عن عهدته وإن لم يشعر به (1) ، فهو أهون (2) وأقرب للأصول، بخلاف الوجوب ونحوه لابد فيه من الشعور حتى يخرج عن العهدة، فهذه ترجيحاتٌ غير تلك الأصول المتقدمة.
تعدد أقوال المجتهد في المسألة الواحدة
ص: وإذا نُقل عن مجتهدٍ قولان (3) ، فإن كانا في موضعين وعُلم التاريخ عُدَّ الثاني رجوعاً عن الأول (4) . وإن لم يُعلم حُكي عنه القولان (5) ، ولا (6) يُحكم عليه برجوعٍ (7) ، وإن كانا (8)
في موضع* واحد بأن يقول: في المسألة قولان (9) ، فإن أشار
_________
(1) أي: إذا قدَّم المكلف الدليل الحاظر في العمل على دليل الإباحة أو الوجوب، فإن ذمته تبرأ من التأثم، ولو كان تركه للحرام بلا نية ولا شعور منه لغفلته.
(2) لأن ترك الفعل فيه ترك للمشقة، إذ الفعل يتضمن مشقة الحركة.
(3) مناسبة ذكر المصنف لهذه المسألة عقب التي قبلها؛ لأن تعارض قولي المجتهد في حقَّ من قلَّده بمثابة تعارض أدلة الشرع.
(4) وحينئذٍ لا يجوز نسبة القول المتقدم إليه، وهذا قول جمهور العلماء. انظر: المحصول للرازي 5/391، روضة الناظر 3/1013، الإحكام للآمدي 4/201، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/299، التوضيح لحلولو ص371، تيسير التحرير 4/232.
(5) في ن: ((قولان)) .
(6) في ن: ((فلم)) .
(7) هذه صورة أخرى لتعارض قولي المجتهد ولم يُعلم المتقدم منهما، ولا يمكن الجمع بينهما. فالمصنف نقل فيها قولاً واحداً، وهو أن يُنسب إليه القولان ولا يحكم برجوعه عن أحدهما بعينه، وهو اختيار الرازي في المحصول 5/391. وانظر: تقريب الوصول ص (424) . وفي المسألة مذهبان آخران، أحدهما: أن مذهب المجتهد هو الأشبه بأصوله وقواعده، الأقوى دلالة، الأقرب إلى ظاهر الكتاب والسنة، وأما القول الآخر للمجتهد فنكون شاكّين في نسبته إليه، وهو اختيار أبي الخطاب في التمهيد (4/370) ، وابن الصلاح في كتابه: أدب الفتوى ص (86) ، وابن حمدان في كتابه: صفة الفتوى والمفتي والمستفتي ص (87) ، والشريف التلمساني على تفصيلٍ عنده في مفتاح الوصول ص (207) القسم الدراسي. وثانيهما: أنه يجب اعتقاد نسبة أحد القولين إليه من غير تعيين، واعتقادُ أنه رجع عن واحدٍ غير معين، فيمتنع العمل بأحدهما تقليداً إلا بعد معرفة التاريخ، وهو مذهب الآمدي في الإحكام (4/200) . وانظر بحثاً نفيساً في المسألة في كتاب: تحرير المقال فيما تصح نسبته للمجتهد من الأقوال لفضيلة الشيخ د. عياض السلمي ص 82-86.
(8) في س: ((كان)) وهو تحريف..
(9) في ن: ((قولين)) وهو جائز على أنه مفعول به. والمثبت على أنه مبتدأ مؤخر وخبره " في المسألة ".

(2/407)


إلى تقوية أحدهما فهو قوله، [وإن لم] (1) يعلم فقيل (2) : يتخيَّر السامع بينهما (3) .

الشرح
إذا عُلِم الرجوع عن الأول [لم يجز] (4) الفتيا به، ولا تقليده فيه، ولا بقي (5) يُعَدُّ (6) من الشريعة، بل هو كالنص المنسوخ من نصوص (7) صاحب الشريعة (8) [لم يبق (9) منها] (10) .
فإن قلتَ: لأيِّ شيءٍ جَمَع الفقهاء الأقوال كلها السابقة واللاحقة في كتب الفقه، بل كان ينبغي ألاّ يُثْبَت (11) لكل إمام إلا قوله الذي لم يَرْجع عنه؟
قلتُ: ما ذكرتموه أقرب للضبط، غير أنهم قصدوا معنى آخر، وهو الاطلاع على المدارك واختلاف الآراء، وأنَّ مِثْل هذا قد صار إليه المجتهد في وقت، فيكون ذلك أقرب للترقي لرتبة (12) الاجتهاد. وهو مطلب عظيم أهم من تيسير الضبط، فلذلك جُمِعت الأقوال في المذاهب.
وإذا لم يُعْلم التاريخ ولم يُحْكم عليه برجوع ينبغي ألاّ يعمل بأحدهما، فإنا نجزم بأن أحدهما مرجوع عنه منسوخ، وإذا اختلط الناسخ بالمنسوخ (13) حَرُم العمل بهما، كاختلاط المذكَّاة بالميتة، وأختِ الرَّضاع بالأجنبية، فإن المنسوخ لا يجوز الفتيا به
_________
(1) في س: ((وإلا)) .
(2) ساقطة من متن هـ.
(3) وقيل: يتساقطان، ويكون كمن لا قول له في المسألة. انظر: التمهيد لأبي الخطاب 4/359، المحصول للرازي 5/391، الإحكام للآمدي 4/201
(4) في س: ((لا تجوز)) ، وفي ن: ((لا يجوز)) وكلُّه جائز.
(5) في ق: ((يبقى)) ، وفي ن: ((يقرّ)) .
(6) في ق: ((بَعْد)) .
(7) تحرَّفت في ن إلى: ((خصوص)) .
(8) لكن غلَّط الشريف التلمساني من اعتقد من الأصوليين أن القول الثاني من إمام المذهب حكمه حكم الناسخ من قول الشارع، وجوَّز الأخذ بالاجتهاد الأول ما لم يكن نصٌّ قاطع يُرجع إليه. كما أنه فرَّق بين نص المجتهد ونص الشارع. انظر: مقدمة محقق كتاب: مفتاح الوصول للتلمساني تحقيق محمد علي فركوس ص 207-214، وانظر: المعيار المعرب 11/364-371.
(9) في ق: ((يُنْفَ)) وهو تحريف
(10) ساقط من س
(11) في ق: ((يوضع)) .
(12) في س: ((لدرجة)) .
(13) في س، ن: ((والمنسوخ)) وهو صحيح أيضاً.

(2/408)


فذلك (1) كله من باب اختلاط الجائز بالممنوع (2) فتحرم (3) الفتيا حينئذٍ بتلك الأقوال حتى يتعيَّن (4) المتأخر منها (5) ، أو يعلم (6) أنها محمولة على أحوال مختلفة أو أقسام متباينة، فيحمل [كلُّ قولٍ] (7) على حالةٍ أو قِسْمٍ، ولا تكون (8) حينئذٍ أقوال (9) في مسألة واحدة، بل كل مسألة فيها قول.
وأما القولان في الموطن الواحد إذا لم يُشِرْ إلى تقوية أحدهما توجَّه (10) التخيير بينهما قياساً على تعارض الأمارتين، فإن نصوص المجتهد بالنسبة إلى المقلد كنسبة نصوص صاحب الشرع للمجتهد (11) ، ولذلك (12) يُحمل عامُّ (13) المجتهد على خاصِّهِ، ومطلقُه على مقيَّدِه، وناسخُه على منسوخه، وصريحُه على مُحْتَمله (14) ، كما [يُعمل ذلك في نصوص صاحب الشرع] (15) . وأما كيف يُتصَوَّر أن يقول المجتهد في المسألة قولان، مع أنه لا يُتصوَّر عنده (16) الرجحان إلا في أحدهما؟ فقيل معناه: أنه أشار إلى أنهما قولان للعلماء (17) وأنهما احتمالان يمكن أن يقول بكل واحد منهما عالم لتقاربهما من الحق، وأما أنه جازم بهما فمحال ضرورة (18) .
_________
(1) في س: ((فكذلك)) وهو تحريف.
(2) في س، ن: ((والممنوع)) .
(3) في ن: ((يحرم)) وهي غير مناسبة للسياق.
(4) في ق: ((يعلم)) .
(5) في ن: ((عنها)) وهي غير مناسبة للسياق.
(6) في ق: ((نعلم)) .
(7) ساقط من س
(8) في س: ((يكون)) .
(9) في ق: ((أقوالاً)) وهو سائغ باعتبار كلمة " تكون " ناقصة
(10) في ن: ((فوُجِّه)) ، وفي س: ((فوجب)) .
(11) انظر: الموافقات للشاطبي 5/68، 76.
(12) في ن: ((وكذلك)) .
(13) في س: ((على)) وهو تحريف
(14) في ق: ((مجمله)) .
(15) ما بين المعقوفين في ق هكذا: ((كما فعل بنصوص الشرع)) .
(16) في ق، ن: ((عند)) سقط منها الضمير المتصل
(17) ساقطة من س
(18) انظر: شرح اللمع 2 / 1077، التلخيص 3 / 411، قواطع الأدلة 5 / 62، الإبهاج 3 / 202، فواتح الرحموت 2 / 439، تحرير المقال فيما تصح نسبته للمجتهد من الأقوال ص 72 - 73.

