رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (الْأَلْفَاظ الشَّرْعِيَّة)
(مَسْأَلَة:)
" الشَّرْعِيَّة وَاقعَة؛ خلافًا للْقَاضِي، وأثبتت
الْمُعْتَزلَة الدِّينِيَّة أَيْضا.
هَامِش
(" مَسْأَلَة ")
الشَّرْح: الْأَلْفَاظ " الشَّرْعِيَّة "؛ وَهِي المستفادة من
جِهَة الشَّرْع، وَضعهَا للمعنى جَائِز؛ قَالَ فِي
(الْمُنْتَهى) : ضَرُورَة.
وَقَالَ الإِمَام فَخر الدّين الرَّازِيّ، والآمدي، والهندي:
إِنَّه لَا خلاف فِي ذَلِك، وَلَيْسَ بجيد، وَنقل على أَبُو
الْحسن؛ أَن بَعضهم منع من إمكانها.
وَالْمُصَنّف هُنَا أهمل ذكر الْجَوَاز؛ لكَونه توهمه مُتَّفقا
عَلَيْهِ؛ كَمَا عَرفته؛ ولشذوذ الْخلاف فِيهِ؛ وَقَالَ: "
وَاقعَة؛ خلافًا للْقَاضِي "؛ حَيْثُ صمم على إنكارها،
وَتَابعه أَبُو نصر الْقشيرِي.
وَالْجُمْهُور على الْوُقُوع؛ وَمِنْهُم الْفُقَهَاء،
والمعتزلة، والخوارج؛ ثمَّ اخْتلفُوا فِي أَنَّهَا هَل هِيَ
حقائق مبتكرة، وَلم يقْصد فِيهَا التفرع عَن اللُّغَوِيَّة، بل
أُرِيد وضع مبتكر أَو مَأْخُوذَة من الْحَقَائِق
اللُّغَوِيَّة؛ إِمَّا بِمَعْنى أَنَّهَا أقرب على مدلولها،
وَزيد فِيهَا، وَإِمَّا بِأَن يكون استعير لَفظهَا للمدلول
الشَّرْعِيّ لعلاقة؟
فَذَهَبت الْمُعْتَزلَة إِلَى الأول، قَالُوا: وَتارَة يُصَادف
ذَلِك الْوَضع علاقَة بَين الْمَعْنى اللّغَوِيّ والشرعي؛
فَيكون اتِّفَاقًا غير مَنْظُور إِلَيْهِ، وَتارَة لَا
يُصَادف.
وَذهب غَيرهم إِلَى الثَّانِي؛ قَالُوا: وَهِي مجازات لغوية،
حقائق شَرْعِيَّة؛ فعلى الأول: لَا يتَكَلَّف فِي إِثْبَات
الْمَعْنى الشَّرْعِيّ إِلَى علاقَة، وَلَا يسْتَدلّ على أَن
اللَّفْظَة غير منقولة بِعَدَمِ العلاقة؛ بِخِلَاف الثَّانِي.
قَوْله: " وأثبتت الْمُعْتَزلَة الدِّينِيَّة أَيْضا ".
(1/391)
صفحة فارغة
هَامِش
اعْلَم أَن المثبتين للأشياء الشَّرْعِيَّة اخْتلفُوا، هَل
وَقع النَّقْل فِي الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة مُطلقًا، سَوَاء
تعلّقت بالأصول الشَّرْعِيَّة؛ كالإيمان، أَو بفروعها؛
كَالصَّلَاةِ، أَو وَقع فِي فروعها؛ كَالصَّلَاةِ وَالزَّكَاة؟
(1/392)
صفحة فارغة
هَامِش
فَذَهَبت الْمُعْتَزلَة؛ إِلَى الأول؛ غير أَنهم أَرَادوا
التَّفْرِقَة بَينهمَا، فخصوا الْأَلْفَاظ الْمُتَعَلّقَة
بِفُرُوع الشَّرِيعَة؛ باسم الشَّرْعِيَّة، والمتعلقة بالأصول؛
بالدينية.
وَفِي كَلَام الرَّازِيّ وَغَيره؛ أَنهم خصوا أَسمَاء
الْأَفْعَال؛ ك (الصَّلَاة) ، و (الزَّكَاة) ؛ بالشرعية،
وَأَسْمَاء الفاعلين؛ كالمؤمن وَالْفَاسِق؛ بالدينية؛ وَهُوَ
يَقْتَضِي أَن كل مَا كَانَ من أَسمَاء الْأَفْعَال، يكون
دَاخِلا عِنْدهم فِي الشَّرْعِيَّة؛ فَيدْخل الْإِيمَان
وَالْكفْر وَالْفِسْق مثلا فِي الشَّرْعِيَّة، وَيخرج عَن
الدِّينِيَّة، وَيَقْتَضِي أَن أَسمَاء الفاعلين كلهَا دينية؛
فَيدْخل الْمُصَلِّي والمزكي تابعين للصَّلَاة وَالزَّكَاة،
فهما شرعيان، وَالْإِيمَان وَالْكفْر أصل لِلْمُؤمنِ
وَالْكَافِر؛ وهما من الدِّينِيَّة.
فَالْحق [أَن] الْمُتَعَلّق بِفُرُوع الدّين شَرْعِي، وبأصوله
ديني؛ وَإِلَّا لزم تَسْمِيَة اللَّفْظ باسم، وَتَسْمِيَة
أَصله الْمُشْتَقّ مِنْهُ؛ بِغَيْر اسْمه.
وَذهب غَيرهم؛ إِلَى أَن النَّقْل إِنَّمَا وَقع فِي فروع
الشَّرِيعَة فَقَط، وَهُوَ رَأْي أبي إِسْحَاق الشِّيرَازِيّ،
وَأكْثر أَصْحَابنَا، وَاخْتَارَهُ المُصَنّف.
ثمَّ من أَصْحَابنَا من اقْتضى كَلَامه أَن مَحل الْخلاف،
إِنَّمَا هُوَ الشَّرْعِيَّة، وَأَن الدِّينِيَّة لم يثبتها
أحد؛ إِلَّا مِمَّن خرق الْإِجْمَاع.
وَهُوَ قَضِيَّة إِيرَاد ابْن السَّمْعَانِيّ، قَالَ: وَصُورَة
الْخلاف فِي الزَّكَاة، وَالصَّلَاة، وَالْحج،
(1/393)
صفحة فارغة
هَامِش وَالْعمْرَة، وَمَا أشبه ذَلِك.
وَنقل الإِمَام مُحَمَّد بن نصر الْمروزِي، فِي [كتاب]
(الصَّلَاة) ؛ عَن أبي عبيد؛ أَنه اسْتدلَّ على أَن الشَّارِع
نقل الْإِيمَان؛ فَإِنَّهُ نقل الصَّلَاة وَالْحج وَنَحْوهمَا
إِلَى معَان أخر.
قَالَ: فَمَا بَال الْإِيمَان؟ وَهَذَا يدل على تَخْصِيص
الْخلاف بِالْإِيمَان، وَهُوَ صَحِيح؛ فَإِن الْخلاف بَيْننَا
وَبَين الْمُعْتَزلَة إِنَّمَا هُوَ فِي الدِّينِيَّة؛
كالإيمان، وَأما الشَّرْعِيَّة، فَنحْن وهم سَوَاء فِي
(1/394)
صفحة فارغة
هَامِش إِثْبَاتهَا، وخلافنا فِيهَا لَيْسَ مَعَهم، بل مَعَ
القَاضِي.
وحصلنا من هَذَا، على أَن من النَّاس: من نفى النَّقْل
مُطلقًا؛ ك (القَاضِي) ، وَمن أثْبته مُطلقًا؛ ك
(الْمُعْتَزلَة) ، وَمن فرق بَين الدِّينِيَّة والشرعية
فَأثْبت الشَّرْعِيَّة؛ وَنفى الدِّينِيَّة، وَهُوَ
الْمُخْتَار، وَلم يقل أحد بعكسه.
وَهنا فَوَائِد:
إِحْدَاهَا: أَن قَوْله: (وَأثبت الْمُعْتَزلَة الدِّينِيَّة
أَيْضا) ، يفهم أَنهم أثبتوا الشَّرْعِيَّة؛ لاقْتِضَاء
(أَيْضا) ذَلِك.
