فتح القدير للكمال ابن الهمام

بَابُ الشَّهِيدِ (الشَّهِيدُ مَنْ قَتَلَهُ الْمُشْرِكُونَ، أَوْ وُجِدَ فِي الْمَعْرَكَةِ وَبِهِ أَثَرٌ، أَوْ قَتَلَهُ الْمُسْلِمُونَ ظُلْمًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَقَارِبُهُ ثُمَّ دُفِنَ حَوَالَيْهِمْ خَلْقٌ مِنْ وَطْءِ تِلْكَ الْقُبُورِ إلَى أَنْ يَصِلَ إلَى قَبْرِ قَرِيبِهِ مَكْرُوهٌ. وَيُكْرَهُ النَّوْمُ عِنْدَ الْقَبْرِ وَقَضَاءُ الْحَاجَةِ، بَلْ أَوْلَى وَكُلُّ مَا لَمْ يُعْهَدْ فِي السُّنَّةِ، وَالْمَعْهُودُ مِنْهَا لَيْسَ إلَّا زِيَارَتَهَا وَالدُّعَاءَ عِنْدَهَا قَائِمًا كَمَا كَانَ يَفْعَلُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي الْخُرُوجِ إلَى الْبَقِيعِ وَيَقُولُ: «السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ، وَإِنَّا إنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ، أَسْأَلُ اللَّهَ لِي وَلَكُمْ الْعَافِيَةَ» .
وَاخْتُلِفَ فِي إجْلَاسِ الْقَارِئِينَ لِيَقْرَءُوا عِنْدَ الْقَبْرِ وَالْمُخْتَارُ عَدَمُ الْكَرَاهَةِ. وَفِي التَّجْنِيسِ مِنْ عَلَامَةِ النَّوَازِلِ امْرَأَةٌ حَامِلٌ مَاتَتْ وَاضْطَرَبَ فِي بَطْنِهَا شَيْءٌ وَكَانَ رَأْيُهُمْ أَنَّهُ وَلَدٌ حَيٌّ شُقَّ بَطْنُهَا، فَرْقٌ بَيْنَ هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا ابْتَلَعَ الرَّجُلُ دُرَّةً فَمَاتَ وَلَمْ يَدَعْ مَالًا عَلَيْهِ الْقِيمَةُ وَلَا يُشَقُّ بَطْنُهُ لِأَنَّ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى إبْطَالَ حُرْمَةِ الْمَيِّتِ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الْحَيِّ فَيَجُوزُ.
أَمَّا فِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ إبْطَالُ حُرْمَةِ الْأَعْلَى وَهُوَ الْآدَمِيُّ لِصِيَانَةِ حُرْمَةِ الْأَدْنَى وَهُوَ الْمَالُ، وَلَا كَذَلِكَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى انْتَهَى. وَتَوْضِيحُهُ الِاتِّفَاقُ عَلَى أَنَّ حُرْمَةَ الْمُسْلِمِ مَيِّتًا كَحُرْمَتِهِ حَيًّا، وَلَا يُشَقُّ بَطْنُهُ حَيًّا لَوْ ابْتَلَعَهَا إذَا لَمْ يَخْرُجْ مَعَ الْفَضَلَاتِ فَكَذَا مَيِّتًا، بِخِلَافِ شَقِّ بَطْنِهَا لِإِخْرَاجِ الْوَلَدِ إذَا عُلِمَتْ حَيَاتُهُ. وَفِي الِاخْتِيَارِ جُعِلَ عَدَمُ شِقِّ بَطْنِهِ عَنْ مُحَمَّدٍ. ثُمَّ قَالَ: وَرَوَى الْجُرْجَانِيُّ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّهُ لَا يُشَقُّ لِأَنَّ حَقَّ الْآدَمِيّ مُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَمُقَدَّمٌ عَلَى حَقِّ الظَّالِمِ الْمُتَعَدِّي انْتَهَى. وَهَذَا أَوْلَى. وَالْجَوَابُ مَا قَدَّمْنَا أَنَّ ذَلِكَ الِاحْتِرَامَ يَزُولُ بِتَعَدِّيهِ. وَيَجُوزُ الْجُلُوسُ لِلْمُصِيبَةِ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ وَهُوَ خِلَافُ الْأَوْلَى، وَيُكْرَهُ فِي الْمَسْجِدِ، وَتُسْتَحَبُّ التَّعْزِيَةُ لِلرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَفْتِنَّ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ عَزَّى أَخَاهُ بِمُصِيبَةٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ حُلَلِ الْكَرَامَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ عَزَّى مُصَابًا فَلَهُ مِثْلُ أَجْرِهِ» وَقَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ عَزَّى ثَكْلَى كُسِيَ بُرْدَيْنِ فِي الْجَنَّةِ» وَيُكْرَهُ اتِّخَاذُ الضِّيَافَةِ مِنْ الطَّعَامِ مِنْ أَهْلِ الْمَيِّتِ لِأَنَّهُ شُرِعَ فِي السُّرُورِ لَا فِي الشُّرُورِ، وَهِيَ بِدْعَةٌ مُسْتَقْبَحَةٌ. رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ وَابْنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ صَحِيحٍ عَنْ جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ: كُنَّا نَعُدُّ الِاجْتِمَاعَ إلَى أَهْلِ الْمَيِّتِ وَصُنْعَهُمْ الطَّعَامَ مِنْ النِّيَاحَةِ. وَيُسْتَحَبُّ لِجِيرَانِ أَهْلِ الْمَيِّتِ وَالْأَقْرِبَاءِ الْأَبَاعِدِ تَهْيِئَةُ طَعَامٍ لَهُمْ يُشْبِعُهُمْ يَوْمَهُمْ وَلَيْلَتَهُمْ لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «اصْنَعُوا لِآلِ جَعْفَرٍ طَعَامًا فَقَدْ جَاءَهُمْ مَا يَشْغَلُهُمْ» حَسَّنَهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ وَلِأَنَّهُ بِرٌّ وَمَعْرُوفٌ، وَيُلَحُّ عَلَيْهِمْ فِي الْأَكْلِ لِأَنَّ الْحُزْنَ يَمْنَعُهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَيَضْعُفُونَ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[بَابُ الشَّهِيدِ]
(بَابُ الشَّهِيدِ) وَجْهُ فَضْلِهِ، وَتَأْخِيرُهُ ظَاهِرٌ، وَسُمِّيَ شَهِيدًا إمَّا لِشُهُودِ الْمَلَائِكَةِ إكْرَامًا لَهُ، أَوْ لِأَنَّهُ مَشْهُودٌ لَهُ بِالْجَنَّةِ، وَلِشُهُودِهِ أَيْ حُضُورِهِ حَيًّا يُرْزَقُ عِنْدَ رَبِّهِ عَلَى الْمَعْنَى الَّذِي يَصِحُّ (قَوْلُهُ الشَّهِيدُ إلَخْ) هَذَا تَعْرِيفٌ لِلشَّهِيدِ الْمَلْزُومِ لِلْحُكْمِ

(2/142)


