شرح التلويح على التوضيح [بَابُ الِاجْتِهَادِ]
(قَوْلُهُ: بَابُ الِاجْتِهَادِ) لَمَّا كَانَ بَحْثُ
الْأُصُولِ عَنْ الْأَدِلَّةِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يُسْتَنْبَطُ
مِنْهَا الْأَحْكَامُ وَطَرِيقُ ذَلِكَ هُوَ الِاجْتِهَادُ
خَتَمَ مَبَاحِثَ الْأَدِلَّةِ بِبَابِ الِاجْتِهَادِ، وَهُوَ
فِي اللُّغَةِ تَحَمُّلُ الْجَهْدِ أَيْ الْمَشَقَّةِ. وَفِي
الِاصْطِلَاحِ اسْتِفْرَاغُ الْفَقِيهِ الْوُسْعَ لِتَحْصِيلِ
ظَنٍّ بِحُكْمٍ شَرْعِيٍّ، وَهَذَا هُوَ الْمُرَادُ
بِقَوْلِهِمْ: بَذْلُ الْمَجْهُودِ لِنَيْلِ الْمَقْصُودِ
(2/234)
مِنْهَا، وَأَمَّا إذَا كَانَتْ الْعِلَّةُ
فِيهِمَا شَيْئًا وَاحِدًا لَكِنَّ الْمَقِيسَ عَلَيْهِ
مُتَعَدِّدٌ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ لَا يَكُونُ قِيَاسَانِ بَلْ
قِيَاسٌ وَاحِدٌ مَعَ كَثْرَةِ الْأُصُولِ، وَهَذَا يَصْلُحُ
لِلتَّرْجِيحِ.
(وَلَا الْحَدِيثُ بِحَدِيثٍ آخَرَ وَعَلَى هَذَا كُلُّ مَا
يَصْلُحُ عِلَّةً لَا يَصْلُحُ مُرَجِّحًا، وَكَذَا إذَا
جُرِحَ أَحَدُهُمَا جِرَاحَةً وَالْآخَرُ عَشْرَ جِرَاحَاتٍ
فَالدِّيَةُ نِصْفَانِ، وَكَذَا الشَّفِيعَانِ بِشِقْصَيْنِ
مُتَفَاوِتَيْنِ. وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى
- لَا يُرَجِّحُ صَاحِبَ الْكَثِيرِ أَيْضًا) بِمَعْنَى أَنْ
يَكُونَ هُوَ الْمُسْتَحِقَّ دُونَ الْآخَرِ (وَلَكِنْ
يُقْسَمُ بِقَدْرِ الْمِلْكِ؛ لِأَنَّ الشُّفْعَةَ مِنْ
مَرَافِقِ الْمِلْكِ كَالثَّمَرَةِ وَالْوَلَدِ فَنَقُولُ:
حُكْمُ الْعِلَّةِ لَا يَتَوَلَّدُ مِنْهَا، وَلَا يَنْقَسِمُ
عَلَيْهَا) الْمُرَادُ بِالْعِلَّةِ هَاهُنَا الْعِلَّةُ
الْفَاعِلِيَّةُ وَهِيَ الَّتِي يَحْصُلُ الْمَعْلُولُ بِهَا
فَإِنَّ الْمَعْلُولَ غَيْرُ مُتَوَلِّدٍ مِنْهَا وَغَيْرُ
مُنْقَسِمٍ عَلَيْهَا بِخِلَافِ الْعِلَّةِ الْمَادِّيَّةِ
وَهِيَ الَّتِي يَحْصُلُ الْمَعْلُولُ مِنْهَا فَالْمَعْلُولُ
يَتَوَلَّدُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
وَمَعْنَى اسْتِفْرَاغِ الْوُسْعِ بَذْلُ تَمَامِ الطَّاقَةِ
بِحَيْثُ يَحُسُّ مِنْ نَفْسِهِ الْعَجْزَ عَنْ الْمَزِيدِ
عَلَيْهِ فَخَرَجَ اسْتِفْرَاغُ غَيْرِ الْفَقِيهِ وُسْعَهُ
فِي مَعْرِفَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ فَبَذْلُ الْفَقِيهِ وُسْعَهُ
فِي مَعْرِفَةِ حُكْمٍ شَرْعِيٍّ قَطْعِيٍّ، أَوْ فِي الظَّنِّ
بِحُكْمٍ غَيْرِ شَرْعِيٍّ لَيْسَ بِاجْتِهَادٍ.
وَشَرْطُ الِاجْتِهَادِ أَنْ يَحْوِيَ أَيْ أَنْ يَجْمَعَ
الْعِلْمَ بِأُمُورٍ ثَلَاثَةٍ:
الْأَوَّلُ: الْكِتَابُ أَيْ الْقُرْآنُ بِأَنْ يَعْرِفَهُ
بِمَعَانِيهِ لُغَةً وَشَرِيعَةً أَمَّا لُغَةً فَبِأَنْ
يَعْرِفَ مَعَانِيَ الْمُفْرَدَاتِ وَالْمُرَكَّبَاتِ
وَخُصُوصَهَا فِي الْإِفَادَةِ فَيَفْتَقِرُ إلَى اللُّغَةِ
وَالصَّرْفِ وَالنَّحْوِ وَالْمَعَانِي وَالْبَيَانِ
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَعْرِفَ ذَلِكَ بِحَسَبِ السَّلِيقَةِ،
وَأَمَّا شَرِيعَةً فَبِأَنْ يَعْرِفَ الْمَعَانِيَ
الْمُؤَثِّرَةَ فِي الْأَحْكَامِ مَثَلًا يَعْرِفُ فِي قَوْله
تَعَالَى: {أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ}
[النساء: 43] أَنَّ الْمُرَادَ بِالْغَائِطِ الْحَدَثُ،
وَأَنَّ عِلَّةَ الْحُكْمِ خُرُوجُ النَّجَاسَةِ عَنْ بَدَنِ
الْإِنْسَانِ الْحَيِّ بِأَقْسَامِهِ مِنْ الْخَاصِّ
وَالْعَامِّ وَالْمُشْتَرَكِ وَالْمُجْمَلِ وَالْمُفَسَّرِ
وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا سَبَقَ ذِكْرُهُ بِأَنْ يَعْلَمَ أَنَّ
هَذَا خَاصٌّ وَذَاكَ عَامٌّ، وَهَذَا نَاسِخٌ وَذَاكَ
مَنْسُوخٌ إلَى غَيْرِ ذَلِكَ، وَلَا خَفَاءَ فِي أَنَّ هَذَا
مُغَايِرٌ لِمَعْرِفَةِ الْمَعَانِي وَالْمُرَادُ بِالْكِتَابِ
قَدْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِمَعْرِفَةِ الْأَحْكَامِ
وَالْمُعْتَبَرُ هُوَ الْعِلْمُ بِمَوَاقِعِهَا بِحَيْثُ
يَتَمَكَّنُ مِنْ الرُّجُوعِ إلَيْهَا عِنْدَ طَلَبِ الْحُكْمِ
لَا الْحِفْظُ عَنْ ظَهْرِ الْقَلْبِ.
الثَّانِي: السُّنَّةُ قَدْرُ مَا يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ
بِأَنْ يَعْرِفَهَا بِمَتْنِهَا وَهُوَ نَفْسُ الْحَدِيثِ
وَسَنَدِهَا، وَهُوَ طَرِيقُ وُصُولِهَا إلَيْنَا مِنْ
تَوَاتُرٍ، أَوْ شُهْرَةٍ، أَوْ آحَادٍ. وَفِي ذَلِكَ
مَعْرِفَةُ حَالِ الرُّوَاةِ وَالْجَرْحِ وَالتَّعْدِيلِ إلَّا
أَنَّ الْبَحْثَ عَنْ أَحْوَالِ الرُّوَاةِ فِي زَمَانِنَا
هَذَا كَالْمُتَعَذِّرِ لِطُولِ الْمُدَّةِ وَكَثْرَةِ
الْوَسَائِطِ فَالْأَوْلَى الِاكْتِفَاءُ بِتَعْدِيلِ
الْأَئِمَّةِ الْمَوْثُوقِ بِهِمْ فِي عِلْمِ الْحَدِيثِ
كَالْبُخَارِيِّ وَمُسْلِمٍ وَالْبَغَوِيِّ وَالصَّغَانِيِّ
وَغَيْرِهِمْ مِنْ أَئِمَّةِ الْحَدِيثِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ
الْمُرَادَ مَعْرِفَةُ مَتْنِ السُّنَّةِ بِمَعَانِيهِ لُغَةً
وَشَرِيعَةً وَبِأَقْسَامِهِ مِنْ الْخَاصِّ وَالْعَامِّ
وَغَيْرِهِمَا.