(2/409)


الفصل الثاني
في الترجيح
ص: والأكثرون (1) اتفقوا على التمسك به (2) ،
وأنكره بعضهم (3) وقال: يلزم التخيير أو التوقف (4) .
الشرح
حجة الجواز (5) : قوله عليه الصلاة والسلام: ((عليكم بالسواد الأعظم)) (6) ، وهو يقتضي تغليب الظاهر الراجح (7) ، وقوله عليه الصلاة والسلام ((نحن نحكم بالظاهر)) (8) ، وقياساً على البناء على الظاهر في الفتيا والشهادة وقيم المتلفات وغيرها، فإن الظاهر الصدق في ذلك والكذب مرجوح، وقد اعتبر الراجح إجماعاً، فكذلك هاهنا (9) .
حجة المنع (10) : أن الدليلين إذا تعارضا ورجح أحدهما ففي كل واحد منهما مقدار هو مُعارَض بمثله، فيسقط (11) المِثْلان، ويبقى مجرد الرُّجْحان، [ومجرد الرجحان] (12) ليس
_________
(1) هنا زيادة: ((على أنهم)) في ن، ولا حاجة لها.
(2) بل حكى بعض الأصوليين الإجماع على القول بالترجيح انظر: البرهان للجويني 2/741، شرح المعالم لابن التلمساني 2 / 414، فواتح الرحموت 2/259. وانظر المسألة في: المنخول ص 426، المحصول للرازي 5/397، الإحكام للآمدي 4/239، نهاية الوصول للهندي 8/3649، شرح مختصر الروضة للطوفي

3 / 679، كشف الأسرار للبخاري 4 / 131، تقريب الوصول ص 468، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2 / 309، التوضيح لحلولو ص 372، فتح الغفار 3/51، شرح الكوكب المنير 4/619.
(3) يَنْسبُ فِئامٌ من الأصوليين هذا الإنكار إلى أبي عبد الله البصري الملقَّب بـ " جُعْل " لكن قال إمام الحرمين:
((ولم أر ذلك في شيء من مصنفاته مع بحثي عنها)) البرهان 2/741، وانظر: المسودة ص 309، الإبهاج 3/209، تشنيف المسامع 3/487، نشر البنود 2/273.
(4) في س: ((الوقف)) .
(5) هنا زيادة: ((أن)) في ن وهي مخلِّة، لم يتم الكلام بها.
(6) سبق تخريجه.
(7) في ق: ((للراجح)) وهو تحريف.
(8) سبق تخريجه.
(9) من الأدلة الظاهرة قوة وبرهاناً - ولم يذكره المصنف - إجماعُ الصحابة وسلف الأمة على وجوب العمل بالراجح، وفي ذلك وقائع كثيرة. انظر: المحصول للرازي 5/397، الإحكام للآمدي 4/239
(10) ساقطة من س
(11) في ن: ((فسقط)) .
(12) ساقط من س

(2/410)


بدليل، وما ليس بدليل لا يجوز الاعتماد عليه، فلا يُعْتمد* على (1) الرجحان، بل ينبغي تخريج هذه الصورة على صورةِ تَسَاوي الأمارتين، والحكم* هناك التخيير على المشهور، والتوقف على الشاذِّ، فكذلك يجري هاهنا القولان.
والجواب: أن القول بالترجيح ليس حكماً بمجرد الرجحان بل بالدليل الراجح، ولا نُسلِّم أن الجهة (2) المتساوية في (3) جهة الرجحان تسقط بمقابلها إذا عَضَدها الرجحان، وإنما نُسلِّم السقوط مع المساواة، وهذا كما نقضي (4) بأَعْدل البيِّنتين، ليس معناه أنَّا (5) نقضي بمزيد العدالة دون أصلها، بل [بأصل العدالة] (6) مع الرجحان، فيُقضَى بالبيِّنة الراجحة (7) لا برجحانها مع قطع النظر عنها، فكذلك هاهنا.
الترجيح في العقليات
ص: ويَمْتَنِع الترجيح في العقليات؛ لتعذُّر (8) التفاوت بين القَطْعِيَّيْن (9) .
_________
(1) ساقطة من ن، س.
(2) في ق: ((الصحة)) ولعلَّها انقلبت على الناسخ من: ((الحصة)) .
(3) في ن: ((من)) .
(4) في ق: ((يقضى)) .
(5) في ن: ((أنما)) .
(6) في ق: ((بأصلها)) .
(7) ساقطة من ن
(8) في ن: ((لعدم)) .
(9) مسألة الترجيح في العقليات أخص من الترجيح بين القطعيات، وللعلماء فيها مذهبان، الأول: لا يجوز الترجيح بينها سواء كان الدليلان عقليين أو نقليين أو أحدهما عقلياً والآخر نقلياً، وهو ما ذهب إليه جمع غفير من الأصوليين، لكن لبعضهم كالجويني والغزالي والرازي تفصيل كما في اعتقاد العوام، إذا كان على سبيل التقليد فإنه لا يمتنع تطرق التقوية إلى هذا الاعتقاد. المذهب الثاني: يجوز الترجيح بينها ولا فرق بين الظنيات والقطعيات، وهو مذهب الصفي الهندي وابن الهمام، وقال الإسنوي ((واعلم أنَّ إطلاق هذه المسألة - وهو عدم الترجيح في القطعيات - فيه نظر)) نهاية السول 4/447. وانظر: شرح اللمع للشيرازي 2/950، البرهان 2/742، المستصفى 2 / 472، المحصول 5 / 400، الإحكام للآمدي 4/241، المسودة ص 448، الفائق في أصول الفقه للهندي 4 / 393، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/310، تقريب الوصول ص469، التلويح للتفتازاني 2/227، البحر المحيط للزركشي 8/148، التقرير والتحبير 3/3، 22، التوضيح لحلولو ص 373، رفع النقاب القسم 2 / 962، شرح الكوكب المنير 4 / 607.
كلام المصنف هنا بتعذر التفاوت بين القطعيات ظاهره يتناقض مع ما ذكره في باب الخبر
ص (269 - 267) إذ قال: ((فإن اليقين بما ورد فيه السمع والعقل أشد، بخلاف العقل وحده)) ، وكذلك مع قوله في نفائس الأصول (6 / 2812) ((نحن نجد بالضرورة التفاوت بين الجزم بكون الواحد نصف الاثنين، وبين المشاهدات وجميع الحسيات، ومع ذلك فاليقين حاصل في الكلّ، فعلمنا أن التفاوت لا يخلُّ باليقين، وهي مسألة خلاف بين العلماء: هل العلوم تقبل التفاوت أم لا؟)) . وانظر:
هامش (2) ص 267.

(2/411)


الترجيح بكثرة الأدلة:
ومذهبنا (1) ومذهب الشافعي (2) الترجيح بكثرة الأدلة (3) ، خلافاً لقوم (4) .

الشرح
لأن (5) كثرة الأدلة توجب مزيد (6) الظن بالمدلول، فيكون من باب القضاء (7) بالراجح كما تقدَّم بيانه (8) .
حجة المنع: القياس على المنع من الترجيح بالعدد في البيِّنات، فإن المشهور المنع منه (9) بخلاف* الترجيح بمزيد العدالة.
والجواب: أن الفرق بأن الترجيح بكثرة العدد يمنع سدَّ باب الخصومات، ومقصود صاحب الشرع سدُّه، بأن يقول الخصم: أنا (10) آتي (11) بعددٍ أكثر من
_________
(1) انظر: منتهى السول والأمل ص 222، التوضيح لحلولو ص 373، رفع النقاب القسم 2 / 966، حاشية البناني على شرح المحلى لجمع الجوامع 2 / 362.
(2) انظر: التبصرة ص 348، المنخول ص 428، المحصول 5/401، تخريج الفروع على الأصول للزنجاني
ص 376، تشنيف المسامع 3/487. وهو مذهب الحنابلة أيضاً، انظر: العدة لأبي يعلى 3/1019، التمهيد لأبى الخطاب 3/202.
(3) بعض الأصوليين ألحق الترجيح بكثرة الرواة بالترجيح بكثرة الأدلة. انظر: المحصول 5/401، نفائس الأصول 8/3679، التوضيح لحلولو ص 373. والمراد بكثرة الأدلة: أن يتقوى أحد الدليلين المتعارضين بغيره، ولو كان دليلاً واحداً موافقاً له. انظر: دراسات في التعارض والترجيح عند الأصوليين لشيخنا الدكتور/ السيد صالح عوض ص 437.
(4) وهم الحنفية، انظر: أصول السرخسي 2/264، كشف الأسرار للبخاري 4/135، التلويح ومعه التوضيح 2 / 255، التقرير والتجبير 3/44، فواتح الرحموت 2/260.
(5) في ن: ((لكن)) وهو تحريف.
(6) في ق: ((يزيد)) وهو تحريف.
(7) في ن: ((القطع)) .
(8) انظر: بداية هذا الفصل ص (410)
(9) ساقطة من س. وانظر مسألة المنع من الترجيح بالعدد في البينات والخلاف فيها في: المحلَّى 9 / 438، الفروع لابن مفلح 6 / 465، أدب القضاء لابن أبي الدم ص 337، تبصرة الحكام لابن فرحون 1 / 264، شرح المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب للمنجور ص 556، مجمع الأنهر لداماد 2 / 280.
(10) في س: ((إذا)) وهو تحريف.
(11) في س: ((أتا)) وهو تحريف.

(2/412)


عدده، فيتحيَّل ويأتي به، فيقول الآخر: وأنا أفعل ذلك، فلا تنفصل خصومة، بخلاف الترجيح بمزيد العدالة، ليس في قدرة الخصم أن يُصيِّر (1) بيِّنته أعدل من بينة خصمه، وكذلك الأدلة لا تقبل أن يَصِيْر مرجوحها راجحاً ولا قليلها كثيراً، فإن الأدلة قد استقرَّتْ من جهة صاحب الشرع فتتعذَّر (2) الزيادة فيها، فالترجيح بكثرة الأدلة كالترجيح بالعدالة [لا كالترجيح بالعدد] (3) ، فظهر الجواب والفرق.
العمل عند تعارض الدليلين
ص: وإذا تعارض دليلان (4) فالعمل بكل واحدٍ منهما من وَجْهٍ أولى من العمل بأحدهما دون الآخر (5) .
وهما (6) إن كانا عامَّيْن معلومين والتاريخ معلوم نَسَخ المتأخرُ المتقدِّمَ، وإن كان مجهولاً سقطا، وإن علمت المقارنة خُيِّر بينهما. وإن كانا مظنونين فإن عُلِم المتأخر نَسَخ المتقدِّمَ وإلا رُجِعَ إلى الترجيح (7) . وإن كان أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً
_________
(1) في س: ((تَصِيْر)) وهو متجه
(2) في ق: ((فيعذر)) ، وفي ن: ((تعذر)) وكلاهما تحريف
(3) ساقط من ن
(4) هذا التقسيم الذي سيذكره المصنف مستَمدٌّ من المحصول للرازي (5/406، 408) . ويمكن حصر القسمة كما يلي: إذا تعارض الدليلان، فإما أن يُمكن الجمع بينهما أو لا؟ فإن لم يمكن الجمع بينهما ففيه أربعة أقسام، وهي: إما أن يكونا عامَّين، أو خاصَّين، أو أحدهما عامّاً والآخر خاصاً، أو أحدهما عامّاً من وجه خاصاً من وجه والآخر كذلك. فهذه أربعة أقسام، وكل واحدٍ منها إمَّا أن يكونا معلومين، أو مظنونين، أو أحدهما معلوماً والآخر مظنوناً. فثلاثة في أربعةٍ باثني عشر قسماً. وفي كل قسم من هذه الأقسام إما أن يُعلم التاريخ أو يجهل، فهذه أربعة وعشرون قسماً. انظر: رفع النقاب القسم 2/968، وانظر: السِّراج الوهَّاج 2/1035، البحر المحيط للزركشي 8/157.
(5) هذا ما يسمَّى بمسلك الجمع والتوفيق بين الدليلين المتعارضين، فمهما أمكن العمل بهما تعيّن ذلك؛ لأن الإعمال أولى من الإهمال. وأوجه الجمع كثيرة، منها: الجمع بالتخصيص أو التقييد أو بتغاير الحال أو بالتأويل أو بالتخيير ... إلخ. انظرها مستوفاة في: منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث د/ عبد المجيد محمد السوسوة ص (155-274) ، وانظر الشروط المتوخَّاة في الجمع بين الدليلين المتعارضين في: التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية د/ عبد اللطيف البرزنجي ص (218 - 243) .
(6) ساقطة من ن
(7) أي: إن لم يُعلم المتأخر منهما رُجع إلى الترجيح، ولا سبيل هنا إلى التساقط، بخلاف المعلومين، لتعذر التفاوت بينهما، كما هو مذهب المصنف.

