شرح التلويح على التوضيح (فَصْلٌ) فِي الِاتِّصَالِ الْخَبَرُ لَا
يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ رُوَاتُهُ فِي كُلِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
[الرُّكْنُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ] [فَصْلٌ اتِّصَالُ
الْخَبَرِ] [التَّوَاتُرُ يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ]
قَوْلُهُ: (الرُّكْنُ الثَّانِي فِي السُّنَّةِ وَهِيَ) فِي
اللُّغَةِ: الطَّرِيقَةُ وَالْعَادَةُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ
فِي الْعِبَادَاتِ النَّافِلَةِ وَفِي الْأَدِلَّةِ وَهُوَ
الْمُرَادُ هَاهُنَا مَا صَدَرَ عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ
السَّلَامُ - غَيْرُ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلٍ وَيُسَمَّى
الْحَدِيثَ أَوْ فِعْلٍ أَوْ تَقْرِيرٍ، وَالْمَقْصُودُ
بِالْبَحْثِ هَاهُنَا بَيَانُ اتِّصَالِ السُّنَّةِ
بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ يَبْحَثُ
عَنْ كَيْفِيَّةِ الِاتِّصَالِ بِأَنَّهُ بِطَرِيقِ
التَّوَاتُرِ أَوْ غَيْرِهِ وَعَنْ حَالِ الرَّاوِي، وَعَنْ
شَرَائِطِهِ وَعَنْ ضِدِّ الِاتِّصَالِ، وَهُوَ الِانْقِطَاعُ،
وَعَنْ مُتَعَلَّقِهِ الَّذِي هُوَ مَحَلُّ الْخَبَرِ، وَعَنْ
وُصُولِهِ مِنْ الْأَعْلَى إلَى الْأَدْنَى فِي الْمَبْدَأِ
وَهُوَ السَّمَاعُ، أَوْ الْمُنْتَهَى، وَهُوَ التَّبْلِيغُ،
أَوْ الْوَسَطِ، وَهُوَ الضَّبْطُ عَنْ قَدْحِ الْقَادِحِ
فِيهِ، وَهُوَ الطَّعْنُ وَعَمَّا يَخُصُّ نَوْعًا خَاصًّا
مِنْ السُّنَّةِ، وَهُوَ الْفِعْلُ وَعَنْ مَبْدَأِ
السُّنَّةِ، وَهُوَ الْوَحْيُ، وَعَمَّا يَتَعَلَّقُ بِهَا
تَعَلُّقَ السَّوَابِقِ كَشَرَائِعِ مَنْ قَبْلَنَا أَوْ
تَعَلُّقَ اللَّوَاحِقِ كَأَقْوَالِ الصَّحَابَةِ فَأَوْرَدَ
هَذِهِ الْمَبَاحِثَ فِي أَحَدَ عَشَرَ فَصْلًا.
قَوْلُهُ: (فَصْلٌ فِي الِاتِّصَالِ) فَإِنْ قُلْتَ كَيْفَ
جَعَلَ مَوْرِدَ الْقِسْمَةِ الْخَبَرَ، وَفِي السُّنَّةِ
الْأَمْرُ وَالنَّهْيُ بَلْ الْفِعْلُ أَيْضًا يُنْقَلُ
بِالطُّرُقِ الْمَذْكُورَةِ قُلْتُ؛ لِأَنَّ الْمُتَّصِفَ
حَقِيقَةً بِالتَّوَاتُرِ وَغَيْرِهِ هُوَ الْخَبَرُ وَمَعْنَى
اتِّصَافِ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ بِهِ أَنَّ الْإِخْبَارَ
بِكَوْنِهِ كَلَامَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مُتَوَاتِرٌ وَمَعْنَى الْمُتَوَاتِرِ
عَلَى مُقْتَضَى كَلَامِهِ مَا يَكُونُ رُوَاتُهُ فِي كُلِّ
عَهْدٍ قَوْمًا لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ، وَلَا يُمْكِنُ
تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ،
وَعَدَالَتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ فَقَوْلُهُ: فِي
كُلِّ عَهْدٍ احْتِرَازٌ عَنْ الْمَشْهُورِ وَقَوْلُهُ: لَا
يُحْصَى عَدَدُهُمْ مَعْنَاهُ لَا يَدْخُلُ تَحْتَ الضَّبْطِ،
وَفِيهِ احْتِرَازٌ عَنْ خَبَرِ قَوْمٍ مَحْصُورٍ، وَإِشَارَةٌ
إلَى أَنَّهُ لَا يُشْتَرَطُ فِي التَّوَاتُرِ عَدَدٌ
مُعَيَّنٌ عَلَى مَا ذَهَبَ إلَيْهِ بَعْضُهُمْ مِنْ
اشْتِرَاطِ خَمْسَةٍ أَوْ اثْنَيْ عَشَرَ أَوْ عِشْرِينَ أَوْ
أَرْبَعِينَ
(2/3)
عَهْدٍ قَوْمًا لَا يُحْصَى عَدَدُهُمْ،
وَلَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ لِكَثْرَتِهِمْ
وَعَدَالَتِهِمْ وَتَبَايُنِ أَمَاكِنِهِمْ أَوْ تَصِيرُ
كَذَلِكَ بَعْدَ الْقَرْنِ الْأَوَّلِ أَوْ لَا تَصِيرُ
كَذَلِكَ بَلْ رُوَاتُهُ آحَادٌ. وَالْأَوَّلُ مُتَوَاتِرٌ
وَالثَّانِي مَشْهُورٌ وَالثَّالِثُ خَبَرُ الْوَاحِدِ وَلَمْ
يُعْتَبَرْ فِيهِ الْعَدَدُ إذَا لَمْ يَصِلْ حَدَّ
التَّوَاتُرِ.