وَلَمْ يَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ فَيُكَفَّنُ وَيُصَلَّى عَلَيْهِ وَلَا يُغَسَّلُ) لِأَنَّهُ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ. وَقَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِمْ «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ وَلَا تُغَسِّلُوهُمْ» فَكُلُّ مَنْ قُتِلَ بِالْحَدِيدَةِ ظُلْمًا وَهُوَ طَاهِرٌ بَالِغٌ وَلَمْ يَجِبْ بِهِ عِوَضٌ مَالِيٌّ فَهُوَ فِي مَعْنَاهُمْ فَيَلْحَقُ بِهِمْ، وَالْمُرَادُ بِالْأَثَرِ الْجِرَاحَةُ لِأَنَّهَا دَلَالَةُ الْقَتْلِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمَذْكُورِ: أَعْنِي عَدَمَ تَغْسِيلِهِ وَنَزْعِ ثِيَابِهِ لَا لِمُطْلَقِهِ فَإِنَّهُ أَعَمُّ مِنْ ذَلِكَ عَلَى مَا سَنَذْكُرُ مِنْ أَنَّ الْمُرْتَثَّ وَغَيْرَهُ شَهِيدٌ. وَهَذَا التَّعْرِيفُ عَلَى قَوْلِ الْكُلِّ بِنَاءً عَلَى مَا اخْتَارَهُ بَعْضُهُمْ مِنْ أَنَّ الْمُخْتَلَفَ فِيهِ مِنْ الْأَحْكَامِ وَالْأَوْصَافِ يُجْتَنَبُ فِي الْحَدِّ لَكِنْ يُحْتَاجُ إلَى قَيْدٍ مُدْخِلٍ وَهُوَ قَوْلُنَا: إلَّا مَا يَجِبُ بِشُبْهَةِ الْأُبُوَّةِ، وَلَوْ أُرِيدَ تَصْوِيرُهُ عَلَى رَأْيِ أَبِي حَنِيفَةَ قِيلَ كُلُّ مُسْلِمٍ مُكَلَّفٍ لَا غُسْلَ عَلَيْهِ قُتِلَ ظُلْمًا مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ أَوْ الْبَغْيِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ بِأَيِّ آلَةٍ كَانَتْ وَبِجَارِحٍ مِنْ غَيْرِهِمْ وَلَمْ تَجِبْ بِقَتْلِهِ دِيَةٌ بِنَفْسِ الْقَتْلِ وَلَمْ يُرْتَثَّ فَظُلْمًا مُخْرِجٌ لِلْمَقْتُولِ بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ أَوْ افْتَرَسَهُ سَبُعٌ أَوْ سَقَطَ عَلَيْهِ بِنَاءٌ أَوْ سَقَطَ مِنْ شَاهِقٍ أَوْ غَرِقَ فَإِنَّهُ يُغَسَّلُ وَإِنْ كَانَ شَهِيدًا.
وَأَمَّا إذَا انْفَلَتَتْ دَابَّةُ كَافِرٍ فَوَطِئَتْ مُسْلِمًا مِنْ غَيْرِ سَائِقٍ، أَوْ رَمَى مُسْلِمٌ إلَى الْكُفَّارِ فَأَصَابَ مُسْلِمًا، أَوْ نَفَرَتْ دَابَّةُ مُسْلِمٍ مِنْ سَوَادِ الْكُفَّارِ، أَوْ نَفِدَ الْمُسْلِمُونَ مِنْهُمْ فَأَلْجَئُوهُمْ إلَى خَنْدَقٍ أَوْ نَارٍ وَنَحْوِهِ فَأَلْقَوْا أَنْفُسَهُمْ، أَوْ جَعَلُوا حَوْلَهُمْ الْحَسَكَ فَمَشَى عَلَيْهَا مُسْلِمٌ فَمَاتَ بِهِ لَمْ يَكُنْ شَهِيدًا خِلَافًا لِأَبِي يُوسُفَ، لِأَنَّ فِعْلَهُ وَفِعْلَ الدَّابَّةِ دُونَ حَامِلٍ يَقْطَعُ النِّسْبَةَ إلَيْهِمْ.
أَمَّا لَوْ طَعَنُوهُمْ حَتَّى أَلْقَوْهُمْ فِي نَارٍ أَوْ مَاءٍ أَوْ نَفَّرُوا دَابَّةً فَصَدَمَتْ مُسْلِمًا، أَوْ رَمَوْا نَارًا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فَهَبَّتْ بِهَا رِيحٌ إلَى الْمُسْلِمِينَ، أَوْ أَرْسَلُوا مَاءً فَغَرِقَ بِهِ مُسْلِمٌ فَإِنَّهُمْ يَكُونُونَ شُهَدَاءَ اتِّفَاقًا، لِأَنَّ الْقَتْلَ مُضَافٌ إلَى الْعَدُوِّ تَسْبِيبًا. فَإِنْ قِيلَ فِي الْحَسَكِ يَنْبَغِي أَنْ لَا يُغَسَّلَ لِأَنَّ جَعْلَهُ تَسْبِيبٌ لِلْقَتْلِ. قُلْنَا: مَا قُصِدَ بِهِ الْقَتْلُ يَكُونُ تَسْبِيبًا وَمَا لَا فَلَا، وَهُمْ قَصَدُوا بِهِ الدَّفْعَ لَا الْقَتْلَ. وَقَوْلُنَا بِجَارِحٍ لَا يَخُصُّ الْحَدِيدَ بَلْ يَشْمَلُ النَّارَ وَالْقَصَبَ. وَقَوْلُنَا بِنَفْسِ الْقَتْلِ احْتِرَازٌ عَمَّا إذَا وَجَبَ بِالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ بَعْدَ مَا وَجَبَ الْقِصَاصُ، وَعَمَّا إذَا قَتَلَ الْوَالِدُ وَلَدَهُ فَالْوَاجِبُ الدِّيَةُ، وَالْوَلَدُ شَهِيدٌ لَا يُغَسَّلُ فِي الرِّوَايَةِ الْمُخْتَارَةِ، فَإِنَّ مُوجِبَ فِعْلِهِ ابْتِدَاءُ الْقِصَاصِ ثُمَّ يَنْقَلِبُ مَالًا لِمَانِعِ الْأُبُوَّةِ، وَبَاقِي الْقُيُودِ ظَاهِرَةٌ، وَسَتَخْرُجُ مِمَّا سَيُورَدُ مِنْ الْأَحْكَامِ (قَوْلُهُ قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي شُهَدَاءِ إلَخْ) غَرِيبٌ تَمَامُهُ.
وَفِي مُسْنَدِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَشْرَفَ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ فَقَالَ: إنِّي شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَدِمَائِهِمْ» اهـ. إلَّا أَنَّهُ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْغُسْلِ، إذْ مَعَ الْغُسْلِ لَا يَبْقَى.
وَفِي تَرْكِ غُسْلِ الشَّهِيدِ أَحَادِيثُ: مِنْهَا مَا أَخْرَجَ الْبُخَارِيُّ وَأَصْحَابُ السُّنَنِ عَنْ اللَّيْثِ بْنِ سَعْدٍ عَنْ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبِ بْنِ مَالِكٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - كَانَ يَجْمَعُ بَيْنَ الرَّجُلَيْنِ فِي قَتْلَى أُحُدٍ وَيَقُولُ: أَيُّهُمَا أَكْثَرُ أَخْذًا لِلْقُرْآنِ، فَإِذَا أُشِيرَ لَهُ إلَى أَحَدِهِمَا قَدَّمَهُ فِي اللَّحْدِ وَقَالَ: أَنَا شَهِيدٌ عَلَى هَؤُلَاءِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَأَمَرَ بِدَفْنِهِمْ فِي دِمَائِهِمْ وَلَمْ يُغَسِّلْهُمْ» زَادَ الْبُخَارِيُّ وَالتِّرْمِذِيُّ وَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ قَالَ