(2/413)


والمتأخرُ المعلومُ نَسَخ (1) أو المظنونُ لم يَنْسَخْ، وإن جُهِل الحال تعيَّن المعلوم.
وإن كانا خاصَّيْن فحكمهما (2) حُكْمُ العامَّيْن، وإن كان أحدهما عاماً والآخر خاصاً، قُدِّم الخاص على العام؛ لأنه لا يقتضي (3) إلغاء أحدهما بخلاف العكس، وإن كان أحدهما عاماً من وجْهٍ كما في قوله تعالى {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (4) مع قوله تعالى {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (5) وجب الترجيح إن كانا مظنونين (6) .
الشرح
إنما يرجح (7) العمل بأحدهما من وجهٍ؛ لأن كل واحد منهما يجوز إطلاقه بدون إرادة ذلك الوجه الذي تُرِك، ولا يجوز إطلاقه بدون (8) جميع ما دلَّ (9) عليه، فإن ذلك هَدَرٌ بالكلية؛ فكان الأول أولى، كقوله (10) عليه الصلاة والسلام ((لا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها لبولٍ أو غائطٍ)) (11) ورَوَى ابن عمر رضي الله عنه أنه (12) رأى رسول الله
_________
(1) هنا زيادة: ((المظنون)) في س، وهي صحيحة، وتركتُ إثباتها محافظةً على نَظْم الكلام.
(2) في ق: ((حكمهما)) وهو خطأ نحوي، انظر: هامش (7) ص 22.
(3) هنا زيادة: ((عدم)) في س، وهي خطأ؛ لانقلاب المعنى بها.
(4) النساء، من الآية: 23
(5) النساء، من الآية: 3
(6) في هذا القسم الأخير - عند المصنف - اختلال، نتج عن شدة اختصاره للمحصول (5/410-412) . وحاصله وتحصيله: إنْ كان أحد الدليلين عاماً من وجهٍ وخاصاً من وجهٍ والآخر عكسه، فإن علم المتأخر منهما كان ناسخاً للمتقدم سواء كانا معلومين أو مظنونين. أما إن كان المتقدم مظنوناً والمتأخر معلوماً فقيل بالنسخ، وقيل: بالترجيح، وعكسه: بالترجيح قولاً واحداً. وإن جُهل التاريخ فإن كانا معلومين لم يمكن الترجيح بقوة الإسناد بل بما تضمنه الحكم (وهو مثال المصنف هنا بالجمع بين الأختين المملوكتين في النكاح) ، وإن لم يوجد الترجيح فالتخيير، وإن كانا مظنونين أمكن الترجيح بقوة الإسناد وبما تضمنه الحكم، فإن لم يوجد فالتخيير. انظر: الحاصل من المحصول لتاج الدين الأرموي 2/974، التحصيل من المحصول لسراج الدين الأرموي 2/262.
(7) في ق: ((ترجح)) .
(8) ساقطة من ن
(9) في س: ((دلَّت)) وهو خطأ؛ لأن فاعله مذكَّر.
(10) في س: ((لقوله)) وهو ليس مناسباً؛ لأن المقصود هو التمثيل.
(11) أخرجه مسلم (264) من حديث أبي أيوب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أتيتم الغائط فلا تستقبلوا القبلة ولا تستدبروها ببولٍ ولا غائط، ولكن شرّقوا أو غرِّبوا)) وبلفظِ نحوه عند البخاري (144، 394) .
(12) هنا زيادة: ((قال)) ولا داعي لها.

(2/414)


صلى الله عليه وسلم فَعَل ذلك في بيته (1) ، الحديثين المشهورين، فَحَمَلْنا الأول على الأَفْضية، والثاني على الأبنية (2) .
وإذا كانا عامَّيْن لا يمكن حملهما على حالين تعيَّن نسخُ المتأخرِ للمتقدم كانا معلومين أو مظنونين (3) ؛ لأنا نشترط في الناسخ أن يكون مساوياً أو أقوى (4) ، ويسقطان مع الجهل لاحتمال النسخ، فكل واحد منهما دائر بين أن يكون ناسخاً حجة أو منسوخاً ليس بحجة، والأصل عدمُ الحكم وبراءة الذمة، فيجب التوقف حتى يتعين موجِب الشَّغْل، وإذا عُلمتْ المقارنة خُيِّر بينهما؛ لأن من (5) شرط النسخ التراخي، والمقارنة ضِدُّه فلا نسخ، فكل واحد منهما حجة قطعاً فتعيَّن التخيير (6) ، وإذا (7) كان المتأخر هو المظنون لم يَنْسَخ المعلومَ، لما تقدَّم: أن القاعدة أنا نشترط في الناسخ أن يكون مساوياً أو أقوى (8) ، والمظنون أضعف من المعلوم، ويتعين (9) المعلوم عند جهل التاريخ لرجحانه بكونه معلوماً، ومهما (10) ظَفِرْنا بجهة ترجيح تعيَّن العملُ بالراجح.
_________
(1) في ن: ((في بيته يفعل ذلك)) .
* والحديث لفظه عند البخاري (145، 148) ، ومسلم (266) وخاص (62) عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ارتقيت فوق ظهر بيت حفصة لبعض حاجتي، فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقضي حاجته مستدبر القبلة مستقبل الشام.
(2) انظر اختلاف العلماء في مسألة استقبال القبلة واستدبارها ببولٍ أو غائط في: المدونة 1/7، المحلَّى 1/193، بداية المجتهد 2/95، المغني 1/220، المجموع 2/81، شرح فتح القدير 1/432.
(3) انظر مثاله في: رفع النقاب للشوشاوي القسم 2/972.
(4) سبق التعليق على هذا الاشتراط.
(5) ساقطة من ن.
(6) لئلا يتهافت الخطاب، إذْ فَرْض المسألة العلم باقترانهما معاً، وليعلم بأن تعيُّن التخيير هنا - وفي المظنونين - إنما يتخرَّج على مذهب القائلين به عند تساوي الأمارتين. لكنْ يجري القول الآخر هنا أيضاً، وهو التساقط والتوقف. انظر: نفائس الأصول 8/3691.
(7) في س: ((وإن)) وهو جائز أيضاً. انظر: هامش (7) ص 16.
(8) انظر هذه القاعدة والتعليق عليها ص (83) هامش (3) .
(9) في ق: ((فيتعيّن)) وهو خطأ؛ لأن العطف بالفاء يخلُّ بالمعنى، فلا معنى للترتب والتعقيب، وإنما المراد هنا الاستئناف.
(10) في ق: ((ومتى)) وهي ظرف زمان شرطية، تصلح أن تثبت هنا أيضاً. وابن مالك يجوِّز ورود " مهما " ظرف زمانٍ أيضاً، لكن ابنه وابن هشام لم يوافقاه على ذلك، بل تحمل على معنى المصدريَّة. انظر: شرح التسهيل 4 / 69، مغني اللبيب 1 / 628، همع الهوامع 2 / 449، 451.

(2/415)


وتقديم (1) الخاص على العام كقوله عليه الصلاة والسلام ((لا تقتلوا الصبيان)) (2) مع قوله تعالى: {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} (3) فإن تقديم الحديث لا يقتضي إلغاءه (4) ولا إلغاء الآية، وتقديم عموم الآية يقتضي إلغاء الحديث، ولأن الآية يجوز إطلاقها بدون [إرادة الصبيان] (5) ، [ولا يجوز إطلاق الحديث بدون إرادة الصبيان] (6) ، لأنهم جميع مدلوله فيبقى هَدَراً، فالأول أولى.
وقوله تعالى: {وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأُخْتَيْنِ} (7) يتناول المملوكتين والحُرَّتين، وقوله تعالى: {أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} (8) يتناول الأختين والأجنبيتين، وضابطُ الأعمِّ والأخصِّ من وجهٍ: أن يوجد كل واحد منهما مع الآخر وبدونه، وقد وجد الأول في الأختين الحرتين بدون المِلْك، ووجد الثاني في المملوكات الأجنبيات بدون الأُخُوَّة (9) ، واجتمعا معاً في الأختين المملوكتين، [فكلٌّ منهما حينئذ] (10) أعم من الآخر من وجهٍ وأخص من وجهٍ، فلا رجحان لأحدهما على الآخر من هذا الوجه
_________
(1) في ق: ((تقدُّم)) .
(2) لم أجدْه بهذا اللفظ، ولكن بلفظ (( ... ولا تقتلوا الوِلْدان ... )) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما، أخرجه الإمام أحمد في مسنده (1/300) ، وأبو يعلى في مسنده (4/422) ، والبيهقي في سننه (9/90) ، والطبراني في المعجم الكبير (11/224) وضعَّفه ابن حجر في تلخيص الحبير4 / 103، وكذلك ورد من طريق عبد الله البجلي رضي الله عنه عند أبي يعلى في مسنده (13/494) ، والطبراني في المعجم الكبير (2/313) ، قال عنه أبوحاتم: ((هذا حديث منكر)) . انظر: علل الحديث لابن أبي حاتم (1 / 320) ، لكن ورد في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل النساء والصبيان. انظر: صحيح البخاري (3015) ، صحيح مسلم (1744) وخاص (25) .
(3) التوبة، من الآية: 5. وقد جاءت مثبتةً في جميع النسخ: اقتلوا المشركين. انظر: القسم الدراسي
ص 157.
(4) ساقطة من ن
(5) في ق: ((إرادتهم)) .
(6) ما بين المعقوفين ساقط من ن
(7) النساء، من الآية: 23
(8) النساء، من الآية: 3
(9) في ق: ((الآخر)) وهو تحريف.
(10) في س، ن: ((فهما حينئذٍ كلُّ واحد منهما)) .

