رفع الحاجب عن مختصر ابن الحاجب (توقيفية الْأَلْفَاظ)
(مَسْأَلَة)
قَالَ الْأَشْعَرِيّ: علمهَا الله بِالْوَحْي، أَو بِخلق
الْأَصْوَات، أَو بِعلم ضَرُورِيّ، البهشمية: وَضعهَا الْبشر؛
وَاحِد، أَو جمَاعَة؛ وَحصل التَّعْرِيف بِالْإِشَارَةِ
والقرائن كالأطفال، الْأُسْتَاذ: الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ
فِي التَّعْرِيف تَوْقِيف، وَغَيره مُحْتَمل، وَقَالَ
هَامِش
الشَّرْح: " قَالُوا: لَو تَسَاوَت " نِسْبَة الْأَلْفَاظ
إِلَى الْمعَانِي " لم يخْتَص " لفظ بِمَعْنى، وَإِلَّا يلْزم
التَّرْجِيح بِلَا مُرَجّح.
" قُلْنَا: يخْتَص بِإِرَادَة الْوَاضِع الْمُخْتَار "،
وَذَلِكَ كتخصيصه وجود الْعَالم بِوَقْت دون وَقت.
فَإِن قلت: هَذَا ظَاهر على القَوْل بِأَن الْوَاضِع هُوَ
الله، فبماذا يُجيب من يَقُول بالاصطلاح؟
قلت: قيل بِأَن سَببه حُضُور اللَّفْظ عِنْد سبق الْمَعْنى،
وَالأَصَح - وإياه ذكر الشَّيْخ الْأَصْفَهَانِي - أَن
الْجَواب الأول عَام؛ لِأَنَّهُ إِذا كَانَ الْوَاضِع العَبْد،
وأفعاله مخلوقة لله - تَعَالَى -، رَجَعَ الْكل إِلَى
إِرَادَته تَعَالَى.
(" مَسْأَلَة ")
الشَّرْح: " قَالَ " الشَّيْخ " الْأَشْعَرِيّ ": إِن
الْأَلْفَاظ توقيفية؛ " علمهَا الله " - تَعَالَى - ووقف عباده
عَلَيْهَا؛ إِمَّا: " بِالْوَحْي " لبَعض أنبيائه - عَلَيْهِم
السَّلَام -، " أَو بِخلق الْأَصْوَات " فِي بعض الْأَجْسَام،
" أَو بِعلم ضَرُورِيّ " خلقه فِي بَعضهم، حصل لَهُ إِفَادَة
اللَّفْظ للمعنى.
وَقَالَت " البهشمية " - وهم أَبُو هَاشم وَأَتْبَاعه -: "
وَضعهَا الْبشر "؛ إِمَّا: " وَاحِد، أَو جمَاعَة " اصْطَلحُوا
عَلَيْهَا؛ " وَحصل التَّعْرِيف " مِنْهُم لغَيرهم؛ "
بِالْإِشَارَةِ و " ب " الْقَرَائِن؛ كالأطفال " فِي حُصُول
الْمعرفَة لَهُم بذلك.
وَقَالَ " الْأُسْتَاذ: الْقدر الْمُحْتَاج إِلَيْهِ فِي
التَّعْرِيف تَوْقِيف، وَغَيره مُحْتَمل "؛ لِأَن يكون أَيْضا
بالتوقيف من الله، وَلِأَن يكون بالمواضعة من الْبشر.
(1/440)
القَاضِي: الْجَمِيع مُمكن، ثمَّ الظَّاهِر
قَول الْأَشْعَرِيّ.
قَالَ: {وَعلم آدم [الْأَسْمَاء كلهَا] } [سُورَة الْبَقَرَة:
الْآيَة، 31] ؛ قَالُوا: ألهمه، أَو علمه مَا سبق؛ قُلْنَا:
خلاف الظَّاهِر.
هَامِش
وَقيل: عَكسه.
" وَقَالَ القَاضِي " فِي كتاب (التَّقْرِيب) : الصَّحِيح
الْوَقْف؛ إِذْ " الْجَمِيع مُمكن "؛ وَتَبعهُ
الْمُحَقِّقُونَ.
وَاعْلَم أَن الْمَسْأَلَة عِنْد أَئِمَّتنَا قَطْعِيَّة،
فالتوقف عَن الْقطعِي بِوَاحِد من هَذِه الْأَقْوَال؛ كَمَا
ذهب إِلَيْهِ القَاضِي - حق.
" ثمَّ الظَّاهِر " مِنْهَا " قَول الْأَشْعَرِيّ "، فَلَا
تَظنن المتوقف توقف إِلَّا عَن الْقطع فَقَط، ثمَّ الظَّاهِر
من الِاحْتِمَالَات الَّتِي ذكرهَا الْأَشْعَرِيّ احْتِمَال
الْوَحْي؛ دون خلق الْأَصْوَات، وَالْعلم الضَّرُورِيّ،
وسيذكره المُصَنّف؛ حَيْثُ يَقُول: فخلاف الْمُعْتَاد.
الشَّرْح: و " قَالَ " الْأَشْعَرِيّ: قَوْله تَعَالَى: "
{وَعلم آدم الْأَسْمَاء [كلهَا] } " [سُورَة الْبَقَرَة:
الْآيَة، 31] دَلِيل على التَّوْقِيف، وَإِذا ثَبت فِي
الْأَسْمَاء، ثَبت فِي الْأَفْعَال والحروف؛ لعدم الْقَائِل
بِالْفَصْلِ؛ أَو لِأَن المُرَاد بالأسماء العلامات،
وَالْأَفْعَال والحروف أَسمَاء؛ بِهَذَا الِاعْتِبَار.
" قَالُوا ": يحْتَمل أَن يكون المُرَاد من (علم) : " ألهمه "
الِاحْتِيَاج إِلَى هَذِه الْأَلْفَاظ، ووهبه مَا بِهِ
يتَمَكَّن من الْوَضع، " أَو علمه مَا سبق " وَضعه من
اصْطِلَاح من تقدمه.
قَالَ القَاضِي فِي (التَّقْرِيب) : وَيحْتَمل أَيْضا أَن يكون
غير آدم تواضعوا على مثل مَا وَقفه الله عَلَيْهِ، أَو يكون
علمه لُغَة من اللُّغَات مُبتَدأَة لم ينْطق بهَا أحد قبله،
أَو أنطقه، أَو أقدره، أَو غير ذَلِك.
" قُلْنَا ": كل هَذَا " خلاف الظَّاهِر "، فَظَاهر
التَّعْلِيم أَنه أوجد فِيهِ الْعلم بِأَن اسْم هَذَا
الْمَعْنى هَذَا اللَّفْظ؛ وَإِذن: لَا يكون التَّوَقُّف
صَوَابا إِلَّا عَن الْقطع، لَا عَن الظُّهُور؛ وَهَذَا مَا
ذكره ابْن دَقِيق الْعِيد.
وَقَول الإِمَام الرَّازِيّ: (لَيْسَ التَّعْلِيم إِيجَاد
الْعلم، بل فعل صَالح لترتب حُصُول الْعلم عَلَيْهِ) ضَعِيف؛
كَمَا ذكرنَا فِي (شرح الْمِنْهَاج) .
(1/441)
قَالُوا: الْحَقَائِق؛ بِدَلِيل: {ثمَّ
عرضهمْ} [سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة، 31] ؛ قُلْنَا: {أنبئوني
بأسماء هَؤُلَاءِ} [سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة، 31] يبين أَن
التَّعْلِيم لَهَا، وَالضَّمِير للمسميات.
هَامِش
نعم لَك أَن تَقول: هِيَ ظَاهِرَة فِي أَنه علمه، لَكِن لم
قُلْتُمْ: إِن الْوَضع مِنْهُ - تَعَالَى - وَجَاز أَن يكون
الْوَضع من السَّابِقين، ولسنا ندعي أَن قبل آدم الْجِنّ
والبن؛ فَذَلِك لم يثبت عندنَا، بل قَالَ القَاضِي فِي
(التَّقْرِيب) : جَازَ تواضع الْمَلَائِكَة المخلوقة قبله.
قَالَ ابْن الْقشيرِي: وَقد كَانُوا قبله يتخاطبون ويفهمون؛
فالإنصاف أَن احْتِمَال الإلهام خلاف الظَّاهِر، وَاحْتِمَال
تَعْلِيم مَا سبق لَا يُخَالف الظَّاهِر؛ إِذْ لَيْسَ فِيهِ
إِثْبَات مَا يَنْفِيه اللَّفْظ، وَلَا نفي مَا يُثبتهُ.
الشَّرْح: " قَالُوا ": لَعَلَّ الَّذِي علمه آدم "
الْحَقَائِق "؛ مثل: حَقِيقَة الْخَيل كَذَا، وَالْبَقر كَذَا،
وَهِي تصلح لكذا، وَأطلق عَلَيْهَا الْأَسْمَاء؛ " بِدَلِيل "
قَوْله تَعَالَى: " {ثمَّ عرضهمْ} [سُورَة الْبَقَرَة:
الْآيَة، 31] "، وَلَو كَانَ الضَّمِير للأسماء، لقَالَ:
عرضهَا، أَو عرضهن.
" قُلْنَا ": لَيْسَ الْمَقْصُود الْحَقَائِق، بل الْأَلْفَاظ؛
بِدَلِيل قَوْله تَعَالَى: " {أنبئوني بأسماء هَؤُلَاءِ}
[سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة، 31] "؛ فَإِنَّهُ " يبين أَن
التَّعْلِيم " كَانَ " لَهَا " - أَي: الْأَسْمَاء - "
وَالضَّمِير " فِي عرضهمْ " للمسميات "، وَلَا مُنَافَاة
بَينهمَا.
(1/442)
وَاسْتدلَّ بقوله: {وَاخْتِلَاف
أَلْسِنَتكُم} [سُورَة الرّوم: الْآيَة، 22] ؛ وَالْمرَاد
اللُّغَات؛ بِاتِّفَاق.
قُلْنَا: التَّوْقِيف والإقدار؛ فِي كَونه آيَة - سَوَاء.
البهشمية: {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه}
[سُورَة إِبْرَاهِيم: الْآيَة، 4] ؛ دلّ على سبق اللُّغَات،
وَإِلَّا، لزم الدّور؛ قُلْنَا: إِذا كَانَ آدم - عَلَيْهِ
السَّلَام - هُوَ الَّذِي علمهَا، انْدفع الدّور؛ ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ...
هَامِش
الشَّرْح: " وَاسْتدلَّ " على التَّوْقِيف أَيْضا؛ " بقوله "
تَعَالَى: " {وَاخْتِلَاف أَلْسِنَتكُم} [سُورَة الرّوم:
الْآيَة، 22] ، وَالْمرَاد " بالألسنة " اللُّغَات؛ بِاتِّفَاق
"؛ إطلاقا للسبب على الْمُسَبّب؛ دون الْجَارِحَة؛ إِذْ لَيست
هِيَ المُرَاد؛ بالِاتِّفَاقِ.
" قُلْنَا: التَّوْقِيف والإقدار " على وضع اللُّغَات؛ " فِي
كَونه آيَة - سَوَاء "؛ وكما يُطلق اللِّسَان على اللُّغَات
مجَازًا، يُطلق على الْقُدْرَة كَذَلِك، فَلَيْسَ الْحمل على
اللُّغَات بِأولى من الْحمل على الْقُدْرَة.
وَلقَائِل أَن يَقُول: مجَاز الْمُسْتَدلّ أولى؛ لِأَنَّهُ أقل
إضمارا.
نعم للخصم أَن يَقُول: سلمنَا أَن المُرَاد اخْتِلَاف
اللُّغَات؛ وَلَكِن لم قُلْتُمْ: إِن ذَلِك إِنَّمَا يكون آيَة
بالتوقيف، بل هُوَ آيَة، وَإِن كَانَ العَبْد هُوَ الْوَاضِع؛
إِذْ أَفعاله مخلوقة لله تَعَالَى.
الشَّرْح: وَاسْتدلَّ " البهشمية " على الِاصْطِلَاح؛ بقوله
تَعَالَى: " {وَمَا أرسلنَا من رَسُول إِلَّا بِلِسَان قومه}
[سُورَة إِبْرَاهِيم: الْآيَة، 4] "؛ فَإِنَّهُ " دلّ على سبق
اللُّغَات " للرسالة؛ فَكَانَت، اصطلاحية، " وَإِلَّا، لزم
الدّور "؛ لكَونهَا توقيفية عِنْد انْتِفَاء الِاصْطِلَاح؛
فَيلْزم تأخرها عَن الرسَالَة الْمُتَأَخِّرَة عَنْهَا، وَهُوَ
محَال؛ لاستلزامه تقدم كل مِنْهُمَا على الآخر.
" قُلْنَا: إِذا كَانَ آدم - عَلَيْهِ السَّلَام - هُوَ
الَّذِي علمهَا " غَيره بتعليم الله إِيَّاه - " انْدفع الدّور
"؛ لِأَن لآدَم حالتين: حَالَة النُّبُوَّة، وَهِي الأولى،
وفيهَا الْوَحْي الَّذِي من جملَته تَعْلِيم اللُّغَات؛
وَعلمهَا الْخلق [إِذْ ذَاك، ثمَّ بعث بعد أَن علمهَا قومه؛
فَلم يكن مَبْعُوثًا لَهُم إِلَّا بعد علمهمْ اللُّغَات، فَبعث
(1/443)
وَأما جَوَاز أَن يكون التَّوْقِيف بِخلق
الْأَصْوَات أَو بِعلم ضَرُورِيّ - فخلاف الْمُعْتَاد.