(2/143)


وَكَذَا خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا، وَالشَّافِعِيُّ يُخَالِفُنَا فِي الصَّلَاةِ وَيَقُولُ السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
النَّسَائِيّ: لَا أَعْلَمُ أَحَدًا تَابَعَ اللَّيْثَ مِنْ أَصْحَابِ الزُّهْرِيِّ عَلَى هَذَا الْإِسْنَادِ، وَلَمْ يُؤْثَرْ عِنْدَ الْبُخَارِيِّ تَفَرُّدُ اللَّيْثِ بِالْإِسْنَادِ الْمَذْكُورِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ جَابِرٍ قَالَ «رُمِيَ رَجُلٌ بِسَهْمٍ فِي صَدْرِهِ أَوْ فِي حَلْقِهِ فَمَاتَ فَأُدْرِجَ فِي ثِيَابِهِ كَمَا هُوَ وَنَحْنُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» وَسَنَدُهُ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ النَّسَائِيّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «زَمِّلُوهُمْ بِدِمَائِهِمْ فَإِنَّهُ لَيْسَ كَلْمٌ يُكْلَمُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إلَّا يَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَدْمَى لَوْنُهُ لَوْنُ الدَّمِ وَالرِّيحُ رِيحُ الْمِسْكِ» (قَوْلُهُ وَكَذَا خُرُوجُ الدَّمِ مِنْ مَوْضِعٍ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْعَيْنِ وَنَحْوِهَا) وَالْحَاصِلُ أَنَّهُ إذَا مَاتَ وَوُجِدَ مَيِّتًا فِي الْمَعْرَكَةِ فَلَا يَخْلُو إمَّا أَنْ يُوجَدَ بِهِ أَثَرٌ أَوْ لَا، فَإِنْ وُجِدَ فَإِنْ كَانَ خُرُوجُ دَمٍ مِنْ جِرَاحَةٍ ظَاهِرَةً فَهُوَ شَهِيدٌ أَوْ غَيْرَ ظَاهِرَةٍ فَإِنْ كَانَ مِنْ مَوْضِعٍ مُعْتَادٍ كَالْأَنْفِ وَالدُّبُرِ وَالذَّكَرِ لَمْ نُثْبِتْ شَهَادَتَهُ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ قَدْ يَبُولُ دَمًا مِنْ شِدَّةِ الْخَوْفِ، وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ مُعْتَادٍ كَالْأُذُنِ وَالْعَيْنِ حُكِمَ بِهَا وَإِنْ كَانَ الْأَثَرُ مِنْ غَيْرِ رَضٍّ ظَاهِرٍ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ شَهِيدًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ أَثَرٌ أَصْلًا لَا يَكُونُ شَهِيدًا لِأَنَّ الظَّاهِرَ أَنَّهُ لِشِدَّةِ خَوْفِهِ انْخَلَعَ قَلْبُهُ.
وَأَمَّا إنْ ظَهَرَ مِنْ الْفَمِ فَقَالُوا: إنْ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الرَّأْسِ بِأَنْ يَكُونَ صَافِيًا غُسِلَ، وَإِنْ كَانَ خِلَافَهُ عُرِفَ أَنَّهُ مِنْ الْجَوْفِ فَيَكُونُ مِنْ جِرَاحَةٍ فِيهِ فَلَا يُغْسَلُ. وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّ الْمُرْتَقَى مِنْ الْجَوْفِ قَدْ يَكُونُ عَلَقًا فَهُوَ سَوْدَاءُ بِصُورَةِ الدَّمِ، وَقَدْ يَكُونُ رَقِيقًا مِنْ قُرْحَةٍ فِي الْجَوْفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ فِي طَهَارَةٍ الطَّهَارةِ فَلَمْ يَلْزَمْ كَوْنُهُ مِنْ جِرَاحَةٍ حَادِثَةٍ بَلْ هُوَ أَحَدُ الْمُحْتَمَلَاتِ (قَوْلُهُ وَيَقُولُ السَّيْفُ مَحَّاءٌ لِلذُّنُوبِ) ذَكَرُوهُ فِي بَعْضِ كُتُبِ الْفِقْهِ حَدِيثًا، وَهُوَ كَذَلِكَ فِي صَحِيحِ ابْنِ حِبَّانَ، وَإِنَّمَا مُعْتَمَدُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَا فِي الْبُخَارِيِّ عَنْ جَابِرٍ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لَمْ يُصَلِّ عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» وَهَذَا مُعَارَضٌ بِحَدِيثِ عَطَاءِ بْنِ أَبِي رَبَاحٍ «أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - صَلَّى عَلَى قَتْلَى أُحُدٍ» أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُد فِي الْمَرَاسِيلِ، فَيُعَارِضُ حَدِيثَ جَابِرٍ عِنْدَنَا، ثُمَّ يَتَرَجَّحُ بِأَنَّهُ مُثْبِتٌ وَحَدِيثُ جَابِرٍ نَافٍ، وَنَمْنَعُ أَصْلَ الْمُخَالِفِ فِي تَضْعِيفِ الْمَرَاسِيلِ، وَلَوْ سَلَّمَ فَعِنْدَهُ إذَا اُعْتُضِدَ يَرْفَعُ مَعْنَاهُ.
قِيلَ وَقَدْ رَوَى الْحَاكِمُ عَنْ جَابِرٍ قَالَ «فَقَدَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْزَةَ حِينَ فَاءَ النَّاسُ مِنْ الْقِتَالِ، فَقَالَ رَجُلٌ: رَأَيْتُهُ عِنْدَ تِلْكَ الشَّجَرَةِ، فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - نَحْوَهُ، فَلَمَّا رَآهُ وَرَأَى مَا مُثِّلَ بِهِ شَهِقَ وَبَكَى، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْ الْأَنْصَارِ فَرَمَى عَلَيْهِ بِثَوْبٍ، ثُمَّ جِيءَ بِحَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ، ثُمَّ بِالشُّهَدَاءِ فَيُوضَعُونَ إلَى جَانِبِ حَمْزَةَ فَيُصَلِّي عَلَيْهِمْ، ثُمَّ يُرْفَعُونَ وَيُتْرَكُ حَمْزَةُ حَتَّى صَلَّى عَلَى الشُّهَدَاءِ كُلِّهِمْ» وَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «حَمْزَةُ سَيِّدُ الشُّهَدَاءِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ» مُخْتَصَرٌ، وَقَالَ صَحِيحُ الْإِسْنَادِ وَلَمْ يُخْرِجَاهُ إلَّا أَنَّ فِي سَنَدِهِ مُفَضَّلَ بْنَ صَدَقَةَ أَبَا حَمَّادٍ الْحَنَفِيَّ، وَهُوَ وَإِنْ ضَعَّفَهُ يَحْيَى وَالنَّسَائِيُّ فَقَدْ قَالَ الْأَهْوَازِيُّ: كَانَ عَطَاءُ بْنُ مُسْلِمٍ يُوَثِّقُهُ، وَكَانَ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ شُعَيْبٍ يُثْنِي عَلَيْهِ ثَنَاءً تَامًّا.
وَقَالَ ابْنُ عَدِيٍّ: مَا أَرَى بِهِ بَأْسًا، فَلَا يَقْصُرُ الْحَدِيثَ عِنْدَ دَرَجَةِ الْحُسْنِ، وَهُوَ حُجَّةٌ اسْتِقْلَالًا فَلَا أَقَلَّ مِنْ صَلَاحِيَّتِهِ عَاضِدًا لِغَيْرِهِ. وَأَسْنَدَ أَحْمَدُ، حَدَّثَنَا عَفَّانَ بْنُ مُسْلِمٍ، حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، حَدَّثَنَا عَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ «كَانَ النِّسَاءُ يَوْمَ أُحُدٍ خَلْفَ الْمُسْلِمِينَ يُجْهِزْنَ عَلَى جَرْحَى الْمُشْرِكِينَ، إلَى أَنْ قَالَ: فَوَضَعَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْزَةَ وَجِيءَ بِرَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَوُضِعَ إلَى جَنْبِهِ، فَصَلَّى عَلَيْهِ فَرُفِعَ الْأَنْصَارِيُّ وَتُرِكَ حَمْزَةُ، ثُمَّ جِيءَ بِآخَرَ فَوُضِعَ إلَى جَنْبِ حَمْزَةَ فَصَلَّى عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ وَتُرِكَ حَمْزَةُ