الثَّالِثُ: وُجُوهُ الْقِيَاسِ بِشَرَائِطِهَا وَأَحْكَامِهَا
وَأَقْسَامِهَا وَالْمَقْبُولِ مِنْهَا وَالْمَرْدُودِ وَكُلُّ
ذَلِكَ لِيَتَمَكَّنَ مِنْ الِاسْتِنْبَاطِ الصَّحِيحِ وَكَانَ
الْأَوْلَى ذِكْرُ الْإِجْمَاعِ أَيْضًا إذْ لَا بُدَّ مِنْ
مَعْرِفَتِهِ وَمَعْرِفَةِ مَوَاقِعِهِ
(2/235)
مِنْهَا وَيَنْقَسِمُ عَلَيْهَا
كَالْوَلَدِ وَالثَّمَرِ فَاسْتِحْقَاقُ الشُّفْعَةِ غَيْرُ
مُتَوَلِّدٍ مِنْ الدَّارِ الْمَشْفُوعِ بِهَا بَلْ هُوَ
ثَابِتٌ بِهَا لَا مِنْهَا، فَلَا تَنْقَسِمُ عَلَيْهَا.
(بَابُ الِاجْتِهَادِ شَرْطُهُ أَنْ يَحْوِيَ عِلْمَ
الْكِتَابِ بِمَعَانِيهِ لُغَةً وَشَرْعًا وَأَقْسَامَهُ
الْمَذْكُورَةَ، وَعِلْمَ السُّنَّةِ مَتْنًا وَسَنَدًا،
وَوُجُوهَ الْقِيَاسِ كَمَا ذَكَرْنَا. وَحُكْمُهُ غَلَبَةُ
الظَّنِّ عَلَى احْتِمَالِ الْخَطَأِ فَالْمُجْتَهِدُ
عِنْدَنَا يُخْطِئُ وَيُصِيبُ، وَعِنْدَ الْمُعْتَزِلَةِ كُلُّ
مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عِنْدَنَا
فِي كُلِّ حَادِثَةٍ حُكْمًا مُعَيَّنًا عِنْدَ اللَّهِ
تَعَالَى، وَعِنْدَهُمْ لَا بَلْ الْحُكْمُ مَا أَدَّى إلَيْهِ
اجْتِهَادُ كُلِّ مُجْتَهِدٍ، فَإِذَا اجْتَهَدُوا فِي
حَادِثَةٍ فَالْحُكْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى فِي حَقِّ
كُلِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
لِئَلَّا يُخَالِفَهُ فِي اجْتِهَادِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ
عِلْمُ الْكَلَامِ لِجَوَازِ الِاسْتِدْلَالِ بِالْأَدِلَّةِ
السَّمْعِيَّةِ لِلْجَازِمِ بِالْإِسْلَامِ تَقْلِيدًا، وَلَا
عِلْمُ الْفِقْهِ؛ لِأَنَّهُ نَتِيجَةُ الِاجْتِهَادِ
وَثَمَرَتُهُ، فَلَا يَتَقَدَّمُهُ إلَّا أَنَّ مَنْصِبَ
الِاجْتِهَادِ فِي زَمَانِنَا إنَّمَا يَحْصُلُ بِمُمَارَسَةِ
الْفُرُوعِ فَهِيَ طَرِيقٌ إلَيْهِ فِي هَذَا الزَّمَانِ،
وَلَمْ يَكُنْ الطَّرِيقُ فِي زَمَانِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ
اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ - ذَلِكَ وَيُمْكِنُ الْآنَ سُلُوكُ
طَرِيقِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُمْ -.
ثُمَّ هَذِهِ الشَّرَائِطُ إنَّمَا هِيَ فِي حَقِّ
الْمُجْتَهِدِ الْمُطْلَقِ الَّذِي يُفْتِي فِي جَمِيعِ
الْأَحْكَامِ، وَأَمَّا الْمُجْتَهِدُ فِي حُكْمٍ دُونَ حُكْمٍ
فَعَلَيْهِ مَعْرِفَةُ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ الْحُكْمِ
كَذَا ذَكَرَهُ الْإِمَامُ الْغَزَالِيُّ.
فَإِنْ قُلْت: لَا بُدَّ مِنْ مَعْرِفَةِ جَمِيعِ مَا
يَتَعَلَّقُ بِالْأَحْكَامِ لِئَلَّا يَقَعَ اجْتِهَادُهُ فِي
تِلْكَ الْمَسْأَلَةِ مُخَالِفًا لِنَصٍّ، أَوْ إجْمَاعٍ.
قُلْت: بَعْدَ مَعْرِفَةِ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ
الْحُكْمِ لَا يُتَصَوَّرُ الذُّهُولُ عَمَّا يَقْتَضِي
خِلَافَهُ؛ لِأَنَّهُ مِنْ جُمْلَةِ مَا يَتَعَلَّقُ بِذَلِكَ
الْحُكْمِ، وَلَا حَاجَةَ إلَى الْبَاقِي. مَثَلًا
الِاجْتِهَادُ فِي حُكْمٍ مُتَعَلِّقٍ بِالصَّلَاةِ لَا
يَتَوَقَّفُ عَلَى مَعْرِفَةِ جَمِيعِ مَا يَتَعَلَّقُ
بِأَحْكَامِ النِّكَاحِ.
(قَوْلُهُ: وَحُكْمُهُ) أَيْ الْأَثَرِ الثَّابِتِ
بِالِاجْتِهَادِ غَلَبَةُ الظَّنِّ بِالْحُكْمِ مَعَ
احْتِمَالِ الْخَطَأِ، فَلَا يَجْرِي الِاجْتِهَادُ فِي
الْقَطْعِيَّاتِ وَفِيمَا يَجِبُ فِيهِ الِاعْتِقَادُ
الْجَازِمُ مِنْ أُصُولِ الدِّينِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى
أَنَّ الْمُصِيبَ عِنْدَ اخْتِلَافِ الْمُجْتَهِدِينَ وَاحِدٌ،
وَقَدْ اخْتَلَفُوا فِي ذَلِكَ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ
فِي أَنَّ لِلَّهِ تَعَالَى فِي كُلِّ صُورَةٍ مِنْ
الْحَوَادِثِ حُكْمًا مُعَيَّنًا أَمْ الْحُكْمُ مَا أَدَّى
إلَيْهِ اجْتِهَادُ الْمُجْتَهِدِ فَعَلَى الْأَوَّلِ يَكُونُ
الْمُصِيبُ وَاحِدًا وَعَلَى الثَّانِي يَكُونُ كُلُّ
مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا.
وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ أَنَّ الْمَسْأَلَةَ
الِاجْتِهَادِيَّةَ إمَّا أَنْ يَكُونَ لِلَّهِ تَعَالَى
فِيهَا حُكْمٌ مُعَيَّنٌ قَبْلَ اجْتِهَادِ الْمُجْتَهِدِ،
أَوْ لَا يَكُونُ وَحِينَئِذٍ إمَّا أَنْ لَا يَدُلَّ عَلَيْهِ
دَلِيلٌ، أَوْ يَدُلَّ وَذَلِكَ الدَّلِيلُ إمَّا قَطْعِيٌّ،
أَوْ ظَنِّيٌّ فَذَهَبَ إلَى كُلِّ احْتِمَالٍ جَمَاعَةٌ
فَحَصَلَ أَرْبَعَةُ مَذَاهِبَ:
الْأَوَّلُ: أَنْ لَا حُكْمَ فِي الْمَسْأَلَةِ قَبْلَ
الِاجْتِهَادِ بَلْ الْحُكْمُ مَا أَدَّى إلَيْهِ رَأْيُ
الْمُجْتَهِدِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ عَامَّةُ الْمُعْتَزِلَةِ،
ثُمَّ اخْتَلَفُوا فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى اسْتِوَاءِ
الْحُكْمَيْنِ فِي الْحَقِّيَّةِ وَبَعْضُهُمْ إلَى كَوْنِ
أَحَدِهِمَا أَحَقَّ، وَقَدْ يُنْسَبُ ذَلِكَ إلَى
الْأَشْعَرِيِّ بِمَعْنَى أَنَّهُ لَمْ يَتَعَلَّقْ الْحُكْمُ
بِالْمَسْأَلَةِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ وَإِلَّا فَالْحُكْمُ
قَدِيمٌ عِنْدَهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الْحُكْمَ مُعَيَّنٌ، وَلَا دَلِيلَ عَلَيْهِ
بَلْ الْعُثُورُ عَلَيْهِ بِمَنْزِلَةِ الْعُثُورِ عَلَى
(2/236)
وَاحِدٍ مُجْتَهَدُهُ. لَهُمْ أَنَّ
الْمُجْتَهِدِينَ كُلِّفُوا بِإِصَابَةِ الْحَقِّ، وَلَوْلَا
تَعَدُّدُ الْحُقُوقِ يَلْزَمُ التَّكْلِيفُ بِمَا لَيْسَ فِي
وُسْعِهِمْ، وَهَذَا كَالِاجْتِهَادِ فِي الْقِبْلَةِ فَإِنَّ
الْقِبْلَةَ جِهَةُ التَّحَرِّي حَتَّى أَنَّ الْمُخْطِئَ
يَخْرُجُ عَنْ عُهْدَةِ الصَّلَاةِ. وَاخْتِلَافُ الْحُكْمِ
بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْمَيْنِ جَائِزٌ كَمَا كَانَ فِي
إرْسَالِ رَسُولَيْنِ عَلَى قَوْمَيْنِ ثُمَّ اخْتَلَفُوا
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِتَسَاوِي الْحُقُوقِ؛ لِأَنَّ دَلِيلَ
التَّعَدُّدِ لَا يُوجِبُ التَّفَاوُتَ، وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ
وَاحِدٌ مِنْهَا أَحَقُّ؛ لِأَنَّهَا لَوْ اسْتَوَتْ
لَأُصِيبَتْ بِمُجَرَّدِ الِاخْتِيَارِ وَلَسَقَطَ
الِاجْتِهَادُ وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ
لَا يُعْلَمُ أَنَّ جَمِيعَ الِاجْتِهَادَاتِ تَتَّفِقُ عَلَى
شَيْءٍ وَاحِدٍ فَيَكُونَ الْحَقُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
دَفِينٍ فَلِمَنْ أَصَابَ أَجْرَانِ وَلِمَنْ أَخْطَأَ أَجْرُ
الْكَدِّ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْفُقَهَاءِ
وَالْمُتَكَلِّمِينَ.
الثَّالِثُ: أَنَّ الْحُكْمَ مُعَيَّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ
قَطْعِيٌّ وَالْمُجْتَهِدُ مَأْمُورٌ بِطَلَبِهِ وَإِلَيْهِ
ذَهَبَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمُتَكَلِّمِينَ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا
فِي أَنَّ الْمُخْطِئَ هَلْ يَسْتَحِقُّ الْعِقَابَ أَمْ لَا؟
وَفِي أَنَّ حُكْمَ الْقَاضِي بِالْخَطَأِ هَلْ يُنْقَضُ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الْحُكْمَ مُعَيَّنٌ وَعَلَيْهِ دَلِيلٌ
ظَنِّيٌّ إنْ وَجَدَهُ أَصَابَ، وَإِنْ فَقَدَهُ أَخْطَأَ
وَالْمُجْتَهِدُ غَيْرُ مُكَلَّفٍ بِإِصَابَتِهَا لِغُمُوضِهَا
وَخَفَائِهَا فَلِذَا كَانَ الْمُخْطِئُ مَعْذُورًا بَلْ
مَأْجُورًا، ثُمَّ اخْتَلَفَ هَؤُلَاءِ فِي أَنَّ الْمُخْطِئَ
مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً مَعًا، أَوْ انْتِهَاءً
فَقَطْ، وَهَذَا هُوَ الْمُخْتَارُ عِنْدَ الْمُصَنِّفِ -
رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى -.
(قَوْلُهُ: لَهُمْ) احْتَجَّ الْقَائِلُونَ بِتَعَدُّدِ
الْحَقِّ فِي الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ وَإِصَابَةِ
كُلِّ مُجْتَهِدٍ بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَوْ يَتَعَدَّدُ الْحَقُّ لَزِمَ
تَكْلِيفُ مَا لَا يُطَاقُ، وَهُوَ بَاطِلٌ لِمَا مَرَّ
بَيَانُ الْمُلَازَمَةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ مُكَلَّفُونَ
بِنَيْلِ الْحَقِّ وَإِصَابَةِ الصَّوَابِ إذْ لَا فَائِدَةَ
لِلِاجْتِهَادِ سِوَى ذَلِكَ، فَلَوْ كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا
لَكَانَ الْمُجْتَهِدُ مَأْمُورًا بِإِصَابَتِهِ بِعَيْنِهِ،
وَظَاهِرٌ أَنَّ ذَلِكَ لَيْسَ فِي وُسْعِهِ لِغُمُوضِ
طَرِيقِهِ وَخَفَاءِ دَلِيلِهِ فَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْحَقُّ
بِالنِّسْبَةِ إلَى كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ
اجْتِهَادُهُ.
وَالثَّانِي: أَنَّ اجْتِهَادَ الْمُجْتَهِدِ فِي الْحُكْمِ
كَاجْتِهَادِ الْمُصَلِّي فِي أَمْرِ الْقِبْلَةِ وَالْحَقُّ
فِيهِ مُتَعَدِّدٌ اتِّفَاقًا فَكَذَا هَاهُنَا لِعَدَمِ
الْفَرْقِ. وَإِنَّمَا قُلْنَا: إنَّ الْحَقَّ فِيهِ
مُتَعَدِّدٌ اتِّفَاقًا؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّيَ مَأْمُورٌ
بِاسْتِقْبَالِ الْقِبْلَةِ، فَلَوْ لَمْ يَكُنْ جَمِيعُ
الْجِهَاتِ بِالنِّسْبَةِ إلَى الْمُصَلِّينَ إلَى جِهَاتٍ
مُخْتَلِفَةٍ قِبْلَةً لَمَا تَأَدَّى فَرْضُ مَنْ أَخْطَأَ
جِهَةَ الْقِبْلَةِ وَاللَّازِمُ بَاطِلٌ؛ لِأَنَّهُ لَا
يُؤْمَرُ بِإِعَادَةِ الصَّلَاةِ.
فَإِنْ قِيلَ: تَعَدُّدُ الْحَقِّ يَسْتَلْزِمُ اتِّصَافَ
فِعْلٍ وَاحِدٍ بِالْمُتَنَافِيَيْنِ كَالْوُجُوبِ وَعَدَمِهِ،
وَهُوَ مُحَالٌ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ إنْ أُرِيدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصٍ
وَاحِدٍ فِي زَمَانٍ وَاحِدٍ فَاللُّزُومُ مَمْنُوعٌ، وَإِنْ
أُرِيدَ بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصَيْنِ فَالِاسْتِحَالَةُ
مَمْنُوعَةٌ لِجَوَازِ أَنْ يَجِبَ شَيْءٌ عَلَى زَيْدٍ، وَلَا
يَجِبُ عَلَى عُمَرَ وَكَمَا عِنْدَ اخْتِلَافِ الرُّسُلِ
بِأَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ تَعَالَى رَسُولَيْنِ إلَى قَوْمَيْنِ
مَعَ اخْتِصَاصِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِأَحْكَامٍ فَيَجُوزُ أَنْ
يَكُونَ الشَّيْءُ وَاجِبًا عَلَى مُجْتَهِدٍ وَعَلَى مَنْ
الْتَزَمَ تَقْلِيدَهُ، غَيْرَ وَاجِبٍ عَلَى آخَرَ وَعَلَى
مُقَلِّدِيهِ، ثُمَّ اخْتَلَفَ الْقَائِلُونَ بِحَقِّيَّةِ
الْجَمِيعِ فَذَهَبَ بَعْضُهُمْ إلَى تَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي
الْحَقِّيَّةِ وَبَعْضُهُمْ إلَى كَوْنِ الْبَعْضِ
(2/237)
وَاحِدًا، أَوْ تَخْتَلِفُ فَيَكُونَ
حِينَئِذٍ مُتَعَدِّدًا. وَلَنَا قَوْله تَعَالَى:
{فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79] وَقَوْلُهُ: -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنْ أَصَبْتَ فَلَكَ
عَشْرُ حَسَنَاتٍ وَإِنْ أَخْطَأْتَ فَلَكَ حَسَنَةٌ» وَفِي
حَدِيثٍ آخَرَ «جَعَلَ اللَّهُ لِلْمُصِيبِ أَجْرَيْنِ
وَلِلْمُخْطِئِ وَاحِدًا» وَقَالَ ابْنُ مَسْعُودٍ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - إنْ أَصَبْت فَمِنْ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ
أَخْطَأْت فَمِنِّي وَمِنْ الشَّيْطَانِ وَلِأَنَّ الثَّابِتَ
بِالْقِيَاسِ ثَابِتٌ بِمَعْنَى النَّصِّ وَإِنْ وَرَدَ
نَصَّانِ صِيغَةً فِي حَادِثَةٍ لَا يَتَعَدَّدُ الْحَقُّ
اتِّفَاقًا فَكَيْفَ إذَا وَرَدَا مَعْنًى)
أَيْ كَيْفَ يَتَعَدَّدُ الْحَقُّ إذَا وَرَدَا مَعْنًى.
نَظِيرُهُ حُلِيُّ النِّسَاءِ فَإِنَّا نَقُولُ بِوُجُوبِ
الزَّكَاةِ فِيهَا قِيَاسًا عَلَى الْمَضْرُوبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
أَحَقَّ أَيْ أَكْثَرَ ثَوَابًا بِمَعْنَى أَنَّ مَنْ أَدَّى
اجْتِهَادُهُ إلَى وُجُوبِ الشَّيْءِ، فَهُوَ أَكْثَرُ
ثَوَابًا مِمَّنْ أَدَّى اجْتِهَادُهُ إلَى عَدَمِ وُجُوبِهِ
مَعَ حَقِّيَّةِ الْحُكْمَيْنِ اسْتَدَلَّ الْأَوَّلُونَ
بِأَنَّ الدَّلِيلَ الدَّالَّ عَلَى تَعَدُّدِ الْحَقِّ فِي
الْمَسَائِلِ الِاجْتِهَادِيَّةِ، وَهُوَ لُزُومُ تَكْلِيفِ
مَا لَا يُطَاقُ عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ التَّعَدُّدِ لَا
يُوجِبُ التَّفَاوُتَ بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ فِي
الْأَحَقِّيَّةِ. وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ لَا يُوجِبُ
التَّسَاوِيَ فَيَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ التَّفَاوُتُ بِنَاءً
عَلَى دَلِيلٍ آخَرَ. وَاسْتَدَلَّ الْآخَرُونَ بِأَنَّهُ لَوْ
تَسَاوَتْ الْأَحْكَامُ الِاجْتِهَادِيَّةُ فِي الْحَقِّيَّةِ
لَجَازَ لِلْمُجْتَهِدِ أَنْ يَخْتَارَ أَيَّهَا شَاءَ مِنْ
غَيْرِ تَعَبٍ فِي بَذْلِ الْمَجْهُودِ وَطَلَبٍ لِنَيْلِ
الْمَقْصُودِ، وَهَذَا مَعْنَى سُقُوطِ الِاجْتِهَادِ. وَفِيهِ
نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ التَّقْدِيرَ أَنْ لَا
حُكْمَ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ، وَإِنَّمَا يَحْدُثُ عَقِيبَهُ
فَلَا بُدَّ مِنْ الِاجْتِهَادِ لِيَتَحَقَّقَ الْحُكْمُ،
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهَا، وَإِنْ تَسَاوَتْ فِي
الْحَقِّيَّةِ إلَّا أَنَّ الْمُتَعَيَّنَ بِالنِّسْبَةِ إلَى
كُلِّ مُجْتَهِدٍ مَا أَدَّى إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ لَا غَيْرُ
حَتَّى لَا يَجُوزَ لَهُ أَنْ يَخْتَارَ غَيْرَهُ، وَلَا أَنْ
يَتْرُكَ الِاجْتِهَادَ وَيُقَلِّدَ مُجْتَهِدًا آخَرَ،
وَأَمَّا ثَالِثًا فَلِأَنَّهُ عَلَى تَقْدِيرِ تَحَقُّقِ
الْحُكْمِ قَبْلَ الِاجْتِهَادِ وَجَوَازِ اخْتِيَارِ
الْمُجْتَهِدِ أَيَّ حَقٍّ شَاءَ لَا بُدَّ مِنْ الِاجْتِهَادِ
لِيَعْلَمَ تَعَدُّدَ الْحَقِّ فَيَتَمَكَّنَ مِنْ اخْتِيَارِ
أَحَدِ الْحَقَّيْنِ إذْ لَيْسَ كُلُّ مَسْأَلَةٍ
اجْتِهَادِيَّةٍ مِمَّا يَتَعَدَّدُ فِيهِ الْحَقُّ بَلْ قَدْ
تَجْتَمِعُ الْآرَاءُ عَلَى حُكْمٍ وَاحِدٍ فَيَكُونُ الْحَقُّ
وَاحِدًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ التَّعَدُّدَ لَا يَكُونُ إلَّا عِنْدَ
اخْتِلَافِ آرَاءِ الْمُجْتَهِدِينَ، وَهُوَ بِدُونِ
الِاجْتِهَادِ لَا يُتَصَوَّرُ وَاعْلَمْ أَنَّ مُرَادَ
الْمُسْتَدِلِّ هُوَ أَنَّهُ لَوْ تَسَاوَتْ الْحُقُوقُ
لَثَبَتَ الْحَقُّ بِمُجَرَّدِ اخْتِيَارِ الْحُكْمِ بِأَدْنَى
دَلِيلٍ يُؤَدِّي إلَيْهِ مِنْ غَيْرِ مُبَالَغَةٍ فِي
الطَّلَبِ وَالِاجْتِهَادِ لِتَسَاوِي مَا يُنَالُ بِغَايَةِ
الطَّلَبِ وَمَا يُنَالُ بِأَدْنَى الطَّلَبِ، وَهَذَا مَعْنَى
سُقُوطِ الِاجْتِهَادِ يَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ مَا ذُكِرَ فِي
التَّقْوِيمِ أَنَّهُ لَوْ تَسَاوَتْ الْحُقُوقُ لَبَطَلَتْ
مَرَاتِبُ الْفُقَهَاءِ وَتَسَاوَى الْبَاذِلُ كُلَّ جَهْدِهِ
فِي الطَّلَبِ الْمُبْلَى عُذْرُهُ بِأَدْنَى طَلَبٍ وَعَلَى
هَذَا لَا يَرِدُ الِاعْتِرَاضُ.
(قَوْلُهُ: وَلَنَا) احْتَجَّ أَصْحَابُنَا عَلَى أَنَّ
الْحَقَّ وَاحِدٌ وَالْمُجْتَهِدُ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ
بِالْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ وَالْأَثَرِ وَدَلَالَةِ
الْإِجْمَاعِ وَالْمَعْقُولِ أَمَّا الْكِتَابُ فَقَوْلُهُ
تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ} [الأنبياء: 79]
وَالضَّمِيرُ لِلْحُكُومَةِ أَوْ الْفَتْوَى وَوَجْهُ
الِاسْتِدْلَالِ أَنَّ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - حَكَمَ بِالْغَنَمِ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ
وَبِالْحَرْثِ
(2/238)
وَالشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - بِعَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ قِيَاسًا عَلَى
الثِّيَابِ فَإِنَّ كُلًّا مِنْهُمَا مَصْرُوفٌ لِحَاجَتِهِ
فَمَعْنَى الْقِيَاسِ أَنَّ النَّصَّ الْوَارِدَ فِي
الْمَقِيسِ عَلَيْهِ وَارِدٌ فِي الْمَقِيسِ مَعْنًى وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ وَارِدًا صَرِيحًا، فَلَوْ كَانَ النَّصَّانِ
وَارِدَيْنِ فِيهِ صَرِيحًا كَانَ الْحَقُّ وَاحِدًا؛
لِأَنَّهُ لَا تَعَارُضَ فِي أَدِلَّةِ الشَّرْعِ فَيَكُونُ
أَحَدُهُمَا مَنْسُوخًا وَالْآخَرُ نَاسِخًا، فَإِذَا كَانَ
النَّصَّانِ وَهُمَا النَّصُّ الْوَارِدُ فِي الْمَضْرُوبِ
وَالنَّصُّ الْوَارِدُ فِي الثِّيَابِ وَارِدَيْنِ فِي
الْحُلِيِّ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى لَا يَدُلَّانِ عَلَى
حَقِيقَةِ مَدْلُولَيْ كُلٍّ مِنْهُمَا إذْ دَلَالَتُهُمَا
مَعْنًى لَا تَزِيدُ عَلَى دَلَالَتِهِمَا صَرِيحًا، وَلَوْ
وُجِدَتْ دَلَالَتُهُمَا صَرِيحًا لَا يَكُونُ مَدْلُولُ كُلٍّ
مِنْهُمَا حَقًّا فَكَذَا إذَا وُجِدَتْ دَلَالَتُهُمَا
مَعْنًى بِالطَّرِيقِ الْأَوْلَى، (وَلِأَنَّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
لِصَاحِبِ الْغَنَمِ وَسُلَيْمَانَ حَكَمَ بِأَنْ تَكُونَ
الْغَنَمُ لِصَاحِبِ الْحَرْثِ يَنْتَفِعُ بِهَا وَيَقُومُ
أَصْحَابُ الْغَنَمِ عَلَى الْحَرْثِ حَتَّى يَرْجِعَ كَمَا
كَانَ فَيَرُدُّ كُلٌّ إلَى صَاحِبِهِ مِلْكَهُ وَكَانَ حُكْمُ
دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالِاجْتِهَادِ
دُونَ الْوَحْيِ وَإِلَّا لَمَا جَازَ لِسُلَيْمَانَ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - خِلَافُهُ، وَلَا
لِدَاوُدَ الرُّجُوعُ عَنْهُ، وَلَوْ كَانَ كُلٌّ مِنْ
الِاجْتِهَادَيْنِ حَقًّا لَكَانَ كُلٌّ مِنْهُمَا قَدْ
أَصَابَ الْحُكْمَ وَفَهِمَهُ، وَلَمْ يَكُنْ لِتَخْصِيصِ
سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِالذِّكْرِ
جِهَةٌ، فَإِنَّهُ وَإِنْ لَمْ يَدُلَّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ
عَمَّا عَدَاهُ لَكِنَّهُ فِي هَذَا الْمَقَامِ يَدُلُّ
عَلَيْهِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى مَنْ لَهُ مَعْرِفَةٌ
بِخَوَاصِّ التَّرَاكِيبِ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى جَوَازِ
اجْتِهَادِ الْأَنْبِيَاءِ وَجَوَازِ خَطَئِهِمْ فِيهِ عَلَى
مَا ثَبَتَ ذَلِكَ فِي مَوْضِعِهِ، وَقَدْ يُجَابُ بِأَنَّ
الْمَعْنَى فَفَهَّمْنَا سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - الْفَتْوَى، أَوْ الْحُكُومَةَ الَّتِي هِيَ
أَحَقُّ وَأَفْضَلُ وَيَكُونُ اعْتِرَاضُ سُلَيْمَانَ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - مَبْنِيًّا عَلَى أَنَّ
تَرْكَ الْأَوْلَى مِنْ الْأَنْبِيَاءِ - عَلَيْهِمْ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِمَنْزِلَةِ الْخَطَأِ مِنْ
غَيْرِهِمْ يُشْعِرُ بِذَلِكَ قَوْله تَعَالَى: {وَكُلا
آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا} [الأنبياء: 79] ، فَإِنَّهُ
يُفْهَمُ مِنْهُ إصَابَتُهُمْ فِي فَصْلِ الْخُصُومَاتِ
وَالْعِلْمُ بِأُمُورِ الدِّينِ وَيُؤَيِّدُهُ مَا نُقِلَ
أَنَّهُ قَالَ سُلَيْمَانُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
- غَيْرُ هَذَا أَوْفَقُ الْفَرِيقَيْنِ كَأَنَّهُ قَالَ هَذَا
حَقٌّ لَكِنَّ غَيْرَهُ أَحَقُّ.
وَأَمَّا السُّنَّةُ وَالْأَثَرُ فَالْأَحَادِيثُ وَالْآثَارُ
الدَّالَّةُ عَلَى تَرْدِيدِ الِاجْتِهَادِ بَيْنَ الصَّوَابِ
وَالْخَطَأِ وَهِيَ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ قَبِيلِ الْآحَادِ
إلَّا أَنَّهَا مُتَوَاتِرَةٌ مِنْ جِهَةَ الْمَعْنَى وَإِلَّا
لَمْ تَصْلُحْ لِلِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْأُصُولِ.
وَأَمَّا دَلَالَةُ الْإِجْمَاعِ، فَهُوَ أَنَّ الْقِيَاسَ
مُظْهِرٌ لَا مُثْبِتٌ فَالثَّابِتُ بِالْقِيَاسِ ثَابِتٌ
بِالنَّصِّ مَعْنًى، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا بِهِ
صَرِيحًا، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى أَنَّ الْحَقَّ فِيمَا
ثَبَتَ بِالنَّصِّ وَاحِدٌ لَا غَيْرُ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْقِيَاسَ عِنْدَ الْخَصْمِ مُثْبِتٌ
لَا مُظْهِرٌ وَلِأَنَّ الْحُكْمَ الِاجْتِهَادِيَّ أَعَمُّ
مِنْ أَنْ يَكُونَ ثَابِتًا بِالْقِيَاسِ، أَوْ بِغَيْرِهِ
مِنْ الْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ كَمَفْهُومِ الشَّرْطِ
وَالصِّفَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ وَالْخِلَافُ فِي اتِّحَادِ
الْحَقِّ، أَوْ تَعَدُّدِهِ جَارٍ فِي الْجَمِيعِ، فَلَا
إجْمَاعَ عَلَى اتِّحَادِ الْحَقِّ إلَّا فِيمَا لَمْ يَقَعْ
فِيهِ خِلَافٌ.
وَأَمَّا الْمَعْقُولُ فَلِأَنَّ كَوْنَ الْفِعْلِ مَحْظُورًا
وَمُبَاحًا، أَوْ صَحِيحًا وَفَاسِدًا، أَوْ وَاجِبًا وَغَيْرَ
وَاجِبٍ
(2/239)
الْجَمْعَ بَيْنَ الْحَظْرِ وَالْإِبَاحَةِ
مُمْتَنِعٌ، وَكَذَا بِالنِّسْبَةِ إلَى قَوْمَيْنِ فِي
شَرِيعَتِنَا وَالتَّكْلِيفُ بِالِاجْتِهَادِ يُفِيدُ) جَوَابٌ
عَنْ قَوْلِ الْمُعْتَزِلَةِ أَنَّ الْمُجْتَهِدِينَ كُلِّفُوا
(لِأَنَّهُ إنْ أَخْطَأَ، فَهُوَ مُصِيبٌ نَظَرًا إلَى
الدَّلِيلِ وَلَهُ الْأَجْرُ، وَأَمَّا مَسْأَلَةُ الْقِبْلَةِ
فَإِنَّ فَسَادَ صَلَاةِ مَنْ خَالَفَ الْإِمَامَ عَالِمًا
يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا، فَأَمَّا عَدَمُ إعَادَةِ
الْمُخْطِئِ لِلْكَعْبَةِ فَلِأَنَّهَا غَيْرُ مَقْصُودَةٍ
لَكِنَّ الشَّرْعَ جَعَلَهَا وَسِيلَةً إلَى الْمَقْصُودِ،
وَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى فَأُقِيمَ غَلَبَةُ ظَنِّ
إصَابَتِهَا مَقَامَ إصَابَتِهَا، ثُمَّ اخْتَلَفَ
عُلَمَاؤُنَا فِي الْمُخْطِئِ فَعِنْدَ الْبَعْضِ مُخْطِئٌ
ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً أَيْ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ
وَبِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ لِمَا رَوَيْنَا مِنْ إطْلَاقِ
الْخَطَأِ فِي الْحَدِيثِ «وَلِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي أُسَارَى بَدْرٍ حِينَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
مُمْتَنِعٌ لِاسْتِلْزَامِهِ اتِّصَافَ الشَّيْءِ
بِالنَّقِيضَيْنِ وَالْمُمْتَنِعُ لَا يَكُونُ حُكْمًا
شَرْعِيًّا.
فَإِنْ قِيلَ: لَا نُسَلِّمُ امْتِنَاعَ ذَلِكَ بِالنِّسْبَةِ
إلَى شَخْصَيْنِ، فَإِنَّ التَّنَاقُضَ لَا يَكُونُ إلَّا
عِنْدَ اتِّحَادِ الْمَحَلِّ.
أُجِيبَ بِأَنَّ الْجَمْعَ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ
بِالنِّسْبَةِ إلَى شَخْصَيْنِ أَيْضًا مُمْتَنِعٌ فِي
شَرِيعَةِ نَبِيِّنَا - عَلَيْهِ السَّلَامُ -؛ لِأَنَّهُ
مَبْعُوثٌ إلَى النَّاسِ كَافَّةً دَاعٍ لَهُمْ إلَى الْحَقِّ
بِصَرِيحِ النُّصُوصِ، أَوْ مَعْنَاهَا مِنْ غَيْرِ تَفْرِقَةٍ
بَيْنَ الْأَشْخَاصِ لِدُخُولِهِمْ فِي الْعُمُومَاتِ عَلَى
السَّوَاءِ، وَلَا يَخْفَى ابْتِنَاءُ هَذَا الْجَوَابِ عَلَى
أَنَّ الثَّابِتَ بِالْقِيَاسِ ثَابِتٌ بِالنَّصِّ، وَأَنَّ
الْحَقَّ فِي الِاجْتِهَادِيَّات الثَّابِتَةِ بِالنُّصُوصِ
وَاحِدٌ إجْمَاعًا وَالْأَصْوَبُ أَنْ يُقَالَ: يَلْزَمُ
الْجَمْعُ بَيْنَ الْمُتَنَافِيَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى
شَخْصٍ وَاحِدٍ فِيمَا إذَا اسْتَفْتَى عَامِّيٌّ لَمْ
يَلْتَزِمْ تَقْلِيدَ مَذْهَبٍ مُعَيَّنٍ مُجْتَهِدَيْنِ
حَنَفِيًّا وَشَافِعِيًّا فَأَفْتَاهُ أَحَدُهُمَا بِإِبَاحَةِ
النَّبِيذِ وَالْآخَرُ بِحُرْمَتِهِ، وَلَمْ يَتَرَجَّحْ
أَحَدُهُمَا عِنْدَهُ، وَلَمْ يَسْتَقِرَّ عِلْمُهُ عَلَى
شَيْءٍ مِنْهُمَا وَأَيْضًا إذَا تَغَيَّرَ اجْتِهَادُ
الْمُجْتَهِدِ، فَإِنَّ فِي الْأَوَّلِ حَقًّا لَزِمَ
اجْتِمَاعُ الْمُتَنَافِيَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَيْهِ وَإِلَّا
لَزِمَ النَّسْخُ بِالِاجْتِهَادِ، وَكَذَا الْمُقَلِّدُ إذَا
صَارَ مُجْتَهِدًا.
(قَوْلُهُ: وَالتَّكْلِيفُ) جَوَابٌ عَنْ تَمَسُّكِهِمْ
بِأَنَّهُ لَوْ اتَّحَدَ الْحَقُّ لَزِمَ التَّكْلِيفُ بِمَا
لَيْسَ فِي الْوُسْعِ وَتَقْرِيرُهُ أَنَّا لَا نُسَلِّمُ
أَنَّ الْمُجْتَهِدَ مُكَلَّفٌ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ بَلْ هُوَ
مُكَلَّفٌ بِالِاجْتِهَادِ ضَرُورَةَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لَهُ
التَّقْلِيدُ، وَالِاجْتِهَادُ حَقٌّ نَظَرًا إلَى رِعَايَةِ
شَرَائِطِهِ بِقَدْرِ الْوُسْعِ سَوَاءٌ أَدَّى إلَى مَا هُوَ
حَقٌّ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، أَوْ خَطَأٌ وَالتَّكْلِيفُ
بِهِ يُفِيدُ الْأَجْرَ وَوُجُوبَ الْعَمَلِ بِمُوجَبِهِ،
فَلَا يَلْزَمُ الْعَبَثُ.
فَإِنْ قِيلَ: الْمُجْتَهِدُ مَأْمُورٌ بِمَا أَدَّى إلَيْهِ
اجْتِهَادُهُ وَكُلُّ مَا أَمَرَ بِهِ، فَهُوَ حَقٌّ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ يَكْفِي فِي الْمَأْمُورِ بِهِ أَنْ يَكُونَ
حَقًّا بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ وَبِحَسَبِ ظَنِّ
الْمُجْتَهِدِ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى
كَمَا إذَا قَامَ نَصٌّ عَلَى خِلَافِ رَأْيِ الْمُجْتَهِدِ
لَكِنَّهُ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ بَعْدَ اسْتِفْرَاغِ
الْجَهْدِ فِي الطَّلَبِ، فَإِنَّهُ مَأْمُورٌ
(2/240)
نَزَلَ: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ لَوْ نَزَلَ بِنَا عَذَابٌ مَا
نَجَا مِنْهُ إلَّا عُمَرُ - رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَى عَنْهُ
-» ) هَذَا هُوَ الْمَقُولُ لِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - فَدَلَّ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى أَنَّ
الْمُجْتَهِدَ الْمُخْطِئَ مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً؛
لِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ لَوْ كَانَ مُصِيبًا مِنْ وَجْهٍ لَمَا
كَانُوا مُسْتَحِقِّينَ لِنُزُولِ الْعَذَابِ وَقَدْ مَرَّ
هَذَا الْحَدِيثُ وَقِصَّتُهُ فِي الرُّكْنِ الثَّانِي فِي
السُّنَّةِ.
