روضة الناظر وجنة المناظر في أصول الفقه على مذهب الإمام أحمد
بن حنبل ج / 1 ص -97-
الباب الأول: في حقيقة الحكم وأقسامه1
أقسام أحكام التكليف خمسة: واجب، ومندوب، ومباح، ومكروه،
ومحظور.
وجه هذه القسمة: أن خطاب الشرع إما أن يرد باقتضاء الفعل
أو الترك أوالتخيير بينهما.
فالذي يرد باقتضاء الفعل أمر، فإن اقترن به إشعار بعدم
العقاب على الترك فهو ندب، وإلا فيكون إيجابًا. والذي يرد
باقتضاء الترك نهي، فإن أشعر بعدم العقاب على الفعل
فكراهة، وإلا فحظر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا العنوان أخذناه من كلام المصنف في المقدمة وإن لم
يذكره هنا.
وقد بدأ المصنف ببيان أقسام الحكم ولم يتعرض لتعريفه،
فلنذكر تعريفه لغة واصطلاحًا.
فالحكم في اللغة:
المنع والقضاء، يقال: حكمت عليه بكذا: أي منعته من خلافه،
وحكمت بين الناس: قضيت بينهم وفصلت، ومنه حكمة اللجام،
وهو: ما أحاط بحنكي الدابة، سميت بذلك لأنها تمنعها من
الجري الشديد. وهي أيضًا حديدة في اللجام تكون على أنف
الفرس وحنكه تمنعه من مخالفة راكبه، ومنه الحكمة، لأنها
تمنع صاحبها عن أخلاق الأراذل والفساد. "القاموس المحيط 4/
9". =
ج / 1 ص -98-
........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الحكم في الاصطلاح:
أما الحكم في الاصطلاح العام فهو: إثبات أمر لأمر أو نفيه
عنه، وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:
1- حكم عقلي: وهو ما يعرف فيه العقل النسبة إيجابًا أو
سلبًا، نحو: الكل أكبر من الجزء إيجابًا. والجزء ليس أكبر
من الكل سلبًا.
2- حكم عادي: وهو ما عرفت فيه النسبة بالعادة، مثل: كون
حرارة الجسم دليلًا على المرض، وتعاطي الدواء مزيلًا لها.
3- حكم شرعي، وهو المقصود هنا:
وللحكم الشرعي تعريف عند الفقهاء، وآخر عند الأصوليين،
والسبب في هذا الاختلاف: أن الأصوليين يعرفونه بما يفيد
أنه خطاب الشارع الذي يبين صفة الفعل الصادر من المكلف.
والفقهاء يعرفونها بما يفيد أنه أثر ذلك الخطاب.
فقوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ}
[سورة البقرة الآية: 43، 110]، وهو الحكم عند الأصوليين،
لأنه خطاب الله تعالى الذي بين صفة هي الوجوب لفعل صادر عن
المكلف وهو الصلاة.
والوجوب الذي أثبته الخطاب المتقدم: هو الحكم عند الفقهاء،
ولذلك كان تعريف الحكم عند الفقهاء: هو الأثر المترتب على
خطاب الله تعالى، أو هو: مدلول الخطاب الشرعي وأثره.
"انظر: الإحكام للآمدي 1/ 95، فواتح الرحموت 1/ 54".
معنى الحكم عند الأصوليين:
لعلماء الأصول في تعريف الحكم الشرعي اتجاهات مختلفة،
فبعضهم عرفه بأنه: "خطاب الله -تعالى- المتعلق بأفعال
المكلفين بالاقتضاء أو التخيير" وعلى ذلك لا يكون شاملًا
للحكم الوضعي، وقالوا: إن الحكم الوضعي -كما سيأتي تعريفه-
يرجع في النهاية إلى الحكم التكليفي.
وبعضهم أبدل كلمة "المكلفين" بكلمة "العباد" ليكون التعريف
شاملًا للأفعال التي تصدر من غير المكلفين، ويترتب عليها
أثرها من وجوب الحقوق المالية كضمان المتلفات والنفقات وما
أشبه ذلك. =
ج / 1 ص -99-
........................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ونحن نرى أن تعريف الجمهور للحكم الشرعي أشمل وأوضح من
غيره، وأنه لا داعي للتجوز أو التقدير، فما لا يحتاج إلى
تقدير أولى مما يحتاج، ولذلك عرفوه بأنه: "خطاب الله تعالى
المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء أو التخيير أو الوضع".
والخطاب في الأصل: توجيه الكلام للغير ليفهمه، ويطلق
-أيضًا- على الكلام الموجه نفسه. والمراد به هنا: كلام
الله تعالى، فهو المشرع وحده دون غيره.
ومعنى تعلق الخطاب بأفعال المكلفين: ارتباطه بهذه الأفعال
على وجه يبين صفتها من كونها مطلوبة الفعل أو الترك أو
مخيرًا فيها.
والاقتضاء معناه: الطلب، سواء أكان طلب فعل أم كان طلب
ترك.
فطلب الفعل إن كان جازمًا فهو الواجب، وإن كان غير جازم
فهو المندوب. وطلب الترك إن كان جازمًا فهوالحرام، وإن كان
غير جازم فهو المكروه.
والتخيير معناه: التسوية بين الفعل والترك، وهو الإباحة.
وبتقييد الحكم الشرعي بأنه: خطاب الله تعالى، خرج خطاب
غيره، إذ لا حكم إلا لله تعالى.
وبقيد "المتعلق بأفعال المكلفين" خرج خمسة أشياء:
1- الخطاب المتعلق بذات الله تعالى، مثل قوله سبحانه:
{شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ
وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ...} [سورة آل عمران الآية: 18].
2- الخطاب المتعلق بصفاته سبحانه، مثل قوله تعالى: {اللَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ...} [سورة البقرة الآية: 255].
3- الخطاب المتعلق بفعله -جل شأنه- مثل قوله تعالى:
{اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ...} [سورة الزمر الآية: 62].
4- الخطاب المتعلق بذوات المكلفين، مثل قوله تعالى:
{وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ...} [سورة الأعراف الآية: 11].
5- الخطاب المتعلق بالجمادات، مثل قوله تعالى:
{وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً...} [سورة الكهف الآية: 47]. =
ج / 1 ص -100-
.....................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فكل ما تقدم لا يشمله الحكم الشرعي المتقدم.
والمراد بالفعل: ما يعده العرف فعلًا، سواء أكان من أفعال
القلوب، كالاعتقادات، أم كان من أفعال الجوارح.
والمراد بالمكلف: من قام به التكليف، وهو البالغ، العاقل،
الذاكر، غير المكره وبلغته الدعوة.
والمراد بالوضع -في التعريف- أن الشارع قد ربط بين أمرين
مما يتعلق بالمكلفين، كأن يربط بين الوارثة، ووفاة شخص،
فتكون الوفاة سببًا للميراث، أو يربط بين أمرين يكون
أحدهما شرطًا شرعيًّا لتحقيق الآخر، وترتب آثاره. كاشتراط
الوضوء لصحة الصلاة، وكاشتراط الشهود لصحة عقد النكاح،
ولذلك سمي وضعيًّا، وهذا لا يخرجه عن كونه شرعيًّا. "شرح
العضد على المختصر 1/ 221".
أنواع الحكم الشرعي:
وبناء على التعريف المتقدم يتنوع الحكم الشرعي إلى نوعين:
حكم تكليفي، وحكم وضعي:
1- الحكم التكليفي:
وهو: خطاب الله -تعالى- المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء
أو التخيير.
وبناء على ذلك تكون الأحكام التكليفية خمسة:
1- الإيجاب: وهو الخطاب الدال على طلب الفعل طلبًا جازمًا.
مثل قوله تعالى:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ} [سورة البقرة الآيتان 43، 110].
2- الندب: وهو الخطاب الدال على طلب الفعل طلبًا غير جازم،
نحو قوله تعالى:
{... وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ
أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ
خَيْرًا} [سورة النور الآية: 33].
فالأمر بمكاتبة العبد حتى يعتق ليست واجبة، وإنما هي
مندوبة حث عليها الإسلام تحقيقًا للحرية التي أردها
الإسلام للجميع، فالمالك حر التصرف فيما يملك، فالأمر هنا
على سبيل الندب، ومنه قوله -صلى الله عليه وسلم-: "من توضأ
يوم الجمعة فبها ونعمت، ومن اغتسل فالغسل أفضل". "أخرجه
أحمد وأبو داود والترمذي =
ج / 1 ص -101-
.............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والنسائي وابن خزيمة: الفتح الكبير 3/ 182".
3- التحريم: وهو الخطاب الدال على طلب الكف طلبًا جازمًا،
مثل قوله تعالى:
{وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَق....}
[سوة الإسراء الآية: 33].
4- الكراهة: وهي الخطاب الدال على طلب الكف عن الفعل طلبًا
غير جازم، مثل قوله -صلى الله عليه وسلم-: "إذا دخل أحدكم
المسجد فلا يجلس حتى يركع ركعتين". أخرجه البيهقي وابن عدي
في الكامل "الفتح 1/ 106". فالجلوس بدون صلاة مكروه.
5- الإباحة: وهي الخطاب الدال على تخيير المكلف بين الفعل
والترك، مثل قوله تعالى:
{وَكُلُوا
وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا...}
[سورة الأعراف الآية: 31].
وهذا تقيسم جمهور العلماء.
أما الحنفية: فالأحكام عندهم سبعة: الفرض، والإيجاب،
والندب، والتحريم، والكراهة التحريمية، والكراهة التنزيهة،
والإباحة، فزادوا على الجمهور الفرض، وكراهة التحريم.
ويتفرق الحكم التكليفي عن الحكم الوضعي بما يلي:
أولًا: أن المقصود من الحكم التكليفي طلب فعل من المكلف،
أو الكف عنه، أو التخيير بين الفعل والترك.
وأما الحكم الوضعي: فليس فيه تكليف أو تخيير، وإنما فيه
ارتباط أمر بآخر على وجه السببية أو الشرطية أو المانعية
الخ....
ثانيًا: أن الحكم التكليفي مقدور للمكلف، وفي استطاعته أن
يفعله أو يكف عنه، ولذلك يثاب على الفعل ويعاقب على الترك.
أما الحكم الوضعي: فقد يكون مقدورًا للمكلف، مثل: صيغ
العقود، التي هي سبب لصحتها، واقتراف الجرائم، فهي سبب
لترتب أحكامها، واستحقاق العقوبة.
وقد يكون غير مقدور للمكلف، مثل: القرابة التي هي سبب
للإرث، فالإرث سبب من أسباب الملك، وهما غير مقدورين
للمكلف، مثل: دلوك الشمس فإنه سبب لوجوب الصلاة. والدلوك
ليس من فعل المكلف ولا قدره له على إيجاده. =
ج / 1 ص -102-
[الواجب وتقسيماته]
وحد الواجب: ما توعد بالعقاب على تركه.
وقيل: ما يعاقب تاركه.
وقيل: ما يذم تاركه شرعًا1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ثالثًا: أن الحكم التكليفي لا يتعلق إلا بالمكلف، أما
الحكم الوضعي: فإنه يتعلق بالجميع، فالصبي -مثلًا- تجب
الزكاة في ماله وإن كان غير مكلف، لوجود سبب الزكاة، وهو
ملك النصاب، ويضمن وليه ما يتلفه وهكذا. انظر: "أصول الفقه
الإسلامي للدكتور وهبة الزحيلي 1/ 43-44".
1 هذه التعريفات التي أوردها المصنف للواجب هي باعتبار
الاصطلاح الشرعي. أما الواجب في اللغة: فيطلق على معنيين:
أحدهما: الساقط، مأخوذ من: "وجب" بمعنى "سقط" قال الله
تعالى:
{فَإِذَا
وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا
الْقَانِعَ وَالْمُعْتَر} [سورة الحج الآية: 36]. ومعنى "وجبت جنوبها": أي سقطت جنوبها على
الأرض بسبب الذبح.
ثانيهما: اللزوم، يقال: وجب الشيء وجوبًا، أي: لزم لزومًا.
وقول المصنف: "ما توعد بالعقاب على تركه" لا ينافي عفو
الله تعالى ومغفرته، لقوله تعالى:
{إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ
مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاء} [سورة النساء الآية: 116] فإن الله تعالى قد يخلف إيعاده، لكنه -جل
شأنه- لا يخلف وعده.
ولذلك رجح كثير من العلماء التعريف الثالث وهو: "ما يذم
تاركه شرعًا" لأن الذم أمر ناجز يترتب على الترك، أما
العقوبة فمشكوك فيها، لأنه ربما لا يعاقب، وإن كان يذم على
ترك الواجب.
وهو مأخوذ من تعريف أبي بكر الباقلاني وعبارته: "هو الذي
يذم تاركه ويلام شرعًا بوجه ما" وقوله "بوجه ما" ليشمل
الواجب المخير، فإنه يلام على تركه مع بدله، والواجب
الموسع، فإنه على تركه مع ترك العزم على الامتثال، =
ج / 1 ص -103-
والفرض
هو الواجب على إحدى الروايتين1؛ لاستواء حدهما2، وهو قول
الشافعي3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وكذلك الواجب الكفائي، فإنه يلام إذا لم يفعله، ولم
يفعله غيره أيضًا. انظر: "روضة الناظر مع الشرح لبدران 1/
91".
1 أي: المنقولتين عن الإمام أحمد -رضي الله عنه- وهو رأي
الجمهور من الأصوليين، وقد وافق الجمهور الحنفية في
التفرقة بين الفرض والواجب في بعض الفروع الفقهية، كما في
باب الحج: فقالوا: إن الفرض إذا تركه الحاج بطل حجه
كالوقوف بعرفة، أما الواجب: فإنه يجبر بدم كرمي الجمرات.
2 هذا هو دليل الجمهور، وقد أورد الإمام الطوفي من النصوص
ما يدل على أن السقوط يأتي في اللغة بمعنى وقوع الشيء من
أعلى إلى أسفل، كقولنا: سقط الحجر من الجبل، وقوله تعالى:
{إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ
عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} [سورة سبأ الآية: 9]، كما يأتي بمعنى: وقوعه على المكلف من الله
سبحانه وتعالى، الذي هو فوق عباده. "شرح مختصر الروضة جـ1
ص266".
على أن علماء اللغة قد نصوا أن الوجوب يأتي بمعنى السقوط،
كما يأتي بمعنى الثبوت واللزوم، على سبيل الاشتراك اللفظي،
فيحمل هنا على اللزوم ليتناسب مع المعنى المراد من الواجب،
وهي قرينة ترجح حمله على أحد معنييه كما هو الشأن في
المشترك اللفظي.
3 هو: محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع الهاشمي،
أبو عبد الله، الإمام الجليل، صاحب المذهب المعروف، ولد
بغزة سنة 150هـ من أشهر مؤلفاته: كتاب الأم، والرسالة،
وأحكام القرآن. توفي في مصر سنة 204هـ.
انظر: في ترجمته: طبقات الشافعية الكبرى للسبكي "1/ 192"،
شذرات الذهب "2/ 9"، وفيات الأعيان "3/ 305".
وهذا الرأي ليس للشافعي وحده، وإنما هو رأي الإمام مالك،
وكثير من الحنابلة: انظر: "العدة 2/ 376، المستصفى 1/ 65،
شرح العضد على مختصر ابن الحاجب 1/ 228".
ج / 1 ص -104-
والثانية: الفرض آكد.
فقيل: هو1 اسم لما يقطع بوجوبه، كمذهب أبي حنيفة2.
وقيل: ما لا يتسامح في تركه عمدًا ولا سهوًا، نحو: أركان
الصلاة، فإن الفرض في اللغة: التأثير، ومنه فُرضة النهر
والقوس3.
والوجوب: السقوط، ومنه: "وجبت الشمس والحائط" إذا سقطا،
ومنه قوله تعالى:
{فَإِذَا
وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا
الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ}4 فاقتضى تأكد الفرض على الواجب شرعا؛ ليوافق معناه لغة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 الضمير عائد على الفرض، وهو تفريع على مذهب من يفرق بين
الفرض والواجب.
2 هو: النعمان بن ثابت بن زوطي، أحد الأئمة الأربعة
المشهورين، ولد عام 80هـ. كان فقيه العراق وإمام أهلها بلا
منازع، قال عنه الشافعي: "الناس عيال على أبي حنيفة في
الفقه" توفى سنة 150هـ "وفيات الأعيان 5/ 39، الشذرات 1/
227".
3 قال الجوهري في الصحاح "مادة فرض": الفرض: الحز في
الشيء، وفرض القوس: هو الحز الذي يقع فيه الوتر، والفريض:
السهم المفروض فوقه، والتفريض: التحزيز، والمفرض: الحديدة
التي يحز بها، والفراض: فوهة النهر.
قال الطوفي: "وإذا ثبت ذلك، فالفرض أخص من السقوط، إذ لا
يلزم -مثلًا- من سقوط الحجر ونحوه على الأرض أن يحزّ ويؤثر
فيها، ويلزم من حزّه وتأثيره في الأرض أن يكون قد سقط
واستقر عليها، وإذا كان كذلك وجب اختصاص الفرض بقوة في
الحكم، كما اختص بقوة في اللغة، حملًا للمسميات الشرعية
على مقتضياتها اللغوية" "شرح مختصر الروضة 1/ 275".
4 سورة الحج من الآية: 36.
ج / 1 ص -105-
ولا
خلاف في انقسام الواجب إلى، مقطوع ومظنون، ولا حجر في
الاصطلاحات بعد فهم المعنى1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هذا إشارة إلى أن الخلاف لفظي. قال الطوفي: "إن
النزاع في المسألة إنما هو في اللفظ، مع اتفاقنا على
المعنى، إذ لا نزاع بيننا وبينهم في انقسام ما أوجبه الشرع
علينا وألزمنا إياه من التكاليف، إلى قطعي وظني، واتفقنا
على تسمية الظني واجبًا، وبقي النزاع في القطعي، فنحن
نسميه واجبًا وفرضًا بطريق الترادف، وهم يخصونه باسم
الفرض، وذلك مما لا يضرنا وإياهم، فليسموه ما شاءوا" "شرح
المختصر 1/ 276".
فصل: [في تقسيم
الواجب باعتبار ذاته]
والواجب ينقسم إلى معين، وإلى مبهم في أقسام محصورة، فيسمى
واجبًا مخيرًا، كخصلة من خصال الكفارة.
وأنكرت المعتزلة ذلك وقالوا: لا معنى للوجوب مع التخيير.
ولنا: أنه جائز عقلًا وشرعًا:
أما العقل2: فإن السيد لو قال لعبده: أوجبت عليك خياطة هذا
القميص، أو بناء هذا الحائط في هذا اليوم، أيهما فعلت
اكتفيت به، وإن تركت الجميع عاقبتك، ولا أوجبهما عليك
معًا، بل أحدهما لا بعينه، أيهما شئت، كان كلامًا معقولًا.
ولا يمكن دعوى إيجاب الكل؛ لأنه
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في هذا إشارة إلى أن الخلاف لفظي. قال الطوفي: "إن
النزاع في المسألة إنما هو في اللفظ، مع اتفاقنا على
المعنى، إذ لا نزاع بيننا وبينهم في انقسام ما أوجبه الشرع
علينا وألزمنا إياه من التكاليف، إلى قطعي وظني، واتفقنا
على تسمية الظني واجبًا، وبقي النزاع في القطعي، فنحن
نسميه واجبًا وفرضًا بطريق الترادف، وهم يخصونه باسم
الفرض، وذلك مما لا يضرنا وإياهم، فليسموه ما شاءوا" "شرح
المختصر 1/ 276".
2 المصنف استدل على الجواز من وجهين:
الأول: قوله "فلأن السيد لو قال لعبده... إلخ".
والوجه الثاني: قوله بعد ذلك: "ولأنه لا يمتنع في العقل...
إلخ" ومعناه:
أن الشارع قد يقصد عدم التعيين تخفيفًا وتيسيرًا على
المكلفين، حتى يستطيع كل مكلف أن يأتي بما هو مقدور له،
وهذا من محاسن التشريع الإسلامي.
ج / 1 ص -106-
صرح
بنقيضه ولا دعوى أنه ما أوجب شيئًا أصلًا؛ لأنه عرضه
للعقاب بترك الكل، ولا أنه أوجب واحدًا معينًا، لأنه صرح
بالتخيير، فلم يبق إلا أنه أوجب واحدا لا بعينه.
ولأنه لا يمتنع في العقل أن يتعلق الغرض بواحد غير معين،
لكون كل واحد منهما وافيًا بالغرض حسب وفاء صاحبه، فيطلب
منه قدر ما يفي بغرضه، والتعيين فضلة لا يتعلق بها الغرض،
فلا يطلبه منه.
وأما الشرع: فخصال الكفارة1، بل إعتاق الرقبة بالإضافة إلى
إعتاق العبيد2، وتزويج المرأة الطالبة للنكاح من أحد
الكفؤين الخاطبين، وعقد الإمامة لأحد الرجلين الصالحين
لها، ولا سيبل إلى إيجاب الجميع، وأجمعت الأمة3 على أن
جميع خصال الكفارة غير واجب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 المراد: خصال كفارة اليمين الواردة في سورة المائدة آية
92 وهي قوله تعالى:
{لا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ
يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ
فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ
أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ
أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ}.
2 قصده من هذه العبارة: أن التخيير وارد في الرقبة التي
سيكفّر بها، فيجزئ أي رقبة كانت، سواء أكانت مؤمنة أم
كافرة.
3 قوله "أجمعت الأمة إلخ" جواب عن سؤال مقدر، وهو أن يقال:
الواجب جميع خصال الكفارة، فلو تركها عوقب على الجميع، ولو
أتى بجميعها وقع الجميع واجبًا، ولو أتى بواحد سقط عنه
الآخر، وقد يسقط الواجب بأسباب دون الأداء وذلك محال.
فأجاب: أن هذا لا يطرد في الإمامين والكفؤين، فإن الجمع
فيه حرام، فكيف يكون الكل واجبًا، ثم هو خلاف الإجماع في
خصال الكفارة، إذ الأمة مجمعة على أن الجميع غير واجب.
انظر: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص97".
ج / 1 ص -107-
فإن
قيل1: إن كانت الخصال متساوية عند الله -تعالى- بالنسبة
إلى صلاح العبد، ينبغي أن يوجب الجميع، تسوية بين
المتساويات.
وإن تميز بعضها بوصف ينبغي أن يكون هو الواجب عينًا.
قلنا: ولمَ قلتم: إن للإفعال صفات في ذاتها لأجلها يوجبها
الله -سبحانه- بل الإيجاب إليه، له أن يخصص من المتساويات
واحدًا بالإيجاب، وله أن يوجب واحدًا غير معين. ويجعل مناط
التكليف اختيار المكلف، ليسهل عليه الامتثال.
جواب ثان2: أن التساوي يمنع التعيين؛ لكونه عبثًا، وحصول
المصلحة بواحد يمنع من إيجاب الزائد، لكونه إضرارًا مجردًا
حصلت المصلحة بدونه، فيكون الواجب واحدًا غير معين.
فإن قيل3: فالله -سبحانه- يعلم ما يتعلق به الإيجاب، ويعلم
ما يتأدى به الواجب، فيكون معينًا في علم الله -سبحانه-.
قلنا: الله -سبحانه- إذا أوجب واحدًا لا بعينه علمه على ما
هو عليه من نعته، ونعتُه أنه غير معين، فيعلمه كذلك، ويعلم
أنه يتعين بفعل المكلف ما لم يكن متعينًا قبل فعله، والله
أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو الدليل الأول للمعتزلة، أورده المصنف في صورة
اعتراض.
2 جواب آخر من المصنف على دليل المعتزلة المتقدم.
3 هذا هو الدليل الثاني للمعتزلة، أورده المصنف في صورة
اعتراض.
وخلاصة القول في الواجب المخير أن فيه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن الوجوب يتعلق بواحد مبهم من أمور معينة،
وهو مذهب الجمهور. ويعبرون عنه بالأحد الدائر بينها، وتارة
بواحد لا بعينه، وتارة بالقدر المشترك، فالذي تعلق به
الإيجاب: هو الواحد المبهم، وليس فيه تخيير والذي حصل فيه
التخيير: هو الأمور المعينة، ولم يتعلق به الإيجاب، فلا
تعارض بين الإيجاب والتخيير، كما قد يتوهمه البعض.
ج / 1 ص -108-
فصل: [في تقسيم الواجب باعتبار وقت الأداء]
والواجب ينقسم -بالإضافة إلى الوقت- إلى مضيق وموسع.
وأنكر أصحاب أبي حنيفة التوسع، وقالوا: هو يناقض الوجوب1.
ولنا2: أن السيد لو قال لعبده: ابْن هذا الحائط في هذا
اليوم: إما في أوله، وإما في وسطه، وإما في آخره وكيف
أردت، فمهما فعلت امتثلت إيجابي، وإن تركت عاقبتك، كان
كلامًا معقولًا.
ولا يمكن دعوى أنه ما أوجب شيئًا أصلًا، ولا أنه أوجب
مضيقًا؛
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المذهب الثاني: أن الأمر بالأشياء على التخيير يقتضي
وجوب الكل، ويسقط بفعل واحد منها، وهو مذهب بعض المعتزلة،
وهو قريب من مذهب الجمهور، فلا خلاف بينهما في المعنى.
المذهب الثالث: أن الواجب معين عند الله تعالى دون الناس،
وهو مذهب ضعيف ترويه المعتزلة عن الجمهور، ويرويه الجمهور
عن المعتزلة، ولذلك يسمى بمذهب التراجم، لأن كل فريق يرجم
به الآخر، فلا أصل له.
انظر: "الإبهاج للسبكي جـ1 ص86، المعتمد لأبي الحسين
البصري جـ1 ص87".
1 هذا هو الدليل الذي تمسك به الحنفية على أنكاء الواجب
الموسع وخلاصته: أنه لو وجب الفعل فيما قبل الوقت الأخير
لما جاز تركه، لكن التالي باطل، وهو أنه يجوز ترك الواجب،
فبطل المقدم، وثبت نقيضه، وهو عدم الوجوب فيما قبل الجزء
الأخير من الوقت.
وأجيب عنه: بأن جواز ترك الفعل فيما عدا الجزء الأخير لا
يقتضي عدم الوجوب، لأن الوجوب فيما عدا الجزء الأخير وجوب
موسع، والذي ينافي الوجوب: هو الترك في جميع الأوقات، لا
الترك في بعض الأوقات.
2 هذا هو الدليل العقلي للجمهور، وسيأتي -بعد ذلك- الدليل
الشرعي.
ج / 1 ص -109-
لأنه
صرح بضد ذلك، فلم يبق إلا أنه أوجب موسعًا.
وقد عهدنا من الشارع تسمية هذا القسم واجبًا، بدليل أن
الصلاة تجب في أول الوقت1.