وَقد غلط بعض الشَّارِحين؛ فَزعم أَن الْمُعْتَزلَة لَا يثبتون
الشَّرْعِيَّة؛ وَسبب وهمه أَن المُصَنّف نصب الدَّلِيل من
جهتهم فِي الدِّينِيَّة فَقَط، وَالْمُصَنّف إِنَّمَا فعل
ذَلِك؛ لِأَنَّهُ يوافقهم فِي الشَّرْعِيَّة، دون
الدِّينِيَّة؛ فَإِن سُكُوته عَن اخْتِيَار هَذَا القَوْل،
مَعَ جزمه بِإِثْبَات الشَّرْعِيَّة قرينَة فِي أَنه لَا يرى
إِثْبَات الدِّينِيَّة، وسيصرح بِهِ فِي الِاسْتِدْلَال.
الثَّانِيَة: لَيْسَ فِي كَلَامه نقل عَن القَاضِي فِي
الدِّينِيَّة، ومذهبه إنكارها؛ وَلَعَلَّ المُصَنّف إِنَّمَا
فعل ذَلِك؛ لِأَنَّهُ إِذا أنكر الشَّرْعِيَّة، أنكر
الدِّينِيَّة؛ بطرِيق أولى؛ لِأَن كل من أثبت الدِّينِيَّة،
أثبت الشَّرْعِيَّة، من غير عكس.
الثَّالِثَة: قَوْله: (الشَّرْعِيَّة، والدينية) ، لَا شكّ
أَنَّهُمَا صفتان لموصوف مَحْذُوف، وَلَيْسَ هُوَ
بِالْحَقِيقَةِ؛ كَمَا توهمه الشارحون، بل الْأَسْمَاء
والألفاظ؛ كَمَا شرحناه؛ لقَوْله فِي (الْمُنْتَهى) :
(الْأَسْمَاء الشَّرْعِيَّة) ؛ ليشْمل كَلَامه كلا من
الْحَقَائِق الشَّرْعِيَّة، والمجازات الشَّرْعِيَّة؛
لِأَنَّهُمَا سَوَاء وفَاقا وَخِلَافًا.
الرَّابِعَة: الشَّرْعِيّ، يُطلق فِي اصْطِلَاح الْفَقِيه
والأصولي، على أَنْوَاع:
الأول: مَا لم يستفد اسْمه إِلَّا من الشَّرْع؛ وَهُوَ
المُرَاد هُنَا.
الثَّانِي: الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب فَقَط، وَذكر إِمَام
الْحَرَمَيْنِ فِي (الأساليب) ؛ أَنه الَّذِي يعنيه الْفَقِيه
بالشرعي؛ وَيشْهد لَهُ قَول الْأَصْحَاب: الْجَمَاعَة فِي
النَّفْل الْمُطلق غير مَشْرُوعَة: يعنون: غير مَنْدُوبَة،
وَإِلَّا فَهِيَ مُبَاحَة.
(1/395)
لنا: الْقطع بالاستقراء؛ أَن الصَّلَاة
للركعات، وَالزَّكَاة، وَالصَّوْم، وَالْحج كَذَلِك، وَهِي فِي
اللُّغَة: الدُّعَاء، والنماء، والإمساك مُطلقًا، وَالْقَصْد
مُطلقًا.
هَامِش
وَفِي (الرَّوْضَة) فِي صَلَاة الْجَمَاعَة - من زِيَادَة
النَّوَوِيّ - معنى قَوْلهم: لَا تشرع: لَا تسْتَحب.
الثَّالِث: الْمُبَاح.
الشَّرْح: " لنا: الْقطع " الْحَاصِل " بالاستقراء؛ أَن
الصَّلَاة للركعات، وَالزَّكَاة وَالصِّيَام وَالْحج كَذَلِك
"، أَي: الْأَفْعَال الْمَخْصُوصَة المفهومة من الشَّرْع، "
وَهِي فِي اللُّغَة " لغير ذَلِك؛ فَإِن الصَّلَاة،
وَالزَّكَاة، وَالْحج لُغَة: حَقِيقَة فِي " الدُّعَاء،
والنماء، والإمساك مُطلقًا "، سَوَاء كَانَ إمْسَاك صَوْم أم
غَيره، " وَالْقَصْد مُطلقًا "، سَوَاء كَانَ ل " مَكَّة " لحج
أم غير ذَلِك.
وَإِنَّمَا قَالَ: الزَّكَاة وَالصَّوْم وَالْحج كَذَلِك، وَلم
يقل لنا الْقطع بِأَن الصَّلَاة، وَالزَّكَاة، وَالصَّوْم،
وَالْحج للمعاني الشَّرْعِيَّة؛ لِأَن قطعه إِنَّمَا هُوَ
بِالنِّسْبَةِ إِلَى الصَّلَاة فَقَط.
وَقَوله: " الزَّكَاة ... " إِلَى آخِره - جملَة مستأنفة.
وَقَوله: " وَالزَّكَاة " مَرْفُوع بِالِابْتِدَاءِ.
(1/396)
صفحة فارغة
هَامِش
وَقَوله: " كَذَلِك " أَي: مثل الصَّلَاة فِي النَّفْل، لَا
فِي الْقطع بِهِ، هَذَا تَقْرِير كَلَامه.
وَيشْهد لَهُ كَلَامه فِي (الْمُنْتَهى) ؛ إِذْ قَالَ: لنا:
الْقطع أَن الصَّلَاة للركعات، وَالظَّاهِر أَن الزَّكَاة
وَالصِّيَام وَالْحج كَذَلِك.
فَإِن قلت: لم كَانَ الْقطع مَوْجُودا فِي الصَّلَاة، دون
غَيرهَا؟
قلت: قد يُقَال: الْعَرَب كَانَت تعرف حج الْبَيْت، وَصَوْم
يَوْم إِلَى اللَّيْل.
وَقَالَ دَاوُد الظَّاهِرِيّ: لم يكن لفظ الزَّكَاة مَعْرُوفا
عِنْدهم أَلْبَتَّة، وَنحن نقطع بِأَنَّهُم لم يَكُونُوا
عارفين بِهَذِهِ الصَّلَاة الْمَخْصُوصَة.
وَقَوله: إِن الصَّلَاة: الدُّعَاء - جزم مِنْهُ بذلك.
وَفِي (الْمُنْتَهى) قَالَ: الدُّعَاء أَو الِاتِّبَاع، وَقد
أَشَارَ إِلَيْهِ هُنَا من بعد؛ حَيْثُ يَقُول: ورد بِأَنَّهُ
فِي الصَّلَاة، وَهُوَ غير دَاع وَلَا مُتبع.
وَالْمَشْهُور: أَن الصَّلَاة فِي اللُّغَة: الدُّعَاء
الْخَاص؛ وَهُوَ الدُّعَاء بِخَير.
وَهل هِيَ مُشْتَركَة بَين الدُّعَاء، وَالرَّحْمَة، أَو
حَقِيقَة فِي الدُّعَاء، مجَاز فِي الرَّحْمَة؟ .
ظَاهر مَذْهَب الشَّافِعِي الأول؛ إِذا اسْتدلَّ على إِعْمَال
الْمُشْتَرك فِي معنييه بقوله تَعَالَى: {إِن الله
وَمَلَائِكَته يصلونَ} [سُورَة الْأَحْزَاب: الْآيَة، 56] .
وَذهب الزَّمَخْشَرِيّ إِلَى أَنَّهَا مجَاز فِي الدُّعَاء؛
ذكره عِنْد الْكَلَام على قَوْله تَعَالَى فِي (الْبَقَرَة)
{ويقيمون الصَّلَاة} [سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة، 3] ؛ حَيْثُ
قَالَ: وَقيل للداعي: حصل؛ تَشْبِيها فِي تخشعه بالراكع
والساجد. انْتهى، وَجعل حَقِيقَة الْمُصَلِّي تحرّك الصلوين.
وَلقَائِل أَن يَقُول: قَوْله: " الصَّلَاة للركعات "
يَقْتَضِي أَن كل صَلَاة ذَات رَكْعَات، والركعات صَلَاة
شَرْعِيَّة إِجْمَاعًا، وَكَذَلِكَ الرَّكْعَة الْوَاحِدَة
عندنَا.
وَلَا يُقَال: فَلم تجب رَكْعَتَانِ [على] من نذر أَن
يُصَلِّي؛ فِي أصح الْقَوْلَيْنِ؛ لِأَن
(1/397)
قَوْلهم: (بَاقِيَة، والزيادات شُرُوط) ؛
رد بِأَنَّهُ فِي الصَّلَاة، وَهُوَ غير دَاع وَلَا مُتبع.
هَامِش المأخذ فِي إِيجَاب رَكْعَتَيْنِ لَيْسَ أَن الرَّكْعَة
لَيست صَلَاة، بل إِيجَاب الْآدَمِيّ على نَفسه فرع لإِيجَاب
الله تَعَالَى، وَأَقل مَا أوجب الله - تَعَالَى -
رَكْعَتَانِ، وَيَقْتَضِي أَيْضا أَن مَا لَا رَكْعَة فِيهِ
لَيْسَ بِصَلَاة؛ فَترد عَلَيْهِ صَلَاة الْجِنَازَة؛
وَكَذَلِكَ سجدتا التِّلَاوَة، وَالشُّكْر.
قَالَ الشَّيْخ أَبُو حَامِد: كل مِنْهُمَا بِانْفِرَادِهِ
صَلَاة شَرْعِيَّة.
الشَّرْح: قَالَ: " قَوْلهم "، أَي: فِي الِاعْتِرَاض على
هَذَا الدَّلِيل: لَا نسلم أَن هَذِه الْأَلْفَاظ خَارِجَة عَن
موضوعاتها اللُّغَوِيَّة " بَاقِيَة، والزيادات " المزيدة
عَلَيْهَا " شُرُوط "؛ لصِحَّة وُقُوع الْفِعْل على الْوَجْه
الشَّرْعِيّ - " رد بِأَنَّهُ " قد يكون " فِي الصَّلَاة،
وَهُوَ غير دَاع وَلَا مُتبع "؛ مَعَ أَن الصَّلَاة الدُّعَاء؛
كَمَا تقدم، والاتباع.
وَمِنْه الْمُصَلِّي فِي السباق، وَقد قرر كَونه غير دَاع
بالمصلي حَال التَّلَبُّس بأركان لَا دُعَاء فِيهَا.
وَلَك أَن تَقول: لَا نسلم [أَنه] يُسَمِّي، وَالْحَالة هَذِه،
مُصَليا؛ بِالْحَقِيقَةِ؛ وبالأخرس، فَإِنَّهُ يُسمى مُصَليا،
وَإِن لم [يكن] دَاعيا.
وَلَك منع كَون الْأَخْرَس لَيْسَ بداع؛ إِذْ الدُّعَاء هُوَ
الطّلب الْقَائِم بِالنَّفسِ؛ وَذَلِكَ يُوجد من الْأَخْرَس؛
وَبِأَن الدُّعَاء لَيْسَ ملازما للصَّلَاة.
وَلَك أَن تَقول: الصَّلَاة على النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - عندنَا ركن فِي الصَّلَاة؛ وَذَلِكَ
دُعَاء؛ وَكَذَلِكَ قَوْله: {اهدنا الصِّرَاط الْمُسْتَقيم} ؛
فِي (الْفَاتِحَة) ، وَإِن كَانَ الْمُصَلِّي إِنَّمَا
يَقْرَؤُهُ على أَنه قُرْآن - فليقرر بِمن لَا يُوجب الصَّلَاة
فِي الصَّلَاة، وَلَا الْفَاتِحَة؛ كالحنفي، فَإِن صلَاته قد
تَخْلُو عَن الْأَمريْنِ؛ فتخلو عَن الدُّعَاء، وَقرر كَونه
[قد يكون] غير مُتبع بِالْإِمَامِ وَالْمُنْفَرد، وَلَك أَن
تَقول: المُرَاد بالاتباع: اتِّبَاع الشَّارِع، وَذَلِكَ
حَاصِل لَهما.
فقد لَاحَ لَك بِهَذَا؛ أَن مَا رد بِهِ كَلَام القَاضِي فِيهِ
نظر.
(1/398)
قَوْلهم: مجَاز، إِن أُرِيد اسْتِعْمَال
الشَّارِع لَهَا، فَهُوَ الْمُدعى، وَإِن أُرِيد بِهِ أهل
اللُّغَة، فخلاف الظَّاهِر؛ لأَنهم لم يعرفوها؛ وَلِأَنَّهَا
تفهم بِغَيْر قرينَة، القَاضِي: ... ... ... ...
هَامِش
الشَّرْح: وَأما " قَوْلهم "؛ بأننا سلمنَا اسْتِعْمَال
الشَّارِع لَهما، وَلَكِن ذَلِك لَيْسَ دَلِيلا على
الْحَقِيقَة، وَإِنَّمَا هُوَ " مجَاز "؛ لما بَين الشَّرْعِيّ
واللغوي من العلاقة:
فَجَوَابه من وَجْهَيْن:
أَحدهمَا: أَن نقُول: " إِن أُرِيد " بِكَوْنِهَا مجَازًا "
اسْتِعْمَال الشَّارِع لَهَا "، أَي: أَن الشَّارِع استعملها
فِي هَذِه الْمعَانِي على سَبِيل التَّجَوُّز، " فَهُوَ
الْمُدعى "؛ إِذْ الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة مجَاز لغَوِيّ
أشهر.
" وَإِن أُرِيد " اسْتِعْمَال " أهل اللُّغَة، فخلاف
الظَّاهِر؛ لأَنهم لم يعرفوها "، فَكيف يستعملونها،
وَاسْتِعْمَال اللَّفْظ فِي الْمَعْنى فرع تعقله؟ .
وَالثَّانِي: الْمَنْع فَلَا نسلم أَنَّهَا مجَاز؛ وَإِلَيْهِ
أَشَارَ بقوله: " وَلِأَنَّهَا " لَو كَانَت مجَازًا، لتوقف
فهمها على الْقَرِينَة، لَكِنَّهَا " تفهم بِغَيْر قرينَة "،
وتبادر الْفَهم دَلِيل الْحَقِيقَة.
وَلقَائِل أَن يَقُول على الأول: قَوْلكُم: إِن أُرِيد
اسْتِعْمَال الشَّارِع، فَهُوَ الْمُدعى - مَاذَا تُرِيدُونَ
بِاسْتِعْمَالِهِ؟ إِن أردتم مُجَرّد الِاسْتِعْمَال، فَلَيْسَ
هُوَ الْمُدعى، وَإِن أردتم الِاسْتِعْمَال مَعَ الْوَضع
الشَّرْعِيّ، فَمَمْنُوع؛ وَأَيْضًا فالنبي - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - سيد أهل اللُّغَة، واستعماله
اسْتِعْمَال أهل اللُّغَة، فَفِيمَ الترديد؟
وقولكم: وَإِن كَانَ أُرِيد أهل اللُّغَة، فخلاف الظَّاهِر؛
لأَنهم لم يعرفوها - فِيهِ نظر؛ لأنكم جزمتم بِأَن أهل
اللُّغَة لم يعرفوها؛ واستدللتم بذلك على أَن استعمالهم لَهَا
خلاف الظَّاهِر، وَكَيف يكون الدَّلِيل مَجْزُومًا بِهِ،
والمدلول خلاف الظَّاهِر؛ وَلَا بُد من تَسَاوِي الدَّلِيل
والمدلول فِي الْقطع وَالظَّن.
وعَلى الثَّانِي: لم قُلْتُمْ: إِن تبادر الْفَهم عَلامَة
الْحَقِيقَة، وَقد تبادر الْمجَاز الرَّاجِح.
(1/399)
لَو كَانَت كَذَلِك، لفهمها الْمُكَلف،
وَلَو فهمها، لنقل؛ لأَنا مكلفون مثلهم، والآحاد لَا تفِيد،
وَلَا تَوَاتر؛ وَالْجَوَاب: أَنَّهَا فهمت بالتفهيم بالقرائن؛
كالأطفال.
هَامِش
وَلَا يُقَال تبادره، إِنَّمَا يكون بسبق حَقِيقَة عرفية،
وَهِي منتفية، أَو شَرْعِيَّة، وَهِي الْمُدعى؛ لِأَنَّهُ قد
يتَبَادَر، لَا مَعَ وَاحِد من هذَيْن.
وَاسْتدلَّ " القَاضِي " على نفي الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة؛
بِأَنَّهُ " لَو كَانَت كَذَلِك "، أَي: مَوْضُوعَة
بِالشَّرْعِ، " لفهمها " الشَّارِع " الْمُكَلف " قبل أَن
يُخَاطب بهَا، وَإِلَّا يلْزم الْخطاب بِمَا لَا يفهم، وَهُوَ
تَكْلِيف بِمَا لَا يُطَاق، " وَلَو فهمها " للمكلفين، " لنقل
" إِلَيْنَا؛ " لأننا مكلفون مثلهم "، أَي: مثل الْمُوَحِّدين
فِي زمن النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
وَالنَّقْل: إِمَّا متواتر أَو آحَاد، " والآحاد لَا تفِيد "؛
إِذْ الْمَسْأَلَة علمية.
قَالَ القَاضِي فِي (التَّقْرِيب) : بل لَا يقدر أحد أَن يروي
حرفا فِي ذَلِك عَن الرَّسُول - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّم َ -.
" وَلَا تَوَاتر " اتِّفَاقًا.
