رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب

 (حد الْعلم)

وَالْعلم، قيل: لَا يحد؛ فَقَالَ الإِمَام: لعسره؛ وَقيل: لِأَنَّهُ ... ... ... ...
هَامِش
" الشَّرْح: " وَالْعلم، قيل: لَا يحد "، ثمَّ اخْتلف الْقَائِلُونَ بِأَنَّهُ لَا يحد:

(1/256)


صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة

(1/257)


صفحة فارغة
هَامِش
" فَقَالَ الإِمَام " أَبُو الْمَعَالِي الْجُوَيْنِيّ إِمَام الْحَرَمَيْنِ، سُلْطَان الأشاعرة، وغضنفر الْجَمَاعَة: إِنَّمَا لَا يحد " لعسره ".
وَمرَاده؛ بِأَنَّهُ لَا يحد؛ أَن الرَّأْي ذَلِك؛ لِأَن التشاغل بحده يعسر، وَلَكِن يتَوَصَّل إِلَى مَعْرفَته بطرِيق الْقِسْمَة والمثال؛ كَذَا ذكره فِي " الْبُرْهَان "؛ إِذْ قَالَ: الرَّأْي السديد ... ... ...

(1/258)


صفحة فارعة
هَامِش عندنَا: أَن يتَوَصَّل إِلَى دَرك حَقِيقَة الْعلم بمباحثها وَذكرهَا "، ثمَّ قَالَ: " فليحرك النَّاظر فكره فِي ذَلِك، فَإِن استبان لَهُ، فقد أحَاط بِحَقِيقَة الْعلم، فَإِن ساعدت عبارَة صَحِيحَة فِي الْحَد، حد بهَا، وَإِن لم تساعد، اكْتفى بدرك الْحَقِيقَة. انْتهى.
وَلَيْسَ مُرَاده؛ أَنه لَا سَبِيل إِلَى حَده؛ كَمَا عرفت؛ وَلِأَنَّهُ لَو أَرَادَ ذَلِك، لم يعتل بالعسر؛ إِذْ الْعسر إِلَيْهِ سَبِيل، لَكِن بِمَشَقَّة، فاعرف ذَلِك.
ثمَّ مُرَاده بِالْحَدِّ الَّذِي يتعسر فِيهِ: الْحَد الْحَقِيقِيّ؛ دون الرسمي؛ فَإِن التَّعْرِيف بِالْقِسْمَةِ والمثال لَا يعاند الرسوم.

(1/259)


ضَرُورِيّ من وَجْهَيْن:
هَامِش
فَإِن قلت: فغاية قَوْله إِذن: يعسر تَعْرِيفه؛ لتعسر الِاطِّلَاع على الذاتي، والخارجي فِيهِ، وَذَلِكَ غير مُخْتَصّ بِالْعلمِ، بل يَشْمَل كل الْأَشْيَاء؛ إِذْ التَّمْيِيز بَين الذاتي والخارجي فِي غَايَة الْعسر قلت: هَذَا [لَو] لم [يقل: إِنَّه] مُخْتَصّ بِالْعلمِ، وَأي شَيْء يلْزم من ذَلِك.
فَإِن قلت: فَلم خص ذَلِك فِي الْعلم؟
قلت: لِأَن الْحَد الْحَقِيقِيّ فِيهِ أعْسر وأشق مِنْهُ فِي غَيره؛ على مَا لَا يخفى، وَقد تَابعه الْغَزالِيّ، وأفصح بِأَن المُرَاد بِالْحَدِّ المتعسر: الْحَقِيقِيّ، وَأَن ذَلِك لَا يخْتَص بِالْعلمِ؛ إِذْ قَالَ: وَرُبمَا يعسر تَحْلِيله على الْوَجْه الْحَقِيقِيّ بِعِبَارَة محررة جَامِعَة للْجِنْس والفصل الذاتي؛ فَإنَّا بَينا أَن ذَلِك عسر فِي أَكثر الْأَشْيَاء. [انْتهى] .
وَكَلَام الْآمِدِيّ صَرِيح، فِي أَن الإِمَام وَالْغَزالِيّ قَالَا: لَا سَبِيل إِلَى تحديده، وَأَرَادَ بالتحديد: مَا هُوَ أَعم من الْحَد الْحَقِيقِيّ والرسمي، وَلَيْسَ بجيد.
" وَقيل ": إِنَّمَا لَا يحد؛ " لِأَنَّهُ ضَرُورِيّ "، فَكَانَ غَنِيا عَن التَّعْرِيف.
وَالْإِمَام فِي " الْمَحْصُول " ذهب إِلَى أَنه ضَرُورِيّ، لَكِن لم يقل: إِنَّه لَا يحد، بل عرفه بِأَنَّهُ حكم الذِّهْن بِأَمْر على أَمر حكما جَازِمًا مطابقا لموجب.

(1/260)


صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة

(1/261)


صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة

(1/262)


صفحة فارغة
هَامِش
وَكَذَلِكَ " الشَّيْخ الإِمَام الْوَالِد " - رَحمَه الله - ذهب إِلَى أَنه ضَرُورِيّ، وَأَنه يحد؛ قَالَ: لَا لتعريفه، بل للتّنْبِيه عَلَيْهِ، وَذكر مَا يضبطه.

(1/263)


أَحدهمَا: أَن غير الْعلم لَا يعلم إِلَّا بِالْعلمِ، فَلَو علم الْعلم بِغَيْرِهِ، كَانَ دورا؛ وَأجِيب بِأَن توقف تصور غير الْعلم على حُصُول الْعلم - بِغَيْرِهِ، لَا على تصَوره؛ فَلَا دور.
الثَّانِي: أَن كل أحد يعلم وجوده ضَرُورَة؛ وَأجِيب بِأَنَّهُ لَا يلْزم من حُصُول أَمر -
هَامِش
وَاخْتَارَ فِي حَده؛ أَن يُقَال: إِنَّه معرفَة الْمَعْلُوم.
قَالَ: [من زَاد على هَذَا قَوْله: " على مَا هُوَ بِهِ "، فَهُوَ تَأْكِيد لِأَن مَا لَيْسَ كَذَلِك لَيْسَ معرفَة.
[قَالَ:] وَلَا يرد عَلَيْهِ أَن الْمَعْلُوم مُشْتَقّ من الْعلم، فَيلْزم الدّور؛ كَمَا ورد مثله فِي قَول القَاضِي: الْأَمر هُوَ الْمُقْتَضِي طَاعَة الْمَأْمُور؛ وَالْفرق بَينهمَا: أَن الْكَلَام فِي الْأَمر - فِي أصُول الْفِقْه، وَهُوَ يعْتَمد الْأَلْفَاظ، وَالْكَلَام فِي الْعلم - فِي أصُول الدّين، وَهُوَ يعْتَمد الْمعَانِي، فَجعل الْمَعْلُوم اسْما لما يَشْمَل الْمَوْجُود والمعدوم؛ من غير نظر إِلَى الِاشْتِقَاق.
وَحجَّة من ادَّعَاهُ ضَرُورِيًّا " من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن غير الْعلم لَا يعلم إِلَّا بِالْعلمِ، فَلَو علم الْعلم بِغَيْرِهِ، كَانَ دورا ".
وَالْجَوَاب: أَن توقف تصور غير الْعلم بِغَيْرِهِ؛ أَعنِي علما جزئيا مُتَعَلقا بذلك الْغَيْر، لَا على تصور حَقِيقَة الْعلم، وَالَّذِي يُرَاد حُصُوله بِالْغَيْر؛ إِنَّمَا هُوَ تصور حَقِيقَة الْعلم، لَا حُصُول جزئي مِنْهُ، فَلَا دور؛ للِاخْتِلَاف.
وَإِلَيْهِ أَشَارَ بقوله: " وَأجِيب بِأَن توقف تصور غير الْعلم على حُصُول الْعلم بِغَيْرِهِ، لَا على تصَوره؛ فَلَا دور ".
وَعبارَة " الشَّيْخ الْهِنْدِيّ " فِي الْجَواب: توقف غير الْعلم على الْعلم؛ من حَيْثُ إِنَّه إِدْرَاك [لَهُ] ، لَا من حَيْثُ إِنَّه صفة مُمَيزَة لَهُ، [وَتوقف الْعلم على غَيره؛ من حَيْثُ إِنَّه صفة مُمَيزَة لَهُ] عَمَّا سواهُ، وَإِذا تغايرت الجهتان، فَلَا دور.
" الثَّانِي "؛ وَعَلِيهِ عول الإِمَام فِي " الْمَحْصُول ": " أَن كل أحد يعلم وجوده ضَرُورَة "، وَهُوَ علم خَاص، فَإِذا كَانَ الْخَاص ضَرُورِيًّا، فالعام الَّذِي هُوَ جزؤه أولى.
" وَأجِيب " بِأَن الضَّرُورِيّ: حُصُول الْعلم لَهُ، وَهُوَ غير تصور الْعلم الْمُتَنَازع فِيهِ، وَقرر " بِأَنَّهُ