وكذلك انعقد الإجماع على أنه يثاب ثواب الفرض، وتلزمه
نيته2، ولو كانت نفلًا لأجزأت نية النفل، بل لاستحالت نية
الفرض من العالِمِ كونها نفلًا؛ إذ النية قصد يتبع العلم.
فإن قيل3: الواجب ما يعاقب على تركه، والصلاة إن أضيفت إلى
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو الدليل الشرعي، وهو: أن الصلاة تجب في أول الوقت
وجوبًا موسعًا والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله تعالى في
سورة الإسراء من الآية 78:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْل} وقوله تعالى في سورة طه من الآية 130:
{وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ
غُرُوبِهَا} وروي
أن الله -تعالى- لما فرض الصلاة أرسل جبريل -عليه السلام-
ليعلّم النبي -صلى الله عليه وسلام- كيفية الصلاة
وأوقاتها، فأم جبريل النبي -صلى الله عليه وسلم- وصلى به
الصلاة في أول يوم في أول الوقت، وفي اليوم الثاني صلاها
في آخر الوقت، ثم قال له: "الوقت ما بين هذين" وهو حديث
صحيح رواه البخاري في صحيحه "1/ 101" وأبو داود في سننه
"1/ 161"، وأحمد في مسنده "1/ 333" والنسائي في سننه "1/
262".
قال البخاري: "هو أصح شيء في المواقيت".
وإذا كان الحديث قد قيد الوجوب بجميع الوقت، وهو صريح في
هذا، فتخصيصه ببعض الأوقات دون البعض، تخصيص بلا دليل.
2 هذا هو الدليل الثالث للجمهور، وهو: أن الإجماع منعقد
على أن من أدى الصلاة في أول وقتها أثيب عليها ثواب الفرض،
وتلزمه النية، إذ النية تابعة لعلم المكلف وقصده، ولذلك
يقول الآمدي في الإحكام "جـ1 ص108" "أجمع السلف على أن من
فعل الصلاة في أول الوقت ومات، أنه أدى فرض الله عليه".
3 هذا دليل من أدلة المنكرين للواجب الموسع، أورده المصنف
في صورة اعتراض وأجاب عليه بما قاله -بعد- من أن القسمة
ثلاثية، مندوب، وواجب مضيق، =
ج / 1 ص -110-
أخر
الوقت فيعاقب على تركها، فتكون واجبه حينئذ، وإن أضيقت إلى
أوله، فخيّر بين فعلها وتركها، وفعلها خير من تركها، وهذا
حد الندب.
وإنما أثيب ثواب الفرض ولزمته نيته؛ لأن مآله إلى الفرضية،
فهو كمعجّل الزكاة، والجامع بين الصلاتين في وقت أولاهما.
قلنا: الأقسام ثلاثة:
قسم: لا يعاقب على تركه مطلقًا، وهو: المندوب.
وقسم: يعاقب على تركه مطلقًا، وهو الواجب المضيق.
وقسم: يعاقب على تركه بالإضافة إلى مجموع الوقت، ولا يعاقب
بالإضافة إلى بعض أجزاء الوقت، وهذا القسم ثالث، يفتقر إلى
عبارة ثالثة، وحقيقته لا تعدو "الواجب، والندب" وأولى
عباراته: "الواجب الموسع".
قالوا: ليس هذا قسمًا ثالثًا، بل هو بالإضافة إلى أول
الوقت ندب، وبالإضافة إلى آخره واجب، بدليل أنه في أول
الوقت يجوز تركه، دون آخره1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وهذا القسم الثالث لا نستطيع أن نلحقه بالمندوب، لأن
المندوب يجوز تركه مطلقًا، ولا نستطيع أن نلحقه بالواجب
المضيق لأنه يخالفه، فلم يبق إلا أن نسميه باسم يختص به،
وهو "الواجب" فهو واجب، لأن الشارع طلب فعله طلبًا جازمًا،
وهو -أيضًا- موسع؛ لأن الشارع وسّع وقت الأداء، تيسيرًا
على المكلفين، وما دام الشارع هو الذي رخص في ذلك فلا
ينبغي المعارضة فيه، فلا اجتهاد مع النص، كما يقول
العلماء.
1 خلاصة هذا الاعتراض: عدم التسليم بأن هذا قسم ثالث، بل
هو داخل في القسمين، المندوب والواجب، فهو في أول الوقت
ندب، لأنه يجوز تركه، وهذا هو الندب، وفي آخر الوقت واجب،
لأنه لا يجوز تركه، وهذا هو حد الواجب.
وأجاب المصنف على هذا الاعتراض: بأن الندب يجوز تركه
مطلقًا، =
ج / 1 ص -111-
قلنا:
بل حد الندب: ما يجوز تركه مطلقًا، وهذا لا يجوز إلا بشرط
وهو: "الفعل بعده" أو: "العزم على الفعل"، وما جاز تركه
بشرط فليس بندب، كما أن كل واحد من خصال الكفارة يجوز تركه
إلى بدل.
ومن أمر بالإعتاق فما من عبد إلا يجوز تركه بشرط عتق ما
سواه، ولا يكون ندبًا، بل واجبًا مخيرًا، كذا هذا يسمى
واجبًا موسعًا1.
وما جاز تركه بشرط يفارق ما جاز تركه مطلقًا، وما لا يجوز
تركه مطلقًا فهو قسم ثالث2.
وإذا كان المعنى متفقًا عليه وهو: الانقسام إلى الأقسام
الثلاثة، فلا معنى للمناقشة في العبارة.
وأما تعجيل الزكاة: فإنه يجب بنية التعجيل، وما نوى أحد من
السلف في الصلاة في أول الوقت غير ما نواه في آخره، ولم
يفرقوا أصلًا فهو مقطوع به3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والواجب الموسع يجوز تركه في أول الوقت مع نية فعله بعد
ذلك، فهو مخالف للمندوب من هذا الوجه.
1 أراد المصنف بذلك: التنظير للواجب الموسع بالواجب
المخير، فكما أنه في الواجب المخير مخير بين أمور معينة
كذلك هنا مخير بين الوقت الأول: وما بعده. وهذا لا ينافي
أن الوقت الأول أفضل من غيره، فالأفضلية شيء، وجواز
التأخير شيء أخر.
2 هو: الواجب الموسع -كما سبق توضيحه-.
3 هذا رد على من قال: إن أداء الصلاة في أول الوقت يعتبر
تعجيلًا كتعجيل دفع الزكاة قبل حولان الحول. وخلاصة الرد:
أن الصلاة تفعل في أول الوقت كما تفعل في آخره بنية واحدة،
ولم يفرق السلف الصالح بين النيتين، أما الزكاة فلا تجب
ولا يتوجه الأمر بها إلا بعد حولان الحول، فدفعها قبل ذلك
لا بد فيه من نية التعجيل، فهذا قياس مع الفارق.
ج / 1 ص -112-
فإن
قيل1. قولكم: "إنما جاز تركه بشرط العزم أو الفعل بعده"
باطل، فإن لو ذهل أو غفل عن العزم ومات لم يكن عاصيًا".
ولأن الواجب المخير: "ما خير الشارع فيه بين شيئين" وما
خير بين العزم والفعل.
ولأن قوله: "صل في الوقت" ليس فيه تعرض للعزم أصلًا،
فإيجابه زيادة.
قلنا: إنما لم يكن عاصيًا، لأن الغافل لا يكلف.
فأما إذا لم يغفل، فلا يترك العزم على الفعل إلا عازمًا
على الترك مطلقًا، وهو حرام، وما لا خلاص عن الحرام إلا به
يكون واجبًا.
فهذا دليل وجوبه، وإن لم تدل عليه الصيغة، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 القائل: هم الذين لا يشترطون العزم على الفعل في الوقت
اللاحق للوقت الذي لم تفعل فيه العبادة. وخلاصة ما حكاه
المصنف عنهم: أنهم ردوا على مذهب القائلين باشتراط العزم
بثلاثة أوجه. فيقول: "فإنه لو ذهل.... الخ" هذا هو الوجه
الأول، وقوله: "ولأن الواجب المخير... الخ" هو الوجه
الثاني، وقوله: "ولأن قوله: صل الخ" هو الوجه الثالث.
وقوله -بعد ذلك-: "قلنا" رد على الوجوه الثلاثة المتقدمة.
وخلاصة ما قيل في الواجب الموسع: أن العلماء متفقون على
ذلك، إلا أنهم مختلفون في جزء الوقت الذي يتعلق به الوجوب
ويمثلون في الجملة اتجاهين:
أ- اتجاه يعترف بالواجب الموسع.
ب- اتجاه آخر ينكر ذلك.
وتفرع على ذلك عد112
فإن قيل1. قولكم: "إنما جاز تركه بشرط العزم أو الفعل
بعده" باطل، فإن لو ذهل أو غفل عن العزم ومات لم يكن
عاصيًا".
ولأن الواجب المخير: "ما خير الشارع فيه بين شيئين" وما
خير بين العزم والفعل.
ولأن قوله: "صل في الوقت" ليس فيه تعرض للعزم أصلًا،
فإيجابه زيادة.
قلنا: إنما لم يكن عاصيًا، لأن الغافل لا يكلف.
فأما إذا لم يغفل، فلا يترك العزم على الفعل إلا عازمًا
على الترك مطلقًا، وهو حرام، وما لا خلاص عن الحرام إلا به
يكون واجبًا.
فهذا دليل وجوبه، وإن لم تدل عليه الصيغة، والله أعلم.
ج / 1 ص -113-
...............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المذهب الأول:
أن الوجوب يتعلق بالوقت كله وجوبًا موسعًا، فيجوز إيقاع
الفعل في أي جزء من أجزاء الوقت، فيجوز ترك الفعل في أول
الوقت بدون بدل، ولا يعتبر عاصيًا ولا يأثم بالتأخير، إلا
إذا تضيق الوقت فيحرم التأخير.
ومع ذلك فهم يقولون: إن أداء العبادة في أول الوقت أفضل،
ففرق بين الأفضلية والجواز.
وهو مذهب جمهور الفقهاء والمتكلمين.
واستدلوا على ذلك بدليلين: أحدهما من القرآن، وثانيهما من
السنة.
أولا- من القرآن الكريم:
فقد استدلوا بقوله -تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ
اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ
كَانَ مَشْهُودًا} [الإسراء: 78].
ووجه الاستدلال بالآية: أن الأمر بإقامة صلاة الظهر
المفهوم من قوله تعالى:
{لِدُلُوكِ الشَّمْسِ} عام في جميع الأوقات، ولم يقتصر على وقت معين، فلا دلالة في الآية
على إيقاع الصلاة في وقت معين، فقصره على بعض الأوقات لا
دليل عليه. "الإحكام للآمدي 1/ 99".
ويؤكد هذا الفهم دليل السنة الآتي:
ثانيًا: استدلوا من السنة بما تقدم من حديث جبريل -عليه
السلام- والذي جاء فيه "الوقت ما بين هذين" وهو نص في
الموضوع من جهة، ومفسر للآية الكريمة من جهة ثانية.
المذهب الثاني: أن الإيجاب يقتضي إيقاع الفعل في أي جزء من
أجزاء الوقت، لكن لا يجوز ترك الواجب في الجزء الأول إلا
ببدل، وهو العزم على إيقاع الفعل في الجزء الذي يليه، ثم
إذا لم يفعل في ذلك الوقت تجدد البدل، وهكذا، حتى يدخل
الوقت الأخير فيتعين هذا الجزء للأداء، وإلا خرج الوقت.
وهو مذهب القاضي أبي بكر الباقلاني وجماعة من الأشاعرة
والمعتزلة. =
ج / 1 ص -114-
.........................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهذا المذهب يتفق مع المذهب المتقدم في أن الإيجاب يتعلق
بأول الوقت وجوبًا موسعًا، إلا أنهم يخالفونهم من حيث إنهم
يوجبون العزم في الوقت الذي لم يحصل فيه الفعل. ومن هنا
كان دليلهم على الشق الأول هو نفس أدلة أصحاب المذهب
الأول.
أما أنه يجب العزم فدليلهم على ذلك: أنه لو لم يجب العزم
عند عدم الإتيان بالفعل للزم ترك الواجب بلا بدل: وترك
الواجب بلا بدل باطل، لأنه يجعل الواجب غير واجب، ضرورة أن
الواجب هو: ما لا يجوز تركه بلا بدل، وغير الواجب يجوز
تركه بلا بدل، فثبت بذلك أنه لا بد من العزم عند عدم الفعل
وهو المدّعي.
وأجاب الجمهور على ذلك: بأن العزم لا يصلح أن يكون بدلًا
عن الواجب، لأنه لو صح أن يكون بدلًا لتأدى به الواجب، لأن
بدل الشيء يقوم مقامه، والكل متفق على أن العزم هنا لا
يقوم مقام الفعل، ولترتب على ذلك أن من أخر الصلاة عن أول
الوقت مع الغفلة عن العزم يكون عاصيًا، لأنه ترك الواجب
وبدله، ولم تتعرض النصوص الدالة على إيجاب الصلاة لشيء من
ذلك، فإيجاب العزم زيادة على مقتضى الأمر الوارد بالصلاة.
يضاف إلى ذلك: أنه لو عزم على الفعل في الجزء الأول من
أجزاء الوقت، فهل يجب العزم في الجزء الثاني والثالث وهكذا
أو لا؟
فإن قلنا: إنه لا يجب فقد ترك الواجب بلا بدل، ولزم على
ذلك تخصيص جزء من الوقت بدون مخصص، حيث أوجبنا العزم في
الجزء الأول، دون بقية الأجزاء.
وإن قلنا: يجب تعدد العزم لزم على ذلك تعدد البدل، والمبدل
منه واحد، وهذا لا يجوز، لأن البدل -دائما- تابع للأصل وهو
المبدل منه.
ثانيًا- اتجاه المنكرين للواجب الموسع:
وتفرع عن هذا الاتجاه ثلاثة مذاهب:
المذهب الأول: أن الوجوب يختص بأول الوقت، فإن فعل في آخره
كان قضاء. =
ج / 1 ص -115-
............................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهو منقول عن بعض المتكلمين، ونسب خطأ إلى الشافعية، فهي
نسبة غير صحيحة.
واستدل القائلون بذلك بأدلة ضعيفة لا تصلح للاحتجاج بها.
منها: ما روي أن الرسول -صلى الله عليه وسلم-: قال:
"الصلاة في أول الوقت رضوان الله، وآخره عفو الله" "رواه
الترمذي والدراقطني: الترغيب والترهيب جـ1 ص256".
وقالوا في وجه الدلالة: إن النبي -صلى الله عليه وسلم- قد
أخبرنا بأن الصلاة في أول الوقت سبب رحمة الله ورضائه عن
فاعلها، وأن فعلها في آخر الوقت يعد معصية، بدليل قوله
-صلى الله عليه وسلم-: "عفو الله" لأن العفو إنما يكون عن
شيء فيه مخالفة.
وأجيب عن هذا الاستدلال من وجهين:
الوجه الأول: أن هذا الحديث ضعيف جدًّا. قال البيهقي في
المعرفة: هذا الحديث كذبه أحمد بن حنبل، وقد روي بأسانيد
كلها ضعيفة.
"تحفة الأحوذي 1/ 517، سبل السلام 1/ 17".
الوجه الثاني: أنه مع فرض التسليم بصحته فإنه لا يثبت
المدّعي، لأن العفو الوارد في الحديث لا يدل على أن الصلاة
في آخر الوقت معصية، لكنه يلج على أن المكلف قد تباطأ في
أداء العبادة في أول وقتها، ولا شك أن الوقت الأول وقت
فضيلة بلا خلاف، فإهمال لوقت الفضيلة يستحق العفو من الله
تعالى. فغاية ما يدل عليه الحديث: هو حث المكلف على
المبادرة بأداء العبادة في أول وقتها حتى يستحق رضا الله
تعالى ومغفرته.
بالإضافة إلى أن أن هذا الحديث مخالف لحديث جبريل المتقدم
وهو حديث صحيح.
المذهب الثاني:
أن الوجوب يختص بآخر الوقت، فإن فعل أوله كان من قبيل
التعجيل، وهو مروي عن بعض الحنفية.
واستدلوا على ذلك: بأنه لو وجب الفعل فيما قبل الوقت
الأخير لما جاز تركه لكن التالي باطل، وهو أنه لا يجوز ترك
الواجب، فبطل المقدم، وثبت نقيضه، =
ج / 1 ص -116-
فصل: [في تضييق الواجب الموسع]
إذا أخر الواجب الموسع فمات في أثناء وقته قبل ضيقه1 لم
يمت عاصيًا، لأنه فعل ما أبيح له فعله، لكونه جُوِّز له
التأخير2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وهو عدم الوجوب فيما قبل الجزء الأخير من الوقت.
وأجيب عن هذا الدليل: بأن جواز ترك الفعل فيما عدا الجزء
الأخير لا يقتضي عدم وجوب الفعل، لأن الوجوب فيما عدا
الجزء الأخير وجوب موسع، والذي ينافي الوجوب هو الترك في
جميع أوقات الفعل، لا الترك في بعض الأجزاء والإتيان به في
البعض الآخر.
والوجوب في الوقت الأخير أصبح مضيقًا، بحيث إذا لم يفعله
فيه خرج وقته كله.
المذهب الثاني: أن المكلف إذا أتى بالفعل في أول الوقت،
فإن جاء آخر الوقت والمكلف على صفة التكليف، بأن كان
بالغًا، عاقلًا، خاليًا من الموانع الشرعية، كان فعله في
أول الوقت واجبًا.
وإن جاء آخر الوقت وقد زالت عن المكلف صفة التكليف، بأن جن
المكلف، أو حاضت المرأة مثلًا، كان الفعل الذي فعله في أول
الوقت مندوبًا، وهذا المذهب مروي عن الإمام الكرخي من أئمة
الحنفية.
وهذا المذهب من الضعف بحيث لا يحتاج إلى استدلال أو
مناقشة. فهو مذهب مخالف لما عليه عامة الفقهاء، كما أنه
مخالف لظاهر الآيات، وللأحاديث الصحيحة التي تثبت أن
الواجب الموسع يجوز فعله في أي جزء من أجزاء هذا الوقت،
وإن كان الأداء في أول الوقت فضلية.
1 يريد: قبل تضييق وقته، فلو أخره حتى ضاق الوقت فإنه يموت
عاصيًا، كما لو أخر الصلاة لوقت لا يكفي لأدائها.
2 هذا تعليل كونه لا يموت عاصيًا، وهذا الرأي هو الراجح
عند المحققين من =
ج / 1 ص -117-
فإن
قيل1: إنما جاز له التأخير بشرط سلامة العاقبة؟
قلنا: هذا محال؛ فإن العاقبة مستورة عنه2.
ولو سألنا فقال: "عليّ صوم يوم فهل يحل لي تأخيره إلى غد"
فما جوابه؟
إن قلنا: "نعم" فلم أثم بالتأخير؟
وإن قلنا: "لا" فخلاف الإجماع.
وإن قلنا إن كان في علم الله أنك تموت قبل غدٍ، لم يحل،
وإلا فهو يحل.
فيقول: وما يدريني ما في علم الله، فلا بد من الجزم بجواب.
فإذًا: معنى الوجوب وتحقيقه: أنه لا يجوز له التأخير، إلا
بشرط العزم، ولا يؤخر إلا إلى وقت يغلب على ظنه البقاء
إليه. والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأصوليين، حتى حكى بعضهم الإجماع على ذلك.
1 هذا يعتبر مذهبًا ثالثًا، وهو: أنه يجوز التأخير بشرط
سلامة العاقبة، مثل: عدم المرض، أو كبر السن وما أشبه ذلك.
2 صحيح هي مستورة، لكن لها أمارات، والأحكام العملية يكتفى
فيها بغلبة الظن.
وتفرع على ذلك: أنه لو تخلف ظنه وعاش بعد الوقت الذي ظن
أنه لن يعيش بعده، وأدى الفرض -بعد هذا الوقت-، فهل يعتبر
أداء، باعتبار الواقع، لا عبرة بهذا الظن الذي تخلف. أو
يعتبر قضاء باعتبار ظنه رأيان في المسألة.
ج / 1 ص -118-
فصل: [في مقدمة الواجب وحكمها]
ما لا يتم الواجب إلا به ينقسم إلى: ما ليس إلا المكلف،
كالقدرة واليد في الكتابة، وحضور الإمام والعدد في الجمعة،
فلا يوصف بوجوب.
وإلى ما يتعلق باختيار العبد، كالطهارة للصلاة، والسعي إلى
الجمعة، وغسل جزء من الرأس مع الوجه، وإمساك جزء من الليل
مع النهار في الصوم، فهو واجب.
وهذا أولى من قولنا: يجب التوصل إلى الواجب بما ليس بواجب؛
إذ قولنا: "يجب ما ليس بواجب" متناقض، لكن الأصل: وجب
بالإيجاب قصدًا، والوسيلة وجبت بواسطة وجوب المقصود، فهو
واجب كيف ما كان، وإن اختلفت علة إيجابهما1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك: أنه من المباحث المتعلقة بالواجب: ما يسمى
بمقدمة الواجب، أو ما لا يتم الواجب إلا به، أو ما يتوقف
عليه الواجب، أو الوسيلة، وكلها تنزل على معنى واحد.
ومقدمة الواجب نوعان:
1- مقدمة وجوب: وهي ما يتوقف عليها وجوب الواجب، وقد تكون
سببًا كملك النصاب للزكاة، وقد تكون شرطًا كالبلوغ، فإنه
شرط للتكليف، وقد تكون مانعًا، كالدين، فإنه مانع من وجوب
الزكاة. وهذا النوع لا خلاف بين العلماء في عدم التكليف
به، لعدم قدرة المكلف على تحصيله.
2- مقدمة وجود: وهي ما يتوقف عليها وجود الواجب وإيقاعه
على صفة الكمال، كما أراد الشارع. وهي أيضًا نوعان:
أ- نوع غير مقدور للمكلف، مثل: حضور الإمام والعدد المشترط
لصحة صلاة الجمعة. وهذا النوع متفق على عدم التكليف به
أيضًا، لعدم قدرة المكلف على تحصيله. =
ج / 1 ص -119-
فإن
قيل: لو كان واجبًا لأثيب على فعله، وعوقب على تركه، وتارك
الوضوء والصوم لا يعاقب على ما ترك من غسل الرأس وصوم
الليل1.
قلنا: ومن أنبأكم أن ثواب القريب من البيت في الحج مثل
ثواب البعيد وأن الثواب لا يزيد بزيادة العمل في الوسيلة؟
وأما العقوبة: فإنه يعاقب على ترك الوضوء والصوم، ولا
يتوزع على أجزاء الفعل، فلا معنى لإضافته إلى التفصيل.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ب- النوع الثاني: مقدمة مقدورة للمكلف. وهي محل خلاف بين
العلماء في: هل إذا أمر الشارع أمرًا مطلقًا بفعل يتوقف
وجوده على شرط أو سبب، يكون أمرًا بالمقدمة، أو أنها تكون
بأمر آخر؟
وقد اختار المصنف أن الأمر بالشيء الواجب يقتضي وجوب
المقدمة، ولذلك قال: "فهو واجب كيفما كان".
1 اعتاد المصنف: أن يورد المذهب المخالف ضمنًا في صورة
اعتراض، يدل على المذهب وعلى دليله، وهذا هو دليل المذهب
الثاني الذي يرى أن الأمر بالشيء ليس أمرًا بما يتوقف
عليه، سواء أكان سببًا أم شرطًا.
وهناك مذهبان آخران أغفلهما المصنف:
أحدهما: أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يدل على إيجاب
السبب، دون الشرط، وحجة أصحاب هذا المذهب: أن ارتباط السبب
بالمسبب أقوى وأشد من ارتباط الشرط بالمشروط، ولذلك يلزم
من وجود السبب وجود المسبب، بخلاف الشرط، فلا يلزم من
وجوده الوجود.
ثانيهما: أن الخطاب الدال على إيجاب الشيء يستلزم إيجاب ما
يتوقف عليه إن كان شرطًا شرعيًّا، أما إن كان شرطًا
عقليًّا أو عاديًّا، أو سببًا فلا يقتضي ذلك، وهذا الرأي
منسوب لإمام الحرمين.
ومن خلال استعراض هذه المذاهب الأربعة نرى رجحان ما ذهب
إليه ابن قدامة، من أن الأمر بالشيء يستلزم وجوب ما يتوقف
عليه مطلقًا، سواء أكان =
ج / 1 ص -120-
فصل: [في بعض الفروع المخرجة على مقدمة الواجب]
وإذا اختلطت أخته بأجنبية1، أو ميتة بمذكاة حرمتا: الميتة
بعلة الموت، والأخرى بعلة الاشتباه.
وقال قوم: المذكاة حلال، لكن يجب الكف عنها.
وهذا متناقض2، إذ ليس الحل والحرمة وصفًا ذاتيًّا لهما، بل
هو متعلق بالفعل، فإذا حرم فعل الأكل فيهما فأي معنًى
لقولنا: هي حلال؟!
وإنما وقع هذا في الأوهام، حيث ضاهى الوصف بالحل والحرمة
الوصف بالسواد والبياض، والأوصاف الحسية، وذلك وَهْم على
ما ذكرناه. والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= سببًا أم شرطًا، لأنه لا يعقل أن يكلف الشارع بشيء يتوقف
وجوده على شيء آخر بدون تكليف بهذا الشيء، ما دام مقدورًا
للمكلف.
انظر في هذه المسألة: الإبهاج للإمام السبكي "1/ 110"،
مختصر ابن الحاجب مع شرح العضد "1/ 244".
1 وكذا لو اختلطت زوجته بأجنبية، حرمتا أيضًا، الأجنبية
حرام، لأنها أجنبية، وحرمت زوجته لاشتباهها بالأجنبية، ولا
يمكن اجتناب الأجنبية إلا باجتناب الاثنتين، ويقال مثل ذلك
في الميتة والمذكاة، الميتة حرام أصلًا، والمذكاة حرام
لاشتباهها بالميتة، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب،
والواجب هنا هو الكف عن أخته فلا يتزوجها، وعن الأجنبية
فلا يقربها، وعن الميتة فلا يأكلها، ولا يتحقق ذلك إلا
بالكف عما اختلط بالمحرم، فاجتناب ما اشتبه بالمحرم
بالأصالة واجب.