(2/144)


فَأَغْنَى عَنْ الشَّفَاعَةِ، وَنَحْنُ نَقُولُ: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ، وَالشَّهِيدُ أَوْلَى بِهَا، وَالطَّاهِرُ عَنْ الذُّنُوبِ لَا يَسْتَغْنِي عَنْ الدُّعَاءِ كَالنَّبِيِّ وَالصَّبِيِّ

(وَمَنْ قَتَلَهُ أَهْلُ الْحَرْبِ أَوْ أَهْلُ الْبَغْيِ أَوْ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلُوهُ لَمْ يُغَسَّلْ) لِأَنَّ شُهَدَاءَ أُحُدٍ مَا كَانَ كُلُّهُمْ قَتِيلَ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِ

(وَإِذَا اُسْتُشْهِدَ الْجُنُبُ غُسِّلَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
صَلَّى يَوْمَئِذٍ عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً» وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْزِلُ عَنْ دَرَجَةِ الْحُسْنِ، وَعَطَاءُ بْنُ السَّائِبِ فِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي بَابِ صَلَاةِ الْكُسُوفِ، وَأَرْجُو أَنَّ حَمَّادَ بْنَ سَلَمَةَ مِمَّنْ أَخَذَ عَنْهُ قَبْلَ التَّغَيُّرِ، فَإِنَّ حَمَّادَ بْنَ زَيْدٍ مِمَّنْ ذُكِرَ أَنَّهُ أَخَذَ عَنْهُ قَبْلَ ذَلِكَ، وَوَفَاتُهُ تَأَخَّرَتْ عَنْ وَفَاةِ عَطَاءِ بِنَحْوِ خَمْسِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ قَبْلَ ابْنِ زَيْدٍ بِنَحْوِ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً فَيَكُونُ صَحِيحًا، وَعَلَى الْإِبْهَامِ لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحُسْنِ.
وَأَخْرَجَ الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ «لَمَّا انْصَرَفَ الْمُشْرِكُونَ عَنْ قَتْلَى أُحُدٍ، إلَى أَنْ قَالَ: ثُمَّ قَدَّمَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حَمْزَةَ فَكَبَّرَ عَلَيْهِ عَشْرًا، ثُمَّ جَعَلَ يُجَاءُ بِالرَّجُلِ فَيُوضَعُ وَحَمْزَةُ مَكَانَهُ حَتَّى صَلَّى عَلَيْهِ سَبْعِينَ صَلَاةً، وَكَانَتْ الْقَتْلَى يَوْمَئِذٍ سَبْعِينَ» وَهَذَا أَيْضًا لَا يَنْزِلُ عَنْ الْحَسَنِ، ثُمَّ لَوْ كَانَ الْكُلُّ ضَعِيفًا ارْتَقَى الْحَاصِلُ إلَى دَرَجَةِ الْحَسَنِ، ثُمَّ كَانَ عَاضِدُ الْمَرَاسِيلِ سَيِّدَ التَّابِعِينَ عَطَاءَ بْنَ أَبِي رَبَاحٍ، عَلَى أَنَّ الْوَاقِدِيَّ فِي الْمَغَازِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ رَبِّهِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ عَطَاءٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فَذَكَرَهُ.
وَأَسْنَدَ فِي فُتُوحِ الشَّامِ: حَدَّثَنِي رُوَيْمُ بْنُ عَامِرٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَاصِمٍ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ الْوَاقِصِي عَنْ سَيْفٍ مَوْلَى رَبِيعَةَ بْنِ قَيْسٍ الْيَشْكُرِيِّ قَالَ: كُنْت فِي الْجَيْشِ الَّذِي وَجَّهَهُ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ مَعَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ إلَى أَيْلَةَ وَأَرْضِ فِلَسْطِينَ فَذَكَرَ الْقِصَّةَ. وَفِيهَا أَنَّهُ قُتِلَ مِنْ الْمُسْلِمِينَ مِائَةٌ وَثَلَاثُونَ وَصَلَّى عَلَيْهِمْ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ وَمَنْ مَعَهُ مِنْ الْمُسْلِمِينَ، وَكَانَ مَعَ عَمْرٍو تِسْعَةُ آلَافٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ
(قَوْلُهُ وَنَحْنُ نَقُولُ: الصَّلَاةُ عَلَى الْمَيِّتِ لِإِظْهَارِ كَرَامَتِهِ) لَا يَخْفَى أَنَّ الْمَقْصُودَ الْأَصْلِيَّ مِنْ الصَّلَاةِ نَفْسِهَا الِاسْتِغْفَارُ لَهُ وَالشَّفَاعَةُ وَالتَّكْرِيمُ، يُسْتَفَادُ إرَادَتُهُ مِنْ إيجَابِ ذَلِكَ عَلَى النَّاسِ فَنَقُولُ: إذَا أَوْجَبَ الصَّلَاةَ عَلَى الْمَيِّتِ عَلَى الْمُكَلَّفِينَ تَكْرِيمًا فَلَأَنْ يُوجِبَهَا عَلَيْهِمْ عَلَى الشَّهِيدِ أَوْلَى، لِأَنَّ اسْتِحْقَاقَهُ لِلْكَرَامَةِ أَظْهَرُ (قَوْلُهُ كَالنَّبِيِّ أَوْ الصَّبِيِّ) لَوْ اقْتَصَرَ عَلَى النَّبِيِّ كَانَ أَوْلَى، فَإِنَّ الدُّعَاءَ فِي الصَّلَاةِ عَلَى الصَّبِيِّ لِأَبَوَيْهِ. هَذَا وَلَوْ اخْتَلَطَ قَتْلَى الْمُسْلِمِينَ بِقَتْلَى الْكُفَّارِ أَوْ مَوْتَاهُمْ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِمْ إلَّا أَنْ يَكُونَ مَوْتَى الْمُسْلِمِينَ أَكْثَرَ فَيُصَلِّي حِينَئِذٍ عَلَيْهِمْ وَيَنْوِي أَهْلَ الْإِسْلَامِ فِيهَا بِالدُّعَاءِ