" وَالْجَوَاب ": سلمنَا أَنه لَا بُد من التفهم، [وَلَكِن] لم
حصرت التفهم فِي النَّقْل؟ فَنَقُول: " إِنَّهَا فهمت:
بالتفهيم بالقرائن؛ كالأطفال "؛ حَيْثُ يعْرفُونَ مَدْلُول
اللَّفْظ من غير نَص عِنْدهم.
وَهَذَا الْجَواب على تَقْدِير تَسْلِيم الْمُلَازمَة، وَقد
منعهَا أخي الإِمَام أَبُو حَامِد - سلمه الله - فِي قِطْعَة
[وقفت] عَلَيْهَا من كَلَامه على الْحَقِيقَة الشَّرْعِيَّة؛
موجها بِأَنَّهُ قد كلف بِالصَّلَاةِ من لَا يفهم موضوعها
شرعا، فَيُقَال لَهُ: صل؛ وَلَا تُجزئ صَلَاتك إِلَّا إِذا
فعلت كَيْت وَكَيْت.
أما دُخُول تِلْكَ الْأُمُور فِي مُسَمّى الصَّلَاة
بِالْوَضْعِ الشَّرْعِيّ، أَو عَدمه، فَلَيْسَ من التَّكْلِيف.
قَالَ: وَلَا نعلم أحدا قَالَ: إِن من شَرط الصَّلَاة أَن يعرف
الْمُصَلِّي الرُّكْن من [الشَّرْط] .
وَلقَائِل أَن يَقُول: أما أَن ذَلِك لَيْسَ من شَرط
الصَّلَاة، فَلَا ريب فِيهِ، بل وَلَا [تجب] مَعْرفَته على
مَجْمُوع العاملين.
وَأما أصل وجوب مَعْرفَته، فَهُوَ من عُلُوم [الشَّرِيعَة]
الَّتِي يجب حملهَا، وَلَا وَجه لمنع الْمُلَازمَة، مَعَ
ثُبُوت أصل الْوُجُوب.
وَقَول المُصَنّف " بالتفهيم " حَشْو، وَلَو قَالَ: فهمت
بالقرائن فَقَط، حصل غَرَضه، ثمَّ إِن
(1/400)
قَالُوا: لَو كَانَت، لكَانَتْ غير
عَرَبِيَّة؛ لأَنهم لم يضعوها، وَأما الصُّغْرَى؛ فَلِأَنَّهُ
يلْزم أَلا يكون الْقُرْآن عَرَبيا؛ وَأجِيب بِأَنَّهَا
عَرَبِيَّة؛ بِوَضْع الشَّارِع لَهَا مجَازًا، ... ... ...
هَامِش القَاضِي ومتابعيه ذكرُوا دَلِيلا آخر؛ وَهُوَ فِي كتاب
(التَّقْرِيب) مقدم فِي الذّكر على الِاحْتِجَاج السَّابِق.
الشَّرْح: " قَالُوا: لَو كَانَت " حقائق شَرْعِيَّة، "
لكَانَتْ غير عَرَبِيَّة؛ لأَنهم "، أَي: الْعَرَب، " لم
يضعوها " والتالي بَاطِل، فَكَذَا الْمُقدم.
أما الشّرطِيَّة؛ فَلِأَن الْعَرَبِيّ هُوَ اللَّفْظ
الْمَوْضُوع لما خصصته بِهِ الْعَرَب، وَلَيْسَت هَذِه
الْأَلْفَاظ كَذَلِك.
" وَأما الصُّغْرَى "؛ كَذَا بِخَط المُصَنّف، وَفِي بعض
النّسخ (الثَّانِيَة) ، وَالْمرَاد: بطلَان التَّالِي - "
فَإِنَّهُ يلْزم أَلا يكون [الْقُرْآن] عَرَبيا "؛ لاشْتِمَاله
عَلَيْهَا؛ لكنه عَرَبِيّ؛ لقَوْله تَعَالَى: {إِنَّا
أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} [سُورَة يُوسُف: الْآيَة، 2] .
قَالَ القَاضِي: ولإطباق الْأمة على أَنا لم نخاطب إِلَّا
بِاللِّسَانِ الْعَرَبِيّ.
" وَأجِيب " بِمَنْع الشّرطِيَّة؛ فَلَيْسَ من شَرط
الْعَرَبِيّ أَن يَضَعهُ الْعَرَب لذَلِك الْمَعْنى؛ بل
اللَّفْظ الَّذِي تضعه الْعَرَب لِمَعْنى مُنَاسِب للمعنى
الْمَوْضُوع تجوزا، يُسمى عَرَبيا؛ وَهُوَ معنى قَوْله: "
بِأَنَّهَا عَرَبِيَّة؛ بِوَضْع الشَّارِع لَهَا مجَازًا ".
وَالضَّمِير فِي قَوْله: (لَهَا) - عَائِد على الْمعَانِي
الشَّرْعِيَّة؛ وَقواهُ ب (اللَّام) ؛ لِأَن الْمصدر يقوى ب
(اللَّام) ؛ لضعف عمله عَن عمل الْفِعْل.
وَالْحَاصِل: أَن الْمجَاز عَرَبِيّ، والحقائق الشَّرْعِيَّة
مجازات.
فَإِن قلت: إِنَّمَا يكون من اللُّغَة الْمجَاز الَّذِي
تَكَلَّمت بِهِ الْعَرَب.
قلت: تقدم أَنه لَا يشْتَرط النَّقْل فِي الْآحَاد، وَأَن
اسْتِعْمَال الْعَرَب لأصل العلاقة كَاف فِي نِسْبَة الْمجَاز
لَهَا.
وَمن هَذَا يعلم أَن قَوْله: (مجَازًا) يتَعَلَّق بِوَضْع
الشَّارِع، لَا بقوله (بِأَنَّهَا عَرَبِيَّة) ؛ وَلَك منع
الْمُلَازمَة بِوَجْه آخر؛ وَهُوَ أَن الشَّرْعِيَّة
عَرَبِيَّة بِوَضْع أفْصح من نطق بالضاد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -؛ وَهُوَ سيد الْعَرَب العرباء.
(1/401)
أَو {أَنزَلْنَاهُ} ضمير السُّورَة، وَيصِح
إِطْلَاق اسْم الْقُرْآن عَلَيْهَا؛ كَالْمَاءِ وَالْعَسَل؛
بِخِلَاف نَحْو: الْمِائَة، والرغيف، ... ... ... ... ... ...
... ... ... ...
هَامِش
فَإِن قلت: فلتكن لغوية.
قلت: اللّغَوِيّ لم يُلَاحظ فِيهِ الْوَضع الْأَصْلِيّ.
" أَو " يمْنَع بطلَان التَّالِي، ونقول: " {أَنزَلْنَاهُ}
ضمير للسورة "، أَي: الضَّمِير فِي (أَنزَلْنَاهُ) للسورة، لَا
لِلْقُرْآنِ، " وَيصِح إِطْلَاق اسْم الْقُرْآن عَلَيْهَا؛
كَالْمَاءِ، وَالْعَسَل "؛ إِذْ يُطلق كل مِنْهُمَا على
قَلِيله، وَكَثِيره؛ " بِخِلَاف نَحْو: الْمِائَة، والرغيف "؛
إِذْ لَا يُطلق على الْبَعْض.
وَحَاصِله: أَن الْقُرْآن اسْم جنس صَادِق على الْقَلِيل
مِنْهُ، وَالْكثير؛ وَلذَلِك [ف] إِن الْحَالِف؛ لَا يقْرَأ
الْقُرْآن - يَحْنَث بِقِرَاءَة الْبَعْض.
وَلقَائِل أَن يَقُول: لَا نسلم أَن الْقُرْآن اسْم جنس،
وَإِنَّمَا هُوَ علم على الْكتاب الْعَزِيز، وَهَذَا مَا ذكره
الْبَيْضَاوِيّ فِي (مرصاده) ؛ بحثا، وَنَقله أخي الإِمَام
أَبُو حَامِد - رَحمَه الله - عَن أبي عَليّ الْفَارِسِي،
وَهُوَ الَّذِي يَصح عَن الشَّافِعِي، رَضِي الله عَنهُ.
وَقَالَهُ إِسْمَاعِيل بن قسطنطين الَّذِي قَرَأَ عَلَيْهِ
الشَّافِعِي.
وَالْإِمَام الرَّازِيّ قَالَ: إِنَّه اسْم للمجموع،
وَقَوْلهمْ: الْحَالِف لَا يقْرَأ الْقُرْآن يَحْنَث
بِالْبَعْضِ -
(1/402)
وَلَو سلم؛ فَيصح إِطْلَاق الْعَرَبِيّ على
مَا غالبه عَرَبِيّ؛ كشعر فِيهِ فارسية وعربية.