2 لأنه يؤدي إلى أنهما يباحان ويحرمان في وقت واحد. وهذا
الرد من "ابن قدامة" فيه مبالغة، لأن المخالفين نظروا إلى
الواقع ونفس الأمر, والواقع: أن الأجنبية =
ج / 1 ص -121-
فصل: [في الواجب غير المحدد]1
الواجب الذي لا يتقيد بحد محدود، كالطمأنينة في الركوع
والسجود، ومدة القيام والعقود، إذا زاد على أقل الواجب:
فالزيادة ندب، واختاره أبو الخطاب2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حلال، والمذكاة حلال، لكنهما وجب الكف عنهما -مؤقتًا-
لحين التمييز بينهما، ولم يقل أحد من العلماء إن التحريم
متوجه إلى الذوات، وهذا ما قاله البيضاوي -تبعًا للإمام
الرازي ومختصريه- قال: "لو اشتبهت المنكوحة بالأجنبية
حرمتا: على معنى أنه يجب الكف عنهما" قال الإسنوي -شرحا
على ذلك-: "المراد بتحريم الأجنبية: إنما هو الكف، لا
تحريم ذاتها" انظر: نهاية السول على منهاج البيضاوي جـ1
ص212 وبهامشه سلم الوصول للشيخ المطيعي.
1 هذا فرع آخر من الفروع المخرجة على ما لا يتم الواجب إلا
به فهو واجب.
ووجه تخريجه عليه: أن غير الواجب فيه وهو الزيادة لاحق له
من آخره، ومقدمة الواجب لاحقة له من أوله.
وقد بين الطوفي في شرح مختصر الروضة "1/ 348" محل الخلاف
فقال: "الزيادة على الواجب إما أن تكون متميزة عنه أو لا:
فإن تميزت عنه: كصلاة التطوع بالنسبة إلى المكتوبات فهي
-يعني الزيادة المتميزة- ندب اتفاقًا. إذ لا نص في وجوبها
ولا إجماع، ولا جامع بينها وبين الواجب حتى تقاس عليه، ولا
اشتدت ملابستها للواجب حتى تلحق به، ولا مدرك لثبوت
الأحكام شرعًا إلا هذه الأدلة: النص والإجماع والقياس
والاستدلال.
وإن لم تتميز الزيادة على الواجب ولا تنفصل حقيقتها من
حقيقته حسًّا، كالزيادة في الطمأنينة..... واجبة عند
القاضي أبي يعلى، ندب عند أبي الخطاب وهو الصواب".
2 محفوظ بن أحمد بن الحسن الكلوذاني الحنبلي. ولد سنة
432هـ، كان أحد =
ج / 1 ص -122-
وقال
القاضي1: الجميع واجب؛ لأن نسبة الكل إلى الأمر واحد،
والأمر في نفسه أمر واحد، وهو أمر إيجاب، ولا يتميز البعض
عن البعض، فالكل امتثال.
ولنا: أن الزيادة يجوز تركها مطلقًا من غير شروط ولا بدل،
وهذا هو الندب.
ولأن الأمر إنما اقتضى إيجاب ما تناوله الاسم فيكون هو
الواجب، والزيادة ندب، وإن كان لا يتميز بعضه عن البعض،
فيعقل كونه بعضه واجبًا، وبعضه ندبًا، كما لو أدى دينارًا
عن عشرين"*".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أئمة المذهب وأعيانه، صنف العديد من الكتب منها
"التمهيد" في أصول الفقه. توفي سنة 510هـ.
انظر في ترجمته: "المنهج الأحمد 2/ 198، المدخل إلى مذهب
الإمام أحمد ص211-239".
1 محمد بن الحسين بن محمد، أبو يعلى الفراء الحنبلي، كان
عالم زمانه وفريد عصره، إمامًا في الأصول والفروع. ولد سنة
380هـ. وتوفي سنة 450هـ. من مؤلفاته في الأصول "العدة"
"طبقات الحنابلة 2/ 193-230".
"*" الواجب العيني والواجب الكفائي.
ترك المصنف تقسيمًا من تقسيمات الواجب، وهو: تقسيمه إلى
واجب عيني، وواجب كفائي، فلزم إضافة هذا التقسم هنا فنقول:
الواجب العيني: هو ما توجه فيه الطلب إلى كل مكلف، أي طلب
الشارع فعله من كل واحد من المكلفين، فلا يكفي فيه قيام
البعض دون البعض الآخر، ولا تبرأ ذمة المكلف إلا بأدائه،
ومن يأثم بالترك، ولا يغني عنه فعل غيره، ولذلك سمي بفرض
العين، لأن المنظور إليه في هذا الواجب: الفعل نفسه،
والفاعل نفسه، مثل: فرائض الصلاة، والصيام، والوفاء
بالعقود، وإعطاء كل ذي حق حقه.
والواجب الكفائي: هو ما طلب الشارع حصوله من جماعة
المكلفين من غير =
ج / 1 ص -123-
.....................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
نظر إلى فاعله، لأن مقصود الشارع حصول الفعل فقط، فإذا
فعله البعض سقط الإثم عن الباقين، وإذا لم يفعل نهائيًّا
أثم الجميع، لتعلق الطلب بالكل.
فالطلب هنا منصب على إيجاد الفعل في حد ذاته لا إلى
الفاعل.
ومن أمثلته: الجهاد، والقضاء، وأداء الشهادة، والأمر
بالمعروف والنهي عن المنكر، وإيجاد الصناعات والحرف
المختلفة والعلوم التي تحتاج إليها الأمة، وإعداد القوة
بأنواعها ونحو ذلك مما يحقق مصلحة الأمة.
ولا خلاف بين الأصوليين في أن الواجب الكفائي يتحقق
المقصود منه بفعل بعض المكلفين، وعلى أن ترك الواجب
الكفائي من جميع المكلفين يستوجب تأثيم الجميع، لأنهم
فوّتوا ما قصد من الفعل، وكذلك لو قام به عدد أقل ممن يسد
بهم الحاجة، فالفاعلون مثابون، وغيرهم آثمون.
لكنهم مختلفون في الخطاب المتعلق بهذا الفعل، هل هو موجه
إلى جميع المكلفين، ويسقط بفعل البعض، أو هو موجه إلى بعض
غير معين؟
فالجمهور على أنه متعلق بجميع المكلفين، بمعنى أن القادر
على الفعل عليه أن يقوم بنفسه، وغير القادر يحث غيره على
القيام به.
وذهب بعض الأصوليين ومنهم المعتزلة إلى أن فرض الكفاية
يتعلق بطائفة غير معينة، لأنه لو تعلق بالكل لما سقط إلا
بفعل الكل.
وتظهر ثمرة هذا الخلاف: فيمن علم بشيء من فروض الكفايات،
كتغسيل ميت وتكفينه، والصلاة عليه، وشك هل هناك من قام
بهذا الواجب أو لا؟
فعلى رأي الجمهور يجب عليه السعي ليتبين حقيقة الأمر، لأن
الأمر متعلق به على سبيل الوجوب المحقق، ولا يسقط بالشك.
أما على الرأي الثاني فلا يلزمه ذلك، لأن الخطاب لم يتوجه
إليه.
وقد يصير الواجب الكفائي واجبًا عينيًّا، إذا انحصر الفعل
المطلوب في شخص معين أو فئة معينة، كالجهاد، فإنه يصبح فرض
عين على كل قادر عليه، إذا لم يحصل بعدد محدد.
ومثل ذلك: إذا شهد المكلف القادر دون غيره منكرًا، فعليه
إنكاره بقدر استطاعته. =
ج / 1 ص -124-
القسم الثاني: المندوب1
والندب في اللغة: الدعاء إلى الفعل. كما قال:
لا يسألون أخاهم حين يندبهم
في النائبات على ما قال برهانا2
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومثله الطبيب في مكان ناء عن المدن، ولم يوجد غيره أصبح
إسعاف المريض بالنسبة له فرض عين.
أيهما أفضل: فرض العين أم فرض الكفاية؟
للعلماء في هذه المسألة رأيان:
الرأي الأول: أن فرض العين أفضل، لشدة اعتناء الشارع به،
ولذلك طلب فعله من كل مكلف ولذلك يكره ترك فرض العين لأداء
فرض الكفاية، فلا يحسن ترك الطواف المفروض لصلاة الجنازة،
لأن الأول فرض عين، والثاني فرض كفاية.
وهذا هو رأي الشافعية وغيرهم.
الرأي الثاني: أن فرض الكفاية أفضل، لأن فاعل الكفاية ساع
في صيانة الأمة كلها عن المأثم، أما فرض العين فإنه يصان
به الإثم عن الفاعل فقط، ولا شك أن ما يتعلق بالأمة كلها
أهم، وأولى مما يتعلق بالبعض.
وإلى هذا ذهب الأستاذ أبو إسحاق الإسفراييني، وإمام
الحرمين ووالده.
انظر: "التمهيد اللإسنوي، حاشية البناني على شرح جمع
الجوامع جـ1 ص183، الإبهاج للسبكي 1/ 100 طبعة الكليات
الأزهرية، نهاية السول للإسنوي 1/ 94، الوجيز في أصول
الفقه للدكتور عبد الكريم زيدان ص37، الطبعة الثانية.
1 القسم الثاني: من أقسام الحكم التكليفي: المندوب. ويسمى:
سنة ومستحبًّا وتطوعًا وطاعة ونفلًا وقربة ومرغبًا فيه
وإحسانًا. وهي اصطلاحات مستحدثة في المذاهب، والمتفق عليه
بين المتقدمين: الفرض والسنة.
2 الشاعر هو: قريط بن أنيف العنبري، والبيت من القصيدة له
يهجو بها قومه، ويمدح بني مازن الذين استنقذوا إبله بعد أن
تخلى عنه قومه. انظر: شرح ديوان الحماسة للتبريزي "1/ 19".
ج / 1 ص -125-
وحده
في الشرع: مأمور لا يلحق بتركه ذم، من حيث تركه من غير
حاجة إلى بدل1.
وقيل: هو ما في فعله ثواب، ولا عقاب في تركه.
والمندوب مأمور [به]. وأنكر قوم كونه مأمورًا [به] قالوا:
لأن الله -سبحانه- قال:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ
فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيم}2. والمندوب لا يحذر فيه ذلك.
ولأن3 النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "لولا أن أشق على
أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة"4. وقد ندبهم إلى
السواك، علم أن الأمر لا يتناول المندوب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 قوله: "مأمور" جنس يتناول الواجب والمندوب، وقوله: "لا
يحلق بتركه ذم...." أعم من أن يكون تركه مطلقًا أو إلى
بدل، فيشمل: الواجب الموسع، والمخير، وفرض الكفاية، لأن
جميعها مأمورات يجوز تركها، لكن إلى بدل، فلما قال: "من
غير حاجة إلى بدل" أخرج ذلك كله وأبقى المندوب.
2 سورة النور من الآية: 63 وهي الدليل الأول للقائلين بأن
المندوب غير مأمور به.
3 هذا هو الدليل الثاني للقائلين بأن المندوب غير مأمور
به.
4 حديث صحيح: أخرجه البخاري: كتاب التمني "887" ومسلم:
كتاب الطهارة، باب السواك "252" وأبو داود: كتاب الطهارة،
باب السواك "46" والنسائي: كتاب الطهارة، باب السواك "1/
12" والترمذي حديث رقم "23" وابن ماجه "287"، والطحاوي في
شرح معاني الآثار "1/ 403" من حديث أبي هريرة رضي الله
عنه. كما رواه عن زيد بن خالد الجهني: أحمد في مسنده "4/
114، 116"، وأبو داود "47" والترمذي "23" وقال: هذا حديث
حسن صحيح.
ورواه أحمد والطحاوي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه-.
ووجه الدلالة من الحديث -كما قال أصحاب هذا المذهب-: أن
السواك مندوب، مع أن الرسول -صلى الله عليه وسلم- لم يأمر
أمته =
ج / 1 ص -126-
ولأن1
الأمر: اقتضاء جازم لا تخيير معه، وفي الندب تخيير، ولم
يسم تاركه عاصيًا.
ولنا2 أن الأمر: استدعاء وطلب، والمندوب مستدعًى ومطلوب،
فيدخل في حقيقة الأمر. قال الله تعالى-:
{إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ
وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى}3 وقال تعالى:
{وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ}4.
ومن ذلك ما هو مندوب.
ولأنه6: شاع في ألسنة الفقهاء: أن الأمر ينقسم إلى أمر
إيجاب وأمر استحباب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بالسواك، فلا يكون المندوب مأمورًا به. وقد أجاب المصنف
على ذلك كما سيأتي.
1 هذا هو الدليل الثالث وخلاصته: أن الأمر طلب فعل جازم لا
تخيير فيه، وتاركه يسمى عاصيًا، لقول الله تعالى -عن موسى
عليه السلام لأخيه-:
{أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي} [طه: 93] والمعنى: عصيتني بمخالفة أمري، والمندوب على عكس ذلك،
فليس فيه طلب جازم، وإنما فيه تخيير بين الفعل والترك، كما
أن تاركه لا يسمى عاصيًا، فدل ذلك على أن ليس مأمورًا به.
2 من هنا سيبدأ المصنف في إيراد الأدلة على أن المندوب
مأمور به.
3 سورة النحل من الآية: 90.
4 سورة لقمان من الآية: 17.
5 ومثلهما قوله تعالى في سورة الحج الآية: 77:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا
رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
ووجه الدلالة من هذه الآيات: أن من المأمور به ما هو واجب،
ومنه ما هو مندوب، فمن الإحسان وإيتاء ذي القربى ما هو على
سبيل الجزم، ومنه ما هو على سبيل الاستحباب والندب، وكذلك
الأمر بالمعروف، وفعل الخير، فثبت بذلك: أن الأمر يطلق على
المندوب، كما يطلق على الواجب، وهذا هو الدليل الأول.
6 هذا هو الدليل الثاني.
ج / 1 ص -127-
ولأن1:
فعله طاعة، وليس ذلك لكونه مرادًا، إذ الأمر يفارق
الإرادة، ولا لكونه موجودًا؛ فإنه موجود في غير الطاعات
"أو حادثًا، أو لذاته، أو صفة نفسه؛ إذ يجري ذلك في
المباحات"2. ولا لكونه مثابًا؛ فإن الممتثل يكون مطيعًا
وإن لم يثب، وإنما الثواب للتراغيب في الطاعات.
وقولهم3: "إن الأمر ليس فيه تخيير" ممنوع.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هذا هو الدليل الثالث.
2 ما بين القوسين من المستصفى، والذي في الروضة "فإنه في
غير الطاعات" وهي توهم أن المندوب كما يكون في الطاعات
يكون غير غيرها، وهو خطأ، فالمصنف بحذفه هذه العبارات جعل
المعنى مختلًا. وخلاصة هذا الدليل: أن الندب أمر وفيه
طاعة، وهذه العبارة ليست باعتبار كون الأمر مرادًا، لأن
الأمر يفارق الإرادة، ولا باعتبار كونه موجودًا أو حادثًا
أو لذاته أو صفة نفسه، فهذا كله موجود في المباحات، ولا
باعتبار كونه مثابًا عليه، فإن المأمور يعتبر مطيعًا حتى
ولو لم يثب، فإن الثواب للترغيب، فقد يحبط عمله بالفكر،
فثبت بذلك كله أن المندوب داخل في الأمر.
انظر: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص115".
3 بدأ المصنف ينافش أدلة المخالفين. فبدأ بمناقشة الدليل
الأول: وهو: "أن الطلب والتخيير متنافيان" فقال: هذا غير
صحيح، لأن الطلب قد يكون جازمًا وقد يكون غير جازم.
ولو سلمنا -جدلًا- بأن الطلب والتخيير متنافيان، فنقول: إن
الندب ليس تخييرًا مطلقًا، بدليل أن الفعل فيه أرجح من
الترك، للثواب على فعله، وعدم الثواب في تركه. ولم يسم
تاركه عاصيًا، لأن الله تعالى هو الذي أسقط عنه هذا، لأن
الأمر فيه ليس جازمًا.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"..... لأمرتهم بالسواك...."
لا يدل على مدّعاكم، لأن المنفي في الحديث: هو الأمر على
سبيل الجزم والوجوب، بدليل أنه -صلى الله عليه وسلم- ندبهم
إلى هذه السنة وأمرهم بها في بعض الأحاديث الأخرى، كقوله
-صلى الله عليه وسلم-: =
ج / 1 ص -128-
وإن
سلمنا: فالمندوب كذلك، لأن التخيير عبارة عن التسوية، فإذا
ترجح جهة الفعل ارتفعت التسوية والتخيير.
ولم يسم تاركه عاصيًا، لأنه اسم ذم، وقد أسقط الله -تعالى-
الذم عنه، لكن يسمى مخالفًا وغير ممتثل، ويسمى فاعله
موافقًا ومطيعًا.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
".... لأمرتهم بالسواك....."
أي: أمرتهم أمر جزم وإيجاب.
وقوله -تعالى-:
{فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ} يدل على أن الأمر يقتضي الوجوب، ونحن نقول به، لكن يجوز صرفه إلى
الندب بدليل، ولا يخرج بذلك عن كونه أمرًا، كما ذكرناه في
دليلنا. والله أعلم.
القسم الثالث: المباح
وحدّه: ما أذن الله في فعله وتركه، غير مقترن بذم فاعله
وتاركه ولا مدحه1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= "تسننوا ولا تدخلوا عليّ قُلْحًا بُخْرا" [رواه الحكيم
الترمذي في نوادر الأصول من حديث عبد الله بن بشر المازني.
والقلح: الذي أصفرت اسنانه حتى بخرت من باطنها]. والجمع
بين الحديثين يكون بحمل الأول على الندب، والحديث الذي
معنا الذي نفى الأمر على الإيجاب، حتى لا يكون هناك تعارض
في الأدلة الشرعية، والرد على الاستدلال بالآية الكريمة
واضح.
1 هذا أحد التعريفات الشرعية للمباح، وعرفه البعض بأنه: ما
اقتضى خطاب الشرع التسوية بين فعله وتركه من غير مدح يترتب
عليه ولا ذم.
أما معناه في اللغة: فمأخوذ من الإباحة، وهي: الإظهار،
يقال: باح بسره، إذا أظهره: وقيل: مأخوذ من باحة الدار وهي
ساحتها، إذ فيه معنى السعة =
ج / 1 ص -129-
وهو من
الشرع1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وانتفاء العائق، لأن الساحة تتسع للتصرف فيها بالسعي
والحركة بحسبها، والعائق من ذلك منتف فيها.
انظر: "القاموس المحيط فصل الباء، باب الحاء، شرح مختصر
الروضة 1/ 386".
1 وهذا هو رأي جمهور العلماء، واستدلوا على ذلك: بأن
الإباحة عبارة عن خطاب الشارع بالتخيير بين الفعل والترك،
فمعنى الإباحة: قول الشارع: أبحت لكم هذا، أو أنتم مخيرون
في فعله وتركه، وهذا يتوقف على خطاب الشارع، فتكون الإباحة
حكمًا شرعيًّا.
وذهب بعض المعتزلة ومنهم الكعبي: "عبد الله بن أحمد، رأس
طائفة من المعتزلة تسمى الكعبية. توفي سنة 319هـ" ذهب إلى
أن الإباحة حكم عقلي، إذ إنها عبارة عن انتفاء الحرج عن
المكلف، وذلك ثابت قبل ورود الشرع.
وأجاب الجمهور على ذلك: بأن الإباحة عبارة عن خطاب الشارع
بالتخيير، وهذا متوقف على ورود الشرع. والخلاف بين الجمهور
والمعتزلة في هذه المسألة متفرع على مسألة أخرى هي: الحسن
والقبح في الأشياء، هل هي شرعية أو عقلية، فلا بد من بيان
ذلك.
معنى الحسن والقبح:
يطلق الحسن والقبح على معان ثلاثة:
المعنى الأول: أن الحسن: ما يلائم الفطرة الإنسانية
المائلة إلى جلب المنافع ودفع المضار.
والقبح: ما ينافر الفطرة: فإنقاذ الإنسان من تهلكة حسن،
وترك إنقاذه قبيح.
المعنى الثاني: أن الحسن: صفة كمال يستحق فاعله المدح من
العباد في الدنيا.
والقبح: صفة نقص يستحق فاعله الذم من العباد في الدنيا.
فالعلم حسن، والجهل قبيح.
وهذان المعنيان لا خلاف بين العلماء في أنهما عقليان أي أن
الفعل يستقل بإدراك ما فيهما من حسن أو قبيح من غير توقف
على الشرع.
ج / 1 ص -130-
...................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= المعنى الثالث: الحسن: ما يستحق فاعله المدح من الله
تعالى، والثواب في الآخرة، كالصدق والتواضع، والجود.
والقبح: ما يستحق فاعله الذم من الله تعالى، والعقاب في
الآخرة، كالكذب والتكبر، والبخل.
وهذا النوع هو الذي جرى فيه الخلاف بين المعتزلة وأهل
السنة والجماعة.
فالمعتزلة يرون أنهما عقليان، أي أن العقل يستطيع أن يدرك
ما فيهما من حسن أو قبح، وأن الوقوف على حكم الله تعالى لا
يفتقر إلى ورود الشرع، لاعتقادهم وجوب مراعاة المصالح
والمفاسد، وهذا أمر يدركه العقل، والشرائع تأتي مؤكدة
لذلك، وأن الله تعالى عليه أن يأمر وينهى على وفق ما في
الأفعال من حسن أو قبح.
أما أهل السنة: فإنهم يقولون: لا يعلم ذلك إلا من جهة
الشرع، إذ لا حاكم إلا الله تعالى، فالحسن ما حسنه الشرع،
والقبيح، ما قبحه الشرع، وأما العقل فلا يحسّن، ولا يقبّح،
ولا يوجب ولا يحرّم.
سبب الخلاف:
وسبب الخلاف بين المعتزلة وأهل السنة: أن المعتزلة يرون أن
حسن الأشياء أو قبحها ذاتي، وأهل السنة يرون أنهما تابعان
لصفات قائمة بهما.
ومن المؤكد أن رأي أهل السنة: هو الأرجح، وإلا لو كان حسن
الأشياء أو قبحها ذاتيًّا، لكان الصدق حسنًا في كل
الأحوال، ولكان الكذب قبيحًا في كل صوره، مع أن هذا مخالف
للواقع.
وقد أطال العلماء في الرد على مسلك المعتزلة ومن معهم، ومن
أقوى الأدلة الدالة على بطلان مذهبهم: قوله تعالى:
{وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا} [الإسراء: 15] فإن هذا النص الكريم يقتضي نفي التعذيب بمباشرة بعض
الأفعال وترك بعضها قبل بعثة الرسل، ومذهب المعتزلة يستلزم
تعذيب تارك الأفعال ومباشرة بعضها قبل بعثة الرسل، لأن
الحسن والقبح -على مذهبهم- يتحقق قبل البعثة، والحسن في
بعض الأفعال مستلزم لكونه واجبًا، والقبح في بعضها مستلزم
لكونه حرامًا، فيكون بعض الأفعال قبل البعثة واجبًا، =
ج / 1 ص -131-
وأنكر
بعض المعتزلة ذلك؛ إذ معنى الإباحة: نفي الحرج عن الفعل
والترك، وذلك ثابت قبل ورود السمع، فمعنى إباحة الشيء:
تركه على ما كان قبل السمع.
قلنا1: الأفعال ثلاثة أقسام:
قسم صرح فيه الشرع بالتخيير بين فعله وتركه، فهذا خطاب،
ولا معنى للحكم إلا الخطاب.
وقسم لم يرد فيه خطاب بالتخيير، لكن دل دليل السمع على نفي
الحرج عن فعله وتركه، فقد عرف بدليل السمع، ولولا هو لعرف
بدليل العقل نفي الحرج عنه، فهذا اجتمع عليه دليل العقل
والسمع.
وقسم لم يتعرض الشرع له بدليل من أدلة السمع، فيحتمل أن
يقال: قد دل السمع على أن ما لم يرد فيه طلب فعل ولا ترك،
فالمكلف فيه مخير.
وهذا دليل على العموم فيما لا يتناهى من الأفعال، فلا يبقى
فعل لا مدلول عليه سمعًا، فتكون إباحته من الشرع.
ويحتمل أن يقال: لا حكم له، والله أعلم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وبعضها حرامًا، وترك الواجب يقتضي استحقاق العقاب، كما
أن فعل الحرام يستوجب العقاب أيضًا. فيؤدي ذلك في النهاية
إلى إثبات أحكام شرعية، قبل البعثة وهو مخالف لمقتضى الآية
الكريمة. انظر: "بيان المختصر للأصفاني جـ1 ص287 وما
بعدها".
1 بدأ المصنف يرد على المعتزلة الذين قالوا: إن الإباحة
حكم عقلي، فبين أن المسألة فيها عدة احتمالات، وبعضها
للعقل فيه مجال، إلا أنها في النهاية ترجع إلى الشرع، وهي
-كما سبق- راجعة إلى مسألة الحسن، والقبح هل هما عقليان أو
شرعيان؟
ج / 1 ص -132-
فصل: [في حكم الأشياء قبل ورود الشرع]
اختلف في الأفعال والأعيان المنتفع بها قبل ورود الشرع ما
حكمها1:
فقال التميمي2، وأبو الخطاب، والحنفية: هي على الإباحة: إذ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وضح الشيخ الشنقيطي محال الاتفاق ومحل الخلاف في المسألة
فقال: "الأعيان المنتفع بها لها ثلاث حالات:
الحالة الأولى: أن يكون فيها ضرر محض، ولا نفع فيها
-ألبتة- كأكل الأعشاب السامة القاتلة.
الحالة الثانية: أن يكون فيها نفع محض، ولا ضرر فيها
أصلًا.
الحالة الثالثة: أن يكون فيها نفع من جهة، وضرر من جهة
أخرى.
فإن كان فيها ضرر محض، ولا نفع فيها، أو كان ضررها أرجح من
نفعها أو مساويا له، فهي حرام؛ لقوله -صلى الله عليه
وسلم-:
"لا ضرر ولا ضرار" وإن
كان نفعها خالصًا لا ضرر معه، أو معه ضرر خفيف، والنفع
أرجح منه فأرجح الأقوال الجواز، وقد أشار المصنف إلى هذا
التفصيل بقوله: "المنتفع بها" فمفهومه: أن ما لا نفع فيه
لا يدخل في كلامه" انتهى ببعض تصرف. "مذكرة أصول الفقه
ص20".
وهذه المسألة مفرعة على مسألة: الحسن والقبح العقليين.
وللعلماء فيها مذاهب كثيرة منها: ما رجحه المصنف، وهي أنها
مباحة مطلقًا، وقيل: إنها على الحظر حتى يأتي الشرع
بالإباحة، ومنهم من توقف في الجزم برأي معين.
يراجع في ذلك: المستصفى "1/ 63"، والإحكام للآمدي "1/ 91".
2 هو: عبد العزيز بن حارث بن أسد، أبو الحسن التميمي،
المولود سنة 317هـ. صحب أبا القاسم الخرقي وأبا بكر بن عبد
العزيز، كان من أعيان علماء الحنابلة، له مؤلفات في الأصول
والفروع. توفي سنة 371هـ.
انظر: "طبقات الحنابلة جـ2 ص139، المنهج الأحمد جـ2 ص66".