(قَوْلُهُ فَبِأَيِّ شَيْءٍ قَتَلُوهُ كَانَ شَهِيدًا) لِأَنَّ الْقَتْلَ فِي قِتَالِهِمْ مِثْلُهُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ لِأَنَّ قِتَالَهُمْ مَأْمُورٌ بِهِ كَأَهْلِ الْحَرْبِ، قَالَ تَعَالَى {فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ} [الحجرات: 9] وَسُمِّيَ قُطَّاعُ الطَّرِيقِ مُحَارِبِي اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَالْقَطْعُ بِأَنَّ مُحَارِبَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ يَجِبُ قِتَالُهُ عَلَى أَنَّهُمْ بُغَاةٌ فَيَدْخُلُونَ فِي الَّتِي تَبْغِي بِالْمَفْهُومِ اللُّغَوِيِّ فَالْمَقْتُولُ مِنْهُمْ بَاذِلٌ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى (قَوْلُهُ مَا كَانَ كُلُّهُمْ قَتِيلَ السَّيْفِ وَالسِّلَاحِ) اللَّهُ أَعْلَمُ بِذَلِكَ، وَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ فِي ثُبُوتِ ذَلِكَ الْحُكْمِ، إذْ يَكْفِي فِيهِ ثُبُوتُ بَذْلِهِ نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ

(2/145)


وَقَالَا: لَا يُغَسَّلُ، لِأَنَّ مَا وَجَبَ بِالْجَنَابَةِ سَقَطَ بِالْمَوْتِ وَالثَّانِي لَمْ يَجِبْ لِلشَّهَادَةِ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُرِفَتْ مَانِعَةً غَيْرَ رَافِعَةٍ فَلَا تَرْفَعُ الْجَنَابَةَ. وَقَدْ صَحَّ أَنَّ حَنْظَلَةَ لَمَّا اُسْتُشْهِدَ جُنُبًا غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْحَائِضُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
إذْ هُوَ الْمَنَاطُ فِي قَتِيلِ الْمُشْرِكِينَ

(قَوْلُهُ مَا وَجَبَ بِالْجَنَابَةِ) وَهُوَ الْغُسْلُ (سَقَطَ بِالْمَوْتِ) لِأَنَّ وُجُوبَهُ لِوُجُوبِ مَا لَا يَصِحُّ إلَّا بِهِ. وَقَدْ سَقَطَ ذَلِكَ بِالْمَوْتِ فَيَسْقُطُ الْغُسْلُ، وَلِأَنَّ الشَّهَادَةَ أُقِيمَتْ مَقَامَ الْغُسْلِ الْوَاجِبِ بِالْمَوْتِ لِاحْتِبَاسِ الدِّمَاءِ إنْ قُتِلَ بِغَيْرِ جَارِحٍ، أَوْ لِتَلَطُّخِهِ بِهَا إنْ قُتِلَ بِجَارِحٍ مَعَ قِيَامِ الْمُوجِبِ فَكَذَا الْوَاجِبُ قَبْلَهُ.
وَلَهُ أَنَّ الشَّهَادَةَ عُهْدَةٌ مَانِعَةٌ مِنْ ثُبُوتِ التَّنَجُّسِ بِالْمَوْتِ وَبِالتَّلَطُّخِ وَإِلَّا لَرُتِّبَ مُقْتَضَاهُ، أَمَّا رَفْعُهَا لِنَجَاسَةٍ كَانَتْ قَبْلَهَا فَمَوْقُوفٌ عَلَى السَّمْعِ، وَلَمْ يَرِدْ بِذَلِكَ إلَّا فِي نَجَاسَةِ الْحَدَثِ لِلْقَطْعِ إجْمَاعًا بِأَنَّهُ لَا يُوَضَّأُ شَهِيدٌ مَعَ الْعِلْمِ بِاسْتِلْزَامِ كُلِّ مَوْتٍ لِلْحَدَثِ الْأَصْغَرِ أَقَلُّهُ مَا يَحْصُلُ بِزَوَالِ الْعَقْلِ قُبَيْلَهُ، فَلَوْ بَقِيَ الْحَالُ عَلَى عَدَمِ السَّمْعِ لَكَفَى فِي إيجَابِ الْغُسْلِ فَكَيْفَ وَالسَّمْعُ يُوجِبُهُ، وَهُوَ مَا صَحَّ مِنْ حَدِيثِ حَنْظَلَةَ، وَبِهِ يَنْدَفِعُ قَوْلُهُمَا سَقَطَ بِسُقُوطِ مَا وَجَبَ لِأَجْلِهِ. وَلَوْ لَمْ يَكُنْ قُلْنَا فِي جَوَابِهِ لِمَ لَمْ يُشْرَعْ غُسْلُ الْجَنَابَةِ لِلْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَعَلَا وَإِدْخَالِ الْقَبْرِ كَمَا كَانَ مَشْرُوعًا لِلْقِرَاءَةِ وَالْمَسِّ، وَقَدْ لَا يَجِبُ وَاحِدٌ مِنْهُمَا لِيَتَحَقَّقَ سُقُوطُهُ، فَإِنْ أَصْلَحُوا الْعِبَارَةَ قَالُوا سَقَطَ لِعَدَمِ فَائِدَتِهِ وَهِيَ التَّوَصُّلُ بِهِ إلَى فِعْلِ مَا لَا يَحِلُّ إلَّا بِهِ دُفِعَ بِتَجْوِيزِ تِلْكَ الْفَائِدَةِ وَهِيَ الْعَرْضُ عَلَى الرَّبِّ جَلَّ جَلَالُهُ، فَيَبْقَى الْوُجُوبُ الَّذِي كَانَ ثَابِتًا قَبْلَ الْمَوْتِ بِنَاءً عَلَى أَنَّ صِفَةَ تَعَلُّقِهِ قَبْلَ الْمَوْتِ لِلتَّوَصُّلِ إلَى حَلِّ مَا لَا يَحِلُّ بِدُونِهِ حَالَةَ الْحَيَاةِ وَالْعَرْضِ إنْ مَاتَ قَبْلَ الْغُسْلِ.
وَالْحَقُّ أَنَّ الدَّافِعَ لَيْسَ إلَّا بِالنَّصِّ، وَهُوَ حَدِيثُ حَنْظَلَةَ لِأَنَّ لَهُمْ أَنْ يَدْفَعُوا هَذَا بِأَنَّ الْوُجُوبَ قَبْلَ الْمَوْتِ كَانَ مُتَعَلِّقًا بِهِ وَبَعْدَهُ بِغَيْرِهِ فَهُوَ غَيْرُهُ، أَوْ لَا يَنْتَقِلُ إلَى غَيْرِهِ إلَّا بِدَلِيلٍ فَنَرْجِعُ فِي إيجَادِهِمْ ذَلِكَ الدَّلِيلَ إلَى حَدِيثِ حَنْظَلَةَ: فَإِنْ قَالُوا: هُوَ إنَّمَا يُفِيدُ إرَادَةَ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَكْرِيمَهُ لَا أَنَّهُ وَاجِبٌ وَإِلَّا لَمْ يَسْقُطْ بِفِعْلِ غَيْرِ الْآدَمِيِّينَ لِأَنَّ الْوُجُوبَ عَلَيْهِمْ. قُلْنَا: كَانَ ذَلِكَ أَوَّلَ تَعْلِيمٍ لِلْوُجُوبِ وَإِفَادَتِهِ لَهُ، فَجَازَ أَنْ يَسْقُطَ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ مَا الْمَقْصُودُ بِهِ الْفِعْلُ، بِخِلَافِ مَا بَعْدَ الْأَوَّلِ، كَغُسْلِ الْمَلَائِكَةِ آدَمَ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - سَقَطَ بِفِعْلِهِمْ لِأَنَّهُ ابْتِدَاءُ إفَادَةِ الْوُجُوبِ مَعَ كَوْنِ الْمَقْصُودِ نَفْسَ الْفِعْلِ، وَلَمْ يَسْقُطْ مَا بَعْدَهُ إلَّا بِفِعْلِ الْمُكَلَّفِينَ.
وَأَمَّا مُعَارَضَتُهُ بِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «زَمِّلُوهُمْ بِكُلُومِهِمْ وَلَا