(2/416)


بل من خارج، و [قد رُجِّحَ] (1) المشهور من المذاهب التحريمُ في الأختين المملوكتين (2) بأنَّ آيتهما لم يدخلها التخصيص بالإجماع، بل قيل: لا تخصيص فيها وهو المشهور، وقيل: يباحان (3) ، وقيل: بالتوقف (4) كما قال بعض الصحابة رضوان الله عليهم،
((
أحلَّتْهما آيةٌ وحرَّمَتْهما آية)) (5) . وأما آية المِلْك فمخصوصةٌ إجماعاً بملك اليمين من موطوءات الآباء وغيرهم (6) ، وما لم يُخَصَّص (7) بالإجماع مقدَّم على ما خُصِّص (8) بالإجماع، فتُقدَّم آية الأختين، فيحرم الجمع بينهما.
_________
(1) ساقط من س
(2) اتفق العلماء على جواز الجمع بين الأختين المملوكتين في الملك دون الوطء، فإن وطيء إحداهما جرى الخلاف في الثانية. وجمهور الفقهاء والأئمة الأربعة على تحريم الجمع بينهما، ورويت الكراهة عن أحمد وبعض الصحابة. انظر: الإجماع لابن المنذر ص 106، الحاوي 9/201، بداية المجتهد 4/279، الاستذكار 16/248، بدائع الصنائع 3/440 المغني 9/538، الذخيرة 4/313، التفسير الكبير للرازي 10/30.
(3) في ق: ((مباحان)) والقائلون بالإباحة هم أهل الظاهر غير أن ابن حزم مع الجمهور، انظر: المحلَّى
9/522 - 523، الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 5/117.
(4) رُوِي ذلك عن بعض الصحابة، انظر: المحلَّى 9/522، أحكام القرآن للجصاص 2/164.
(5) روي هذا الأثر عن عثمان وعلي وابن عباس رضي الله عنهم، انظره في: الموطأ 2/538، المصنف
لعبد الرزاق 7/189، 192، المصنف لابن أبي شيبة 4/169، سنن سعيد بن منصور 1/396، 397، سنن البيهقي الكبرى 7/164. قال ابن عبد البر: ((وقول بعض السلف في الجمع بين الأختين بملك اليمين
((أحلتهما آية وحرمتهما آية)) معلوم محفوظ)) الاستذكار 16/252
(6) ساقطة من ن
(7) في س: ((تُخصصْ)) .
(8) في س: ((تخصَّص)) .

(2/417)


الفصل الثالث
في ترجيحات الأخبار
ترجيح الأخبار في الإسناد
ص: وهي إما في الإسناد (1) [وإما] (2) في المتن، فالأول: قال الباجي رحمة الله عليه: يترجَّح بأنه في قصة (3) مشهورة والآخر ليس كذلك. أو رُواته (4) أحفظ أو أكثر، أو مسموعٌ منه (5) عليه الصلاة والسلام، والآخر مكتوب به، أو متَّفَق (6) على رفعه إليه عليه الصلاة والسلام، أو تتفق رواته عند (7) إثبات الحكم به، أو رَاوِيْه (8) صاحب القصة (9) ، أو إجماعُ (10)
أهل المدينة على العمل به، أو روايته أحسن نَسَقاً، أو سالمٌ من الاضطراب، أو موافق لظاهر الكتاب، والآخر ليس كذلك (11) .
_________
(1) انظر مسألة ترجيح الأخبار في الإسناد في: المعتمد 2/178، العدة لأبي يعلى 3/1019، شرح اللمع للشيرازي 2/657، المحصول للرازي 5/414، تقريب الوصول ص475، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/310، مفتاح الوصول ص621، التعارض والترجيح بين الأدلة لعبد اللطيف البرزنجي 2/151، دراسات في التعارض والترجيح لشيخنا الدكتور/ السيد صالح عوض ص 453، منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث د. عبد المجيد السوسوة ص 354.
(2) في ق، س، متن هـ: ((أو)) والمثبت أقعد؛ لأن ((إما)) التفصيلية الغالب تكررها بنفسها مسبوقة بحرف العطف، وقد يستغنى عن الثانية بذكر ما يغني عنها نحو ((أو)) . انظر: مغني اللبيب 1 / 128.
(3) في س: ((قضية)) .
(4) في س: ((روايه)) .
(5) في ن: ((عنه)) .
(6) في ق: ((يتفق)) .
(7) في ق: ((على)) وهو متجه، لكن المعنى المراد يتحقق بإختيار ((عند)) ، إذ المراد أن الخبر الذي يتفق الرواة على روايته بلا اختلاف بينهم في دلالته على الحكم يقدَّم على ما اختلف فيه الرواة. انظر: الإشارة للباجي ص 334، وشرح المصنف لهذه العبارة ص 419.
(8) في ن: ((رواية)) .
(9) في س، ن: ((القضية)) .
(10) في ق: ((أجمع)) ..
(11) انظر هذه الأقسام والأمثلة عليها - بالتفصيل - عند الباجي في كتبه: إحكام الفصول ص 735 - 744، الإشارة في معرفة الأصول ص331 - 336، المنهاج في ترتيب الحجاج 221 - 227، وقد عَدَّ منها ثلاثة عشر مرجّحاً. وانظر: رفع النقاب للشوشاوي القسم 2/981-994.

(2/418)


الشرح

القصة المشهورة يبعد الكذب فيها بخلاف القصة الخفية.
والكتابة تحتمل التزوير بخلاف المسموع.
والمرفوع إلى النبي صلى الله عليه وسلم حجةٌ إجماعاً، أما الموقوف على بعض الصحابة [يقوله من قِبَل نفسه، ولا يقول: سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم] (1) ، فيحتمل أن يكون سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فيكون حجة إجماعاً، أو هو من اجتهاده فيُخرَّج على الخلاف في قول الصحابي وفعله هل هو حجة أم لا (2) ؟، والحجة إجماعاً مقدَّم على المتردِّد بين الحجة وغيرها.
واتفاق الرواة عند إثبات الحكم دليلُ قوة الخبر وضَبْطِه عندهم، وإذا اختلفوا دل ذلك على ضعف السَّند أو (3) الدلالة أو وجود (4) المعارض، فكان الأول أرجح.
وصاحب* القصة إذا رواها كان (5) أعلم بها وأبعد عن (6) الذهول والتخليط فيها (7) ، بخلاف [إذا روى] (8) غيرُه.
وإجماع أهل (9) المدينة مرجِّح (10) ؛ لأنهم (11) مهبط الوحي، ومعدن الرسالة، وإذا وقع شَرْعٌ كان ظاهراً فيهم، وعنهم يأخذ غيرهم، فإذا لم يوجد شيءٌ بين أظهرهم دل ذلك (12) على بطلانه أو نسخه.
_________
(1) ما بين المعقوفين ساقط من ق.
(2) سيأتي مبحث حجية قول الصحابي في: ص 492.
(3) في ن: ((و)) والمثبت أنسب للدلالة على التنويع.
(4) في ن: ((وجوب)) وهو تحريف.
(5) ساقطة من ق.
(6) في س: ((من)) وهو صحيح؛ لأن "بَعُد" يتعدَّى بـ " عن " و "من ". انظر: لسان العرب مادة " بعد ".
(7) في ق: ((منها)) وهو تحريف
(8) ساقط من ق
(9) ساقطة من ق
(10) في ق: ((راجح)) وهو سائغ أيضاً.
(11) في ن: ((لأنه)) وهو صحيح أيضاً؛ لأن " أهل " لفظه مفردٌ، والمثبت على اعتبار معنى الجمع.
(12) ساقطة من ق.