ج / 1 ص -133-
قد علم
انتفاعنا بها من غير ضرر علينا، ولا على غيرنا، فليكن
مباحًا.
ولأن الله -سبحانه- خلق هذه الأعيان لحكمة لا محالة، ولا
يجوز أن يكون ذلك لنفع يرجع إليه، فثبت أنه لنفعنا.
وقال ابن حامد1، والقاضي2، وبعض المعتزلة: هي على الحظر؛
لأن التصرف في ملك الغير بغير إذنه قبيح، والله -سبحانه-
المالك ولم يأذن3.
ولأنه4 يحتمل أن في ذلك ضررًا، فالإقدام عليه خطر5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: الحسن بن حامد بن علي بن مروان، إمام الحنابلة في
عصره ومعلمهم ومفتيهم. من مؤلفاته: "الجامع" في الفقه
وكتاب في أصول الفقه. توفي سنة 403هـ. انظر: "طبقات
الحنابلة جـ2 ص171، شذرات الذهب جـ3 ص166".
2 تقدمت ترجمته قريبًا.
3 هذا هو الدليل الأول للقائلين بالحظر: قياس تصرف العبد
في ملك الله -تعالى- على التصرف في ملك العباد، وهو ما
يسميه الأصوليون: قياس أحكام الله تعالى على أحكام الخلق
فيما بينهم، ونظم القياس هكذا: الواحد منا لا يجوز له أكل
طعام غيره أو شرب شرابه، أو ركوب دابته، أو لبس ثوبه بغير
إذنه، فكذلك أحكام الله تعالى، لا يجوز لنا التصرف فيها أن
الحكم عليها بدون إذنه سبحانه.
4 هذا هو الدليل الثاني للقائلين بالحظر، وتقريره: أن
الإقدام على هذا الانتفاع خطر، أي مخاطرة بالنفس، فالإمساك
عنه أحوط لها في العقل.
أما أنه خطر، فلأن بتقدير الحل في نفس الأمر أمَنَةً من
العذاب، وبتقدير التحريم تكون معرضة له، فهذا وجه
المخاطرة، وهو: ركوب أمر يلحق فيه الضرر على بعض
الاحتمالات. وأما أن الإمساك عن الانتفاع المذكور يكون
أحوط، فهو من القضايا الضرورية عقلًا وشرعًا وعرفًا. "شرح
مختصر الروضة جـ1 ص395".
5 في الأصل "حظر" وصححناه من شرح مختصر الروضة.
ج / 1 ص -134-
وقال
أبو الحسن الجزري1، وطائفة من الواقفية2: لا حكم لها؛ إذ
معنى الحكم: الخطاب، ولا خطاب قبل ورود السمع.
والعقل لا يبيح شيئا ولا يحرمه، وإنما هو معرف للترجيح
والاستواء، وقبح التصرف في ملك الغير إنما يعلم بتحريم
الشارع ونهيه.
ولو حكمت فيه العادة [لقضت بأنه] إنما يقبح في حق من يتضرر
بالتصرف في ملكه، بل يقبح المنع مما لا ضرر فيه، كالظل
وضوء النار.
وهذا القول هو اللائق بالمذهب، إذ العقل لا دخل له في
الحظر والإباحة، على ما سنذكره -إن شاء الله تعالى- وإنما
تثبت الأحكام بالسمع.
وقد دل السمع على الإباحة على العموم بقوله تعالى:
{هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا}3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هو: أحمد بن نصر بن محمد، أبو الحسن الجزري -نسبة إلى
جزيرة ابن عمر بالعراق- من قدماء الحنابلة، ومن المبرزين
في المناظرة، والجدل والأصول والفروع. توفي سنة 380هـ
"طبقات الحنابلة 2/ 167".
2 هم الذين يقفون في المسائل المختلف فيها، ولا يجزمون
فيها برأي معين، والتوقف له معنيان، أو سببان: إما لعدم
الدليل أصلًا، وإما لتعارض الإدلة.
3 سورة البقرة من الآية: 29 وقد بين الشيخ "ابن بدران" وجه
الاستدلال بالآية الكريمة فقال: "وجه الاستدلال: أنه
سبحانه وتعالى أخبرهم -في معرض الامتنان عليهم وتذكيرهم
النعمة- أنه خلق لهم ما في الأرض وسخره لهم، واللام
للاختصاص أو الملك، إذا صادفت قابلًا له، والخلق قابلون
للملك، وهو في الحقيقة: تخصيص من الله -سبحانه- لهم
بانتفاعهم به؛ إذ لا مالك -على الحقيقة- إلا الله -سبحانه
وتعالى- فاقتضى ذلك: أنهم متى اجتمعوا وما خلق لهم وسخر
لهم في الوجود ملكوه، وإذا ملكوه جاز انتفاعهم به؛ إذ
فائدة الملك: جواز الانتفاع". "نزهة الخطر جـ1 ص19".
ج / 1 ص -135-
وبقوله
تعالى:
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِش} الآية1.
وقوله تعالى:
{قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ
عَلَيْكُمْ}2.
وبقوله تعالى:
{قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا} الآية3. ونحو ذلك.
وقول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"...... وما سكت الله عنه فهو مما عفا عنه"4
وقوله: "إن أعظم المسلمين في المسلمين جرمًا: من سأل عن
شيء لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأعراف من الآية: 33.
2 سورة الأنعام من الآية: 151.
3 سورة الأنعام من الآية: 145.
ووجه الاستدلال بالآيات الثلاث: أن الله -تعالى- حصر
المحرمات فيما ذكر فيها، فدل ذلك على أن غير المذكورات في
الآيات على الإباحة.
4 رواه الترمذي في سننه حديث رقم "1726" وابن ماجه في سننه
رقم "3367" والحاكم في المستدرك "4/ 115"، والبيهقي "9/
320" عن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- قال: سئل رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- عن السمن والجبن والفراء فقال:
"الحلال: ما أحل الله في
كتابه، والحرام: ما حرم الله في كتابه، وما سكت عنه فهو
مما عفى عنه".
والفراء: جمع "الفرا" بفتح: حمار الوحش. وقيل: جمع "الفرو"
الذي يلبس. ويشهد لهذا القول: ما فعله الترمذي؛ فإنه ذكر
في باب لبس الفرو وإنما سألوه عنه حذرًا من صنيع الكفر من
اتخاذ الفرو من جلود الميتة غير مدبوغة.
وفي سند الحديث مقال، حيث ضعف المحدثون أحد رواته وهو:
"سيف بن هارون". قال الترمذي: وكأن الموقوف أصح.
ومع ذلك فللحديث: ما يؤيده ويقويه من أحاديث أخرى تؤدي نفس
المعنى، =
ج / 1 ص -136-
يحرم
على الناس، فحرم من أجل مسألته"1.
وفائدة الخلاف: أن من حرم شيئًا أو أباحه كفاه فيه استصحاب
حال الأصل.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= منها قوله -صلى الله عليه وسلم-:
"إن الله -تعالى- فرض فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا
تعتدوها وحرم أشياء فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم
غير نسيان فلا تبحثوا عنها" انظر: "مجمع الزوائد 7/ 75".
1 حديث صحيح رواه البخاري: كتاب الاعتصام، باب ما يكره من
كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ومسلم في الفضائل، وأبو
داود في السنة، ووجه الدلالة من الحديث ظاهر.
فصل: [هل المباح
مأمور به]
المباح غير مأمور به، لأن الأمر: استدعاء وطلب، والمباح
مأذون فيه ومطلق له، غير مستدعى ولا مطلوب. وتسميته
مأمورًا تجوّز2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= منها قوله -صلى الله عليه وسلم-"إن الله -تعالى- فرض
فرائض فلا تضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء فلا
تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تبحثوا
عنها" انظر: "مجمع الزوائد 7/ 75".
1 حديث صحيح رواه البخاري: كتاب الاعتصام، باب ما يكره من
كثرة السؤال وتكلف ما لا يعنيه، ومسلم في الفضائل، وأبو
داود في السنة، ووجه الدلالة من الحديث ظاهر.
2 الخلاف في هذه المسألة بين علماء الأصول وبين عبد الله
بن أحمد الكعبي من المعتزلة. فالجمهور يرون أن المباح غير
مأمور به، لأن الأمر استدعاء وطلب والمباح ليس كذلك. بيانه
أن الأمر يستلزم ترجيح إيجاد الفعل ولا ترجيح في المباح.
وقوله: "وتسميته مأمورًا تجوز" جواب عن سؤال مقدر هو: كيف
يكون غير مأمور به، وهو يسمى مأمورًا؟ فأجاب المصنف: أن
هذا من قبيل الأمر المجازي لا الحقيقي.
وذهب الكعبي إلى أن المباح مأمور به، محتجًّا: بأن المباح
ترك الحرام، وترك الحرام واجب، فيكون المباح واجبًا.
وأجاب المصنف على ذلك: بأن المباح يستلزم ترك الحرام ويحصل
به، لا أن المباح هو ترك الحرام بعينه، وإلا فترك الحرام
كما يحصل بالمباح يحصل بالواجب والمندوب إلى آخر التصورات
التي ذكرها المصنف.
ج / 1 ص -137-
فإن
قيل: ترك الحرام مأمور به، والسكوت المباح يترك به الكفر،
والكذب الحرام، فيكون مأمورًا به.
قلنا: فليكن المباح واجبًا إذًا، وقد يترك الحرام إلى
المندوب فليكن واجبًا.
وقد يترك الحرام بحرام آخر, فليكن الشيء حرامًا واجبًا،
ولتكن الصلاة حرامًا إذا تحرّم بها من عليه الزكاة، وهذا
باطل.
فإن قيل: فهل الإباحة تكليف؟
قلنا: من قال التكليف: الأمر والنهي، فليست الإباحة كذلك.
ومن قال: التكليف: ما كلف اعتقاد كونه من الشرع، فهذا
كذلك. وهذا ضعيف؛ إذ يلزم عليه جميع الأحكام1.
القسم الرابع: المكروه
وهو: ما تركه خير من فعله2.
وقد يطلق ذلك على المحظور3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة ذلك راجع إلى معنى "التكليف" فمن قال هو: طلب ما
فيها كلفة ومشقة -وهم الجمهور- قال: المباح غير داخل فيه
هو اعتقاد كونه مباحًا، قال: هو داخل في التكليف، وهو ضعيف
كما قال المصنف.
2 اعترض بعض العلماء على هذا التعريف بأنه يتناول المحرم،
لأن تركه خير من فعله، ولذلك أضافوا إلى التعريف قيدًا
يخرج الحرام وهو: "من غير ذم".
3 وقد ورد في آيات القرآن الكريم، مثل قوله تعالى:
{وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ
وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا} إلى أن قال سبحانه
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} [الآيات: 31-38 من سورة الإسراء]. =
ج / 1 ص -138-
وقد
يطلق على ما نهي عنه نهي تنزيه1، فلا يتعلق بفعله عقاب.
فصل: والأمر المطلق لا يتناول المكروه2؛
لأن الأمر: استدعاء وطلب، والمكروه غير مستدعى ولا
مطلوب.
ولأن الأمر ضد النهي، فيستحيل أن يكون الشيء مأمورًا
ومنهيًّا.
وإذا قلنا: إن المباح ليس مأمورًا، فالمنهي عنه أولى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= كما أنه وارد في لغة الفقهاء: يقول الإمام الخرقي:
"ويكره أن يتوضأ في آنية الذهب والفضة" أي: يحرم.
1 الجمهور على أن المكروه قسم واحد: أما الحنفية فقسّموه
إلى قسمين:
أ- المكروه كراهة تحريم: وهو: ما نهى عنه الشرع نهيًا
جازمًا بدليل ظني، كأخبار الآحاد والقياس. ومثلوا له بقول
الرسول -صلى الله عليه وسلم-: "لا يحل للمؤمن أن يبتاع على
بيع أخيه، ولا يخطب على خطبة أخيه حتى يذر" رواه مسلم وابن
ماجه. وهو حديث آحاد، فهو ظني الثبوت.
فالفارق -عندهم- بين الحرام والمكروه تحريمًا: أن الحرام
ثابت بدليل قطعي، والمكروه ثابت بدليل ظني، وهو أقرب إلى
الحرام، حتى عده بعضهم من الحرام، وإن كان لا يكفر جاحده.
ب- المكروه تنزيهًا: وهو: ما طلب الشارع الكف عنه طلبًا
غير جازم، وهو المقابل للمندوب، مثل: نهي الرسول -صلى الله
عليه وسلم- عن أن يشبك الشخص بين أصابعه في المسجد.
روى أبو داود وأحمد أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم-
قال:
"إذا توضأ أحدكم فأحسن وضوءه، ثم خرج عامدًا إلى المسجد فلا يشبك بين
أصابعه" انظر:
نيل الأوطار "2/ 373".
2 وهو مذهب جمهور العلماء، وذهب بعض الحنفية، وبعض
المالكية وبعض الحنابلة إلى أنه يتناوله.
ج / 1 ص -139-
فصل: القسم الخامس: الحرام
الحرام ضد الواجب1: فيستحيل أن يكون الشيء الواحد واجبًا
حرامًا، طاعة معصية من وجه واحد، إلا أن الواحد بالجنس
ينقسم إلى: واحد بالنوع، وإلى واحد بالعين، أي بالعدد.
والواحد بالنوع يجوز أن ينقسم إلى واجب وحرام، ويكون
انقسامه بالإضافة، لأن اختلاف الإضافات والصفات توجب
المغايرة، والمغايرة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقد استدل المصنف لمذهب الجمهور: بأن تعريف الأمر لا
يتناول المكروه، كما أن الأمر ضد النهي، فلو دخل المكروه
في الأمر لكان جمعًا بين الضدين، وإذا كان الراجح في
المباح أنه غير مأمور به، فكون المكروه غير مأمور به أولى.
وتوضيح ذلك: أن المأمور به إذا كان بعض جزيئاته منهيًا
عنه، نهي تنزيه أو تحريم، فلا يدخل المنهي عنه في المأمور
به -كما يقول الجمهور- خلافًا لمن ذهب إلى دخوله فيه. ومن
أمثلة ذلك: تحية المسجد، فهي سنة ومأمور بها، فلو دخل
المصلي في وقت الكراهة، هل يصلي تحية المسجد أو لا؟
للفقهاء في ذلك خلاف مبني على هذه المسألة.
هذا ما أفهمه في هذه المسألة، وإلا فلا يعقل أن يكون الشيء
مأمورًا به ومنهيًّا عنه في وقت واحد، وبصفة واحدة، ولذلك
قال المصنف: "فيستحيل أن يكون الشيء مأمورًا ومنهيًّا".
1 يعني: أنه تقدم في تعريف الواجب أنه: "ما توعد بالعقاب
على تركه" أو "ما يعاقب تاركه" أو "ما يذم تاركه شرعًا"
فإذا كان الحرام ضد الواجب فيكون تعريفه "ما توعد بالعقاب
على فعله"، أو "ما يعاقب فاعله" أو "ما يذم فاعله شرعًا"
وإن شئت قلت: ما طلب الشارع تركه جازمًا. هذا هو معناه
شرعًا أما في اللغة: فهو الممنوع. قال تعالى:
{وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْل....} [القصص: 12] مأخوذ من الحرمة، وهو: ما لا يحل انتهاكه.
ج / 1 ص -140-
تارة
تكون بالنوع، وتارة تكون باختلاف في الوصف، كالسجود لله
-تعالى- واجب، والسجود للصنم حرام، والسجود لله -تعالى-
غير السجود للصنم.
قال الله -تعالى-
{لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا
لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنّ}2.
والإجماع منعقد على أن الساجد للصنم عاص، بنفس السجود
والقصد جميعًا، والساجد لله مطيع بهما جميعًا.
وأما الواحد بالعين: كالصلاة في الدار المغصوبة من عمرو،
فحركته في الدار واحد بعينه.
واختلفت الرواية في صحتها:
فروي أنها لا تصح، إذ يؤدي إلى أن تكون العين الواحدة من
الأفعال حرامًا واجبًا، وهو متناقص؛ فإن فعله في الدار
وهو: "الكون في الدار، وركوعه وسجوده وقيامه وقعوده"
وأفعال اختيارية هو معاقب عليها، منهي عنها، فكيف يكون
متقربًا بما هو معاقب عليه، مطيعًا بما هو عاص به؟!
وروي أن الصلاة تصح؛ لأن هذا الفعل الواحد له وجهان
متغايران، هو مطلوب من أحدهما، مكروه من الآخر، فليس ذلك
محالًا، إنما المحال: أن يكون مطلوبًا من الوجه الذي يكره
منه.
ففعله من حيث إنه صلاة مطلوب.
مكروه من حيث إنه غصب.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة فصلت من الآية: 37.
ج / 1 ص -141-
والصلاة معقولة بدون الغصب، والغصب معقول بدون الصلاة1،
وقد اجتمع الوجهان المتغايران.
فنظيره: أن يقول السيد لعبده: خط هذا الثوب ولا تدخل هذه
الدار، فإن امتثلت أعتقتك، وإن ارتكبت النهي عاقبتك، فخاط
الثواب في الدار، حسن من السيد عتقه وعقوبته.
ولو رمى سهمًا إلى كافر فمرق منه إلى مسلم لاستحق سَلَب
الكافر2، ولزمته دية المسلم؛ لتضمن الفعل الواحد أمرين
مختلفين.
ومن اختار الرواية الأولى3 قال: ارتكاب النهي متى أخل بشرط
العبادة أفسدها بالإجماع، كما لو نهى المحدث عن الصلاة،
فخالف وصلى، ونية التقرب بالصلاة شرط، والتقرب بالمعصية
محال، فكيف يمكن التقرب به، وقيامه وقعوده في الدار فعل هو
عاص به، فكيف يكون متقربًا بما هو عاص به؟! وهذا محال.
وقد غلط من زعم أن في هذه المسألة إجماعًا4؛ لأن السلف لم
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي يمكن وجود أحدهما بدون الآخر، كمن صلى ولم يغصب، أو
غصب ولم يصل.
2 سلب الكافر: ما على القتيل من ثياب وحلى وسلاح وإن كثر،
وفي دخول الدابة وآلتها في السلب روايتان. وكون السلب
للقاتل ثابت بأحاديث صحيحة، منها ما رواه البخاري عن أبي
قتادة قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"من قتل قتيلًا فله سلبه..." قالها ثلاثًا في حديث طويل رواه البخاري في باب من لم يخمس الأسلاب
حديث رقم "3142" والمغازي رقم "4321".
3 وهي عدم صحة الصلاة في الدار المغصوبة.
4 حكى المصنف في مسألة الصلاة في الدار المغصوبة مذهبين:
أحدهما: أنها صحيحة، وثانيهما: أنهما غير صحيحة. وفيها
مذهب مروي عن أبي بكر الباقلاني وغيره: أنها غير صحيحة،
ولكن يسقط بها الفرض. =
ج / 1 ص -142-
يكونوا
يأمرون من تاب من الظلمة بقضاء الصلوات في أماكن الغصب، إن
هذا جهل بحقيقة الإجماع، فإن حقيقته: الاتفاق من علماء أهل
العصر، وعدم النقل عنهم ليس بنقل الاتفاق.
ولو نقل عنهم أنهم سكتوا فيحتاج إلى أنه اشتهر فيما بينهم
كلهم: القول بنفي وجوب القضاء فلم ينكروه.
فيكون -حينئذ- فيه اختلاف هل هو إجماع أم لا؟
على ما سنذكره في موضعه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قال الطوفي -عن هذا الرأي-: "وهذا مسلك ظاهر الضعف، لأن
سقوط الفرض بدون أدائه شرعًا غير معهود، بل لو منع الإجماع
المذكور لكان أيسر عليه، فإنه يبعد على الخصم أن يثبت أن
ظالمًا في زمن السلف صلى في مكان مغصوب وعلم به أهل
الإجماع، فضلًا عن أن يثبت ذلك في جميع الظلمة أو أكثرهم،
ولو سلّم ذلك، لكن لا نسلم أنهم أقروا الظلمة على ذلك ولم
يأمروهم بالإعادة، ولا يلزم من عدم نقل ذلك عدم وجوده،
لجواز أن الأمر بالإعادة وجود لم ينقل، لاستيلاء الظلمة
وسطوتهم، أو كون الحكم ليس من الأمور العظيمة التي تتوفر
الدواعي على نقل الإنكار فيه" "شرح مختصر الروضة جـ1
ص363".
والصلاة في الدار المغصوبة مثال جاء به المصنف تطبيقًا على
مسألة: أن الشيء الواحد يستحيل أن يكون واجبًا حرامًا في
وقت واحد.
وقد وضح الشيخ الشنقيطي -رحمه الله تعالى- كلام المصنف
فقال: "إيضاح معنى كلامه- رحمه الله- أن الوحدة ثلاثة
أقسام:
أ- وحدة بالجنس.
ب- وحدة بالنوع.
جـ- وحدة بالعين.
أما الوحدة بالجنس أو النوع: فلا مانع من كون بعض أفراد
الواحد بهما =
ج / 1 ص -143-
.......................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= حرامًا وبعضها حلالًا، بخلاف الوحدة بالعين فلا يمكن أن
يكون فيها بعض الأفراد حرامًا وبعضها حلالًا.
مثال الوحدة بالجنس: وحدة البعير والخنزير، لأنهما يشملهما
جنس واحد هو "الحيوان" فكلاهما حيوان، فهما متحدان جنسًا،
ولا إشكال في حرمة الخنزير وإباحة البعير.
ومثال الوحدة بالنوع: السجود: فإنه نوع واحد، فالسجود لله
والسجود للصنم يدخلان في نوع واحد هو: اسم السجود، ولا
إشكال في أن السجود للصنم كفر، ولله قربة. كما قال تعالى:
{لا
تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا
لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ
تَعْبُدُونَ}.
ومثال الوحدة بالعين: عند المؤلف -رحمه الله-: الصلاة في
الدار المغصوبة، فلا يمكن عنده أن يكون بعض أفرادها
حرامًا، وبعضها مباحًا.
وإيضاح مراده أن المصلي في الدار المغصوبة إذا قام إلى
الصلاة شغل بجسمه الفراغ الذي هو كائن فيه، وشغله الفراغ
المملوك لغيره بجسمه تعدّيًا غصب، فهو حرام. فهذا الركن
الذي هو القيام غصب فهو حرام، فإذا ركع شغل الفراغ الذي هو
كائن فيه في ركوعه، وإذا سجد شغل الفراغ الذي هو كائن فيه
في سجوده وهكذا.
وشغل الفراغ المملوك لغيره تعديًا غصب، فلا يمكن أن يكون
قربة، لامتناع كون الواحد بالعين واجبًا حرامًا، قربة
معصية؛ لاستحالة اجتماع الضدين في شيء واحد، من جهة واحدة،
فليزم بطلان الصلاة المذكورة.
ومنع هذا القائلون بصحة الصلاة في الأرض المغصوبة وهم
الجمهور. قالوا: الصلاة في الأرض المغصوبة فعل له جهتان،
والواحد بالشخص يكون له جهتان: هو طاعة من إحداهما، ومعصية
من إحداهما، فالصلاة في الأرض المغصوبة -من حيث هي صلاة-
قربة، ومن حيث هي غصب معصية، فله صلاته وعليه غصبه.
فيقول من قال ببطلانها: الصلاة في المكان المغصوب ليست من
أمرنا، فهي رد، للحديث الصحيح: "من أحدث في أمرنا ما ليس
منه فهو رد" فيقول خصمه، الصلاة في نفسها من أمرنا، فليست
برد، وإنما الغصب هو الذي ليس =
ج / 1 ص -144-
فصل: [في أقسام النهي]
مصححو الصلاة في الدار المغصوبة قسموا النهي ثلاثة أقسام:
الأول: ما يرجع إلى ذات المنهي عنه، فيضاد وجوبه، كقوله
تعالى:
{وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى....}1.
وإلى ما لا يرجع إلى ذات المنهي عنه، فلا يضاد وجوبه، مثل
قوله تعالى:
{أَقِمِ الصَّلاةَ}2 مع قول النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"لا تلبسوا الحرير"3.
ولم يتعرض في النهي للصلاة، فإذا صلى في ثوب حرير أتى
بالمطلوب والمكروه4 جميعًا.
القسم الثالث: أن يعود النهي إلى المنهي عنه دون أصله،
كقوله -تعالى-:
{وَأَقِيمُوا الصَّلاة}5 مع قوله -تعالى-: {لاََ
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
من أمرنا فهو رد" "مذكرة أصول الفقه للشيخ الشنقيطي
ص22-23" ط. دار القلم، بيروت.
1 سورة الإسراء من الآية: 23.
2 سورة الإسراء من الآية: 78.
3 حديث صحيح رواه البخاري عن عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-
في كتاب اللباس، باب: لبس الحرير "4/ 83" ومسلم: كتاب
اللبس "4/ 140" بلفظ:
"ولا تلبسوا الحرير، فإن من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة" كما رواه
النسائي والترمذي وأحمد.
4 استعمل المصنف كلمة "المكروه" وقصده "المحرم" وهو وارد
فقد جاء في القرآن الكريم إطلاق لفظ "المكروه" على بعض
المقطوع بحرمتها، قال الله تعالى:
{وَلا
تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ
نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا
كَبِيرًا} إلى أن قال سبحانه:
{كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا} اقرأ الآيات 31-38 من سورة الإسراء.
5 سورة البقرة الآيات: 43، 110 وفي سورة الأنعام
{وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلاة وَاتَّقُوهُ
ج / 1 ص -145-
تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى
تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي
سَبِيل}1
وقوله -عليه السلام-:
"دعي الصلاة
أيام أقرائك"2، ونهيه عن
الصلاة في المقبرة3، وقارعة الطريق، والأماكن السبعة4.
ونهيه عنها في الأوقات الخمسة5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَهُوَ
الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
[72].
1 سورة النساء من الآية: 34.
2 هذا جزء من حديث ورد في قصة فاطمة بنت حبيش بنت جحش،
وحمنة بنت جحش، بألفاظ مختلفة: فرواه أبو داود: كتاب
الطهارة باب: في المرأة المستحاضة، وأحمد في المسند "6/
322" عن أم سلمة -رضي الله عنها- أنها استفتت النبي -صلى
الله عليه وسلم- لفاطمة بنت أبي حبيش فقال لها:
"تدع الصلاة قدر أقرائها، ثم تغتسل وتصلي" وفي الموطأ والبخاري: "إنما ذلك عرق وليس بالحيضة، فإذا أقبلت الحيضة فاتركي الصلاة، فإذا ذهب
قدرها فاغسلي عنك الدم وصلي".
وللحديث روايات أخرى كثيرة.
يراجع: "الموطأ 1/ 61، فتح الباري 1/ 409، جامع الأصول 7/
360-368".