(2/146)


وَالنُّفَسَاءُ إذَا طَهُرَتَا وَكَذَا قَبْلَ الِانْقِطَاعِ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الصَّبِيّ لَهُمَا أَنَّ الصَّبِيَّ أَحَقُّ بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
تُغَسِّلُوهُمْ» فَلَيْسَ بِدَافِعٍ لِأَنَّهُ فِي مَعْنَيَيْنِ لَيْسَ حَنْظَلَةُ مِنْهُمْ، وَلَوْ كَانَ فِي الْكُلِّ وَهُوَ مِنْهُمْ كَانَ قَبْلَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ كَانَ جُنُبًا لِأَنَّ الْعِلْمَ بِذَلِكَ إنَّمَا كَانَ مِنْ زَوْجَتِهِ بَعْدَ الْعِلْمِ بِغُسْلِ الْمَلَائِكَةِ لَهُ عَلَى مَا يُفِيدُهُ نَصُّ حَدِيثِهِ، وَهُوَ مَا رَوَاهُ ابْنُ حِبَّانَ وَالْحَاكِمُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ وَقَدْ قُتِلَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ الثَّقَفِيُّ: إنَّ صَاحِبَكُمْ حَنْظَلَةَ تُغَسِّلُهُ الْمَلَائِكَةُ - عَلَيْهِمْ السَّلَامُ -، فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ، فَقَالَتْ: خَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ لَمَّا سَمِعَ الْهَائِعَةَ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: لِذَلِكَ غَسَّلَتْهُ الْمَلَائِكَةُ» وَقَالَ الْحَاكِمُ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ مُسْلِمٍ، وَلَيْسَ عِنْدَ الْحَاكِمِ فَسَلُوا صَاحِبَتَهُ يَعْنِي زَوْجَتَهُ، وَهِيَ جَمِيلَةُ بِنْتُ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ أُخْتُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أُبَيٍّ ابْنِ سَلُولَ، وَكَانَ قَدْ بَنَى بِهَا تِلْكَ اللَّيْلَةَ فَرَأَتْ فِي مَنَامِهَا كَأَنَّ بَابًا مِنْ السَّمَاءِ فُتِحَ وَأُغْلِقَ دُونَهُ فَعَرَفْت أَنَّهُ مَقْتُولٌ مِنْ الْغَدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَتْ دَعَتْ بِأَرْبَعَةٍ مِنْ قَوْمِهَا فَأَشْهَدَتْهُمْ أَنَّهُ دَخَلَ بِهَا خَشْيَةَ أَنْ يَقَعَ فِي ذَلِكَ نِزَاعٌ.
ذَكَرَهُ الْوَاقِدِيُّ وَابْنُ سَعْدٍ فِي الطَّبَقَاتِ، وَزَادَ «وَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إنِّي رَأَيْتُ الْمَلَائِكَةَ تُغَسِّلُ حَنْظَلَةَ بْنَ أَبِي عَامِرٍ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ بِمَاءِ الْمُزْنِ فِي صِحَافِ الْفِضَّةِ» قَالَ أَبُو أُسَيْدَ: «ذَهَبْنَا إلَيْهِ فَوَجَدْنَاهُ يَقْطُرُ رَأْسُهُ دَمًا، فَرَجَعْتُ فَأَخْبَرْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -» الْحَدِيثَ.
وَفِي غَرِيبِ الْحَدِيثِ لِلسَّرَقُسْطِيِّ بِسَنَدِهِ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ خَرَجَ حَنْظَلَةُ بْنُ أَبِي عَامِرٍ وَقَدْ وَاقَعَ امْرَأَتَهُ، فَخَرَجَ وَهُوَ جُنُبٌ لَمْ يَغْتَسِلْ، فَلَمَّا الْتَقَى النَّاسُ لَقِيَ أَبَا سُفْيَانَ بْنَ حَرْبٍ فَحَمَلَ عَلَيْهِ فَسَقَطَ أَبُو سُفْيَانَ عَنْ فَرَسِهِ فَوَثَبَ عَلَيْهِ حَنْظَلَةُ وَقَعَدَ عَلَى صَدْرِهِ يَذْبَحُهُ فَمَرَّ بِهِ جَعْوَنَةُ بْنُ شَعُوبٍ الْكِنَانِيُّ فَاسْتَغَاثَ بِهِ أَبُو سُفْيَانَ فَحَمَلَ عَلَى حَنْظَلَةَ فَقَتَلَهُ وَهُوَ يَرْتَجِزُ وَيَقُولُ:
لَأَحْمِيَنَّ صَاحِبِي وَنَفْسِي ... بِطَعْنَةٍ مِثْلِ شُعَاعِ الشَّمْسِ
وَفِي الْوَاقِدِيِّ سَمَّى الْقَاتِلَ الْأَسْوَدَ بْنَ شَعُوبَ (قَوْلُهُ فِي الصَّحِيحِ مِنْ الرِّوَايَةِ) احْتِرَازٌ عَنْ الرِّوَايَةِ الْأُخْرَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ الْغُسْلُ وَاجِبًا عَلَيْهِمَا قَبْلَ الْمَوْتِ إذْ لَا يَجِبُ قَبْلَ الِانْقِطَاعِ.
وَجْهُ الْمُخْتَارَةِ أَنَّ الدَّمَ مُوجِبٌ لِلِاغْتِسَالِ عِنْدَ الِانْقِطَاعِ، وَقَدْ حَصَلَ الِانْقِطَاعُ بِالْمَوْتِ، وَلَا بُدَّ مِنْ إلْحَاقِهِ بِالْجُنُبِ إذْ قَدْ صَارَ أَصْلًا مُعَلَّلًا بِالْعَرْضِ عَلَى اللَّهِ سُبْحَانَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُشْكِلٌ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ (قَوْلُهُ: إنَّ الصَّبِيَّ أَوْلَى بِهَذِهِ الْكَرَامَةِ) وَهِيَ سُقُوطُ الْغُسْلِ، فَإِنَّ سُقُوطَهُ لِإِبْقَاءِ أَثَرِ الْمَظْلُومِيَّةِ، وَغَيْرُ الْمُكَلَّفِ أَوْلَى بِذَلِكَ لِأَنَّ مَظْلُومِيَّتَهُ أَشَدُّ حَتَّى قَالَ أَصْحَابُنَا: خُصُومَةُ الْبَهِيمَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَشَدُّ مِنْ خُصُومَةِ الْمُسْلِمِ (قَوْلُهُ: وَلَهُ أَنَّ السَّيْفَ إلَخْ) حَاصِلُهُ إمَّا إبْدَاءُ قَيْدٍ زَائِدٍ فِي الْعِلِّيَّةِ فَإِنَّهُمَا عَلَّلَا السُّقُوطَ إيفَاءَ أَثَرِ الْمَظْلُومِيَّةِ فَقَالَ هُوَ