(2/419)


وحُسْن النَّسَق (1) أنسب للفظ النبوة، فإنه عليه الصلاة والسلام أفصح العرب، فإضافة الأفصح إليه أنسب من ضدِّه (2) .
والاضطراب (3) : اختلاف ألفاظ الرواة (4) ، وهو يوجب خللاً في الظن عند السامع، فما لا خلل فيه أرجح.
والمعضود بالكتاب العزيز أقوى* في الظن من المنفرد بغير عاضد فيُقدَّم.
_________
(1) حُسنْ النَّسَق يُسمى بالتنسيق وهو من محاسن الكلام وهو: أن يأتي المتكلم بالكلمات من النثر، والأبيات من الشعر، متتاليات متلاحمات تلاحماً مستحسناً مستبهجاً، وتكون جملها ومفرداتها منسَّقة متوالية. انظر: خزانة الأدب وغاية الأرب لابن حجة الحموي 2/388.
(2) تفسير المصنف هنا لحُسْن النَّسق بالفصاحة ليس سديداً؛ لأننا كنا في السند. وقد سبق تعريف "حسن
النَّسق " في الهامش السابق. أما الفصاحة التي أوردها هنا فهي الفصاحة التي أوردها بعد متنين لهذا المتن عندما قال: ((قال الإمام رحمه الله أو يكون فصيح اللفظ ... )) ص (425) ، والمراد هنا بحسن النَّسق من جهة السند (الرواة) ما قاله الباجي: ((أن يكون أحد الراويين أشدَّ تقصِّياً للحديث، وأحسن نسقاً له من الآخر، فيُقدَّم حديثه عليه. وذلك مثل تقديمنا لحديث جابر رضي الله عنه في إفراد الحج [رواه مسلم (1218) ] على حديث أنس رضي الله عنه في القِران [رواه البخاري (4353) ، ومسلم (1232) ] ؛ لأن جابراً رضي الله عنه تقصَّى صفة الحج من ابتدائه إلى انتهائه، فدلّ ذلك على تهمُّمِهِ وحفظه وضبطه وعلمه بظاهر الأمر وباطنه. ومن نَقَل لفظةً واحدة من الحج يجوز أن لم يعلمْ سببها)) إحكام الفصول ص 742.
(3) هنا زيادة: ((في)) في س، والأحسن حذفها؛ لاستقامة التركيب بدونها.
(4) الاضطراب لغة: الاختلال والتحرك، يقال: اضطرب الموج، إذا تحرَّك وضرب بعضه بعضاً. انظر مادة
"ضرب " في: لسان العرب
والحديث المضطرب: هو ما رُوي على أوجهٍ مختلفة متساوية في القوة. والاضطراب يقع في الإسناد، ويقع في المتن. انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 93، تدريب الراوي 1/308، تيسير مصطلح الحديث
ص 112. والمعنى الذي ذكره المصنف هنا للاضطراب أقرب ما يكون للاضطراب في المتن، وهو ما سيكرره أيضاً في ص (424) . والمراد بالحديث السالم من اضطراب الإسناد: هو الذي لم يوجد خلل في إسناده عند كلَّ مَنْ رواه، لا بزيادةٍ ولا نقصٍ، ولا رواية عمَّنْ لا يمكن الرواية عنه. انظر: العدة لأبي يعلى 3/1029.

(2/420)


ص: قال الإمام فخر الدين: أو يكون راويه (1) فقيهاً، أو عالماً بالعربية، أو عُرِفت عدالته بالاختبار، أو عُلِمت (2) بالعدد الكثير، أو ذكِر [سبب عدالته] (3) ، أو لم يَخْتَلط (4) عقله في بعض الأوقات، أو كونه (5) من أكابر الصحابة (6) رضوان الله عليهم، أو له اسم واحد، أو لم تُعرف له رواية في زمن الصبا (7) والآخر ليس كذلك أو يكون مدنياً والآخر مكياً، أو راويه (8) متأخر الإسلام (9) .
الشرح

العلم بالفقه أو بالعربية مما يُبْعد الخطأ في النقل، فيُقدَّم على الجاهل بهما.
وعدالة الاختبار هي عدالة* الخُلْطة، فهي أقوى من عدالة التزكية من غير خلطة للمزكِّي عنده.
والمذكورُ سببُ عدالته دليلُ قوة سبب التزكية، فإنه لا يُذكر (10) إلا مع قوته. وأما إذا سكت المزكِّي عن سبب العدالة احتمل الضعف.
_________
(1) في س زيادة: ((الإمام)) ، وهو مما شَذت به، والظاهر أن ناسخها التبس عليه الأمر لقرب كلمة " الإمام " التي سبقتها.
(2) ساقطة من ق.
(3) في ق: ((سببها)) .
(4) في س: ((يُخلط)) .
(5) في ق: ((كان)) .
(6) المراد بأكابر الصحابة رؤساؤهم، كالخلفاء الأربعة. وتقديم روايتهم هو رأي الجمهور، أما أبو حنيفة وأبو يوسف فإنهما يقيدانه بكون الأكبر فقيهاً، ولهذا وقع منهما تقديم رواية الأصاغر على الأكابر. انظر: المسودة ص 307، شرح مختصر الروضة 3/697، تشنيف المسامع 3/505، شرح الكوكب المنير 4/642، تيسير التحرير 3/163 فواتح الرحموت 2/263
(7) في متن هـ: ((الصبي)) وهو متجه. والمثبت أنسب.
(8) في ق، متن هـ: ((رواية)) .
(9) النقل هنا من المحصول (5/415 - 425) بانتخاب واقتضاب. وانظر هذه المسائل في: الإبهاج 3/220 وما بعدها، جمع الجوامع بحاشية البناني 2/364 وما بعدها، مفتاح الوصول ص 621 وما بعدها، التقرير والتحبير 3/36 وما بعدها، شرح الكوكب المنير 4/635 وما بعدها
(10) في ن: ((لا يَذْكره)) .

(2/421)


والذي اختلط (1) عقله (2) في بعض (3) الأوقات يُخْشى أن يكون ما يرويه لنا الآن ما سمعه في تلك الحالة، والذي لم يختلط عقله أمِنَّا فيه ذلك.
والذي له اسم واحد يَبْعد التدليس (4) به، والذي له اسمان يَقْرُب اشتباهه بغيره ممن ليس بعَدْلٍ وهو مسمىً (5) بأحد اسْمَيْه، فتقع الرواية عن ذلك الذي ليس بعدل، فيظن السامع أنه العدل [ذو (6) الاسمين] (7) فيقبله (8) .
والذي وقعت له روايةٌ في زمن الصبا إذا رُوِي عنه، فإنه (9) يجوز أن يكون مما نُقِل (10) عنه في زمن (11) الصِّبَا، ورواية الصبي (12) غير موثوق بها بخلاف الذي لم يرو إلا بعد البلوغ.
وما رُوي بالمدينة ظاهر حاله التأخُّر (13) عن المكي (14) ؛ لأنه (15) بعد الهجرة،
_________
(1) في ن: ((أُخِلط)) .
(2) الاختلاط: هو فساد العقل أو الاختلال في الأقوال، إما لكبر وخَرَفٍ أو لذهاب بصر، أو لخللٍ في كتبه باحتراقها أو اغتراقها أو استراقها أو اختراقها أو غير ذلك. انظر: علوم الحديث لابن الصلاح ص 391، شرح شرح نخبة الفكر للقاري ص 535، تيسيرمصطلح الحديث للطحان ص 227
(3) ساقطة من ق
(4) التدليس لغة: أصله من الدَّلَس، وهو الظلمة والستر والخديعة. انظر مادة "دلس " في معجم المقاييس في اللغة، المصباح المنير. واصطلاحاً: إخفاءُ عيبٍ في الإسناد وتحسين ظاهره. انظر: ظفر الأماني للكنوي
ص 376، تيسير مصطلح الحديث ص 79، وانظر: نفائس الأصول 8/3708
(5) في س: ((يُسمَّى)) .
(6) في ن: ((و)) سقط منها حرف الذال
(7) ساقط من س
(8) التدليس أقسام وأنواع، والذي ذكره المصنف هنا مقارب لتدليس الشيوخ، وهو: أن يروي الراوي عن شيخٍ حديثاً سمعه منه، فيسمِّيه باسم آخر له أو يكنيه أو ينسبه أو يصفه بما لا يعرف به كي لا يعرف. وفي هذا الصنيع تَوْعِيرٌ لطريق معرفته على السامع. انظر علوم الحديث لابن الصلاح ص 73، 79.
(9) هكذا في ز، م، وفي سائر النسخ "لنا" وهي ليست مناسبة؛ لعدم استقامة الأسلوب بها.
(10) في س: ((بذل)) وهو تحريف
(11) في ن: ((حال)) .
(12) في ن: ((الصِّبا)) .
(13) في ن: ((التأخير)) .
(14) في ن: ((الأول)) وهي ليست مناسبة، ولا سيما مع السقط الذي بعدها
(15) ساقطة من ن وهو مُخِلّ بالمعنى

(2/422)


والمتأخَّر يُرَجَّح؛ لأنه قد يكون الناسخ، ولقول (1) ابن عباس رضي الله عنهما: ((كنَّا نأخذ بالأحدث فالأحدث من أمر (2) رسول الله صلى الله عليه وسلم)) (3) .
ورواية متأخر الإسلام يتعيَّن تأخُّرها (4) ، (5) فهو كالمدني (6) ، ومتقدِّمُ الإسلام يحتمل أن يكون حديثه مما سمعه في [آخر الأمر من رسول الله صلى الله عليه وسلم] (7) ، فيكون مساوياً لمتأخر الإسلام، ويحتمل [سماعه أول إسلامه، فيكون متقدماً في الزمان مرجوحاً في
العمل] (8) ، والذي لا احتمال فيه أولى مما فيه احتمال المرجوحِيَّة (9) .
_________
(1) في ن: ((كقول)) وهو تحريف
(2) في س، ق: ((فعل)) .
(3) لم أجده بهذا اللفظ فيما وقفْتُ عليه، ولفظ الموطأ (1/294) ((كانوا يأخذون ... )) . والحديث جاء في صحيح مسلم (1113) من طريق ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الفتح في رمضان فصام حتى بلغ الكَدِيْد ثم أفطر. وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتَّبِعون الأحدث فالأحدث من أمره، وهذه الزيادة في آخر الحديث ((وكان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعون الأحدث ... )) مدرجة من كلام الزهري في حديث ابن عباس رضي الله عنهما، وبهذا جزم البخاري (4276) فقال: ((قال الزهري: وإنما يؤخذ من أمر النبي صلى الله عليه وسلم الآخِرُ فالآخِر)) . انظر: " الفَصْل للوصل المُدْرج في النقل " للخطيب البغدادي 1/322، موافقة الخُبْر الخَبَر لابن حجر 2/82، المعتبر للزركشي ص165، فتح الباري لابن حجر 4/227.
(4) في س: ((تأخيرها)) .
(5) هنا زيادة: ((وأن حديثه متأخر)) في س، ن، وهي تكرار في المعنى.
(6) في ق: ((كالمديني)) وهو خطأ؛ لأن النسبة إلى فَعِيْلة فَعَلِيّ إذا لم يكن معتلَّ العين أو مضاعفاً. لكن فرَّقوا بين المنسوب إلى المدينة المنورة وإلى مدينة المنصور (بغداد) فقالوا في الأول: مَدَنِيّ، وفي الثاني: مَدِيْنِيّ. انظر: همع الهوامع للسيوطي 3/361
(7) ما بين المعقوفين في ق: ((الآخر)) .
(8) ما بين المعقوفين في ق: ((التقدم، فيكون مرجوحاً)) .
(9) قدَّم الآمدي وابن الحاجب والهندي وجَمْعٌ الترجيح بمتقدم الإسلام على المتأخر؛ لزيادة أصالته في الإسلام وتحرزه. انظر: الإحكام 4/244، منتهى السول والأمل ص223، الفائق 4/413. وعند المجد ابن تيمية والطوفي وغيرهما أنهما سواء؛ لأن كل واحد منهما اختص بصفةٍ، فالمتقدم اختص بأصالته في الإسلام، والمتأخر اختص بأنه لا يروي إلا آخر الأمرين. انظر: المسودة ص 311، شرح مختصر الروضة للطوفي 3/696، المختصر في أصول الفقه لابن اللحام ص169. وما اختاره المصنف هو اختيار أبي يعلى والشيرازي وابن السبكي وغيرهم، انظر العدة 3/1040، شرح اللمع 2/659، جمع الجوامع بحاشية البناني 2/365. وللفخر الرازي تفصيل في المسألة، انظره في: المحصول 5/425، والمصنف له تفصيل آخر ذكره في: نفائس الأصول (8/3714) فقال: ((إذا عُلِم تأخُّرُ رواية متقدم الإسلام رُجِّحتْ بقدم هجرته، وإن جُهل تقدُّمها وتأخُّرها قُدم المتأخرُ الإسلام)) .