3 روى مسلم في صحيحه "97-972" عن أبي مرثد أن النبي -صلى
الله عليه وسلم- قال:
"لا تجلسوا على
القبور ولا تصلوا إليها".
4 عن ابن عمر، -رضي الله عنهما- أن رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- قال:
"سبع مواطن لا تجوز فيها الصلاة: ظهر بيت الله، والمقبرة والمزبلة،
والمجزرة، والحمام، وعطن الإبل، ومحجة الطريق" حديث صحيح رواه الترمذي: أبواب الصلاة، باب: ما جاء في كراهية ما
يصلي إليه وفيه، وابن ماجه: كتاب الطهارة، باب: المواضع
التي تكره فيها الصلاة.
والمراد ببيت الله: الكعبة المشرفة لإخلاله بالتعظيم وعدم
احترامها بالاستعلاء عليها، والمزبلة: محل الزبل، ومثله كل
نجاسة متيقنة. وعطن الإبل، المكان الذي تنحّى فيه ليشرب
غيرها، ومحجة الطريق: وسطه "فيض القدير 4/ 88".
5 صحت الأحاديث الدالة على النهي في الأوقات الخمسة،
ومنها: الحديث الذي =
ج / 1 ص -146-
فأبو
حنيفة يسمي المأتي به على هذا الوجه فاسدا وغير باطل1.
وعندنا: أن هذا من القسم الأول1، وهو قول الشافعي، فإن
المكروه الصلاة في زمن الحيض3، لا الوقوع في الحيض مع بقاء
الصلاة مطلوبة، إذ ليس الوقوع في الوقت شيئا منفصلا عن
الإيقاع، ولذلك بطلت الصلاة في هذه المواضع كلها4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= رواه البخاري ومسلم أنه -صلى الله عليه وسلم- قال:
"لا صلاة بعد العصر حتى تغرب الشمس، ولا صلاة بعد الصبح حتى تطلع
الشمس".
وعن عقبة بن عامر قال: ثلاث ساعات كان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- ينهانا أن نصلي فيهن، وأن نقبر فيهن موتانا:
حين تطلع الشمس بازغة حتى ترتفع، وحين يقوم قائم الظهيرة
حتى تزول، وحين تضيف الشمس للغروب" رواه مسلم. انظر: صحيح
البخاري "1/ 352"، صحيح مسلم "1/ 567" الكافي في فقه
الإمام أحمد بن حنبل للمؤلف جـ1 ص122 ط. المكتب الإسلامي.
1 حيث يفرق الحنفية بين الفاسد والباطل فيقول: الفاسد: ما
كان الخلل فيه راجعًا إلى وصف من أوصاف الفعل، أما الباطل:
فما كان الخلل فيه راجعًا إلى أصل الفعل. انظر: أصول
السرخسي ج1 ص80.
2 وهو: النهي الذي يرجع إلى ذات المنهي عنه.
3 يقصد بالمكروه هنا -المحرم- كما تقدم. وإلا فالصلاة في
زمن الحيض حرام.
4 وضح الشيخ "الشنقيطي" ما أراده المصنف من هذا الفصل
فقال: "اعلم أن حاصل كلام أهل الأصول في هذه المسألة: أن
المنهي عنه إما أن تكون جهة النهي فيه منفردة، أعني: أنه
لم تكن له جهة أخرى مأمور به منها، كالشرك بالله، والزنا،
فإن النهي عنهما لم يخالطه أمر من جهة أخرى، وهذا النوع
واضح لا إشكال في أنه باطل على كل حال.
وإما أن يكون له جهتان: جهة مأمور به منها، وجهة منهي عنه
منها، وهم يقولون في مثل هذا: إن انفكت جهة الأمر عن جهة
النهي فالفعل صحيح، وإن لم تنفك عنها فالفعل باطل.
لكنهم عند التطبيق يختلفون:
فيقول الحنبلي: الصلاة في الأرض المغصوبة منهي عنها من جهة
الغصب، =
ج / 1 ص -147-
فصل: [الأمر بالشيء نهي عن ضده]
الأمر بالشيء نهي عن ضده من حيث المعنى، فأما الصيغة فلا؛
فإن قوله "قم" غير قوله لا "تقعد".
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= مأمور بها من جهة الصلاة، إلا أن الجهة هنا غير منفكة،
لأن نفس الحركة في أركان الصلاة عين شغل الفراغ المملوك
لغيره تعديًا، وذلك عين الغصب، فأفعال الصلاة لا تنفك عن
كونها غصبًا، والصلاة يشترط فيها نية التقرب، وتلك الأفعال
التي هي شغل الفراغ المملوك لغيره غصب لا يمكن فيها نية
التقرب، إذ لا يمكن أن يكون متقربًا بما هو عاص به.
أما إذا انفكت الجهة فالفعل صحيح، كالصلاة بالحرير، فإن
الجهة منفكة، لأن لبس الحرير منهي عنه مطلقًا، في الصلاة
وغيرها، فالمصلي بالحرير صلاته صحيحة وعليه إثم لبسه
الحرير.
فيقول المالكي والشافعي -مثلًا-: لا فرق -ألبتة- بين
الصلاة في المكان المغصوب وبين الصلاة بالحرير، فالغصب
-أيضًا- حرام في الصلاة وفي غيرها، فصلاته صحيحة وعليه إثم
غصبه.
ويقول المالكي -مثلًا- مثال الجهة غير المنفكة: صوم العيد
أو الفطر؛ لأن الصائم فيهما معرض عن ضيافة الله؛ لأن الصوم
إمساك، وهذا الإمساك هو بعينه الإعراض عن ضيافة الله، لأن
الإعراض عنهما هو: الامتناع عن الأكل والشرب، فلا يمكن
انفكاك الجهة.
فيقول الحنفي: الجهة منفكة أيضًا، لأن الصوم -من حيث إنه
صوم- قربة، ومن حيث كونه في العيد منهي عنه، فالجهة منفكة
ولذا: لو نذر أحد أن يصوم يوم العيد فنذره عنده صحيح
منعقد، ويلزمه صيام يوم آخر غير يوم العيد بناء على انفكاك
الجهة عنده.
وقول المؤلف -رحمه الله- في هذا المبحث: "قسموا النهي إلى
ثلاثة أقسام" إيضاح معناه: أن المنهي عنه: إما أن يكون
المنهي عنه لذاته، أو لوصفه القائم به، أو لخارج عنه، زاد
بعض المحققين قسمًا رابعًا: وهو أن المنهي عنه لخارج =
ج / 1 ص -148-
وإنما
النظر في المعنى وهو: أن طلب القيام هل هو بعينه طلب ترك
القعود1؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= عنه قد تكون فيه جهة النهي غير منفكة عن جهة الأمر، وقد
تكون منفكة عنها، فتكون الأقسام أربعة:
مثال المنهي عنه لذاته: الشرك بالله والزنا.
ومثال المنهي عنه لوصفه القائم به: الخمر بالنسبة إلى
الإسكار.
ومثل له المؤلف بالصلاة في حالة السكر، لأنها منهي عنها
لوصف السكر القائم بالمصلي.
ومثال المنهي عنه لخارج غير لازم: الصلاة بالحرير.
ومثال المنهي عنه لخارج لازم: -عند المؤلف- الصلاة في
المكان المغصوب، والنهي يقتضي البطلان في ثلاثة منها وهي:
ما نهي عنه لذاته، أو لوصفه القائم به، أو الخارج عنه له
لزومًا غير منفك.
أما الرابع: فلا يقتضي البطلان، وهو ما كان النهي عنه
لخارج غير لازم راجع: مذكرة أصول الفقه ص24-25.
1 وضح الشيخ الشنقيطي كلام المصنف في هذا الفصل فقال:
"اعلم أن كون الأمر بالشيء نهيًا عن ضده فيه ثلاثة مذاهب:
الأول: أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده وهذا قول
جمهور المتكلمين، قالوا: أسكن مثلًا، السكون المأمور به
فيه، هو عين ترك الحركة، فهو إذًا عين النهي عن الحركة
أيضًا، فالأمر بالسكون هو النهي عن الحركة، قالوا وشغل
الجسم فراغًا هو عين تفريغه للفراغ الذي انتقل عنه، والبعد
من المغرب هو عين القرب من المشرق، وهو بالإضافة إلى
المشرق قرب إلى المغرب بعد، قالوا ومثل ذلك طلب السكون فهو
بالنسبة إليه أمر، وإلى الحركة نهي، والذين قالوا بهذا
القول اشترطوا في الأمر كون المأمور به معينًا وكونه وقته
مضيقًا ولم يذكر ذلك المؤلف، أما إذا كان غير معين كالأمر
بواحد من خصال الكفارة فلا يكون نهيًا عن ضده، فلا يكون في
آية الكفارة نهي عن ضد الإعتاق، مثلًا لجواز ترك الإعتاق
من أصله والتلبس بضده والتكفير بالإطعام مثلًا، =
ج / 1 ص -149-
.................................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وذلك بالنظر إلى ما صدقه، أي فرده المعين كما مثلنا لا
بالنظر إلى مفهومه وهو الأحد الدائر بين تلك الأشياء.
فإن الأمر حينئذ نهي عن ضد الأحد الدائر، وضده هو ما عدا
تلك الأشياء المخير بينها، وكذلك الوقت الموسع فلا يكون
الأمر بالصلاة في أول الوقت نهيًا على التلبس بضدها في ذلك
الوقت، بل يجوز التلبس بضدها في أول الوقت وتأخيرها إلى
وسطه أو آخره بحكم توسيع الوقت.
ثم قال:
الذي يظهر -والله أعلم- أن قول المتكلمين ومن وافقهم من
الأصوليين أن الأمر بالشيء هو عين النهي عن ضده، مبني على
زعمهم الفاسد أن الأمر قسمان: نفسي ولفظي. وأن الأمر
النفسي، هو المعنى القائم بالذات المجرد عن الصيغة،
وبقطعهم النظر عن الصيغة، واعتبارهم الكلام النفسي، زعموا
أن الأمر هو عين النهي عن الضد، مع أن متعلق الأمر طلب،
ومتعلق النهي ترك، والطلب استدعاء أمر موجود، والنهي
استدعاء ترك، فليس استدعاء شيء موجود، وبهذا يظهر أن الأمر
ليس عين النهي عن الضد، وأنه لا يمكن القول بذلك إلا على
زعم أن الأمر هو الخطاب النفسي القائم بالذات المجرد عن
الصيغة، ويوضح ذلك اشتراطهم في كون الأمر نهيًا عن الضد أن
يكون الأمر نفسيًا يعنون الخطاب النفسي المجرد عن الصيغة،
وجزم ببناء هذه المسألة على الكلام النفسي صاحب الضياء
اللامع وغيره، وقد أشار المؤلف إلى هذا بقوله من حيث
المعنى، وأما الصيغة فلا، ولم ينتبه، لأن هذا من المسائل
التي فيها النار تحت الرماد، لأن أصل هذا الكلام مبني على
زعم باطل وهو أن كلام الله مجرد المعنى القائم بالذات
المجرد عن الحروف والألفاظ، لأن هذا القول الباطل يقتضي أن
ألفاظ كلمات القرآن بحروفها لم يتكلم بها رب السموات
والأرض، وبطلان ذلك واضح وسيأتي له إن شاء الله زيادة
إيضاح في مباحث القرآن ومباحث الأمر.
المذهب الثاني: أن الأمر بالشيء ليس عين النهي عن ضده،
ولكنه يستلزمه، وهذا هو أظهر الأقوال: لأن قولك أسكن مثلًا
يستلزم نهيك عن الحركة لأن المأمور به لا يمكن وجوده مع
التلبس بضده لاستحالة اجتماع الضدين وما لا يتم =
ج / 1 ص -150-
فقالت
المعتزلة: ليس بنهي عن ضده، لا بمعنى أنه عينه ولا يتضمنه
ولا يلازمه؛ إذ يتصور أن يأمر بالشيء من هو ذاهل عن ضده،
فكيف يكون طالبا لما هو ذاهل عنه، فإن لم يكن ذاهلا عنه
فلا يكون طالبًا له إلا من حيث يعلم أنه لا يمكن فعل
المأمور به إلا بترك ضده، فيكون تركه ذريعة بحكم الضرورة،
لا بحكم ارتباط الطلب به، حتى لو تصور -مثلًا- الجمع بين
الضدين ففعل، كان ممتثلًا، فيكون من قبيل: ما لا يتم
الواجب إلا به واجب، غير مأمور به.
وقال قوم: فعل الضد: هو عين ترك ضده الآخر، فالسكون عين
ترك الحركة، وشغل الجوهر حيزا عين تفريغه للحيز المنتقل
عنه، والبعد من المغرب هو: عين القرب من المشرق وهو
بالإضافة إلى المشرق قرب، وإلى المغرب بعد.
فإذًا: طلب السكون بالإضافة إليه أمر، وإلى الحركة نهي.
وفي الجملة: إنا لا نعتبر في الأمر الإرادة1، بل المأمور:
ما اقتضى الأمر امتثاله.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الواجب إلا به واجب كما تقدم، وعلى هذا القول أكثر أصحاب
مالك، وإليه رجع الباقلاني في آخر مصفاته وكان يقول
بالأول.
المذهب الثالث: أنه ليس عينه ولا يتضمنه، وهو قول المعتزلة
والأبياري من المالكية، وإمام الحرمين والغزالي من
الشافعية، واستدل من قال بهذا بأن الآمر يجوز أن يكون وقت
الأمر ذاهلًا عن ضده، وإذا كان ذاهلًا عنه فليس ناهيًا عنه
إذ لا يتصور النهي عن الشيء مع عدم خطوره بالبال أصلًا،
ويجاب عن هذا بأن الكف عن الضد لازم لأمره لزومًا لا ينفك،
إذ لا يصح امتثال الأمر بحال إلا مع الكف عن ضده، فالأمر
مستلزم ضرورة للنهي عن ضده لاستحالة اجتماع الضدين قالوا
ولا تشترط إرادة الآمر كما أشار إليه المؤلف رحمه الله.
"مذكرة أصول الفقه ص26-27".
1 علق الشيخ "الشنقيطي" على هذا بقوله: "قولهم هنا: "ولا
تشترط إرادة الآمر". =
ج / 1 ص -151-
والأمر
يقتضي ترك الضد؛ ضرورة أنه لا يتحقق الامتثال إلا به،
فيكون مأمورا به، والله أعلم.
فهذه أقسام أحكام التكليف1.
ولنبين -الآن- التكليف، ما هو شروطه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= غلط؛ لأن المراد بعدم اشترط الإرادة في الأمر: إرادة
الآمر وقوع المأمور به، أما إرادته لنفس اقتضاء الطلب
المعبر عنه الأمر، فلا بد منها على كل حال، وهي محل النزاع
هنا.
ومن المسائل التي تنبني على الاختلاف في هذه المسألة: قول
الرجل لامرأته: إن خالفت نهيي فأنت طالق، ثم قال لها: قومي
فقعدت، فعلى أن الأمر بالشيء نهي عن ضده، فقوله "قومي" هو
عين النهي عن القعود، فيكون قعودها مخالفة لنهيه المعبر
عنه بصيغة الأمر، فتطلق، وعلى أنه مستلزم له فيتفرع على
الخلاف المشهور في لازم القول، هل هو أو لا، وعلى أنه ليس
عين النهي عن الضد ولا مستلزمًا له، فإنها لا تطلق" مذكرة
أصول الفقه ص28.
1 ذكره بعض العلماء قسمًا سادسًا سموه:
مرتبة العفو
ومعناها: أن الله -تعالى- لا يعذب عليها؛ لأنه قد عفا عن
فاعلها، ولا يحاسبه عما فعل، ولا يمكن أن يطلق على هذه
المرتبة اسم "المباح".
والأصل في هذه المرتبة: ما رواه الحاكم وابن جرير
والدراقطني من حديث أبي ثعلبة الخشني -رضي الله عنه- أن
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال:
"إن الله فرض فرائض فلا يضيعوها، وحد حدودًا فلا تعتدوها وحرم أشياء
فلا تنتهكوها، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا
تبحثوا عنها" حديث حسن كما قال النووي في أربعينه. =
ج / 1 ص -152-
................................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ويشمل ذلك:
1- ما كان عليه أهل الجاهلية، حيث كانوا يستبيحون ما لم
يبحه الإسلام -بعد ذلك- كالتزوج بأزواج الآباء، وجمعهم بين
الأختين، وقد جاءت آيات القرآن الكريم بتحريم ذلك،
والإشارة إلى أن الله تعالى قد عفا عما سلف.
يقول الله تعالى:
{وَلا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ
إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ} [سورة النساء الآية: 22].
ويقول -جل شأنه-:
{وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ
سَلَف} [سورة النساء الآية: 23].
2- ومنه -أيضًا- ما تركه الإسلام في أول ظهوره من غير نص
قاطع بالتحريم، ثم نزل النص القاطع بتحريمه، كما جاء في
"الخمر والميسر".
ولذلك ختمت الآيات الواردة في سورة المائدة بالتحريم
النهائي في شأنهما، ختمت بها يفيد أن الله تعالى قد عفا
عما مضى، فقال الله تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ
وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ
الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ،
إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ
الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ
وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ
فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ، وَأَطِيعُوا اللَّهَ
وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ
فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاغُ
الْمُبِينُ، لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا
اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ
اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا
وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [سورة المائدة الآيات 90-93].
ومن هذا القبيل: ما جاء في موضوع تحريم الربا قوله تعالى:
{وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جَاءَهُ
مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ
وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ
أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ} [البقرة: 275].
3- ومن هذا القبيل: عدم المؤاخذة على الخطأ والنسيان
والإكراه، فإن هذه الأمور لا تندرج تحت "المباح" بحيث
يستوي فيها الفعل والترك، بل هي من مرتبة العفو التي تفضل
المولى -سبحانه- بعدم المؤاخذة عليها.
وهذا ما جاء واضحًا في قول الرسول -صلى الله عليه وسلم-:
"رفع عن أمتى الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وراه ابن
ماجه في كتاب الطلاق، باب: المكره 1/ 659، والدارقطني في
السنن 4/ 170، والبيهقي في سننه، كتاب الخلع، =
ج / 1 ص -153-
فصل: [في معنى التكليف وشروطه]
التكليف في اللغة: إلزام ما فيه كلفة. أي: مشقة1.
قالت الخنساء2 في صخر3:
يكلفه القوم ما نابهم4
وإن كان أصغرهم مولدًا5
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= باب: طلاق المكره 7/ 357، والحاكم في المستدرك، كتاب
الطلاق 2/ 198.
4- ومنه: من ارتكب شيئًا ثبت تحريمه، ولكنه يجهل التحريم
لعذر، كمن يتزوج امرأة محرمة عليه وهو لا يعلم، كأن تكون
أخته من الرضاعة، وهو لا يعلم بذلك، فإذا تبين الإنسان ذلك
بعد الزواج فرّق بينهما دون مؤاخذة، فلا حد عليهما.
1 جاء في القاموس المحيط "3/ 198": "والتكليف: الأمر بما
يشق، وتكلفه: تجشمه".
2 هي: تماضر بنت عمرو بن الحارث بن الشريد، من بني سليم،
من أهل نجد، أشهر شواعر العرب، وأشهرهن على الإطلاق، عاشت
في الجاهلية، وأدركت الإسلام فأسلمت، ووفدت على رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- مع قومها، فكان رسول الله -صلى الله
عليه وسلم- يستنشدها ويعجبه شعرها، توفيت سنة 24هـ. "الشعر
والشعراء لابن قتيبة ص213، أسد الغابة 7/ 88".
3 هو: صخر بن عمرو بن الحارث، قتل يوم كلاب، وقيل: يوم ذي
الأثل، طعنه ربيعة بن ثعلبة الأسدي، وكان من فرسان العرب
وشجعانهم. فلما قتل رثته أخته "الخنساء" بقصيدة طويلة
مطلعها:
أعيني جودا ولا تجمدا
ألا تبكيان لصخر الندا
4 في ديوان الخنساء ص31 "ما عالهم".
5 انظر: ديوان الخنساء 31 ط. الأندلس.
ج / 1 ص -154-
وهو في
الشريعة: الخطاب بأمر أو نهي1.
وله شروط بعضها يرجع إلى المكلف، وبعضها يرجع إلى نفس
المكلف به.
أما ما يرجع إلى المكلف: فهو أن يكون عاقلا يفهم الخطاب2.
فأما الصبي والمجنون: فغير مكلفين؛ لأن مقتضى التكليف:
الطاعة والامتثال: ولا تمكن إلا بقصد الامتثال، وشرط
القصد: العلم بالمقصود، والفهم للتكليف إذ من لا يفهم كيف
يقال له افهم؟ "ومن لا يسمع الصوت كالجماد كيف يكلم؟ وإن
سمع ولم يفهم كالبهيمة، فهو كمن لا يسمع"3.
ومن يفهم فهما ما "لكنه لا يفهم ولا يثبت كالمجنون وغير
المميز"4 فخطابه ممكن، لكن اقتضاء الامتثال منه -مع أنه لا
يصح منه قصد صحيح- غير ممكن. ووجوب الزكاة5 والغرامات في
مال الصبي
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 اعترض على هذا التعريف بأنه لا يشمل المباح، فليس فيه
أمر ولا نهي.
وأجيب: بأنه ألحق بالأحكام التكليفية من قبيل التغليب،
فأطلق عليه اسم التكليف تجوزًا، وقيل: إن المباح يجب
اعتقاد إباحته، فهو داخل تحت الحكم التكليفي.
2 المصنف جمع بين العقل وفهم الخطاب، لأن الإنسان قد يكون
عاقلًا ولا يفهم الخطاب كالصبي الناسي والسكران والمغمى
عليه، فإنهم في حكم العقلاء من بعض الوجوه وهم لا يفهون.
3 ما بين القوسين من المستصفى ص"101" طبعة الجندي وهي في
الأصل: "ومن لا يسمع لا يقال له: تكلم، وإن سمع ولم يفهم
كالبهيمة فهو كمن لا يسمع".
4 ما بين القوسين من المستصفى ص"101" وهي في الأصل: "ومن
لا يفهم فهمًا ما كغير المميز" وفيها نقص واضح.
5 هذا دفع لاعتراض قد يرد مفاده: إذا كان الصبي والمجنون
غير مكلفين فكيف =
ج / 1 ص -155-
والمجنون ليس تكليفًا لهما، إذ يستحيل التكليف بفعل
الغير1.
وإنما معناه: أن الائتلاف وملك النصاب سبب لثبوت هذه
الحقوق في ذمتهما، بمعنى أنه سبب لخطاب الولي بالأداء في
الحال، وسبب لخطاب الصبي بعد البلوغ، وهذا ممكن، إنما
المحال أن يقال لمن لا يفهم: افهم.
وإنما أهلية ثبوت الأحكام في الذمة بالإنسانية التي بها
يستعد لقبول قوة العقل الذي به يفهم التكليف في ثاني
الحال. والبهيمة ليس لها أهلية فهم الخطاب، لا بالقوة ولا
بالفعل، فلم يتهيأ ثبوت الحكم في ذمتها.
والشرط لا بد أن يكون حاصلا أو ممكن الحصول على القرب
فنقول: هو موجود بالقوة.
كما أن شرط الملكية: الإنسانية، وشرط الإنسانية الحياة،
والنطفة يثبت لها الملك مع عدم الحياة التي هي شرط
الإنسانية؛ لوجودها بالقوة.
فكذا الصبي مصيره إلى العقل، فصلح لثبوت الحكم في ذمته ولم
يصلح للتكليف في الحال.
فأما الصبي المميز: فتكليفه ممكن؛ لأنه يفهم ذلك، إلا أن
الشرع حط التكليف عنه تخفيفا "لأن العقل خفي، وإنما يظهر
فيه على التدريج"2 إذ لا يمكن الوقوف بغتة على الحد الذي
يفهم به خطاب
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= نوجب عليهما دفع الزكاة، وضمان المتلفات. فأجاب المصنف:
بأن ذلك من قبيل خطاب الوضع، لوجود سببه، وليس من قبيل
خطاب التكليف، والحكم الوضعي يتعلق بالمكلف وغيره.
1 لفظ "الغير" من المستصفى ص"101".
2 ما بين القوسين من المستصفى ص"102" وهي في الأصل: "ليظهر
خفي التدريج" وفيها تحريف ظاهر.
ج / 1 ص -156-
الشارع، ويعلم الرسول والمرسِل، فنصب له علامة ظاهرة.
وقد روي أنه مكلف1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهناك رواية ثالثة -عن الإمام أحمد- أنه مكلف بالصلاة
إذا بلغ عشرًا لكونه يعاقب على تركها، كما في الحديث:
"..... واضربوهم عليها لعشر...."
والواجب: ما عوقب على تركه. قال المصنف في الكافي "1/ 94":
"والمذهب الأول" أي لا تجب على الصبي حتي يبلغ؛ للحديث
ولأن الطفل لا يعقل.
فصل: [في عدم
تكليف الناسي والنائم والسكران]
والناسي والنائم غير مكلف؛ فكيف يقال له: افهم؟
وكذا السكران الذي لا يعقل1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 وهو الذي يسميه الفقهاء: السكران الطافح، وهو الذي لا
يعقل شيئًا، وهذا رأي كثير من العلماء، منهم: الإمام أحمد.
والرواية الثانية عنه: أنه مكلف ما دام قد استعمل المسكر
مختارًا غير مكره، عالمًا بأنه يسكر، وهو مذهب الحنفية
والشافعي وكثير من أهل العلم، لأنه ليس بمرفوع عنه القلم.
حكى الإمام أحمد عن الإمام الشافعي -رضي الله تعالى عنهما-
أنه كان يقول: وجدت السكران ليس بمرفوع عنه القلم.
"القواعد والفوائد الأصولية ص37". ونص عليه في الأم "5/
25".
وقد روي عن الإمامين: الشافعي وأحمد -رضي الله عنهما- في
حكم السكران أقوال كثيرة أخرى: فقيل: إنه كالمجنون، وقيل:
إنه كالمجنون في أقواله وكالصاحي في أفعاله، وقيل: إنه في
الحدود كالصاحي، وفي غيرها كالمجنون، وقيل: إنه فيما يستقل
به -كالقتل والعتق ونحوهما- كالصاحي، وفيما لا يستقل به:
كبيعه وشرائه ومعاوضاته كالمجنون. وقيل: التوقف في طلاقه
وعتقه، أما بيعه وشراؤه فينفذ. وقيل: جميع تصرفاته تنفذ ما
عدا الردة.
وقال بعض المالكية: إن السكر يذهب بالإرادة والقدرة فتبطل
جميع تصرفاته. =
ج / 1 ص -157-
وثبوت
أحكام أفعالهم: من الغرامات، ونفوذ طلاق السكران، من قبيل
ربط الأحكام بالأسباب، وذلك مما لا ينكر.