الْأُسْتَاذ: إِن لم يكن الْمُحْتَاج إِلَيْهِ توقيفيا، لزم
الدّور؛ لتوقفه على اصْطِلَاح سَابق؛ قُلْنَا: يعرف بالترديد
والقرائن؛ كالأطفال.
هَامِش بلسانهم] ؛ وحاصلها: أَن نبوته مُتَقَدّمَة على
رسَالَته، والتعلم متوسط، وَهَذَا وَجه اندفاع الدّور.
" وَأما " مَا قد يُقَال فِي دَفعه؛ من " جَوَاز أَن يكون
التَّوْقِيف بِخلق الْأَصْوَات، أَو بِعلم ضَرُورِيّ "؛
فِينَا، لَا بالتفهيم بِالْخِطَابِ - فخلاف الْمُعْتَاد " إِذْ
الْمُعْتَاد التفهم بِالْخِطَابِ.
الشَّرْح: وَقَالَ " الْأُسْتَاذ "؛ محتجا لمذهبه: " إِن لم
يكن " الْقدر " الْمُحْتَاج إِلَيْهِ " فِي التَّعْرِيف وَقع "
توقيفيا - لزم الدّور؛ لتوقفه على اصْطِلَاح سَابق " يعرف
بِهِ؛ أَن اللَّفْظ مَوْضُوع للمعنى، فَلَو استفيدت تِلْكَ
الْأَلْفَاظ الَّتِي يُرَاد أَن يعرف بهَا الِاصْطِلَاح من
الْوَاضِع - لزم التَّوْقِيف.
" قُلْنَا ": لَا نسلم توقفه على اصْطِلَاح سَابق، لَو لم يكن
توقيفيا؛ لجَوَاز أَن " يعرف " مَا فِي الضَّمِير " بالترديد
والقرائن؛ كالأطفال ".
وَاعْلَم أَن للمسألة مقامين:
أَحدهمَا: الْجَوَاز؛ فَمن قَائِل: لَا يجوز أَن تكون اللُّغَة
إِلَّا توقيفا.
وَمن قَائِل: لَا يجوز أَن تكون [إِلَّا] اصْطِلَاحا.
وَالثَّانِي: أَن مَا الَّذِي وَقع؛ على تَقْدِير جَوَاز كل من
الْأَمريْنِ.
وَالْقَوْل بتجويز كل من الْأَمريْنِ هُوَ رَأْي
الْمُحَقِّقين، وَلم أر من صرح عَن الْأَشْعَرِيّ بِخِلَافِهِ.
وَالَّذِي أرَاهُ أَن الشَّيْخ إِنَّمَا تكلم فِي الْوُقُوع،
وَأَنه يجوز صُدُور اللُّغَة اصْطِلَاحا، وَلَو منع الْجَوَاز،
لنقله عَنهُ القَاضِي وَغَيره من محققي كَلَامه، وَلم أرهم
نقلوه عَنهُ، بل لم يذكر القَاضِي، وَإِمَام الْحَرَمَيْنِ،
وَابْن الْقشيرِي الشَّيْخ فِي مَسْأَلَة مبدأ اللُّغَات
أَلْبَتَّة.
وَذكر إِمَام الْحَرَمَيْنِ الِاخْتِلَاف فِي الْجَوَاز، ثمَّ
قَالَ: إِن الْوُقُوع لم يثبت، وَتَبعهُ ابْن الْقشيرِي
وَغَيره.
(" فَائِدَة ")
الصَّحِيح عِنْدِي؛ أَنه لَا فَائِدَة لهَذِهِ الْمَسْأَلَة،
وَهُوَ مَا صَححهُ ابْن الْأَنْبَارِي وَغَيره؛ وَلذَلِك
(1/444)
صفحة فارغة
هَامِش قيل: ذكرهَا فِي الْأُصُول فضول.
وَقيل: فائدتها النّظر فِي جَوَاز قلب اللُّغَة؛ فحكي عَن بعض
الْقَائِلين بالتوقيف منع الْقلب مُطلقًا؛ فَلَا يجوز
تَسْمِيَة الْفرس ثوبا، وَالثَّوْب فرسا، وَعَن الْقَائِلين
بالاصطلاح تجويزه.
وَأما المتوقفون، قَالَ الْمَازرِيّ: فاختلفت إِشَارَة
الْمُتَأَخِّرين؛ فَذهب الْأَزْدِيّ إِلَى التجويز؛ كمذهب
قَائِل الِاصْطِلَاح.
وَأَشَارَ أَبُو الْقَاسِم عبد الْجَلِيل الصَّابُونِي؛ إِلَى
الْمَنْع، وَجوز كَون التَّوْقِيف واردا على أَنه وَجب أَلا
يَقع النُّطْق إِلَّا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظ.
قلت: وعَلى الْخلاف بنى بَعضهم مَسْأَلَة: إِذا عقد صَدَاقا
فِي السِّرّ، وصداقا فِي الْعَلَانِيَة، ويلتحق بِهِ مَا إِذا
اسْتعْمل لفظ شركَة الْمُفَاوضَة، وَأَرَادَ شركَة الْعَنَان،
وَقد نَص الشَّافِعِي
(1/445)
الرَّابِع: طَرِيق مَعْرفَتهَا:
التَّوَاتُر فِيمَا لَا يقبل التشكيك؛ كالأرض وَالسَّمَاء،
وَالْحر وَالْبرد؛ والآحاد فِي غَيره.
هَامِش فِيهَا على الْجَوَاز.
وَالْحق عِنْدِي - وَإِلَيْهِ يُشِير كَلَام الْمَازرِيّ -:
أَنه لَا تعلق لهَذَا بِالْأَصْلِ السَّابِق؛ فَإِن
التَّوْقِيف؛ لَو تمّ، لَيْسَ فِيهِ حجر علينا؛ حَتَّى لَا
ننطق بسواه، فَإِن فرض حجر، فَهُوَ أَمر خارجي، وَالْفرع حكمه
حكم الْأَشْيَاء قبل وُرُود الشَّرَائِع؛ فَإنَّا لَا نَعْرِف
فِي الشَّرْع مَا يدل عَلَيْهِ.
وَمَا ذكره الصَّابُونِي من الِاحْتِمَال مَدْفُوع.
قَالَ الْمَازرِيّ: وَقد علم أَن الْفُقَهَاء الْمُحَقِّقين
لَا يحرمُونَ الشَّيْء بِمُجَرَّد احْتِمَال وُرُود الشَّرْع
بِتَحْرِيمِهِ، وَإِنَّمَا يحرمونه عِنْد انتهاض دَلِيل
تَحْرِيمه.
قَالَ: وَإِن اسْتندَ فِي التَّحْرِيم إِلَى الِاحْتِيَاط،
فَهُوَ نظر فِي الْمَسْأَلَة من جِهَة أُخْرَى.
وَهَذَا كُله فِيمَا لَا يُؤَدِّي قلبه إِلَى فَسَاد النظام،
وتغييره إِلَى اخْتِلَاط الْأَحْكَام، فَإِن أدّى إِلَى ذَلِك،
قَالَ الْمَازرِيّ: فَلَا يخْتَلف فِي تَحْرِيم قلبه، لَا لأجل
نَفسه؛ بل لأجل مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ.
الشَّرْح: " طَرِيق مَعْرفَتهَا " - أَي. معرفَة اللُّغَة - "
التَّوَاتُر فِيمَا لَا يقبل التشكيك؛ كالأرض وَالسَّمَاء،
وَالْحر وَالْبرد "؛ فتعرف بِهِ، " و " ب " الْآحَاد فِي غَيره
"؛ وَهُوَ مَا يقبل التشكيك.
(1/446)
(مبَاحث الْأَحْكَام)
الْأَحْكَام: لَا يحكم الْعقل بِأَن الْفِعْل حسن أَو قَبِيح؛
فِي حكم الله تَعَالَى، وَيُطلق لثَلَاثَة أُمُور إضافية:
لموافقة الْغَرَض ومخالفته، وَلما أمرنَا بالثناء عَلَيْهِ ...
... ... ...
هَامِش
الشَّرْح: " الْأَحْكَام ": تستدعى حَاكما، ومحكوما بِهِ،
وَعَلِيهِ؛ فليقع الِافْتِتَاح بِالنّظرِ فِي الحكم:
قَالَ أَئِمَّتنَا: " لَا يحكم الْعقل؛ بِأَن الْفِعْل حسن أَو
قَبِيح؛ فِي حكم الله تَعَالَى ".
وَقَوله: (فِي حكم الله) قيد يخرج بِهِ حكم الْعقل؛ بِأَن
هَذَا حسن، أَو قَبِيح؛ بِمَعْنى ملاءمة الطَّبْع ومنافرته،
وجمال الصُّورَة وقبحها، وَصفَة الْكَمَال وَالنَّقْص؛ فَإِن
ذَلِك عَقْلِي؛ بِلَا خلاف.
وَإِضَافَة الحكم إِلَى الله قيد يظْهر فِي بادئ الرَّأْي؛
أَنه غير مُحْتَاج إِلَيْهِ.
وَعِنْدِي أَن ذكره تبعا لإِمَام الْحَرَمَيْنِ؛ حَيْثُ قَالَ:
لسنا ننكر أَن الْعُقُول تقضي من أَرْبَابهَا باجتناب المهالك،
وابتدار الْمَنَافِع الممكنة؛ على تفاضل فِيهَا، وَجحد هَذَا
خُرُوج عَن الْمَعْقُول، وَلَكِن الْكَلَام فِيهِ يحسن ويقبح
فِي حكم الله تَعَالَى. انْتهى.
والسر فِيهِ عِنْدِي أَن الْخصم لَا يُنكر أَن الله - تَعَالَى
- حَاكم، وَلكنه يَقُول: الْعقل يحكم، وَالشَّرْع يعضده، وَلَا
يخرج عَن قَضيته؛ فَهُوَ حَاكم بِهَذَا الِاعْتِبَار.
" وَيُطلق " الْحسن والقبح " لثَلَاثَة أُمُور إضافية: لموافقة
الْغَرَض ومخالفته "؛
(1/447)
صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة
(1/448)
صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة
(1/449)
صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة
(1/450)
صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة
(1/451)
والذم، وَلما لَا حرج فِيهِ وَمُقَابِله؛
وَفعل الله - تَعَالَى - حسن بالاعتبارين الْأَخيرينِ،
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة والكرامية والبراهمة: الْأَفْعَال
حَسَنَة وقبيحة لذاتها ... ... ... ... ...
هَامِش نقُول: هَذَا حسن؛ لموافقته الْغَرَض، وَهَذَا قَبِيح؛
لمُخَالفَته؛ فَلَيْسَ ذاتيا؛ لتبدله بتبدل الْأَغْرَاض - "
وَلما أمرنَا بالثناء عَلَيْهِ والذم "، فالحسن بِهَذَا
التَّفْسِير يتَنَاوَل الْوَاجِب وَالْمَنْدُوب، دون
الْمُبَاح، والقبيح يتَنَاوَل الْحَرَام دون الْمَكْرُوه
والمباح.
" وَلما لَا حرج فِيهِ وَمُقَابِله "، فالحسن على هَذَا أَعم
من الثَّانِي؛ لتناول الْمُبَاح أَيْضا.
" وَفعل الله - تَعَالَى - حسن [بالاعتبارين] الْأَخيرينِ "؛
إِذْ أمرنَا بالثناء عَلَيْهِ، وَلَا حرج فِيهِ، وَقَضِيَّة
الثَّالِث - أَن الْمَكْرُوه حسن، إِذْ لَا حرج فِي فعله.
وَالصَّحِيح - وَبِه صرح إِمَام الْحَرَمَيْنِ فِي (الشَّامِل)
: أَنه خَارج عَن وصف الْحسن والقبح جَمِيعًا.
" وَقَالَت الْمُعْتَزلَة والكرامية والبراهمة: الْأَفْعَال
حَسَنَة وقبيحة لذاتها ".
(1/452)
صفحة فارغة
هَامِش
وَمِنْهَا: مَا يَتَّضِح حكمه، وَوجه الْمصلحَة فِيهِ غَايَة
الْإِيضَاح، فيجعلونه مَعْلُوما بِالْعلمِ الضَّرُورِيّ
الْعقلِيّ؛ كإنقاذ الغرقى من غير ضَرَر يلْحق المنقذ، أَو
الظُّلم وَالْكذب بِغَيْر غَرَض.
وَمِنْهَا: مَا انحطت رتبته عَن هَذَا الْإِيضَاح؛ حَتَّى
احْتِيجَ فِيهِ إِلَى قِيَاسه على الضَّرُورِيّ؛ كظلم مُقَيّد،
أَو كذب مُقَيّد.
وَمِنْهَا: مَا لَا تبلغ الْعُقُول كنه مَعْرفَته، وَلَو بحثت
وفكرت وقاست واستنبطت، كتفاصيل الشرعيات - المأمورات والمنهيات
-، فالعقل فِي هَذَا يفْتَقر إِلَى الشَّرَائِع، وَمَا جَاءَت
بِهِ الرُّسُل - عَلَيْهِم السَّلَام.
(1/453)
فالقدماء: من غير صفة، وَقوم بِصفة، ...
... ... ... ... ... ...
هَامِش
وتبعهم من الْحَنَفِيَّة جمَاعَة، وَمن أَصْحَابنَا
الصَّيْرَفِي، والقفال الْكَبِير، وَأَبُو بكر الْفَارِسِي،
وَالْقَاضِي أَبُو حَامِد، وَأَبُو عبد الله الْحَلِيمِيّ -
نَقله عَنهُ ابْن السَّمْعَانِيّ - وَفِيه مَا سأذكره - إِن
شَاءَ الله - فِي مَسْأَلَة شكر الْمُنعم.
وَاعْلَم أَن البراهمة لَيْسُوا مُسلمين، وَلَا كَلَام مَعَهم،
وَإِنَّمَا الْكَلَام مَعَ الْقَدَرِيَّة، وَمن تَبِعَهُمْ؛ من
الكرامية والخوارج.
وَقد اخْتلفُوا " فالقدماء " من الْمُعْتَزلَة قَالُوا:
بِحُصُول الْحسن والقبح " من غير صفة " مُوجبَة لَهما.
(1/454)
صفحة فارغة
هَامِش صفحة فارغة
(1/455)
وَقوم بِصفة فِي الْقَبِيح، والجبائية
بِوُجُوه واعتبارات.
هَامِش
" وَقوم " مِنْهُم قَالُوا: " بِصفة " زَائِدَة عَلَيْهَا.
و" قوم " ذَهَبُوا إِلَى أَنَّهَا مُخْتَصَّة " بِصفة فِي
الْقَبِيح "، دون الْحسن.
" والجبائية " - وهم أَبُو عَليّ وَأَتْبَاعه - ذَهَبُوا إِلَى
أَن الِاخْتِصَاص بالْحسنِ والقبح؛ إِنَّمَا هُوَ؛ " بِوُجُوه
واعتبارات "؛ فلطمة الْيَتِيم حَسَنَة؛ بِاعْتِبَار
التَّأْدِيب، قبيحة؛ بِاعْتِبَار الإيلام.
فَإِن قلت: قَوْلهم: الْأَفْعَال حَسَنَة وقبيحة لذاتها، مَعَ
قَوْلهم: إِن حسنها وقبحها؛ بِاعْتِبَار صفاتها - مِمَّا
يتناقض.
(1/456)
لنا: لَو كَانَ ذاتيا، لما اخْتلف، وَقد
وَجب الْكَذِب، إِذا كَانَ فِيهِ عصمَة نَبِي، وَالْقَتْل
وَالضَّرْب وَغَيرهمَا.
" وَأَيْضًا: لَو كَانَ ذاتيا، لاجتمع النقيضان فِي صدق من
قَالَ: لأكذبن غَدا - وَكذبه.
وَاسْتدلَّ: لَو كَانَ ذاتيا، للَزِمَ قيام الْمَعْنى
بِالْمَعْنَى؛ لِأَن حسن ... ... ... ... ...
هَامِش
قلت: اقْتِضَاء الذَّات لِلْحسنِ والقبح هُوَ قَول اشْتَركُوا
فِيهِ، ثمَّ اقتضاؤها قد يكون بِوَاسِطَة هِيَ الصّفة
والاعتبارات، وَقد لَا يكون بِوَاسِطَة.
الشَّرْح: " لنا: لَو كَانَ " الْحسن والقبح " ذاتيا "
للْفِعْل - " لما اخْتلف " بصيرورة الْحسن قبيحا،
وَبِالْعَكْسِ؛ لِامْتِنَاع اخْتِلَاف الذاتيات، " وَقد "
اخْتلف؛ إِذْ " وَجب الْكَذِب " عِنْد اشتماله على مصلحَة
راجحة؛ كَمَا " إِذا كَانَ فِيهِ عصمَة نَبِي، وَالْقَتْل
وَالضَّرْب وَغَيرهمَا " - كَذَا بِخَطِّهِ -، أَي: وَجب
الْقَتْل أَو الضَّرْب وَغَيرهمَا أَيْضا؛ إِذا كَانَ فِيهِ
عصمَة نَبِي؛ فَلَا يكون ذاتيا.
الشَّرْح: " وَأَيْضًا: لَو كَانَ ذاتيا، لاجتمع النقيضان "؛
وهما الْحسن والقبح الذاتيان " فِي صدق من قَالَ: لأكذبن غَدا
- وَكذبه "؛ لِأَنَّهُ إِن صدق، لزم إِيجَاد الْقَبِيح،
وَالْفِعْل المستلزم للقبيح قَبِيح، فالصدق إِذن قَبِيح، وَإِن
لم يصدق، لزم الْقَبِيح أَيْضا، فحصول الْقَبِيح لَازم على
التَّقْدِيرَيْنِ، وَيلْزم مِنْهُ اجْتِمَاع الْحسن والقبح
فِيهِ.
وَاعْترض الأول: بِأَن الْوَاجِب لَازم الْكَذِب وَالْقَتْل
وَالضَّرْب، وَهُوَ خلاص النَّبِي، دون مَا ذكر؛ كَمَا تَقول
فِي الصَّلَاة فِي الدَّار الْمَغْصُوبَة: إِنَّهَا ذَات
وَجْهَيْن.
وَهُوَ سَاقِط؛ إِذْ الْمُصَلِّي مأثوم بِأَفْعَال الصَّلَاة
من جِهَة أَنَّهَا شغل ملك الْغَيْر، وَلم يقل أحد من عُلَمَاء
الشَّرِيعَة؛ بِأَن الْكَاذِب فِيمَا نَحن فِيهِ آثم من جِهَة
أَنه كَاذِب.
وَاعْترض الثَّانِي: أَنه ذُو وَجْهَيْن أَيْضا، فَيحسن من
جِهَة صدقه، ويقبح من جِهَة استلزامه الْكَذِب.
الشَّرْح: " وَاسْتدلَّ: لَو كَانَ ذاتيا " ل " لزم قيام
الْمَعْنى "؛ وَهُوَ الْحسن والقبح - " بِالْمَعْنَى "؛ وَهُوَ
الْفِعْل.
والتالي؛ وَهُوَ قيام الْعرض بِالْعرضِ - بَاطِل؛ فَكَذَا
الْمُقدم.
(1/457)
الْفِعْل زَائِد على مَفْهُومه؛ وَإِلَّا،
لزم من تعقل الْفِعْل تعقله؛ وَيلْزم وجوده؛ لِأَن نقيضه: (لَا
حسن) ، وَهُوَ سلب، وَإِلَّا، استلزم حُصُوله محلا مَوْجُودا،
وَلم يكن ذاتيا، وَقد وصف الْفِعْل بِهِ؛ فَيلْزم قِيَامه
بِهِ، ... ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
هَامِش
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِنَّه يلْزم ذَلِك؛ " لِأَن حسن الْفِعْل
زَائِد على مَفْهُومه؛ وَإِلَّا، لزم من تعقل الْفِعْل تعقله "
- أَي: تعقل حسنه - والتالي بَاطِل؛ إِذْ قد يعقل الْفِعْل،
وَلَا يخْطر بالبال حسنه وَلَا قبحه.
" وَيلْزم " مَعَ ثُبُوت زِيَادَته على الْفِعْل " وجوده " -
أَي: أَن يكون أمرا وجوديا؛ " لِأَن نقيضه لَا حسن، وَهُوَ
سلب.
وَإِلَّا " فَلَو لم يكن سلبا، كَانَ ثبوتيا، و " استلزم
حُصُوله محلا مَوْجُودا "؛ لِامْتِنَاع قيام الصّفة الثبوتية
بالمعدوم؛ وَهُوَ صَادِق على الْمَعْدُوم؛ إِذْ نصف كثيرا من
المعدومات بِأَنَّهَا غير حَسَنَة، فَلَا يكون ثبوتيا.
وَإِذا كَانَ: لَا حسن، أمرا سلبيا - لزم كَون نقيضه، وَهُوَ
الْحسن - أمرا ثبوتيا.
وَأَيْضًا: إِذا لم يصدق عَلَيْهِ أَنه لَيْسَ بِحسن، صدق أَنه
حسن؛ إِذْ لَا مخرج عَن النَّفْي وَالْإِثْبَات.
" وَلم يكن ذاتيا "؛ إِذْ الْمَعْدُوم لَا يكون لَهُ صفة
إِلَّا مقدرَة موهومة، وَكَيف تكون صفة حَقِيقِيَّة ذاتية لما
لَا حَقِيقَة لَهُ وَلَا ذَات.
وَإِذا ثَبت أَن نقيضه سلب، كَانَ هُوَ وجودا؛ فقد ثَبت أَنه
زَائِد وجودي، " وَقد وصف الْفِعْل بِهِ؛ فَيلْزم قِيَامه بِهِ
"، أَي: قيام الْمَعْنى بِالْمَعْنَى، أَو قيام الْحسن
بِالْفِعْلِ؛ وَهُوَ قيام الْمَعْنى بِالْمَعْنَى؛ وَالدَّلِيل
على بطلَان التَّالِي؛ وَهُوَ قيام الْعرض بِالْعرضِ: أَن
الْعرض الَّذِي هُوَ مَحل الْعرض لَا بُد، وَأَن يكون قَائِما
بالجوهر؛ دفعا للتسلسل، وَقيام الْعرض بالجوهر لَا معنى لَهُ
إِلَّا كَونه حَاصِلا فِي الحيز؛ تبعا لحُصُول الْجَوْهَر
فِيهِ، فَلَو كَانَ الْعرض قَائِما بِالْعرضِ، لزم حُصُوله فِي
حيّز الْعرض الَّذِي هُوَ مَحَله؛ تبعا لحصوله فِيهِ؛ فهما
قائمان بالجوهر؛ وَإِن كَانَ قيام أَحدهمَا بِهِ مَشْرُوطًا
بِقِيَام الآخر؛ كَمَا فِي الْأَعْرَاض الْمَشْرُوطَة
بِالْحَيَاةِ.
وَهَذَا الدَّلِيل اعْتَمدهُ الْآمِدِيّ، وَهُوَ مَبْنِيّ على
امْتنَاع قيام الْعرض بِالْعرضِ.
والخصم يمنعهُ؛ فَإِن السرعة والبطء عرضان قَائِما بالحركة -
وَهِي عرض - وليسا قَائِمين بالجسم؛ إِذْ يُقَال: جسم بطيء فِي
حركته، وَلَا يُقَال: بطيء فِي جسميته.
(1/458)
وَاعْترض بإجرائه فِي الْمُمكن؛ وَبِأَن
الِاسْتِدْلَال بِصُورَة النَّفْي على الْوُجُود دور؛
لِأَنَّهُ قد يكون ثبوتيا أَو منقسما؛ فَلَا يُفِيد ذَلِك.
وَاسْتدلَّ: فعل العَبْد غير مُخْتَار؛ فَلَا يكون حسنا وَلَا
قبيحا ... ... ... ...
هَامِش
وأصحابنا يجيبون عَن هَذَا الْمَنْع - كَون البطء صفة للحركة
-، وَيَقُولُونَ: إِنَّمَا هُوَ عبارَة عَن تخَلّل السكتات؛
وَكَذَلِكَ السرعة عبارَة عَن عدم التخلل؛ فَيرجع حَاصله إِلَى
أَن الْجِسْم يسكن فِي بعض الأحيان، ويتحرك فِي بَعْضهَا؛
فَيكون ذَلِك صفة للجسم؛ لَا للحركة، وَيَقُولُونَ أَيْضا: إِن
مَا ذكره الْخُصُوم لَا يَتَأَتَّى على مَذْهَبهم أَيْضا؛
لجَوَاز أَن تكون طَبَقَات الحركات أنواعا مُخْتَلفَة،
وَلَيْسَ ثمَّ إِلَّا الْحَرَكَة الْمَخْصُوصَة، وَأما السرعة
والبطء، فَمن الْأُمُور النسبية؛ وَلذَلِك تكون بطيئة سريعة
بِالنِّسْبَةِ إِلَى حَرَكَة؛ كالإنسان مثلا، سريعة
بِالنِّسْبَةِ إِلَى أُخْرَى؛ كالفرس.
" وَاعْترض " الدَّلِيل أَيْضا " بإجرائه فِي الْمُمكن "؛
فَيُقَال: إِمْكَان الْمُمكن زَائِد على مَفْهُومه، وَهُوَ
ثبوتي؛ لِأَنَّهُ نقيض: (لَا إِمْكَان) العدمي، وَقد وصف
الْفِعْل بِهِ؛ فَيلْزم قيام الْعرض بِالْعرضِ.
وَلَك أَن تَقول: الْإِمْكَان أَمر اعتباري؛ لَا وجود لَهُ فِي
الْخَارِج.
والخصم لَا يُمكنهُ الْجَواب بِهَذَا؛ لِأَن الْحسن والقبح
عِنْده من الصِّفَات الوجودية.
" وَبِأَن الِاسْتِدْلَال بِصُورَة النَّفْي "، وَكَونه سلبا "
على الْوُجُود " - أَي: وجود الْمَنْفِيّ - " دور؛ لِأَنَّهُ "
إِنَّمَا نعلم أَن: لَا حسن، أَمر سَلبِي؛ إِذا علمنَا أَنه
نقيض الْحسن، وَأَن الْحسن أَمر وجودي؛ فَإِن نقيض الوجودي
سَلبِي؛ فَلَو استدللنا على أَن الْحسن وجودي؛ بِأَن نقيضه
سَلبِي، لزم الدّور؛ وَهَذَا لِأَنَّهُ " قد يكون " السَّلب "
ثبوتيا "؛ كاللامعدوم، " أَو منقسما " إِلَى الوجودي والعدمي،
كاللاممكن؛ فَإِنَّهُ يَنْقَسِم إِلَى الْوَاجِب - وَهُوَ
وجودي -، والممتنع - وَهُوَ عدمي؛ " فَلَا يُفِيد "
الِاسْتِدْلَال بِصُورَة النَّفْي " ذَلِك " الْمَطْلُوب.