(وَعِنْدَ الْبَعْضِ مُصِيبٌ ابْتِدَاءً مُخْطِئٌ انْتِهَاءً
وَهَذَا مَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ
تَعَالَى - كُلُّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ وَالْحَقُّ عِنْدَ
اللَّهِ وَاحِدٌ) فَإِنْ كَانَ الْحَقُّ عِنْدَ اللَّهِ
وَاحِدًا لَا يُرَادُ أَنَّ كُلَّ مُجْتَهِدٍ مُصِيبٌ
بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ بَلْ بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ
بِمَعْنَى أَنَّهُ قَدْ أَقَامَ الدَّلِيلَ كَمَا هُوَ حَقُّهُ
مُسْتَجْمِعًا لِشَرَائِطِهِ وَأَرْكَانِهِ فَيَكُونُ آتِيًا
بِمَا كُلِّفَ بِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
بِمَا أَدَّى إلَيْهِ ظَنُّهُ، وَإِنْ كَانَ خَطَأً لِقِيَامِ
النَّصِّ عَلَى خِلَافِهِ وَبِهَذَا يَنْدَفِعُ مَا يُقَالُ:
إنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْمُجْتَهِدِ الْعَمَلُ بِاجْتِهَادِهِ
وَيَحْرُمُ تَقْلِيدُ غَيْرِهِ، فَلَوْ كَانَ اجْتِهَادُهُ
خَطَأً وَاجْتِهَادُ الْغَيْرِ حَقًّا لَزِمَ أَنْ يَكُونَ
الْعَمَلُ بِالْخَطَأِ وَاجِبًا وَبِالصَّوَابِ حَرَامًا،
وَهُوَ مُمْتَنِعٌ.
(قَوْلُهُ: يَدُلُّ عَلَى مَذْهَبِنَا) ، وَهُوَ أَنَّ
الْمُجْتَهِدَ يُخْطِئُ وَيُصِيبُ إذْ لَوْ كَانَ كُلُّ
مُجْتَهِدٍ مُصِيبًا لَصَحَّ صَلَاةُ مَنْ خَالَفَ الْإِمَامَ
عَالِمًا بِحَالِهِ لِإِصَابَتِهِمَا جَمِيعًا فِي جِهَةِ
الْقِبْلَةِ.
(قَوْلُهُ: وَهُوَ وَجْهُ اللَّهِ تَعَالَى) أَيْ الْمَقْصُودُ
هِيَ الْجِهَةُ الَّتِي رَضِيَهَا اللَّهُ تَعَالَى وَأَمَرَ
بِهَا، وَعِنْدَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ لَا بَأْسَ بِفَوَاتِ
الْوَسِيلَةِ.
(قَوْلُهُ: وَعِنْدَ الْبَعْضِ مُصِيبٌ ابْتِدَاءً) أَيْ
بِالنَّظَرِ إلَى الدَّلِيلِ مُخْطِئٌ انْتِهَاءً أَيْ
بِالنَّظَرِ إلَى الْحُكْمِ، فَإِنَّهُ لَا يَمْتَنِعُ فِي
الْأَقْيِسَةِ الشَّرْعِيَّةِ وَالْأَدِلَّةِ الظَّنِّيَّةِ
أَنْ يَتَنَاقَضَ الْمَطَالِبُ وَالْأَحْكَامُ مَعَ رِعَايَةِ
الشَّرَائِطِ قَدْرَ الْوُسْعِ وَالطَّاقَةِ وَلِذَلِكَ وَصَفَ
اللَّهُ تَعَالَى اجْتِهَادَ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - بِالْحُكْمِ وَالْعِلْمِ فِي مَقَامِ
الثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالِامْتِنَانِ مَعَ كَوْنِهِ خَطَأً
بِدَلَالَةِ سَوْقِ الْكَلَامِ، وَفِي تَخْصِيصِ سُلَيْمَانَ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - بِإِصَابَةِ الْحَقِّ،
فَلَوْ كَانَ خَطَأً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لَمَا كَانَ حُكْمًا
وَعِلْمًا بَلْ جَهْلًا وَخَطَأً. وَقَدْ يُقَالُ: إنَّهُ لَا
دَلَالَةَ فِي إيتَاءِ الْحُكْمِ وَالْعِلْمِ عَلَى أَنَّ
اجْتِهَادَهُ فِي تِلْكَ الْحَادِثَةِ حُكْمٌ وَعِلْمٌ
فَيُجَابُ بِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ اجْتِهَادُهُ فِيهَا
حُكْمًا وَعِلْمًا لَمَا كَانَ لِذِكْرِهِمَا فِي هَذَا
الْمَقَامِ فَائِدَةٌ إذْ لَا يُشْتَبَهُ عَلَى أَحَدٍ أَنَّ
النَّبِيَّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدْ أُوتِيَ
عِلْمًا وَحُكْمًا فِي الْجُمْلَةِ.
(قَوْلُهُ: وَتَنْصِيفُ الْأَجْرِ) أَيْ تَنْصِيفُ أَجْرِ
الْمُخْطِئِ فِي الِاجْتِهَادِ بِقَوْلِهِ: - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنْ أَصَابَ فَلَهُ أَجْرَانِ،
وَإِنْ أَخْطَأَ فَلَهُ أَجْرٌ وَاحِدٌ» يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ
مُخْطِئٌ انْتِهَاءً لَا ابْتِدَاءً، فَإِنَّ الْأَجْرَ
إنَّمَا يَكُونُ عَلَى الصَّوَابِ، فَلَمَّا كَانَ ثَوَابُهُ
نِصْفَ ثَوَابِ الْمُصِيبِ كَانَ صَوَابُهُ أَيْضًا كَذَلِكَ
تَوْزِيعًا لِلْأَجْرِ عَلَى الِاسْتِحْقَاقِ، وَهَذَا
ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّ أَجْرَ الْمُخْطِئِ، إنَّمَا هُوَ عَلَى
كَدِّهِ فِي الِاجْتِهَادِ وَامْتِثَالِ الْأَمْرِ.
(قَوْلُهُ: وَأَمَّا قَوْلُهُ: - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ -) الْقَائِلُونَ بِأَنَّ الْمُجْتَهِدَ
الْمُخْطِئَ مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً وَانْتِهَاءً تَمَسَّكُوا
بِوَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: إطْلَاقُ الْخَطَأِ فِي قَوْلِهِ: - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
(2/241)
مِنْ الِاعْتِبَارِ وَلَيْسَ فِي وُسْعِهِ
إقَامَةُ الْبُرْهَانِ الْقَطْعِيِّ فِي الشَّرْعِيَّاتِ
حَتَّى يَكُونَ مَدْلُولُهُ قَطْعِيًّا أَلْبَتَّةَ
(لِقَوْلِهِ تَعَالَى: {فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ}
[الأنبياء: 79] الْآيَةَ فَسَمَّى عَمَلَ كِلَيْهِمَا حُكْمًا
وَعِلْمًا لَكِنَّ سُلَيْمَانَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ
وَالسَّلَامُ - خُصَّ بِإِصَابَةِ الْحَقِّ الْمَطْلُوبِ
وَتَنْصِيفُ الْأَجْرِ يَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا) أَيْ
عَلَى أَنَّهُ مُصِيبٌ مِنْ وَجْهٍ دُونَ وَجْهٍ آخَرَ.
(وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ لَمَسَّكُمْ} [الأنفال: 68] فَإِنَّ الْحُكْمَ فِي
الْأُسَارَى مِنْ قَبْلُ كَانَ إمَّا الْقَتْلُ، أَوْ الْمَنُّ
وَرَخَّصَ النَّبِيُّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
بِالْفِدَاءِ أَيْضًا، فَلَوْلَا الْكِتَابُ السَّابِقُ
بِإِبَاحَةِ الْفِدَاءِ، وَهُوَ الرُّخْصَةُ لَمَسَّكُمْ
الْعَذَابُ عَلَى تَرْكِ الْعَزِيمَةِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
وَإِنْ أَخْطَأْت فَلَكَ حَسَنَةٌ، وَمِنْ حُكْمِ الْمُطْلَقِ
أَنْ يَنْصَرِفَ إلَى الْكَامِلِ، وَهُوَ الْخَطَأُ ابْتِدَاءً
وَانْتِهَاءً.