فأما قوله تعالى:
{لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}1 فقد قيل: هذا كان في ابتداء الإسلام قبل تحريم الخمر، والمراد
منه: المنع من إفراط الشرب في وقت الصلاة، كيلا يأتي عليه
وقت الصلاة وهو سكران، كما يقال: لا تقرب التهجد وأنت
شبعان. معناه لا تشبع فيثقل عليك التهجد.
وقال الله -تعالى-:
{وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُون}2.
أي: الزموا الإسلام ولا تفارقوه، حتى إذا جاءكم الموت
أتاكم وأنتم مسلمون.
وقيل: هو خطاب لمن وجد منه مبادىء النشاط والطرب ولم يزل
عقله؛ لأنه إذا ظهر بالبرهان استحالة توجه الخطاب: وجب
تأويل الآية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ولا خلاف بين العلماء في وجوب قضاء ما فاته من العبادات،
وضمان المتلفات، لأنها من قبيل خطاب الوضع وقد وجد سببها.
وينبغي أن يكون معلومًا أن الخلاف في التكليف وعدمه: إنما
هو في أداء الواجب، لا في الوجوب نفسه، وإلا فالناسي
والنائم يجب عليهما قضاء الصلاة بعد التذكر واليقظة للحديث
المشهور:
"من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها، فإن ذلك وقتها".
راجع في هذه المسألة: "القواعد والفوائد الأصولية ص37 وما
بعدها، المسودة ص35، شرح الكوكب المنير جـ1 ص505 وما
بعدها، كشف الأسرار 4/ 353، فواتح الرحموت 1/ 145،
المستصفى ص102.
1 سورة النساء من الآية: 43.
2 سورة آل عمران من الآية: 102.
ج / 1 ص -158-
فصل: [في حكم تكليف المكره]
فأما المكره1: فيدخل تحت التكليف؛ لأنه يفهم ويسمع ويقدر
على تحقيق ما أُمر به وتركه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 عادة المصنف عدم تحرير محل النزاع، وهذا قد يوقع القارئ
في خطأ نتيجة لهذا التعميم. وقد قسم العلماء الإكراه إلى
قسمين:
أ- إكراه ملجئ: وهو الذي لا تبقى للمكلف معه قدرة ولا
اختيار، كمن حلف ألا يدخل دار فلان. فقهره من هو أقوى منه،
وكبّله بالحديد، وحمله قهرًا حتى أدخله الدار. ومثل ذلك
غير مكلف باتفاق العلماء؛ إذ لا قدرة له على خلاف ما أكره
عليه.
ب- إكراه غير ملجئ: بحيث يبقى للإنسان قدرة واختيار على
الفعل أو الترك -كما قال المصنف- كما إذا أكره الإنسان على
شيء يكرهه ولا يرضاه، كما لو أمر الحاكم شخصًا بقتل إنسان
ما، وإلا قتلناك، فهذا هو محل الخلاف وللعلماء في ذلك
مذهبان -كما قال المصنف-.
وجزم المصنف -في هذا النوع- بأنه مكلف فيه نظر:
فقد فرّق العلماء بين الإكراه في حق الغير، والإكراه في حق
النفس، فالذي يكره على قتل إنسان مسلم لا يجوز له قتله،
وإن أدى ذلك إلى قتله هو.
إما الإكراه في حق النفس، فالظاهر من الأيات والأحاديث أن
الإكراه عذر يسقط التكليف، وهو ما يفيده قول الله تعالى:
{... إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْأِيمَان...} [النحل: 106] ويؤيد ذلك: قول رسول الله -صلى الله عليه وسلم-:
"رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه" وقد روي بطرق متعددة: فقد رواه ابن حبان وصححه، والحاكم في
المستدرك: كتاب الطلاق، باب: ثلاث جدهن جد وهزلهن جد 2/
198، وحسّنه النووي في الأربعين النووية: باب التجاوز عن
المخطئ والناسي والمكره، حديث رقم "39" ص58.
ولا يطعن فيه ما نقله عبد الله بن أحمد عن أبيه أنه أنكر
الحديث جدًّا، كما لا =
ج / 1 ص -159-
وقالت
المعتزلة: ذلك محال؛ لأنه لا يصح منه فعل غير ما أكره
عليه، ولا يبقى له خيرة.
وهذا غير صحيح؛ فإنه قادر على الفعل وتركه، ولهذا يجب عليه
ترك القتل إذا أكره على قتل مسلم، ويأثم بفعله.
ويجوز أن يكلف ما هو على وفق الإكراه، كإكراه الكافر على
الإسلام، وتارك الصلاة على فعلها، فإذا فعلها قيل: أدى ما
كلف، لكن إنما تكون منه طاعة إذا كان الانبعاث بباعث
الأمر، دون باعث الإكراه.
فإن كان إقدامه للخلاص من سيف المكرِه لم تكن طاعة، ولا
يكون مجيبا داعي الشرع.
وإن كان يفعلها ممتثلًا لأمرالشارع، بحيث كان يفعلها لولا
الإكراه فلا يمتنع وقوعها طاعة. وإن وجدت صورة التخويف.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= يطعن فيه نقل الخلال عنه أنه قال: "من زعم أن الخطأ
والنسيان مرفوع فقد خالف كتاب الله وسنة رسوله -صلى الله
عليه وسلم- فإن الله أوجب في قتل النفس الخطأ الكفارة" وقد
جمع العلماء بين ما قاله الإمام وبين غيره: بأن المراد من
رفع الخطأ والنسيان: رفع المؤاخذة بهما: لا رفع حكمهما،
وإلا كيف يؤاخذ الناسي والمخطئ وقد قال الله -تعالى- في
ختام سورة البقرة
{.. رَبَّنَا لا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا} وقد جاء في حديث مسلم حول هذه الآية "قال الله نعم"
أي: أجبت دعاءكم "تفسير ابن كثير جـ1 ص324".
قال الشيخ الشنقيطي: "والحديث وإن أعله أحمد وابن أبي
حاتم، فقد تلقاه العلماء بالقبول، وله شواهد ثابتة في
الكتاب والسنة" مذكرة أصول الفقه ص33.
ج / 1 ص -160-
فصل: [في حكم تكليف الكفار بفروع الإسلام]
واختلفت الرواية1: هل الكفار مخاطبون بفروع الإسلام؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أي عن الإمام أحمد. وهذه المسألة متفرعة عن قاعدة أصولية
هي: هل حصول الشرط الشرعي شرط في صحة التكليف أو لا؟ ومعنى
هذا: أنه هل يشترط الإسلام للتكليف بالعبادات ونحوها: أو
أن الكفار يعتبرون مكلفين بها حتى ولو لم يدخلوا في
الإسلام.
ويتحرر محل النزاع فيما يأتي:
أولًا- لا خلاف بين العلماء في أن الكفار مخاطبون بأصول
العقيدة: من الإيمان بالله تعالى وكتبه ورسله واليوم
الأخر، حتى نقل القاضي أبو بكر الباقلاني الإجماع على ذلك،
والأدلة على ذلك كثيرة، منها قوله -تعالى-:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ
وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} [البقرة: 21] وقوله تعالى:
{يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ
السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيم}
أول سورة الحج: وقال النبي -صلى الله عليه وسلم-:
"...... وبعثت إلى الناس كافة" حديث صحيح رواه البخاري ومسلم والنسائي. "الفتح الكبير ج1 ص199".
ثانيًا- لا خلاف -أيضًا- أنهم مخاطبون بالعقوبات الشرعية،
فتقام عليهم إذا وجدت أسبابها، وكذلك المعاملات المالية،
لأنها أمور دنيوية.
وقد وضح الإمام ابن السبكي محل الخلاف في المسألة فقال:
"أطبق المسلمون على أن الكفار بأصول الشرائع مخاطبون،
وباعتبارها مطالبون، ولا اعتداد بخلاف مبتدع يشبب بأن
العلم بالعقائد يقع اضطرارًا فلا يكلف به، وأجمعت الأمة
-كما نقله القاضي أبو بكر- على تكليفهم بتصديق الرسل،
وبترك تكذيبهم وقتلهم وقتالهم، ولم يقل أحد إن التكليف
بذلك متوقف على معرفة الله تعالى".
ثم بعد أن نقل آراء العلماء في المسألة حرر محل الخلاف
فقال:
"..... وكشف الغطاء في ذلك أن الخطاب على قسمين: خطاب
تكليف وخطاب وضع: =
ج / 1 ص -161-
فروي
أنهم لا يخاطبون منها بغير النواهي؛ إذ لا معنى لوجوبها مع
استحالة فعلها في الكفر، وانتفاء قضائها في الإسلام، فكيف
يجب ما لا يمكن امتثاله؟ وهذا قول أكثر أصحاب الرأي1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= فخطاب التكليف بالأمر والنهي هو محل الخلاف، وليس كل
تكليف أيضًا، بل ما لم نعلم اختصاصه بالمؤمنين أو ببعض
المؤمنين، وإنما المراد العامة التي شملهم لفظًا، هل يكون
الكفر مانعًا من تعلقها بهم أو لا؟.
وأما خطاب الوضع: فمنه ما يكون سببًا لأمر أو نهي، مثل كون
الطلاق سببًا لتحريم الزوجة قال والدي -رحمه الله-: فهذا
من محل الخلاف أيضًا".
ثم قال: "ومن خطاب الوضع: كون إتلافهم وجناياتهم سببًا في
الضمان، وهذا ثابت في حقهم إجماعًا، بل ثبوته في حقهم أولى
من ثبوته في حق الصبي، وكون وقوع العقد على الأوضاع
الشرعية سببًا في البيع والنكاح وغيرهما فهذا لا نزاع فيه،
وفي ترتب الأحكام الشرعية عليه في حقهم كما في المسلم،
وكذا كون الطلاق سببًا للفرقة، فإن الفرقة ثبتت إذا قلنا
بصحة أنكحتهم.
ومن هذا القبيل: الإرث والملك به، ولولا ذلك لما شاع بيعهم
لمواريثهم وما يشترونه، ولا معاملتهم، وكذا صحة أنكحتهم
إذا صدرت على الأوضاع الشرعية، والخلاف في ذلك لا وجه له".
وقال: "ومن خطاب الوضع: ثبوت المال في ذمتهم في الديون
والكفارات عند حصول أسبابها، ولا نزاع في ثبوت ذلك في
حقهم، كما ثبت في حق المسلمين، وكذا تعلق الحقوق التي
يطالبون بدائها بأموالهم مثل: تعلق أروش الجنايات برقاب
الجناة...".
ثم قال: "ومن خطاب الوضع: كون الزنا سببًا لوجوب الحد وذلك
ثابت في حقهم، ولذلك رجم النبي -صلى الله عليه وسلم-
اليهوديين. وهو ثابت في الصحيحين "اللؤلؤ والمرجان 2/ 188"
انظر: الإبهاج للسبكي جـ1 ص176-177 طبعة الكليات الأزهرية،
والبحر المحيط للزركشي جـ1 ص410 طبعة الكويت.
1 قول المصنف: "إن هذا هو قول أكثر أصحاب الرأي" فيه نظر،
فالمشهور عن =
ج / 1 ص -162-
وروي
أنهم مخاطبون بها، وهو قول الشافعي1؛ لأنه جائز عقلًا وقد
قام دليله شرعًا2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أكثر الحنفية: أنهم ليسوا بمكلفين مطلقًا، ولا أدري من
أين نقل المصنف ذلك، وهذا المذهب، وإن قال به بعض العلماء،
إلا أنه غريب وشاذ، قال الزركشي في البحر المحيط "1/ 402":
"ولعله انقلب مما قبله، ويرده: الإجماع السابق على تكليفهم
بالنواهي: ويقصد بقوله: "انقلب مما قبله" أن القائل به
اختلط عليه مذهب القائلين بأنهم مكلفون بالنواهي دون
الأوامر فعكس المسألة. انظر: "كشف الأسرار 1/ 128، الأشباه
والنظائر لابن نجيم ص325" ولذلك لم يذكره الطوفي في
المختصر ولا في الشرح.
1 وعنه وعن الإمام أحمد -رضي الله عنهما- رواية ثانية:
أنهم غير مكلفين، وهو المنقول عن أكثر الحنفية، واختاره
أبو حامد الإسفراييني، والإمام فخر الدين الرازي, انظر:
العضد على مختصر ابن الحاجب "2/ 13" وفي المسألة عدة مذاهب
أخرى لم يتعرض لها المصنف:
فقيل: هم مكلفون بالنواهي دون الأوامر، حتى نقل بعض
العلماء إخراج هذا من محل الخلاف، وأن تكليفهم بالنواهي
متفق عليه.
وقيل: إن المرتد هو المكلف فقط، دون الكافر الأصلي.
وقيل: إنهم مكلفون بما عدا الجهاد، حكاه القرافي عن بعض
العلماء ولم ينسبه.
وقيل: إن المكلف غير الحربي، أما الحربي فليس بمكلف.
وقيل: بالتوقف.
ولكل مذهب من هذه المذاهب أدلته، وعليها مناقشات كثيرة
تراجع في مظانها. انظر: "فواتح الرحموت 1/ 154، تيسير
التحرير 2/ 248، أصول السرخسي 2/ 341، البحر المحيط 1/ 402
وما بعدها".
2 فالمصنف بذلك قد اختار هذا المذهب واستدل على صحته
بالعقل والنقل كما سيأتي توضيحه.
ج / 1 ص -163-
أما
الجواز العقلي:
فإنه لا يمتنع أن يقول الشارع: بني الإسلام على خمس، وأنتم
مأمورون بجميعها، وبتقديم الشهادتين من جملتها، فتكون
الشهادتان مأمورا بهما لنفسهما، ولكونهما شرطا لغيرهما،
كالمحدث يؤمر بالصلاة1.
فإن منع مانع الحكم في المحدث وقال: إنما يؤمر بالوضوء،
فإذا توضأ أمر بالصلاة؛ إذ لايتصور الأمر بالصلاة مع
الحدث؛ لعجزه عن الامتثال.
قلنا: فإذًا لو ترك الصلاة طول عمره لا يعاقب على تركها،
وهو خلاف الإجماع2.
وينبغي أن لا يصح أمره بالصلاة بعد الوضوء. بل بالتكبيرة
الأولى، لاشتراط تقديمها3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: يؤمر بالصلاة وبما لا تصح الصلاة إلا به، كالطهارة،
فإن: ما لا يتم الواجب إلا به واجب.
2 عبارة البلبل المطبوع "والإجماع على خلافه" ومعنى
العبارة: أن الإجماع منعقد على خلاف أنه لا يعاقب إلا على
ترك الوضوء، بل يعاقب على جميع الصلوات الفائتة طول عمره،
وذلك يدل على أنه مكلف بها.
3 هذا تفريع على ما تقدم ومعناه: أن المحدث لو توضأ وترك
الصلاة، يلزم أن لا يعاقب إلا على تكبيرة الإحرام، لاشتراط
تقديمها. هذا معنى كلامه -رحمه الله تعالى-.
قال "الطوفي" -معترضًا على هذا الإلزام-: "وهو إلزام غير
جيد، لأن التكبيرة جزء الصلاة، وليست حقيقة مستقلة عنها،
كالوضوء، اللهم إلا أن ينزِّلوا أجزاءها منزلة الحقائق
المستقلة، مؤاخذة بما اقتضاه لفظ الخصم من اشتراط التقديم،
وجزء الشيء يتقدمه، ويتوقف الشيء عليه. وبالجملة: هذا
تدقيق ليس وراءه تحقيق، إنما هو من باب: إعنات الخصم". شرح
مختصر الروضة "1/ 207-208".
ج / 1 ص -164-
وأما
الدليل الشرعي:
فعموم قوله تعالى:
{وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ...}1 وإخبار الله -سبحانه- عن المشركين:
{مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَر، قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّين}2.
ذكر هذا في معرض التصديق لهم تحذيرًا من فعلهم، ولو كان
كذبا لم يحصل التحذير منه، كيف وقد عطف عليه
{وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ}3
كيف يعطف ذلك على ما لا عذاب عليه.
وقال الله- تعالى-:
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَر...} الآية. لأنه نص في مضاعفة العذاب في حق من جمع بين المحظورات.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة آل عمران من الآية: 97.
2 سورة المدثر الآيتان: 42، 43.
3 سورة المدثر الآية: 46.
4 سورة الفرقان الآيتان: 68، 69. ووجه الدلالة من ذلك: أن
الله -تعالى- رتب الوعيد على مجموع ترك الأصل وهو قوله
تعالى:
{وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ...} والفرع، وهو قوله تعالى:
{وَلا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا
بِالْحَقِّ وَلا يَزْنُون}
فكانت الفروع جزءًا من سبب الوعيد، وذلك يستلزم أنهم
مكلفون بها.
يضاف إلى ما أورده المصنف من الآيات: آيات أخرى صريحة ونص
في محل النزاع خاصة بخطاب أهل الكتاب والمشركين، تحثهم على
طاعة الله تعالى، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة، مثل قوله
تعالى:
{لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ
وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ
الْبَيِّنَة}
إلى أن قول سبحانه:
{وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا
الزَّكَاة} [سورة البينة: 1-5].
وقال تعالى:
{وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ، الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ
الزَّكَاة} [فصلت: 6، 7] قال القرطبي: "وفيه دلالة على أن الكافر يعذب بكفره
مع منع وجوب الزكاة عليه". =
ج / 1 ص -165-
وفائدة
الوجوب1: أنه لو مات عوقب على تركه، وإن أسلم سقط عنه؛ لأن
الإسلام يَجُبّ ما قبله.
ولا يبعد النسخ قبل التمكن من الامتثال، فكيف يبعد سقوط
الوجوب بالإسلام3؟.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= ومن الأدلة الصريحة في مضاعفة العذاب: قوله تعالى:
{الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ
عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ} [النحل: 88].
1 هذا بيان لثمرة تكليف الكفار بفروع الإسلام. وقد ذكر
العلماء ثمارًا أخرى منها:
أنه إذا علم بمضاعفة العذاب فوق عذاب الكفر بادر بفعلها،
طلبًا للتخفيف، فإنه من الثابت أن أهل النار متفاوتون في
المنازل والدركات، بحسب أعمالهم، كما أن أهل الجنة
متفاوتون في المنازل والدرجات. انظر: "شرح المختصر الطوفي
جـ1 ص213-214".
2 وهو معنى ما جاء في صحيح مسلم: باب كون الإسلام يهدم ما
قبله وكذا الحج والعمرة، في حديث طويل عن عمرو بن العاج /
1 ص -رضي الله عنه- ".... فلما جعل الله الإسلام في قلبي
أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت: أبسط يمينك
فلأُبايعْك فبسط يمينه. قال: فقبضت يدي. قال:
"ما لك يا عمرو؟" قلت: أردت
أن أشترط. قال:
"تشترط بماذا؟"
قلت: أن يغفر لي. قال:
"أما علمت
أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان
قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله..." الحديث.
3 معنى هذه الفقرة: أن الذين يقولون بعدم تكليفهم قالوا:
كيف تقولون: أن الكفار مخاطبون بفروع الإسلام، مع أنه لا
يجب قضاؤها عليهم؟.
فأجاب المصنف: أن هذا مبني على مسألة أخرى هي: هل القضاء
بأمر جديد أو بالأمر الأول؟
فإن قلنا: بأمر جديد سقط الاعتراض، لأن الإسلام أسقط عنهم
القضاء، فليس هناك أمر جديد بالأداء.
وإن قلنا: إنه بالأمر، فيكون القضاء قد سقط عنهم بدليل آخر
ناسخ للمتقدم، وهو الحديث، وليس ببعيد أن يرد النسخ قبل
التمكن من الفعل، =
ج / 1 ص -166-
فصل: [شروط الفعل المكلف به]
فأما الشروط المعتبرة للفعل المكلف به فثلاثة:
أحدهما: أن يكون معلومًا للمأمور به، حتى يتصور قصده إليه،
وأن يكون معلومًا كونه مأمورًا به من جهة الله -تعالى- حتى
يتصور منه قصد الطاعة والامتثال. وهذا يختص بما يجب به قصد
الطاعة والتقرب1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الدليل موجود وهو حديث
"الإسلام يهدم ما كان قبله"
أي: يقطع ما قبله من أحكام الكفر.
1 إيضاح معنى هذا الشرط: أن الفعل المكلف به يشترط في صحة
التكليف به شرعًا أن يكون المكلف يعلمه، فيشترط لتكليفه
بالصلاة علمه بحقيقة كيفية الصلاة لأن التكليف بالمجهول من
تكليف ما لا يطاق، إذ لو قيل للمكلف افعل ما أضمره في نفسي
أنك تفعله وإلا عاقبتك، فقد كلف بفعل ما لا طاقة له به لأن
اهتداءه إلى الفعل المطلوب من غير علم ليس في طاقته كما هو
واضح.
واعلم أن الأحكام الشرعية قسمان: قسم منها تعبدي محض، وقسم
معقول المعنى. فالتعبدي كالصلاة والزكاة والصوم، فيشترط في
التكليف به العلم بحقيقة الفعل المكلف به كما بينا، ويزاد
على ذلك العلم بأنه مأمور به من الله تعالى، إذ لا بد له
من نية التقرب به إلى الله تعالى ونية التقرب إليه عز وجل
لا تمكن إلا بعد معرفة أن الأمر المتقرب به إليه أمر منه
جل وعلا، وأما معقول المعنى فلا يشترط في صحة فعله نية
التقرب ولكن لا أجر له فيه البتة إلا بنية التقرب إلى الله
تعالى. ومثال ذلك رد الأمانة، والمغصوب وقضاء الدين،
والإنفاق على الزوجة. فمن قضى دينه وأدى الأمانة ورد
المغصوب مثلًا لا يقصد بشيء من ذلك وجه الله بل لخوفه من
عقوبة السلطان مثلًا ففعله صحيح دون النية وتسقط عنه
المطالبة فلا يلزمه الحق في الآخرة بدعوى أن قضاءه في
الدنيا غير صحيح لعدم نية التقرب بل القضاء صحيح والمطالبة
ساقطة على كل حال ولكن لا أجر له إلا بنية التقرب، وهذا هو
مراد المؤلف بقوله وهذا يختص بما يجب به قصد الطاعة
والتقرب.
ج / 1 ص -167-
الثاني: أن يكون معدومًا، أما الموجود: فلا يمكن إيجاده،
فيستحيل الأمر به1.
الثالث: أن يكون ممكنًا، فإن كان محالًا، كالجمع بين
الضدين ونحوه لم يجز الأمر به2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 إيضاح معنى هذا الشرط: أنه يشترط في المطلوب المكلف به
أن يكون الفعل المطلوب معدومًا، فالصلاة والصوم المأمور
بهما وقت الطلب لا بد أن يكونا غير موجودين، والمكلف ملزم
بإيجادهما على الوجه المطلوب، أما الموجود الحاصل فلا يصح
التكليف به كما لو كان صلى ظهر هذا اليوم بعينه صلاة تامة
من كل جهاتها، فلا يمكن أمره بإيجاد تلك الصلاة بعينها
التي أداها على أكمل وجه لأن الأمر بتحصيلها معناه أنها
غير حاصلة والفرض أنها حاصلة فيكون تناقضًا، ومن هنا قالوا
تحصيل الحاصل محال لأن السعي في تحصيله معناه أنه غير حاصل
بالفعل وكونه حاصلًا بالفعل ينافي ذلك فصار المعنى هو غير
حاصل هو حاصل. وهذا تناقض واجتماع النقيضين مستحيل. "مذكرة
أصول ا لفقه للشيخ الشنقيطي ص35".
2 هذا الشرط مرتبط بمسألة أخرى هي: التكليف بما لا يطاق،
أو التكليف بالمحال، وفيها تفصيل لأهل الأصول لم يتعرض له
المصنف، وقد وضحه الشيخ "الشنقيطي" فقال:
"اعلم أن حاصل تحقيق المقام في هذه المسألة عند أهل الأصول
أن البحث فيها من جهتين:
الأولى: من جهة الجواز العقلي، أي هل يجوز عقلًا أن يكلف
الله عبده بما لا يطيقه أو يمتنع ذلك عقلًا.
الثانية: هل يمكن ذلك شرعًا أو لا، أن أكثر الأصوليين على
جواز التكليف عقلًا بما لا يطاق، قالوا وحكمته ابتلاء
الإنسان، هل يتوجه إلى الامتثال ويتأسف على عدم القدرة
ويضمر أنه لو قدر لفعل، فيكون مطيعًا لله بقدر طاقته، أو
لا يفعل ذلك فيكون في حكم العاصي. ومنهم من يقول لا يلزم
ظهور الحكمة في أفعال الله لأنهم يزعمون أن أفعاله لا تعلل
بالأغراض والحكم =
ج / 1 ص -168-
...........................
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وسيأتي إن شاء الله تعالى إيضاح إبطال ذلك في الكلام على
علة القياس، وأكثر المعتزلة وبعض أهل السنة منعوا التكليف
بما لا يطاق عقلًا، قالوا لأن الله يشرع الأحكام لحكم
ومصالح، والتكليف بما لا يطاق لا فائدة فيه فهو محال
عقلًا، أما بالنسبة إلى الإمكان الشرعي ففي المسألة
التفصيل المشار إليه آنفًا وهو أن المستحيل أقسام.
فالمستحيل عقلًا قسمان: قسم مستحيل لذاته كوجود شريك لله
سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا، وكاجتماع النقيضين
والضدين في شيء واحد في وقت واحد من جهة واحدة.
ويسمى هذا القسم المستحيل الذاتي، وإيضاحه أن العقل إما أن
يقبل وجود الشيء فقط، أي ولا يقبل عدمه، أو يقبل عدمه فقط
ولا يقبل وجوده أو يقبلهما معًا، فإن قبل وجوده فقط ولم
يقبل عدمه بحال فهو الواجب الذاتي المعروف بواجب الوجود،
كذات الله جل وعلا، متصفًا بصفات الكمال والجلال، وإن قبل
عدمه فقط دون وجوده فهو المستحيل المعروف بالمستحيل عقلًا
كوجود شريك لله سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا. وإن
قبل العقل وجوده وعدمه، فهو المعروف بالجائز عقلًا وهو
الجائز الذاتي كقدوم زيد يوم الجمعة وعدمه. فالمستحيل
الذاتي أجمع العلماء على أن التكليف به لا يصح شرعًا لقوله
تعالى:
{لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا} وقوله تعالى:
{فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}
ونحو ذلك من أدلة الكتاب والسنة.
القسم الثاني من قسمي المستحيل عقلًا: هو ما كان مستحيلًا
لا لذاته بل لتعلق علم الله بأنه لا يوجد، لأن ما سبق في
علم الله أنه لا يوجد مستحيل عقلًا أن يوجد لاستحالة تغير
ما سبق به العلم الأزلي وهذا النوع يسمونه المستحيل
العرضي، ونحن نرى أن هذه العبارة لا تنبغي لأن وصف
استحالته بالعرض من أجل كونها بسبب تعلق العلم الأزلي لا
يليق بصفة الله، فالذي ينبغي أن يقال: إنه مستحيل لأجل ما
سبق في علم الله من أنه لا يوجد. ومثال هذا النوع إيمان
أبي لهب، فإن إيمانه بالنظر إلى مجرد ذاته جائز عقلًا
الجواز الذاتي لأن العقل يقبل وجوده، وعدمه، ولو كان
إيمانه مستحيلًا عقلًا لذاته لاستحال شرعًا تكليفه
بالإيمان مع أنه مكلف به قطعًا إجماعًا، ولكن هذا الجائز
عقلًا الذاتي، مستحيل من جهة أخرى، وهى من حيث تعلق علم
الله فيما سبق أنه لا يؤمن لاستحالة =
ج / 1 ص -169-
وقال
قوم: يجوز ذلك 1:
وبدليل قوله تعالى:
{وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه}2. والمحال لا يسأل دفعه.
ولأن الله -تعالى- علم أن أبا جهل 3 لا يؤمن، وقد أمره
بالإيمان وكلفه إياه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= تغير ما سبق به العلم الأزلي، والتكليف بهذا النوع من
المستحيل واقع شرعًا وجائز عقلًا وشرعًا بإجماع المسلمين،
لأنه جائز ذاتي لا مستحيل ذاتي، والأقسام بالنظر إلى تعلق
العلم قسمان واجب ومستحيل فقط، لأن العلم إما أن يتعلق
بالوجود فهو واجب أو بالعدم فهو مستحيل ولا واسطة،
والمستحيل العادي كتكليف الإنسان بالطيران إلى السماء
بالنسبة إلى الحكم الشرعي كالمستحيل العقلي. وهذا هو حاصل
كلام أهل الأصول في هذه المسألة، والآية لا دليل فيها على
جواز التكليف شرعًا بما لا يطاق لأن المراد بما لا طاقة به
هي الآصار والأثقال التي كانت على مَن قبلنا، لأن شدة
مشقتها وثقلها تنزلها منزلة ما لا طاقة به. "مذكرة أصول
الفقه ص36-37".
1 اسم الإشارة هنا عائد على المحال لذاته، أي: أجاز قوم
التكليف به، واستدل له المصنف بثلاثة أدلة: أولها: الآية
الكريمة، والثاني: قوله: "ولأن الله -تعالى- علم أن أبا
جهل لا يؤمن" إلخ. ووجه الاستدلال به: أن أبا جهل قد أمر
بالإيمان بكل ما أنزله الله تعالى، ومن بعض ذلك: أنه لا
يؤمن، مثل قوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ
لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وأوضح من ذلك تمثيل بعض الأصوليين بأبي لهب، الذي نزلت في حقه
صراحة سورة المسد، إذًا يكون هؤلاء مأمورون بأن يؤمنوا
بأنهم لا يؤمنون، فقد صاروا مكلفين بأن يؤمنوا، وبأنهم لا
يؤمنون، وهو جمع بين النقيضين. وسيتأتى الرد على ذلك.
2 سورة البقرة من الآية: 286.
3 هو: عمرو بن هشام بن المغيرة المخرومي القرشي، كان شديد
القرشي، كان شديد العداوة لرسول الله -صلى الله عليه وسلم-
في صدر الإسلام، كان أحد سادات قريش وأبطالها ودهاتها =
ج / 1 ص -170-
ولأن
تكليف المحال لا يستحيل لصيغته، إذ ليس يستحيل أن يقول:
{كُونُوا قِرَدَة}1.
{كُونُوا حِجَارَة}2.
وإن أحيل طلب المستحيل للمفسدة، ومناقضة الحكمة: فإن بناء
الأمور على ذلك في حق الله -تعالى- محال؛ إذ لا يقبح منه
شيء، ولا يجب عليه الأصلح.
ثم الخلاف فيه وفي العباد واحد فالسفه من المخلوق ممكن.
ووجه استحالته3.
قوله تعالى:
{لا
يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}4
و{لا نُكَلِّف
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= في الجاهلية، يقال له: أبو الحكم فدعاه المسلمون: أبا
جهل. قتل في غزوة بدر الكبرى "عيون التاريخ 1/ 144".
1 سورة البقرة من الآية: 65.
2 سورة الإسراء من الآية: 50 وقول المصنف: "ولأن تكليف
المحال...." هذا هو الدليل الثالث للمذهب الذي يجوّز
التكليف بالمحال. وقد اختصره المصنف من "المستصفى" وبيانه:
أنهم قالوا: لو استحال تكليف المحال لاستحال إما لصيغته،
أو لمعناه، أو لمفسدة تتعلق به، أو لأنه يناقض الحكمة.
ولا يستحيل لصيغته؛ إذ لا يستحيل أن يقول:
{كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وأن يقول السيد لعبده الأعمى: أبصر، وللزّمن: امش. وأما قيام معناه
بنفسه، فلا يستحيل -أيضًا- إذ يمكن أن يطلب من عبده كونه
في حالة واحدة في مكانين ليحفظ ماله في بلدين. وهذا مما
تركه المصنف -اختصارًا- وأشار إلى القسمين الأخيرين بقوله:
"وإن أحيل طلب المستحيل إلخ" أي قالوا: محال أنه ممتنع
للمفسدة ومناقضة الحكمة، فإن بناء الأمور في حق الله محال،
إذ لا يقبح منه شيء، ولا يجب عليه الأصلح، ثم الخلاف فيه
وفي العباد واحد، والفساد والسفه من المخلوق ممكن، فلم
يمتنع ذلك مطلقًا. "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص152-153".
3 بدأ المصنف يورد أدلة المذهب الذي اختاره وهو: استحالة
التكليف بالمحال.
4 سورة البقرة من الآية: 286.
ج / 1 ص -171-
نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا..}1.
ولأن الأمر: استدعاء وطلب، والطلب يستدعي مطلوبًا، وينبغي
أن يكون مفهومًا بالاتفاق، ولو قال "أبجد هوّز" لم يكن ذلك
تكليفا؛ لعدم عقل معناه.
ولو علم الأمر دون المأمور: به لم يكن تكليفا، إذ التكليف:
الخطاب بما فيه كلفة، وما لا يفهمه المخاطب ليس بخطاب،
وإنما اشترط فهمه ليتصور منه الطاعة، إذ كان الأمر:
استدعاء الطاعة، فإن لم يكن استدعاءً لم يكن أمرا، والمحال
لا يتصور الطاعة فيه، فلا يتصور استدعاؤه، كما يستحيل من
العاقل طلب الخياطة من الشجر.
ولأن2 الأشياء لها وجود في الأذهان قبل وجودها في الأعيان،
وإنما يتوجه إليه الأمر بعد حصوله في العقل، والمستحيل لا
وجود له في العقل فيمتنع طلبه.
ولأننا3 اشترطنا: أن يكون معدوما في الأعيان ليتصور الطاعة
فيه، فلذلك يشترط أن يكون موجودا في الأذهان، ليتصور
إيجاده على وفقه.
ولأننا4 اشترطنا كونه معلومًا ومعدومًا، وكون المكلف عاقلا
فاهما؛ لاستحالة الامتثال بدونهما، فكون الشيء ممكنا في
نفسه أولى أن يكون شرطا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة الأنعام من الآية: 152 والآيتان هما الدليل الأول.
2 هذا هو الدليل الثاني، وهو وما بعده أدلة عقلية، أوردها
بعد الأدلة النقلية، التي منها الآيتان السابقتان.
3 هذا هو الدليل الثالث.
4 هذا هو الدليل الرابع.
ج / 1 ص -172-
وقوله
تعالى 1: {وَلا تُحَمِّلْنَا مَا لا طَاقَةَ لَنَا بِه} فقد قيل: المراد به: ما يثقل ويشق، بحيث يكاد يفضي إلى إهلاكه،
كقوله تعالى:
{اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُم}2. وكذلك قال النبي -صلى الله عليه وسلم- في المماليك:
"لا تكلفوهم ما لا يطيقون"3.
وقوله تعالى:
{كُونُوا قِرَدَة} تكون
إظهارًا للقدرة4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من هنا سيبدأ المصنف في الرد على الأدلة التي استدل بها
أصحاب المذهب الأول، وهم المجوّزون للتكليف بالمستحيل.
وبيان ذلك: أن المستدلين بالآية قالوا: "بأن المحال لا
يسأل دفعه، فإنه مندفع بذاته" فأجاب المصنف: بأن الآية لا
تدل على جواز التكليف بما لا يطاق، إذ قد يقع السؤال بما
لا يجوز على الله غيره نحو قوله تعالى:
{قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} [الأنبياء: 112].
ولم يدل دليل على أن الله -سبحانه- يجوز أن يحكم بالباطل.
وتمدح -سبحانه- بقوله:
{وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيد}
[ق: 29] مع أنه لا يجوز عليه الظلم.
ولئن سلمنا أن المحال لا يسأل دفعه، فإنهم سألوا أن لا
يكلفهم ما يشق عليهم، وهذا متعارف في اللغة أن يقول الشخص
لما يشق عليه: لا أطيقه، لأنهم علموا جواز تكليف ما لا
يطاق فسألوا نفيه" انظر: نزهة الخاطر "1/ 155".
2 سورة النساء من الآية: 66:
{وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا
أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا
فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ}.
3 حديث صحيح: رواه البخاري ومسلم ومالك وأحمد وأبو داود
والترمذي وابن ماجه بروايات مختلفة. ولفظ مسلم باب صحبة
المماليك عن أبي هريرة -رضي الله عنه- أنه -صلى الله عليه
وسلم- قال: "للمملوك طعامه وكسوته، ولا يكلف من العمل إلا
ما يطيق". انظر: فيض القدير جـ5 ص292.
4 أي: لا بمعنى أنه طلب من المعدوم أن يكون بنفسه.
ج / 1 ص -173-
وقوله
تعالى:
{كُونُوا حِجَارَة} تعجيز، وليس شيء من ذلك أمرا1.
وتكليف أبي جهل الإيمان غير محال؛ فإن الأدلة منصوبة،
والعقل حاضر، وآلته تامة2. ولكن علم الله -تعالى- منه أنه
يترك ما يقدر عليه، حسدا وعنادا، والعلم يتبع المعلوم ولا
يغيره، وكذلك نقول: الله قادر على أن يقيم القيامة في
وقتنا وإن أخبر أنه لا يقيمها الآن، وخلاف خبره محال لكن
استحالته لا ترجع إلى نفس الشيء فلا تؤثر فيه3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: لإظهار عجزهم، لا أنه أمرهم بذلك حتى يتم الاعتراض
بالآية الكريمة.
2 عبارة المستصفى: "والأدلة منصوبة، والعقل حاضر، إذ لم
يكن هو مجنونًا".
3 وبذلك يكون المستصفى قد أجمل الكلام في هذه المسألة ولم
يفرق بين الجواز العقلي والوقوع الشرعي. وقد تقدم لنا
توضيح ذلك بما نقلناه عن الشيخ الشنقيطي.
وخلاصته أن في الجواز العقلي ثلاثة مذاهب:
الأول: عدم الجواز مطلقًا.
الثاني: جواز التكليف بما هو محال لغيره، دون المحال
لذاته.
الثالث: الجواز مطلقا، وهو رأي الجمهور. أما الوقوع الشرعي
ففيه المذهبان اللذان ذكرهما.
فصل: [في
المقتضى بالتكليف]
والمقتضى بالتكليف: فعل أو كف.
فالفعل: كالصلاة.
والكف: كالصوم وترك الزنا والشرب.
ج / 1 ص -174-
وقيل:
لا يقتضي الكف، إلا أن يتناول التلبس1 بضد من أضداده،
فيثاب على ذلك لا على الترك؛ لأن "لا تفعل" ليس بشيء، ولا
تتعلق به قدرة، إذ لا تتعلق القدرة إلا بشيء.
والصحيح: أن الأمر فيه مستقيم، فإن الكف في الصوم مقصود،
ولذلك تشترط النية فيه.
والزنا والشرب نهي عن فعلهما، فيعاقب على الفعل، ومن لم
يصدر منه ذلك لا يثاب ولا يعاقب؛ إلا إذا قصد كف الشهوة
عنه مع التمكن فهو مثاب على فعله.
ولا يبعد أن "يكون مقصود الشرع"2 أن لا يتلبس بالفواحش،
وإن لم يقصد أنه يتلبس بضدها3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 في جميع النسخ "التلبيس" وهو خطأ واضح، وقد صححناها من
المستصفى.
2 ما بين القوسين من المستصفى لتوضيح المعنى.
3 خلاصة هذا الفصل: أن الفعل المكلف به يتنوع إلى نوعين:
فعل وكف، وقد اختلف العلماء فيما يقتضيه التكليف؟.
فالجمهور على أن المقتضى به الإقدام أو الكف، وهو فعل
أيضًا، ولذلك قالوا: لا تكليف إلا بفعل. فالكف معناه: كف
النفس وصرفها عن المنهي عنه، وآيات القرآن الكريم، وأحاديث
الرسول -صلى الله عليه وسلم- تؤيد ذلك. قال الله -تعالى-:
{لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ
قَوْلِهِمُ الْأِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَصْنَعُونَ} [المائدة: 63] فسمى الله -تعالى- عدم نهي الربانيين والأحبار لهم
صنعًا، فدل ذلك على أن ترك الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر فعل. وقال تعالى:
{كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا
كَانُوا يَفْعَلُونَ}
[المائدة: 79]. فسمى عدم تناهيهم عن المنكر فعلًا وهو
واضح. وفي السنة من هذا كثير، من ذلك قوله -صلى الله عليه
وسلم-:
"المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده"
فسمى ترك الأذي إسلامًا.
ج / 1 ص -175-
الضرب الثاني - من الأحكام ما يتلقى من خطاب الوضع
والإخبار1
وهو أقسام أيضًا:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقال بعض المعتزلة: إن متعلق التكليف في النهي: هو العدم
الأصلى؛ لأن تارك الزنا ممدوح حتى مع الغفلة عن ضدية ترك
الزنى. وأجاب الجمهور عن ذلك: بأن المدح على كف النفس عن
المعصية. انظر: الإحكام للآمدي "1/ 147"، شرح الكوكب
المنير "1/ 492-493".
1 من هنا سيتكلم المؤلف عن الضرب الثاني من الأحكام
الشرعية، وهو: الحكم الوضعي.
وإذا كان قسيمه وهو: الحكم التكليفي: هو خطاب الله تعالى
المتعلق بأفعال المكلفين بالاقتضاء، أو التخيير، كما تقدم.
فإن الحكم الوضعي هو: خطاب الله تعالى المتعلق بجعل الشيء
سببًا لشيء، أو شرطًا له، أو مانعًا منه، أو كونه صحيحًا
أو فاسدًا، أو رخصة أو عزيمة، أو أداء أو إعادة أو قضاء.
ومعنى الوضع: أن الشرع وضع: أي شرع أمورًا سميت أسبابًا
وشروطًا وموانع إلخ تعرف عند وجودها أحكام الشرع من إثبات
أو نفي، فالأحكام توجد بوجود الأسباب والشروط، وتنتفي
لوجود الموانع.
وأما معنى "الإخبار" فهو: أن الشرع بوضع هذه الأمور أخبرنا
بوجود أحكامه، وانتفائها عند وجود تلك الأمور أو انتفائها،
فكأنه قال مثلا-: إذا وجد النصاب الذي هو سبب وجوب الزكاة،
والحول الذي هو شرطه، فاعلموا أني أوجبت عليكم أداء
الزكاة، وإن وجد الدين الذي هو مانع من وجوبها، أو انتفى
السوم الذي هو شرط لوجوبها في السائمة: فاعلموا أني لم
أوجب عليكم الزكاة، وكذا الكلام في القصاص والسرقة والزنا
وكثير من الأحكام بالنظر إلى وجود أسبابها وشروطها وانتفاء
موانعها وعكس ذلك. انظر: "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص157".
وأقسام خطاب الوضع هي: العلل، والأسباب، والشروط،
والموانع، =
ج / 1 ص -176-
أحدهما- ما يظهر به الحكم:
ثم اعلم أنه لما عسر على الخلق معرفة خطاب الشارع في كل
حال، أظهر خطابه لهم بأمور محسوسة، جعلها مقتضية لأحكامها
على مثال: اقتضاء العلة المحسوسة معلولها، وذلك شيئان:
أحدهما: العلة.
والثاني: السبب.
ونصبهما مقتضيين لأحكامهما حكم من الشارع1.
فلله -تعالى- في الزاني حكمان:
أحدهما: وجوب الحد عليه.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والصحة، والفساد، والعزيمة والرخصة، والأداء والإعادة
والقضاء. وسوف يذكر المصنف هذه الأمور تباعًا.
1 جمهور العلماء لم يذكروا العلة من أقسام الحكم الوضعي،
والمصنف مشى على رأي من يجعلها منه. والسبب في هذا
الاختلاف: اختلاف العلماء في العلاقة بين العلة والسبب:
فقيل: إنهما بمعنى واحد، وقيل: إنهما متغايران، فخصوا
العلة بالأمارة المؤثرة التي تظهر فيها المناسبة بينها
وبين الحكم، وخصوا السبب بالأمارة غير المؤثرة. وقال أكثر
الأصوليين: إن السبب أعم من العلة، فكل علة سبب، ولا عكس،
وأن السبب يشمل الأسباب التي ترد في المعاملات والعقوبات،
ويشمل العلة التي هي ركن من أركان القياس.
وفرقوا بينهما فقالوا: إن الصفة التي يرتبط بها الحكم إن
كانت لا يدرك تأثيرها في الحكم بالعقل، وليست من صنع
المكلف، كالوقت للصلاة المكتوبة فتسمى سببًا. أما أذا أدرك
العقل تأثير الوصف في الحكم فيسمى علة، ويسمى سببًا،
فالسبب يشمل القسمين، فهو أعم من العلة.
"انظر: المحلى على جمع الجوامع 1/ 95، الإحكام للآمدي 1/
128، شرح الكوكب المنير 1/ 438-439".
ج / 1 ص -177-
والثاني: جعل الزنا موجبا له.
فإن الزنا لم يكن موجبا للحد لعينه، بل بجعل الشرع له
موجبا، ولذلك يصح تعليله فيقال: إنما نصب علّة لكذا وكذا.
فأما العلة: فهي في اللغة: عبارة عما اقتضى تغييرا، ومنه
سميت علة المريض لأنها اقتضت تغيير الحال في حقه.
ومنه العلة العقلية:
وهي: عبارة عما يوجب الحكم لذاته، كالكسر مع الانكسار،
والتسويد مع السواد.
فاستعار الفقهاء1 لفظ "العلة" من هذا، واستعملوه في ثلاثة
أشياء:
أحدها: بإزاء ما يوجب الحكم لا محالة.
فعلى هذا لا فرق بين المقتضى والشرط والمحل والأهل، بل
العلة: المجموع، و"الأهل والمحل" وصفان من أوصافها؛ أخذًا
من العلة العقلية2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 يشير المصنف بذلك إلى العلاقة بين "العلة العقلية"
والعلة عند الفقهاء والأصوليين.
ومعناه: أنه إذا وجد هذا المجموع المركب من مقتضى الحكم
وهو المعنى الطالب له، وشروطه، ومحله: وهو ما تعلق به
الحكم، وأهله: وهو المخاطب بالحكم، وجد الحكم لا محالة.
كوجوب الصلاة: فإنه حكم شرعي، ومقتضيه: أمر الشارع
بالصلاة، وشرطه: أهلية المصلي لتوجه الخطاب إليه، بأن يكون
بالغًا عاقلًا. ومحله الصلاة، وأهله المصلي، فإذا وجد هذا
المجموع وجدت الصلاة، ويطلق على هذا المجموع: اسم العلة،
تشبيهًا بالعلة العقلية.
2 قول المؤلف: "والأهل والمحل وصفان من أوصافها" غير مسلم،
بل هما ركنان من أركانها، على هذا التفسير. انظر: مذكرة
أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص41.
ج / 1 ص -178-
والثاني: أطلقوه بإزاء المقتضي للحكم، وإن تخلف الحكم
لفوات شرط، أو وجود مانع1.
والثالث: أطلقوه بإزاء الحكمة2، كقولهم: المسافر يترخص
لعلة المشقة. والأوسط أولى.
الثاني- السبب:
وهو في اللغة: عبارة عما حصل الحكم عنده لا به. ومنه سمي
الحبل والطريق سببا3.
فاستعار الفقهاء لفظة "السبب" من هذا الموضع واستعملوه في
أربعة أشياء:
أحدها: بإزاء ما يقابل المباشرة كالحفر مع التردية: الحافر
يسمى صاحب سبب، والمردي صاحب علة.
الثاني: بإزاء علة العلة، كالرمي، يسمى سببًا.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 مثال ذلك: اليمين مع عدم الحنث، بالنسبة لوجوب الكفارة،
فاليمين علة الكفارة، وشرط وجوبها: الحنث، فتسمى اليمين
دون الحنث علة، وهي: علة تخلف حكمها، وهذا المعنى هو الذي
رجحه المؤلف.
2 ضابط الحكمة: أنها هي المعنى الذي من أجله صار الوصف
علة، أو هي: المعنى المناسب الذي ينشأ عنه الحكم.
فعلة تحريم الخمر: الإسكار، وحكمته: حفظ العقل، لأن حفظ
العقل هو الذي صار من أجله الإسكار علة للتحريم في الخمر.
وللعلماء خلاف طويل في جواز التعليل بالحكمة، أو عدم
الجواز، سيأتي تحقيقه -إن شاء الله تعالى- في باب القياس.
3 جاء في القاموس المحيط: فصل السين، باب الباء: "والسبب:
الحبل وما يتوصل به إلى غيره".
ج / 1 ص -179-
فصل: [في الشرط وأقسامه]
ومما يعتبر للحكم: الشرط1.
وهو: ما يلزم من انتفائه انتفاء الحكم، كالإحصان مع الرجم،
والحول في الزكاة.
فالشرط: ما لا يوجد المشروط مع عدمه، ولا يلزم أن يوجد عند
وجوده2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 أي: مما يعتبر لإظهار الحكم الوضعي: الشرط.
2 هذا هو تعريف الشرط في اصطلاح الأصوليين، وهو الذي ذكره
الغزالي في المستصفى، وله تعريفات أخرى أدق من هذا
التعريف، منها ما ذكراه السرخسي في أصوله "2/ 303" والآمدي
في الإحكام "1/ 130" من أنه: "ما يلزم من عدمه عدم الحكم،
ولا يلزم من وجوده وجود ولا عدم لذاته" وقالوا في علة
زيادة لفظ "لذاته" إنه احتراز من مقارنة الشرط للسبب،
فيلزم الوجود لوجود السبب، أو مقارنة الشرط للمانع، فإنه
يلزم العدم لا لذاته، بل لوجود المانع.
أما معناه: لغة: فهو العلامة. قال الله -تعالى-:
{فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً
فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا
جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُم} [سورة محمد: 18] أي: علاماتها.
قال الجوهري في الصحاح "مادة شرط": الشرط معروف -يعنى
بالسكون- =
ج / 1 ص -180-
والعلة: يلزم من وجودها وجود المعلول، ويلزم من عدمها عدمه
في الشرعيات1.
والشرط: عقلي، ولغوي، وشرعي2.
فالعقلي: كالحياة للعلم، والعلم للإرادة3.
واللغوي: كقوله: إن دخلت الدار فأنت طالق4.
والشرعي كالطهارة للصلاة والإحصان للرجم.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والشرط -بالتحريك-: العلامة. وأشراط الساعة: علاماتها.
وقال الطوفي: "قلت: ومع اتفاق المادة لا أثر لاختلاف
الحركات، والكل ثابت عن أهل اللغة". "شرح مختصر الروضة جـ1
ص430".
1 هذا غير مسلم، فقد قرر العلماء: أن الحكم يدور مع علته
وجودًا وعدمًا، وسيأتي ذلك مفصلًا في القياس، إن شاء الله
تعالى.
2 وهناك قسم رابع: وهو الشرط العادي: كالغذاء للحيوان،
والغالب فيه: أنه يلزم من انتفاء الغذاء انتفاء الحياة،
ومن وجوده وجودها إذ لا يتغذى إلا حي، فعلى هذا يكون الشرط
العادي كاللغوي، في أنه مطرد منعكس، ويكونان من قبيل
الأسباب لا من قبيل الشروط. ولهذا قال بعض الفضلاء: الشروط
اللغوية أسباب؛ لأنه يلزم من وجودها الوجود، ومن عدمها
العدم، بخلاف الشروط العقلية. "شرح مختصر الروضة جـ1
ص432".
3 إذ لا يعقل عالم إلا وهو حي، فالحياة يلزم من انتفائها
انتفاء العلم؛ إذ الجسم بدونها جماد، وقيام العلم بالجماد
محال.
وسمي عقليًا؛ لأن العقل هو الذي أدرك لزومه لمشروطه، وعدم
تصور انفكاكه عنه، كما أدرك لزوم الحياة للعلم، ولزوم
للإرادة. "نزهة الخاطر العاطر جـ1 ص163".
4 وجه كونه لغويًّا: أن دخول الدار شرط لوقوع الطلاق ولازم
له من حيث اللغة، بحيث إذا لم تدخل لم يحصل طلاق.
ج / 1 ص -181-
وسمي
شرطًا؛ لأنه علامة على المشروط، يقال: أشرط نفسه للأمر:
إذا جعله علامة عليه، ومنه قوله -تعالى-:
{فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا..}1. أي علاماتها.
وعكس الشرط: المانع:
وهو: ما يلزم من وجوده عدم الحكم2.
ونصب الشيء شرطا للحكم، أو مانعا له: حكم شرعي، على ما
قررناه في المقتضي للحكم. والله أعلم.
القسم الثاني: الصحة والفساد
فالصحة: هو4 اعتبار الشرع الشيء في حق حكمه3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 سورة محمد من الآية: 18.
2 ولا يلزم من عدمه وجود ولا عدم لذاته. كالحيض بالنسبة
للصلاة والصوم، فإذا وجد امتنع الحكم، فإذا ارتفع الحيض،
لا يلزم من ارتفاعه وجود الصلاة والصوم، فإن المرأة الطاهر
قد تصلي وتصوم، وقد لا تفعل ذلك.
3 الصحة والفساد أو البطلان: أوصاف ترد على الأحكام
الشرعية بصفة عامة، فتوصف الصلاة بالصحة: إذا استوفت
أركانها، وشروطها وانتفت الموانع، وتوصف بالفساد أو
البطلان: إذا فقدت ما تقدم، كما توصف العقود بأنها صحيحة
وتترتب عليها آثارها إذا استوفت أركانها وشروطها وانتفت
عنها الموانع، كما تكون فاسدة أو باطلة إذا فقدت ما تقدم.
وقد جعلها المصنف قسمًا مستقلًّا -بعد أن تكلم على الأمور
التي بها يظهر الحكم الوضعي: من العلة والسبب والشرط
والمانع- وإن كانت من الحكم الوضعي، إلا أن الأمور السابقة
تعتبر كالكليات، وهذه تعتبر كاللواحق الجزئية له، فجعلها
قسمًا ثانيًا.
4 هكذا في جميع النسخ، والصواب "هي".
5 معناه: أن الشارع إذا اعتبر شيئًا وأقره وأعطاه حكمًا من
الأحكام الشرعية: فهذه هي الصحة.
ج / 1 ص -182-
ويطلق1
على العبادات مرة وعلى العقود أخرى.
فالصحيح من العبادات: ما أجزأ وأسقط القضاء2.
والمتكلمون يطلقونه بإزاء ما وافق الأمر، وإن وجب القضاء،
كصلاة من ظن أنه متطهر3.
وهذا يبطل بالحج الفاسد، فإنه يؤمر بإتمامه وهو فاسد4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في الأصل والصواب "وتطلق" لأنها عائدة على الصحة.
2 هذا عند الحنفية: فالصحة عندهم في العبادات: هي الإجزاء
وإسقاط القضاء. فالصلاة الواقعة بشروطها وأركانها مع
انتفاء موانعها: مجزئة، ومسقطة للقضاء.
والصحة في المعاملات: هي ترتب الأثر المقصود من العقد على
العقد: فكل نكاح أباح ما يترتب على عقد النكاح من آثار فهو
صحيح، وكل بيع أباح التصرف في المبيع فهو بيع صحيح وهكذا.
أما المتكلمون: فلهم اصطلاح آخر سيذكره المصنف حالا.
3 أي أن ضابط الصحة عند المتكلمين عبارة عن موافقة أمر
الشارع، بمعنى: أن كل فعل -سواء أكان عبادة أم معاملة- لا
يخلو من أحد أمرين: إما أن يكون موافقًا للوجه الشرعي: أي
على الصفة التي أمر بها الشارع، وإما أن يكون مخالفًا له.
فإن وقع الفعل موافقًا لأمر الشارع فهو الصحيح، وإن وقع
مخالفًا فهو الفاسد أو الباطل، لأن كلًّا منهما بمعنى
واحد، كما سيأتي.
والموافقة قد تكون بحسب الواقع ونفس الأمر، وقد تكون بحسب
ظن المكلف. فهل يشترط أن تكون الموافقة بحسب الواقع، أو
يكفي أن تكون بحسب ظنه؟ اختار المصنف الثاني، وهو أن تكون
بحسب ظن المكلف، ولذلك مثل لها بصلاة من ظن أنه متطهر، مع
أنه على خلاف ذلك.
وهناك من اشترط أن تكون الموافقة بحسب الواقع، ولا يكفي
الظن.
4 هذا اعتراض على ما قاله المصنف خلاصته: أن قول
المتكلمين: "إن الصحة موافقة أمر الشارع" يعارضه أن إتمام
الحج الفاسد مأمور به، مع أنه غير صحيح. فأجاب المصنف: بأن
الحج إنما فسد لأنه وقع مخالفًا لأمر الشارع =
ج / 1 ص -183-
وأما
العقود: فكل ما كان سببًا لحكم إذا أفاد حكمه المقصود منه
فهو صحيح، وإلا فهو باطل.
فالباطل: هو الذي لم يثمر، والصحيح: الذي أثمر1.
والفاسد مرادف الباطل، فهما اسمان لمسمى واحد2.
وأبو حنيفة أثبت قسما بين الباطل والصحيح، جعل الفاسد3
عبارة عما كان مشروعًا بأصله، غير مشروع بوصفه4.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= بارتكاب ما يفسده أولًا، فلا يرد الاعتراض. انظر: "مذكرة
أصول الفقه للشيخ الشنقيطي ص45".
1 معناه: أن العقد إذا أفاد المقصود منه، بحيث يترتب حكمه
عليه، فهو صحيح، وإن لم يفد ما قصد منه فهو الباطل أو
الفاسد، وهذا معنى قوله: "أثمر" أو "لم يثمر".
2 الفاسد والباطل عند الجمهور سواء، إلا في بعض المسائل
الفرعية: كالحج، والنكاح، والوكالة، والخلع، والإجارة.
انظر: القواعد والفوائد الأصولية ص111، التمهيد للإسنوي
ص8.
3 بعدها في جميع النسخ جملة "عبارة عنه وزعم أنه" وأرى
أنها من زيادات النساخ، لأن المعنى غير مترابط.
4 معنى كلام المصنف: أن الحنفية فرقوا بين الفاسد والباطل،
فقالوا: إن الفاسد: ما كان مشروعًا بأصله دون وصفه، ومن
أمثلة ذلك في العبادات: صوم يوم الفطر أو النحر، فلو نذر
صوم يوم العيد صح نذره، ويؤمر بالفطر والقضاء، لأن المعصية
في فعله دون نذره، لأن النذر مشروع، ولو صامه خرج عن عهدة
النذر، وإن كان يأثم لمخالفة النهي، والإعراض عن ضيافة
الله تعالى في ذلك اليوم.
ومثاله في المعاملات: بيع الدرهم بالدرهمين، فإنه بيع
فاسد، لاشتماله على الزيادة، فيأثم به، ويفيد بالقبض:
الملك الخبيث، فلو حذفت الزيادة صح البيع، لانتفاء الوصف
المتقدم.
ج / 1 ص -184-
ولو صح
له هذا المعنى لم ينازع في العبارة، لكنه لا يصح، إذ كل
ممنوع بوصفه فهو ممنوع بأصله1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= أما الباطل: فهو ما لم يشرع بأصله ولا بوصفه، مثل:
الصلاة بدون بعض الشروط أو الأركان، ومثل: بيع الملاقيح:
وهي ما في بطون الأجنة، لانعدام المعقود عليه.
هكذا أطلقها بعض العلماء، ومنهم المصنف، ولم يفرقوا بين
العبادات والمعاملات. وإن كان البعض يرى أن الحنفية يفرقون
بين الباطل والفاسد في المعاملات فقط، أما في العبادات فهم
كالجمهور في عدم التفرقة وهذا هو المنصوص عليه عندهم،
انظر: "كشف الأسرار على أصول البزدوي 1/ 258، الأشباه
والنظائر لابن نجيم ص337".
1 معنى هذا: أن هذا التفرقة غير مسلمة؛ إذ إن كل ممنوع
بوصفه ممنوع بأصله، فكل منهما لا يثمر.
فصل: في القضاء والأداء
والإعادة1.
الإعادة: فعل الشيء مرة أخرى2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 هكذا في جميع النسخ، مع أن أصل الكتاب وهو "المستصفى"
بدأ بالأداء، ثم الإعادة، ثم القضاء، كما هي عادة
الأصوليين، فلا أدري لماذا بدأ المصنف بالإعادة قبل
الأداء.
ولذلك خالفه "الطوفي" في مختصره فبدأ بالأداء كما هو
معهود.
2 أضاف بعض العلماء لذلك قيدًا فقالوا: "الإعادة: فعل
المأمور به في وقته المقدر له شرعًا لخلل في الأول" أي في
الفعل الأول، سواء أكان الخلل في الأجزاء: كمن صلى بدون
شرط أو ركن، أو كان في الكمال، كمن صلى منفردًا فيعيدها
جماعة في الوقت.
إلا أن المصنف أطلق، ولم يذكر هذا القيد، لأن الإعادة قد
تكون لخلل في العبادة، وقد تكون لغير خلل، فالذي يعيد
الصلاة في جماعة، مع أن صلاته =
ج / 1 ص -185-
والأداء: فعلها في وقته.
والقضاء: فعله بعد خروج وقتها المعين شرعًا.
فلو غلب على ظنه -في الواجب الموسع- أنه يموت قبل آخر
الوقت: لم يجز له التأخير، فإن أخره وعاش لم يكن قضاء،
لوقوعه في الوقت1.
والزكاة واجبة على الفور، فلو أخرها ثم فعلها لم تكن قضاء؛
لأنه لم يعين وقتها بتقدير وتعيين2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الأولى صحيحة يسمى معيدًا للصلاة.
وقد رجح ذلك الطوفي حيث قال: "وهذا أوفق للغة والمذهب، أما
اللغة: فإن العرب على ذلك تطلق الإعادة، يقولون: أعدت
الكرّة، إذ كرّ مرة بعد أخرى، وأعدنا الحرب خُدعة. وإعادة
الله سبحانه للعالم: هو إنشاؤه مرة ثانية.
قال تعالى:
{كَمَا
بَدَأَكُمْ تَعُودُون}
[الأعراف: 29].
وأما المذهب: فإن أصحابنا وغيرهم قالوا: من صلى ثم حضر
جماعة، سن له أن يعيدها...." "شرح مختصر الطوفي جـ1
ص447-448".
1 أي: أنه وقع في وقته المحدد له شرعًا، ولا عبرة بالظن
الذي بان خطؤه، وهو مذهب الجمهور.
وقال القاضي أبو بكر البلاقاني: إنه يعتبر قضاء، بناء على
ظنه؛ إذ كان يجب عليه المبادرة إلى فعل المأمور به باعتبار
ظنه انظر: "التمهيد للإسنوي ص64".
2 والسبب في عدم وصف الزكاة بالقضاء يرجع لأمرين.
الأول: أن وقتها غير محدد الطرفين -البداية والنهاية- كما
في الصلاة.
الأمر الثاني: أن كل وقت من الأوقات التي يؤخر أداؤها فيه
هو مخاطب بإخراجها فيه، فإذا قلنا: إن أداءها في الوقت
الثاني قضاء، لزم أن نقول مثل ذلك في الثالث والرابع
وهكذا، وهذا يؤدي إلى تكرر الأمر بالقضاء. فنقول قضاء قضاء
قضاء القضاء... وهذا غير معهود.
ج / 1 ص -186-
ومن
لزمه قضاء صلاة على الفور فأخر: لم نقل: إنه قضاء القضاء،
فإذًا: اسم القضاء مخصوص بما عين وقته شرعًا، ثم فات الوقت
قبل الفعل.
ولا فرق بين فواته لغير عذر، أو لعذر كالنوم، والسهو،
والحيض في الصوم والمرض والسفر.
وقال قوم: الصيام من الحائض بعد رمضان ليس بقضاء؛ لأنه ليس
بواجب؛ إذ فعله حرام؛ ولا يجب فعل الحرام فكيف تؤمر بما
تعصي به1؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= وقد رد الطوفي على هذين الوجهين فقال: "إن تحديد الوقت
بطرفيه لا تأثير له ههنا، بل المؤثر أن يكون مقدار وقته
معلومًا في الجملة، ووقت وجوب الزكاة معلوم المقدار، وهو
بعد تمام الحول بقدر ما يتسع لأدائها.
ثم أجاب عن الأمر الثاني: بأن العلماء لم يكرروا لفظ
القضاء للتخفيف، استثقالًا لتكرار لفظ القضاء، وإلا فحقيقة
القضاء: استدراك مصلحة فائتة، وهذا كذلك" انظر "شرح مختصر
الروضة 1/ 454-455".
وأضيف إلى ما قاله "الطوفي": بأن ما قاله المصنف منقوض
بزكاة الفطر، فإنها محدودة، حتى جاء النص على أنها إذا
فعلت في غير وقتها كانت صدقة من الصدقات.
روي الشيخان وغيرهما -عن ابن عمر رضي الله عنهما- أن رسول
الله -صلى الله عليه وسلم- أمر بزكاة الفطر أن تؤدى قبل
خروج الناس إلى الصلاة، أي صلاة العيد.
وفي حديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: فرض رسول الله
-صلى الله عليه وسلم- زكاة الفطر طهرة للصائم من اللغو
والرفث وطعمة للمساكين، فمن أداها قبل الصلاة فهي زكاة
مقبولة، ومن أداها بعد الصلاة فهي صدقة من الصدقات. رواه
أبو داود والحاكم وقال: صحيح على شرط الشيخين.
1 هذا قول آخر في القضاء، يتضمن تفصيلًا بين فوات المأمور
به في وقته لعذر أو لغير عذر: فإن كان لعذر لم يكن فعله
بعد الوقت قضاء، كالحائض والمريض. =
ج / 1 ص -187-
ولا
خلاف في أنها لو ماتت لم تكن عاصية1.
وقيل -في المريض والمسافر- لا يلزمهما الصوم -أيضًا- فلا
يكون ما يفعلانه بعد رمضان قضاء.
وهذا فاسد لوجوه ثلاثة:
أحدها: ما روي عن عائشة2 -رضي الله عنها- أنها قالت: "كنا
نحيض على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فنؤمر بقضاء
الصوم، ولا نؤمر بقضاء الصلاة"3.
والآمر بالقضاء: إنما هو النبي -صلى الله عليه وسلم4- على
ما نقرره فيما يأتي.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= والمسافر، يفوتهم صيام رمضان لعذر الحيض والمرض والسفر،
فيستدركه بعده.
أما إن كان لغير عذر فإنه يكون قضاء. وقد رد المصنف على
ذلك كما سيأتي.
1 هذا كالاستدلال على أنه لا يسمى قضاء بالنسبة للحائض ومن
في حكمها. وبيانه: أن القضاء يستدعي سبق الوجوب، وهذا غير
موجود، إذ لو كان هناك وجوب لكانت عاصية إذا ماتت حال
الحيض، وهناك إجماع على أنها لا تكون عاصية.
2 هي: الصديقة بنت الصديق: عائشة بنت أبي بكر، أم المؤمنين
زوج رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أسلمت صغيرة، وتزوجها
رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قبل الهجرة، ودخل بها بعد
الهجرة، وكناها: "أم عبد" بابن أختها: عبد الله بن الزبير،
كانت من أفقه الناس وأعلم الناس: توفيت -رضى الله عنها-
سنة 75هـ. "الإصابة 4/ 359".
3 حديث صحيح رواه مسلم: كتاب الحيض، باب: وجوب قضاء الصوم
على الحائض دون الصلاة، وأبو داود: كتاب الطهارة، والترمذي
وحسنه.
4 يؤيده رواية ابن ماجه: "كنا نحيض على عهد رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- ثم نطهر، فيأمرنا بقضاء الصيام، ولا
يأمرنا بقضاء الصلاة".
ج / 1 ص -188-
الثاني: لا خلاف بين أهل العلم في أنهم ينوون القضاء.
الثالث: أن العبادة متى أمر بها في وقت مخصوص فلم يجب
فعلها فيه: لا يجب بعده، ولا يمتنع وجوب العبادة في الذمة؛
بناء على وجود السبب، مع تعذر فعلها كما في النائم
والناسي، وكما في "المحدث" تجب عليه الصلاة، مع تعذر فعلها
منه في الحال، وديون الآدميين تجب على المعسر، مع عجزه عن
أدائها1.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 خلاصة الوجه الثالث: أن ثبوت العبادة في الذمة غير
ممتنع، كما أن ثبوت دين الآدمي في الذمة غير ممتنع وإذا
كان ثبوتها في الذمة غير ممتنع، كان فعلها خارج وقتها بعد
ثبوتها في الذمة قضاء، كدين الآدمي، والدليل على ذلك: قول
النبي -صلى الله عليه وسلم-: "...
فدين الله أحق أن يقضى" حديث صحيح
رواه البخاري ومسلم وغيرهما. فدل ذلك على أن دين الله
تعالى يثبت في الذمة، ويستدرك بالقضاء. انظر: "شرح مختصر
الطوفي جـ1 ص452".
فصل: في العزيمة
والرخصة1
العزيمة في اللسان القصد المؤكد2. ومنه قوله تعالى:
{وَلَمْ نَجِد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 من العلماء من يجعل العزيمة والرخصة من الأحكام الوضعية،
كالغزالي والآمدي والشاطبي، وعلى ذلك سار المصنف،
لارتباطهما بالسبب والشرط والمانع.
وقال بعض العلماء: هما من خطاب التكليف، لما فيهما من معنى
"الاقتضاء" حيث ينتقل الحكم من النهي إلى الإباحة، ومن
المطلوب فعله طلبًا جازمًا إلى جواز الفعل والترك وهكذا.
ويبدو أن الخلاف لفظي؛ حيث إن الأحكام الوضعية ترجع في
النهاية إلى الأحكام التكليفية، فالمآل واحد، وإن اختلفت
طريقة كل منهما.
2 جاء في الصحاح للجوهري "5/ 1985": "عزمت على كذا عَزْمًا
وعُزمًا =
ج / 1 ص -189-
لَهُ عَزْمًا}1
{فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ}2.
والرخصة: السهولة واليسر3، ومنه: رخص السعر: إذا تراجع
وسهل الشراء.
فأما في عرف حملة الشرع:
فالعزيمة: الحكم الثابت من غير مخالفة دليل شرعي4.
وقيل: ما لزم العباد بإيجاب الله تعالى.
والرخصة: استباحة المحظور، مع قيام الحاظر5.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= -بالضم- وعزيمة وعزيمًا، إذا أردت فعله وقطعت عليه".
1 سورة طه من الآية: 115.
2 سورة آل عمران من الآية: 159.
3 جاء في الصحاح "3/ 1104": "الرخصة في الأمر خلاف التشديد
فيه، والتشديد لا يحصل إلا من الواجب فعلًا أو كفًّا".
وفي المصباح المنير "1/ 342": "يقال: رخص الشارع لنا في
كذا ترخيصًا، وأرخص إرخاصًا، إذا يسّره وسهّله، وفلان
يترخص في الأمر: إذا لم يستقص، وقضيب رَخْصٌ: أي: طري لين،
ورخُص البدن -بالضم- رخاصة ورخوصة: إذا نعم ولان ملمسه،
فهو رخص".
4 هذا التعريف لم أجده منسوبًا لأحد من علماء الأصول على
حسب اطلاعي، ولذلك قال الشيخ الشنقيطي: "والتعريف الثاني
الذي حكاه بقيل أجود من الأول" وهو الذي ذكره الغزالي.
5 ومن أمثلة ذلك: إباحة الميتة للمضطر، ففيها استباحة
المحظور وهو أكل الميتة، مع قيام الحاظر، أي المانع وهو:
خبث الميتة الذي حرمت من أجله دفعًا للضرر الذي يلحق
الآكل.
وينطبق هذا المثال على التعريف الثاني، فإن أكل الميتة
ثابت على خلاف دليل شرعي، هو قول الله -تعالى- في سورة
المائدة:
{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ =
ج / 1 ص -190-
وقيل:
ما ثبت على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح1.
ولا يسمى ما لم يخالف الدليل رخصة، وإن كان فيه سعة،
كإسقاط صوم شوال2، وإباحة المباحات.
لكن ما حُطَّ عنا من الإصر الذي كان على غيرنا يجوز أن
يسمى رخصة مجازا، لما وجب على غيرنا، فإذا قابلنا أنفسنا
به حسن إطلاق ذلك3.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وَلَحْمُ
الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ
وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ
وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا
ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ
تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ
يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا
تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ
دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ
لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ
غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ
رَحِيم} لمعارض راجح مثل قوله:
{فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ
اللَّه غَفُورٌ رَحِيم}
في نفس آية سورة المائدة.
1 قول المصنف -في التعريف- لمعارض راجح: احتراز عما كان
لمعارض مساوٍ أو قاصر، فإنه إذا كان المعارض مساويًا وجب
التوقف والبحث عن مرجح خارجي. وإن كان قاصرًا عن مساواة
الدليل الشرعي، فلا يؤثر، وتبقى العزيمة بحالها.
انظر: "شرح الكوكب المنير جـ1 ص478".
وقال العسقلاني: "أجود ما يقال في الرخصة: ثبوت حكم لحالة
تقتضيه، مخالفة مقتضى دليل يعمها" وهو منقول عن "المقنع"
لابن حمدان: شرح الكوكب المنير "1/ 479".
2 قوله: "كإسقاط صوم شوال" يقصد به عدم التكليف، لأن
الإسقاط إنما يكون بعد الإيجاب، ولذلك عبر الغزالي عن هذا
بقوله: "فإن ما لا يوجبه الله تعالى علينا من صوم شوال،
وصلاة الضحى لا يسمى رخصة، وما أباحه في الأصل: من الأكل
والشرب لا يسمى رخصة".
3 يقصد بذلك ما جاء في ختام البقرة وهو قوله تعالى:
{رَبَّنَا وَلا تَحْمِلْ =
ج / 1 ص -191-
فأما
إباحة التيمم: إن كان مع القدرة على استعمال الماء لمرض أو
زيادة ثمن: سمي رخصة. وإن كان مع عدمه فهو معجوز عنه1، فلا
يمكن تكليف استعمال الماء مع استحالته، فكيف يقال السبب
قائم؟
فإن قيل2: فكيف يسمى أكل الميتة رخصة مع وجوبه في حال
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عَلَيْنَا
إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ
قَبْلِنَا...} أي ما ثقل علينا حمله من التكاليف التي كلف بها بنو إسرائيل: من
قتل النفس هي التوبة، وإخراج ربع المال في الزكاة، وقطع
موضع النجاسة من الثياب، وهي تكاليف شاقة تثقل كاهل
الإنسان.
ولذلك يروى أنه لما نزلت هذه الآية فقرأها رسول الله -صلى
الله عليه وسلم- قيل له عقب كل كلمة: "قد فَعَلْتُ" رواه
أحمد ومسلم من حديث عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما-
ومعناه: أن الله تعالى قد استجاب الدعاء. ولما كان التخفيف
في حقنا، والتشديد على غيرنا كان رخصة من قبيل المجاز.
1 خلاصة ذلك: أن إباحة التيمم إن كانت مع القدرة على
استعمال الماء لمرض أو زيادة ثمن سميت رخصة، وإن كانت مع
العجز عنه، كعدم الماء فلا يسمى رخصة، لأن سبب الحكم
الأصلي وهو: وجود الماء زائل هنا، فلا تكليف بمعجوز عنه.
2 هذا اعتراض أورده بعض الأصوليين خلاصته: أنه كيف يقال:
إن أكل الميتة رخصة مع أنه واجب في حال الضرورة.
وأجاب المصنف على ذلك بما خلاصته: أن الواحد بالشخص قد
تكون له جهتان مختلفتان كما في هذا المثال: فهو من جهة
التوسيع وعدم التضييق رخصة وتيسير، ومن جهة وجوب الأكل
عزيمة.
هكذا فسرها الشيخ الشنقيطي في مذكرته ص51.
وأرى أن هذا كله تكلف لا داعي له، وأوضح منه ما قاله بعض
العلماء من أنها تنقسم إلى عدة أقسام:
الأول: رخصة واجبة: كأكل الميتة للمضطر، لأنه سبب لإحياء
النفس وإنقاذ لها من التهلكة.
ج / 1 ص -192-
الضرورة؟ قلنا: يسمى رخصة من حيث: إن فيه سعة؛ إذ لم يكلفه
الله -تعالى- إهلاك نفسه، ولكون سبب التحريم موجودًا، وهو:
خبث المحل ونجاسته.
ويجوز أن يسمى من حيث: وجوب العقاب بتركه، فهو من قبيل
الجهتين.
فأما الحكم الثابت على خلاف العموم:
فإن كان الحكم في بقية الصور لمعنى موجود في الصورة
المخصوصة، كبيع العرايا المخصوص من المزاينة المنهي عنها:
فهو حينئذ رخصة1.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
= الثاني: رخصة مندوبة، كقصر الصلاة للمسافر إذا استوفت
شروطه.
الثالث: رخصة مباحة، يجوز الأخذ بها أو عدم الأخذ، كالجمع
بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في السفر، وعند
الأعذار الأخرى كالمطر، في غير عرفة ومزدلفة انظر: شرح
الكوكب المنير "1/ 479".
1 العرية في الأصل: ثمر النخل دون الرقبة، كانت العرب في
الجدب تتطوع بذلك على من لا تمر له، وقال مالك: العرية: أن
يعري الرجل النخلة، أي: يهبها له، أو يهب له ثمرها، ثم
يتأذى بدخوله عليه، ويرخص الموهوب له للواهب أن يشتري
رطبها منه بتمر يابس.
روى البخاري ومسلم ومالك وغيرهم عن زيد بن ثابت -رضي الله
عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم-: "نهى عن المزابنة،
إلا أنه رخص في بيع العرية: النخلة والنخلتين يأخذهما أهل
البيت برخصها تمرًا، يأكلونها رطبًا".
والمزابنة: بيع التمر بالرطب، وخصت منه ال192
الضرورة؟ قلنا: يسمى رخصة من حيث: إن فيه سعة؛ إذ لم يكلفه
الله -تعالى- إهلاك نفسه، ولكون سبب التحريم موجودًا، وهو:
خبث المحل ونجاسته.
ويجوز أن يسمى من حيث: وجوب العقاب بتركه، فهو من قبيل
الجهتين.
فأما الحكم الثابت على خلاف العموم:
فإن كان الحكم في بقية الصور لمعنى موجود في الصورة
المخصوصة، كبيع العرايا المخصوص من المزاينة المنهي عنها:
فهو حينئذ رخصة1.
ج / 1 ص -193-
وإن
كان لمعنى غير موجود في الصورة المخصوصة، كإباحة الرجوع في
الهبة للوالد، المخصوص من قوله -عليه السلام-:
"العائد في
هبته كالعائد في قيئه"1 فليس
برخصة؛ لأن المعنى الذي حرم لأجله الرجوع في الهبة غير
موجود في الوالد2.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
1 حديث صحيح: رواه البخاري: كتاب الهبة، باب: هبة الرجل
لامرأته والمرأة لزوجها حديث رقم "2589، 2621، 2622، 6975"
ومسلم: كتاب الهبات حديث "1622" وأبو داود: حديث "3538"
والترمذي: حديث "1298" والنسائي "6/ 265".
2 اعترض الطوفي على التفرقة بين الصورتين -العرايا والهبة-
وقال إن كلًّا منهما رخصة ودلل على ذلك فقال: "واعلم أن
الفرق لا يؤثر، ولا يناسب اختلاف الحكم في الصورتين
المذكورتين، بل الأشبه أنهما يسميان رخصة: أعني رجوع الأب
في الهبة، وجواز العرايا لوجهين:
أحدهما: أن معنى الرخصة لغة وشرعًا مشترك بينهما.
أما لغة: فلأن الرخصة من السهولة -كما سبق- وفي تجويز
الرجوع للأب في الهبة تسهيل عليه.
وأما شرعًا: فلأن رجوعه على خلاف دليل شرعي لمعارض راجح،
وهذا هو حد الرخصة، فوجب أن يكون رخصة.
الثاني: أن الرخصة تقابل العزيمة، ولا شك أن تحريم الرجوع
في الهبة على الأجانب عزيمة، فوجب أن يكون جوازه للأب
رخصة". "شرح مختصر الطوفي جـ1 ص463". |