وَلَك دفع الدّور؛ بِأَن علمنَا بِأَن: لَا حسن سَلبِي -
لَيْسَ مُسْتَندا إِلَى أَنه نقيض الْحسن؛ حَتَّى يلْزم
الدّور؛ وَإِنَّمَا هُوَ مُسْتَند إِلَى أَنه لَو كَانَ
ثبوتيا، استلزم محلا مَوْجُودا.
الشَّرْح: " وَاسْتدلَّ " ثَانِيًا على أَن الْحسن والقبح
ليسَا ذاتيين بِمَا تَقْرِيره أَن تَقول: " فعل العَبْد غير
مُخْتَار " - وَحِينَئِذٍ يكون إِمَّا اضطراريا أَو اتفاقيا -
" فَلَا يكون حسنا وَلَا قبيحا لذاته؛
(1/459)
لذاته؛ إِجْمَاعًا؛ لِأَنَّهُ إِن كَانَ
لَازِما، فَوَاضِح، وَإِن كَانَ جَائِزا؛ فَإِن افْتقر إِلَى
مُرَجّح، عَاد التَّقْسِيم، وَإِلَّا، فَهُوَ اتفاقي، وَهُوَ
ضَعِيف؛ فَإنَّا نفرق بَين الضرورية، والاختيارية؛ ضَرُورَة؛
وَيلْزم عَلَيْهِ فعل الْبَارِي، وَألا يُوصف بِحسن وَلَا قبح؛
شرعا؛ ... ... ... ... ...
هَامِش إِجْمَاعًا "، أما عندنَا فَظَاهر، وَأما عِنْد الْخصم
فَلِأَنَّهُ لَا يجوز التَّكْلِيف بالأفعال الَّتِي هِيَ غير
اختيارية شرعا، فضلا عَن أَن يعلم ذَلِك بضرورة الْعقل أَو
نظره.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: إِن العَبْد غير مُخْتَار فِي أَفعاله؛ "
لِأَنَّهُ إِن كَانَ " صُدُور الْفِعْل عَنهُ " لَازِما،
فَوَاضِح " لُزُوم الْجَبْر، وَحُصُول الْمَطْلُوب من عدم
الِاخْتِيَار، " وَإِن كَانَ جَائِزا "؛ فإمَّا أَن يفْتَقر
فِي تَرْجِيح أحد طَرفَيْهِ على الآخر إِلَى مُرَجّح، أَو لَا؛
" فَإِن افْتقر إِلَى مُرَجّح، عَاد التَّقْسِيم " الْمَذْكُور
فَتَقول: - مَعَ ذَلِك الْمُرَجح - إِمَّا أَن يكون الْفِعْل
لَازِما أَو جَائِزا، وَيلْزم التسلسل أَو الِانْتِهَاء إِلَى
مُرَجّح مَخْلُوق لله - تَعَالَى - وَلَا يتَمَكَّن العَبْد من
تَركه عِنْد وجوده. فَيلْزم الِاضْطِرَار؛ " وَإِلَّا " - أَي:
وَإِن لم يفْتَقر إِلَى مُرَجّح، " فَهُوَ اتفاقي " لَا يصدر
عَن اخْتِيَار، وَقد اعْتمد الإِمَام الرَّازِيّ على هَذَا
الدَّلِيل.
" وَهُوَ ضَعِيف " لوجوه:
الأول: الْعلم بِبُطْلَان مَدْلُوله ضَرُورَة؛ " فَإنَّا نفرق
بَين " الْأَفْعَال " الضرورية " كحركة المرتعش " والاختيارية
" كَسَائِر الحركات الإرادية " ضَرُورَة ".
وَالثَّانِي: أَنه " يلْزم عَلَيْهِ فعل الْبَارِي "، فَيلْزم
أَلا يكون مُخْتَارًا، وَذَلِكَ كفر.
وَالثَّالِث: أَنه يلْزم مِنْهُ أَيْضا " أَلا يُوصف "
الْفِعْل " بِحسن وَلَا قبح شرعا " بِغَيْر مَا ذكر وَهُوَ
بَاطِل وفَاقا.
وَاعْلَم أَن الْإِلْزَام الأول أوجه الإلزامات.
وَقد يُقَال عَلَيْهِ: أما التَّفْرِقَة بَين حَرَكَة المرتعش
وَغَيره فضرورية، وَهِي الَّتِي جعلت مَذْهَبنَا - معاشر
الأشاعرة - وَاسِطَة بَين الْجَبْر وَالْقدر.
وَأما إبِْطَال هَذَا الدَّلِيل بِهَذَا فَفِيهِ نظر؛ لِأَن
مورد التَّقْسِيم فعل العَبْد، وحركة المرتعش لَيست من فعله،
وَلَا يُقَال: حرك المرتعش يَده إِلَّا مجَازًا، لفقدان
الِاخْتِيَار والداعية.
قَوْلكُم: لَو كَانَت أفعالنا اضطرارية لساوت حركاتنا حركات
المرتعش.
قُلْنَا: أَي الْمُسَاوَاة تُرِيدُونَ الْمُسَاوَاة من جِهَة
امْتنَاع التَّكْلِيف بهَا.
(1/460)
وَالتَّحْقِيق أَنه يتَرَجَّح
بِالِاخْتِيَارِ.
هَامِش
الأول: مُسلم، فَإِنَّهَا وَاجِبَة الْوُقُوع لتَمام علتها
الصادرة من الْغَيْر.
وَالثَّانِي مَمْنُوع؛ لِأَنَّهَا وَجَبت بِالْغَيْر، وَوُجُوب
الشَّيْء بِشَرْط غَيره لَا يُنَافِي إِمْكَانه وقدرة الْغَيْر
عَلَيْهِ، فَلم تكن حركاتنا كحركات المرتعش.
وَالْحَاصِل: أَنا نلتزم الِاضْطِرَار، وَلَا يَنْتَفِي للمدح
والذم.
وَمَا قيل من الْإِجْمَاع على انْتِفَاء التَّكْلِيف
بالاضطراري إِنَّمَا هُوَ فِي الاضطراري الَّذِي لَا مدْخل
للْعَبد [فِيهِ] أَلْبَتَّة.
وَأما مَا يكمل الْمُرَجح فِيهِ بداعية العَبْد وعزمه فالفعل
وَاجِب، وَلَا يَنْفِي هَذَا الِاضْطِرَار الثَّوَاب
وَالْعِقَاب.
وَأما الثَّانِي فضعيف، لقِيَام الْفرق، فَإِن فاعلية
الْبَارِي - تَعَالَى - تتَوَقَّف على مُرَجّح من قبله، وَهُوَ
إِرَادَته الْقَدِيمَة الْمُتَعَلّقَة بالإيجاد فِي وَقت
مَخْصُوص، وَمَا ذكرنَا من التَّقْسِيم غير آتٍ فِيهِ حَتَّى
يلْزم التسلسل أَو الِاضْطِرَار أَو الِاتِّفَاق، وَلَا يلْزم
قدم مخلوقاته.
وَأما الثَّالِث فساقط؛ لِأَن الدَّلِيل على الْمُقدمَة
الثَّانِيَة فِي الْبُرْهَان الْمَذْكُور إِنَّمَا هُوَ
الِاتِّفَاق على أَن الاضطراري والاتفاقي لَا يصحان عقلا،
وَهُوَ غير حَاصِل فِي الْحسن والقبح الشرعيين، وَلِأَن
جَمَاهِير الْقَائِلين بِأَنَّهُمَا شرعيان - وإمامهم شَيخنَا
أَبُو الْحسن - قَالُوا بِجَوَاز التَّكْلِيف بِمَا لَا
يُطَاق.
" وَالتَّحْقِيق " فِي الْجَواب عَن فعل العَبْد: " أَنه "
يجوز صدوره، وَلَكِن " يتَرَجَّح " صدوره " بِالِاخْتِيَارِ "
من العَبْد.
وَالْحَاصِل: أَن بَين الْقدر والجبر وَاسِطَة، وَهِي: الْكسْب
الَّذِي نقُول بإثباته، وتحقيقه محَال على الْكتب الكلامية من
كتب أَصْحَابنَا. فَلَا تَظنن هَذَا الْمَكَان يتكفل لَك
بتقرير الْكسْب الَّذِي هُوَ أصعب مَا عِنْد الأشاعرة.
وَإِن أَبيت إِلَّا التَّعَلُّق بِمَا يكون فِي ضميرك عقدا من
معرفَة الْكسْب، فَاعْلَم أَن أَئِمَّتنَا قد أَكْثرُوا فِيهِ.
ولي أَنا فِيهِ طَريقَة أَرَاهَا الصَّوَاب فأقتصر على ذكرهَا
قَائِلا: ثَبت لنا قاعدتان: إِحْدَاهمَا: أَن
(1/461)
صفحة فارغة
هَامِش العَبْد غير خَالق " لأفعال نَفسه ".
وَالثَّانيَِة: أَن الله لَا يُعَاقب إِلَّا على مَا فعله
العَبْد، وَالثَّوَاب وَالْعِقَاب واقعان على الْجَوَارِح،
فلزمت الْوَاسِطَة بَين الْقدر والجبر، وساعدنا عَلَيْهَا
شَاهد فِي الْخَارِج، وَهُوَ التَّفْرِقَة الضرورية بَين
حَرَكَة المرتعش والمريد، فأثبتنا هَذِه الْوَاسِطَة، وسميناها
بِالْكَسْبِ لقَوْله تَعَالَى: {لَهَا مَا كسبت وَعَلَيْهَا
مَا اكْتسبت} [سُورَة الْبَقَرَة: الْآيَة 286] وَغير ذَلِك من
الْآي وَالْأَخْبَار، فَإِن سئلنا عَن التَّعْبِير عَن هَذَا
الْكسْب بتعريف جَامع مَانع قُلْنَا: لَا سَبِيل لنا إِلَى
ذَلِك وَالسَّلَام، فَرب ثَابت لَا تحيط بِهِ الْعبارَات،
ومحسوس لَا تكتنفه الإشارات.
وَمن أَصْحَابنَا من أَخذ يُحَقّق الْكسْب فَوَقع فِي معضل أرب
لَا قبل لَهُ بِهِ.
وَالصَّوَاب عندنَا: أَنه أَمر لزم عَن حق فَكَانَ حَقًا،
وعضده مَا ذَكرْنَاهُ، فعرفناه على الْجُمْلَة دون
التَّفْصِيل.
وَمَا أحسن قَول عَليّ بن مُوسَى الرِّضَا وَقد سُئِلَ: أيكلف
الله الْعباد بِمَا لَا يُطِيقُونَ؟ قَالَ: هُوَ أعدل من
ذَلِك.
قيل: أفيستطيعون أَن يَفْعَلُوا مَا يُرِيدُونَ؟ قَالَ: هم
أعجز من ذَلِك.
وَعلي الرِّضَا هُوَ ابْن مُوسَى الكاظم بن جَعْفَر الصَّادِق
بن مُحَمَّد الباقر بن زين العابدين بن عَليّ بن الْحُسَيْن بن
عَليّ بن أبي طَالب - رَضِي الله عَنْهُم - وَهَذَا الَّذِي
قَالَه عين مَذْهَبنَا فافهمه.
وَهُوَ قبل الْأَشْعَرِيّ وَفَاة بِمَا ينيف على مائَة
وَعشْرين سنة، فَإِنَّهُ مَاتَ ب " طوس " سنة ثَلَاث
(1/462)
صفحة فارغة
هَامِش وَمِائَتَيْنِ - قبل الشَّافِعِي بِسنة - والأشعري
مَاتَ بعد الْعشْرين وثلثمائة.
فَإِن قلت: وَأي برهَان قَامَ على إبِْطَال الْقدر والجبر.
قلت: هَذَا الْآن من فن الْكَلَام، وإدخاله فِي الْأُصُول
فضول، وَنحن نشِير إِلَى زبدة القَوْل فِيهِ فَنَقُول: قد تقرر
عِنْد كل ذِي لب أَن الرب - تَعَالَى - مطَالب عباده بأعمالهم
فِي حَالهم، ومثيبهم ويعاقبهم عَلَيْهَا فِي مآلهم، وَتبين
بالنصوص المترقبة عَن دَرَجَات التَّأْوِيل أَنهم من الْوَفَاء
بِمَا كلفوه بسبيل.
وَمن نظر فِي كليات الشَّرَائِع، وَمَا فِيهَا من الاستحثاث
على المكرمات والزواجر عَن الموبقات، وَمَا اشْتَمَلت عَلَيْهِ
من وعد الطائعين بالزلفى، ووعيد العاصين بِسوء المنقلب، وَمَا
تضمنه قَوْله تَعَالَى: تعديتم وعصيتم وَأَبَيْتُمْ، وَقد
أرخيت لكم الطول وفسحت لكم الْمهل؛ فَأرْسلت الرُّسُل وأوضحت
السبل لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة، وأحاط بذلك كُله،
ثمَّ استراب فِي أَن القَوْل بالجبر بَاطِل فَهُوَ مصاب فِي
عقله، أَو ملقى من التَّقْلِيد فِي وهدة من جَهله.
فَإِن أَخذ الجبري يَقُول: {لَا يسْأَل عَمَّا يفعل وهم
يسْأَلُون} [سُورَة الْأَنْبِيَاء: الْآيَة 23] .
قيل لَهُ: كلمة حق أُرِيد بهَا بَاطِل، نعم يفعل الله مَا
يَشَاء، وَيحكم مَا يُرِيد، وَلَكِن يتقدس عَن الْخلف ونقيض
الصدْق، وَقد فهمنا بضرورات الْعُقُول من الشَّرْع الْمَنْقُول
أَنه عزت قدرته طَالب عباده بِمَا أخبر أَنهم متمكنون من
الْوَفَاء بِهِ، فَلم يكلفهم إِلَّا على مبلغ الطَّاقَة
والوسع، فقد لَاحَ إبِْطَال القَوْل بالجبر.