(2/147)


وَلَهُ أَنَّ السَّيْفَ كَفَى عَنْ الْغُسْلِ فِي حَقِّ شُهَدَاءِ أُحُدٍ بِوَصْفِ كَوْنِهِ طُهْرَةً، وَلَا ذَنْبَ عَلَى الصَّبِيِّ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَاهُمْ

(وَلَا يُغْسَلُ عَنْ الشَّهِيدِ دَمُهُ، وَلَا يُنْزَعُ عَنْهُ ثِيَابُهُ) لِمَا رَوَيْنَا (وَيُنْزَعُ عَنْهُ الْفَرْوُ وَالْحَشْوُ وَالْقَلَنْسُوَةُ وَالسِّلَاحُ وَالْخُفُّ) لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ جِنْسِ الْكَفَنِ (وَيَزِيدُونَ وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا) إتْمَامًا لِلْكَفَنِ

قَالَ (وَمَنْ اُرْتُثَّ غُسِّلَ) وَهُوَ مَنْ صَارَ خَلْفًا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ لِنَيْلِ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ لِأَنَّ بِذَلِكَ يَخِفُّ أَثَرُ الظُّلْمِ فَلَمْ يَكُنْ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ (وَالِارْتِثَاثُ: أَنْ يَأْكُلَ أَوْ يَشْرَبَ أَوْ يَنَامَ أَوْ يُدَاوَى أَوْ يُنْقَلَ مِنْ الْمَعْرَكَةِ حَيًّا) لِأَنَّهُ نَالَ بَعْضَ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ. وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ مَاتُوا عَطَاشَى وَالْكَأْسُ تُدَارُ عَلَيْهِمْ فَلَمْ يَقْبَلُوا خَوْفًا مِنْ نُقْصَانِ الشَّهَادَةِ، إلَّا إذَا حُمِلَ مِنْ مَصْرَعِهِ كَيْ لَا تَطَأَهُ الْخُيُولُ، لِأَنَّهُ مَا نَالَ شَيْئًا مِنْ الرَّاحَةِ، وَلَوْ آوَاهُ فُسْطَاطٌ أَوْ خَيْمَةٌ كَانَ مُرْتَثًّا لِمَا بَيَّنَّا (وَلَوْ بَقِيَ حَيًّا حَتَّى مَضَى وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ يَعْقِلُ فَهُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْعِلَّةُ إبْقَاءُ أَثَرِهَا بِجَعْلِ الْقَتْلِ طُهْرَةً، أَيْ جَعْلِ الْقَتْلِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ طُهْرَةً عَنْ الذُّنُوبِ إبْقَاءً لِأَثَرِ الظُّلْمِ، وَلَا ذَنْبَ عَلَى غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فَلَمْ يَتَحَقَّقْ تَأْثِيرُ الْقَتْلِ فِي حَقِّهِ لِهَذَا الْحُكْمِ، وَأَمَّا مَنْعُ الْعِلَّةِ وَتَعْيِينُهَا مُجَرَّدُ جَعْلِ الشَّهَادَةِ طُهْرَةً إكْرَامًا، وَعَلَى كُلِّ حَالٍ فَقَوْلُهُ أَوْلَى لِاتِّفَاقِ الْكُلِّ عَلَى اعْتِبَارِ التَّكْرِيمِ فِي إسْقَاطِ الْغُسْلِ بِالْقَتْلِ، وَالتَّكْرِيمُ فِي جَعْلِ الْقَتْلِ طُهْرَةً مِنْ الذُّنُوبِ أَظْهَرُ مِنْهُ فِي إبْقَاءِ أَثَرِ الظُّلْمِ أَوْ هُوَ غَيْرُ مَوْجُودٍ مَعَهُ أَصْلًا

(قَوْلُهُ وَيُزِيدُونَ وَيُنْقِصُونَ مَا شَاءُوا) أَيْ يُزِيدُونَ إذَا كَانَ مَا عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِ جِنْسِ الْكَفَنِ أَوْ نَاقِصًا عَنْ الْعَدَدِ الْمَسْنُون. وَيُنْقِصُونَ إذَا كَانَ زَائِدًا عَلَيْهِ

(قَوْلُهُ: لِنَيْلِ مَرَافِقِ الْحَيَاةِ) تَعْلِيلٌ لِقَوْلِهِ خَلْفًا فِي حُكْمِ الشَّهَادَةِ، وَحُكْمُ الشَّهَادَةِ أَنْ لَا يُغَسَّلَ، وَقَيَّدَ بِهِ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ خَلْفًا فِي نَفْسِ الشَّهَادَةِ بَلْ هُوَ شَهِيدٌ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى (قَوْلُهُ وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ إلَخْ) كَوْنُ هَذَا وَقَعَ لِشُهَدَاءِ أُحُدٍ اللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ. وَرَوَى الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الْإِيمَانِ بِسَنَدِهِ عَنْ أَبِي جَهْمِ بْنِ حُذَيْفَةَ الْعَدَوِيِّ قَالَ: انْطَلَقْت يَوْمَ الْيَرْمُوكِ أَطْلُبُ ابْنَ عَمِّي وَمَعَهُ شَنَّةُ مَاءٍ فَقُلْت: إنْ كَانَ بِهِ رَمَقٌ سَقَيْته وَمَسَحْت وَجْهَهُ، فَإِذَا بِهِ يَنْشُدُ، فَقُلْت أَسْقِيك؟ فَأَشَارَ أَنْ نَعَمْ، فَإِذَا رَجُلٌ يَقُولُ آهِ، فَأَشَارَ ابْنُ عَمِّي أَنْ انْطَلِقْ بِهِ إلَيْهِ فَإِذَا هُوَ هِشَامُ بْنُ الْعَاصِ أَخُو عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، فَأَتَيْته فَقُلْت أَسْقِيك؟ فَسَمِعَ آخَرَ يَقُولُ آهِ فَأَشَارَ هِشَامُ أَنْ انْطَلِقْ إلَيْهِ فَجِئْته فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْت إلَى هِشَامٍ فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ، فَرَجَعْت إلَى ابْنِ عَمِّي فَإِذَا هُوَ قَدْ مَاتَ.
وَأَسْنَدَ هُوَ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ حَبِيبِ بْنِ أَبِي ثَابِتٍ أَنَّ الْحَارِثَ بْنَ هِشَامٍ وَعِكْرِمَةَ بْنَ أَبِي جَهْلٍ وَعَيَّاشَ بْنَ أَبِي رَبِيعَةَ أُثْبِتُوا يَوْمَ الْيَرْمُوكِ، فَدَعَا الْحَارِثُ بِمَاءٍ يَشْرَبُهُ، فَنَظَرَ إلَيْهِ عِكْرِمَةُ فَقَالَ ارْفَعُوهُ إلَى عِكْرِمَةَ، فَرَفَعُوهُ إلَيْهِ فَنَظَرَ إلَيْهِ عَيَّاشُ فَقَالَ عِكْرِمَةُ ارْفَعُوهُ إلَى عَيَّاشٍ، فَمَا وَصَلَ إلَى عَيَّاشٍ وَلَا إلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ حَتَّى مَاتُوا وَمَا ذَاقُوا (قَوْلُهُ أَوْ يَمْضِي عَلَيْهِ وَقْتُ صَلَاةٍ وَهُوَ يَعْقِلُ) أَيْ وَيَقْدِرُ عَلَى أَدَائِهَا حَتَّى يَجِبَ الْقَضَاءُ، كَذَا قَيَّدَهُ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِصِحَّتِهِ. وَفِيهِ إفَادَةٌ أَنَّهُ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى الْأَدَاءِ لَا يَجِبُ الْقَضَاءُ، فَإِنْ أَرَادَ إذَا لَمْ