وَالْأَوَّلُ: يُوجِبُ عِلْمَ الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ
الِاتِّفَاقَ عَلَى شَيْءٍ مُخْتَرَعٍ مَعَ تَبَايُنِ
هُمُومِهِمْ وَطَبَائِعِهِمْ وَأَمَاكِنِهِمْ مِمَّا
يَسْتَحِيلُ عَقْلًا. وَالثَّانِي يُوجِبُ عِلْمَ
طُمَأْنِينَةٍ وَهُوَ عِلْمٌ تَطْمَئِنُّ بِهِ النَّفْسُ،
وَتَظُنُّهُ يَقِينًا لَكِنْ لَوْ تَأَمَّلَ حَقَّ
التَّأَمُّلِ عَلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ بِيَقِينٍ كَمَا إذَا
رَأَى قَوْمًا جَلَسُوا لِلْمَأْتَمِ يَقَعُ لَهُ عِلْمٌ عَنْ
غَفْلَةٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
أَوْ خَمْسِينَ قَوْلًا مِنْ غَيْرِ دَلِيلٍ.
وَقَوْلُهُ: وَلَا يُمْكِنُ تَوَاطُؤُهُمْ أَيْ: تَوَافُقُهُمْ
عَلَى الْكَذِبِ، عِنْدَ الْمُحَقِّقِينَ تَفْسِيرٌ
لِلْكَثْرَةِ بِمَعْنَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي كَثْرَةِ
الْمُخْبِرِينَ بُلُوغُهُمْ حَدًّا يَمْتَنِعُ عِنْدَ
الْعَقْلِ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى الْكَذِبِ حَتَّى لَوْ أَخْبَرَ
جَمْعٌ غَيْرُ مَحْصُورٍ بِمَا يَجُوزُ تَوَاطُؤُهُمْ عَلَى
الْكَذِبِ فِيهِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ لَا يَكُونُ
مُتَوَاتِرًا وَأَمَّا ذِكْرُ الْعَدَالَةِ وَتَبَايُنُ
الْأَمَاكِنِ فَتَأْكِيدٌ لِعَدَمِ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى
الْكَذِبِ، وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّوَاتُرِ حَتَّى لَوْ
أَخْبَرَ جَمْعٌ غَيْرُ مَحْصُورٍ بِمَا يَجُوزُ تَوَاطُؤُهُمْ
عَلَى الْكَذِبِ فِيهِ لِغَرَضٍ مِنْ الْأَغْرَاضِ لَا يَكُونُ
مُتَوَاتِرًا وَأَمَّا ذِكْرُ الْعِدَالَةِ وَتَبَايُنُ
الْأَمَاكِنِ فَتَأْكِيدٌ لِعَدَمِ تَوَاطُئِهِمْ عَلَى
الْكَذِبِ وَلَيْسَ بِشَرْطٍ فِي التَّوَاتُرِ، حَتَّى لَوْ
أَخْبَرَ جَمْعٌ غَيْرُ مَحْصُورٍ مِنْ كُفَّارِ بَلْدَةٍ
بِمَوْتِ مَلِكِهِمْ حَصَلَ لَنَا الْيَقِينُ وَأَمَّا مِثْلُ
خَبَرِ الْيَهُودِ بِقَتْلِ عِيسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ -
وَتَأْبِيدِ دِينِ مُوسَى - عَلَيْهِ السَّلَامُ - فَلَا
نُسَلِّمُ تَوَاتُرَهُ وَحُصُولَ شَرَائِطِهِ فِي كُلِّ عَهْدٍ
ثُمَّ الْمُتَوَاتِرُ لَا بُدَّ أَنْ يَكُونَ مُسْتَنِدًا إلَى
الْحِسِّ سَمْعًا أَوْ غَيْرَهُ حَتَّى لَوْ اتَّفَقَ أَهْلُ
إقْلِيمٍ عَلَى مَسْأَلَةٍ عَقْلِيَّةٍ لَمْ يَحْصُلْ لَنَا
الْيَقِينُ حَتَّى يَقُومَ الْبُرْهَانُ.