وأسفه مِنْهُ القَوْل بِخلق الْأَفْعَال، فَإِن فِيهِ مروقا
عَمَّا درج عَلَيْهِ الْأَولونَ، واقتحام ورطات الضلال،
وَلُزُوم حُدُوث الْفِعْل الْوَاحِد بقادرين، ومداناة القَوْل
بِشريك الْبَارِي، فَلَقَد أجمع الْمُسلمُونَ قاطبة قبل ظُهُور
الْبدع والآراء، واجتماع أَصْحَاب الْأَهْوَاء على أَنه لَا
خَالق إِلَّا الله، وفاهوا بِهِ كَمَا فاهوا بقَوْلهمْ: لَا
إِلَه إِلَّا الله، وبمدح الرب سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى فِي آي
من الْكتاب بقوله: {أَفَمَن يخلق كمن لَا يخلق} [سُورَة
النَّحْل: الْآيَة 17] . {هَل من خَالق غير الله} [سُورَة
فاطر: الْآيَة 3] . {وَخلق كل شَيْء} [سُورَة الْأَنْعَام:
الْآيَة 101] ، فَلَا يشك لَبِيب أَن [من] وصف نَفسه
بِكَوْنِهِ خَالِقًا
(1/463)
وعَلى الجبائية لَو حسن الْفِعْل أَو قبح
لغير الطّلب، لم يكن تعلق الطّلب لنَفسِهِ؛ لتوقفه على أَمر
زَائِد.
وَأَيْضًا: لَو حسن الْفِعْل أَو قبح لذاته أَو لصفته، لم يكن
البارئ مُخْتَارًا فِي الحكم؛ لِأَن الحكم بالمرجوح على خلاف
الْمَعْقُول؛ فَيلْزم الآخر، فَلَا اخْتِيَار.
هَامِش على الْحَقِيقَة، فقد أعظم الْفِرْيَة على ربه، فَلَقَد
وضح كَالشَّمْسِ أَن الجبري مُبْطل لدَعْوَة الْأَنْبِيَاء
عَلَيْهِم السَّلَام.
والقدري مُثبت لرَبه شَرِيكا، وَهَذِه جملَة لَا يقنع بهَا
الطَّالِب للبسط، وفيهَا رمز إِلَى خُلَاصَة مَا يَقُوله
عُلَمَاؤُنَا رَضِي الله عَنْهُم، وَقد تمّ الدَّلِيل على غير
الجبائية.
الشَّرْح: " وعَلى الجبائية " أَن نقُول: " لَو حسن الْفِعْل
أَو قبح بِغَيْر الطّلب " من الشَّارِع وَكَانَ حسنه، أَو قبحه
لما زعمتم من الْوُجُوه والاعتبارات أَو لذاته، " لم يكن تعلق
" الْفِعْل لنَفسِهِ - كَذَا بِخَط المُصَنّف، أَي: لم يكن
تعلق " الطّلب " بِالْفِعْلِ " لنَفس الْفِعْل "، " لتوقفه على
أَمر زَائِد " وَهِي تِلْكَ الْوُجُوه والاعتبارات، والتالي
بَاطِل فالمقدم مثله.
أما الشّرطِيَّة؛ فَلِأَن حسن الْفِعْل أَو قبحه لَو كَانَ
مُسْتَندا إِلَى اعْتِبَار مَا لَكَانَ متوقفا فِي حسنه على
حُصُول ذَلِك الِاعْتِبَار، [والباري - تَعَالَى - إِنَّمَا
يَأْمر بِالْفِعْلِ لأجل الْحسن فَيكون الطّلب متوقفا على
ذَلِك الِاعْتِبَار] الَّذِي بِهِ يحسن [الْفِعْل] ، وَأما
بطلَان التَّالِي، فلأنا نفرض الْكَلَام فِي فعل تعلق الطّلب
بِهِ.
الشَّرْح: " وَأَيْضًا " الْحجَّة على الْجَمِيع " لَو حسن
الْفِعْل، أَو قبح لذاته، أَو لصفته لم يكن الْبَارِي " -
تَعَالَى - " مُخْتَارًا فِي الحكم؛ لِأَن " الْحسن رَاجِح على
الْقبْح، والحكيم إِنَّمَا يَأْمر بالراجح، لِأَن " الحكم
بالمرجوح على خلاف الْمَعْقُول، فَيلْزم الآخر " وَهُوَ الْحسن
الرَّاجِح، وَإِذا كَانَ تعلق الْأَمر بِطرف الْحسن وَاجِبا،
وطرف الْقبْح مُمْتَنعا " فَلَا اخْتِيَار ".
(1/464)
وَمن السّمع {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى
نبعث رَسُولا} [سُورَة الْإِسْرَاء: الْآيَة 15] لاستلزام
مَذْهَبهم خِلَافه.
قَالُوا: حسن الصدْق النافع وَالْإِيمَان، وقبح الْكَذِب الضار
والكفران - مَعْلُوم بِالضَّرُورَةِ من غير نظر إِلَى عرف أَو
شرع أَو غَيرهمَا. وَالْجَوَاب الْمَنْع بل بِمَا ذكر.
قَالُوا: إِذا اسْتَويَا فِي الْمَقْصُود مَعَ قطع النّظر عَن
كل مِقْدَار، آثر ... ... ... ...
هَامِش
الشَّرْح: " وَمن السّمع " مِمَّا يهدم قَاعِدَة الْحسن والقبح
قَوْله تَعَالَى: {وَمَا كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا}
[سُورَة الْإِسْرَاء: الْآيَة 15] .
وَلم يقل: حَتَّى نركب [فيهم] ، عقولا، وَإِنَّمَا ورد على
الْخُصُوم هَذَا " لاستلزام مذاهبهم خِلَافه "، وَذَلِكَ
لِأَنَّهُ - تَعَالَى - نفى التعذيب قبل الْبعْثَة.
وَالْقَوْل بِأَن الْعقل يَقْتَضِي ويستلزم التعذيب وَإِن لم
تُوجد الْبعْثَة، لوجدانه قبلهَا، والتعذيب عِنْدهم إِذا قضى
بِهِ الْعقل وَاجِب، فَلَا يتَخَلَّف.
وَلنَا آي أخر، سأذكر بَعْضهَا فِي أثْنَاء مَسْأَلَة شكر
الْمُنعم.
الشَّرْح: " قَالُوا ": الْعلم بالْحسنِ والقبح ضَرُورِيّ،
إِذْ " حسن الصدْق النافع وَالْإِيمَان، وقبح الْكَذِب الضار،
والكفران مَعْلُوم ضَرُورَة من غير نظر إِلَى عرف أَو شرع أَو
غَيرهمَا "، بِدَلِيل أَنه حَاصِل لجَمِيع الْأُمَم، حَتَّى
إِن منكري الشَّرَائِع يعترفون بِحسن الصدْق النافع، وقبح
الْكَذِب الضار، وَلَو كَانَ ذَلِك مستفادا من الشَّرْع لما
حصل لَهُم.
" وَالْجَوَاب الْمَنْع "، فَلَا نسلم أَن ذَلِك يعلم بضرورة
الْعقل، وَكَيف يستتب ادِّعَاء الضَّرُورَة، وَمن الْعُقَلَاء
من لَا يعْتَقد قبح مَا ذَكرُوهُ من الْأَشْيَاء، " بل "
إِنَّمَا يحكم بالْحسنِ والقبح " بِمَا ذكر " من الشَّرْع.
الشَّرْح: " قَالُوا " الصدْق وَالْكذب " إِذا اسْتَويَا فِي
الْمَقْصُود مَعَ قطع النّظر عَن كل " أَمر " مُقَدّر " يقْضِي
بترجيح أَحدهمَا " آثر الْعقل الصدْق " على الْكَذِب، وَلَيْسَ
ذَلِك إِلَّا لِأَنَّهُ حسن بِالْعقلِ.
(1/465)
الْعقل الصدْق. وَأجِيب بِأَنَّهُ تَقْدِير
مُسْتَحِيل؛ فَلذَلِك يستبعد منع إِيثَار الصدْق، وَلَو سلم،
فَلَا يلْزم فِي الْغَائِب؛ للْقطع بِأَنَّهُ لَا يقبح من الله
تَمْكِين العَبْد من الْمعاصِي، ويقبح منا.
قَالُوا: لَو كَانَ شَرْعِيًّا، لزم إفحام الرُّسُل. فَيَقُول:
لَا أنظر فِي معجزتك حَتَّى يجب النّظر، ويعكس، أَو لَا يجب
حَتَّى يثبت الشَّرْع ويعكس. وَالْجَوَاب أَن ... ...
هَامِش
" وَأجِيب [بِأَنَّهُ] تَقْدِير مُسْتَحِيل " وُقُوعه، فَإِن
الصدْق وَالْكذب متنافيان، ويستحيل تَسَاوِي المتنافيين فِي
جَمِيع الصِّفَات، " فَلذَلِك " الْفَرْض المستحيل " يستبعد "
فِي الْعقل " منع إِيثَار الصدْق "، وَلَا يلْزم من استبعاد
الْعقل ذَلِك على هَذَا التَّقْدِير بعده فِي نفس الْأَمر،
وَإِنَّمَا يلْزم أَن لَو وَقع فِي نفس الْأَمر، وَهُوَ
مَمْنُوع.
" وَلَو سلم " إِمْكَان التَّقْدِير فِي حَقنا " فَلَا يلْزم "
مثله " فِي الْغَالِب، للْقطع بِأَنَّهُ لَا يقبح، من الله
تَمْكِين العَبْد من الْمعاصِي، ويقبح " ذَلِك " منا " فَلَا
يُقَاس الْغَائِب بِالشَّاهِدِ.
الشَّرْح: " قَالُوا: لَو كَانَ " الْحسن والقبح " شَرْعِيًّا
" لَكَانَ وجود النّظر شَرْعِيًّا، وَذَلِكَ وَاضح.
وَلَو كَانَ كَذَلِك " لزم إفحام الرُّسُل " - عَلَيْهِم
السَّلَام - أَي: انقطاعهم؛ وَذَلِكَ لِأَن الرَّسُول إِذا
قَالَ للمرء: انْظُر فِي معجزتي لتؤمن " فَيَقُول: لَا أنظر
فِي معجزتك حَتَّى يجب النّظر " فِيهَا " ويعكس " قَائِلا: "
وَلَا يجب " عَليّ النّظر " حَتَّى يثبت الشَّرْع "، ضَرُورَة
توقف الْوُجُوب على الشَّرْع حِينَئِذٍ، " ويعكس " قَائِلا:
وَلَا يثبت الشَّرْع حَتَّى أنظر، وَأَنا لَا أنظر، وَيكون
هَذَا القَوْل حَقًا، وَلَا سَبِيل للرسول إِلَى دَفعه وَهُوَ
حجَّة عَلَيْهِ، وَهُوَ معنى الإفهام.
(1/466)
وُجُوبه عِنْدهم نَظَرِي فَيَقُول
بِعَيْنِه، على أَن النّظر لَا يتَوَقَّف على وُجُوبه، وَلَو
سلم، فالوجوب بِالشَّرْعِ، نظر أَو لم ينظر، ثَبت أَو لم يثبت.
قَالُوا: لَو كَانَ ذَلِك، لجازت المعجزة من الْكَاذِب،
ولامتنع الحكم بقبح نِسْبَة الْكَذِب على الله قبل السّمع،
والتثليث وأنواع الْكفْر من الْعَالم. وَأجِيب بِأَن الأول إِن
امْتنع فلمدرك آخر، ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
...
هَامِش
" وَالْجَوَاب: أَن وُجُوبه " [وَإِن اسْتندَ عِنْدهم إِلَى
الْعقل، فَلَيْسَ بضروري " عِنْدهم " بل هُوَ " نَظَرِي
فَيَقُول بِعَيْنِه ": لَا أنظر حَتَّى أعرف وجوب النّظر،
وَلَا أعرف حَتَّى أنظر، فَإِذن الشُّبْهَة مُشْتَركَة
الْإِلْزَام، فَمَا كَانَ جَوَابا لَهُم فَهُوَ جَوَابنَا.
" وعَلى " أَنا نقُول: " إِن النّظر " فِي المعجز " لَا
يتَوَقَّف على وُجُوبه "] ، لِإِمْكَان أَن ينظر الْعَاقِل قبل
تعلق الْوُجُوب بِهِ.
" وَلَو سلم " توقفه عَلَيْهِ " فالوجوب " - وجوب النّظر -
إِنَّمَا هُوَ " بِالشَّرْعِ " عندنَا، " نظر أَو لم ينظر،
ثَبت " عِنْده الشَّرْع " أَو لم يثبت "، فَإِنَّهُ مَتى ظَهرت
المعجزة فِي نَفسهَا وَكَانَ صدق النَّبِي فِيمَا ادَّعَاهُ
[مُمكنا] ، والمدعو مُتَمَكنًا من النّظر والمعرفة فقد اسْتَقر
الشَّرْع وَثَبت، والمدعو مفرط فِي حق نَفسه.
الشَّرْح: " قَالُوا: لَو كَانَ ذَلِك " - كَذَا بِخَطِّهِ -
أَي: كَون الْحسن والقبح شرعيين قَائِما فِي نفس الْأَمر، وَلم
يَكُونَا عقليين - لحسن من الله كل شَيْء، وَلَو حسن مِنْهُ كل
شَيْء، " لجازت " وَحسنت " المعجزة من الْكَاذِب "،
وَحِينَئِذٍ يَقع التباس النَّبِي بالمتنبئ، " ولامتنع الحكم
بقبح نِسْبَة الْكَذِب على الله - تَعَالَى - قبل وُرُود
السّمع " بِحرْمَة الْكَذِب عَلَيْهِ - كَذَا بِخَط المُصَنّف.