هَامِش مَمْنُوع؛ فقد نَص الشَّافِعِي على أَنه لَا يَحْنَث،
وَهُوَ مَا ذكره الشَّيْخ أَبُو حَامِد، والمحاملي وَلَا
نَعْرِف فِيهِ خلافًا، وَقَضِيَّة هَذَا الحكم أَن يكون علما
أَو اسْما للمجموع.
وَمن عجائب الإِمَام الرَّازِيّ قَوْله: إِن الْقُرْآن اسْم
للمجموع، مَعَ قَوْله: إِنَّه يَحْنَث بِالْبَعْضِ؛ وَذَلِكَ
لَا يلتئم.
وأعجب مِنْهُ استدلاله على أَنه اسْم للمجموع؛ بِالْإِجْمَاع
على أَن الله لم ينزل [إِلَّا] قُرْآنًا وَاحِدًا.
قَالَ: وَلَو كَانَ صَادِقا على كل جُزْء، لما كَانَ وَاحِدًا،
وَهُوَ عَجِيب؛ لِأَن الْمُطلق لَا يدل على وحدة، وَلَا تعدد.
وأعجب مِنْهُ قَول آخَرين: لَو لم يكن اسْما للمجموع، لما حرم
على الْجنب قِرَاءَة الْبَعْض؛ أفخفي عَلَيْهِم أَن ذَلِك
لقَوْله عَلَيْهِ السَّلَام: " لَا تقْرَأ الْحَائِض وَلَا
الْجنب شَيْئا من الْقُرْآن ".
قَالَ: " وَلَو سلم " أَن الضَّمِير فِي {أَنزَلْنَاهُ}
لِلْقُرْآنِ، فَلَا يخرج عَن كَونه عَرَبيا بِوُقُوع هَذِه
الْأَلْفَاظ فِيهِ؛ " فَيصح إِطْلَاق " اسْم " الْعَرَبِيّ على
مَا غالبه عَرَبِيّ؛ كشعر فِيهِ فارسية وعربية "؛ فَإِنَّهُ
(1/403)
صفحة فارغة
هَامِش يصدق على الأول أَنه عَرَبِيّ، وعَلى الثَّانِي فَارسي
مجَازًا.
فَإِن قلت: الْمجَاز خلاف الأَصْل.
قلت: هَذَا لَا يضر؛ لِأَن الْمُسْتَدلّ، إِذا ذكر دَلِيلا،
فَلَا يَسعهُ الذّهاب إِلَى مَا فِيهِ مُخَالفَة الأَصْل؛ من
مجَاز، أَو غَيره، إِلَّا مَعَ ذكر المحوج لذَلِك، مَعَ
الِاسْتِدْلَال عَلَيْهِ فِي ذَلِك الْمحل، أما إِذا ذكر
دَلِيلا سالما عَن الْمعَارض، فعورض بِمَا هُوَ ظَاهر فِي
الْمُعَارضَة، مَعَ احْتِمَال عدمهَا؛ [كالمعارضة بقوله:
{إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبيا} [سُورَة يُوسُف:
الْآيَة، 2] .
فَقَالَ الْمُسْتَدلّ: هَذَا أُرِيد بِهِ خلاف ظَاهره؛ من
مجَاز] أَو غَيره، فدعواه مَمْنُوعَة؛ لِأَن الدَّلِيل
الْمَنْصُوب [أَولا] لَا يُعَارضهُ إِلَّا دَلِيل سَالم عَن
الِاحْتِمَال، فَكَمَا منعنَا الْمُسْتَدلّ من الذّهاب إِلَى
الْمجَاز، منعنَا خَصمه من الِاسْتِدْلَال بِمَا فِيهِ
احْتِمَال الْمجَاز.
وَاعْلَم أَن المُصَنّف أطلق الصِّحَّة فِي قَوْله: وَيصِح
إِطْلَاق اسْم الْقُرْآن عَلَيْهَا، وَأَرَادَ الصِّحَّة
[الْحَقِيقِيَّة، وَهنا أَرَادَ المجازية؛ كَمَا أطلق
الرَّافِعِيّ] الصِّحَّة فِي كَلَامه على قَول (الْوَجِيز) : "
وَالْكثير لَا ينجس إِلَّا إِذا تغير "، وَأَرَادَ الصِّحَّة
الْحَقِيقِيَّة.
وَفِي مَوَاضِع أخر، وَأَرَادَ المجازية.
(" فَائِدَة ")
لَعَلَّك تَقول: الإِمَام الرَّازِيّ وَالْمُصَنّف متوافقان
على مَذْهَب وَاحِد فِي هَذِه الْمَسْأَلَة، وَقد تخالفا فِي
هَذَا الدَّلِيل؛ إِذْ اسْتدلَّ بِهِ الإِمَام على أَن
الْقُرْآن عَرَبِيّ، وَاخْتَارَ ذَلِك، وَجعله المُصَنّف
دَلِيلا للخصم، وَاخْتَارَ اشتماله على مَا لَيْسَ بعربي
تَنْزِيلا - فَنَقُول: لنا هُنَا خصمان: الْمُعْتَزلَة،
وَالْقَاضِي؛ فَحَيْثُ اسْتدلَّ الإِمَام بِكَوْنِهِ عَرَبيا،
فمراده الرَّد على الْمُعْتَزلَة فِي قَوْلهم بِالْوَضْعِ
المبتكر، ونخص مَذْهَب القَاضِي برد آخر، وَيكون الِاحْتِجَاج
بِكَوْنِهِ عَرَبيا - دَلِيلا لنا، وللقاضي عَلَيْهِم.
وَالْمُصَنّف نَصبه شُبْهَة من القَاضِي، وَذكر جوابين:
أَحدهمَا: يدْفع مَا تعلق بِهِ القَاضِي؛ وَهُوَ قَوْله:
(وَأجِيب بِأَنَّهَا عَرَبِيَّة) ، ورشحه بِمَا يمْنَع
(1/404)
الْمُعْتَزلَة: الْإِيمَان التَّصْدِيق،
وَفِي الشَّرْع الْعِبَادَات؛ لِأَنَّهَا الدّين الْمُعْتَبر،
وَالدّين الْإِسْلَام؛ وَالْإِسْلَام الْإِيمَان؛ بِدَلِيل:
{وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام دينا} [سُورَة آل عمرَان: الْآيَة،
85] ؛ فَثَبت أَن الْإِيمَان الْعِبَادَات، وَقَالَ: {فأخرجنا
من كَانَ فِيهَا من
هَامِش الْمُعْتَزلَة من التَّمَسُّك فِيهِ، وَهُوَ قَوْله:
مجَازًا، وَلَوْلَا هَذَا الترشيح، لقالت الْمُعْتَزلَة بذلك
القَوْل.
وَالثَّانِي: يدْفع مَذْهَب القَاضِي، وَيمْنَع اسْتِدْلَال
الإِمَام.
فقد جمع المُصَنّف الْكَلَام من الطَّرفَيْنِ، وتوسط بَين
الطَّرِيقَيْنِ، وَالْحَاصِل أَن الإِمَام يَجْعَل الْآيَة
دَلِيلا لمذهبه على الْمُعْتَزلَة، وَالْقَاضِي يَجْعَلهَا
دَلِيلا لمذهبه علينا، وَالْمُصَنّف يَقُول: لَا تدل لوَاحِد
من المذهبين؛ نبه عَلَيْهِ أخي رَحمَه الله.
الشَّرْح: واستدلت " الْمُعْتَزلَة " على مَا انفردوا بِهِ
عَنَّا من القَوْل بالأسماء الدِّينِيَّة؛ بِأَن " الْإِيمَان
" لُغَة " التَّصْدِيق "، وَهَذَا لَا نزاع فِيهِ.
" وَفِي الشَّرْع: الْعِبَادَات "، فَكَانَ حَقِيقَة
شَرْعِيَّة فِيهَا؛ " لِأَنَّهَا "، أَي: الْعِبَادَات "
الدّين الْمُعْتَبر "؛ لقَوْله تَعَالَى: (وَمَا أمروا إِلَّا
ليعبدوا الله مُخلصين لَهُ الدّين حنفَاء ويقيموا الصَّلَاة
ويؤتوا الزَّكَاة وَذَلِكَ دين الْقيمَة} [سُورَة الْبَيِّنَة:
الْآيَة، 5] ، وَأَشَارَ بذلك إِلَى مَا سبق من الْعِبَادَات،
" فالدين: الْإِسْلَام "؛ لقَوْله تَعَالَى: {إِن الدّين عِنْد
الله الْإِسْلَام} [سُورَة آل عمرَان: الْآيَة، 19] .