قَوْلُهُ: (وَالْأَوَّلُ) أَيْ: الْمُتَوَاتِرُ يُوجِبُ عِلْمَ
الْيَقِينِ لِأَنَّ اتِّفَاقَ الْجَمْعِ الْغَيْرِ
الْمَحْصُورِ عَلَى شَيْءٍ مُخْتَرَعٍ لَا ثُبُوتَ لَهُ فِي
نَفْسِ الْأَمْرِ مَعَ تَبَايُنِ آرَائِهِمْ وَأَخْلَاقِهِمْ
وَأَوْطَانِهِمْ مُسْتَحِيلٌ عَقْلًا بِمَعْنَى أَنَّ
الْعَقْلَ يَحْكُمُ حُكْمًا قَطْعِيًّا بِأَنَّهُمْ لَمْ
يَتَوَاطَئُوا عَلَى الْكَذِبِ وَأَنَّ مَا اتَّفَقُوا
عَلَيْهِ حَقٌّ ثَابِتٌ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ غَيْرُ
مُحْتَمِلٍ لِلنَّقِيضِ لَا بِمَعْنَى سَلْبِ الْإِمْكَانِ
الْعَقْلِيِّ عَلَى تَوَاطُئِهِمْ عَلَى الْكَذِبِ،
وَالْأَحْسَنُ أَنْ يُقَالَ: إنَّا نَجِدُ مِنْ أَنْفُسِنَا
الْعِلْمَ الضَّرُورِيَّ بِالْبِلَادِ النَّائِيَةِ كَمَكَّةَ
وَبَغْدَادَ وَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ كَالْأَنْبِيَاءِ
وَالْأَوْلِيَاءِ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ - بِحَيْثُ لَا
يَحْتَمِلُ النَّقِيضُ أَصْلًا وَمَا ذَاكَ إلَّا
بِالْأَخْبَارِ ثُمَّ حُصُولُ الْعِلْمِ مِنْ التَّوَاتُرِ
ضَرُورِيٌّ لَا يَفْتَقِرُ إلَى تَرْكِيبِ الْحُجَّةِ حَتَّى
إنَّهُ يَحْصُلُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ ذَلِكَ كَالصِّبْيَانِ
وَجَوَازُ تَرْتِيبِ الْمُقَدِّمَاتِ لَا يُنَافِي ذَلِكَ
كَمَا فِي بَعْضِ الضَّرُورِيَّاتِ فَإِنْ قِيلَ جَوَازُ
كَذِبِ كُلِّ وَاحِدٍ يُوجِبُ جَوَازَ كَذِبِ الْآخَرِينَ
لِعَدَمِ الْمُنَافَاةِ مَعَ أَنَّ الْمَجْمُوعَ لَيْسَ إلَّا
نَفْسَ الْآحَادِ فَجَوَازُ كَذِبِ كُلِّ وَاحِدٍ يُوجِبُ
جَوَازَ كَذِبِ الْمَجْمُوعِ وَأَيْضًا يَلْزَمُ الْقَطْعُ
بِالنَّقِيضَيْنِ عِنْدَ تَوَاتُرِهِمَا، وَأَيْضًا إذَا
عَرَضْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وُجُودَ إسْكَنْدَرَ وَكَوْنَ
الْوَاحِدِ نِصْفَ الِاثْنَيْنِ نَجِدُ الثَّانِيَ أَقْوَى
بِالضَّرُورَةِ فَلَوْ كَانَا ضَرُورِيَّيْنِ لَمَا كَانَ
بَيْنَهُمَا فَرْقٌ، وَأَيْضًا الضَّرُورِيُّ يَسْتَلْزِمُ
الْوِفَاقَ، وَهُوَ مُنْتَفٍ فِي الْمُتَوَاتِرِ لِمُخَالَفَةِ
السُّمَنِيَّةِ وَالْبَرَاهِمَةِ.