(1/264)


تصَوره أَو تقدم تصَوره، ثمَّ نقُول: لَو كَانَ ضَرُورِيًّا، لَكَانَ بسيطا؛ إِذْ هُوَ مَعْنَاهُ، وَيلْزم مِنْهُ أَن يكون كل معنى علما.
" وَأَصَح الْحُدُود: صفة توجب تمييزا، لَا يحْتَمل النقيض، ... ... ... ... ...
هَامِش لَا يلْزم من حُصُول أَمر تصَوره "؛ حَتَّى يتبع تصَوره حُصُوله، " وَلَا تقدم تصَوره "؛ حَتَّى يكون تصَوره شرطا لحصوله، وَإِذا كَانَ كَذَلِك جَازَ الانفكاك مُطلقًا؛ فتغايرا، فَلَا يلْزم من كَون أَحدهمَا ضَرُورِيًّا كَون الآخر كَذَلِك.
" ثمَّ نقُول " فِي الدّلَالَة على أَنه غير ضَرُورِيّ: " لَو كَانَ ضَرُورِيًّا لَكَانَ بسيطا؛ إِذْ هُوَ مَعْنَاهُ "، أَي: معنى الضَّرُورِيّ كَونه بسيطا؛ لِأَن الضَّرُورِيّ: مَا لَا يتَوَقَّف تصَوره على تصور غَيره؛ فَيكون بسيطا، [وَإِلَّا لَكَانَ تصَوره مَوْقُوفا على تصور جزئه الَّذِي هُوَ غَيره] ؛ " وَيلْزم من " كَونه بسيطا: " أَن يكون كل معنى علما "؛ لِأَن الْعلم يصدق عَلَيْهِ الْمَعْنى: كل معنى علما؛ لَكَانَ الْمَعْنى أَعم من الْعلم؛ فَيلْزم تركيب الْعلم من الْمَعْنى الْمُشْتَرك وَأمر اخْتصَّ بِهِ، وَقد فرض كَونه بسيطا؛ هَذَا خلف.
وَلَيْسَ كل معنى علما، وَهَذَا وَاضح؛ فَإِن الْمَعْنى قد يكون ظنا، وجهلا، وتقليدا، [وَغَيرهَا] .
الشَّرْح: " وَأَصَح الْحُدُود " للْعلم أَن يُقَال: " صفة توجب " لمحلها " تمييزا، لَا يحْتَمل

(1/265)


صفحة فارغة
هَامِش النقيض "، وَالْمرَاد ب " الْأَصَح ": الصَّحِيح؛ وَإِلَّا فَيلْزم أَن يكون هُنَاكَ أصح وصحيح؛ فَيلْزم أَن يكون للشَّيْء الْوَاحِد حدان، فالصفة - وَهِي مَا لَا يقوم بِنَفسِهِ: جنس يَشْمَل الْعلم وَغَيره، وَقَوْلنَا: توجب لمحلها تمييزا: فصل [يحْتَرز] بِهِ عَن الْحَيَاة، وَالْقُدْرَة، والإرادة، وَغَيرهَا؛ من الصِّفَات الْمَشْرُوطَة [بِالْحَيَاةِ وَغير الْمَشْرُوطَة] بهَا، و " لَا يحْتَمل النقيض ": احْتِرَازًا عَن الظَّن، وَهَذَا يَشْمَل التَّصَوُّر؛ إِذْ لَا نقيض لَهُ، والتصديق النَّفْسِيّ؛ إِذْ لَهُ نقيض، وَلَا يحْتَملهُ.
قَالَ الْوَالِد رَحمَه الله: وَهَذَا القَوْل جَامع مَانع، لَكِن الْعلم أجلى مِنْهُ، " فَيدْخل " أَي فِي

(1/266)


فَيدْخل إِدْرَاك الْحَواس؛ ... ... ... ... ... ... ...
هَامِش الْحَد " إِدْرَاك الْحَواس "؛ وَهِي خمس ظَاهِرَة: السّمع، وَالْبَصَر، والشم، والذوق،

(1/267)


كالأشعري، وَإِلَّا زيد فِي الْأُمُور المعنوية.
وَاعْترض بالعلوم العادية؛ فَإِنَّهَا تَسْتَلْزِم جَوَاز النقيض عقلا؛ ... ... ... ...
هَامِش واللمس، وَخمْس باطنة مرتبَة فِي تجويفات الدِّمَاغ؛ وَهِي: الْحس الْمُشْتَرك، والمصورة، والمتخيلة، والوهمية، والحافظة؛ " كالأشعري "، أَي: كَمَا هُوَ مَذْهَب شَيخنَا، وقدوتنا إِمَام أهل السّنة وَالْجَمَاعَة أبي الْحسن الْأَشْعَرِيّ - رَضِي الله عَنهُ - فِي جعله هَذِه الإدراكات من قبيل الْعلم؛ وَهَذَا أحد قوليه فِي الْمَسْأَلَة.
قَالَ الشَّيْخ الإِمَام: وَآخر قوليه أَنَّهَا لَيست من قبيل الْعُلُوم، وَهُوَ الَّذِي ارْتَضَاهُ القَاضِي، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ.
وَهنا ثَلَاثَة أُمُور:
أَحدهَا: إِدْرَاك الْحس المحسوس.
وَالثَّانِي: الْعلم بالمحسوس.
وَالثَّالِث: الْعلم بعلوم أخر، وَلَا إِشْكَال فِي أَن الثَّالِث علم.
وَأَنه، وَهل الثَّانِي مُخَالف للْأولِ، أَو هما شَيْء وَاحِد؟ هَذَا مَحل الْخلاف.
فَإِن قُلْنَا: إنَّهُمَا شَيْء وَاحِد - وَهُوَ مَذْهَب الشَّيْخ أَولا - دخلت فِي الْحَد، " وَإِلَّا " أَي: وَإِن لم نقل بِمذهب الشَّيْخ " زيد " فِي الْحَد، " فِي الْأُمُور المعنوية "، وَيُرِيد بالمعنوية: مَا عدا الحسية، ليخرج إِدْرَاك الْحَواس؛ لِأَن تمييزها فِي الْأُمُور العينية الخارجية.
الشَّرْح: " وَاعْترض " على الْحَد " بالعلوم العادية "؛ كعلمنا بِأَن الْجَبَل حجر، " فَإِنَّهَا تَسْتَلْزِم جَوَاز النقيض عقلا "، أَي: فَإِنَّهُ علم؛ وَهُوَ يحْتَمل النقيض؛ لجَوَاز انقلاب الْجَبَل ذَهَبا بقدرة الْقَادِر الْمُخْتَار.

(1/268)


صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة

(1/269)


صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة

(1/270)


وَأجِيب بِأَن الْجَبَل إِذا علم بِالْعَادَةِ أَنه حجر، اسْتَحَالَ أَن يكون حِينَئِذٍ ذَهَبا ضَرُورَة؛ وَهُوَ المُرَاد، وَمعنى التجويز الْعقلِيّ أَنه لَو قدر، لم يلْزم مِنْهُ محَال لنَفسِهِ، لَا أَنه مُحْتَمل.
هَامِش
" وَأجِيب؛ بِأَن الْجَبَل إِذا علم بِالْعَادَةِ أَنه حجر، اسْتَحَالَ حِينَئِذٍ "، أَي: حِين إِذْ تعلق الْعلم بِهِ " أَن يكون ذَهَبا " فِي الْخَارِج، وَفِي الْعقل " ضَرُورَة "؛ لِاسْتِحَالَة اجْتِمَاع النقيضين وهما: كَونه حجرا أَو غير حجر، " وَهُوَ المُرَاد "؛ من عدم احْتِمَال النقيض.
" وَمعنى التجويز الْعقلِيّ: أَنه لَو قدر " مُقَدّر نقيض مُتَعَلق الْعلم، " لم يلْزم مِنْهُ "، أَي: من تَقْدِيره " محَال لنَفسِهِ " لَا يُمكن لذاته، " لَا أَنه مُحْتَمل "، أَي: لَيْسَ معنى التجويز: أَن نقيض مُتَعَلق الْعلم يحْتَمل وُقُوعه بِوَجْه؛ فَحِينَئِذٍ جَازَ كَون النقيض مركبا فِي نَفسه، وَلَا يحْتَمل وُقُوعه لغيره؛ فَلَا يلْزم من التجويز الْعقلِيّ الِاحْتِمَال؛ فَتدخل الْعُلُوم العادية تَحت الْحَد.
وَلقَائِل أَن يَقُول: إِذا تعلق الْعلم بِكَوْنِهِ حجرا، فالمستحيل إِنَّمَا هُوَ تعلق الْعلم - وَالْحَالة هَذِه - بِأَنَّهُ ذهب، لَا كَونه ذَهَبا فِي نفس الْأَمر، فَرب مَعْلُوم بِالْعَادَةِ، وَقد خرقت الْعَادة فِيهِ، وَلم يعلم الْعَالم بِهِ بخرقها، وَهُوَ عَالم بِالْعَادَةِ، مَعَ وُقُوع خلَافهَا فِي نفس الْأَمر، وَهَذَا كَمَا أَن الْقَمَر، لما انْشَقَّ للنَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -، كَانَ الْحَاصِل عِنْد من لم يره فِي ذَلِك الْوَقْت، وَلم يبلغهُ انشقاقه - أَنه غير منشق، بل هُوَ على الْمُعْتَاد، فَكَانَ الْعلم العادي حَاصِلا بِأَنَّهُ غير منشق فِي ذَلِك