وَفِي بعض النّسخ: نِسْبَة الْكَذِب إِلَى الله، أَي: لَا يقبح
أَن ينْسب الْكَذِب إِلَيْهِ قبل السّمع ولامتنع الحكم بقبح
عبَادَة الْأَصْنَام، " والتثليث، وأنواع الْكفْر من الْعَالم
" قبل الشَّرْع.
" وَأجِيب: بِأَن الأول " أَي: المعجزة على يَد الْكَاذِب -
لَا نسلم أَن امْتِنَاعه لذاته، بل " إِن امْتنع فلمدرك آخر "
غير الْقبْح الذاتي، وَهُوَ الْعَادة، وَلَا يلْزم عَلَيْهِ
التباس النَّبِي بالمتنبئ، فَإِن
(1/467)
وَالثَّانِي مُلْتَزم إِن أُرِيد [بِهِ]
التَّحْرِيم الشَّرْعِيّ.
هَامِش الالتباس إِنَّمَا يلْزم بِتَقْدِير الْوُقُوع، وَلَا
يلْزم من حسن الشَّيْء وُقُوعه، بل قد يمْتَنع عَادَة.
" وَالثَّانِي " وَهُوَ الْكَذِب، والتثليث إِلَى آخر مَا
ذَكرُوهُ " مُلْتَزم " عدم التَّحْرِيم فِيهِ " إِن أُرِيد
بِالتَّحْرِيمِ التَّحْرِيم الشَّرْعِيّ "؛ إِذْ لَا تَحْرِيم
قبل وُرُود الشَّرْع على أصولنا.
وَمِنْهُم من يَسْتَثْنِي الْمعرفَة وَيَقُول: لَا توجب
الْعُقُول سواهَا، فعلى هَذَا إِيرَاد أَنْوَاع الْكفْر
إِيرَاد مَا هُوَ من غير مَحل النزاع.
وَالْحق أَن الْعُقُول لَا توجب شَيْئا أَلْبَتَّة، وَمن ترهات
الْقَوْم قَوْلهم: لَو لم تجب الْمعرفَة بِالْعقلِ لجَاز
وُرُود الشَّرْع بإسقاطها، وَهَذَا من فن الهذيان؛ إِذْ
التَّكْلِيف بِالْجَهْلِ مُسْتَحِيل، فَإِنَّهُ فرع معرفتك من
كلفك، وَهُوَ تنَاقض، ثمَّ قد أخبر الله بِأَنَّهُ لَا يَأْمر
بالفحشاء، وتأخيره الْقَائِلين بالعقول، وخيبتهم فَمَا هم
وَالله بأعقل من قدماء الفلاسفة، وَلَا أَكثر رياضة مِنْهُم،
وَقد وَقَعُوا فِي الْكفْر بركونهم إِلَى عُقُولهمْ، واعتقد
كثير مِنْهُم خَمْسَة قدماء، وَكثير مِنْهُم اثْنَيْنِ.
فَلْينْظر النَّاظر إِلَى أَي شَيْء صَار أَمرهم، وانتهت
حَالهم، والسعيد من وعظ بِغَيْرِهِ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: عقول عَامَّة النَّاس مغمورة بالهوى،
مَكْفُوفَة عَن بُلُوغ الْغَايَة بالميل الطبعي، وَلِهَذَا
وَقع أَكثر الْعُقَلَاء فِي مهاوي الْحيرَة، ولحقتهم من الدهش
والتردد مَا لَا غَايَة وَرَاءه.
قَالُوا: وَدَلِيل هَذَا أَنا لم نجد أحدا غَادَرَهُ الله
وعقله خلي، بل أنزل الْكتب وَأرْسل الرُّسُل، وَلَو اسْتَقل
الْعقل بِشَيْء لَكَانَ بالحري إِن وجد وَاحِد خلي وعقله من
غير أَن يدْخل تَحت ربقة أحد من الْأَنْبِيَاء عَلَيْهِم
السَّلَام.
معَاذ الله أَن يكون ذَلِك، فليتق الْمَرْء ربه، وليق نَفسه
[وَلَا يدْخل فِي الدّين مَا لَيْسَ مِنْهُ، وليتبع الْوَحْي
النَّبَوِيّ، وليلتمس التأييد الإلهي، وَلَا يغتر بزخارف من
القَوْل، وأباطيل من البهت، فَإِنَّهَا خدع الشَّيْطَان
وتسويلات النَّفس، وخذلان من الله - تَعَالَى - يلْحق العَبْد،
وَلَا عُقُوبَة من الله أعظم من أَن يكل العَبْد إِلَى نَفسه]
، ويدعه وَحَوله وقوته، ويخليه ورأيه وعقله.
(1/468)
صفحة فارغة
هَامِش
فوحق الْحق لَيْسَ معتمدي فِي رد قَاعِدَة الْحسن والقبح على
مَا ذكره الْمُتَأَخّرُونَ من الْوُجُوه الْعَقْلِيَّة مِمَّا
قد ذكر المُصَنّف بعضه، فَإِن ذَا الْحجَّاج بسبيل من المضايقة
فِيهِ - على مَا يكثر تعداده من آي إلهية، وَأَحَادِيث نبوية
تَنْشَرِح لَهَا الصُّدُور، وتفرج بهَا مضايق الكروب.
فَإِن قلت: قد علم مَذْهَب أهل السّنة فِي إبِْطَال الْحسن
والقبح العقليين فَمَا الْمَعْنى بالعبارات الْوَاقِعَة فِي
كَلَام بعض فُقَهَاء أهل السّنة من تَحْلِيل وَتَحْرِيم
بِالْعقلِ؟
قلت: قد قدمنَا أَنه لَا يُنكر أحد أَن الْعقل مدرك، وَرُبمَا
أدْرك الحكم الشَّرْعِيّ بِالْقِيَاسِ، أَو أدْرك دُخُول
الْفَرْع الْخَاص تَحت الْقَاعِدَة الْكُلية، فَقيل فِيهِ:
عَقْلِي لذَلِك، لَا لِأَن الْعقل الْحَاكِم فِيهِ كَمَا
تَقول: الْوتر يصلى على الرَّاحِلَة، [وَمَا يصلى على
الرَّاحِلَة] سنة.
قَالَ: سنة بِالْعقلِ، أَي: بِمَعْنى إِدْرَاك الْعقل النتيجة،
لَا جعله الْوتر سنة.
وَمن هَذَا الْقَبِيل: أَن الشَّافِعِي - رَضِي الله عَنهُ -
أطلق القَوْل فِي " الْمُخْتَصر " بتعصية الناجش، وَهُوَ:
الَّذِي يزِيد فِي ... ... ... ... ... ... ... ... ... ...
(1/469)
صفحة فارغة
هَامِش ثمن السّلْعَة المعروضة للْبيع، وَهُوَ غير رَاغِب
فِيهَا، ليخدع النَّاس ويرغبهم فِيهَا، وَشرط فِي تعصية من
بَاعَ على بيع أَخِيه أَن يكون عَالما بِالْحَدِيثِ الْوَارِد
فِيهِ.
قَالَ الشارحون: إِن السَّبَب فِيهِ أَن النجش خديعة،
وَتَحْرِيم الخديعة وَاضح لكل أحد، مَعْلُوم من الْأَلْفَاظ
الْعَامَّة، وَإِن لم يعلم الْخَبَر فِيهِ بِخُصُوصِهِ،
وَالْبيع على بيع الْأَخ إِنَّمَا عرف تَحْرِيمه من الْخَبَر
الْوَارِد فِيهِ، فَلَا يعرفهُ من لَا يعرف الْخَبَر.
وَذكر بَعضهم: أَن تَحْرِيم الخداع يعرف بِالْعقلِ، وَإِن لم
يرد فِيهِ شرع.
وَاعْترض الرَّافِعِيّ على هَذَا بِأَنَّهُ لَيْسَ معتقدنا.
وَفِيه نظر، فَإِن هَذَا الْقَائِل لم يقل: إِن الْعقل حرم،
وَلَو أَرَادَ ذَلِك لم يقل: يعرف بِالْعقلِ. بل كَانَ يَقُول:
الْعقل يحرم الخداع، أَو مَا يُؤَدِّي هَذَا الْمَعْنى،
وَإِنَّمَا مُرَاده أَن الْعقل يدْرك تَحْرِيم الخداع من غير
زِيَادَة فِي الْفِكر وَالنَّظَر؛ إِذْ كل نجش خديعة. وكل
خديعة حرَام، وينتج عَن هَذَا أَن النجش حرَام - وَمرَاده
بقوله: " وَإِن لم يرد شرع " أَي: خبر خَاص، لَا القَوْل بِأَن
الْعقل يحسن ويقبح، كَمَا فهمه الرَّافِعِيّ.
فَإِن قلت: فَالْبيع على بيع الْأَخ إِضْرَار، وكما يعرف
تَحْرِيم النجش من الْأَلْفَاظ الْعَامَّة فِي تَحْرِيم الخداع
يعلم تَحْرِيمه من الْأَلْفَاظ الْعَامَّة فِي تَحْرِيم
الْإِضْرَار.
قلت: كَذَا اعْترض [بِهِ] الرَّافِعِيّ.
وَلقَائِل أَن يَقُول: لَا يُؤْخَذ البيع على البيع من
الْأَلْفَاظ الْعَامَّة، وَإِن أَخذ النجش.
وَالْفرق أَن النجش لَا يجلب للناجش مصلحَة؛ لِأَنَّهُ لَا
غَرَض لَهُ إِلَّا الزِّيَادَة فِي ثمن السّلْعَة لتجلب نفعا
لصَاحِبهَا يلْزم مِنْهُ الْإِضْرَار بالمشتري، وجلب مَنْفَعَة
لشخص بإضرار آخر حرَام، وَاضح من الْقَوَاعِد المقررة فِي
الشَّرْع.
(1/470)
(مَسْأَلَتَانِ)
على التنزل، الأولى: ... ... ... ... ... ... ... ... ...
هَامِش
وَأما البيع على البيع فَهُوَ يَدْعُو أَخَاهُ إِلَى فسخ البيع
ليَبِيعهُ خيرا مِنْهُ بأرخص، فَفِيهِ جلب مَنْفَعَة لَهُ من
حَيْثُ ترويج سلْعَة للْمُشْتَرِي من جِهَة شِرَاء الأجود
بأرخص، فهاتان مصلحتان لم تعارضهما إِلَّا مفْسدَة مُحْتَملَة
لَيست متيقنة، وَذَلِكَ لجَوَاز أَن البَائِع الأول يَبِيع
سلْعَته إِذا فسخ البيع من مُشْتَر آخر بذلك الثّمن أَو
أَزِيد، فَلَيْسَ يلْزم من تَحْرِيم جلب مَنْفَعَة وَاحِد
يلْزم عَنْهَا وُقُوع مفْسدَة، وَهُوَ الْوَاقِع فِي صُورَة
النجش - تَحْرِيم جلب مَنْفَعَة اثْنَيْنِ لمُجَرّد ظن ترَتّب
مفْسدَة [عَلَيْهَا] ، وَهُوَ الْوَاقِع فِي صُورَة البيع على
البيع يدْرك تَحْرِيمه لما ذَكرْنَاهُ بِخِلَاف النجش، أَو
أَنه وَإِن أدْركهُ فَلَيْسَ كَالْأولِ؛ إِذْ هُوَ فِيهِ
مُتَوَقف على مزِيد فكر وَنظر.
(" مَسْأَلَتَانِ ")
الشَّرْح: جرت عَادَة أَئِمَّتنَا بذكرهما بعد إبِْطَال
قَاعِدَة الْحسن والقبح " على " سَبِيل " التنزل "، وَتَسْلِيم
الْقَاعِدَة، وَأَنه لَا يلْزم من تَسْلِيمهَا صِحَة دَعْوَى
الْخُصُوم فِي هذَيْن الفرعين مَعَ أَن الْحَامِل لَهُم على
ارْتِكَاب الْعَظِيمَة فِي الدّين الذّهاب إِلَى هَذِه
الْقَاعِدَة إِنَّمَا هُوَ التَّوَصُّل إِلَى إِثْبَات مَا
ادعوهُ فِي هذَيْن الفرعين.
وَبِهَذَا يظْهر لَك أَن مَسْأَلَة - شكر الْمُنعم - فرع من
فروع مَسْأَلَة التحسين والتقبيح، وَلذَلِك يعبر عَنْهَا طوائف
بِلَفْظ: الْفَرْع.
(1/471)
شكر الْمُنعم لَيْسَ بِوَاجِب عقلا؛ ...
... ... ... ... ... ... ...
هَامِش
وَقَالَ إِلْكيَا الهراسي: بل هِيَ نفس مَسْأَلَة الْحسن
والقبح؛ إِذْ المُرَاد بالشكر عندنَا - امْتِثَال الْأَوَامِر
وَاجْتنَاب النواهي.
وَعِنْدهم ارْتِكَاب المستحسنات، وَاجْتنَاب المستقبحات قَالَ:
وَلَكنَّا أفردناها بِالذكر على عَادَة الْمُتَقَدِّمين.
قلت: وَحِينَئِذٍ فَلَا يحسن اسْتِعْمَال لفظ: الْفَرْع
فِيهَا، وَلَا لفظ: التنزل، وَقد عدل المُصَنّف عَن الأول
فَقَالَ: مَسْأَلَتَانِ، وَلم يقل: فرعان، وَوَقع فِي
الثَّانِي.