" وَالْإِسْلَام: الْإِيمَان "، وَإِلَّا لم يقبل من فَاعله؛ "
بِدَلِيل ": قَوْله تَعَالَى: " {وَمن يبتغ غير الْإِسْلَام
دينا " فَلَنْ يقبل مِنْهُ} [سُورَة آل عمرَان: الْآيَة، 85] ،
وَالْإِيمَان مَقْبُول؛ فَكَانَ هُوَ الْإِسْلَام؛ " فَثَبت
أَن الْإِيمَان الْعِبَادَات ".
هَذَا تَقْرِير شبهتهم، فاعتمده، وَهِي مَبْنِيَّة على مَا
يَدعُوهُ من أَن الْإِيمَان: الْعِبَادَات، وَعِنْدنَا
التَّصْدِيق.
وَهل النُّطْق بِالشَّهَادَتَيْنِ شَرط فِي الِاعْتِدَاد بِهِ،
أَو ركن؟ لِأَصْحَابِنَا فِيهِ تردد.
وَلَك أَن تعترض الشُّبْهَة بِأَن ذَلِك لَا يعود إِلَى جَمِيع
مَا تقدم؛ فَإِن اسْم الْإِشَارَة مُفْرد؛ فَلَا بُد من عوده
إِلَى شَيْء وَاحِد، وَذَلِكَ للبعيد، والبعيد هُنَا هُوَ
الْإِخْلَاص؛ فَإِذن الْآيَة لنا عَلَيْهِم؛ إِذْ مدعانا أَن
الْإِيمَان: الْإِخْلَاص؛ فاعتمد هَذَا الِاعْتِرَاض بِهَذَا
التَّقْرِير.
واعترضت بشيئين آخَرين:
أَحدهمَا: أَن الْقيَاس فِيهَا من الشكل الأول، وَشَرطه كُلية
كبراه، وَهِي فِيهِ مُهْملَة، والمهملة
(1/405)
صفحة فارغة
هَامِش فِي حكم الْجُزْئِيَّة؛ والمعني بِالْمُهْمَلَةِ هُنَا
- مَا هُوَ أَعم من الطبيعية؛ كَقَوْلِنَا: الْإِنْسَان جنس،
وَغَيرهَا؛ ك: الْإِنْسَان فِي خسر.
وَالثَّانِي: أَنه إِنَّمَا أنتج أَن الْعِبَادَات الْإِيمَان؛
لِأَن [الْإِيمَان] الْعِبَادَات الَّذِي هُوَ الْمَطْلُوب؛
وَفرق بَينهمَا؛ لِأَن قَوْلنَا: الْعِبَادَات الْإِيمَان،
ينعكس إِلَى قَوْلنَا: بعض الْإِيمَان عبادات؛ فَلم يثبت بذلك:
الْإِيمَان الْعِبَادَات، بل أَن بعض الْإِيمَان الْعِبَادَات.
وَالْجَوَاب: أَن المنطقيين لم يُرِيدُوا بِكَوْن الْمُهْملَة
فِي قُوَّة الْجُزْئِيَّة - كَونهَا جزئية أبدا؛ كَمَا عرفناك
عِنْد قَول المُصَنّف: (والمحقق فِي الْمُهْملَة [فِي قُوَّة]
الْجُزْئِيَّة) .
وَلَو أَرَادوا ذَلِك، لخالفوا مَا قَرَّرَهُ غَيرهم من
اشتمالها على صِيغَة الْعُمُوم؛ كَقَوْلِك: الْإِنْسَان
حَيَوَان، والقضايا الَّتِي اقتصروا على ذكرهَا لم يدعوا
انْتِفَاء الدّلَالَة فِي غَيرهَا، بل أخذُوا الْمُحَقق
المطرد، وأهملوا غَيره، وأحالوه فِي كل مَادَّة على تصرف
يَلِيق بأَهْله.
والمهملة يتَحَقَّق فِيهَا الْجُزْئِيَّة، ثمَّ قد يدل
قَطْعِيّ على إِرَادَة الْعُمُوم من الْألف وَاللَّام، فَتكون
الْمُهْملَة كُلية قطعا، فَتكون صَالِحَة لكبرى الأول فِي
الْبَرَاهِين القطعية، وَقد يدل عَلَيْهِ دَلِيل ظَنِّي؛ فيصلح
لكبراه فِي الْأَدِلَّة الظنية؛ فاعرف ذَلِك، ينفعك فِي
أَمَاكِن كَثِيرَة، وَيظْهر لَك بِهِ الْجَواب عَن السُّؤَال
الثَّانِي، فَقَوْلهم بانعكاس الْكُلية الْمُوجبَة إِلَى
جزئية، لَيْسَ مَعْنَاهُ أَنَّهَا لَا يُمكن أَن تنعكس كُلية.
وَلَو أَرَادوا ذَلِك، لخالفوا الْقَاعِدَة الْمجمع عَلَيْهَا
فِي علمي النَّحْو وَالْبَيَان؛ من أَن خبر الْمُبْتَدَأ
تَارَة يكون مُسَاوِيا لَهُ، وَتارَة يكون أَعم - ولبطل
الْإِخْبَار بِأحد المترادفين عَن الآخر، وَإِنَّمَا
يُرِيدُونَ أَن الْمُحَقق فِي الانعكاس هُوَ الْجُزْئِيَّة؛
لاحْتِمَال كَون الْخَبَر أَعم؛ ك: الْإِنْسَان حَيَوَان،
فالانعكاس حِينَئِذٍ قَاصِر على الْجُزْئِيَّة، وَقد يكون
الْخَبَر مُسَاوِيا؛ فَيكون الحكم غير قَاصِر على
الْجُزْئِيَّة؛ ك: الْإِنْسَان نَاطِق؛ فَإِنَّهُ ينعكس إِلَى:
بعض النَّاطِق إِنْسَان، وَالْحكم غير قَاصِر عَلَيْهَا، بل
يصدق كُلية؛ لصِحَّة: كل النَّاطِق إِنْسَان.
(1/406)
صفحة فارغة
هَامِش
وَهَذَا مَكَان إِذا حققته، جمعت بَين كَلَام
الْأُصُولِيِّينَ، والمنطقيين، والنحاة، والبيانيين، وَظهر لَك
أَن الْألف وَاللَّام رُبمَا كَانَت سورا للكلية فِي بعض
الْمَوَارِد.
وَحَاصِله: أَن هذَيْن القياسين يرجعان إِلَى قِيَاس
الْمُسَاوَاة؛ كَأَنَّهُ قَالَ: الْعِبَادَات مُسَاوِيَة
للدّين الْمسَاوِي لِلْإِسْلَامِ الْمسَاوِي للْإيمَان؛
فالعبادات مُسَاوِيَة للْإيمَان.
" و " احتجت الْمُعْتَزلَة أَيْضا على أَن الْإِسْلَام هُوَ
الْإِيمَان؛ بِأَنَّهُ - تَعَالَى - اسْتثْنى الْمُسلمين من
الْمُؤمنِينَ: " قَالَ: {فأخرجنا من كَانَ فِيهَا من
الْمُؤمنِينَ} إِلَى آخرهَا [سُورَة الذاريات: الْآيَة، 35] "،
أَعنِي: {فَمَا وجدنَا فِيهَا غير بَيت من الْمُسلمين} [سُورَة
الذاريات: الْآيَة، 36] ، والمستثنى من جنس الْمُسْتَثْنى
مِنْهُ؛ فالإسلام من جنس الْإِيمَان.
وَلَك أَن تَقول: غَايَة مَا تدل عَلَيْهِ الْآيَة - أَن
الْمُسلم مُؤمن، وَلَا يلْزم من ذَلِك كَون الْإِسْلَام
الْإِيمَان؛ لصدق: الضاحك كَاتب، وَكذب: الضحك كِتَابَة.
(1/407)
الْمُؤمنِينَ} [سُورَة الذاريات: الْآيَة،
35] إِلَى آخرهَا؛ وعورض بقوله: {قل لم تؤمنوا، وَلَكِن
قُولُوا أسلمنَا} [سُورَة الحجرات: الْآيَة 14] .
قَالُوا: لَو لم يكن، لَكَانَ قَاطع الطَّرِيق مُؤمنا،
وَلَيْسَ بِمُؤْمِن؛ لِأَنَّهُ مخزى؛ بِدَلِيل: {من تدخل
النَّار، فقد أخزيته} [سُورَة آل عمرَان: الْآيَة، 92] ،
وَالْمُؤمن لَا يخزى؛ بِدَلِيل: {يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي
وَالَّذين آمنُوا [مَعَه] } [سُورَة التَّحْرِيم: الْآيَة، 8]
؛
هَامِش
" وعورض " أصل دَلِيل الْمُعْتَزلَة، وَقيل: الِاسْتِدْلَال
بِالْآيَةِ الْأَخِيرَة.