(1/271)


صفحة فارغة
هَامِش الْوَقْت، وَهُوَ منشق فِي نفس الْأَمر؛ على خلاف الْأَمر العادي، وَإِذا كَانَت الاستحالة إِنَّمَا هِيَ عِنْد من حصل لَهُ الْعلم العادي، فالعلم لَا يَكْفِي فِي حُصُوله كَونه يَسْتَحِيل خِلَافه عِنْد الذاكر، بل لَا بُد وَأَن يَسْتَحِيل عِنْد الذاكر وَفِي نفس الْأَمر مَعًا؛ فَلَا يحْتَمل النقيض بِوَجْه على [مَا] بَينه فِي تقسيمه الذّكر الْحكمِي، وَأَيْضًا فَمن حصل لَهُ علم عادي - وَهُوَ مَعَ ذَلِك يعْتَقد جَوَاز كَون الْوَاقِع فِي نفس الْأَمر على خلاف علمه؛ لاحْتِمَال وُقُوع خرق الْعَادة.
فَإِن قلت: المُصَنّف إِنَّمَا تكلم فِيمَا إِذا وجد الْعلم، وَالْعلم لَا يكون إِلَّا مطابقا، والمطابق يَسْتَحِيل أَن يكون الْوَاقِع بِخِلَافِهِ، وَإِذا كَانَ الْوَاقِع خلاف الْحَاصِل، كَانَ الْحَاصِل جهلا لَا علما.
قلت: لَو كَانَ كَذَلِك، لم يكن معنى لتخصيص الْكَلَام بالعلوم العادية، فَإِنَّهُ مَتى حصل الذّكر النَّفْسِيّ الَّذِي لَا يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض بِوَجْه، لم يحْتَمل أَن يكون الْوَاقِع بِخِلَافِهِ، لَا فرق فِي ذَلِك بَين الْعُلُوم العادية، [والوجدانية] ، والحسية، وَغَيرهَا، فَإِنَّهُ قد وجد الْجَازِم والمطابق كُله بِالْفَرْضِ.
(" فَائِدَة ")

إِذا عرفت أَن الْعلم مَا كَانَ عَن مُوجب، وَمَا كَانَ مطابقا؛ بِخِلَاف الظَّن، فَلَو قَالَ الآخر:

(1/272)


صفحة فارغة
هَامِش أَنْت تعلم أَن هَذَا العَبْد حر، حكم بِعِتْقِهِ.
وَلَو قَالَ: تظن، لم يحكم؛ لِأَنَّهُ لَو لم يكن حرا، لم يكن الْمَقُول لَهُ عَالما بحريَّته، وَقد اعْترف السَّيِّد بِعِلْمِهِ، وَصُورَة الظَّن بِخِلَافِهِ؛ نَقله الرَّافِعِيّ عَن خطّ الرَّوْيَانِيّ عَن بعض الْأَئِمَّة.
[قَالَ] : وَلَو قَالَ: ترى أَنه حر، احْتمل أَلا يَقع، وَاحْتمل أَن تحمل الرُّؤْيَة على الْعلم، وَيَقَع.
وَاعْلَم أَنَّك إِذا قلت: زيد قَائِم، أَو لَيْسَ بقائم، فقد ذكرت حكما وسببا؛ إِذْ لَا بُد

(1/273)


وَاعْلَم أَن مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي إِمَّا أَن يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض بِوَجْه أَو لَا:
هَامِش من سَبَب لما وَقع فِي الذِّهْن من قيام زيد، وَهِي نِسْبَة تقييدية تنشأ عَنْهَا النِّسْبَة الْحكمِيَّة، وَهَذِه النِّسْبَة التقييدية فِي الذِّهْن هِيَ الَّتِي عَنْهَا الذّكر الْحكمِي، وَهُوَ مورد التَّقْسِيم؛ وَلذَلِك مُتَعَلق هُوَ طرفاه، وَهُوَ قيام زيد فِي الْخَارِج، وَلَا نعني وجوده، بل حَقِيقَته فِي نَفسه الْقَابِلَة للوجود والعدم، وَهِي الَّتِي تقسم إِلَى احْتِمَال النقيض، وَعدم احْتِمَاله.
إِذا عرفت هَذَا، وَهُوَ الذّكر الْحكمِي، وَرُبمَا سمي الذّكر النَّفْسِيّ، وَله نقيض، فللإثبات النَّفْي، وللنفي الْإِثْبَات، فَنَقُول:
الشَّرْح: " اعْلَم أَن مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي "، سَوَاء أصدر عَنهُ الذّكر الْحكمِي أم لَا؟ " إِمَّا أَن يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض "، " أَي: نقيض مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي " بِوَجْه " من الْوُجُوه، " أَو لَا، وَالثَّانِي الْعلم.

(1/274)


الثَّانِي: الْعلم، وَالْأول: إِمَّا أَن يحْتَمل النقيض عِنْد الذاكر، لَو قدره أَو لَا، وَالثَّانِي: الِاعْتِقَاد، فَإِن طابق، فَصَحِيح، وَإِلَّا ففاسد، وَالْأول: إِمَّا أَن يحْتَمل النقيض، وَهُوَ رَاجِح أَو لَا، فالراجح: الظَّن، والمرجوح: الْوَهم، والمساوي: الشَّك، وَقد علم بذلك حُدُودهَا.
هَامِش
وَالْأول: إِمَّا أَن يحْتَمل النقيض عِنْد الذاكر لَو قدره "، أَي: يكون بِحَيْثُ لَو قدر الذاكر النقيض، لَكَانَ مُحْتملا عِنْده، " أَو لَا.
وَالثَّانِي: الِاعْتِقَاد، فَإِن طابق الْوَاقِع، فَصَحِيح، وَإِلَّا ففاسد.
وَالْأول: إِمَّا أَن يحْتَمل النقيض، وَهُوَ رَاجِح، أَو لَا "، بل مَرْجُوح، أَو مسَاوٍ.
" فالراجح: الظَّن، والمرجوح: الْوَهم، والمساوي: الشَّك ".
وَإِنَّمَا جعل مورد التَّقْسِيم مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي، دون الِاعْتِقَاد أَو الحكم؛ لتناول الْوَهم وَالشَّكّ؛ مِمَّا لَا اعْتِقَاد وَلَا حكم للذهن فِيهِ.
" وَقد علم بذلك حُدُودهَا "؛ بِأَن يُقَال: الْعلم: مَا عَنهُ الذّكر الْحكمِي الَّذِي لَا يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض بِوَجْه، وَالظَّن: الَّذِي يحْتَمل مُتَعَلّقه النقيض عِنْد الذاكر، لَو قدره، إِذا كَانَ راجحا، وَهَكَذَا إِلَى آخر التَّقْسِيم.
وَهَذَا اصْطِلَاح الْأُصُولِيِّينَ، وَرُبمَا أطلق الْفُقَهَاء على الظَّن الْغَالِب علما، وَلذَلِك لما ذكرُوا الْخلاف فِي أَن القَاضِي، هَل يقْضِي بِعِلْمِهِ؟ مثلُوا لَهُ؛ بِمَا إِذا ادّعى عَلَيْهِ مَالا، وَقد رَآهُ القَاضِي أقْرضهُ ذَلِك، أَو سمع الْمُدعى عَلَيْهِ أقرّ بذلك.
قَالَ الرَّافِعِيّ: وَمَعْلُوم أَن رُؤْيَة الْإِقْرَاض،

(1/275)