(2/423)


ترجيح الأخبار في المتن
ص: وأما ترجيح المتن (1) قال (2) الباجي رحمة الله عليه: يترجَّح السالمُ من الاضطراب*، والنصُّ في المراد، أو غير متَّفقٍ على تخصيصه، أو ورد (3) على غير (4) سببٍ، أو قُضِي به على الآخَر في موضع، أو ورد بعباراتٍ مختلفة، أو يتضمن نفي النقص (5) عن الصحابة رضوان الله عليهم (6) والآخر ليس كذلك (7) .
الشرح
الاضطراب اختلاف ألفاظ الرواة (8) .
والنص هو الذي لا يحتمل
المجاز. والذي لم يُتَّفق على تخصيصه [كما تقدَّم في آية الأختين] (9) . والوارد
على سببٍ: اختلف العلماء (10) فيه، هل يُقْصَر (11) على سببه أو (12)
_________
(1) انظر مسألة ترجيح الأخبار في المتن في المعتمد: 2/181، شرح اللمع للشيرازي 2/660، بذل النظر ص488، تقريب الوصول ص 480. شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/312، مفتاح الوصول
ص 637، رفع النقاب القسم 2/1003، شرح الكوكب المنير 4/659، دراسات في التعارض والترجيح لشيخنا د. السيد صالح عوض ص 471، التعارض والترجيح بين الأدلة الشرعية د. عبد اللطيف البرزنجي 2/186، منهج التوفيق والترجيح بين مختلف الحديث د. عبد المجيد السوسوة ص 429.
(2) هكذا في جميع النسخ، والصواب وجوب اقتران جواب "أما" الشرطية بالفاء ولا يعرى عنها إلا لضرورة أو ندرة. انظر: هامش (2) ص 79.
(3) في ن: ((وروده)) .
(4) ساقطة من ق، وهو سقط يقلب المعنى.
(5) في ق: ((البعض)) وهو تحريف، وفي ن: ((النقض)) وهو تصحيف.
(6) قال الشوشاوي: ((لو عبَّر المصنف بقوله: أو لا يتضمن إضافة النقص إلى الصحابة رضي الله عنهم لكان أولى، فإنه أعم من نفيه عنهم)) رفع النقاب القسم 2/1010
(7) انظر هذه المرجِّحات في المتن مع أمثلتها عند الباجي في: إحكام الفصول ص745-753، الإشارة في معرفة الأصول ص337-341، المنهاج في ترتيب الحجاج ص228-232
(8) المراد بالاضطراب هنا الاضطراب في المتن، والمراد به الذي يقع الاختلاف فيه على الراوي المؤدي إلى اختلاف المعاني. انظر: إحكام الفصول ص746، شرح مختصر الروضة للطوفي 3/699. قال السخاوي
((
قلَّ أن يوجد مثالٌ سالم له)) فتح المغيث 1/279.
(9) ما بين المعقوفين في ق: ((كآية الأختين المتقدمة)) . انظر ما ذكره في آية الأختين: ص 414، 416-417.
(10) ساقطة من ق
(11) في ن: ((يقضي)) .
(12) في س: ((أم)) وهو مالا يجوِّزه أكثر النحاة. انظر: هامش (6) ص 29.

(2/424)


يبقى (1) على عمومه؟ (2) [والذي لم يرد على سببٍ سَلِم من (3) هذا الاختلاف، ويحمل على عمومه] (4) إجماعاً. وإذا قُدِّم أحد الخبرين على الآخر في موطن كان ذلك ترجيحاً له عليه (5) ؛ لأنه (6) مزيَّة له (7) . وإذا ورد بعبارات مختلفة والمعنى واحد قَوِي ذلك المعنى في النفس، وبَعُد اللفظ عن المجاز، والعبارة الواحدة تحتمل المجاز، وأن يراد غير ذلك المعنى الظاهر، وهذا غير (8) الاضطراب، فإنه اختلاف اللفظ واختلاف المعنى بالزيادة والنقصان.
ص: قال الإمام رحمه الله: أو يكون فصيحَ اللفظ، أو لفظه حقيقةً، أو يدل على المراد من وجهين، أو تأكَّد (9) لفظه بالتكرار، أو يكون ناقلاً عن حكم العقل، أو لم يعمل بعض الصحابة أو السلف على (10) خلافه مع الاطلاع (11) عليه، أو كان (12) مما (13) لا تعمُّ به البلوى، والآخر ليس كذلك (14) .
_________
(1) في س، ن: ((يُخلَّى)) .
(2) مسألة هل العبرة بعموم اللفظ أو بخصوص السبب، سبق أن بحثها المصنف ص (216) من المطبوع. وانظر أيضاً: المعتمد 1 / 279، إحكام الفصول ص 269، أصول السرخسي 1 / 271، المستصفى
2 / 131، الواضح لابن عقيل 3 / 41، رفع الحاجب لابن السبكي 3 / 116، مفتاح الوصول
ص 539.
(3) في ن: ((عن)) .
(4) ما بين المعقوفين ساقط من س
(5) ساقطة من س
(6) في ن: ((لأنها)) وهو تحريف
(7) ساقطة من ن
(8) في ن: ((عين)) وهو تحريف يقلب المعنى
(9) في متن هـ: ((يؤكد)) ، وفي ق: ((تأكيد)) .
(10) في ن: ((عن)) وهو تحريف
(11) في ق: ((الإطلاق)) وهو تحريف
(12) في ن: ((يكون)) .
(13) في ق، متن هـ: ((فيما)) .
(14) النقل هذا عن المحصول (5/428 - 433) باختيار واختصار. وانظر أيضاً: الإبهاج 3/229 وما بعدها جمع الجوامع بحاشية البناني 2/367، نهاية السول للإسنوي 4/497، التوضيح لحلولو ص378، رفع النقاب القسم 2/1011 وما بعدها.

(2/425)


الشرح

الناقل عن البراءة الأصلية أرجح؛ لأنه مقصود بعثة الرسل، وأما استصحاب حكم العقل (1) فيكفي فيه العقل فيقدم الناقل كما يقدم [المنشيء على المؤكِّد] (2) .
وعمل بعض (3) الأكابر على خلاف الخبر مع اطلاعهم (4)
عليه يدلُّ على اطلاعهم (5) على (6) نسخه، فالسالم من ذلك مقدَّم عليه، أما إذا لم يطَّلع جاز أن يكون تركه لعدم اطلاعه عليه، فيسقط الترجيح.
والذي تعمُّ به البلوى: اختلف العلماء في قبوله، منعه الحنفية من أخبار الآحاد
[وتقدم الكلام فيه] (7) فيضعف للخلاف في قبوله، فالسالم عن هذا الخلاف مقدّم.
_________
(1) ساقطة من ن.
(2) في ن، س: ((المؤكد على المنشيء)) وهو خطأ بيّن. وقاعدة: تقديم التأسيس على التأكيد تعرَّض لها المصنف في ص (112) من هذا الكتاب (المطبوع) . وانظرها أيضاً في: مفتاح الوصول ص 483، التمهيد في تخريج الفروع على الأصول للإسنوي 167، تقرير القواعد لابن رجب 3/189، القواعد والفوائد الأصولية لابن اللحَّام ص144، 147، كتاب القواعد للحصني 3/50.
(3) ساقطة من ق
(4) في ن، س: ((اطلاعه)) وهو صحيح أيضاً باعتبار لفظ الإفراد في ((بعض)) . والمثبت هنا مراعاةً لمعنى

الجمع. انظر: هامش (9) ص 216.
(5) في ن، س: ((اطلاعه)) . انظر الهامش السابق.
(6) ساقطة من ن. والفعل " اطلاع " يتعدى بنفسه وبعلى.
(7) ساقط من ق. وانظر بحث المسألة في: ص 267.