(2/148)


مُرْتَثٌّ) لِأَنَّ تِلْكَ الصَّلَاةَ صَارَتْ دَيْنًا فِي ذِمَّتِهِ وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْيَاءِ. قَالَ: وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ، وَلَوْ أَوْصَى بِشَيْءٍ مِنْ أُمُورِ الْآخِرَةِ كَانَ ارْتِثَاثًا عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ ارْتِفَاقٌ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَكُونُ لِأَنَّهُ مِنْ أَحْكَامِ الْأَمْوَاتِ

(وَمَنْ وُجِدَ قَتِيلًا فِي الْمِصْرِ غُسِّلَ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقَسَامَةُ وَالدِّيَةُ فَخَفَّ أَثَرُ الظُّلْمِ (إلَّا إذَا عُلِمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ وَهُوَ عُقُوبَةٌ وَالْقَاتِلُ لَا يَتَخَلَّصُ عَنْهَا ظَاهِرًا، إمَّا فِي الدُّنْيَا أَوْ الْعُقْبَى. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ: مَا لَا يَلْبَثُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ وَيُعْرَفُ فِي الْجِنَايَاتِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
يَقْدِرْ لِلضَّعْفِ مَعَ حُضُورِ الْعَقْلِ فَكَوْنُهُ يَسْقُطُ بِهِ الْقَضَاءُ قَوْلُ طَائِفَةٍ، وَالْمُخْتَارُ وَهُوَ ظَاهِرُ كَلَامِهِ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ أَنَّهُ لَا يَسْقُطُ، وَإِنْ أَرَادَ لِغَيْبَةِ الْعَقْلِ فَالْمُغْمَى عَلَيْهِ يَقْضِي مَا لَمْ يَزِدْ عَلَى صَلَاةِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ فَمَتَى يَسْقُطُ الْقَضَاءُ مُطْلَقًا لِعَدَمِ قُدْرَةِ الْأَدَاءِ مِنْ الْجَرِيحِ (قَوْلُهُ وَهَذَا مَرْوِيٌّ عَنْ أَبِي يُوسُفَ) فِي الْكَافِي أَوْ عَاشَ مَكَانَهُ يَوْمًا وَلَيْلَةً لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي مَعْنَى شُهَدَاءِ أُحُدٍ إذْ لَمْ يَبْقَ أَحَدٌ مِنْهُمْ حَيًّا يَوْمًا كَامِلًا أَوْ لَيْلَةً. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ وَقْتَ صَلَاةٍ كَامِلًا يُغَسَّلُ لِأَنَّهُ وَجَبَ عَلَيْهِ تِلْكَ الصَّلَاةُ وَهُوَ مِنْ أَحْكَامِ الْأَحْيَاءِ. وَعَنْهُ إنْ عَاشَ بَعْدَ الْجُرْحِ أَكْثَرَ الْيَوْمِ أَوْ أَكْثَرَ اللَّيْلَةِ يُغَسَّلُ إقَامَةً لِلْأَكْثَرِ مَقَامَ الْكُلِّ (قَوْلُهُ وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ) قِيلَ الِاخْتِلَافُ بَيْنَهُمَا فِيمَا إذَا أَوْصَى بِأُمُورِ الدُّنْيَا، أَمَّا بِأُمُورِ الْآخِرَةِ فَلَا يَكُونُ مُرْتَثًّا اتِّفَاقًا. وَقِيلَ الْخِلَافُ فِي الْوَصِيَّةِ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ، وَفِي أُمُورِ الدُّنْيَا يَكُونُ مُرْتَثًّا اتِّفَاقًا. وَقِيلَ لَا خِلَافَ بَيْنَهُمَا، فَجَوَابُ أَبِي يُوسُفَ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِأُمُورِ الدُّنْيَا وَمُحَمَّدٌ لَا يُخَالِفُهُ. وَجَوَابُ مُحَمَّدٍ فِيمَا إذَا كَانَتْ بِأُمُورِ الْآخِرَةِ وَأَبُو يُوسُفَ لَا يُخَالِفُهُ فِيهَا. وَمِنْ الِارْتِثَاثِ أَنْ يَبِيعَ أَوْ يَشْتَرِيَ أَوْ يَتَكَلَّمَ بِكَلَامٍ كَثِيرٍ، بِخِلَافِ الْقَلِيلِ فَإِنَّ مِمَّنْ شَهِدَ أُحُدًا مَنْ تَكَلَّمَ كَسَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ، وَهَذَا كُلُّهُ إذَا كَانَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَرْبِ، وَأَمَّا قَبْلَ انْقِضَائِهَا فَلَا يَكُونُ مُرْتَثًّا بِشَيْءٍ مِمَّا ذَكَرْنَا

(قَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُعْلَمَ أَنَّهُ قُتِلَ بِحَدِيدَةٍ ظُلْمًا) أَيْ وَيُعْلَمُ قَاتِلُهُ عَيْنًا، أَمَّا مُجَرَّدُ وِجْدَانِهِ مَذْبُوحًا لَا يَمْنَعُ غُسْلَهُ وَقَدْ يُسْتَفَادُ هَذَا مِنْ قَوْلِهِ لِأَنَّ الْوَاجِبَ فِيهِ الْقِصَاصُ لِأَنَّ وُجُوبَهُ إنَّمَا يَتَحَقَّقُ عَلَى الْقَاتِلِ الْمُعَيَّنِ، هَذَا

(2/149)


(وَمَنْ قُتِلَ فِي حَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ غُسِّلَ وَصُلِّيَ عَلَيْهِ) لِأَنَّهُ بَاذِلٌ نَفْسَهُ لِإِيفَاءِ حَقٍّ مُسْتَحَقٍّ عَلَيْهِ، وَشُهَدَاءُ أُحُدٍ بَذَلُوا أَنْفُسَهُمْ لِابْتِغَاءِ مَرْضَاةِ اللَّهِ تَعَالَى فَلَا يَلْحَقُ بِهِمْ

(وَمَنْ قُتِلَ مِنْ الْبُغَاةِ أَوْ قُطَّاعِ الطَّرِيقِ لَمْ يُصَلِّ عَلَيْهِ) لِأَنَّ عَلِيًّا - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَمْ يُصَلِّ عَلَى الْبُغَاةِ.