(2/4)
عَنْ التَّأَمُّلِ؛ لِأَنَّهُ يُمْكِنُ
الْمُوَاضَعَةُ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ آحَادُ الْأَصْلِ،
وَإِنَّمَا يُوجِبُ أَيْ: الْخَبَرُ الْمَشْهُورُ (ذَلِكَ)
أَيْ: عِلْمَ طُمَأْنِينَةِ الْقَلْبِ لِأَنَّهُ، وَإِنْ كَانَ
فِي الْأَصْلِ خَبَرُ وَاحِدٍ، لَكِنَّ أَصْحَابَ الرَّسُولِ -
عَلَيْهِ السَّلَامُ - تَنَزَّهُوا عَنْ وَصْمَةِ الْكَذِبِ.
ثُمَّ بَعْدَ ذَلِكَ دَخَلَ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ فَأَوْجَبَ
مَا ذَكَرْنَا، وَالثَّالِثُ يُوجِبُ غَلَبَةَ الظَّنِّ إذَا
اجْتَمَعَ الشَّرَائِطُ الَّتِي نَذْكُرُهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى وَهِيَ كَافِيَةٌ لِوُجُوبِ الْعَمَلِ، وَعِنْدَ
الْبَعْضِ لَا يُوجِبُ شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ
الْعِلْمَ، وَلَا عَمَلَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ لِقَوْلِهِ
تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:
36] وَعِنْدَ بَعْضِ أَهْلِ الْحَدِيثِ يُوجِبُ الْعِلْمَ؛
لِأَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ، وَلَا عَمَلَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ
فَأَمَّا إيجَابُهُ الْعَمَلَ فَلِقَوْلِهِ تَعَالَى {فَلَوْلا
نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ
لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا
رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} [التوبة: 122]
الطَّائِفَةُ تَقَعُ عَلَى الْوَاحِدِ فَصَاعِدًا وَالرَّسُولُ
- عَلَيْهِ السَّلَامُ - قَبِلَ خَبَرَ بَرِيرَةَ وَسَلْمَانَ
فِي الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ وَأَرْسَلَ الْأَفْرَادَ إلَى
الْآفَاقِ وَالْأَخْبَارُ فِي أَحْكَامِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
وَأُجِيبَ إجْمَالًا بِأَنَّهُ تَشْكِيكٌ فِي الضَّرُورِيِّ
فَلَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ كَشُبَهِ السُّوفُسْطائيَّةِ
وَتَفْصِيلًا بِأَنَّ حُكْمَ الْجُمْلَةِ قَدْ يُخَالِفُ
حُكْمَ الْآحَادِ كَالْعَسْكَرِ الَّذِي يَفْتَحُ الْبِلَادَ،
وَتَوَاتُرُ النَّقِيضَيْنِ مُحَالٌ عَادَةً، وَلَا امْتِنَاعَ
فِي اخْتِلَافِ أَنْوَاعِ الضَّرُورِيِّ بِحَسْبِ السُّرْعَةِ
وَالْوُضُوحِ بِوَاسِطَةِ الْإِلْفِ وَالْعَادَةِ وَكَثْرَةِ
الْمُمَارَسَةِ وَالْأَخْطَارِ بِالْبَالِ، وَنَحْوِ ذَلِكَ
مَعَ الِاشْتِرَاكِ فِي عَدَمِ احْتِمَالِ النَّقِيضِ،
وَالضَّرُورِيُّ لَا يَسْتَلْزِمُ الْوِفَاقَ لِجَوَازِ
الْمُكَابَرَةِ وَالْعِنَادِ كَمَا لِلسُّوفِسْطَائِيَّةِ.