وَقيل: بل بالآيتين؛ " بقوله " تَعَالَى: " {قل: لم تؤمنوا
وَلَكِن قُولُوا: أسلمنَا} [سُورَة الحجرات: الْآيَة، 17] "؛
سلب عَنْهُم الْإِيمَان، وَأثبت الْإِسْلَام؛ وَذَلِكَ نَص فِي
التغاير؛ وَكَذَلِكَ حَدِيث جِبْرِيل - عَلَيْهِ السَّلَام -
قَوْله: " مَا الْإِيمَان؟ وَمَا الْإِسْلَام؟ " وَفسّر فِيهِ
النَّبِي - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - الْإِيمَان؛
بِخِلَاف مَا فسر بِهِ الْإِسْلَام، وَلنْ يمتري بعد ذَلِك فِي
تغايرهما إِلَّا مباهت.
الشَّرْح: ثمَّ استدلت الْمُعْتَزلَة أَيْضا على أَن
الْإِيمَان هُوَ الْعِبَادَات؛ بِأَن " قَالُوا: لَو لم يكن "
ذَلِك، وَكَانَ عبارَة عَن التَّصْدِيق فَقَط - " لَكَانَ
قَاطع الطَّرِيق مُؤمنا "؛ لِأَنَّهُ مُصدق؛ " وَلَيْسَ
بِمُؤْمِن؛ لِأَنَّهُ مخزى " بِدُخُول النَّار؛ قَالَ الله
تَعَالَى: {إِنَّمَا جَزَاء الَّذين يُحَاربُونَ الله
وَرَسُوله ويسعون فِي الأَرْض فَسَادًا أَن يقتلُوا أَو يصلبوا
أَو تقطع أَيْديهم وأرجلهم من خلاف أَو ينفوا من الأَرْض،
ذَلِك لَهُم خزي فِي الدُّنْيَا، وَلَهُم فِي الْآخِرَة عَذَاب
عَظِيم} [سُورَة الْمَائِدَة: الْآيَة، 33] ؛ وَالْعَذَاب
الْعَظِيم يشْتَمل على دُخُول النَّار، وكل من يدْخل النَّار
فَهُوَ مخزى؛ " بِدَلِيل " قَوْله تَعَالَى: {إِنَّك " من تدخل
النَّار، فقد أخزيته} [سُورَة آل عمرَان: الْآيَة، 192] .
وَالْمُؤمن لَا يخزى؛ بِدَلِيل " قَوْله تَعَالَى: " {يَوْم
لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا مَعَه} [سُورَة
التَّحْرِيم: الْآيَة، 8] ".
فقاطع الطَّرِيق لَيْسَ بِمُؤْمِن؛ مَعَ تَصْدِيقه؛ فَإِذن:
الْإِيمَان: الْعِبَادَات.
وَيُمكن أَن يُقَال أَيْضا: لَو لم يكن، لَكَانَ الزَّانِي
وَالسَّارِق مُؤمنين؛ لكنهما ليسَا بمؤمنين؛ لقَوْله عَلَيْهِ
السَّلَام: " لَا يَزْنِي الزَّانِي حِين يَزْنِي، وَهُوَ
مُؤمن، وَلَا يسرق السَّارِق حِين يسرق، وَهُوَ مُؤمن "؛ مَعَ
أَنَّهُمَا مصدقان، وَهُوَ أخصر؛ وَجَوَابه مَشْهُور.
(1/408)
وَأجِيب: بِأَنَّهُ للصحابة، أَو
مُسْتَأْنف.
(وُقُوع الْمجَاز)
(مَسْأَلَة:)
الْمجَاز وَاقع؛ خلافًا للأستاذ؛ بِدَلِيل الْأسد للشجاع،
وَالْحمار للبليد، وشابت لمة اللَّيْل، ... ... ... ... ...
... ... ... ... ... ...
هَامِش
" وَأجِيب " عَن الْآيَة؛ " بِأَنَّهُ "، أَي: قَوْله
تَعَالَى: {يَوْم لَا يخزي الله النَّبِي وَالَّذين آمنُوا
مَعَه} [سُورَة التَّحْرِيم: الْآيَة، 8] لَيْسَ عَاما فِي كل
الْمُؤمنِينَ؛ لِأَنَّهُ - تَعَالَى - خص المخاطبين فِيهِ
بالمعية؛ فَكَانَ " للصحابة " خَاصَّة.
" أَو " يُقَال: إِنَّه كَلَام " مُسْتَأْنف "، وَيكون
(الَّذين) مُبْتَدأ خَبره: {نورهم يسْعَى بَين أَيْديهم}
[سُورَة التَّحْرِيم: الْآيَة، 8] ، وَلَيْسَ مُرَاده من كَونه
مستأنفا؛ أَنه غير مَعْطُوف؛ بل إِنَّه من عطف الْجمل؛ [فَإِن
الْعَطف مَوْجُود على كل، سَوَاء أَكَانَ مستأنفا أم لم يكن،
وَلَكِن هَل هُوَ من عطف الْجمل؟] أَو الْمُفْردَات؟ فِي هَذَا
النّظر.
(" مَسْأَلَة ")
الشَّرْح: " الْمجَاز وَاقع؛ خلافًا للأستاذ " أبي إِسْحَاق
الإِسْفِرَايِينِيّ، وَأبي عَليّ الْفَارِسِي؛ " بِدَلِيل "
إِطْلَاق " الْأسد للشجاع، وَالْحمار للبليد، وشابت لمة
اللَّيْل "؛ فَإِنَّهَا حقائق فِي غير هَذِه الْأُمُور؛ فَلَا
تكون حقائق فِيهَا.
قَالَ بعض الشَّارِحين: وَإِلَّا يلْزم الِاشْتِرَاك؛ وَهُوَ
خلاف الأَصْل.
وَهَذَا سَاقِط؛ لِأَن الأَصْل فِي الْإِطْلَاق الْحَقِيقَة،
وَلم يثبت غَيرهَا، فيحال عَلَيْهَا؛ لِأَن الْمجَاز إِلَى
الْآن لم يثبت.
(1/409)
الْمُخَالف: يخل بالتفاهم؛ وَهُوَ استبعاد.
هَامِش
قَالَ ابْن المطهر: وَإِلَّا يلْزم الِاشْتِرَاك، وَالْمجَاز
خير مِنْهُ.
وَهُوَ واه أَيْضا؛ لِأَن الْمجَاز إِلَى الْآن لم يثبت؛ فَكيف
يفزع إِلَيْهِ؟
وَقَالَ بَعضهم: وَإِلَّا يلْزم تبادرهما إِلَى الذِّهْن.
وَهَذَا لَا يَتَأَتَّى إِلَّا على القَوْل بِأَن عدم التبادر
عَلامَة الْمجَاز.
وَقَالَ بَعضهم بِصِحَّة النَّفْي فِيهَا.
وَهُوَ أَيْضا يتَوَقَّف على ثُبُوت أَن صِحَة النَّفْي
عَلامَة.
وَقد اعْترض الشِّيرَازِيّ هَذَا؛ بِأَنَّهُ فرع ثُبُوت
الْمجَاز.
وَلَيْسَ بجيد؛ فَإنَّا لم نستدل على كَونه مجَازًا بِصِحَّة
النَّفْي؛ بل على كَونه غير حَقِيقَة، والحقيقة لَا تَنْفِي.
وَاحْتج " الْمُخَالف "؛ بِأَنَّهُ يخل بالتفاهم "؛ لتبادر
الْحَقِيقَة عِنْد الْإِطْلَاق؛ " وَهُوَ استبعاد " لوُجُوده،
وَلَا يلْزم مِنْهُ عدم وجوده.
(" فَائِدَة ")
الْأُسْتَاذ لَا يُنكر اسْتِعْمَال الْأسد للشجاع وَأَمْثَاله؛
بل يشْتَرط فِي ذَلِك الْقَرِينَة، ويسميه حِينَئِذٍ حَقِيقَة،
وانظره كَيفَ علل باختلال الْفَهم، وَمَعَ الْقَرِينَة لَا
اختلال، وَإِيَّاك والاغترار بقول
(1/410)
(مَسْأَلَة:)
وَهُوَ فِي الْقُرْآن؛ خلافًا للظاهرية؛ بِدَلِيل: {لَيْسَ
كمثله شَيْء} [سُورَة الشورى: الْآيَة، 11] ،
هَامِش
بَعضهم: قد يحصل الاختلال مَعَ الْقَرِينَة أَيْضا؛ وَذَلِكَ
عِنْد عدم فهم السَّامع إِيَّاهَا، فَهُوَ سَاقِط؛ إِذْ عدم
الْفَهم حِينَئِذٍ لخلل قَائِم بالسامع؛ وَقَائِل هَذَا يحِيل
أَن الْأُسْتَاذ يُنكر الْمجَاز مَعَ الْقَرِينَة؛ وَلَيْسَ
كَذَلِك؛ وَإِنَّمَا يُنكر تَسْمِيَته مجَازًا؛ كَمَا عرفت،
وَالْخلاف لَفْظِي؛ كَمَا صرح [بِهِ] إِلْكيَا الهراسي.