الْمَسْأَلَة " الأولى: [شكر] الْمُنعم لَيْسَ بِوَاجِب عقلا "
خلافًا للمعتزلة، وَبَعض أَصْحَابنَا كالصيرفي، وَأبي
الْعَبَّاس بن سُرَيج والقفال الْكَبِير، وَابْن أبي
هُرَيْرَة، وَالْقَاضِي أبي حَامِد، وَغَيرهم.
وَقد اعتذر القَاضِي فِي " التَّقْرِيب "، والأستاذ أَبُو
إِسْحَاق فِي " أُصُوله " وَالشَّيْخ أَبُو مُحَمَّد
(1/472)
لِأَنَّهُ لَو وَجب، لوَجَبَ لفائدة،
وَإِلَّا، كَانَ عَبَثا، وَهُوَ قَبِيح، وَلَا فَائِدَة لله
تَعَالَى؛ لتعاليه عَنْهَا، وَلَا للْعَبد فِي الدُّنْيَا؛
لِأَنَّهُ مشقة، وَلَا حَظّ للنَّفس فِيهِ، وَلَا فِي
الْآخِرَة؛ إِذْ لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِي ذَلِك.
قَوْلهم: الْفَائِدَة الْأَمْن من احْتِمَال الْعقَاب فِي
التّرْك، وَذَلِكَ لَازم الخطور - مَرْدُود بِمَنْع الخطور فِي
الْأَكْثَر، وَلَو سلم، فمعارض بِاحْتِمَال الْعقَاب على ...
... ...
هَامِش الْجُوَيْنِيّ فِي " شرح الرسَالَة " عَمَّن وَافق
الْمُعْتَزلَة من أَصْحَابنَا بِأَنَّهُم لم يكن لَهُم قدم
راسخ فِي الْكَلَام، وَرُبمَا طالعوا كتب الْمُعْتَزلَة
فاستحسنوا هَذِه الْعبارَة - وَهِي أَن شكر الْمُنعم وَاجِب "
عقلا "، فَذَهَبُوا إِلَيْهَا غافلين عَن تشعبها عَن أصُول
الْقَدَرِيَّة.
قَالَ القَاضِي: مَعَ علمنَا بِأَنَّهُم مَا انتحوا مسالكهم،
وَمَا اتبعُوا مقاصدهم.
قلت: وَهُوَ كَلَام حق بِالنِّسْبَةِ إِلَى من عدا الْقفال
الْكَبِير، أما الْقفال فَكَانَ إِمَامًا فِي الْكَلَام مقدما،
وَالَّذِي عندنَا أَنه لما ذهب إِلَى هَذِه الْمقَالة وَمَا
أشبههَا من قَوْله: يجب الْعَمَل بِخَبَر الْوَاحِد عقلا،
وبالقياس عقلا، وَنَحْو ذَلِك - كَانَ على الاعتزال، لَا بُد
أَن يكون رَجَعَ عَن ذَلِك.
وَاسْتدلَّ على عدم الْوُجُوب بِالْعقلِ، فَقَالَ: " لِأَنَّهُ
لَو وَجب لوَجَبَ لفائدة وَإِلَّا " فَلَو وَجب لَا لفائدة "
كَانَ " الْوُجُوب " عَبَثا، وَهُوَ قَبِيح "، وَالْعقل
الَّذِي عَلَيْهِ تفرع يدرؤه.
وَالْقَوْل بِالْوُجُوب لفائدة أَيْضا بَاطِل؛ لِأَن
الْفَائِدَة، إِمَّا رَاجِعَة إِلَى الله أَو إِلَى العَبْد، "
وَلَا فَائِدَة " فِي الشُّكْر " [لله تَعَالَى، لتعاليه
عَنْهَا، وَلَا للْعَبد] فِي الدُّنْيَا؛ لِأَنَّهُ مشقة "،
إِذْ هُوَ ارْتِكَاب الْوَاجِب وَاجْتنَاب الْمحرم، وَهُوَ
تَعب ناجز، " وَلَا حَظّ للنَّفس فِيهِ، وَلَا فِي الْآخِرَة؛
إِذْ لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِي ذَلِك " - كَذَا بِخَطِّهِ -
أَي: فِي ثَوَاب الْآخِرَة أَو نَفعهَا.
وَإِمَّا التزامهم الْقسم الثَّانِي - وَهُوَ عود الْفَائِدَة
إِلَى العَبْد فِي الدُّنْيَا.
الشَّرْح: " قَوْلهم: الْفَائِدَة الْأَمْن من احْتِمَال
الْعقَاب فِي التّرْك " لشكر الْمُنعم، " وَذَلِكَ "
الِاحْتِمَال " لَازم الخطور " ببال كل عَاقل يرى نَفسه متقلبا
فِي نعم محسن، ثمَّ لَا يشكره؛ فَإِن مثل هَذَا بالحري أَن
يخَاف عِقَاب الْمُنعم على نَفسه.
وَهُوَ قَول " مَرْدُود لمنع الخطور " خطور الْعقَاب " فِي "
بَال " الْأَكْثَر " من الْخلق.
" وَلَو سلم " خطوره لجَمِيع الْعُقَلَاء، " فمعارض
بِاحْتِمَال الْعقَاب على الشُّكْر "، فَإِذن احْتِمَال
(1/473)
الشُّكْر؛ لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك غَيره،
أَو لِأَنَّهُ كالاستهزاء، كمن شكر ملكا على لقْمَة، بل
اللُّقْمَة بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْملك أَكثر.
هَامِش الْعقَاب - وَإِن قَامَ عِنْد عدم الشُّكْر - فَهُوَ
قَائِم عِنْد وجدانه، إِمَّا " لِأَنَّهُ تصرف فِي ملك غَيره "
- كَذَا بِخَطِّهِ - وَفِي بعض النّسخ الْغَيْر، بِإِدْخَال
الْألف وَاللَّام على " غير " - وَهُوَ لحن.
وَإِنَّمَا قُلْنَا: تصرف فِي ملك غَيره؛ لِأَن مَا يتَصَرَّف
فِيهِ العَبْد من جوارحه، ملك لباريه، وَالتَّصَرُّف فِي ملك
غَيره بِغَيْر إِذْنه قَبِيح.
" أَو لِأَنَّهُ كالاستهزاء " بالمنعم، فَكَانَ الشاكر لرَبه "
كمن شكر ملكا على لقْمَة " وَقَامَ فِي المحافل يُنَادي بهَا،
فَإِن الْعُقَلَاء يعدونه مستهزئا بِهِ، بل اللُّقْمَة - وَإِن
حقرت " بِالنِّسْبَةِ إِلَى الْملك أكبر " من هَذِه النعم
وَإِن تعاظمت بِالنِّسْبَةِ إِلَى الله. واستغراق العَبْد
أَيَّامه ولياليه بالشكر، أَحْقَر فِي جنب الله من شكره للْملك
بتحريك إصبعه.
وعَلى مَسْأَلَة شكر الْمُنعم يتَخَرَّج مَسْأَلَة من لم تبلغه
الدعْوَة، فعندنا يَمُوت ناجيا، وَلَا يُقَاتل حَتَّى يدعى
إِلَى الْإِسْلَام، وَهُوَ مَضْمُون بِالْكَفَّارَةِ وَالدية،
وَلَا يجب ... ... ...
(1/474)
الثَّانِيَة: لَا حكم فِيمَا لَا يقْضِي
الْعقل فِيهِ بِحسن وَلَا قبح. وَثَالِثهَا: لَهُم الْوَقْف
عَن الْحَظْر وَالْإِبَاحَة. وَأما غَيرهم فانقسم عِنْدهم
إِلَى الْخَمْسَة.
هَامِش الْقصاص على قَاتله على الصَّحِيح؛ إِذْ لَيْسَ هُوَ
بِمُسلم.
قَالَ الشَّافِعِي رَضِي الله عَنهُ: وَلَا أعلم أحدا لم
يبلغهُ هَذَا، يَعْنِي: دَعْوَة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّم َ - إِلَّا أَن يكون قوم وَرَاء التّرْك.
قلت: وَهَذَا إِن كَانَ هُوَ فِي زمن الشَّافِعِي رَضِي الله
عَنهُ، وَأما الْآن فَمَا أَدْرِي أحدا إِلَّا وَقد بلغته
دَعْوَة مُحَمَّد - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم َ -.
الشَّرْح: " الثَّانِيَة: لَا حكم لِلْعَقْلِ فِيمَا لَا
يقْضِي الْعقل فِيهِ بِحسن وَلَا قبح ".
وللمعتزلة مَذَاهِب:
أَحدهَا: القَوْل بِالْإِبَاحَةِ.
وَثَانِيها: التَّحْرِيم.
" وَثَالِثهَا: لَهُم الْوَقْف عَن الْحَظْر وَالْإِبَاحَة.
وَأما غَيرهَا " فَمَا لِلْعَقْلِ فِيهِ قَضَاء بِحسن أَو قبح،
" فانقسم عِنْدهم إِلَى الْخَمْسَة " من وَاجِب، ومندوب،
وَحرَام، ومكروه، ومباح، بِحَسب تأدية الْعُقُول.
وَذكر القَاضِي: أَنه انقسم عِنْدهم إِلَى أَرْبَعَة: وَاجِب،
كشكر الْمُنعم وَالْعدْل، وَندب كالتفضل وَالْإِحْسَان،
وَحرَام كالجهل بالصانع وَكفر النِّعْمَة، ومباح، وَلم يذكر
الْمَكْرُوه.
وَاعْلَم أَن الْكَلَام فِي الْمَسْأَلَة فِي موضِعين:
أَحدهمَا: فِي حكم الْأَشْيَاء قبل وُرُود الشَّرَائِع
مُطلقًا، سَوَاء مَا قضى فِيهَا الْعقل بِشَيْء عِنْد
(1/475)
صفحة فارغة
هَامِش الْقَائِلين بقضايا الْعُقُول، وَمَا لم يقْض.
وَالصَّحِيح عِنْد أَصْحَابنَا: أَن الحكم مُرْتَفع إِذْ ذَاك،
سَوَاء كَانَت الْأَفْعَال ضَرُورِيَّة أم اختيارية، وَلَا
عَلَيْك إِن أشعرت عبارَة الإِمَام الرَّازِيّ بِخِلَاف هَذَا،
على أَن لَهَا محملًا صَحِيحا ذَكرْنَاهُ فِي غير هَذَا
الْمَكَان، وَهَذَا لِأَن الحكم عندنَا عبارَة عَن الْخطاب،
فَحَيْثُ لَا خطاب لَا حكم، وَاسْتَدَلُّوا أَيْضا بقوله
تَعَالَى: {قل أَرَأَيْتُم مَا أنزل الله لكم من رزق فجعلتم
مِنْهُ حَرَامًا وحلالا قل آللَّهُ أذن لكم أم على الله
تفترون} [سُورَة يُونُس: الْآيَة 59] فَمن ادّعى تَحْرِيم
شَيْء، أَو تَحْلِيله بِغَيْر إِذْنه، فقد افترى عَلَيْهِ.
وَاعْلَم أَنه رُبمَا عبر أَصْحَاب هَذَا القَوْل الْمُخْتَار
عَن قَوْلهم: بِالْوَقْفِ، وَهِي عبارَة أَكثر
الْمُتَقَدِّمين، ونقلت عَن شَيخنَا أبي الْحسن، وَأبي بكر
الصَّيْرَفِي، وَأبي بكر الْفَارِسِي وَأبي عَليّ الطَّبَرِيّ.
وَلَا تحسبن أَن المُرَاد بِهِ التَّرَدُّد فِي أَن الْأَمر
مَا هُوَ؟ وَإِنَّمَا مُرَادهم بِهِ أَن الحكم مَوْقُوف على
وُرُود السّمع مجزوم بِهِ قبل وُرُوده، وَهَذَا شَأْن كل
مَوْقُوف فِي الْوُجُود على غَيره، فافهمه، وَبِه صرح القَاضِي
فِي " التَّقْرِيب "، وَابْن السَّمْعَانِيّ، وَغَيرهمَا.
وَقَالَت الْمُعْتَزلَة: هَذِه الْأَشْيَاء إِمَّا أَن يقْضِي
فِيهَا الْعقل بِشَيْء، فَيتبع فِيهَا حكمه. وَإِمَّا أَلا
يقْضِي فَفِيهَا الْمذَاهب الْمَذْكُورَة فِي الْكتاب،
وَثَالِثهَا: لَهُم لَا لنا الْوَقْف.
ومرادهم بِهِ فِيمَا أَظن التَّرَدُّد، فَلم يُرِيدُوا
بِالْوَقْفِ مَا نريده نَحن، وَقد تَابعهمْ فِي كل قَول من
هَذِه الْأَقْوَال بعض فقهائنا مِمَّن لم يعرف عود كَلَامهم.
والموضع الثَّانِي: تفريعها على الأَصْل السَّابِق، فَيَقُول:
مَا لَا يقْضِي الْعقل فِيهِ بِشَيْء فَلَا يتَّجه تَعْرِيفه
على الأَصْل السَّابِق، وَهَذَا وَاضح لمن تدبره؛ فَإِن
الأَصْل السَّابِق إِنَّمَا هُوَ حَيْثُ يقْضِي الْعقل، هَل
يتبع حكمه؟
(1/476)
لِأَنَّهَا لَو كَانَت محظورة، ... ... ...
... ... ... ... ... ... ... ...