وَثَانِيهِمَا: قَوْله تَعَالَى: {لَوْلا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ
سَبَقَ} [الأنفال: 68] الْآيَةَ أَيْ لَوْلَا مَا كُتِبَ فِي
اللَّوْحِ أَنْ لَا يُعَذِّبَ أَهْلَ بَدْرٍ، أَوْ أَنْ
يُحِلَّ لَهُمْ الْغَنَائِمَ، أَوْ أَنْ لَا يُعَذِّبَ قَوْمًا
إلَّا بَعْدَ تَأْكِيدِ الْحُجَّةِ وَتَقْدِيمِ النَّهْيِ
لَمَسَّكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ فِي اتِّبَاعِ الِاجْتِهَادِ
الْخَطَأِ الَّذِي هُوَ أَخْذُ الْفِدْيَةِ، فَلَوْ كَانَ
صَوَابًا مِنْ وَجْهٍ لَمَا اسْتَحَقُّوا بِاتِّبَاعِهِ
الْعَذَابَ الْعَظِيمَ لِوُجُودِ امْتِثَالِ الْأَمْرِ فِي
الْجُمْلَةِ وَلَمَا كَانَ ضَعْفُ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ
بَيِّنًا إذْ الِاسْتِدْلَال بِالْإِطْلَاقِ عَلَى الْكَمَالِ
مِمَّا لَا يُعْتَدُّ بِهِ فِي مَسَائِلِ الْأُصُولِ لَمْ
يَتَعَرَّضْ لِجَوَابِهِ وَأَجَابَ عَنْ الثَّانِي بِأَنَّ
الْعَزِيمَةَ فِي حُكْمِ الْأُسَارَى كَانَ هُوَ الْمَنَّ،
أَوْ الْقَتْلَ، وَقَدْ رُخِّصَ لِلنَّبِيِّ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي الْفِدَاءِ أَيْضًا
فَالْمَعْنَى لَوْلَا سَبْقُ الْحُكْمِ بِإِبَاحَةِ الْفِدَاءِ
وَالرُّخْصَةِ فِيهِ لَمَسَّكُمْ الْعَذَابُ فِي تَرْكِ
الْعَزِيمَةِ فَوُجُوبُ الْعَذَابِ مُعَلَّقٌ بِعَدَمِ سَبْقِ
الْكِتَابِ لَكِنَّ الْمُعَلَّقَ عَلَيْهِ غَيْرُ وَاقِعٍ
لِتَحَقُّقِ سَبْقِ الْكِتَابِ، فَلَا يَتَحَقَّقُ وُجُوبُ
الْعَذَابِ بِسَبَبِ الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ هَذَا
تَقْرِيرُ كَلَامِهِ.
وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ لَوْلَا لِانْتِفَاءِ الشَّيْءِ
لِوُجُودِ غَيْرِهِ فَيَدْخُلُ عَلَى أَنَّ انْتِفَاءَ
الْعَذَابِ عَلَى الْخَطَأِ فِي الِاجْتِهَادِ إنَّمَا كَانَ
لِوُجُودِ سَبْقِ الْكِتَابِ بِإِبَاحَةِ الْفِدَاءِ حَتَّى
لَوْ لَمْ يَتَحَقَّقْ ذَلِكَ لَكَانَ الْخَطَأُ مُوجِبًا
لِاسْتِحْقَاقِ الْعَذَابِ، وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى كَوْنِهِ
خَطَأً مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَعَدَمُ وُقُوعِ الْعَذَابِ لَا
يُنَافِي؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى وُجُودِ الْمَانِعِ،
وَهُوَ سَبْقُ الْكِتَابِ.
(قَوْلُهُ: وَالْمُخْطِئُ فِي الِاجْتِهَادِ لَا يُعَاقَبُ) ،
وَلَا يُنْسَبُ إلَى الضَّلَالِ بَلْ يَكُونُ مَعْذُورًا
وَمَأْجُورًا إذْ لَيْسَ عَلَيْهِ إلَّا بَذْلُ الْوُسْعِ،
وَقَدْ فَعَلَ، فَلَمْ يَنَلْ الْحَقَّ لِخَفَاءِ دَلِيلِهِ
إلَّا أَنْ يَكُونَ الدَّلِيلُ الْمُوَصِّلُ إلَى الصَّوَابِ
بَيِّنًا فَأَخْطَأَ الْمُجْتَهِدُ لِتَقْصِيرٍ مِنْهُ
وَتَرْكِ مُبَالَغَةٍ فِي الِاجْتِهَادِ، فَإِنَّهُ يُعَاقَبُ
وَمَا نُقِلَ مِنْ طَعْنِ السَّلَفِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ
فِي مَسَائِلِهِمْ الِاجْتِهَادِيَّةِ كَانَ مَبْنِيًّا عَلَى
أَنَّ طَرِيقَ الصَّوَابِ بَيِّنٌ فِي زَعْمِ الطَّاعِنِ،
وَإِنَّمَا قَالَ الْمُخْطِئُ فِي الِاجْتِهَادِ؛ لِأَنَّ
الْمُخْطِئَ فِي الْأُصُولِ وَالْعَقَائِدِ يُعَاقَبُ بَلْ
يُضَلَّلُ أَوْ يُكَفَّرُ؛ لِأَنَّ الْحَقَّ فِيهَا وَاحِدٌ
إجْمَاعًا وَالْمَطْلُوبُ هُوَ الْيَقِينُ الْحَاصِلُ
بِالْأَدِلَّةِ الْقَطْعِيَّةِ إذْ لَا يُعْقَلُ حُدُوثُ
الْعَالَمِ وَقِدَمُهُ وَجَوَازُ رُؤْيَةِ الصَّانِعِ
وَعَدَمُهُ فَالْمُخْطِئُ فِيهَا مُخْطِئٌ ابْتِدَاءً
وَانْتِهَاءً وَمَا نُقِلَ
(2/242)
فَنُزُولُ الْعَذَابِ كَانَ وَاجِبًا عَلَى تَقْدِيرِ عَدَمِ
سَبْقِ الْكِتَابِ لَكِنْ سَبْقُ الْكِتَابِ كَانَ وَاقِعًا،
فَلَا يَسْتَحِقُّونَ الْعَذَابَ وَاقِعًا بِسَبَبِ الْخَطَأِ
فِي الِاجْتِهَادِ بَعْدَ سَبْقِ الْكِتَابِ. (وَالْمُخْطِئُ
فِي الِاجْتِهَادِ لَا يُعَاقَبُ إلَّا أَنْ يَكُونَ طَرِيقُ
الصَّوَابِ بَيِّنًا وَاَللَّهُ أَعْلَمُ) .
الْقِسْمُ الثَّانِي مِنْ الْكِتَابِ فِي الْحُكْمِ
وَيَفْتَقِرُ إلَى الْحَاكِمِ، وَهُوَ اللَّهُ تَعَالَى لَا
الْعَقْلُ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ الْأَمْرِ.
وَالْمَحْكُومُ بِهِ، وَهُوَ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ
وَالْمَحْكُومُ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْمُكَلَّفُ وَنُورِدُ
الْأَبْحَاثَ فِي ثَلَاثَةِ أَبْوَابٍ:
(بَابٌ فِي الْحُكْمِ) اعْلَمْ أَنِّي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[التلويح]
عَنْ بَعْضِهِمْ مِنْ تَصْوِيبِ كُلِّ مُجْتَهِدٍ فِي
الْمَسَائِلِ الْكَلَامِيَّةِ إذْ لَمْ يُوجِبْ تَكْفِيرَ
الْمُخَالِفِ كَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْقُرْآنِ وَمَسْأَلَةِ
الرُّؤْيَةِ وَمَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ فَمَعْنَاهُ
نَفْيُ الْإِثْمِ وَتَحَقُّقُ الْخُرُوجِ عَنْ عُهْدَةِ
التَّكْلِيفِ لَا حَقِيقَةُ كُلٍّ مِنْ الْقَوْلَيْنِ |