قَوْلُهُ: (وَالثَّانِي) أَيْ: الْمَشْهُورُ يُفِيدُ عِلْمَ
طُمَأْنِينَةٍ، وَالطُّمَأْنِينَةُ زِيَادَةُ تَوْطِينٍ
وَتَسْكِينٍ يَحْصُلُ لِلنَّفْسِ عَلَى مَا أَدْرَكَتْهُ
فَإِنْ كَانَ الْمُدْرَكُ يَقِينِيًّا فَاطْمِئْنَانُهَا
زِيَادَةُ الْيَقِينِ وَكَمَالُهُ كَمَا يَحْصُلُ
لِلْمُتَيَقِّنِ بِوُجُودِ مَكَّةَ بَعْدَ مَا يُشَاهِدُهَا،
وَإِلَيْهِ الْإِشَارَةُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى حِكَايَةً
{وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} [البقرة: 260] ، وَإِنْ
كَانَ ظَنِّيًّا فَاطْمِئْنَانُهَا رُجْحَانُ جَانِبِ الظَّنِّ
بِحَيْثُ يَكَادُ يَدْخُلُ فِي حَدِّ الْيَقِينِ، وَهُوَ
الْمُرَادُ هَاهُنَا وَحَاصِلُهُ سُكُونُ النَّفْسِ عَنْ
الِاضْطِرَابِ بِشُبْهَةٍ إلَّا عَنْهُ مُلَاحَظَةُ كَوْنِهِ
آحَادَ الْأَصْلِ، فَالْمُتَوَاتِرُ لَا شُبْهَةَ فِي
اتِّصَالِهِ صُورَةً، وَلَا مَعْنًى، وَخَبَرُ الْوَاحِدِ فِي
اتِّصَالِهِ شُبْهَةُ صُورَةٍ، وَهُوَ ظَاهِرٌ وَمَعْنًى
حَيْثُ لَا تَتَلَقَّاهُ الْأُمَّةُ بِالْقَبُولِ
وَالْمَشْهُورُ فِي اتِّصَالِهِ شُبْهَةُ صُورَةٍ لِكَوْنِهِ
آحَادَ الْأَصْلِ لَا مَعْنًى؛ لِأَنَّ الْأُمَّةَ قَدْ
تَلَقَّتْهُ بِالْقَبُولِ فَأَفَادَ حُكْمًا دُونَ الْيَقِينِ
وَفَوْقَ أَصْلِ الظَّنِّ فَإِنْ قِيلَ هُوَ فِي الْأَصْلِ
خَبَرُ وَاحِدٍ وَلَمْ يَنْضَمَّ إلَيْهِ فِي الِاتِّصَالِ
بِالنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَا
يَزِيدُ عَلَى الظَّنِّ، فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ بِمَنْزِلَةِ
خَبَرِ الْوَاحِدِ قُلْنَا أَصْحَابُ النَّبِيِّ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - تَنَزَّهُوا عَنْ وَصْمَةِ
الْكَذِبِ أَيْ: الْغَالِبُ الرَّاجِحُ مِنْ حَالِهِمْ
الصِّدْقُ فَيَحْصُلُ الظَّنُّ بِمُجَرَّدِ أَصْلِ النَّقْلِ
عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ثُمَّ
يَحْصُلُ زِيَادَةُ رُجْحَانٍ بِدُخُولِهِ فِي حَدِّ
التَّوَاتُرِ وَتَلَقِّيهِ مِنْ الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ
فَيُوجِبُ عِلْمَ طُمَأْنِينَةٍ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ
بِتَنَزُّهِهِمْ عَنْ وَصْمَةِ الْكَذِبِ أَنَّ نَقْلَهُمْ
صَادِقٌ قَطْعًا بِحَيْثُ لَا يَحْتَمِلُ الْكَذِبَ، وَإِلَّا
لَكَانَ الْمَشْهُورُ مُوجِبًا عِلْمَ الْيَقِينِ؛ لِأَنَّ
الْقَرْنَ الثَّانِيَ وَالثَّالِثَ، وَإِنْ لَمْ يَتَنَزَّهَا
عَنْ الْكَذِبِ إلَّا أَنَّهُ دَخَلَ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ.
(2/5)
الْآخِرَةِ لَا تُوجِبُ إلَّا
الِاعْتِقَادَ، وَهِيَ مَقْبُولَةٌ؛ وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ
الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَبِالْعَدَالَةِ يَتَرَجَّحُ
الصِّدْقُ، وَلَنَا هَذِهِ الدَّلَائِلُ لَكِنْ لَا نُسَلِّمُ
أَنَّهُ لَا عَمَلَ إلَّا عَنْ عِلْمٍ قَطْعِيٍّ، وَالْعَقْلُ
يَشْهَدُ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ.
وَالْأَحَادِيثُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ مِنْهَا مَا
اشْتَهَرَ، وَمِنْهَا مَا دُونَ ذَلِكَ وَكُلُّ ذَلِكَ يُوجِبُ
مَا ذَكَرْنَا؛ وَلِأَنَّهَا تُوجِبُ عَقْدَ الْقَلْبِ، وَهُوَ
عَمَلٌ فَيَكْفِي لَهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ، وَفِي هَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
وَأَمَّا بَعْدَ الْقُرُونِ الثَّلَاثَةِ فَأَكْثَرُ أَخْبَارِ
الْآحَادِ نُقِلَتْ بِطَرِيقِ التَّوَاتُرِ لِتَوَفُّرِ
الدَّوَاعِي عَلَى نَقْلِ الْأَحَادِيثِ وَتَدْوِينِهَا فِي
الْكُتُبِ، وَفِي كَلَامِهِ إشَارَةٌ إلَى أَنَّ خَبَرَ
الْوَاحِدِ إذَا لَمْ يَكُنْ رَاوِيهِ الْأَوَّلُ مُتَنَزِّهًا
عَنْ وَصْمَةِ الْكَذِبِ لَا يُفِيدُ عِلْمَ الطُّمَأْنِينَةِ،
وَإِنْ دَخَلَ بَعْدَ ذَلِكَ فِي حَدِّ التَّوَاتُرِ كَمَا
يَشْتَهِرُ مِنْ الْأَخْبَارِ الْكَاذِبَةِ فِي الْبِلَادِ.
قَوْلُهُ: (وَالثَّالِثُ، وَهُوَ خَبَرُ الْوَاحِدِ) يُوجِبُ
الْعَمَلَ دُونَ عِلْمِ الْيَقِينِ وَقِيلَ لَا يُوجِبُ
شَيْئًا مِنْهُمَا وَقِيلَ يُوجِبُهُمَا جَمِيعًا وَوَجْهُ
ذَلِكَ أَنَّ الْجُمْهُورَ ذَهَبُوا إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ
الْعَمَلَ دُونَ الْعِلْمِ وَقَدْ دَلَّ ظَاهِرُ قَوْله
تَعَالَى {وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} [الإسراء:
36] {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ} [الأنعام: 116] عَلَى
اسْتِلْزَامِ الْعَمَلِ الْعِلْمَ فَذَهَبَ طَائِفَةٌ إلَى
أَنَّهُ يُوجِبُ الْعَمَلَ أَيْضًا احْتِجَاجًا بِنَفْيِ
اللَّازِمِ، وَهُوَ عِلْمٌ عَلَى نَفْيِ الْمَلْزُومِ
وَطَائِفَةٌ إلَى أَنَّهُ يُوجِبُ الْعِلْمَ أَيْضًا
احْتِجَاجًا بِوُجُودِ الْمَلْزُومِ عَلَى وُجُودِ اللَّازِمِ
وَالْمُصَنِّفُ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - مَنَعَ
اللُّزُومَ مِنْ غَيْرِ تَعَرُّضٍ لِدَفْعِ الدَّلِيلِ
وَظَاهِرُهُ غَيْرُ مُوَجَّهٍ إلَّا أَنَّهُ اعْتَمَدَ عَلَى
ظُهُورِهِ.
وَهُوَ أَنَّ اتِّبَاعَ الظَّنِّ قَدْ ثَبَتَ بِالْأَدِلَّةِ،
وَلَا عُمُومَ لِلْآيَتَيْنِ فِي الْأَشْخَاصِ وَالْأَزْمَانِ
عَلَى أَنَّ الْعِلْمَ قَدْ يُسْتَعْمَلُ فِي الْإِدْرَاكِ
جَازِمًا مَا كَانَ أَوْ غَيْرَ جَازِمٍ، وَالظَّنُّ قَدْ
يَكُونُ بِمَعْنَى الْوَهْمِ وَاسْتُدِلَّ عَلَى كَوْنِ خَبَرِ
الْوَاحِدِ مُوجِبًا لِلْعَمَلِ بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ.
أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ تَعَالَى {فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ
كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 122] الْآيَةَ، وَذَلِكَ أَنَّ
لَوْلَا هَهُنَا لِلطَّلَبِ وَالْإِيجَابِ لِامْتِنَاعِ
التَّرَجِّي عَلَى اللَّهِ تَعَالَى وَالطَّائِفَةُ بَعْضٌ
مِنْ الْفِرْقَةِ وَاحِدٌ أَوْ اثْنَانِ إذْ الْفِرْقَةُ هِيَ
الثَّلَاثَةُ فَصَاعِدًا وَبِالْجُمْلَةِ لَا يَلْزَمُ أَنْ
يَبْلُغَ حَدَّ التَّوَاتُرِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ قَوْلَ
الْآحَادِ يُوجِبُ الْحَذَرَ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ
الْمُرَادَ الْفَتْوَى فِي الْفُرُوعِ بِقَرِينَةِ
التَّفَقُّهِ وَيَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْقَوْمِ بِغَيْرِ
الْمُجْتَهِدِينَ بِقَرِينَةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَا
يَلْزَمُهُ وُجُوبُ الْحَذَرِ بِخَبَرِ الْوَاحِدِ؛ لِأَنَّهُ
ظَنِّيٌّ، وَلِلِاجْتِهَادِ فِيهِ مَسَاغٌ وَمَحَالٌّ؛ عَلَى
أَنَّ كَوْنَ لَوْلَا لِلْإِيجَابِ وَالطَّلَبِ مَحَلُّ نَظَرٍ
ثُمَّ قَوْله تَعَالَى {كُلِّ فِرْقَةٍ} [التوبة: 122] ،
وَإِنْ كَانَ عَامًّا إلَّا أَنَّهُ خُصَّ بِالْإِجْمَاعِ
عَلَى عَدَمِ خُرُوجِ وَاحِدٍ مِنْ كُلِّ ثَلَاثَةٍ، وَأَمَّا
السُّنَّةُ فَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
قَبِلَ خَبَرَ بَرِيرَةَ فِي الْهَدَايَا وَخَبَرَ سَلْمَانَ
فِي الْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ حِينَ أُتِيَ بِطَبَقِ رُطَبٍ
فَقَالَ هَذَا صَدَقَةٌ فَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَأَمَرَ
أَصْحَابَهُ بِالْأَكْلِ، ثُمَّ أُتِيَ بِطَبَقِ رُطَبٍ
وَقَالَ هَذَا هَدِيَّةٌ فَأَكَلَ، وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ
بِالْأَكْلِ وَلِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
كَانَ يُرْسِلُ الْأَفْرَادَ مِنْ أَصْحَابِهِ إلَى الْآفَاقِ
لِتَبْلِيغِ الْأَحْكَامِ، وَإِيجَابِ قَبُولِهَا عَلَى
الْأَنَامِ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ الْأَوَّلِ لِجَوَازِ أَنْ
يَحْصُلَ لِلنَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
عِلْمٌ بِصِدْقِهِمَا عَلَى أَنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى
الْقَبُولِ دُونَ الْوُجُوبِ.
فَإِنْ قِيلَ هَذِهِ
(2/6)
نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ يَجِبُ أَنْ لَا يَخْتَصَّ هَذَا
بِأَحْكَامِ الْآخِرَةِ بَلْ يَكُونُ كُلُّ
الِاعْتِقَادِيَّاتِ كَذَلِكَ.
[فَصْلٌ] الرَّاوِي إمَّا مَعْرُوفٌ بِالرِّوَايَةِ وَإِمَّا
مَجْهُولٌ أَيْ: لَمْ يُعْرَفْ إلَّا بِحَدِيثٍ أَوْ
حَدِيثَيْنِ، وَالْمَعْرُوفُ إمَّا أَنْ يَكُونَ مَعْرُوفًا
بِالْفِقْهِ وَالِاجْتِهَادِ كَالْخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ
وَالْعَبَادِلَةِ (أَيْ: عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ
وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ وَعَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ)
وَزَيْدٍ، وَمُعَاذٍ وَأَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ
وَعَائِشَةَ وَنَحْوِهِمْ رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ
أَجْمَعِينَ وَحَدِيثُهُ يُقْبَلُ وَافَقَ الْقِيَاسَ أَوْ
خَالَفَهُ وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
أَخْبَارُ آحَادٍ فَكَيْفَ يَثْبُتُ بِهَا كَوْنُ خَبَرِ
الْوَاحِدِ حُجَّةً، وَهُوَ مُصَادَرَةٌ عَلَى الْمَطْلُوبِ؟
قُلْنَا: تَفَاصِيلُ ذَلِكَ وَإِنْ كَانَتْ آحَادًا إلَّا
أَنَّ جُمْلَتَهَا بَلَغَتْ حَدَّ التَّوَاتُرِ كَشَجَاعَةِ
عَلِيٍّ وَجُودِ حَاتِمٍ، وَإِنْ لَمْ يَلْزَمْ التَّوَاتُرُ
فَلَا أَقَلَّ مِنْ الشُّهْرَةِ وَرُبَّمَا يُسْتَدَلُّ
بِالْإِجْمَاعِ، وَهُوَ أَنَّهُ نُقِلَ مِنْ الصَّحَابَةِ
وَغَيْرِهِمْ الِاسْتِدْلَال بِخَبَرِ الْوَاحِدِ،
وَعَمَلُهُمْ بِهِ فِي الْوَقَائِعِ الْمُخْتَلِفَةِ الَّتِي
لَا تَكَادُ تُحْصَى، وَتَكَرَّرَ ذَلِكَ وَشَاعَ مِنْ غَيْرِ
نَكِيرٍ.