صفحة فارغة
هَامِش وَسَمَاع الْإِقْرَار لَا يُفِيد الْيَقِين؛ بِثُبُوت الْمَحْكُوم بِهِ وَقت الْقَضَاء.
قَالَ: فَيدل على أَن المُرَاد بِالْعلمِ لَيْسَ الْيَقِين، بل الظَّن الْمُؤَكّد.
وَرُبمَا أطْلقُوا الشَّك فِي مَوضِع لم يستو الطرفان فِيهِ.
وَقَوْلهمْ فِي الْقَاعِدَة الْمَشْهُورَة: الْيَقِين لَا يرفع بِالشَّكِّ؛ إِذا تَأَمَّلت فروعها، عرفت: أَن المُرَاد بِهِ اسْتِصْحَاب الْيَقِين، وَهُوَ فِي الْحَقِيقَة ظن لَا يرفع بِالشَّكِّ، واستثناء مَا استثنوه من

(1/276)


صفحة فارغة
هَامِش هَذِه الْقَاعِدَة، لَيْسَ فِي الْحَقِيقَة قَضَاء بالمرجوح، مَعَ وجدان الرَّاجِح؛ فَإِن ذَلِك على خلاف الْمَعْقُول والمشروع، بل عمل بأرجح الظنين.
قَالَ أَبُو الْعَبَّاس بن الْقَاص: لَا يرفع الْيَقِين بِالشَّكِّ إِلَّا فِي إِحْدَى عشرَة مَسْأَلَة - وَزَاد

(1/277)


صفحة فارغة
هَامِش عَلَيْهِ الْأَصْحَاب صورا أهملها من جنس مَا ذكره.
ثمَّ قَالَ محققوهم: إِنَّه لم يعْمل بِالشَّكِّ فِي شَيْء مِنْهَا؛ كَمَا حققنا ذَلِك فِي كتَابنَا " الْأَشْبَاه والنظائر ".
وَاعْلَم أَن الإِمَام حجَّة الْإِسْلَام أَبَا حَامِد الْغَزالِيّ - سقى الله عَهده - افْتتح كتاب

(1/278)


صفحة فارغة
هَامِش " الْمُسْتَصْفى " بقواعد منطقية، وَقَالَ: " هَذِه مُقَدّمَة الْعُلُوم كلهَا، وَمن لَا يُحِيط بهَا، فَلَا ثِقَة لَهُ بمعلومه أصلا.
وَاخْتلف أهل الْعلم وَالدّين بعدهمْ، فَذكر الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح؛ أَنه سمع الشَّيْخ الْعِمَاد بن يُونُس يَحْكِي عَن الإِمَام يُوسُف الدِّمَشْقِي؛ أَنه كَانَ يُنكر هَذَا القَوْل وَيَقُول: فَأَبُو بكر، وَعمر، وَفُلَان، وَفُلَان؛ يَعْنِي: أَن أُولَئِكَ السَّادة عظمت حظوظهم من الْعلم وَالْيَقِين،

(1/279)


صفحة فارغة
هَامِش وَلم يحيطوا بِهَذِهِ الْمُقدمَة وأشباهها، ثمَّ أفتى ابْن الصّلاح بِتَحْرِيم الِاشْتِغَال بالْمَنْطق وَقَالَ: هُوَ مدْخل الفلسفة، ومدخل الشَّرّ، وَلَيْسَ الِاشْتِغَال بتعليمه وتعلمه مِمَّا أَبَاحَهُ الشَّارِع، وَلَا استباحه أحد من الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَالْأَئِمَّة الْمُجْتَهدين، وَالسَّلَف الصَّالِحين، وَسَائِر من يقْتَدى بهم من أَعْلَام الْأمة وسادتها، وأركان الله وقادتها، قد برأَ الله الْجَمِيع من معرفَة ذَلِك وأدناسه، وطهرهم من أوضاره.
وَأما استعمالات الاصطلاحات المشنعة المنطقية فِي مبَاحث الْأَحْكَام الشَّرْعِيَّة، فَمن

(1/280)


صفحة فارغة
هَامِش الْمُنْكَرَات، وَلَيْسَ بِالْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّة - وَالْحَمْد لله - افتقار إِلَى الْمنطق أصلا، وَمَا يزعمه المنطقي للمنطق فِي أَمر الْحَد والبرهان - فقاقيع قد أغْنى الله عَنْهَا كل صَحِيح الذِّهْن؛ لَا سِيمَا من خدم نظريات الْعُلُوم الشَّرْعِيَّة، وَلَقَد تمت الشَّرِيعَة، وخاض فِي بَحر الْحَقَائِق والدقائق علماؤها، حَيْثُ لَا منطق. انْتهى، وَتَابعه غير وَاحِد مِمَّن بعده.
وَرَأَيْت فِي الْمسَائِل الَّتِي سَأَلَهَا يُوسُف بن مُحَمَّد بن مقلد الدِّمَشْقِي، الشَّيْخ الإِمَام أَبَا مَنْصُور العطاردي، الْمَعْرُوف ب " حَضْرَة ": هَل يجوز الِاشْتِغَال بالْمَنْطق، أم هُوَ دهليز الْكفْر؟ .
أجَاب: الْمنطق لَا يتَعَلَّق بِهِ كفر وَلَا إِيمَان، ثمَّ قَالَ: إِن الأولى أَلا يشْتَغل بِهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَأْمَن الخائض فِيهِ؛ أَن يجره إِلَى مَا لَا يَنْبَغِي، انْتهى.
وَنحن نقُول: قَول يُوسُف الدِّمَشْقِي: " أَبُو بكر، وَعمر، وَفُلَان، وَفُلَان "، الْمُتَقَدّم - كَلَام لَا حَاصِل لَهُ؛ فَإِن أَبَا بكر، وَعمر أحاطا بِهَذِهِ الْمُقدمَة إحاطة لم يصل الْغَزالِيّ وَأَمْثَاله إِلَى عشر معشارها، وَمن زعم أَنَّهُمَا لم يحيطا بهَا، فَهُوَ الْمُسِيء عَلَيْهِمَا، وَالَّذِي نقطع بِهِ أَنَّهَا كَانَت سَاكِنة فِي طباع أُولَئِكَ السادات، وسجية لَهُم، كَمَا كَانَ النَّحْو الَّذِي ندأب نَحن الْيَوْم فِي تَحْصِيله.
وَمَا ذكره الشَّيْخ أَبُو عَمْرو بن الصّلاح لَيْسَ بالخالي عَن الإفراط وَالْمُبَالغَة؛ فَإِن أحدا لم يدع افتقار الشَّرِيعَة إِلَى الْمنطق، بل قصارى الْمنطق، عصمَة الأذهان [الَّتِي] لَا يوثق بهَا؛ عَن الْغَلَط، وَهُوَ حَاصِل عِنْد كل ذِي ذهن بِمِقْدَار مَا أُوتِيَ من الْفَهم.
وَأما ترتيبه على الْوَجْه الَّذِي يذكرهُ المنطقي، فَهُوَ أَمر استحدث؛ ليرْجع إِلَيْهِ ذُو الذِّهْن، إِذا استبهمت الْأُمُور، وَهل الْمنطق للأذهان إِلَّا كالنحو للسان، وَإِنَّمَا احْتِيجَ للنحو، وَصَارَ علما بِرَأْسِهِ عِنْد اخْتِلَاط الْأَلْسِنَة، وَكَذَلِكَ الْمنطق، يَدعِي الْغَزالِيّ؛ أَن الْحَاجة اشتدت إِلَيْهِ عِنْد كلال الأذهان، واعتوار الشُّبُهَات.
وَقَوله: " لقد تمت الشَّرِيعَة حَيْثُ لَا منطق "؛ إِن أَرَادَ حَيْثُ لَا منطق مُودع فِي الْكتب على

(1/281)


صفحة فارغة
هَامِش هَذِه الأساليب، فَصَحِيح، وَلَا يُوجب تَحْرِيم هَذَا، وَلَا الغض مِنْهُ، وَإِن أَرَادَ حَيْثُ لَا منطق حَاصِل لَهُم، وَإِن لم يعبر عَنهُ بِهَذَا الْوَجْه، فَمَمْنُوع؛ كَمَا ذَكرْنَاهُ.
فَإِن قلت: مَاذَا يعنون بِهِ فِي الْمنطق؟
قلت: نَحن نَذْهَب إِلَى مَا أفتى بِهِ شيخ الْمُسلمين، وَإِمَام الْأَئِمَّة، الَّذِي خضعت لَهُ الرّقاب؛ وَهُوَ أَبى - تغمده الله برحمته - حَيْثُ قَالَ، وَقد سُئِلَ عَن ذَلِك: يَنْبَغِي أَن يقدم على الِاشْتِغَال بِهِ - الِاشْتِغَال بِالْقُرْآنِ، وَالسّنة، وَالْفِقْه؛ حَتَّى يرسخ فِي الذِّهْن تَعْظِيم الشَّرِيعَة وعلمائها، فَإِذا تمّ ذَلِك، وَعلم الْمَرْء من نَفسه صِحَة الذِّهْن؛ حَتَّى لَا تروج عَلَيْهِ الشُّبْهَة، وَلَقي شَيخا ناصحا حسن العقيدة - جَازَ لَهُ - وَالْحَالة هَذِه - الِاشْتِغَال بالْمَنْطق، وانتفع بِهِ، وأعانه على الْعُلُوم الإسلامية، قَالَ: وَهُوَ من أحسن الْعُلُوم وأنفعها فِي كل بحث، [قَالَ: وَفصل القَوْل فِيهِ؛ إِنَّه كالسيف يُجَاهد بِهِ شخص] فِي سَبِيل الله، وَيقطع [بِهِ] آخر الطَّرِيق.

