رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب

 (الْحَقِيقَة وَالْمجَاز)

(مَسْأَلَة:)

الْحَقِيقَة: اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي وضع أول؛ وَهِي: لغوية، وعرفية، وشرعية؛ كالأسد، وَالدَّابَّة، وَالصَّلَاة، وَالْمجَاز: الْمُسْتَعْمل فِي غير وضع أول؛ على وَجه يَصح، وَلَا بُد من العلاقة: وَقد تكون بالشكل؛ كالإنسان للصورة، أَو فِي صفة
هَامِش
(" مَسْأَلَة ")

الشَّرْح: " الْحَقِيقَة: اللَّفْظ الْمُسْتَعْمل فِي وضع أول ".
والأولية فِي [كل] لُغَة بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهَا؛ فَهِيَ اللُّغَوِيَّة، أَو الوضعية من أهل اللِّسَان، والشرعية من أهل الشَّرْع، والعرفية من أهل الْعرف، وَخرج بقولنَا: أول - الْمجَاز؛ فَإِنَّهُ فِيمَا وضع ثَانِيًا.
" وَهِي: لغوية، وعرفية، وشرعية؛ كالأسد، وَالدَّابَّة، وَالصَّلَاة.
وَالْمجَاز ": القَوْل " الْمُسْتَعْمل فِي غير وضع أول؛ على وَجه يَصح ".
وَإِنَّمَا قُلْنَا: على وَجه يَصح؛ ليعلم اشْتِرَاط العلاقة فِيهِ.
" وَلَا بُد " فِي التَّجَوُّز " من العلاقة " بَين الْحَقِيقَة وَالْمجَاز؛ وَإِلَّا لتجوز عَن كل معنى

(1/372)


صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة

(1/373)


ظَاهِرَة؛ كالأسد على الشجاع؛ لَا على الأبخر؛ لخفائها؛ أَو لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا؛ كَالْعَبْدِ؛ أَو
هَامِش بِكُل لفظ، ولكان اللَّفْظ مُشْتَركا بَينهمَا.
" وَقد تكون " العلاقة " بالشكل؛ كالإنسان "؛ يُقَال " للصورة " الممثلة بالإنسان الْحَقِيقِيّ المنقوشة على الْجِدَار.
" أَو " لاشْتِرَاكهمَا " فِي صفة ظَاهِرَة " بَينهمَا؛ " كالأسد على الشجاع "؛ لاشْتِرَاكهمَا فِي الشجَاعَة الظَّاهِرَة فِي الْأسد، " لَا " بِإِطْلَاق الْأسد " على " الرجل " الأبخر "؛ إِذْ لَا يجوز، وَإِن كَانَ البخر من صِفَات الْأسد؛ " لخفائها " فِيهِ.
وَلَقَد صرح أَبُو إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ فِي مناظرة جرت بَينه، وَبَين إِمَام الْحَرَمَيْنِ؛ بِأَنَّهُ لَا يُقَال للبليد: بغل، وَإِن قيل لَهُ: حمَار؛ لمثل ذَلِك.
" أَو لِأَنَّهُ كَانَ عَلَيْهَا؛ كَالْعَبْدِ " يُطلق على الْمُعْتق؛ بِاعْتِبَار مَا كَانَ عَلَيْهِ؛ ومنهن قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " أَيّمَا رجل مَاتَ أَو أفلس فَصَاحب الْمَتَاع "، أطلق عَلَيْهِ صَاحب الْمَتَاع؛ بِاعْتِبَار مَا كَانَ.

(1/374)


آيل؛ كَالْخمرِ؛ أَو للمجاورة؛ مثل: جرى الْمِيزَاب.
وَلَا يشْتَرط النَّقْل فِي الْآحَاد؛ على الْأَصَح؛ لنا: لَو كَانَ نقليا، ... ... ... ...
هَامِش
" أَو آيل؛ كَالْخمرِ "؛ يُطلق على الْعصير، وَإِن لم يكن متصفا بِهِ فِي الْحَال؛ بِاعْتِبَار مَا سيئول [إِلَيْهِ] ؛ وَمِنْه قَوْله عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام: " اقْرَءُوا على مَوْتَاكُم يس ".
وَقد لَا يتَحَقَّق أَنه آيل، بل يظنّ؛ وَيُسمى مجَاز الاستعداد.
وَلَا يَكْفِي مُجَرّد التجويز وَالِاحْتِمَال؛ كَمَا صرح بِهِ إِمَام الْحَرَمَيْنِ وَغَيره فِي التأويلات الْبَعِيدَة فِي الْكَلَام على قَوْله - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -: " لَا نِكَاح إِلَّا بولِي ".
" أَو للمجاورة؛ مثل: جرى الْمِيزَاب "؛ وَإِنَّمَا الْجَارِي مَاؤُهُ، وَقد عددنا فِي " شرح الْمِنْهَاج " سِتا وَثَلَاثِينَ علاقَة.
الشَّرْح: " وَلَا يشْتَرط " فِي إِطْلَاق الِاسْم على مُسَمَّاهُ الْمجَازِي - " النَّقْل فِي الْآحَاد " عَن أهل اللُّغَة؛ " على الْأَصَح "؛ بل تَكْفِي العلاقة.

(1/375)


لتوقف أهل الْعَرَبيَّة عَلَيْهِ، وَلَا يتوقفون.
هَامِش
وَاعْلَم أَن جنس العلاقة لَا بُد مِنْهُ بِالْإِجْمَاع، وَقد تقدم فِي قَوْلنَا: وَلَا بُد من العلاقة؛ والتشخص لَا يشْتَرط بِالْإِجْمَاع، فَلَا يَقُول أحد: لَا أطلق الْأسد على هَذَا الشجاع، إِلَّا إِذا أطلقته الْعَرَب عَلَيْهِ بِنَفسِهِ، بل يَكْفِي إِطْلَاقهَا لفظ الْأسد على شُجَاع مَا؛ لشجاعته، ثمَّ نطلقه على كل شُجَاع، سَوَاء أَكَانَ من جنس مَا أطلقته الْعَرَب عَلَيْهِ؛ كالأسد تطلقه الْعَرَب على زيد، فنطلقه نَحن على عَمْرو الشجاعين، أم من غير جنسه؛ كإطلاقنا الْأسد على غير إِنْسَان من الشجعان؛ بِجَامِع إِطْلَاق الْعَرَب لَهُ على الْإِنْسَان الشجاع، وَإِلَّا لم يكن الْآن مجَاز على وَجه الأَرْض؛ إِذْ لَيْسَ الْآن شخص تجوزت فِيهِ الْعَرَب.
وَالنَّوْع مَحل الْخلاف: فَهَل تَكْفِي العلاقة الَّتِي نظر الْعَرَب إِلَيْهَا؛ فَإِذا رأيناهم أطْلقُوا السَّبَب على الْمُسَبّب فِي مَوضِع، أطلقناه أبدا، وأطلقنا من العلاقات مَا يُسَاوِي فِي الْمَعْنى السَّبَب على الْمُسَبّب، أَي نزيد عَلَيْهِ؛ كالمسبب على السَّبَب، أَو لَا نتعدى علاقَة أُخْرَى، وَإِن ساوتها؛ مَا لم تفعل الْعَرَب ذَلِك؟
اخْتَار المُصَنّف الأول؛ فَهَل يجوز مثلا إِطْلَاق لفظ بِاعْتِبَار مَا كَانَ، وَإِن لم تستعمله الْعَرَب؛ لاستعمال مَا هُوَ نَظِيره، أَو دونه؛ كإطلاقهم اللَّفْظ بِاعْتِبَار مَا سَيكون.
وَالْمُخْتَار عِنْد الإِمَام وَأَتْبَاعه الثَّانِي، وَهُوَ معنى قَول الْبَيْضَاوِيّ فِي " منهاجه ": شَرط الْمجَاز العلاقة الْمُعْتَبر نوعها.
فقد تحرر أَن الْخلاف إِنَّمَا هُوَ فِي الْأَنْوَاع، لَا فِي الْجِنْس، وَلَا فِي جزئيات النَّوْع الْوَاحِد.
وَاحْتج المُصَنّف على مَا ارْتَضَاهُ بقوله: " لنا: لَو كَانَ " الْإِطْلَاق فِي الْآحَاد " نقليا، لتوقف

(1/376)


وَاسْتدلَّ: لَو كَانَ نقليا، لما افْتقر إِلَى النّظر فِي العلاقة؛ وَأجِيب بِأَن النّظر للواضع، وَإِن سلم؛ فللاطلاع على الْحِكْمَة.
قَالُوا: لَو لم يكن، لجَاز: " نَخْلَة "؛ لطويل غير إِنْسَان، و " شبكة "؛ للصَّيْد، و " ابْن "؛ للْأَب؛ وَبِالْعَكْسِ؛ وَأجِيب بالمانع ".
قَالُوا: لَو جَازَ، لَكَانَ قِيَاسا أَو اختراعا، وَأجِيب باستقراء أَن ... ... ... ...
هَامِش أهل الْعَرَبيَّة " فِي إِطْلَاقهم؛ " عَلَيْهِ "، لكِنهمْ يستعملون، " وَلَا يتوقفون " على النَّقْل.
وَلَك أَن تَقول: إِنَّمَا لَا يتوقفون على جزئيات النَّوْع الْوَاحِد، وَلَيْسَ مَحل النزاع، أما الْأَنْوَاع، فَلَا نسلم أَنهم لَا يتوقفون.
الشَّرْح: " وَاسْتدلَّ " على عدم اشْتِرَاط النَّقْل؛ بِأَنَّهُ " لَو كَانَ " الْإِطْلَاق " نقليا، لما افْتقر إِلَى النّظر فِي العلاقة " المصححة، وَكَانَ الِاسْتِعْمَال يَكْفِي؛ لَكنا نجتهد فِي اسْتِخْرَاج العلاقة.
" وَأجِيب بِأَن النّظر " إِنَّمَا هُوَ " للواضع "، لَا لنا، " وَإِن سلم " أَنه لنا؛ " فللاطلاع على الْحِكْمَة " فِي الْوَضع، لَا لأجل جَوَاز الْإِطْلَاق.
الشَّرْح: " قَالُوا: لَو لم يكن " الْمجَاز متوقفا على النَّقْل " لجَاز: نَخْلَة؛ لطويل غير إِنْسَان " وَبِالْعَكْسِ؛ للاشتراك فِي الطول الَّذِي هُوَ سَبَب التَّجَوُّز فِي الْإِنْسَان، " وشبكة؛ للصَّيْد "؛ للمجاورة، " وَابْن؛ للْأَب، وَبِالْعَكْسِ "؛ للسَّبَبِيَّة.
" وَأجِيب بالمانع "، أَي: أَن هَذِه الْأَشْيَاء [إِنَّمَا] لم تجز؛ لقِيَام الْمَانِع فِيهَا؛ لخصوصها؛ لَا لعدم الِاكْتِفَاء بالعلاقة.
وَلقَائِل أَن يَقُول: مَا الْمَانِع؟ !
الشَّرْح: " قَالُوا: لَو جَازَ " الْإِطْلَاق بِدُونِ نقل، " لَكَانَ ": إِمَّا " قِيَاسا، أَو اختراعا "؛ لِأَنَّهُ إِثْبَات غير مُصَرح [بِهِ] ؛ وَذَلِكَ إِن كَانَ لجامع بَينه وَبَين مَا صرح بِهِ مُسْتَلْزم للْحكم، فَهُوَ الْقيَاس، وَإِلَّا فالاختراع، واللغة لَا تثبت قِيَاسا؛ كَمَا سَيَأْتِي، إِن شَاءَ الله، وَلَا اختراعا.

(1/377)


العلاقة مصححة؛ كرفع الْفَاعِل؛ وَقَالُوا: يعرف الْمجَاز بِوُجُوه: بِصِحَّة النَّفْي؛ كَقَوْلِك للبليد: لَيْسَ بِحِمَار عكس الْحَقِيقَة؛ لِامْتِنَاع (لَيْسَ بِإِنْسَان) ؛ وَهُوَ دور ".
هَامِش
" وَأجِيب ": لَا نسلم أَنه إِذا لم يكن لجامع، يلْزم الاختراع؛ بل ذَلِك " باستقراء أَن العلاقة مصححة " للإطلاق؛ " كرفع الْفَاعِل "، وَنصب الْمَفْعُول؛ وَذَلِكَ أَمر ثَالِث، وَهُوَ الْوَضع قطعا، وَلَا يجب النَّقْل فِي كل فَرد، بل علم علما كليا بالاستقراء.
(" فرع ")

إِذا رأيناهم أطْلقُوا على الشجاع: الْأسد؛ للشجاعة، فلنا أَن نطلق عَلَيْهِ مرادف الْأسد؛ كالليث قطعا، وَلَيْسَ من مَحل الْخلاف؛ خلافًا لكثير من الشَّارِحين.
" وَقَالُوا "؛ يَعْنِي - وَالله أعلم -[أهل] الْفرْقَة الْمُخَالفَة [لَهُ] القائلة: يشْتَرط النَّقْل فِي الْآحَاد؛ وَكَأن سَائِلًا قَالَ لَهُم: إِذا اشترطتم النَّقْل؛ وَهُوَ عَزِيز، فَمَا الطَّرِيق - إِذا فقد - إِلَى معرفَة كَون اللَّفْظ مجَازًا؟ ، فَقَالُوا: " يعرف الْمجَاز بِوُجُوه: بِصِحَّة النَّفْي "، أَي: فِي نفس الْأَمر، صرح بِهِ فِي (الْمُنْتَهى) ، وَسكت عَنهُ هُنَا؛ لوضوحه، فَإِذا أطلق اللَّفْظ على معنى؛ صَحَّ نَفْيه عَنهُ - علم كَونه مجَازًا؛ " كَقَوْلِك للبليد " بعد إطلاقنا الْحمار عَلَيْهِ: " لَيْسَ بِحِمَار "، ومورد النَّفْي فِي الْحَقِيقَة غير مورد الْإِثْبَات؛ إِذْ مورد الْإِثْبَات الْمجَاز، ومورد النَّفْي الْحَقِيقَة، فقولنا للبليد: حمَار، مَعْنَاهُ: كالحمار، وَلَيْسَ بِحِمَار، أَي: لَيْسَ بِحَقِيقَة الْحمار، وَلَو أردنَا: لَيْسَ بِحِمَار مجَازًا، كَانَ كَاذِبًا؛ لصدق نقيضه.
قَوْله: " عكس الْحَقِيقَة "، أَي: أَن الْحَقِيقَة لَا يَصح نَفيهَا فِي نفس الْأَمر؛ " لِامْتِنَاع " قَوْله: " لَيْسَ بِإِنْسَان " للبليد؛ لما كَانَ إِطْلَاق (إِنْسَان) عَلَيْهِ حَقِيقَة.
[و] لَا يُقَال: قد نفيت الْحَقِيقَة فِي نَحْو قَوْله تَعَالَى: {وَمَا رميت إِذْ رميت، وَلَكِن الله رمى} [سُورَة الْأَنْفَال: الْآيَة 17] ؛ لِأَن ذَلِك النَّفْي لَيْسَ فِي نفس الْأَمر؛ بل بالتأويل؛ وَهَذَا مَا ذكره من ادّعى هَذِه العلاقة.

(1/378)


وَبِأَن يتَبَادَر غَيره؛ لَوْلَا الْقَرِينَة عكس الْحَقِيقَة؛ وَأورد الْمُشْتَرك، فَإِن أُجِيب بِأَنَّهُ يتَبَادَر غير معِين، لزم أَن يكون الْمعِين مجَازًا.
هَامِش
قَالَ المُصَنّف: " وَهُوَ دور "؛ لِأَن إِطْلَاق اللَّفْظ على الْمَعْنى دَلِيل صدقه عَلَيْهِ، وَصِحَّة نَفْيه مَوْقُوفَة على معرفَة كَون الْإِطْلَاق مجَازًا، فَلَو عرف كَون الْإِطْلَاق مجازيا بِصِحَّة النَّفْي، دَار.
وَاعْترض عضد الدّين؛ بِأَن الدّور إِنَّمَا يَصح إِذا أطلق اللَّفْظ لِمَعْنى، وَلم يدر أحقيقة فِيهِ أم مجَاز؟ .
أما إِذا علم مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيّ والمجازي، وَلم يعلم أَيهمَا المُرَاد، فَحِينَئِذٍ يُمكن أَن يعلم بِصِحَّة نفي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ عَن المورد؛ أَن المُرَاد هُوَ الْمَعْنى الْمجَازِي، [أَي] : فَيعلم أَنه مجَاز.
الشَّرْح: " وَبِأَن يتَبَادَر " إِلَى الْفَهم " غَيره؛ لَوْلَا الْقَرِينَة عكس الْحَقِيقَة "؛ فَإِنَّهَا تعرف بألا يتَبَادَر غَيرهَا؛ لَوْلَا الْقَرِينَة.
" وَأورد الْمُشْتَرك "؛ وَيُمكن تَقْرِير إِيرَاده على وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: لَو كَانَ عَلامَة الْحَقِيقَة التبادر، لتبادر الْفَهم فِي الْمُشْتَرك.
وَالثَّانِي: لَو كَانَ عَلامَة الْمجَاز تبادر الْغَيْر، لتبادر؛ إِذْ اسْتعْمل الْمُشْتَرك فِي مَعْنَاهُ الْمجَازِي.
" فَإِن أُجِيب " عَنْهُمَا، " بِأَن يتَبَادَر " وَاحِد من الْحَقِيقَة " غير معِين - لزم أَن يكون الْمعِين " من مَعَانِيه " مجَازًا "؛ لعدم تبادره.
وَلَك أَن تَقول: الْمُدعى فِي الْحَقِيقَة أَلا يتَبَادَر غَيرهَا، لَا أَن يَقع التبادر فِيهَا، والمشترك لَا يتَبَادَر فِيهِ غير الْحَقِيقَة، وَإِنَّمَا الذِّهْن يتَرَدَّد فِي مَعَانِيه، وَالْمُدَّعى فِي الْمجَاز تبادر الْغَيْر، وَهُوَ حَاصِل قَوْلكُم: إِنَّمَا يتَبَادَر الْمُبْهم.

(1/379)


وبعدم اطراده، وَلَا عكس؛ وَأورد: السخي، والفاضل؛ لغير الله، والقارورة؛ للزجاجة؛ فَإِن أُجِيب بالمانع، فدور، وبجمعه على خلاف جمع ... ... ... ...
هَامِش
قُلْنَا: مُسلم قَوْلكُم؛ فَيلْزم كَون الْمعِين مجَازًا - مَمْنُوعًا؛ وَهَذَا لِأَن الْمُتَبَادر حِينَئِذٍ وَاحِد مشخص فِي نفس الْأَمر، وَهَذَا كَاف، وَإِن لم تعرف عينه.
الشَّرْح: " و " يعرف الْمجَاز " بِعَدَمِ اطراده "؛ فَإنَّك تَقول: {واسأل الْقرْيَة} [سُورَة يُوسُف: الْآيَة، 82] ، وَلَا تَقول: واسأل الْبسَاط، وَإِن وجد فِيهِ الْمَعْنى الْمُقْتَضى للتجوز فِي: {واسأل الْقرْيَة} [سُورَة يُوسُف: الْآيَة 82] ؛ وَهَذَا يشْهد لمن يَقُول: الْمجَاز يحْتَاج إِلَى النَّقْل، وَإِلَّا فَلم لَا يطرد، وَالْمعْنَى قَائِم؛ " وَلَا عكس " لهَذِهِ العلامات؛ فَلَا يكون الاطراد دَلِيل الْحَقِيقَة؛ إِذْ قد يُوجد مجَاز مطرد؛ كالأسد للشجاع.
" وَأورد " على هَذِه الْعَلامَة " السخي، والفاضل " موضوعان للجواد والعالم، وَلَا يقالان إِلَّا " لغير الله " تَعَالَى؛ مَعَ أَنه - تَعَالَى - جواد وعالم.
" والقارورة "؛ فَإِنَّهَا مَوْضُوعَة " للزجاجة "؛ لاستقرار الشَّيْء فِيهَا، وَلَا يُقَال لكل مَا يسْتَقرّ فِيهِ الشَّيْء؛ كالكوز - مثلا - قَارُورَة؛ فَهَذِهِ حقائق غير مطردَة.
" فَإِن أُجِيب " عَن عدم اطرادها؛ " بالمانع " الشَّرْعِيّ فِي الْأَوَّلين؛ إِذْ أَسمَاء الله توقيفية،

(1/380)


الْحَقِيقَة؛ كأمور جمع أَمر؛ للْفِعْل، وَيمْتَنع " أوَامِر "، وَلَا عكس، وبالتزام تَقْيِيده؛ مثل: {جنَاح الذل} ونار الْحَرْب.
وبتوقفه على الْمُسَمّى الآخر؛ مثل: {ومكروا ومكر الله} ، وَاللَّفْظ قبل الِاسْتِعْمَال، لَيْسَ بِحَقِيقَة وَلَا مجَاز، وَفِي استلزام الْمجَاز الْحَقِيقَة خلاف؛ ... ... ... ... ...
هَامِش وَلم يرد هَذَانِ، واللغوي فِي الثَّالِث؛ فَإِن اللُّغَة منعت إِطْلَاق القارورة على غير الزجاجة - " فدور "؛ فَإِن عدم اطراده لَا بُد لَهُ من سَبَب، وَهُوَ: إِمَّا الْعلم بِكَوْنِهِ مجَازًا، أَو الشَّرْع، أَو اللُّغَة، والأخيران منتفيان بِالْفَرْضِ؛ فَتعين الأول.
ووضح أَن عدم الاطراد إِنَّمَا يكون دَلِيلا على الْمجَاز، إِذا علم أَنه مجَاز، فَلَو علم أَنه مجَاز؛ بِعَدَمِ الاطراد - كَانَ دورا.
وَلَك أَن تَقول: السخي، لما دَار بَين كَونه للجواد الْمُطلق، أَو للجواد مِمَّن شَأْنه الْبُخْل، ثمَّ وَجَدْنَاهُ لَا يُطلق على الله - تَعَالَى -، مَعَ أَنه ذُو الْجُود الْأَعْظَم - علمنَا أَن السخي لَيْسَ إِلَّا الْجواد الْمُقَيد؛ ويوضح هَذَا أَن أحدا لم يُطلق السخي على الله - تَعَالَى -، وَإِن كَانَ من الذاهبين إِلَى أَن الْأَسْمَاء توقيفية؛ وَكَذَا القَوْل فِي الْأَخيرينِ؛ فَلم يلْزم دور، وَلَا نقض.
" و " يعرف الْمجَاز أَيْضا " بجمعه على خلاف " صِيغَة " جمع الْحَقِيقَة؛ كأمور جمع أَمر؛ للْفِعْل "، " وَيمْتَنع أوَامِر " الَّذِي هُوَ جمع لِلْأَمْرِ؛ بِمَعْنى الْأَمر الَّذِي هُوَ حَقِيقَة فِيهِ؛ بِاتِّفَاق، فَنَقُول: هُوَ فِي الْفِعْل مجَاز؛ لمُخَالفَته فِي الْجمع، " وَلَا عكس "؛ إِذْ الْمجَاز قد لَا يجمع؛ بِخِلَاف جمع الْحَقِيقَة؛ كالأسد.
" و " يعرف أَيْضا " بِالْتِزَام تَقْيِيده "؛ فَلَا يسْتَعْمل فِي ذَلِك الْمَعْنى عِنْد الْإِطْلَاق؛ " مثل: {جنَاح الذل} [سُورَة الْإِسْرَاء: الْآيَة، 24] ونار الْحَرْب "، وَإِنَّمَا قَالَ: بِالْتِزَام تَقْيِيده، وَلم يقل: بتقييده؛ ليحترز من الْمُشْتَرك؛ فَإِنَّهُ قد يُقيد؛ كَمَا يُقَال: الْعين الْجَارِيَة، لَكِن لَا لُزُوما.
الشَّرْح: " وبتوقفه على الْمُسَمّى الآخر؛ مثل: {ومكروا ومكر الله} [سُورَة آل عمرَان: الْآيَة 54] "؛ فَإِن مكر الله مجَاز، وإطلاقه مَسْبُوق بِإِطْلَاق الْمَكْر مِنْهُم.
" وَاللَّفْظ قبل الِاسْتِعْمَال، لَيْسَ بِحَقِيقَة وَلَا مجَاز "؛ إِذْ الِاسْتِعْمَال أحد قيود الْحَقِيقَة وَالْمجَاز؛ كَمَا سلف.

(1/381)


بِخِلَاف الْعَكْس؛ الملزم: لَو لم يسْتَلْزم، لعري الْوَضع عَن الْفَائِدَة؛ النَّافِي: لَو استلزم، لَكَانَ لنَحْو: قَامَت الْحَرْب على سَاق، وشابت لمة اللَّيْل - حَقِيقَة، وَهُوَ مُشْتَرك الْإِلْزَام؛ للُزُوم الْوَضع.
وَالْحق أَن الْمجَاز فِي الْمُفْرد، وَلَا مجَاز فِي التَّرْكِيب، وَقَول عبد القاهر فِي نَحْو: أحياني اكتحالي بطلعتك: (إِن الْمجَاز، فِي الْإِسْنَاد) بعيد، لِاتِّحَاد جِهَته.
هَامِش
" وَفِي استلزام الْمجَاز الْحَقِيقَة خلاف "؛ فَقيل: إِن الْمجَاز يسْتَلْزم سبق الْحَقِيقَة، وَقيل: لَا؛ فقد يُوجد لفظ مجازي لم تسبقه حَقِيقَة، بل وضع فَقَط؛ " بِخِلَاف الْعَكْس "؛ فَإِنَّهُ لَا خلاف فِيهِ، أَي: لَا خلاف أَن الْحَقِيقَة لَا تَسْتَلْزِم الْمجَاز، فقد يُوجد لفظ حَقِيقِيّ لم يتجوز عَنهُ أَلْبَتَّة.
وَاحْتج " الملزم "، أَعنِي: الْقَائِل أَن الْمجَاز يسْتَلْزم الْحَقِيقَة؛ بِأَنَّهُ: " لَو لم يسْتَلْزم، لعري الْوَضع " الأول " عَن الْفَائِدَة "؛ إِذْ فَائِدَة الْوَضع الِاسْتِعْمَال؛ فَحَيْثُ لَا اسْتِعْمَال يكون عَبَثا.
ورد بِجَوَاز كَون الْفَائِدَة الِاسْتِعْمَال فِي الْوَضع الْمجَازِي، أَو تسويغ أصل الِاسْتِعْمَال.
وَاحْتج " النَّافِي " للاستلزام؛ بِأَنَّهُ: " لَو استلزم، لَكَانَ لنَحْو: قَامَت الْحَرْب على سَاق، وشابت لمة اللَّيْل - حَقِيقَة "، أَي: اسْتِعْمَال مَعَ موضوعها الْأَصْلِيّ؛ لكَونهَا مجَازًا.
" وَهُوَ " أَي: هَذَا الِاسْتِدْلَال " مُشْتَرك الْإِلْزَام "؛ إِذْ للملزم أَن يَقُول: مَا ذكرته لَيْسَ بمجاز، وَإِلَّا كَانَ مَوْضُوعا لغير هَذَا الْمَعْنى؛ " للُزُوم الْوَضع " الأول للمجاز؛ وَذَلِكَ لِأَن النَّافِي لاشْتِرَاط الْحَقِيقَة فِي الْمجَاز يشْتَرط أصل الْوَضع، وسبيل الِانْفِصَال عَنْهُمَا وَاحِد.
الشَّرْح: " وَالْحق " فِيهِ " أَن الْمجَاز " فِي هذَيْن المثالين، إِنَّمَا وَقع " فِي الْمُفْرد " من الْقيام والساق، والشيب واللمة، " وَلَا مجَاز فِي التَّرْكِيب "، وَالْكَلَام فيهمَا حَالَة التَّرْكِيب، وَإِذا لم يَكُونَا مجازين، فَلَا يطْلب لَهما حَقِيقَة.
" وَقَول عبد القاهر فِي نَحْو: أحياني اكتحالي بطلعتك: إِن الْمجَاز فِي الْإِسْنَاد "؛ لِأَن إِسْنَاد الْإِحْيَاء إِلَى الاكتحال غير حَقِيقِيّ.
قد يُقَال: إِنَّه يرد علينا مُسَاوَاة: أحياني اكتحالي بطلعتك، للمثالين السَّابِقين؛ وَقد قُلْنَا: إِنَّه لَا مجَاز فِي التَّرْكِيب.
وَلَكِن نقُول: مَا قَالَه عبد القاهر " بعيد "؛ لِأَن الْمجَاز إِنَّمَا يتَحَقَّق باخْتلَاف جهتيه؛ وَذَلِكَ غير مُتَحَقق فِي إِسْنَاد الْإِحْيَاء إِلَى الاكتحال؛ " لِاتِّحَاد جِهَته "؛ كَذَا قَالَ المُصَنّف.

(1/382)


صفحة فارغة
هَامِش
وَالْحق جَوَاز الْمجَاز فِي الْإِسْنَاد، ووقوعه، واستبعاد المُصَنّف لَا يُوجب رفع ذَلِك؛ وقصاراه أَن يثبت بعده، وَلَا يلْزم من الْبعد عدم الْوُقُوع.
ولنذكر هَهُنَا كلمة نافعة فِي هَذَا الْمُخْتَصر، فَنَقُول: المُصَنّف كثير الِاسْتِعْمَال لرد رَأْي خَصمه؛ باستبعاده؛ كَمَا فعل هُنَا؛ وكما قَالَ: (قَوْلهم مَا اتّفق فِيهِ اللغتان؛ كالفرن والتنور - بعيد) ؛ مَعَ رده على من يحكم على أَمر ببعده؛ بِأَنَّهُ استبعاد؛ فَلَا يجديه؛ كَمَا رد قَول الْأُسْتَاذ؛ أَن الْمجَاز يخل بالفهم؛ بِأَنَّهُ استبعاد؛ ولعلك تحسب ذَلِك مِنْهُ تناقضا، وَلَيْسَ دعواك بعد مَا يَدعِيهِ خصمك فِي مَسْأَلَة ناشئا من دَعْوَى خصمك بعد مَا تدعيه فِي أُخْرَى، وَلَا ردك مدعى الْخصم ببعده - أفحم من رده دعواك ببعده.
وَالْجَوَاب: أَن الاستقراء حجَّة؛ لَا سِيمَا فِي اللُّغَات، فَإِذا استقرأ اللّغَوِيّ أمرا، قضى بِهِ، ثمَّ بنى عَلَيْهِ مَا شَاءَ مِمَّا يلائمه، وَغَايَة مَا لَهُ من الاستقراء دَلِيل ظَنِّي، ثمَّ من ادّعى خُرُوج شَيْء عَن استقرائه، كَانَ مُبْعدًا عِنْده، فَإِن حقق دَعْوَاهُ بِدَلِيل أقوى من الاستقراء، كَمَا إِذا أَتَى بِصُورَة وَاقعَة، لم ينْهض الاستقراء حجَّة عَلَيْهِ، وَلم يَصح أَن يرد مدعاه بِمُجَرَّد الْبعد، وَإِن لم تتَحَقَّق دَعْوَاهُ بِدَلِيل أقوى من الاستقراء، ردَّتْ دَعْوَاهُ، وَكَانَ استبعادنا لَهُ حجَّة، وَذَلِكَ كالمجاز يَدعِي منكره أَنه يخل بالفهم، وَأَن مَا يخل بالفهم لَا يَقع من الْعَرَب؛ فَنَقُول: غَايَة مَا ينْتج لَك هَذَا - دَلِيل ظَنِّي على أَن الْمجَاز لَا يَقع؛ وَهُوَ معَارض بأقوى مِنْهُ؛ من دَلِيل مُثبت الْمجَاز؛ فيصار إِلَى استبعاد وُقُوع أَمر على خلاف استقرائك، واستقراؤك قد بَطل بوجدان خِلَافه، فَلم يجد الاستبعاد شَيْئا، وَالْحَالة هَذِه.
وَأما إِذا لم يتَحَقَّق الْخصم دَعْوَاهُ؛ بِمَا يبطل الاستقراء، فَلَا يسمع، وينتهض الْبعد حجَّة عَلَيْهِ؛ لاعتضاده بالاستقراء الَّذِي لَا معَارض لَهُ؛ وَذَلِكَ كَقَوْلِهِم: (مِمَّا اتّفق فِيهِ اللغتان) ؛ فَإِن المُصَنّف استبعده، وَهُوَ استبعاد مُوَافق للدليل الَّذِي أَقَامَهُ من وجود الْمشكاة، والإستبرق، وَنَحْوهمَا، فمنكر الْمجَاز مستبعد لما قَامَ الدَّلِيل عَلَيْهِ؛ فَكَانَ استبعاده مردودا، وَالْمُصَنّف مستبعد لما قَامَ الدَّلِيل على خِلَافه، فَكَانَ استبعاده مَقْبُولًا، وَهَذَا فِي قَوْله: (قَوْلهم مِمَّا اتّفق فِيهِ اللغتان) ؛ وَمَا شاكله، فقس عَلَيْهِ نَظَائِره، فَهِيَ كَثِيرَة فِي هَذَا الْمُخْتَصر.
وَأما دَعْوَاهُ بعد قَول عبد القاهر، فَمثل دَعْوَى الْإِسْنَاد بعد الْمجَاز؛ فَلَا تسمع؛ لِأَنَّهُ

(1/383)


وَلَو قيل: لَو استلزم، لَكَانَ للفظ " الرَّحْمَن " حَقِيقَة، ولنحو: " عَسى " - لَكَانَ قَوِيا.
هَامِش استبعد شَيْئا قَامَ الدَّلِيل على خِلَافه.
فَإِن قلت: وَمَا الدَّلِيل؟
قلت: مَوَاضِع لن يَقع الْمجَاز فِيهَا إِلَّا فِي الْإِسْنَاد فَقَط؛ مثل: {وَإِذا تليت عَلَيْهِم آيَاته، زادتهم إِيمَانًا} [سُورَة الْأَنْفَال: الْآيَة، 2] ، {رب إنَّهُنَّ أضللن كثيرا من النَّاس} [سُورَة إِبْرَاهِيم: الْآيَة، 36] ، {وأخرجت الأَرْض أثقالها} [سُورَة الزلزلة: الْآيَة، 2]
الشَّرْح: قَالَ: " وَلَو قيل: لَو استلزم " الْمجَاز الْحَقِيقَة، " لَكَانَ للفظ: " الرَّحْمَن " حَقِيقَة، ولنحو: عَسى "، وَلَا حَقِيقَة لَهما - " لَكَانَ " اسْتِدْلَالا " قَوِيا ".
وَبَيَانه: أَنه لَا حَقِيقَة لَهما: أما (عَسى) وَنَحْوهَا؛ من حبذا وَغَيرهَا من الْأَفْعَال الجوامد، فَلم تسْتَعْمل لزمان معِين، بل فِي مُجَرّد الْحَدث؛ مَعَ أَن الْأَفْعَال مَوْضُوعَة للْحَدَث وَالزَّمَان، وَلم تسْتَعْمل إِلَّا فِي الْإِنْشَاء؛ مَعَ أَن أَصْلهَا خبر مَاض.
وَأما (الرَّحْمَن) ف (فعلان) ، وَوزن (فعلان) للْمُبَالَغَة الَّتِي هِيَ الْكَثْرَة الْمُقَابلَة للقلة، وصفات الله - تَعَالَى - لَا تقبل ذَلِك؛ بِاعْتِبَار عدم قبُولهَا للتعدد، ثمَّ هُوَ مُشْتَقّ من الرَّحْمَن الَّتِي هِيَ حَقِيقَة الرقة والانعطاف المستحيل على الْبَارِي تَعَالَى.
وَلم يسْتَعْمل (الرَّحْمَن) إِلَّا فِي الله تَعَالَى؛ وَهَذَا بِنَاء على [أَن] أَسمَاء الله - تَعَالَى - صِفَات لَا أَعْلَام، أما إِن جعلناها أعلاما، فالعلم لَا حَقِيقَة لَهُ وَلَا مجَاز.
وَمَا يُقَال: قد قَالَ بَنو حنيفَة (رحمان الْيَمَامَة) ، و (مَا زلت رحمانا) فِي ... ... ... ...

(1/384)


صفحة فارغة
هَامِش مُسَيْلمَة؛ فَجَوَابه عِنْدِي: أَنهم لم يستعملوا (الرَّحْمَن) الْمُعَرّف بِالْألف وَاللَّام، وَإِنَّمَا استعملوه مُعَرفا بِالْإِضَافَة فِي (رحمان الْيَمَامَة) ، ومنكرا فِي (لَا زلت رحمانا) ؛ ودعوانا إِنَّمَا هِيَ فِي الْمُعَرّف بِالْألف وَاللَّام.
وَهَذَا الْجَواب أَشد من جَوَاب الزَّمَخْشَرِيّ فِي (كشافه) ؛ أَن ذَلِك من تعنتهم فِي كفرهم؛ فَإِنَّهُ لَا يعد جَوَابا؛ إِذْ التعنت لَا يدْفع وُقُوع إِطْلَاقهم.
وغايته: أَنه ذكر السَّبَب الْحَامِل لَهُم على الْإِطْلَاق.
وَعند هَذَا أَقُول: مذهبي أَن الْمجَاز يسْتَلْزم اسْتِعْمَال اللَّفْظ الْمُشْتَقّ مِنْهُ؛ بطرِيق الْحَقِيقَة، سَوَاء اسْتعْمل مَعَ ذَلِك بِالْحَقِيقَةِ فِيمَا اسْتعْمل بالمجاز أم لَا.
فَأَقُول مثلا: إِنَّمَا يسْتَعْمل (رَحْمَن) ؛ إِذا اسْتعْملت الْعَرَب الرَّحْمَة؛ كَانَ لنا أَن نتصرف فِيمَا يشتق مِنْهَا؛ من فعلان، وفاعل، ومفعول، وَغير ذَلِك، وَإِن لم تنطق بِهِ الْعَرَب أَلْبَتَّة، وَلَا اشْتِرَاط أَن تكون الْعَرَب اسْتعْملت (رحمان) الَّذِي هُوَ (فعلان) ؛ بِالْحَقِيقَةِ.
وَلقَائِل أَن يَقُول: على المُصَنّف مَا ذكرته أَيْضا مُشْتَرك الْإِلْزَام فِي الْوَضع؛ بِعَين مَا ذكرته آنِفا، وَلَا مخلص لَهُ، إِنَّمَا اخترناه مذهبا.

(1/385)


(دوران اللَّفْظ بَين الِاشْتِرَاك وَالْمجَاز)

(مَسْأَلَة:)

إِذا دَار اللَّفْظ بَين الْمجَاز والاشتراك، فالمجاز أقرب؛ لِأَن الِاشْتِرَاك يخل بالتفاهم، وَيُؤَدِّي إِلَى مستبعد؛ من ضد، أَو نقيض، وَيحْتَاج إِلَى قرينتين؛ وَلِأَن الْمجَاز أغلب، وَيكون أبلغ، وأوجز، وأوفق، ويتوصل بِهِ إِلَى السجع، والمقابلة، والمطابقة، والمجانسة، والروي.
هَامِش
(" مَسْأَلَة ")

الشَّرْح: " إِذا دَار اللَّفْظ بن الْمجَاز والاشتراك، فالمجاز أقرب "؛ عِنْد الْمُحَقِّقين؛ " لِأَن الِاشْتِرَاك يخل بالتفاهم "؛ عِنْد عدم الْقَرِينَة؛ بِخِلَاف الْمجَاز.
وَلَك أَن تَقول: إِنَّمَا يخل بالتفاهم، إِذا قيل بِأَنَّهُ لَا يحمل على معنييه عِنْد الْإِطْلَاق؛ أَو يحمل، وَلَكِن احْتِيَاطًا، أما إِن قيل بِأَنَّهُ يحمل عُمُوما، فَلَا إخلال.
" وَيُؤَدِّي إِلَى مستبعد؛ من ضد، أَو نقيض "، إِلَّا إِذا كَانَ مَوْضُوعا للضدين، أَو النقيضين؛ إِن قُلْنَا بِجَوَاز الْوَضع [للضدين و] للنقيضين - وَهُوَ الْمُخْتَار -؛ خلافًا للْإِمَام الرَّازِيّ؛ فقد يفهم السَّامع ضد مُرَاد الْمُتَكَلّم، أَو نقيضه.
وَلقَائِل أَن يَقُول: وَالْمجَاز بعلاقة المضادة يُؤَدِّي إِلَى ذَلِك أَيْضا، وَلَيْسَ لَهُ أَن يَقُول: حمل كل لفظ على خلاف المُرَاد مِنْهُ يُؤَدِّي إِلَى مستبعد؛ لِأَن خلاف المُرَاد إِذا لم يكن ضد المُرَاد، وَلَا نقيضا - لَا يستبعده الْعقل؛ بِخِلَاف الضِّدّ والنقيض؛ فَإِن الْعقل يستبعدهما، وَالْحَالة هَذِه.
" وَيحْتَاج إِلَى قرينتين "؛ بِحَسب معنييه؛ بِخِلَاف الْمجَاز؛ فَإِنَّهُ يَكْفِي فِيهِ قرينَة الْمجَاز؛ " وَلِأَن الْمجَاز أغلب " من الِاشْتِرَاك " بالاستقراء، وَالْحمل على الْأَغْلَب أولى.
" وَيكون " أَيْضا " أبلغ " من الْمُشْتَرك، فقولك: (زيد أَسد) - أبلغ من: (شُجَاع) ، " وأوجز وأوفق "؛ إِمَّا للطبع؛ بِسَبَب نقل الْحَقِيقَة، أَو عذوبة الحَدِيث، وَإِمَّا للمقام؛ لزِيَادَة بَيَان، أَو غير ذَلِك؛ مِمَّا يَقْتَضِيهِ الْحَال؛ وَلذَلِك يَجعله عُلَمَاء الْبَيَان الأَصْل؛ لِأَن مبْنى علمهمْ على الِاسْتِعَارَة وَالْمُبَالغَة.
" ويتوصل بِهِ إِلَى " أَنْوَاع البديع من " السجع، والمقابلة، والمطابقة، والمجانسة، والروي " وَغير ذَلِك.

(1/386)


وعورض؛ بترجيح الِاشْتِرَاك؛ باطراده؛ فَلَا يضطرب، وبالاشتقاق، فتتسع؛ وبصحة الْمجَاز فيهمَا؛ فتكثر الْفَائِدَة؛ وباستغنائه عَن العلاقة، وَعَن الْحَقِيقَة، وَعَن مُخَالفَة ظَاهر، وَعَن الْغَلَط؛ عِنْد عدم الْقَرِينَة.
هَامِش
الشَّرْح: " وعورض " مَا ذَكرْنَاهُ من أَدِلَّة الْمجَاز؛ " بترجيح الِاشْتِرَاك؛ باطراده؛ فَلَا يضطرب "؛ بِخِلَاف الْمجَاز؛ فَإِنَّهُ لَا يطرد.
" وبالاشتقاق " الْحَاصِل من معنييه؛ " فتتسع " الْفَائِدَة؛ بِخِلَاف الْمجَاز؛ فَإِنَّهُ لَا يشتق مِنْهُ؛ وفَاقا للْقَاضِي، وَالْغَزالِيّ، وإلكيا؛ حَيْثُ منعُوا الِاشْتِقَاق من الْمجَاز؛ وَاسْتَدَلُّوا على أَن (الْأَمر) حَقِيقَة فِي (القَوْل) ؛ بِأَنَّهُ اشتق مِنْهُ بِهَذَا الْمَعْنى فَاعل ومفعول، وَلم يشتق ذَلِك مِنْهُ، إِذا كَانَ بِمَعْنى (الْفِعْل) .
وَلَكِن رد هَذَا الْمَذْهَب؛ بِأَنَّهُ يَئُول إِلَى قصر المجازات كلهَا على المصادر؛ لِأَنَّك إِذا اشتققت من الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، لم يَصح؛ لانْتِفَاء العلاقة.
مِثَاله: (ضَارب) ؛ بِمَعْنى: متسبب فِي الضَّرْب، إِذا اشتققت من الضَّرْب الْحَقِيقِيّ؛ فَإِنَّهُ لَا علاقَة بَينهمَا، والاشتقاق من الْمجَاز مُتَعَذر؛ على هَذَا.
قلت: وَأَنا أجوز أَن هَؤُلَاءِ لَا يطلقون منع الِاشْتِقَاق من الْمجَاز، لَكِن يَقُولُونَ: إِنَّمَا يشتق مِنْهُ بِحَسب الْحَقِيقَة، فَإِذا اشتق مِنْهَا فَاعل فَقَط، لم يشتق من مجازها إِلَّا فَاعل فَقَط، لَا مفعول، وَلَا صفة مشبهة مثلا؛ فَيتَوَقَّف اسْتِعْمَال (ضَارب) بِمَعْنى: متسبب؛ على اسْتِعْمَال (ضَارب) بِالْحَقِيقَةِ، وَلَا يَكْفِي اسْتعْمل (مَضْرُوب) ؛ بِالْحَقِيقَةِ، إِلَّا إِن تجوزنا باسم الْمَفْعُول، وَهَذَا قريب، وَإِنَّمَا منع الِاشْتِقَاق من الْمجَاز رَأْي سَاقِط؛ فليقرر كَلَام المُصَنّف على أَنه لَا يشتق مِنْهُ إِلَّا بِحَسب الْحَقِيقَة.
" وبصحة الْمجَاز فيهمَا "، أَي: فِي معنيي الْمُشْتَرك؛ " فتكثر الْفَائِدَة "؛ بِخِلَاف الْمجَاز؛ " وباستغنائه عَن العلاقة "، " وَعَن " سبق " الْحَقِيقَة، وَعَن مُخَالفَة ظَاهر "، وَالْمجَاز ارْتِكَاب لخلاف الظَّاهِر؛ إِذْ الظَّاهِر الْحَقِيقَة.
" وَعَن الْغَلَط؛ عِنْد عدم الْقَرِينَة "؛ فَإِن السَّامع، إِن وجد قرينَة، علم المُرَاد، وَإِلَّا، توقف

(1/387)


وَمَا ذكر من أَنه أبلغ، فمشترك بَينهمَا، وَالْحق أَنه لَا يُقَابل الْأَغْلَب شَيْء مِمَّا ذكر.
هَامِش عِنْد عدم الْقَرِينَة - إِلَى الْحَقِيقَة، مَعَ جَوَاز إِرَادَة الْمجَاز.
الشَّرْح: " وَمَا ذكر " فِي تَرْجِيح الْمجَاز؛ " من أَنه أبلغ " وأوجز ... إِلَى آخرهَا - " فمشترك بَينهمَا "؛ إِذْ يتَحَقَّق فِي الْمُشْتَرك؛ كَمَا هُوَ فِي الْمجَاز؛ فَلَا يتَرَجَّح بِهِ الْمجَاز.
" وَالْحق أَنه لَا يُقَابل الْأَغْلَب شَيْء مِمَّا ذكر " فِي تَرْجِيح الْمُشْتَرك؛ لِأَن ذَلِك كُله إِنَّمَا يعْتَبر؛ لِأَنَّهُ مَظَنَّة الْغَلَبَة، وَلَا عِبْرَة بالمظنة، مَعَ تحقق أَن الْمجَاز أغلب؛ فَكَانَ الْمجَاز أولى.
ولمضايق فِي الْعبارَة أَن يَقُول: سلمنَا أَنه لَا يُعَارضهُ شَيْء مِمَّا ذكر، لم قُلْتُمْ: إِن مجموعها لَا يُعَارض؟ .
وَقد يُجَاب؛ بِأَن الْمَجْمُوع من جملَة مَا ذكر كل فَرد ذكر لَهُ، يدْخل تَحت قَوْله: (شَيْء مِمَّا ذكر) ؛ وَالْمعْنَى: لَا الْمَجْمُوع، وَلَا كل فَرد، وَلَكِن إِذا لم يُعَارض الْمَجْمُوع، لم يُعَارض بعضه؛ بطرِيق أولى، فَلَو قَالَ: لَا يُعَارض الْأَغْلَب مَا ذكر، كَانَ أخصر وَأولى.
(" فرع ")

مَوْطُوءَة الْأَب بِالزِّنَا، يحل للِابْن نِكَاحهَا، بقوله تَعَالَى: {فانكحوا مَا طَابَ لكم من النِّسَاء} [سُورَة النِّسَاء: الْآيَة، 3] .
فَإِن عورض؛ بقوله تَعَالَى: {وَلَا تنْكِحُوا مَا نكح آباؤكم من النِّسَاء} [سُورَة النِّسَاء: الْآيَة، 22] ، وَحَقِيقَة النِّكَاح الْوَطْء.

(1/388)


صفحة فارغة
هَامِش
قُلْنَا: بل حَقِيقَة العقد، وَإِذا كَانَ حَقِيقَة فِي العقد، لم يكن حَقِيقَة فِي الْوَطْء، وَإِلَّا يلْزم الِاشْتِرَاك؛ وَالْمجَاز خير مِنْهُ.

(1/389)


صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة

(1/390)