وَذَلِكَ يُوجِبُ الْعِلْمَ عَادَةً بِإِجْمَاعِهِمْ
كَالْقَوْلِ الصَّرِيحِ، وَقَدْ دَلَّ سِيَاقُ الْأَخْبَارِ
عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ فِي تِلْكَ الْوَقَائِعِ كَانَ بِنَفْسِ
خَبَرِ الْوَاحِدِ وَمَا نُقِلَ مِنْ إنْكَارِهِمْ بَعْضَ
أَخْبَارِ الْآحَادِ إنَّمَا كَانَ عِنْدَ قُصُورٍ فِي
إفَادَةِ الظَّنِّ وَوُقُوعِ رِيبَةٍ فِي الصِّدْقِ.
(قَوْلُهُ: وَالْإِخْبَارُ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ
وَلِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ) دَلِيلَانِ مُسْتَقِلَّانِ عَلَى
كَوْنِ خَبَرِ الْوَاحِدِ مُوجِبًا لِلْعِلْمِ تَقْرِيرُ
الْأَوَّلِ أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ
مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ وَتَفَاصِيلِ الْحَشْرِ وَالصِّرَاطِ
وَالْحِسَابِ وَالْعِقَابِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مَقْبُولٌ
بِالْإِجْمَاعِ مَعَ أَنَّهُ لَا يُفِيدُ إلَّا الِاعْتِقَادَ
إذْ لَا يَثْبُتُ بِهِ عَمَلٌ مِنْ الْفُرُوعِ.
وَتَقْرِيرُ الثَّانِي أَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ يَحْتَمِلُ
الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ وَبِالْعَدَالَةِ تَرَجَّحَ جَانِبُ
الصِّدْقِ بِحَيْثُ لَا يَبْقَى احْتِمَالُ الْكَذِبِ، وَهُوَ
مَعْنَى الْعِلْمِ وَجَوَابِهِ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ تَرَجُّحَ
جَانِبِ الصِّدْقِ إلَى حَيْثُ لَا يُحْتَمَلُ الْكَذِبُ
أَصْلًا بَلْ الْعَقْلُ شَاهِدٌ بِأَنَّ خَبَرَ الْوَاحِدِ
الْعَدْلِ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ، وَأَنَّ احْتِمَالَ
الْكَذِبِ قَائِمٌ، وَإِنْ كَانَ مَرْجُوحًا وَإِلَّا لَزِمَ
الْقَطْعُ بِالنَّقِيضَيْنِ عِنْدَ إخْبَارِ الْعَدْلَيْنِ
بِهِمَا.
وَجَوَابُ الْأَوَّلِ وَجْهَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ
الْأَحَادِيثَ فِي بَابِ الْآخِرَةِ مِنْهَا مَا اُشْتُهِرَ
فَيُوجِبُ عِلْمَ الطُّمَأْنِينَةِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ خَبَرُ
الْوَاحِدِ فَيُفِيدُ الظَّنَّ وَذَلِكَ فِي التَّفَاصِيلِ
وَالْفُرُوعِ، وَمِنْهَا مَا تَوَاتَرَ وَاعْتُضِدَ
بِالْكِتَابِ وَهُوَ فِي الْجُمَلِ وَالْأُصُولِ فَيُفِيدُ
الْقَطْعَ. وَثَانِيهِمَا: أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ أَحْكَامِ
الْآخِرَةِ عَقْدُ الْقَلْبِ، وَهُوَ عَمَلٌ فَيَكْفِيهِ
خَبَرُ الْوَاحِدِ وَاعْتُرِضَ عَلَيْهِ بِأَنَّهُ يَلْزَمُ
عَقْدُ الْقَلْبِ فِي غَيْرِ أَحْكَامِ الْآخِرَةِ، وَهُوَ
مَعْنَى الْعِلْمِ، وَقَدْ بُيِّنَ فَسَادُهُ وَجَوَابُهُ
أَنَّ الْأَحَادِيثَ فِي أَحْكَامِ الْآخِرَةِ إنَّمَا
وَرَدَتْ لِعَقْدِ الْقَلْبِ وَالْجَزْمِ بِالْحُكْمِ، وَفِي
غَيْرِهَا لِلْعَمَلِ دُونَ الِاعْتِقَادِ فَوَجَبَ
الْإِتْيَانُ بِمَا كُلِّفْنَا بِهِ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا |