فتح القدير للكمال ابن الهمام

[كِتَابُ الزَّكَاةِ]
ِ هِيَ فِي اللُّغَةِ الطَّهَارَةُ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَالنَّمَاءُ: زَكَا الزَّرْعُ إذَا نَمَا. وَفِي هَذَا الِاسْتِشْهَادِ نَظَرٌ لِأَنَّهُ ثَبَتَ الزُّكَاءُ بِالْهَمْزِ بِمَعْنَى النَّمَاءِ، يُقَالُ زَكَا زَكَاءً فَيَجُوزُ كَوْنُ الْفِعْلِ الْمَذْكُورِ مِنْهُ لَا مِنْ الزَّكَاةِ؛ بَلْ كَوْنُهُ مِنْهَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ثُبُوتِ عَيْنِ لَفْظِ الزَّكَاةِ فِي مَعْنَى النَّمَاءِ، ثُمَّ سُمِّيَ بِهَا نَفْسُ الْمَالِ الْمُخْرَجِ حَقًّا لِلَّهِ تَعَالَى عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي عُرْفِ الشَّارِعِ، قَالَ تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَمَعْلُومٌ أَنَّ مُتَعَلِّقَ الْإِيتَاءِ هُوَ الْمَالُ، وَفِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ هُوَ نَفْسُ فِعْلِ الْإِيتَاءِ لِأَنَّهُمْ يَصِفُونَهُ بِالْوُجُوبِ، وَمُتَعَلِّقُ الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ أَفْعَالُ الْمُكَلَّفِينَ، وَمُنَاسَبَتُهُ لِلُّغَوِيِّ أَنَّهُ سَبَبٌ لَهُ إذْ يَحْصُلُ بِهِ النَّمَاءُ، بِالْإِخْلَافِ مِنْهُ تَعَالَى فِي الدَّارَيْنِ وَالطَّهَارَةُ لِلنَّفْسِ مِنْ دَنَسِ الْبُخْلِ وَالْمُخَالَفَةِ، وَلِلْمَالِ بِإِخْرَاجِ حَقِّ الْغَيْرِ مِنْهُ إلَى مُسْتَحِقِّهِ: أَعْنِي الْفُقَرَاءَ. ثُمَّ هِيَ فَرِيضَةٌ مُحَكَّةٌ، وَسَبَبُهَا الْمَالُ الْمَخْصُوصُ: أَعْنِي النِّصَابَ النَّامِيَ تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا وَلِذَا يُضَافُ إلَيْهِ فَيُقَالُ زَكَاةُ الْمَالِ. وَشَرْطُهَا الْإِسْلَامُ، وَالْحُرِّيَّةُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ، وَالْفَرَاغُ مِنْ الدَّيْنِ. وَتَقْرِيرُهُ ظَاهِرٌ مِنْ

(2/153)


تَعَالَى {وَآتُوا الزَّكَاةَ} [البقرة: 43] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «أَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ» وَعَلَيْهِ إجْمَاعُ الْأُمَّةِ، وَالْمُرَادُ بِالْوَاجِبِ الْفَرْضُ لِأَنَّهُ لَا شُبْهَةَ فِيهِ، وَاشْتِرَاطُ الْحُرِّيَّةِ لِأَنَّ كَمَالَ الْمِلْكِ بِهَا، وَالْعَقْلُ وَالْبُلُوغُ لِمَا نَذْكُرُهُ، وَالْإِسْلَامُ لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ وَلَا تَتَحَقَّقُ مِنْ الْكَافِرِ، وَلَا بُدَّ مِنْ مِلْكِ مِقْدَارِ النِّصَابِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْكِتَابِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَدُّوا إلَخْ) عَنْ سُلَيْمِ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: سَمِعْت أَبَا أُمَامَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ «سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَخْطُبُ فِي حَجَّةِ الْوَدَاعِ فَقَالَ: اتَّقُوا اللَّهَ وَصَلُّوا خَمْسَكُمْ وَصُومُوا شَهْرَكُمْ وَأَدُّوا زَكَاةَ أَمْوَالِكُمْ وَأَطِيعُوا إذَا أُمِرْتُمْ تَدْخُلُوا جَنَّةَ رَبِّكُمْ» قَالَ: قُلْت لِأَبِي أُمَامَةَ مُنْذُ كَمْ سَمِعْت هَذَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -؟ فَقَالَ: سَمِعْته وَإِنَّهُ ابْنُ ثَلَاثِينَ سَنَةً. رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَرُوِيَ مِنْ حَدِيثِ غَيْرِ أَبِي أُمَامَةَ أَيْضًا (قَوْلُهُ وَالْمُرَادُ بِالْوَاجِبِ الْفَرْضُ) لِقَطْعِيَّةِ الدَّلِيلِ إمَّا مَجَازٌ فِي الْعُرْفِ بِعَلَاقَةِ الْمُشْتَرَكِ مِنْ لُزُومِ اسْتِحْقَاقِ الْعِقَابِ بِتَرْكِهِ عَدَلَ عَنْ الْحَقِيقَةِ وَهُوَ الْفَرْضُ إلَيْهِ بِسَبَبِ أَنَّ بَعْضَ مَقَادِيرِهَا وَكَيْفِيَّاتِهَا ثَبَتَتْ بِأَخْبَارِ الْآحَادِ، أَوْ حَقِيقَةٌ عَلَى مَا قَالَ بَعْضُهُمْ: إنَّ الْوَاجِبَ نَوْعَانِ: قَطْعِيٌّ، وَظَنِّيٌّ. فَعَلَى هَذَا يَكُونُ اسْمُ الْوَاجِبِ مِنْ قَبِيلِ الْمُشَكِّكِ اسْمًا أَعَمَّ وَهُوَ حَقِيقَةٌ فِي كُلِّ نَوْعٍ (قَوْلُهُ لِأَنَّ كَمَالَ الْمِلْكِ بِهَا) مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ يَقُولَ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِهَا، فَكَأَنَّهُ عَمَّمَ الْمِلْكَ فِي الْمِلْكِ يَدًا، فَلَوْ قَالَ عَلَى هَذَا التَّقْدِيرِ لِأَنَّ الْمِلْكَ بِهَا لَمْ يَصْدُقْ لِثُبُوتِهِ دُونَهَا فِي الْمُكَاتَبِ فَإِنَّهُ مَالِكٌ يَدًا إذْ لَيْسَ بِحُرٍّ، ثُمَّ لَمْ يَتَكَلَّمْ عَلَى قَيْدِ التَّمَامِ وَهُوَ مُخْرِجٌ لِمِلْكِ الْمُكَاتَبِ فَيَخْرُجُ حِينَئِذٍ مَرَّتَيْنِ، وَهَذَا أَعَمُّ إخْرَاجًا فَإِنَّهُ يُخْرِجُ أَيْضًا النِّصَابَ الْمُعَيَّنَ مِنْ السَّائِمَةِ الَّذِي تَزَوَّجَتْ عَلَيْهِ الْمَرْأَةُ وَلَمْ تَقْبِضْهُ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ فَإِنَّهُ لَا زَكَاةَ فِيهِ عَلَيْهَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، خِلَافًا لَهُمَا لِأَنَّ الْمِلْكَ وَإِنْ تَحَقَّقَ بِذَلِكَ لَكِنَّهُ غَيْرُ كَامِلٍ بِالنَّظَرِ إلَى مَا هُوَ الْمَقْصُودُ وَصَيْرُورَتُهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ يَنْبَنِي عَلَى تَمَامِ الْمَقْصُودِ بِهِ لَا عَلَى مُجَرَّدِ الْمِلْكِ وَلِذَا لَمْ يَجِبْ فِي الضِّمَارِ. وَيُخْرِجُ أَيْضًا الْمُشْتَرِي لِلتِّجَارَةِ إذَا لَمْ يَقْبِضْ حَتَّى حَالَ حَوْلٌ لَا زَكَاةَ فِيهِ إذْ لَمْ يَسْتَفِدْ مِلْكَ التَّصَرُّفِ وَكَمَالَ الْمِلْكِ بِكَوْنِهِ مُطْلَقًا لِلتَّصَرُّفِ وَحَقِيقَتُهُ مَعَ كَوْنِهِ حَاجِزًا، وَيُخْرِجُ الْمَالَ الْمُشْتَغِلَ بِالدَّيْنِ لِذَلِكَ، إذْ صَاحِبُ الدَّيْنِ مُسْتَحِقٌّ أَخْذَهُ مِنْ غَيْرِ قَضَاءٍ وَلَا رِضَاءٍ وَهَذَا يُصَيِّرُهُ كَالْوَدِيعَةِ وَالْمَغْصُوبِ، بِخِلَافِ الْمَوْهُوبِ، فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ فِي مَالِ الْهِبَةِ بَعْدَ الْحَوْلِ، وَإِنْ تَمَكَّنَ الْوَاهِبُ مِنْ الرُّجُوعِ لِأَنَّهُ لَا يَتَمَلَّكُهُ إلَّا بِقَضَاءٍ أَوْ رِضَاءٍ، وَلَا يُخْرِجُ مَا مَلَكَ بِسَبَبٍ خَبِيثٍ وَلِذَا قَالُوا: لَوْ أَنَّ سُلْطَانًا غَصَبَ مَالًا وَخَلَطَهُ صَارَ مِلْكًا لَهُ حَتَّى وَجَبَتْ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَوُرِثَ عَنْهُ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ إنَّ خَلْطَ دَرَاهِمِهِ بِدَرَاهِمِ غَيْرِهِ اسْتِهْلَاكٌ، أَمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَلَا يَضْمَنُ فَلَا يَثْبُتُ الْمِلْكُ لِأَنَّهُ فَرْعُ الضَّمَانِ، وَلَا يُورَثُ عَنْهُ لِأَنَّهُ مَالٌ مُشْتَرَكٌ، فَإِنَّمَا يُورَثُ حِصَّةُ الْمَيِّتِ مِنْهُ، وَاَللَّهُ سُبْحَانَهُ أَعْلَمُ. وَإِذْ قَدْ عَرَفْتَ هَذَا فَلَوْ قِيلَ تَجِبُ عَلَى الْمُسْلِمِ الْبَالِغِ الْمَالِكِ

(2/154)


لِأَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - قَدَّرَ السَّبَبَ بِهِ، وَلَا بُدَّ مِنْ الْحَوْلِ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ مُدَّةٍ يَتَحَقَّقُ فِيهَا النَّمَاءُ، وَقَدَّرَهَا الشَّرْعُ بِالْحَوْلِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَلِأَنَّهُ الْمُتَمَكَّنُ بِهِ مِنْ الِاسْتِنْمَاءِ لِاشْتِمَالِهِ عَلَى الْفُصُولِ الْمُخْتَلِفَةِ، وَالْغَالِبُ تَفَاوُتُ الْأَسْعَارِ فِيهَا فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَيْهِ. ثُمَّ قِيلَ: هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ، وَقِيلَ عَلَى التَّرَاخِي لِأَنَّ جَمِيعَ الْعُمْرِ وَقْتُ الْأَدَاءِ، وَلِهَذَا لَا تُضْمَنُ بِهَلَاكِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِنِصَابٍ مِلْكًا تَامًّا لَكَانَ أَوْجَزَ، إذْ يُسْتَغْنَى بِالْمَالِكِ عَنْ الْحُرِّ وَبِتَمَامِ الْمِلْكِ يَخْرُجُ الْمُكَاتَبُ وَمَنْ ذَكَرْنَاهُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَدَّرَ السَّبَبَ بِهِ) لَهُ شَوَاهِدُ كَثِيرَةٌ، وَمِنْهَا حَدِيثُ الْخُدْرِيِّ قَالَ: قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ أَوَاقٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسِ ذَوْدٍ صَدَقَةٌ، وَلَيْسَ فِيمَا دُونَ خَمْسَةِ أَوْسُقٍ صَدَقَةٌ» وَسَيَمُرُّ بِك غَيْرُهُ مِنْ الشَّوَاهِدِ (قَوْلُهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا زَكَاةَ فِي مَالٍ» إلَخْ) رَوَى مَالِكٌ وَالنَّسَائِيُّ عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «مَنْ اسْتَفَادَ مَالًا فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ» وَأَخْرَجَ أَبُو دَاوُد عَنْ عَاصِمِ بْنِ ضَمْرَةَ وَالْحَارِثُ الْأَعْوَرُ عَنْ عَلِيٍّ عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ «إذَا كَانَتْ لَكَ مِائَتَا دِرْهَمٍ وَحَالَ عَلَيْهَا الْحَوْلُ فَفِيهَا خَمْسَةُ دَرَاهِمَ» وَسَاقَ الْحَدِيثَ، وَفِيهِ بَعْدَ قَوْلِهِ فَفِيهَا نِصْفُ دِينَارٍ فَمَا زَادَ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ قَالَ: فَلَا أَدْرِي أَعَلِيٌّ يَقُولُ يَقُولُ فَبِحِسَابِ ذَلِكَ أَوْ رَفَعَهُ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَلَيْسَ فِي مَالٍ زَكَاةٌ حَتَّى يَحُولَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ، وَالْحَارِثُ وَإِنْ كَانَ مُضَعَّفًا لَكِنْ عَاصِمُ ثِقَةٌ، وَقَدْ رَوَى الثِّقَةُ أَنَّهُ رَفَعَهُ مَعَهُ فَوَجَبَ قَبُولُ رَفْعِهِ، وَرَدُّ تَصْحِيحِ وَقْفِهِ. وَرُوِيَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ وَعَائِشَةَ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ الْمُمْكِنُ مِنْ الِاسْتِنْمَاءِ) بَيَانٌ لِحِكْمَةِ اشْتِرَاطِ الْحَوْلِ شَرْعًا، وَحَقِيقَتُهُ أَنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ شَرْعِيَّةِ الزَّكَاةِ مَعَ الْمَقْصُودِ الْأَصْلِيِّ مِنْ الِابْتِلَاءِ مُوَاسَاةُ الْفُقَرَاءِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَصِيرُ هُوَ فَقِيرًا بِأَنْ يُعْطِيَ مِنْ فَضْلِ مَالِهِ قَلِيلًا مِنْ كَثِيرٍ، وَالْإِيجَابُ فِي الْمَالِ الَّذِي لَا نَمَاءَ لَهُ أَصْلًا يُؤَدِّي إلَى خِلَافِ ذَلِكَ عِنْدَ تَكَرُّرِ السِّنِينَ خُصُوصًا مَعَ الْحَاجَةِ إلَى الْإِنْفَاقِ، فَشَرْطُ الْحَوْلِ فِي الْمُعَدِّ لِلتِّجَارَةِ مِنْ الْعَبْدِ أَوْ بِخَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إيَّاهُ لَهَا لِيَتَمَكَّنَ مِنْ تَحْقِيقِهَا فِي الْوُجُودِ فَيَحْصُلَ النَّمَاءُ الْمَانِعُ مِنْ حُصُولِ ضِدِّ الْمَقْصُودِ، وَقَوْلُهُمْ فِي النَّقْدَيْنِ خُلِقَا لِلتِّجَارَةِ مَعْنَاهُ أَنَّهُمَا خُلِقَا لِلتَّوَسُّلِ بِهِمَا إلَى تَحْصِيلِ غَيْرِهِمَا، وَهَذَا لِأَنَّ الضَّرُورَةَ مَاسَةٌ فِي دَفْعِ الْحَاجَةِ وَالْحَاجَةُ فِي الْمَأْكَلِ وَالْمَشْرَبِ وَالْمَلْبَسِ وَالْمَسْكَنِ وَهَذِهِ غَيْرُ نَفْسِ النَّقْدَيْنِ، وَفِي أَخْذِهَا عَلَى التَّغَالُبِ مِنْ الْفَسَادِ مَا لَا يَخْفَى، فَخُلِقَ النَّقْدَانِ لِغَرَضِ أَنْ يُسْتَبْدَلَ بِهِمَا مَا تَنْدَفِعُ الْحَاجَةُ بِعَيْنِهِ بَعْدَ خَلْقِ الرَّغْبَةِ بِهِمَا فَكَانَا لِلتِّجَارَةِ خِلْقَةً (قَوْلُهُ ثُمَّ قِيلَ هِيَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَوْرِ لِأَنَّهُ مُقْتَضَى مُطْلَقِ الْأَمْرِ) الدَّعْوَى مَقْبُولَةٌ وَهِيَ قَوْلُ الْكَرْخِيِّ، وَالدَّلِيلُ الْمَذْكُورُ عَلَيْهَا غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَإِنَّ الْمُخْتَارَ فِي الْأُصُولِ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ وَلَا التَّرَاخِيَ، بَلْ مُجَرَّدَ طَلَبِ الْمَأْمُورِ بِهِ فَيَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ كُلٌّ مِنْ التَّرَاخِي وَالْفَوْرِ فِي الِامْتِثَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يَطْلُبْ مِنْهُ الْفِعْلَ مُقَيَّدًا بِأَحَدِهِمَا فَيَبْقَى عَلَى خِيَارِهِ فِي الْمُبَاحِ الْأَصْلِيِّ. وَالْوَجْهُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْأَمْرَ بِالصَّرْفِ إلَى الْفَقِيرِ مَعَهُ قَرِينَةُ الْفَوْرِ وَهِيَ أَنَّهُ لِدَفْعِ حَاجَتِهِ وَهِيَ مُعَجَّلَةٌ، فَمَتَى لَمْ تَجِبْ عَلَى الْفَوْرِ لَمْ يَحْصُلْ الْمَقْصُودُ مِنْ الْإِيجَابِ عَلَى وَجْهِ التَّمَامِ. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الرَّازِيّ: وُجُوبُ

(2/155)


النِّصَابِ بَعْدَ التَّفْرِيطِ.

(وَلَيْسَ عَلَى الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ زَكَاةٌ) خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ يَقُولُ: هِيَ غَرَامَةٌ مَالِيَّةٌ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الزَّكَاةِ عَلَى التَّرَاخِي لِمَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الْأَمْرِ لَا يَقْتَضِي الْفَوْرَ فَيَجُوزُ لِلْمُكَلَّفِ تَأْخِيرُهُ، وَهَذَا مَعْنَى قَوْلِهِمْ مُطْلَقُ الْأَمْرِ لِلتَّرَاخِي لَا أَنَّهُمْ يَعْنُونَ أَنَّ التَّرَاخِيَ مُقْتَضَاهُ. قُلْنَا إنْ لَمْ يَقْتَضِهِ فَالْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَّاهُ يَقْتَضِيهِ وَهُوَ ظَنِّيٌّ فَتَكُونُ الزَّكَاةُ فَرِيضَةً وَفَوْرِيَّتُهَا وَاجِبَةً فَيَلْزَمُ بِتَأْخِيرِهِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ الْإِثْمُ كَمَا صَرَّحَ بِهِ الْكَرْخِيُّ وَالْحَاكِمُ الشَّهِيدُ فِي الْمُنْتَقَى، وَهُوَ عَيْنُ مَا ذَكَرَ الْفَقِيهُ أَبُو جَعْفَرٍ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُكْرَهُ أَنْ يُؤَخِّرَهَا مِنْ غَيْرِ عُذْرٍ، فَإِنَّ كَرَاهَةَ التَّحْرِيمِ هِيَ الْمَحْمَلُ عِنْدَ إطْلَاقِ اسْمِهَا عَنْهُمْ، وَلِذَا رَدُّوا شَهَادَتَهُ إذَا تَعَلَّقَتْ بِتَرْكِ شَيْءٍ كَانَ ذَلِكَ الشَّيْءُ وَاجِبًا لِأَنَّهُمَا فِي رُتْبَةٍ وَاحِدَةٍ عَلَى مَا مَرَّ غَيْرَ مَرَّةٍ، وَكَذَا عَنْ أَبِي يُوسُفَ فِي الْحَجِّ وَالزَّكَاةِ، فَتُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِتَأْخِيرِهِمَا حِينَئِذٍ لِأَنَّ تَرْكَ الْوَاجِبِ مُفَسِّقٌ، وَإِذَا أَتَى بِهِ وَقَعَ أَدَاءً لِأَنَّ الْقَاطِعَ لَمْ يُوَقِّتْهُ بَلْ سَاكِتٌ عَنْهُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ تُرَدُّ شَهَادَتُهُ بِتَأْخِيرِ الزَّكَاةِ لَا الْحَجِّ لِأَنَّهُ خَالِصُ حَقِّ اللَّهِ تَعَالَى وَالزَّكَاةُ حَقُّ الْفُقَرَاءِ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ عَكْسُهُ، فَقَدْ ثَبَتَ عَنْ الثَّلَاثَةِ وُجُوبُ فَوْرِيَّةِ الزَّكَاةِ وَالْحَقُّ تَعْمِيمُ رَدِّ شَهَادَتِهِ لِأَنَّ رَدَّهَا مَنُوطٌ بِالْمَأْثَمِ، وَقَدْ تَحَقَّقَ فِي الْحَجِّ أَيْضًا مَا يُوجِبُ الْفَوْرَ مِمَّا هُوَ غَيْرُ الصِّيغَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُ فِي بَابِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ. وَمَا ذَكَرَ ابْنُ شُجَاعٍ عَنْ أَصْحَابِنَا أَنَّ الزَّكَاةَ عَلَى التَّرَاخِي يَجِبُ حَمْلُهُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِالنَّظَرِ إلَى دَلِيلِ الِافْتِرَاضِ: أَيْ دَلِيلُ الِافْتِرَاضِ لَا يُوجِبُهَا، وَهُوَ لَا يَنْفِي وُجُودَ دَلِيلِ الْإِيجَابِ، وَعَلَى هَذَا مَا ذَكَرُوا مِنْ أَنَّهُ إذَا شَكَّ هَلْ زَكَّى أَوْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ أَنْ يُزَكِّيَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ شَكَّ أَنَّهُ صَلَّى أَمْ لَا بَعْدَ الْوَقْتِ لَا يُعِيدُ لِأَنَّ وَقْتَ الزَّكَاةِ الْعُمْرُ، فَالشَّكُّ حِينَئِذٍ فِيهَا كَالشَّكِّ فِي الصَّلَاةِ فِي الْوَقْتِ، وَالشَّكُّ فِي الْحَجِّ مِثْلُهُ فِي الزَّكَاةِ. هَذَا وَلَا يَخْفَى عَلَى مَنْ أَنْعَمَ التَّأَمُّلَ أَنَّ الْمَعْنَى الَّذِي قَدَّمْنَاهُ لَا يَقْتَضِي الْوُجُوبَ لِجَوَازِ أَنْ يَثْبُتَ دَفْعُ الْحَاجَةِ مَعَ دَفْعِ كُلِّ مُكَلَّفٍ مُتَرَاخِيًا، إذْ بِتَقْدِيرِ اخْتِيَارِ الْكُلِّ لِلتَّرَاخِي وَهُوَ بَعِيدٌ لَا يَلْزَمُ اتِّحَادُ زَمَانِ أَدَاءِ جَمِيعِ الْمُكَلَّفِينَ فَتَأَمَّلْ. وَإِذَا أَخَّرَ حَتَّى مَرِضَ يُؤَدِّي سِرًّا مِنْ الْوَرَثَةِ وَلَوْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُ مَالٌ فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَقْرِضَ لِأَدَاءِ الزَّكَاةِ إنْ كَانَ أَكْبَرُ رَأْيِهِ أَنَّهُ يَقْدِرُ عَلَى قَضَائِهِ بِالِاجْتِهَادِ فِيهِ كَانَ الْأَفْضَلُ لَهُ الِاسْتِقْرَاضَ، وَإِنْ كَانَ ظَنُّهُ خِلَافَهُ فَالْأَفْضَلُ أَنْ لَا يَسْتَقْرِضَ لِأَنَّ خُصُومَةَ صَاحِبِ الدَّيْنِ أَشَدُّ.

(قَوْلُهُ هِيَ غَرَامَةٌ) حَاصِلُهُ إلْحَاقُ الزَّكَاةِ بِنَفَقَةِ زَوْجَةِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ وَعُشْرِ أَرْضِهِمَا وَخَرَاجِهِمَا فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي أَرْضِهِمَا الْعُشْرُ وَالْخَرَاجُ، وَكَذَا الْأَرَاضِي الْمَوْقُوفَةُ عَلَى الْمَسَاجِدِ وَجَمِيعِ جِهَاتِ الْبِرِّ وَالْجَامِعُ أَنَّهَا غَرَامَةٌ: أَيْ حَقٌّ مَالِيٌّ يَلْزَمُ بِسَبَبٍ فِي مَالِهِمَا فَيُخَاطَبُ الْوَلِيُّ بِدَفْعِهِ، وَيَدُلُّ عَلَى الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ أَيْضًا مَا رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ عَمْرِو بْنِ شُعَيْبٍ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ أَنَّ النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - خَطَبَ النَّاسَ فَقَالَ: «أَلَا مَنْ وَلِيَ يَتِيمًا لَهُ مَالٌ فَلْيَتَّجِرْ فِيهِ وَلَا يَتْرُكْهُ حَتَّى تَأْكُلَهُ الصَّدَقَةُ» قُلْنَا أَمَّا الْحَدِيثُ فَضَعِيفٌ، قَالَ التِّرْمِذِيُّ: إنَّمَا يُرْوَى الْحَدِيثُ مِنْ هَذَا الْوَجْهِ وَفِي إسْنَادِهِ مَقَالٌ لِأَنَّ الْمُثَنَّى يُضَعَّفُ فِي الْحَدِيثِ.
قَالَ صَاحِبُ التَّنْقِيحِ: قَالَ مُهَنَّأٌ: سَأَلْتُ أَحْمَدَ بْنَ حَنْبَلٍ عَنْ هَذَا الْحَدِيثِ فَقَالَ: لَيْسَ بِصَحِيحٍ. وَلِلْحَدِيثِ طَرِيقَانِ آخَرَانِ عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ وَهُمَا

(2/156)