(1/282)


وَالْعلم ضَرْبَان: علم بمفرد، وَيُسمى تصورا وَمَعْرِفَة وَعلم بِنِسْبَة، وَيُسمى تَصْدِيقًا وعلما، وَكِلَاهُمَا ضَرُورِيّ ومطلوب.
هَامِش وَقد اقْتدى المُصَنّف بالغزالي فِي ذكر الْقَوَاعِد المهمة من الْمنطق، فَقَالَ: " وَالْعلم ضَرْبَان: علم بمفرد "؛ مثل علمك بِمَعْنى الْإِنْسَان، وَالْكَاتِب، " وَيُسمى تصورا وَمَعْرِفَة، وَعلم بِنِسْبَة "، لَا بِمَعْنى [حُصُول] صورتهَا فِي الْعقل؛ فَإِنَّهُ من قبيل الأول؛ بل الْمَعْنى إيقاعها أَو انتزاعها؛ مثل: حكمك بِأَن الْإِنْسَان كَاتب، أَو لَيْسَ بكاتب، " وَيُسمى تَصْدِيقًا وعلما ".
وَإِنَّمَا يُسَمِّيه علما بَعضهم؛ وعَلى هَذَا، فَلَا يكون الأول عِنْده علما، " وَكِلَاهُمَا "، أَي: كل وَاحِد من التَّصَوُّر والتصديق " ضَرُورِيّ " يحصل بِلَا طلب، " ومطلوب " لَا يحصل إِلَّا

(1/283)


فالتصور الضَّرُورِيّ: مَا لَا يتقدمه تصور يتَوَقَّف عَلَيْهِ؛ لانْتِفَاء التَّرْكِيب فِي مُتَعَلّقه؛ كالوجود وَالشَّيْء، وَالْمَطْلُوب بِخِلَافِهِ، أَي: تطلب مفرداته؛ فَيحد.
والتصديق الضَّرُورِيّ: مَا لَا يتقدمه تَصْدِيق يتَوَقَّف عَلَيْهِ، وَالْمَطْلُوب بِخِلَافِهِ، أَي: يطْلب بِالدَّلِيلِ.
هَامِش بِالطَّلَبِ، فَصَارَت الْأَقْسَام أَرْبَعَة: تصور ضَرُورِيّ، ومطلوب، وتصديق ضَرُورِيّ، ومطلوب، وَوُجُود الْأَرْبَعَة وجداني.
الشَّرْح: " فالتصور الضَّرُورِيّ: مَا لَا يتقدمه، تصور يتَوَقَّف عَلَيْهِ "، أَي: لَا يتقدمه تصور تقدما طبيعيا، وَهُوَ مَا لَا يتَوَقَّف تحَققه عَلَيْهِ، وَعدم توقف التَّصَوُّر على تصور يسْبقهُ، إِنَّمَا هُوَ " لانْتِفَاء التَّرْكِيب فِي مُتَعَلّقه "؛ فَإِنَّهُ مُفْرد؛ فَلَا يطْلب لَهُ حد؛ إِذْ لَا حد لَهُ؛ لِأَن الْحَد يُمَيّز أَجزَاء الْمُفْرد، وَهَذَا مُفْرد؛ فَلَا أَجزَاء لَهُ، والمفرد الَّذِي لَا يحد، " كالوجود، وَالشَّيْء ".
والتصور " الْمَطْلُوب بِخِلَافِهِ "، وَهُوَ مَا كَانَ مُتَعَلّقه مركبا، " أَي: يطْلب مفرداته "؛ ليعرف متميزه بِالْحَدِّ.
" والتصديق الضَّرُورِيّ: مَا لَا يتقدمه تَصْدِيق يتَوَقَّف عَلَيْهِ "، وَهُوَ دَلِيله، وَطَلَبه النّظر، وَلَا بَأْس أَن يتقدمه تَصْدِيق يتَوَقَّف عَلَيْهِ، وَهُوَ دَلِيله، " فيطلب بِالدَّلِيلِ ".
وَاعْلَم أَنه لَا يلْزم من توقف التَّصَوُّر على تصور مفرداته - أَن يطْلب، بل قد يكون حَاصِلا من غير سبق طلب وَنظر.

(1/284)


وَأورد على التَّصَوُّر: إِن كَانَ حَاصِلا، فَلَا طلب، وَإِلَّا فَلَا شُعُور بِهِ، فَلَا طلب؛ وَأجِيب بِأَنَّهُ يشْعر بهَا وبغيرها، وَالْمَطْلُوب تَخْصِيص بَعْضهَا بِالتَّعْيِينِ، وَأورد ذَلِك
هَامِش
الشَّرْح: " وَأورد على التَّصَوُّر "؛ أَنه لَا مَطْلُوب مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ " إِن كَانَ حَاصِلا، فَلَا طلب "؛ لِئَلَّا يلْزم تَحْصِيل الْحَاصِل، " وَإِلَّا فَلَا شُعُور بِهِ، فَلَا طلب "؛ لِأَن الطّلب إِنَّمَا يتَوَجَّه نَحْو المشعور بِهِ.
لَا يُقَال: إِنَّه حَاصِل من وَجه دون وَجه؛ لأَنا نقُول: يعود الْكَلَام فِيمَا يطْلب من جِهَته، فَالْحَاصِل فِي طلبه تَحْصِيل الْحَاصِل وَغَيره - لَا شُعُور بِهِ.
بل الْجَواب مَا أَشَارَ إِلَيْهِ بقوله: " وَأجِيب بِأَنَّهُ يشْعر بهَا "، أَي: بمفرداته الَّتِي ذكر أَنَّهَا تطلب لتعرف متميزة، " وبغيرها " مفصلة، " وَالْمَطْلُوب تَخْصِيص بَعْضهَا بِالتَّعْيِينِ "؛

(1/285)


على التَّصْدِيق.
وَأجِيب: بِأَنَّهُ تتَصَوَّر النِّسْبَة بِنَفْي أَو إِثْبَات، ثمَّ يطْلب تعْيين أَحدهمَا، وَلَا يلْزم من تصور النِّسْبَة حُصُولهَا، وَإِلَّا لزم النقيضان.
ومادة الْمركب: مفرداته، وَصورته: هَيئته الْخَاصَّة.
هَامِش كمن يرى أشخاصا كَثِيرَة فيهم زيد، وَلَا يعرفهُ بِعَيْنِه، فَيسْأَل عَنهُ من يعرفهُ، فَيَضَع يَده على أحدهم قَائِلا: زيد هُوَ هَذَا، أَو يعرفهُ بعلامة علمهَا [لزيد] دون غَيره مِمَّن عداهُ.
" وَأورد ذَلِك على التَّصْدِيق " [أَيْضا] ؛ فَقيل: لَا مَطْلُوب مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ إِمَّا حَاصِل، أَو غير مشعور بِهِ؛ كَمَا تقدم.
الشَّرْح: " وَأجِيب: بِأَنَّهُ يتَصَوَّر النِّسْبَة بِنَفْي أَو إِثْبَات، ثمَّ يطْلب تعْيين أَحدهمَا "، وَذَلِكَ أَن الْعلم بِالنِّسْبَةِ من جِهَة تصورها غير الْعلم بحصولها، وَإِلَّا لزم من تصورها الْعلم بحصولها، فَإِذا تصورنا النَّفْي وَالْإِثْبَات، لزم اجْتِمَاعهمَا، فيجتمع النقيضان، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ بقوله: " وَلَا يلْزم من تصور النِّسْبَة حُصُولهَا، وَإِلَّا لزم النقيضان ".
الشَّرْح: وَاعْلَم: أَن أَجزَاء الْمركب، إِمَّا أَن يكون مَعَه بِالْقُوَّةِ، وَهُوَ الْمَادَّة؛ كالخشب للسرير، أَو بِالْفِعْلِ، وَهُوَ الصُّورَة؛ كَهَيئَةِ السرير، " ومادة الْمركب: [مفرداته " الَّتِي يحصل هُوَ من التئامها؛ كالخشب] ، " وَصورته: هَيئته الْخَاصَّة " الْحَاصِلَة من التئامها.
ثمَّ إِن ذَلِك قد يكون زَائِدا على مَجْمُوع الْمُفْردَات؛ كالمزاج الْحَاصِل لأجزاء المعجون

(1/286)


(تَقْسِيم الْحَد)

وَالْحَد حَقِيقِيّ، ورسمي، ولفظي:
فالحقيقي: مَا أنبأ عَن ذاتياته الْكُلية المركبة.
هَامِش الَّذِي بِهِ تظهر آثاره؛ ويشبهه الْفَقِيه باجتماع الْجَمَاعَة على قتل الْوَاحِد، إِذا كَانَ كل مِنْهُم لَو انْفَرد لم يزهق، وَقد لَا يكون؛ كَهَيئَةِ الْعشْرَة لآحادها؛ فَإِن الْعشْرَة - وَإِن كَانَت غير كل وَاحِد - فَلَيْسَتْ إِلَّا مَجْمُوع الْآحَاد، وَلم يحصل لَهَا بعد الالتئام كَيْفيَّة زَائِدَة؛ اللَّهُمَّ إِلَّا أَن يكون بِحَسب التعقل، وأشبه مِنْهُم بِالْعشرَةِ الثَّابِتَة فِي ذمَّة [زيد] ، إِذا ضمنهَا عَمْرو؛ فَإِنَّهَا وَاحِدَة، وَإِن ثبتَتْ فِي ذمتين، وَلَيْسَت عشرتين؛ خلافًا لمن زعم ذَلِك من الْفُقَهَاء.
الشَّرْح: " وَالْحَد " وَهُوَ مَا يُمَيّز الشَّيْء عَن غَيره: " حَقِيقِيّ، ورسمي، ولفظي:
فالحقيقي: مَا أنبأ عَن ذاتياته "، أَي: ذاتيات الْمَحْدُود " [الْكُلية] المركبة "؛ وَقد خرج بقولنَا: ذاتياته - العرضيات، وب " الْكُلية " - المشخصات، وب " المركبة " - الذاتيات الَّتِي [لم] يعْتَبر تركيبها؛ على وَجه يحصل لَهَا صُورَة وجدانية مُطَابقَة للمحدود؛ فَإِنَّهَا لَا تسمى حدا حَقِيقِيًّا.
وَمثل أَكْثَرهم الْحَقِيقِيّ؛ بقولنَا فِي تَعْرِيف الْإِنْسَان: الْحَيَوَان [النَّاطِق] ، وَالْمرَاد بالناطق بِالْقُوَّةِ، وَهُوَ صَحِيح.
وَرَأَيْت الْأُسْتَاذ أَبَا مَنْصُور فِي " معيار الجدل " عزاهُ إِلَى الفلاسفة؛ ورده فَقَالَ: إِن أَرَادوا بالنطق: الْكَلَام الصَّحِيح المسموع، لَزِمَهُم أَلا يكون الْأَخْرَس إنْسَانا، وَأَن يكون الببغاء إنْسَانا؛ إِذا تعلمت النُّطْق، وَإِن أَرَادوا التَّمْيِيز، لَزِمَهُم أَن يكون كل حَيَوَان مُمَيّز إنْسَانا.
قلت: وَقد عرفت مُرَادهم؛ فَانْدفع إِيرَاده.
ثمَّ قَالَ: وَقَالَ أهل الْحق: إِن الْإِنْسَان هُوَ الْجَسَد الْمَخْصُوص بِهَذِهِ الصُّورَة الْمَخْصُوصَة، قَالَ: فَإِذا سئلوا عَن هَذَا القَوْل؛ عَن جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام - حِين جَاءَ فِي صُورَة دحْيَة الْكَلْبِيّ - أجابوا: أَن الظَّاهِر مِنْهُ كَانَ على صُورَة ظَاهر الْإِنْسَان، وَلم يكن بَاطِنه جسدا كباطن الْإِنْسَان؛ فَلم يكن إنْسَانا.

(1/287)


والرسمي: مَا أنبأ عَن الشَّيْء بِلَازِم لَهُ؛ مثل: الْخمر: مَائِع، يقذف بالزبد.
واللفظي: مَا أنبأ عَنهُ بِلَفْظ أظهر مرادف؛ مثل: الْعقار: الْخمر.
وَشرط الْجَمِيع الاطراد والانعكاس، أَي: إِذا وجد، وجد، وَإِذا انْتَفَى انْتَفَى.
هَامِش
" والرسمي: مَا أنبأ عَن الشَّيْء بِلَازِم لَهُ "، أَي: مُخْتَصّ بِهِ دون غَيره؛ " مثل: الْخمر مَائِع، يقذف بالزبد "؛ فَإِن ذَلِك لَازم عَارض بعد تَمام حَقِيقَته.
" واللفظي: مَا أنبأ بِلَفْظ أظهر مرادف؛ مثل: الْعقار خمر.
وَشرط الْجَمِيع: الاطراد والانعكاس، أَي: إِذا وجد " الْحَد، " وجد " الْمَحْدُود؛ وَذَلِكَ هُوَ الاطراد؛ فَلَا يدْخل فِيهِ شَيْء لَيْسَ من أَفْرَاد الْمَحْدُود؛ فَيكون مَانِعا، " وَإِذا انْتَفَى " الْحَد، " انْتَفَى " الْمَحْدُود؛ وَذَلِكَ هُوَ الانعكاس، أَي: كلما وجد الْمَحْدُود، وجد الْحَد؛ وَيلْزمهُ كلما

(1/288)


والذاتي: مَا لَا يتَصَوَّر فهم الذَّات قبل فهمه؛ كاللونية للسواد، والجسمية للْإنْسَان؛
هَامِش انْتَفَى الْحَد، انْتَفَى الْمَحْدُود؛ فَلَا يخرج عَنهُ شَيْء من أَفْرَاد الْمَحْدُود؛ فَيكون جَامعا؛ فَإِذن شَرط الْحَد: أَن يكون مطردا منعكسا، وَإِن شِئْت قل: جَامعا مَانِعا.
وَكَانَ بعض مَشَايِخ " خُرَاسَان " يَقُول: الْحَد: مَا منع الوالج من الْخُرُوج، وَالْخَارِج من الولوج.
قَالَ القَاضِي أَبُو الطّيب: وَهَذَا أبرد من الثلوج.
الشَّرْح: " والذاتي: مَا لَا يتَصَوَّر "، أَي: يمْتَنع " فهم الذَّات قبل فهمه "، فَلَو قدر عَدمه فِي الْعقل، لارتفعت الذَّات؛ " كاللونية للسواد " فِي ذاتي الْعرض، " والجسمية للْإنْسَان " فِي ذاتي

(1/289)


وَمن ثمَّة لم يكن لشَيْء حدان ذاتيان.
وَقد يعرف؛ بِأَنَّهُ غير مُعَلل، وبالترتيب الْعقلِيّ.
وَتَمام الْمَاهِيّة: هُوَ الْمَقُول فِي جَوَاب: مَا هُوَ، وجزؤها ... ... ... ...
هَامِش الْجَوْهَر، " وَمن ثمَّ "، أَي: من أجل أَن فهم الذَّات لَا يتَصَوَّر قبل فهم الذاتي، " لم يكن لشَيْء " وَاحِد " حدان ذاتيان "؛ وَذَلِكَ لِأَن الْحَد الْحَقِيقِيّ بتعقل جَمِيع الذاتيات؛ وَذَلِكَ لَا يتَصَوَّر فِيهِ التَّعَدُّد، اللَّهُمَّ إِلَّا من جِهَة الْعبارَة؛ بِأَن يذكر بعض الذاتيات بالمطابقة تَارَة، وبالتضمن أُخْرَى
الشَّرْح: " وَقد يعرف " الذاتي؛ " بِأَنَّهُ غير مُعَلل "، أَي: أَنه الَّذِي لَا يثبت للذات بعلة.
فالسواد للأسود لَيْسَ بعلة، وَكَذَا اللونية؛ لتقدمها عَلَيْهِ؛ بِخِلَاف الزَّوْجِيَّة للأربعة؛ فَإِن الزَّوْجِيَّة معللة بهَا.
" وبالترتيب الْعقلِيّ "، أَي: وَقد يعرف الذاتي أَيْضا بالترتيب الْعقلِيّ، أَي هُوَ الَّذِي يتَقَدَّم على الذَّات فِي التعقل.
الشَّرْح: " وَتَمام الْمَاهِيّة: هُوَ الْمَقُول فِي جَوَاب: مَا هُوَ؟ "؛ فَإِن السُّؤَال ب " مَا هُوَ؟ " إِنَّمَا يكون عَن تَمام الْمَاهِيّة؛ ك " الْحَيَوَان النَّاطِق "؛ فِي جَوَاب السُّؤَال ب " مَا هُوَ؟ " عَن الْإِنْسَان.

(1/290)


الْمُشْتَرك: الْجِنْس، والمميز: الْفَصْل، وَالْمَجْمُوع مِنْهُمَا: النَّوْع.
وَالْجِنْس: مَا اشْتَمَل على مُخْتَلف بِالْحَقِيقَةِ، وكل من الْمُخْتَلف: النَّوْع، وَيُطلق النَّوْع على ذِي آحَاد متفقة الْحَقِيقَة، فالجنس الْوسط، نوع بِالْأولِ لَا الثَّانِي، والبسائط بِالْعَكْسِ.
هَامِش
" وجزؤها "، أَي: تَمام جزئها " الْمُشْتَرك: الْجِنْس "، كالحيوان للْإنْسَان؛ فَإِنَّهُ تَمام الْمُشْتَرك بَين الْإِنْسَان وَغَيره من الْحَيَوَانَات.
وَتَمام الْجُزْء " الْمُمَيز " لَهَا: الْفَصْل؛ كالناطق للْإنْسَان.
" وَالْمَجْمُوع " الْمركب " مِنْهُمَا "، أَي: من الْجِنْس والفصل - هُوَ " النَّوْع الإضافي.
" وَالْجِنْس: مَا اشْتَمَل: أَي: الْمَقُول فِي جَوَاب مَا هُوَ؟ الْمُشْتَمل " على مُخْتَلف بِالْحَقِيقَةِ "؛ فَخرج ب " الْمَقُول فِي جَوَاب: مَا هُوَ؟ " - الْفَصْل، والخاصة، وَالْعرض الْعَام؛ لِأَنَّهُ لَيْسَ شَيْء مِنْهَا مقولا فِي جَوَاب: مَا هُوَ؟ و " بِالْحَقِيقَةِ " - النَّوْع؛ لِأَنَّهُ مقول فِي جَوَاب مَا هُوَ؟ مُشْتَمل على مُخْتَلف بِالْعدَدِ، لَا بِالْحَقِيقَةِ.
" وكل من الْمُخْتَلف " الَّذِي يُقَال عَلَيْهِ وعَلى غَيره: الْجِنْس؛ فِي جَوَاب: مَا هُوَ؟ - " النَّوْع " [الإضافي. " وَيُطلق النَّوْع] على ذِي آحَاد متفقة الْحَقِيقَة " - بِاعْتِبَار كَونهَا آحادا لَهُ، وَيُسمى [نوعا] حَقِيقِيًّا، " فالجنس الْوسط "؛ كالجسم النامي " نوع بِالْأولِ "، أَي: بِالْمَعْنَى الأول؛ [لِأَن فَوْقه جِنْسا يُقَال عَلَيْهِ وعَلى غَيره فِي جَوَاب: مَا هُوَ؟ " لَا " بِالْمَعْنَى " الثَّانِي "؛ ضَرُورَة كَونه

(1/291)


والعرضي بِخِلَافِهِ، وَهُوَ لَازم، وعارض؛ فاللازم: مَا لَا يتَصَوَّر ... ... ... ...
هَامِش مقولا فِي جَوَاب: مَا] هُوَ؟ على مُخْتَلفين بِالْحَقِيقَةِ، وَهِي الْأَنْوَاع المندرجة تَحْتَهُ.
" والبسائط "، أَعنِي: الماهيات الَّتِي لَا جُزْء لَهَا؛ كالوحدة، والنقطة، " بِالْعَكْسِ " يكون نوعا؛ بِالْمَعْنَى الثَّانِي؛ ضَرُورَة كَونهَا مقولة فِي جَوَاب: مَا هُوَ؟ على المتفقة بِالْحَقِيقَةِ الَّتِي هِيَ أفرادها، دون الْمَعْنى الأول؛ ضَرُورَة عدم اندراجها تَحت جنس، وَإِلَّا لم تكن بسائط.
الشَّرْح: " والعرضي بِخِلَافِهِ "، أَي: بِخِلَاف الذاتي؛ فَهُوَ مَا يتَصَوَّر فهم الذَّات قبل فهمه، أَو الْمُعَلل، أَو مَا لَا يتقدمه عقلا.
" وَهُوَ " قِسْمَانِ: " [لَازم، وعارض] ؛ فاللازم: مَا لَا يتَصَوَّر مُفَارقَته "، أَي: لَا يُمكن،

(1/292)


مُفَارقَته؛ وَهُوَ لَازم للماهية بعد فهمها؛ كالفردية للثَّلَاثَة، والزوجية للأربعة، ولازم للوجود خَاصَّة؛ كالحدوث للجسم، والظل لَهُ، والعارض بِخِلَافِهِ، وَقد لَا يَزُول؛ كسواد الْغُرَاب، والزنجي، وَقد يَزُول؛ كصفرة الذَّهَب.
وَصُورَة الْحَد: الْجِنْس الْأَقْرَب، ثمَّ الْفَصْل، وخلل ذَلِك نقص.
هَامِش " وَهُوَ " ضَرْبَان: " لَازم للماهية بعد فهمها "؛ بِخِلَاف الذاتي؛ فَإِنَّهُ لَازم، لَا بعد فهمها، سَوَاء أفرض وجودهَا أم لَا؛ " كالفردية للثَّلَاثَة، والزوجية للأربعة، ولازم للوجود خَاصَّة "، دون الْمَاهِيّة؛ " كالحدوث للجسم " كُله، " والظل لَهُ "، أَي: كَونه ذَا [ظلّ] فِي الشَّمْس لبعضه؛ وَذَلِكَ لَا يلْزم مَاهِيَّة الْجِسْم.
" والعارض بِخِلَافِهِ "، أَي: بِخِلَاف اللَّازِم، وَهُوَ مَا يُمكن مُفَارقَته، " وَقد لَا يَزُول؛ كسواد الْغُرَاب، والزنجي، وَقد يَزُول؛ كصفرة الذَّهَب ".
الشَّرْح: " وَصُورَة الْحَد " الْحَقِيقِيّ: " الْجِنْس الْأَقْرَب، ثمَّ الْفَصْل، وخلل ذَلِك "، أَي: الصُّورَة - " نقص " فِي الْحَد؛ كإسقاط الْجِنْس الْأَقْرَب، والاقتصار على الْأَبْعَد؛ لدلَالَة الْفَصْل

(1/293)


صفحة فارغة
هَامِش بالالتزام عَلَيْهِ؛ نَحْو: الْإِنْسَان جسم نَاطِق، [أَو إِسْقَاط الْجِنْس رَأْسا؛ ك " الْإِنْسَان نَاطِق] ؛ وكتقديم الْفَصْل؛ نَحْو: الْعِشْق: فرط الْمحبَّة؛ لإخلال ذَلِك بالصورة.

(1/294)


وخلل الْمَادَّة خطأ وَنقص؛ فالخطأ كجعل الْمَوْجُود وَالْوَاحد جِنْسا؛ وكجعل العرضي الْخَاص بِنَوْع فصلا؛ فَلَا ينعكس؛ وكترك بعض الْفُصُول؛ فَلَا يطرد؛ وكتعريفه بِنَفسِهِ؛ مثل: الْحَرَكَة: عرض نقلة، وَالْإِنْسَان: حَيَوَان بشر؛ وكجعل النَّوْع والجزء جِنْسا؛ مثل: الشَّرّ ظلم النَّاس، وَالْعشرَة خَمْسَة وَخَمْسَة، وَيخْتَص الرسمي باللازم الظَّاهِر، لَا بخفي مثله، وَلَا أخْفى، وَلَا بِمَا تتَوَقَّف عقليته عَلَيْهِ؛ مثل: الزَّوْج عدد يزِيد على الْفَرد بِوَاحِد، وَبِالْعَكْسِ؛ فَإِنَّهُمَا متساويان؛ وَمثل: النَّار جسم؛ كالنفس؛ فَإِن
هَامِش
الشَّرْح: " وخلل الْمَادَّة " قِسْمَانِ: " خطأ "؛ وَهُوَ مَا كَانَ من جِهَة الْمَعْنى، " وَنقص "؛ وَهُوَ من جِهَة اللَّفْظ؛ " فالخطأ كجعل الْوُجُود وَالْوَاحد جِنْسا " للْإنْسَان مثلا، وليسا ذاتيين لَهُ؛ إِذْ تفهم حَقِيقَته دونهمَا؛ " وكجعل العرضي الْخَاص بِنَوْع مَا فصلا لَهُ؛ فَلَا ينعكس "؛ كالضاحك بِالْفِعْلِ؛ للْإنْسَان؛ وَمثل: " ترك بعض الْفُصُول؛ فَلَا يطرد "، وَالْحَد لَا بُد فِيهِ من الاطراد، والانعكاس؛ كَمَا عرفت، " وكتعريفه بِنَفسِهِ "، وَأكْثر مَا يكون تَعْرِيف الشَّيْء بِنَفسِهِ، إِذا ذكر بِلَفْظ مرادف؛ " مثل: الْحَرَكَة عرض نقلة، وَالْإِنْسَان حَيَوَان بشر "، فَإِن النقلَة ترادف الْحَرَكَة، والبشر يرادف الْإِنْسَان.
وَالْفرق بَين المثالين أَن الْمَحْدُود فِي الأول عرض، وَفِي الثَّانِي جَوْهَر؛ " وكجعل النَّوْع والجزء جِنْسا "؛ فالنوع " [مثل] الشَّرّ ظلم النَّاس " وَالظُّلم نوع من الشَّرّ؛ إِذْ الشَّرّ وَغَيره ينْحَصر فِيهِ؛ والجزء مثل: " الْعشْرَة خَمْسَة وَخَمْسَة "؛ فَإِن الْخَمْسَة جُزْء الْعشْرَة، وَهِي غير مَحْمُولَة على الْعشْرَة، لَا وَحدهَا، وَلَا بانضمام خَمْسَة أُخْرَى إِلَيْهَا، بل الْمَحْمُول مَجْمُوع الخمستين، وَهَذَا كُله فِي الْحَد مُطلقًا.
" وَيخْتَص " الْحَد " الرسمي " من بَين الْحُدُود " باللازم الظَّاهِر "؛ فَإِذن " لَا " يجوز أَن يرسم الشَّيْء " بخفي مثله، وَلَا أخْفى " مِنْهُ؛ بطرِيق أولى، " وَلَا بِمَا تتَوَقَّف عقليته عَلَيْهِ "، أَي يتَوَقَّف تعقله على تعقله، للُزُوم الدّور؛ فتعريف الشَّيْء بِمَا يُسَاوِيه، " مثل: الزَّوْج عدد يزِيد على الْفَرد بِوَاحِد، وَبِالْعَكْسِ "؛ ك " الْفَرد " عدد يزِيد على الزَّوْج بِوَاحِد " فَإِنَّهُمَا "، أَي: الزَّوْج والفرد

(1/295)


النَّفس أخْفى؛ وَمثل: الشَّمْس كَوْكَب نهاري؛ فَإِن النَّهَار يتَوَقَّف على الشَّمْس - وَالنَّقْص كاستعمال الْأَلْفَاظ الغريبة والمشتركة والمجازية.
وَلَا يحصل الْحَد ببرهان؛ لِأَنَّهُ وسط يسْتَلْزم الحكم على ... ... ... ... ...
هَامِش " متساويان "؛ فِي الْجلاء والخفاء، فَكيف يعرف أَحدهمَا بِالْآخرِ؛ " و " تَعْرِيفه بالأخفى، " مثل: النَّار جسم؛ كالنفس؛ فَإِن النَّفس أخْفى " من النَّار؛ عِنْد الْعقل؛ فَكيف تعرف النَّار بهَا؟ ؛ " و " تَعْرِيفه بِمَا يتَوَقَّف تعقله عَلَيْهِ " مثل: الشَّمْس كَوْكَب نهاري؛ فَإِن " تعقل " النَّهَار يتَوَقَّف على " عقلية " الشَّمْس "؛ لِأَن النَّهَار وَقت طُلُوع الشَّمْس؛ فَهَذِهِ الثَّلَاثَة هِيَ الجلية فِي الرَّسْم خَاصَّة.
" وَالنَّقْص " فِي الْمَادَّة: " كاستعمال الْأَلْفَاظ الغريبة والمشتركة " بِلَا قرينَة، " [والمجازية " بِلَا قرينَة] أَيْضا.
الشَّرْح: " وَلَا يحصل الْحَد ببرهان "، أَي: لَا يُمكن إِقَامَة الْبُرْهَان على ثُبُوت الْحَد للمحدود؛ " لِأَنَّهُ " أَي: الْبُرْهَان " وسط يسْتَلْزم حكما على الْمَحْكُوم عَلَيْهِ "، أَي: الْبُرْهَان عبارَة عَن

(1/296)


الْمَحْكُوم عَلَيْهِ، فَلَو قدر فِي الْحَد، لَكَانَ مستلزما عين الْمَحْكُوم عَلَيْهِ؛ وَلِأَن الدَّلِيل يسْتَلْزم تعقل مَا يسْتَدلّ عَلَيْهِ، فَلَو دلّ عَلَيْهِ، لزم الدّور.
فَإِن قيل: فَمثله فِي التَّصْدِيق؛ قُلْنَا: دَلِيل التَّصْدِيق على حُصُول ثُبُوت النِّسْبَة أَو نَفيهَا، لَا على تعقلها؛ ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
هَامِش وسط يسْتَلْزم حُصُول أَمر فِي الْمَحْكُوم عَلَيْهِ؛ فَإنَّا إِذا قُلْنَا: الْعَالم حَادث؛ لِأَنَّهُ متغير، فالتغير وسط استلزم حكما على الْعَالم، مغايرا لَهُ، وَهُوَ المُرَاد بالبرهان، " فَلَو قدر فِي الْحَد " وسط، " لَكَانَ مستلزما عين الْمَحْكُوم عَلَيْهِ "، أَي: مستلزما لثُبُوت عين الْمَحْدُود لنَفسِهِ؛ فَإِن الْحَد هُوَ الْمَحْدُود.
وَلقَائِل أَن يَقُول: هَذَا إِنَّمَا يتم لَو قيل بترادف الْحَد والمحدود، وسيصحح المُصَنّف خِلَافه.
قَالَ: " وَلِأَن الدَّلِيل يسْتَلْزم تعقل مَا يسْتَدلّ عَلَيْهِ " قبل إِقَامَة الدَّلِيل عَلَيْهِ، " فَلَو دلّ عَلَيْهِ " الْحَد، " لزم الدّور "؛ لِأَنَّهُ بدلالته عَلَيْهِ يكون مُتَأَخِّرًا، وَهُوَ مُتَقَدم؛ ضَرُورَة تقدم تعقله.
الشَّرْح: " فَإِن قيل: فَمثله " جَار " فِي التَّصْدِيق "؛ فَيُقَال: لَا يسْتَدلّ على التَّصْدِيق كَمَا لَا يسْتَدلّ على الْحَد؛ لِأَن الدَّلِيل على التَّصْدِيق يتَوَقَّف على تعقل التَّصْدِيق، فَلَو اسْتُفِيدَ التَّصْدِيق من الدَّلِيل؛ لزم الدّور.
" قُلْنَا ": لَا نسلم مَجِيء الدّور؛ فَإِن " دَلِيل التَّصْدِيق على حُصُول ثُبُوت النِّسْبَة، أَو نَفيهَا "، أَعنِي: الحكم الإيجابي والسلبي، " لَا على تعقلها "، أَي: تعقل النِّسْبَة الإيجابية، أَو السلبية؛

(1/297)


وَمن ثمَّة لم يمْنَع الْحَد، وَلَكِن يُعَارض ... ... ... ... ... ... ... ... ...
هَامِش فَيكون المتوقف على الدَّلِيل الحكم من نفي أَو إِثْبَات، لَا تعقله؛ فَلَا يلْزم الدّور.
" وَمن ثمَّ "، أَي: من جِهَة امْتنَاع قيام الْبُرْهَان على الْحَد، " لم يمْنَع الْحَد ".
وَذهب بعض الْمُتَأَخِّرين إِلَى تسويغ مَنعه؛ تمسكا بِأَن الْحَد دَعْوَى؛ فَجَاز أَن تصادم بِالْمَنْعِ؛ كَغَيْرِهَا من الدَّعَاوَى.
وَلَيْسَ بِشَيْء؛ فَإِن مرجع الْمَنْع طلب الْبُرْهَان، وَقد بَينا أَنه لَا يُمكن، " وَلَكِن يُعَارض ".
قَالَ إِسْمَاعِيل الْبَغْدَادِيّ فِي " جنَّة المناظر ": مثل أَن تَقول: الْغَصْب إِثْبَات الْيَد على مَال

(1/298)


وَيبْطل بخلله.
أما إِذا قيل: الْإِنْسَان حَيَوَان نَاطِق، وَقصد مَدْلُوله لُغَة، أَو شرعا، فدليله النَّقْل؛ بِخِلَاف تَعْرِيف الْمَاهِيّة.