شرح التلويح على التوضيح

[فَصْلٌ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَلْ لَهُمَا حُكْمٌ فِي الضِّدِّ أَمْ لَا]
(قَوْلُهُ فَصْلٌ اخْتَلَفُوا) فِي أَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ هَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ وَبِالْعَكْسِ، وَلَيْسَ الْخِلَافُ فِي الْمَفْهُومَيْنِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ مَفْهُومَ الْأَمْرِ بِالشَّيْءِ مُخَالِفٌ لِمَفْهُومِ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، وَلَا فِي اللَّفْظَيْنِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ صِيغَةَ الْأَمْرِ افْعَلْ وَصِيغَةَ النَّهْيِ لَا تَفْعَلْ، وَإِنَّمَا الْخِلَافُ فِي أَنَّ الشَّيْءَ الْمُعَيَّنَ إذَا أُمِرَ بِهِ فَهَلْ هُوَ نَهْيٌ عَنْ الشَّيْءِ الْمُضَادِّ لَهُ فَقِيلَ إنَّهُ لَيْسَ نَفْسَ النَّهْيِ عَنْ ضِدِّهِ، وَلَا مُتَضَمِّنًا لَهُ عَقْلًا، وَقِيلَ نَفْسُهُ وَقِيلَ يَتَضَمَّنُهُ، ثُمَّ اقْتَصَرَ قَوْمٌ عَلَى هَذَا، وَقَالَ آخَرُونَ إنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ نَفْسُ الْأَمْرِ بِضِدِّهِ، وَقِيلَ يَتَضَمَّنُهُ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْأَمْرَ بِالشَّيْءِ نَهْيٌ عَنْ ضِدِّهِ فَمِنْهُمْ مَنْ عَمَّمَ الْقَوْلَ فِي أَمْرِ الْوُجُوبِ وَالنَّدْبِ فَجَعَلَهُمَا نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ تَحْرِيمًا وَتَنْزِيهًا، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَ أَمْرَ الْوُجُوبِ فَجَعَلَهُ نَهْيًا عَنْ الضِّدِّ تَحْرِيمًا دُونَ النَّدْبِ، وَمِنْهُمْ مَنْ خَصَّصَ الْحُكْمَ بِمَا إذَا اتَّحَدَ الضِّدُّ كَالْحَرَكَةِ وَالسُّكُونِ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ إنَّهُ عِنْدَ التَّعَدُّدِ يَكُونُ نَهْيًا عَنْ وَاحِدٍ غَيْرِ مُعَيَّنٍ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأَقَاوِيلِ عَلَى مَا بَيَّنَ فِي الْكُتُبِ الْمَبْسُوطَةِ وَالْمُخْتَارِ، عِنْدَ الْمُصَنِّفِ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - أَنَّ ضِدَّ الْمَأْمُورِ بِهِ إنْ كَانَ مُفَوِّتًا

(1/430)


عَنْ مِلْكِ الْمَغْصُوبِ مِنْهُ إذْ لَوْ لَمْ يَخْرُجْ عَنْ مِلْكِهِ لَا يَدْخُلُ الضَّمَانُ فِي مِلْكِهِ لَكِنْ لَا يَدْخُلُ فِي مِلْكِ الْغَاصِبِ إذْ لَوْ دَخَلَ لَبَطَلَ حَقُّ الْمُدَبَّرِ، وَهُوَ اسْتِحْقَاقُ الْحُرِّيَّةِ، ثُمَّ أَجَابَ بِجَوَابٍ آخَرَ وَهُوَ قَوْلُهُ (أَوْ هُوَ فِي مُقَابَلَةِ مِلْكِ الْيَدِ) فَلَمَّا كَانَ ضَمَانُ الْمُدَبَّرِ فِي مُقَابَلَةِ إزَالَةِ مِلْكِ الْيَدِ فَلَا يَرِدُ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ، ثُمَّ أَجَابَ عَنْ اسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ.
(وَأَمَّا الِاسْتِيلَاءُ فَإِنَّمَا نُهِيَ لِعِصْمَةِ أَمْوَالِنَا، وَهِيَ غَيْرُ ثَابِتَةٍ فِي زَعْمِهِمْ أَوْ هِيَ ثَابِتَةٌ مَا دَامَ مُحَرَّزًا، وَقَدْ زَالَ فَسَقَطَ النَّهْيُ فِي حَقِّ الدُّنْيَا) أَمَّا فِي حَقِّ الْآخِرَةِ فَلَا حَتَّى يَكُونَ آثِمًا مُؤَاخَذًا بِهِ، وَأَجَابَ عَنْ سَفَرِ الْمَعْصِيَةِ بِقَوْلِهِ (وَسَفَرُ الْمَعْصِيَةِ قَبِيحٌ لِمُجَاوِرِهِ) عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ مِنْ قَبْلُ.

(فَصْلٌ اخْتَلَفُوا فِي الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ هَلْ لَهُمَا حُكْمٌ فِي الضِّدِّ أَمْ لَا، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ إنْ فَوَّتَ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ يَحْرُمُ، وَإِنْ فَوَّتَ عَدَمُهُ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ يَجِبُ، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْ فَالْأَمْرُ يَقْتَضِي كَرَاهَتَهُ، وَالنَّهْيُ كَوْنَهُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً) يَعْنِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
لِلْمَقْصُودِ يَكُونُ حَرَامًا، وَإِلَّا كَانَ مَكْرُوهًا، وَكَذَا عَدَمُ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ مَثَلًا إذَا تَعَيَّنَ زَمَانُ وُجُوبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَالضِّدُّ الْمُفَوِّتُ لَهُ يَكُونُ حَرَامًا فِي ذَلِكَ الزَّمَانِ سَاءَ اتَّحَدَ أَوْ تَعَدَّدَ حَتَّى لَوْ أُمِرَ بِالْخُرُوجِ عَنْ الدَّارِ فَبِأَيِّ ضِدٍّ يَشْتَغِلُ مِنْ الْقِيَامِ وَالْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ فِي الدَّارِ يَكُونُ حَرَامًا لِفَوَاتِ الْمَأْمُورِ بِهِ، لَكِنَّ التَّحْقِيقَ أَنَّ حُرْمَةَ كُلٍّ مِنْهُمَا إنَّمَا تَكُونُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ مِنْ أَفْرَادِ ضِدِّ الْمَأْمُورِ بِهِ، وَهُوَ السُّكُونُ فِي الدَّارِ كَالْأَمْرِ بِالْإِيمَانِ يُوجِبُ حُرْمَةَ النِّفَاقِ وَالْيَهُودِيَّةِ وَالنَّصْرَانِيَّة لِكَوْنِهَا مِنْ أَفْرَادِ الْكُفْرِ، وَفِي النَّهْيِ عَنْ الشَّيْءِ لَا يَجِبُ إلَّا ضِدٌّ وَاحِدٌ إذْ تَرْكُ الْقِيَامِ مَثَلًا يَحْصُلُ بِكُلٍّ مِنْ الْقُعُودِ وَالِاضْطِجَاعِ، وَحَاصِلُ هَذَا الْكَلَامِ أَنَّ وُجُوبَ الشَّيْءِ يَدُلُّ عَلَى حُرْمَةِ تَرْكِهِ وَحُرْمَةَ الشَّيْءِ تَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ تَرْكِهِ، وَهَذَا مِمَّا لَا يُتَصَوَّرُ فِيهِ نِزَاعٌ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ) يَعْنِي أَنَّ قَوْلَهُ {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة: 228] وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ إخْبَارًا عَنْ عَدَمِ حِلِّ الْكِتْمَانِ إلَّا أَنَّهُ فِي الْمَعْنَى نَهْيٌ عَنْ الْكِتْمَانِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِظْهَارِ لِئَلَّا يُفَوِّتَ عَدَمَ الْكِتْمَانِ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ وقَوْله تَعَالَى {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ} [البقرة: 228] فِي مَعْنَى الْأَمْرِ أَيْ لِيَتَرَبَّصْنَ أَيْ يَكْفُفْنَ، وَيَحْبِسْنَ أَنْفُسَهُنَّ عَنْ نِكَاحٍ آخَرَ وَوَطْءٍ آخَرَ فَيَقْتَضِي حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ لِكَوْنِهِ مُفَوِّتًا لِلتَّرَبُّصِ، وَالنَّهْيُ عَنْ عَزْمِ عُقْدَةِ النِّكَاحِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْكَفِّ عَنْ التَّزَوُّجِ، وَهَذَا أَيْضًا تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ النَّهْيَ عَنْ الشَّيْءِ يَقْتَضِي وُجُوبَ ضِدِّهِ الْمُفَوِّتِ لَهُ كَالْأَوَّلِ إلَّا أَنَّ فِيهِ بَحْثًا، وَهُوَ أَنَّ الْمُعْتَدَّةَ إذَا تَزَوَّجَتْ بِزَوْجٍ آخَرَ وَوَطِئَهَا وَفَرَّقَ الْقَاضِي بَيْنَهُمَا يَجِبُ عَلَيْهَا عِدَّةٌ أُخْرَى وَتَحْتَسِبُ مَا تَرَى مِنْ الْإِقْرَاءِ مِنْ الْعِدَّتَيْنِ، وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - يَجِبُ عَلَيْهَا اسْتِئْنَافُ الْعِدَّةِ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْأُولَى؛ لِأَنَّهَا مَأْمُورَةٌ بِالْكَفِّ، وَذِكْرُ الْمُدَّةِ تَقْدِيرٌ لِلرُّكْنِ الَّذِي هُوَ الْكَفُّ كَتَقْدِيرِ الصَّوْمِ إلَى اللَّيْلِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ كَفَّانِ مِنْ شَخْصٍ وَاحِدٍ فِي مُدَّةٍ وَاحِدَةٍ كَأَدَاءِ صَوْمَيْنِ

(1/431)


إذَا أُمِرَ بِالشَّيْءِ فَضِدُّ ذَلِكَ الشَّيْءِ إنْ فَوَّتَ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ فَفِعْلُ الضِّدِّ يَكُونُ حَرَامًا، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْهُ يَكُونُ فِعْلُهُ مَكْرُوهًا، وَإِذَا نُهِيَ عَنْ الشَّيْءِ فَعَدَمُ ضِدِّهِ إنْ فَوَّتَ الْمَقْصُودَ بِالنَّهْيِ فَفِعْلُ الضِّدِّ يَكُونُ وَاجِبًا، وَإِنْ لَمْ يُفَوِّتْهُ فَفِعْلُهُ يَكُونُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً، فَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إنْ وُجِدَ شَرَائِطُ التَّنَاقُضِ بَيْنَ الضِّدَّيْنِ فَوُجُوبُ أَحَدِهِمَا يُوجِبُ حُرْمَةَ الْآخَرِ، وَحُرْمَةُ أَحَدِهِمَا تُوجِبُ وُجُوبَ الْآخَرِ (لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَقْصِدْ الضِّدَّ لَا يُعْتَبَرُ إلَّا مِنْ حَيْثُ يُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ فَيَكُونُ هَذَا الْقَدْرُ مُقْتَضَى الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ، وَإِذَا لَمْ يُفَوِّتْ الْمَقْصُودَ نَقُولُ بِكَرَاهَتِهِ وَكَوْنِهِ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً مُلَاحَظَةً لِظَاهِرِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ) ، فَإِنَّ مُشَابَهَةَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ تُوجِبُ الْكَرَاهَةَ، وَمُشَابَهَةُ الْمَأْمُورِ بِهِ تُوجِبُ النَّدْبَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ فَأَجَابَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَقْصُودَ بِالْأَمْرِ بِالْعِدَّةِ لَيْسَ هُوَ الْكَفُّ بَلْ هُوَ الْمُحَرَّمَاتُ مِنْ النِّكَاحِ وَالْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ؛ لِأَنَّهَا كَانَتْ ثَابِتَةً حَالَ النِّكَاحِ، وَالطَّلَاقُ شُرِّعَ لِإِزَالَتِهَا إلَّا أَنَّ الشَّرْعَ أَخَّرَ ثُبُوتَ الْحُكْمِ بَعْدَ انْعِقَادِ السَّبَبِ إلَى انْقِضَاءِ الْمُدَّةِ إذْ لَوْ كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْكَفُّ لَمَّا كَانَ الْخُرُوجُ أَوْ النِّكَاحُ حَرَامًا فِي نَفْسِهِ فَلَوْ تَحَقَّقَ يَنْبَغِي أَنْ لَا يَأْثَمَ إلَّا إثْمَ تَرْكِ الْكَفِّ لَا إثْمَ الْخُرُوجِ وَالْجِمَاعِ، وَلَمَّا كَانَ الْمَقْصُودُ هُوَ الْحُرُمَاتُ وَالتُّرُوكُ تَدَاخَلَتْ الْعِدَّتَانِ إذْ لَا امْتِنَاعَ فِي اجْتِمَاعِ الْحُرُمَاتِ فَيَجُوزُ أَنْ تَثْبُتَ حُرْمَةُ الْخُرُوجِ وَالتَّزَوُّجِ مُؤَجَّلَةً إلَى انْقِضَاءِ مُدَّةِ الْإِقْرَاءِ، وَلِهَذَا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْعِدَّةَ أَجَلًا، وَالْآجَالُ إذَا اجْتَمَعَتْ عَلَى وَاحِدٍ أَوْ لِوَاحِدٍ انْقَضَتْ مُدَّةٌ وَاحِدَةٌ كَمَا فِي الدُّيُونِ، بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ الْمَقْصُودُ بِالْأَمْرِ، وَلَا يُتَصَوَّرُ اتِّصَافُ الشَّيْءِ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ بِفِعْلَيْنِ مُتَجَانِسَيْنِ كَجُلُوسَيْنِ.
(قَوْلُهُ وَالْمَأْمُورُ بِالْقِيَامِ) تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ ضِدَّ الْمَأْمُورِ بِهِ إذَا لَمْ يُفَوِّتْهُ كَانَ مَكْرُوهًا لَا حَرَامًا، فَإِنَّ قُعُودَ الْمُصَلِّي لَا يُفَوِّتُ الْقِيَامَ الْمَأْمُورَ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَعُودَ إلَيْهِ لِعَدَمِ تَعَيُّنِ الزَّمَانِ حَتَّى لَوْ كَانَ الْقِيَامُ مَأْمُورًا بِهِ فِي زَمَانٍ بِعَيْنِهِ حُرِّمَ الْقُعُودُ فِيهِ، وَقَوْلُهُ لَا يَبْطُلُ مَعْنَاهُ لَا يَفْسُدُ؛ لِأَنَّ عَدَمَ الْبُطْلَانِ لَا يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ الْوُجُوبِ؛ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ وَلَا يُبْطِلُهَا.
(قَوْلُهُ وَالْمُحْرِمُ) تَفْرِيعٌ عَلَى أَنَّ عَدَمَ ضِدِّ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ إذَا لَمْ يُفَوِّتْهُ كَانَ مَنْدُوبًا لَا وَاجِبًا، فَإِنَّ الْمُحْرِمَ مَنْهِيٌّ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ مُدَّةَ إحْرَامِهِ، وَعَدَمُ ضِدِّهِ أَعْنِي عَدَمَ لُبْسِ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ لَيْسَ بِمُفَوِّتٍ لِلْمَقْصُودِ بِالنَّهْيِ أَعْنِي تَرْكَ لُبْسِ الْمَخِيطِ لِجَوَازِ أَنْ لَا يَلْبَسَ الْمَخِيطَ وَلَا شَيْئًا مِنْ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ فَيَكُونُ لُبْسُ الرِّدَاءِ وَالْإِزَارِ سُنَّةً لَا وَاجِبًا لَا يُقَالُ ضِدُّ لُبْسِ الْمَخِيطِ تَرْكُهُ أَعَمُّ مِنْ أَنْ يَلْبَسَ شَيْئًا آخَرَ، أَوْ لَا عَدَمُ التَّرْكِ مُفَوِّتٌ لِلْمَقْصُودِ بِالنَّهْيِ ضَرُورَةً؛ لِأَنَّا نَقُولُ هَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى اعْتِبَارَاتِهِمْ مِنْ أَنَّ ضِدَّ الْقِيَامِ هُوَ الْقُعُودُ وَالِاضْطِجَاعُ وَنَحْوُهُمَا لَا تَرْكُ الْقِيَامِ فَضِدُّ لُبْسِ الْمَخِيطِ، هُوَ لُبْسِ غَيْرِ الْمَخِيطِ وَهُوَ الْمُوَافِقُ لِإِصْلَاحِ الْمُتَكَلِّمِينَ مِنْ أَنَّ الضِّدَّ يَكُونُ وُجُودِيًّا.
(قَوْلُهُ وَالسُّجُودُ) تَفْرِيعٌ عَلَى أَصْلَيْنِ مِمَّا سَبَقَ، وَذَلِكَ

(1/432)


وَكَوْنَهُ سُنَّةً مُؤَكَّدَةً.
(فَقَوْلُهُ تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ} [البقرة: 228] ، وَهُوَ فِي مَعْنَى النَّهْيِ يَقْتَضِي وُجُوبَ الْإِظْهَارِ، وَالْأَمْرُ بِالتَّرَبُّصِ يَقْتَضِي حُرْمَةَ التَّزَوُّجِ وقَوْله تَعَالَى {وَلا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ} [البقرة: 235] يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالْكَفِّ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ فَيَجْرِي التَّدَاخُلُ فِي الْعِدَّةِ بِخِلَافِ الصَّوْمِ، فَإِنَّ الْكَفَّ رُكْنُهُ، وَهُوَ مَقْصُودٌ.
(وَأَمَّا الْمَأْمُورُ بِالْقِيَامِ فِي الصَّلَاةِ إذَا قَعَدَ ثُمَّ قَامَ لَا يُبْطِلُ لَكِنَّهُ يُكْرَهُ، وَالْمُحْرِمُ لَمَّا نُهِيَ عَنْ لُبْسِ الْمَخِيطِ كَانَ لُبْسُ الْإِزَارِ وَالرِّدَاءِ سُنَّةً، وَالسُّجُودُ عَلَى النَّجِسِ لَا يُفْسِدُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ؛ لِأَنَّهُ لَا يُفَوِّتُ الْمَقْصُودَ حَتَّى إذَا أَعَادَهُ عَلَى الطَّاهِرِ يَجُوزُ وَعِنْدَهُمَا يُفْسِدُ؛ لِأَنَّهُ يَصِيرُ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجِسِ فِي عَمَلٍ هُوَ فَرْضٌ، وَالتَّطْهِيرُ عَنْ النَّجَاسَةِ فِي الْأَرْكَانِ فَرْضٌ دَائِمٌ فَيَصِيرُ ضِدُّهُ مُفَوِّتًا) فَهَذِهِ الْمَسَائِلُ تَفْرِيعَاتٌ عَلَى مَا ذَكَرَ مِنْ الْأَصْلِ، وَبَعْدَ مَعْرِفَةِ أَحْكَامِ الْأَصْلِ مَعْرِفَةُ هَذِهِ الْفُرُوعِ تَكُونُ سَهْلَةً إنَّهُ الْمُسَهِّلُ لِكُلِّ عَسِيرٍ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
أَنَّ السُّجُودَ عَلَى الطَّاهِرِ مَأْمُورٌ بِهِ فَإِذَا سَجَدَ عَلَى النَّجِسِ لَا يَكُونُ مُفَوِّتًا لِلْمَأْمُورِ بِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَسْجُدَ بَعْدَ ذَلِكَ عَلَى الطَّاهِرِ فَتَجُوزُ، وَلَا تَفْسُدُ الصَّلَاةُ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - وَعِنْدَهُمَا تَفْسُدُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ مَأْمُورٌ بِهِ بِدَوَامِ التَّطْهِيرِ فِي جَمِيعِ الْأَرْكَانِ، فَاسْتِعْمَالُ النَّجِسِ فِي عَمَلٍ هُوَ فَرْضٌ فِي وَقْتٍ مَا يَكُونُ مُفَوِّتًا لِلْمَقْصُودِ بِالْأَمْرِ، وَإِنَّمَا قَالَ فِي عَمَلٍ هُوَ فَرْضٌ إشَارَةً إلَى أَنَّهُ لَوْ وَضَعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرُّكْبَتَيْنِ عَلَى مَوْضِعٍ نَجِسٍ لَا تَفْسُدُ صَلَاتُهُ خِلَافًا لِزُفَرَ، وَذَلِكَ لِأَنَّ وَضْعَ الْيَدَيْنِ أَوْ الرُّكْبَتَيْنِ لَيْسَ بِفَرْضٍ فَيَكُونُ وَضْعُهُمَا عَلَى النَّجِسِ بِمَنْزِلَةِ تَرْكِ الْوَضْعِ وَهُوَ لَا يُفْسِدُ، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ مُسْتَعْمِلًا لِلنَّجِسِ إذَا كَانَ حَامِلًا لِلنَّجَاسَةِ تَحْقِيقًا، وَهُوَ ظَاهِرٌ أَوْ تَقْدِيرًا كَمَا إذَا كَانَ فِي مَكَانِ وَضْعِ الْوَجْهِ نَجَسٌ، فَإِنَّ النَّجَاسَةَ تَصِيرُ وَصْفًا لِلْوَجْهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ اتِّصَالَهُ بِالْأَرْضِ وَلُصُوقَهُ بِهَا فَرْضٌ لَازِمٌ فَيَصِيرُ مَا هُوَ صِفَةٌ لِلْأَرْضِ صِفَةً لَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا مَا لَمْ يَكُنْ اللُّصُوقُ لَازِمًا فَإِنَّهُ لَا يَقْوَى هَذِهِ الْقُوَّةَ، ثُمَّ لَا يَخْفَى لُطْفُ الْإِيهَامِ فِي قَوْلِهِ إنَّهُ الْمُسَهِّلُ لِكُلِّ عَسِيرٍ.

(1/433)


(الرُّكْنُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ وَهِيَ تُطْلَقُ عَلَى قَوْلِ الرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - وَعَلَى فِعْلِهِ، وَالْحَدِيثُ مُخْتَصٌّ بِقَوْلِهِ: وَالْأَقْسَامُ الَّتِي ذُكِرَتْ فِي كِتَابٍ) كَالْخَاصِّ وَالْعَامِّ وَالْمُشْتَرَكِ إلَى آخِرِهَا وَالْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ثَابِتَةٌ هَهُنَا أَيْضًا فَلَا نَشْتَغِلُ بِهَا، وَإِنَّمَا بَحْثُنَا فِي بَيَانِ الِاتِّصَالِ بِالرَّسُولِ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَنَبْحَثُ فِي أُمُورٍ: فِي كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَالِ، وَفِي الِانْقِطَاعِ، وَفِي مَحَلِّ الْخَبَرِ، وَفِي كَيْفِيَّةِ السَّمَاعِ وَالضَّبْطِ وَالتَّبْلِيغِ، وَفِي الطَّعْنِ.