فَتُعْتَبَرُ بِسَائِرِ الْمُؤَنِ كَنَفَقَةِ الزَّوْجَاتِ وَصَارَ كَالْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ. وَلَنَا أَنَّهَا عِبَادَةٌ فَلَا تَتَأَدَّى إلَّا بِالِاخْتِيَارِ تَحْقِيقًا لِمَعْنَى الِابْتِلَاءِ، وَلَا اخْتِيَارَ لَهُمَا لِعَدَمِ الْعَقْلِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ضَعِيفَانِ بِاعْتِرَافِهِ. وَأَمَّا الْقِيَاسُ فَنَمْنَعُ كَوْنَ مَا عَيْنُهُ تَمَامُ الْمَنَاطِ فَإِنَّهُ مَنْقُوضٌ بِالذِّمِّيِّ لَا يُؤْخَذُ مِنْ مَالِهِ زَكَاةٌ، فَلَوْ كَانَ وُجُوبُهَا بِمُجَرَّدِ كَوْنِهَا حَقًّا مَالِيًّا يَثْبُتُ لِلْغَيْرِ لَصَحَّ أَدَاؤُهَا مِنْهُ بِدُونِ الْإِسْلَامِ، بَلْ وَأُجْبِرَ عَلَيْهِ كَمَا يُجْبَرُ عَلَى دَفْعِ نَفَقَةِ زَوْجَتِهِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وَحِينَ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ عُلِمَ أَنَّهُ اُعْتُبِرَ فِيهَا وَصْفٌ آخَرُ لَا يَصِحُّ مَعَ عَدَمِهِ وَهُوَ وَصْفُ الْعِبَادَةِ الزَّائِلُ مَعَ الْكُفْرِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ» وَعَدَّ مِنْهَا الزَّكَاةَ كَالصَّلَاةِ وَالْحَجِّ وَالصَّوْمِ فَتَكُونُ مَوْضُوعَةً عَنْ الصَّبِيِّ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «رُفِعَ الْقَلَمُ عَنْ ثَلَاثَةٍ: عَنْ النَّائِمِ حَتَّى يَسْتَيْقِظَ، وَعَنْ الصَّبِيِّ حَتَّى يَحْتَلِمَ، وَعَنْ الْمَجْنُونِ حَتَّى يَعْقِلَ» .
رَوَاهُ أَبُو دَاوُد وَالنَّسَائِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَاعْتِبَارُ تَعَلُّقِ خِطَابِ الدَّفْعِ الَّذِي هُوَ عِبَادَةٌ بِالْوَلِيِّ ابْتِدَاءً لَا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ لِيَدْفَعَ بِهِ هَذَا، وَمَا يُقَالُ الْمُعْتَبَرُ فِي الْأَدَاءِ نِيَّةُ الْأَصْلِ لَا النَّائِبُ جَائِزٌ لَكِنَّ الْكَلَامَ فِي ثُبُوتِ مُفِيدِ وُقُوعِ هَذَا الْجَائِزِ، إذْ بِمُجَرَّدِ الْجَوَازِ لَا يَلْزَمُ الْوُجُودُ شَرْعًا فَلَا يُفِيدُ مَا ذَكَرُوهُ الْمَطْلُوبَ وَلَمْ يُوجَدْ، فَإِنَّ الْحَدِيثَ لَمْ يَثْبُتْ وَالْقِيَاسُ لَمْ يَصِحَّ كَمَا سَمِعْت، عَلَى أَنَّهُ لَوْ صَحَّ لَمْ يَقْتَضِ إلَّا وُجُوبَ الْأَدَاءِ عَلَى الْوَلِيِّ نِيَابَةً كَمَا هُوَ فِي الْمَقِيسِ عَلَيْهِ مِنْ نَفَقَةِ الزَّوْجَةِ، وَهَلْ يَكُونُ تَصَرُّفُ الْإِنْسَانِ فِي مَالِ غَيْرِهِ إلَّا بِطَرِيقِ النِّيَابَةِ وَبِهِ يُفَارِقُ تَصَرُّفَهُ فِي مَالِ نَفْسِهِ.
وَمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِهِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - وَعَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - مِنْ الْقَوْلِ بِوُجُوبِهَا فِي مَالِهِمَا لَا يَسْتَلْزِمُ كَوْنَهُ عَنْ سَمَاعٍ، إذْ قَدْ عَلِمْت إمْكَانَ الرَّأْيِ فِيهِ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ بِنَاءً عَلَيْهِ، فَحَاصِلُهُ قَوْلُ صَحَابِيٍّ عَنْ اجْتِهَادٍ عَارَضَهُ رَأْيُ صَحَابِيٍّ آخَرَ. قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ فِي كِتَابِ الْآثَارِ: أَخْبَرَنَا أَبُو حَنِيفَةَ، حَدَّثَنَا لَيْثُ بْنُ أَبِي سُلَيْمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ قَالَ: لَيْسَ فِي مَالِ الْيَتِيمِ زَكَاةٌ. وَلَيْثٌ كَانَ أَحَدَ الْعُلَمَاءِ الْعُبَّادِ، وَقِيلَ اخْتَلَطَ فِي آخِرِ عُمْرِهِ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَمْ يَكُنْ لِيَذْهَبَ فَيَأْخُذَ عَنْهُ فِي حَالِ اخْتِلَاطِهِ وَيَرْوِيهِ وَهُوَ الَّذِي شَدَّدَ فِي أَمْرِ الرِّوَايَةِ مَا لَمْ يُشَدِّدُهُ غَيْرُهُ عَلَى مَا عُرِفَ.
وَرُوِيَ مِثْلُ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ تَفَرَّدَ بِهِ ابْنُ لَهِيعَةَ، وَفِي ابْنِ لَهِيعَةَ مَا قَدَّمْنَاهُ غَيْرَ مَرَّةٍ. وَحَاصِلُ مَا نَقُولُ فِي نَفْيِ الزَّكَاةِ عَنْهُمَا أَنَّ نَفْيَ الْعِبَادَةِ عَنْهُمَا بِالنَّافِي الثَّابِتِ وَعَنْ وَلِيِّهِمَا ابْتِدَاءً عَلَى الْعَدَمِ الْأَصْلِيِّ لِعَدَمِ سَلَامَةِ مَا يُفِيدُ ثُبُوتَهُ عَلَيْهِ ابْتِدَاءً.
وَأَمَّا إلْحَاقُهُمَا بِالْمُكَاتَبِ فِي نَفْيِ الْوُجُوبِ

(2/157)