(" مَسْأَلَة ")
الشَّرْح: " وَهُوَ "، أَي: الْمجَاز - وَاقع " فِي الْقُرْآن
"؛ وَكَذَا الحَدِيث؛ على مَا نَقله جمَاعَة.
" خلافًا للظاهرية " فيهمَا، وَلَيْسوا مطبقين على ذَلِك،
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك مِنْهُم أَبُو بكر بن دَاوُد،
وَطَائِفَة، وَإِلَيْهِ ذهب أَبُو الْعَبَّاس بن الْقَاص،
وَجَمَاعَة من قدماء أَصْحَابنَا.
وَذهب ابْن حزم من الظَّاهِرِيَّة؛ إِلَى أَنه لَا يجوز
اسْتِعْمَال مجَاز إِلَّا إِن ورد فِي كتاب أَو سنة.
وَظَاهر النَّقْل عَمَّن أنكرهُ من الظَّاهِرِيَّة؛ أَنهم
يُنكرُونَ مجَاز الِاسْتِعَارَة، كَمَا صرح بِهِ ابْن دَاوُد
فِي كِتَابه (الْوُصُول) ؛ قَالَ: " بِدَلِيل: {لَيْسَ كمثله
شَيْء} [سُورَة الشورى: الْآيَة، 11] "؛ وَهُوَ مجَاز
زِيَادَة.
(1/411)
{واسأل الْقرْيَة} [سُورَة يُوسُف:
الْآيَة، 82] ، {جدارا يُرِيد أَن ينْقض} [سُورَة الْكَهْف:
الْآيَة، 77] ،
هَامِش
وَلَك أَن تَقول: سبق أَن مجَاز الزِّيَادَة لَيْسَ فِي مَحل
الْخلاف، وَقد قررت الزِّيَادَة بِأَن الْكَاف زَائِدَة،
وَإِلَّا يكون التَّقْدِير: مثل مثله؛ فَإِنَّهَا بِمَعْنى
(مثل) ، فَيكون لَهُ - تَعَالَى - مثل؛ وَهُوَ محَال،
وَالْغَرَض من الْكَلَام نَفْيه أَيْضا.
وَالْحق أَن الْكَاف غير زَائِدَة، لَا سِيمَا، وَشَيخنَا
أَبُو الْحسن الْأَشْعَرِيّ يُنكر أَن يكون فِي الْقُرْآن
زِيَادَة، وَالْكَلَام مَحْمُول على حَقِيقَته من نفي مثل
الْمثل، وَيلْزم [من] نفي مثل الْمثل [نفي الْمثل؛ ضَرُورَة
أَن مثل الْمثل] مثل؛ إِذْ الْمُمَاثلَة لَا تتَحَقَّق إِلَّا
من الْجَانِبَيْنِ، فَمَتَى كَانَ زيد مثلا لعَمْرو، كَانَ
عَمْرو مثلا لَهُ؛ وَقد نفي الْمثل.
فَإِن قلت: إِذا قررتم أَن الْمَنْفِيّ مثل الْمثل، [فالذات من
جملَة مثل الْمثل؛ فَيلْزم كَونهَا منفية؟ !
قلت: المرتضى عندنَا فِي جَوَاب هَذَا: مَا كَانَ أبي - رَضِي
الله تَعَالَى عَنهُ - يقرره؛ قَالَ: هَذَا لَا يُرَاد بِنَاء
قَائِله على ظَاهر الْكَلَام؛ أَن الْمَنْفِيّ مثل الْمثل] ؛
من غير تَأمل لتَمام الْمَعْنى، وَهُوَ أَن الْمَنْفِيّ مثل
الْمثل عَن شَيْء؛ فَإِن سِيَاق الْآيَة؛ اسْم لَيْسَ (مثل) و
(كمثله) الْخَبَر، والمدلول نفي الْخَبَر عَن الِاسْم، والذات
[يَصح] أَن يَنْفِي عَنْهَا أَنَّهَا مثل مثلهَا؛ لِأَنَّهُ
لَا مثل لَهَا، وَالشَّيْء - الَّذِي هُوَ مَوْضُوع - قد نفي
عَنهُ الْمثل - الَّذِي هُوَ مَحْمُول -، وَهُوَ منفي عَنهُ،
لَا منفي؛ فَيكون ثَابتا؛ فَلَا يلْزم نفي الذَّات، وَإِنَّمَا
الْمَنْفِيّ مثل مثلهَا، ولازمه نفي مثلهَا، وَكِلَاهُمَا منفي
عَنْهَا.
قَالَ: " {واسأل الْقرْيَة} [سُورَة يُوسُف: الْآيَة، 82] "؛
على رَأْي من يَقُول: إِنَّه عبر بالقرية عَن أَهلهَا؛ إطلاقا
لاسم الْمحل على الْحَال.
وَلَا يَنْبَغِي لَك أَن تقرره على أَن التَّقْدِير: أهل
الْقرْيَة، وَإِن كَانَ هُوَ الْمَذْكُور فِي (الْمُنْتَهى) ؛
(1/412)
{فاعتدوا عَلَيْهِ} [سُورَة الْبَقَرَة:
الْآيَة، 194] ، {سَيِّئَة مثلهَا} [سُورَة الشورى: الْآيَة،
40] ؛ وَهُوَ كثير.
قَالُوا: الْمجَاز كذب؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِي، فَيصدق؛ قُلْنَا:
إِنَّمَا يكذب، إِذا كَانَا مَعًا للْحَقِيقَة.
هَامِش إِذْ يصير مجَاز حذف، وَابْن دَاوُد لَا يُنكره؛ كَمَا
عرفت.
قَالَ: " { [جدارا] يُرِيد أَن ينْقض} [سُورَة الْكَهْف:
الْآيَة، 77] "، أَي: وَلَا إِرَادَة للجدار. وَقَوله تَعَالَى
{فَمن اعْتدى عَلَيْكُم فاعتدوا عَلَيْهِ} [سُورَة الْبَقَرَة:
الْآيَة، 194] فِي مجَاز الْمُقَابلَة.
{وَجَزَاء سَيِّئَة " سَيِّئَة مثلهَا} [سُورَة الشورى:
الْآيَة، 40] " كَذَلِك؛ " وَهُوَ كثير ".
وَقيل: إِن الْقصاص يُسمى اعتداء حَقِيقَة، يُقَال: عدا
عَلَيْهِ، إِذا أوقع بِهِ الْفِعْل المؤلم، والسيئة مَا تسوء
من نزلت بِهِ.
وعَلى هَذَا لم يسلم للْمُصَنف من الْآيَات إِلَّا (يُرِيد أَن
ينْقض) ؛ وَهُوَ نَص فِي مجَاز الِاسْتِعَارَة الَّذِي فِيهِ
الْخلاف بِلَا ريب؛ وَعَلَيْهَا اعْتمد الْمُحَقِّقُونَ.
قَالَ ابْن الْقشيرِي: وَمن زعم الْجِدَار يُرِيد حَقِيقَة،
فقد عاند.
الشَّرْح: " قَالُوا: الْمجَاز كذب؛ لِأَنَّهُ يَنْتَفِي،
فَيصدق "؛ كَقَوْلِنَا: البليد لَيْسَ بِحِمَار، وَإِذا كَانَ
انتفاؤه صدقا، كَانَ إثْبَاته كذبا، وَالْقُرْآن منزه عَن
الْكَذِب.
" قُلْنَا: إِنَّمَا يكذب " الْمجَاز؛ بِاعْتِبَار الْإِيجَاب،
وَالنَّفْي، " إِذا كَانَا مَعًا للْحَقِيقَة "، أَو للمجاز.
أما [إِذا] نفي الْمَعْنى الْحَقِيقِيّ، وَأثبت الْمجَازِي،
[أَو بِالْعَكْسِ]- فَلَا؛ لعدم التوارد على مَحل وَاحِد.
(1/413)
قَالُوا: يلْزم أَن يكون الْبَارِي - تَعَالَى - متجوزا؛
قُلْنَا: مثله يتَوَقَّف على الْإِذْن. |