هَامِش
وَإِنَّمَا الْأَصْحَاب قَالُوا: هَب أَن ذَاك الأَصْل صَحِيح،
فَلم قضيتم حَيْثُ لَا قَضَاء لِلْعَقْلِ؟ وَلَيْسَ هَذَا
تَفْرِيعا على ذَلِك الأَصْل.
وَأما مَا لِلْعَقْلِ فِيهِ قَضَاء فهم ذَهَبُوا إِلَى انقسامه
حسب تأدية الْعقل، وَخَالفهُم أَصْحَابنَا.
وَعند هَذَا أَقُول: لم ترد هَذِه الْمَسْأَلَة على قَوْلك:
مَا لِلْعَقْلِ فِيهِ قَضَاء اتبع الْمُعْتَزلَة فِيهِ
عُقُولهمْ، وَنحن خالفناهم، وَذَلِكَ هُوَ عين مَسْأَلَة
التحسين والتقبيح، فَكيف يُقَال: إِنَّه فرع عَنهُ؟ ولعمري
كَذَلِك [يُقَال فِي مَسْأَلَة شكر الْمُنعم: الشُّكْر هُوَ
اجْتِنَاب الْقبْح وارتكاب الْحسن، وَذَلِكَ كَمَا قَالَ
إِلْكيَا: هُوَ عين مَسْأَلَة التحسين والتقبيح] .
وَقد لَاحَ بِهَذَا أَنه لَا تَفْرِيع لهاتين
الْمَسْأَلَتَيْنِ على قَاعِدَة الْحسن والقبح، والسر عِنْدِي
فِي إِفْرَاد الأولى بِالذكر - أَن أبلغ فقاقع الْمُعْتَزلَة
بتشنيعهم بِأَن شكر الْمُنعم عقلا، وصاروا يموجون فِي تشنيعهم
ومناداتهم علينا بِهَذَا القَوْل فَأَرَادَ أَصْحَابنَا
تَبْيِين سفاهتهم، وَتَخْصِيص هَذِه الْمَسْأَلَة بِالذكر،
وَأَنَّهَا مَمْنُوعَة على قَضِيَّة أصلهم، كَمَا هِيَ
مَمْنُوعَة على أصل غَيرهم.
والسر فِي إِفْرَاد الثَّانِيَة أَن أَصْحَابنَا يَقُولُونَ:
معاشر الْقَدَرِيَّة فيمَ هَذَا الطغيان؟ ! وَالْقَوْل
بِإِضَافَة الحكم إِلَى غير الرَّحْمَن، وَالْحَال حالان قبل
الشَّرْع وَبعده.
فَأَما بعده، فالشرع قَائِم، والمرجع إِلَيْهِ.
وَإِن قيل: فالحسن والقبح حق؛ إِذْ هُوَ كاشف لَا يُخطئ، فَلَا
فَائِدَة فِي العتو وَالْبَغي، وَإِطْلَاق القَوْل بِأَن
الْحَاكِم هُوَ الْعقل، وَرب الأرباب يُنَادي فِي كِتَابه:
{إِن الحكم إِلَّا لله} [سُورَة يُوسُف: الْآيَة 40] ، {وَمَا
كُنَّا معذبين حَتَّى نبعث رَسُولا} [سُورَة الْإِسْرَاء:
الْآيَة 15] ، {ألم يأتكم رسل مِنْكُم} [سُورَة الزمر: الْآيَة
71] ، {ألم يأتكم نَذِير} [سُورَة تبَارك: الْآيَة 8] ، {رسلًا
مبشرين ومنذرين لِئَلَّا يكون للنَّاس على الله حجَّة} [سُورَة
النِّسَاء: الْآيَة 165] إِلَى غير ذَلِك من الْآي.
وَأما قبله فَمَا لَيْسَ لِلْعَقْلِ فِيهِ قَضَاء على أصولكم
لَا يتَّجه القَوْل فِيهِ بالحظر؛
الشَّرْح: " لِأَنَّهَا " أَي الْمَنَافِع - وَالْحَالة هَذِه
- " لَو كَانَت محظورة " عِنْد توهم عقولكم فِيهَا
(1/477)
وفرضنا ضدين، لكلف بالمحال.
الْأُسْتَاذ: إِذا ملك جواد بحرا لَا ينزف، ... ... ... ...
... ... ... ...
هَامِش الْحَظْر، وَكَانَ فِيهَا فعلان " وفرضنا ضدين " لَا
ثَالِث لَهما كالحركة والسكون " لكلف بالمحال " إِن حظرتم
جَمِيعهَا، وَإِن خصصتم بَعْضهَا بالحظر دون بعض، فَهُوَ
تَرْجِيح من غير مُرَجّح، فقد سقط القَوْل بالحظر.
وَاعْلَم أَن المُرَاد بالضدين هُنَا مَا يَسْتَحِيل خلو
الْمحل عَنْهُمَا، كَذَا ذكره القَاضِي وَإِمَام
الْحَرَمَيْنِ، وَغَيرهمَا.
لَا يُقَال: مثل هذَيْن الضدين من الْأَفْعَال الضرورية،
وَالْكَلَام فِي الاختيارية لِأَن الْكَلَام فيهمَا جَمِيعًا
على حد سَوَاء كَمَا أسلفناه.
قَالَ إِمَام الْحَرَمَيْنِ: وَإِن خصصوا الْحَظْر بِمَا
يَعْتَقِدُونَ الْخُلُو عَنهُ أصلا، فمرجعهم إِلَى أَن
التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر بِغَيْر إِذْنه قَبِيح، وَقد مضى
من الْكَلَام مَا يدرؤه.
الشَّرْح: وَقَالَ " الْأُسْتَاذ " فِي الرَّد على الحاظر: "
إِذا ملك جواد بحرا لَا ينزف "، وَهُوَ
(1/478)
وَأحب مَمْلُوكه قَطْرَة، فَكيف يدْرك
تَحْرِيمهَا عقلا.
قَالُوا: تصرف فِي ملك الْغَيْر. قُلْنَا: يَنْبَنِي على
السّمع، وَلَو سلم، ففيمن يلْحقهُ ضَرَر مَا، وَلَو سلم،
فمعارض بِالضَّرَرِ الناجز.
هَامِش مستغن عَنهُ، " وَأحب مَمْلُوكه قَطْرَة "، وَهُوَ
عطشان لاهث، " فَكيف يدْرك تَحْرِيمهَا عقلا " حَتَّى يقْضى
بِهِ.
وَهَذَا الْكَلَام من الْأُسْتَاذ وَاضح فِي تسفيه رَأْي
الْخُصُوم، وَفِي أَن الْكَلَام فِي الضَّرُورِيّ والاختياري
سَوَاء، إِذْ مثل بالعطشان اللاهث.
وَلَكِن قَالَ الإِمَام: لَا حَاجَة إِلَيْهِ مَعَ وضوح
مَسْلَك الْبُرْهَان.
الشَّرْح: " قَالُوا: تصرف فِي ملك الْغَيْر " بِغَيْر إِذْنه،
فَيكون حَرَامًا.
" قُلْنَا ": لَا نسلم، بل " يبْنى على السّمع "، وَلَوْلَا
وُرُود السّمع لما عرفنَا تَحْرِيم التَّصَرُّف فِي ملك
الْغَيْر، وَإِن كُنَّا قائلين بقاعدة الْعقل.
" وَلَو سلم " أَنه مِمَّا يدْرك تَحْرِيمه عقلا " ففيمن
يلْحقهُ ضَرَر " بِالتَّصَرُّفِ فِي ملكه لَا على الْإِطْلَاق
وَالله - تَعَالَى - منزه عَن لحاق الضَّرَر، فَلَا يقبح عقلا
التَّصَرُّف فِي ملكه.
" وَلَو سلم " أَنه لَا يجوز التَّصَرُّف فِي ملك الْغَيْر
مُطلقًا، سَوَاء كَانَ مِمَّن يلْحقهُ ضَرَر أم لَا. " فمعارض
بِالضَّرَرِ الناجز "، فَإِنَّهُ لَو لم يتَصَرَّف، وانتظر
الْإِذْن الشَّرْعِيّ لتضرر فِي الْحَال بترك اللَّذَّة
العاجلة، وَالْعقل يقْضِي بالاحتراز من الضَّرَر العاجل،
فَهَذَا تَمام الرَّد على الْقَائِلين بالحظر.
(1/479)
وَإِن أَرَادَ الْمُبِيح أَن لَا حرج،
فَمُسلم وَإِن أَرَادَ خطاب الشَّارِع، فَلَا شرع، وَإِن
أَرَادَ حكم الْعقل، فالفرض أَنه لَا مجَال لِلْعَقْلِ فِيهِ.
قَالُوا: خلقه وَخلق المنتفع بِهِ، فالحكمة تَقْتَضِي
الْإِبَاحَة. قُلْنَا: معَارض بِأَنَّهُ ملك غَيره، وخلقه
ليصبر، فيثاب.
هَامِش
الشَّرْح: " وَإِن أَرَادَ الْمُبِيح [أَن] لَا حرج " فِي
هَذِه الْأَفْعَال " فَمُسلم "؛ إِذْ الْحَرج إِنَّمَا يكون
بِالشَّرْعِ " وَإِن أَرَادَ خطاب الشَّرْع فَلَا " نسلم؛ إِذْ
لَا " شرع ".
" وَإِن أَرَادَ حكم الْعقل " بالتخيير " فالفرض أَنه لَا
مجَال لِلْعَقْلِ فِيهِ "، أَي: فِيمَا لَيْسَ لِلْعَقْلِ
فِيهِ قَضَاء؛ إِذْ كلامنا فِيمَا لَا يحكم الْعقل فِيهِ بِحسن
وَلَا قبح.
الشَّرْح: " قَالُوا: خلقه "، أَي: خلق العَبْد، " وَخلق "
الشَّيْء " المنتفع بِهِ فالحكمة تقضي الْإِبَاحَة "، وَإِلَّا
لَكَانَ خلقه عَبَثا، وَهُوَ قَبِيح؛ للضَّرَر، وَلم يقل بِهِ
عَاقل.
وَإِنَّمَا قَالَ: المنتفع بِهِ، وَلم يقل: الرزق؛ لِأَن
الْحَرَام [عِنْدهم] لَيْسَ برزق، فَلَو قَالَ: الرزق.
قيل: إِنَّمَا يكون رزقا على أصلك بعد إِثْبَات أَنه حَلَال.
" قُلْنَا: معَارض بِأَنَّهُ ملك غَيره "، فَلَا يجوز
التَّصَرُّف فِيهِ، " وخلقه " للنفع وَلَا ينْحَصر النَّفْع
فِي التَّنَاوُل، بل جَازَ أَن يكون " ليصبر " العَبْد " فيثاب
"، وَالثَّوَاب نفع، فَهَذَا تَمام الرَّد على الْقَائِلين
بِالْإِبَاحَةِ.
(1/480)
وَإِن أَرَادَ الْوَاقِف أَنه وقف لتعارض
الْأَدِلَّة، ففاسد.
هَامِش
الشَّرْح: " وَإِن أَرَادَ الْوَاقِف أَنه وقف لتعارض
الْأَدِلَّة " فَلم يدر الْحق فِي أَي طرف " ففاسد " لما مر من
بطلَان الْإِبَاحَة وَالتَّحْرِيم، وَإِن أَرَادَ أَن الحكم
مَوْقُوف على وُرُود السّمع وَلَا حكم فِي الْحَال فَصَحِيح -
وَهُوَ مَذْهَبنَا - وَهَذَا ذكره الْغَزالِيّ، وَتَبعهُ
الْآمِدِيّ وَالْمُصَنّف.
وَإِنَّمَا قَالَ ذَلِك؛ لِأَن الواقفية مِنْهُم أَصْحَابنَا،
وَمِنْهُم الْمُعْتَزلَة، وَمُرَاد أَصْحَابنَا بِالْوَقْفِ
غير مُرَاد الْمُعْتَزلَة كَمَا عرفت، وَهَذَا كُله فِيمَا قبل
الشَّرْع مِمَّا لم يقْض الْعقل فِيهِ بِحسن وَلَا قبح، أما
مَا لَهُ فِيهِ قَضَاء، فقد عرفت أَنهم قسموه إِلَى
الْخَمْسَة، وَلم يتَكَلَّم المُصَنّف عَلَيْهِ، وَعند هَذَا
يظْهر لَك أَن مَا لَا يقْضِي فِيهِ الْعقل بِشَيْء لَا يكون
فرعا لمسألة الْحسن والقبح؛ إِذْ هِيَ مَقْصُورَة على مَا
لِلْعَقْلِ [فِيهِ] قَضَاء، وَإِنَّمَا كَانَ يتَّجه لَو
تكلمُوا فِيمَا لِلْعَقْلِ فِيهِ قَضَاء، فَكَانَ فِي
الْحَقِيقَة لَيْسَ فرعا، بل هُوَ عين الْمَسْأَلَة كَمَا
ذَكرْنَاهُ.
وَلَو قيل: إِذا كُنْتُم معاشر الْقَدَرِيَّة تتبعون
الْعُقُول، وَفرض مَسْأَلَتنَا أَنه لَا عقل فَبِأَي وَجه
حكمتم لَكَانَ صَوَابا قَاضِيا على مَا أوردهُ من الشّبَه
الْعَقْلِيَّة فِي طرفِي الْحَظْر وَالْإِبَاحَة بِالْفَسَادِ
والتناقض، إِذْ فرضوا الْكَلَام فِيمَا لَا تقضي فِيهِ
الْعُقُول، ثمَّ قضوا واستندوا إِلَى الْعقل، وَهَذَا لعمر
الله تنَاقض لائح، وَقد أَشَرنَا [إِلَيْهِ] آنِفا.
(1/481)
|