(2/426)


الفصل الرابع
في ترجيح الأقيسة (1)
ص: قال الباجي: يترجَّح أحد القياسين على الآخر بالنص [على عِلَّتِهِ] (2) ، أو لا يعود على أصله بالتخصيص، أو علته مطَّردة منعكسة (3) ،
أو شهد لها أصول كثيرة، أو يكون [أحدُ القياسين فَرْعُه] (4) من جنس أصله، أو علته متعدِّية، أو تعمُّ فروعَها، أو هي أعم، أو هي (5) مُنْتَزَعة من أصلٍ منصوصٍ عليه، أو أقلُّ أوصافاً والقياس الآخر ليس كذلك (6) .
الشرح
النصُّ على العلة يدل على العلية أكثر من الاستنباط، فإن اجتهادنا يحتمل الخطأ،
[والنص صواب جزماً] (7) .
ومثال ما يعود على أصله بالتخصيص: جَعْلُنا علة منع بيع الحيوان باللحم (8)
_________
(1) قد يتعارض قياسان أو أكثر في حكم حادثةٍ، ويتردد الفرع بين أصلين يصحّ حمله على أحدهما بعلَّةٍ مستنبطة منه، ويصحّ حمله على الثاني بعلةٍ مستنبطةٍ منه، فيحتاج الناظر إلى ترجيح إحدى العلتين على الأخرى. انظر: الإشارة في معرفة الأصول للباجي ص 342. وانظر مسألة التراجيح بين الأقيسة في: المعتمد 2/300، 457، شرح اللمع للشيرازي 2/950، قواطع الأدلة 4/428، التمهيد لأبي الخطاب 4/226، المحصول للرازي 5/444، شرح مختصر الروضة للطوفي 3/713، تقريب الوصول ص 486، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/316، تشنيف المسامع 3/538، التوضيح لحلولو ص 379، تيسير التحرير 4/87، فواتح الرحموت 2/387.
(2) في س: ((عليه)) وليس هو المراد.
(3) العلة المطردة المنعكسة هي التي توصف بالطرد والعكس. والطرد: وجود الحكم لوجود العلة،

والعكس: عدم الحكم لعدم العلة. الحدود للباجي ص 74، 75.
(4) ما بين المعقوفين في ق: ((فرع أحد القياسين)) .
(5) ساقطة من س
(6) انظر: إحكام الفصول للباجي ص (757 - 766) ، فقد ذكر اثني عشر مرجِّحاً بأمثلتها. وانظر أيضاً كتابيه: المنهاج في ترتيب الحجاج ص (234 - 237) ، الإشارة في معرفة الأصول ص (342 - 347)
(7) ما بين المعقوفين في ق: ((بخلاف النص)) .
(8) نقل ابن عبد البر عن الإمام مالك في معنى النهي عن بيع الحيوان باللحم أنه تحريم التفاضل في الجنس الواحد حيوانِهِ بلحمه، لما فيه من المزابنة والغرر والقمار؛ لأنه لا يُدرى: هل في الحيوان مثل اللَّحم الذي أُعطي أو أقل أو أكثر، فهو بيع لحم مغيَّبٍ في جِلْدِه بلحمٍ. انظر: الاستذكار 20/106.

(2/427)


معلَّلاً بالمزابنة (1)
- وهي بيع المعلوم بالمجهول من جنسه (2) - فاقتضى ذلك حمل الحديث على الحيوان الذي يقصد لِلَّحمْ، فخرج (3) بسبب هذه العلة أكثر الحيوانات، وبطل حكم النهي فيها.
وكذلك تعليل منع بيع الحاضر للبادي (4) ، بأن الأعيان على أهل البادية تُقوَّم بغير مالٍ كالحَطَب والسَّمْن وغيرهما (5) ، فاقتضى هذا التعليل أن تَخْرُج (6) الأعيان التي (7) اشتراها البدوي، وأنَّ نُصْحَه فيها متعيَّن أو إعانته، بخلاف القسم الأول (8) [يترك فيه] (9) مع الحضري ولا ينصح، فالعلة التي لا تعود (10) على أصلها بالبطلان
أولى.
والعلة المتعدية أولى من القاصرة (11) ، غير أن هذا لا يستقيم من جهة أن القاصرة
_________
(1) في ن: ((المزاعة)) وهو تحريف. والمُزابنة لغة: مفاعلة من الزَّبْن وهو: الدَّفْع، كأن كل واحد من المتبايعين يَزبن صاحبه عن حقِّه بما يزداد منه، وإنما نهى عنها لما يقع فيها من الغبن والجهالة. انظر مادة

" زبن " في: النهاية في غريب الحديث والأثر، لسان العرب.
(2) انظر تعريفها اصطلاحاً عند المالكية في: شرح حدود ابن عرفة للرصَّاع 1/347، حاشية الرهوني على شرح الزرقاني لمختصر خليل 5/135، وبعض كتب المالكية تعبِّر عن المزابنة بأنها: بيع مجهول بمعلوم أو مجهول بمجهول من جنسه انظر: مختصر خليل بشرح الزرقاني 5/80
(3) في س، ق: ((فيخرج)) .
(4) عرَّفه بعض المالكية بأنه: أن يتولَّى الحاضر العقد أو يقف مع ربِّ السلعة ليزهَّده في البيع ويعلمه أن السلعة لم تبلغ ثمنها ونحو ذلك. انظر: مواهب الجليل (6/250) . وعرَّفه بعضهم: بأن يبيع حاضر سِلَعاً لعموديٍّ (بدوي) قَدِمَ بها الحاضرةَ ولا يعرف ثمنها، وكان البيع لحاضرٍ. انظر: الشرح الكبير للدردير 3 / 69 فاللاَّم في ((البادي)) للتعليل لا للتعدية، ويكون الحاضر سمسرياً أو مرشداً. انظر: حاشية التوضيح لابن عاشور 2 / 198.
(5) في ن: ((وغيرها)) والمثبت أولى لعود الضمير على اثنين: الحطب والسمن.
(6) في س: ((يخرج)) وهو جائز. انظر هامش (11) ص 67.
(7) في ن: ((الذي)) وهو خطأ؛ لأن الموصوف وهو ((الأعيان)) مؤنث، والصفة تتبع الموصوف.
(8) وهو أن يكون البدويُّ بائعاً والثمن غير مالٍ كالحطب والسمن. والقسم الثاني: أن يكون البدوي مشترياً.
(9) ما بين المعقوفين في ن، س: ((التحامل عليه فيه)) .
(10) في س، ق: ((تعكِّر)) .
(11) هذا مذهب الجمهور، ووجهه أن النص يغني عن القاصرة. والمذهب الثاني: تقديم القاصرة على المتعدية، ووجهه أن النص يقوّيها. والمذهب الثالث: هما سواء، لتعارض المدركين. انظر: البرهان للجويني 2/822، المحصول للرازي 5/467، المسودة ص378، كشف الأسرار للبخاري 4/172، البحر المحيط للزركشي 8/210

(2/428)


لا قياس فيها، والكلام [إنما هو] (1) في ترجيح الأقيسة، فإن كان في ترجيح العلل من غير قياس صح (2) .
والعلل التي تعمُّ فروعها متقدِّمةٌ بسبب أنها إذا لم تعم تكون بقية الفروع معللةً بعلة أخرى، وتعليل الأحكام المستوية بالعلل (3) المختلفة مُخْتَلفٌ (4) فيه، والمتفق عليه
أولى.
والتي هي أعم تكون فائدتها أكثر، فتُقدَّم.
والمُنْتَزَعةُ من أصلٍ منصوصٍ عليه مقدَّمةٌ على ما أُخِذ من أصلٍ (5) اتفق عليه الخصمان فقط.
والعلة إذا قلَّت أوصافها أو كانت ذاتَ (6) وصفٍ* واحدٍ [كانت مقدَّمةً] (7) ؛ لأن المركَّب يُسْرِع (8) إليه العَدَمُ بطريقين، من جهة عدم كل واحد من أوصافه، وما كثرت شروطه كان مرجوحاً (9) .
_________
(1) ساقط من ق
(2) أجاب الزركشي عن هذا بأن نتيجة الترجيح بين القاصرة والمتعدية ينبني عليها إمكان القياس وعدمه. مثاله: الثمنية والوزن في النقدين، فمن رجَّح الوزن رتَّب على ترجيحه إمكان القياس، ومن رجَّح الثمنية رتَّب على ترجيحه امتناع القياس، وهذه فائدة. انظر: البحر المحيط 8/212. وانظر توجيهاً آخر للمصنف في: نفائس الأصول 9/3779
(3) في س: ((بالعلة)) وهي غير مناسبة مع السياق.
(4) ساقطة من ن
(5) في س: ((الأصل الذي)) .
(6) في ن: ((ذا)) وهو خطأ؛ لأن الموصوف وهو ((العلة)) مؤنث.
(7) في ق: ((قُدِّمتْ)) .
(8) في س: ((يشرع)) وهو تصحيف
(9) ما ذكره المصنف من تقديم العلَّة قليلة الأوصاف على كثيرتها هو قول الجمهور. والقول الثاني: ترجيح العلة الأكثر أوصافاً؛ لأنها أكثر مشابهةً للأصل. والقول الثالث: هما سواء؛ لأنهما سواء في إثبات الحكم. انظر: إحكام الفصول ص 763، شرح اللمع للشيرازي 2/957، نفائس الأصول 9/3748، المسودة ص378، 381 كشف الأسرار للبخاري 4/173.

(2/429)


ص: قال الإمام رحمه الله: أو يكون أحد القياسين متفقاً (1) على علته، أو أقلَّ خلافاً، أو بعضُ مقدماته يقينية، أو علَّتُه وصفٌ حقيقي. ويترجَّح (2) التعليل بالحكمة على العدم والإضافيِّ والحكمِ الشرعيِّ والتقديريِّ، والتعليل* بالعدم أولى من التقديري، وتعليلُ الحكم الوجودي [بالوصف الوجودي] (3) أولى من العدمي بالعدمي (4) ومن العدمي بالوجودي و [من] (5) الوجودي بالعدمي؛ لأن التعليل بالعدم يستدعي تقدير الوجود، وبالحكم الشرعي أولى من التقديري (6) ؛ [لكون التقدير] (7) على خلاف الأصل. والقياس الذي يكون ثبوت الحكم في أصله أقوى (8) أو بالإجماع أو بالتواتر أقوى مما ليس كذلك (9) .
الشرح
الوصف الحقيقي كالإسكار، والعدمي كقولنا: غير مستحقّ أو عدوان، فإنه سلب محض، والإضافي (10) نحو قولنا: البنوة مقدَّمة على الأبوة، وهما علة الميراث، وهما إضافيتان ذهنيتان لا وجود لهما في الأعيان (11) . وتقدَّم (12) أن الحكمة هي [علة علية العلة] (13) ، كإتلاف المال في السرقة، واختلاط الأنساب في الزنا، فهي أولى من
_________
(1) في ن: ((متفق)) وهو خطأ نحوي؛ لأن خبر "كان " منصوب.
(2) في ن: ((ترجح)) .
(3) ساقط من س
(4) ساقطة من ق
(5) ساقطة من جميع النسخ ما عدا النسخ: ص، و، ش
(6) سبق تعريف هذه المصطلحات بأمثلة.
(7) ساقط من ق
(8) هنا زيادة ((بالنص)) في س، وكان الأولى أن تأتي قبل الكلمة التي سبقتها ليستقيم سياق العبارة.
(9) انظر هذه المرجحات عند الإمام الرازي في: المحصول 5/445 - 448، 462 وانظر: الإبهاج 3/237، نهاية السول للإسنوي 4/ 510، التوضيح لحلولو ص 381. وهناك أمثلة توضيحية لهذه المرجحات، انظرها في: رفع النقاب للشوشاوي القسم 2/1031- 1040.
(10) سبق تعريف الإضافي.
(11) راجع هامش (5) ص 373.
(12) انظر: ص 369.
(13) في ق: ((علية العلية)) وهو غير مناسب، ولو قال ((علة العلة)) لكان أسدّ

(2/430)


العدم الصِّرْف، والحكم الشرعي كتعليل منع البيع بالنجاسة (1) ، والتقديري كتعليل ثبوت الولاء للمُعْتَق عنه بتقدير الملك له (2) ، وتوريث الدِّيَة في الخطأ بتقدير ثبوت الملك للمقتول قبل موته في الزمن الفَرْد، فإنه حي لا يستحقها، وما لا يملكه لا يُورث عنه، والمِلْك بعد الموت محال، فيتعين تقدير الملك قبل الزهوق بالزمن الفَرْد.
وقُدِّم العَدَم على التقديري (3) ؛ [لأن التقدير] (4) : هو إعطاء الموجود حكم المعدوم أو المعدوم حكم الموجود، ووضع المعلوم (5) على خلاف ما هو عليه خلاف الأصل، والعدم هو على وضعه (6) لم يُخَالَف فيه أصلٌ فكان مقدَّماً.
وإنما استدعى العدم تقدير الوجود؛ لأن العلة العدميَّة (7) لابد أن تكون عدماً مضافاً لشيء معينٍ كقولنا: عدم الأسكار علة (8) إباحة الخمر ونحو ذلك، فلابد أن نقدِّر (9) معنىً هذا عدمه (10) .
والحكم الشرعي حقيقي، بخلاف التقديري فيه مخالفة الأصل كما تقدَّم.
_________
(1) انظر: ص 374.
(2) انظر: ص 382.
(3) في ن: ((التقدير)) والمثبت أولى تمشياً مع عبارة المتن.
(4) ساقط من ن
(5) في ق: ((المعلول)) وهو تحريف
(6) في ق: ((أصله)) .
(7) في ق: ((بالعدمية)) ويكون المراد: لأن التعليل بالعلة العدمية
(8) ساقطة من س
(9) في ق: ((يُقدَّر)) .
(10) ساقطة من ن.

(2/431)


الفصل الخامس
في ترجيح طرق العلة
ص: قال الإمام رحمه الله: المناسبة أقوى من الدوران خلافاً لقوم (1) ، ومن التأثير والسَّبْر المظنون والشَّبَه والطَّرْد (2) . والمناسب الذي اعْتُبر نوعه في نوع الحكم مقدَّم (3) على ما اعتبر جنسه في [نوع الحكم] (4) ، ونوعُه في جنسه، وجنسُه في جنسه؛ لأن الأخص بالشيء أرجح وأولى به*، والثاني والثالث متعارضان (5) ،
_________
(1) لم أعثر على تسميةٍ لهم، وقد جاءت الإشارة إلى هذا الخلاف في: نهاية الوصول للهندي 8/3759، جمع الجوامع بحاشية البناني 2/376، البحر المحيط للزركشي 8/218، تشنيف المسامع 3/547، التوضيح لحلولو ص 382
(2) مراتب هذه المسالك وقع اختلاف بين العلماء في تقديم بعضها على بعض، فمنهم من قدَّم المناسبة على الدوران، ومنهم من عكس. ومنهم من قدَّم السبر على الدوران، ومنهم من عكس. ومنهم من قدَّم السبر على المناسبة، ومنهم من عكس. ومنهم من أخَّر الإيماء عن الجميع إلا عن الطرد.. وهكذا. انظر: الإحكام للآمدي 4/272، الإبهاج 3/242-244، جمع الجوامع بحاشية البناني 2/376، نهاية السول للإسنوي 4/513-516، البحر المحيط للزركشي 8/217، التوضيح لحلولو ص 381، شرح الكوكب المنير 4/718، تيسير التحرير 4/87-89.
(3) ساقطة من ق، متن هـ.
(4) في متن هـ: ((نوعه)) .
(5) وجه تعارضهما: أن كلَّ واحدٍ من القسمين فيه خصوص من وجه واحد، إذ في أحد القسمين خصوص الوصف، وفي الآخر خصوص الحكم، فليس تقديم أحد القسمين على الآخر بأولى من العكس. انظر: رفع النقاب للشوشاوي القسم (2/1049) . لكن من العلماء من رأى تقديم " النوع في الجنس " على عكسه، ولم يحكم بتعارضهما. والمصنف حكم أولاً بتقديم النوع في الجنس على عكسه ص (332) ، ثم تراجع عنه، وبيَّن أنه وقع منه سهواً ص (335) ..وحجة التقديم: أن تعدية الحكم من الأصل إلى الفرع إنما هي فرع تعدية العلة، فالعلة أصلٌ في التعدية وعليها المدار، أو بعبارة أخرى: أن الوصف أصلٌ للحكم؛ لأن الحكم إنما جيء به لأجل الوصف والحكم فرعٌ له، وإذا تعارض الفرع مع الأصل قُدّم الأصل، فخصوص الأصل أولى بالاعتبار من خصوص الحكم.
ويلاحظ هنا بأن الرازي عبَّر في محصوله (5/459) عن هذين القسمين بقوله: ((فهما كالمتعارضين)) . وتعبير تاج الدين الأرموي في: الحاصل (2/995) ، وسراج الدين الأرموي في التحصيل (2/274) قولهما
((بأنهما متقاربان)) . وكذا تعبير صفي الدين الهندي في: نهاية الوصول (8/3303) ، وقال: ((لكن اعتبار النوع في الجنس أولى؛ لأن الإبهام في العلة أكثر محذوراً من الإبهام في المعلول)) . انظر المسألة في: الإحكام للآمدي 4/279، شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/318، الإبهاج 3/242، التوضيح لحلولو
ص 382، فواتح الرحموت 2/387.

(2/432)


والثلاثة راجحة على الرابع، ثم الأجناس عالية وسافلة ومتوسطة، وكلما قرب كان أرجح. والدوران في صورة أرجح منه في صورتين*، والشبه في الصفة أقوى منه في الحكم، وفيه خلاف (1) .
الشرح
المناسبة المصلحة بادية فيها، والدوران ليس فيه إلا مجرد الاقتران، والشرائع مبنية على المصالح.
حجة المنع: أن الدوران فيه طرد وعكس؛ لاقتران الوجود بالوجود والعدم بالعدم، والعلة المطردة المنعكسة أشبه بالعلل العقلية فيكون (2) أرجح.
والجواب: المناسب المطَّرد المنعكس أرجح من المناسب الذي لا يكون كذلك، أما مجرد الطرد والعكس فممنوع.
والتأثير هو اعتبار الجنس في الجنس، والاعتبار أضعف من المناسبة لما تقدم (3) .
والشَّبَه هو المستلزم للمناسب، فالمناسب مقدَّم عليه، وقد تقدَّم تمثيله في طرق العلة (4) . والسَّبر والتقسيم وقع التعيين فيه بإلغاء الغير أو بعدم اعتباره، والمناسب الاعتبار فيه بالذات (5) . وتقدَّم في طرق العلة تقرير (6) الطرد وهو مجرد اقتران الحكم بجملة صور الوصف (7) ، والاقتران بمجرده أضعف من المناسب؛ لمَّا تقدَّم أنه مَعْدن الحكمة.
_________
(1) انظر هذا النقل عن الإمام الرازي في: المحصول (5/454-461)
(2) في ن: ((فتكون)) ووجهه: أن العلة المطردة المنعكسة تكون أرجح. ووجه المثبت عود الضمير على
((الدوران)) .
(3) وهو قوله في أول شرح هذا المتن: ((المناسبة المصلحة بادية فيها)) . أي ما ظهرت فيه المناسبة والمصلحة أولى من مجرد الاعتبار.

لكن المصنف لم يعدَّ التأثير أو المؤثر على أنه طريق من طرق العلة، بل الذي عدَّه طريقاً مستقلاً هو الرازي في المحصول (5/199) ، وعرَّفه هناك بما يختلف عن تعريف المصنف له هنا. والغريب أن المصنف لم يرتضِ صنيع الرازي في اعتبار التأثير أو المؤثر مسلكاً مستقلاً، ثم هو يتبعه هنا. انظر: نفائس الأصول 7/3273، 3277، 3322. وانظر: هامش (9) ص 331 - 332.
(4) انظر: ص 339.
(5) في ن: ((بالذوات)) ولا داعي للجمع.
(6) في س: ((تقدير)) وهو تحريف
(7) انظر: ص 347.

(2/433)


وتقدَّم في المناسب تمثيلُ أجناس الأوصاف والأحكام عاليةً وسافلة (1) ، وتمثيلُ الدوران في صورتين وفي صورة ووجه الترجيح بينهما (2) .
ويُقدَّم (3) الشَّبَه في الصفة (4) ؛ لأن الأوصاف هي أصل العلل، والأصل أن تكون الأحكام معلولاتٍ (5) لا عِلَلاً (6) .
وقيل: لا، وحجته أن الحكم يستلزم علته، فيقع الشبه في أمرين (7) ، فيكون أرجح (8) .
وجوابه: أنه لا يلزم من الشبه في الحكم الشبه في العلة؛ فإن الأحكام المتماثلة (9) (10) تعلل بالعلل المختلفة.
_________
(1) انظر: ص 333.
(2) انظر: ص 342، وانظر: نفائس الأصول 9/3765.
(3) في ق، س: ((تقدّم)) وهو تصحيف.
(4) في س: ((الوصف)) .
(5) في ن: ((معلولة)) .
(6) فصار الحكم فرعاً للوصف، والوصف أصلٌ له، فيقدم الشبه الوصفي على الحكمي تقديم الأصل على الفرع
(7) هما الحكم والصفة.
(8) لأن الشبه الذي اجتمع فيه أمران (الحكم والصفة) أولى مما فيه وجه واحد
(9) في ن: ((المماثلة)) .
(10) هنا زيادة: ((لا)) في ن. وهي منكرة.

(2/434)