بِخِلَافِ الْخَرَاجِ لِأَنَّهُ مُؤْنَةُ الْأَرْضِ. وَكَذَا الْغَالِبُ فِي الْعُشْرِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ تَابِعٌ، وَلَوْ أَفَاقَ فِي بَعْضِ السَّنَةِ فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ إفَاقَتِهِ فِي بَعْضِ الشَّهْرِ مِنْ الصَّوْمِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِجَامِعِ نُقْصَانِ الْمِلْكِ لِثُبُوتِ لَازِمِ النُّقْصَانِ مِنْ عَدَمِ جَوَازِ تَبَرُّعَاتِهِمَا بَلْ أَدْنَى لِعَدَمِ نَفَاذِ تَصَرُّفَاتِهِمَا فِيهِ، بِخِلَافِ الْمُكَاتَبِ فَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الْمُؤَثِّرَ فِي عَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الْمُكَاتَبِ لَيْسَ عَدَمُ جَوَازِ التَّبَرُّعِ وَلَا النُّقْصَانُ الْمُسَبَّبُ عَنْهُ، بَلْ النُّقْصَانُ الْمُسَبَّبُ عَنْ كَوْنِهِ مَدْيُونًا أَوْ لِأَنَّ مِلْكَهُ بِاعْتِبَارِ الْيَدِ فَقَطْ لِلتَّرَدُّدِ فِي قَرَارِ الْمِلْكِ لِتَجْوِيزِ عَجْزِهِ فَيَصِيرُ لِلسَّيِّدِ مِلْكًا وَهُوَ لَيْسَ مِلْكًا حَقِيقِيًّا أَصْلًا، بِخِلَافِ الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ بَقِيَ إيرَادُ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ يَتَوَجَّهُ عَلَى وَجْهِ الْإِلْزَامِ فَلَوْ تَمَّ وَاعْتَرَفْنَا بِالْخَطَإِ فِي إيجَابِهِمَا فِي أَرْضِهِمَا لَمْ يَضُرَّنَا فِي الْمُتَنَازَعِ فِيهِ، ثُمَّ جَوَابُهُ عَدَمُ مَعْنَى الْعِبَادَةِ فِي الْخَرَاجِ بَلْ هِيَ مُؤْنَةٌ مَحْضَةٌ فِي الْأَرْضِ وَقُصُورُهُ فِي الْعُشْرِ لِأَنَّ الْغَالِبَ فِيهِ مَعْنَى الْمُؤْنَةِ. وَمَعْنَى الْعِبَادَةِ فِيهِ تَابِعٌ.
فَالْمَالِكُ مَلَكَهُمَا بِمُؤْنَتِهِمَا كَمَا يَمْلِكُ الْعَبْدَ مِلْكًا مُصَاحِبًا بِهَا لِأَنَّ الْمُؤْنَةَ سَبَبُ بَقَائِهِ فَتَثْبُتُ مَعَ مِلْكِهِ، وَكَذَا الْخَرَاجُ سَبَبُ بَقَاءِ الْأَرَاضِي فِي أَيْدِ مُلَّاكِهَا لِأَنَّ سَبَبَهُ بَقَاءُ الذَّبِّ عَنْ حَوْزَةِ دَارِ الْإِسْلَامِ وَهُوَ بِالْمُقَاتَلَةِ وَبَقَاؤُهُمْ بِمُؤْنَتِهِمْ وَالْخَرَاجُ مُؤْنَتُهُمْ بِاتِّفَاقِ الصَّحَابَةِ عَلَى جَعْلِهِ فِي ذَلِكَ وَالْعُشْرُ لِلْفُقَرَاءِ لِذَبِّهِمْ بِالدُّعَاءِ. قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «إنَّمَا تُنْصَرُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِضَعِيفِهَا بِدَعْوَتِهِمْ» الْحَدِيثَ.
وَالزَّكَاةُ وَإِنْ كَانَتْ أَيْضًا لِلْفُقَرَاءِ لَكِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ إيجَابِ دَفْعِهَا إلَيْهِمْ فِي حَقِّهِ الِابْتِلَاءُ بِالنَّصِّ الْمُفِيدِ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً مَحْضَةً وَهُوَ «بُنِيَ الْإِسْلَامُ» الْحَدِيثَ. وَفِي حَقِّهِمْ سَدُّ حَاجَتِهِمْ وَالْمَنْظُورُ إلَيْهِ فِي عُشْرِ الْأَرَاضِيِ الثَّانِي لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ فِيهِ صَرِيحٌ يُوجِبُ كَوْنَهُ عِبَادَةً مَحْضَةً، وَقَدْ عُهِدَ تَقْرِيرُ الْمُؤْنَةِ فِي الْأَرْضِ فَيَكُونُ مَحِلُّ النَّظَرِ عَلَى الْمَعْهُودِ، غَيْرَ أَنَّ خُصُوصَ الْمَصْرِفِ وَهُمْ الْفُقَرَاءُ يُوجِبُ فِيهِ مَعْنَى الْعِبَادَةِ، وَهَذَا الْقَدْرُ لَا يَسْتَلْزِمُ سِوَى أَدْنَى مَا يَتَحَقَّقُ بِهِ مَعْنَاهَا وَهُوَ بِكَوْنِهِ تَبَعًا فَكَانَ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ وَلَوْ أَفَاقَ) أَيْ الْمَجْنُونُ. اعْلَمْ أَنَّ الْوُجُوبَ مُطْلَقًا لَا يَسْقُطُ بِالْعَجْزِ عَنْ الْأَدَاءِ لِلْعَجْزِ عَنْ اسْتِعْمَالِ الْعَقْلِ، بَلْ إذَا كَانَ حُكْمُهُ وَهُوَ وُجُوبُ الْأَدَاءِ يَتَعَذَّرُ مُتَعَلِّقُهُ وَهُوَ الْأَدَاءُ امْتِثَالًا مَعَ عَدَمِ الْعَقْلِ بِشَرْطِ تَذَكُّرِهِ نَحْوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ

(2/158)


وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ يُعْتَبَرُ أَكْثَرُ الْحَوْلِ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَالْعَارِضِيِّ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ مَجْنُونًا يُعْتَبَرُ الْحَوْلُ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ بِمَنْزِلَةِ الصَّبِيِّ إذَا بَلَغَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مِنْ إيجَابِهَا إيجَابُ نَفْسِ الْفِعْلِ ابْتِلَاءً لِيَظْهَرَ الْعَاصِي مِنْ الْمُطِيعِ، وَهَذَا لَا يَتَحَقَّقُ إلَّا عَنْ اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ وَهُوَ لَا يُمْكِنُ بِدُونِ الْعَقْلِ، وَإِنَّمَا انْتَفَى الْوُجُوبُ لِانْتِفَاءِ حُكْمِهِ لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ مِنْهُ وَإِنْ وُجِدَ السَّبَبُ كَمَا يَنْتَفِي لِانْتِفَاءِ مَحَلِّهِ، بِخِلَافِ مَا الْمَقْصُودُ مِنْهُ الْمَالُ وَوُصُولُهُ إلَى مُعَيَّنٍ كَالْخَرَاجِ وَالنَّفَقَاتِ وَضَمَانِ الْمُتْلَفَاتِ وَالْعُشْرِ فَإِنَّهُ لَا يَتَعَذَّرُ مَعَهُ حُكْمُهُ وَهُوَ الْإِيصَالُ فَإِنَّهُ مِمَّا يَحْصُلُ بِالنَّائِبِ فَأَمْكَنَ ثُبُوتُ حُكْمِ الْوُجُوبِ مُطْلَقًا: أَعْنِي وُجُوبَ الْأَدَاءِ دُونَ عَقْلٍ، بِخِلَافِ الْعِبَادَاتِ الْمَحْضَةِ فَإِنَّ اخْتِيَارَ النَّائِبِ لَيْسَ هُوَ اخْتِيَارُ الْمُسْتَنِيبِ فَلَا يَظْهَرُ بِفِعْلِهِ طَاعَةُ مَنْ عَلَيْهِ إلَّا إذَا كَانَ اسْتَنَابَهُ عَنْ اخْتِيَارٍ صَحِيحٍ وَلَا يَكُونُ ذَلِكَ إلَّا بِالْعَقْلِ، ثُمَّ مَا يَتَعَذَّرُ الْأَدَاءُ فِيهِ عِنْدَ عَدَمِ الْعَقْلِ إنَّمَا يُسْقِطُ الْوُجُوبَ بِشَرْطَيْنِ أَنْ يَكُونَ الْجُنُونُ أَصْلِيًّا وَهُوَ الْمُتَّصِلُ بِالصَّبِيِّ إنْ بَلَغَ مَجْنُونًا أَوْ عَارِضِيًّا طَالَ، وَأَنْ يَكُونَ تَبْقِيَةُ الْوُجُوبِ يَسْتَلْزِمُ الْحَرَجَ فِي فِعْلِ الْمَأْمُورِ بِهِ، أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ الْعَارِضَ إذَا لَمْ يَطُلْ عُدَّ عَدَمًا شَرْعًا كَالنَّوْمِ لَا يُسْقِطُ الْوُجُوبَ، وَيَجِبُ عَلَى النَّائِمِ الْقَضَاءُ وَذَلِكَ لِأَنَّهُ يُتَوَقَّعُ زَوَالُهُ فِي كُلِّ سَاعَةٍ، بِخِلَافِ الطَّوِيلِ فِي الْعَادَةِ.
وَالْجُنُونُ يَنْقَسِمُ إلَى مَدِيدٍ وَقَصِيرٍ فَأُلْحِقَ الْمَدِيدُ بِالصِّبَا فَيَسْقُطُ مَعَهُ أَصْلُ الْوُجُوبِ، وَالْقَصِيرُ بِالنَّوْمِ بِجَامِعِ أَنَّ كُلًّا عُذْرٌ يُعْجِزُ عَنْ الْأَدَاءِ زَالَ قَبْلَ الِامْتِدَادِ.
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْوُجُوبَ لِفَائِدَتِهِ وَهِيَ الْأَدَاءُ أَوْ الْقَضَاءُ، فَمَا لَمْ يَتَعَذَّرْ الْأَوَّلُ وَيَثْبُتُ طَرِيقُ تَعَذُّرِ الثَّانِي لَا تَنْتَفِي الْفَائِدَةُ فَلَا يَنْتَفِي هُوَ، وَطَرِيقُ تَعَذُّرِهِ أَنْ يَسْتَلْزِمَ حَرَجًا وَهُوَ بِالْكَثْرَةِ وَلَا نِهَايَةَ لَهَا، فَاعْتَبَرْنَا الدُّخُولَ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ، فَلِذَا قَدَّرْنَاهُ فِي الصَّلَاةِ بِالسِّتِّ عَلَى مَا مَرَّ فِي بَابِ صَلَاةِ الْمَرِيضِ، وَفِي الصَّوْمِ بِأَنْ يَسْتَوْعِبَ الشَّهْرَ.
وَفِي الزَّكَاةِ أَنْ يَسْتَغْرِقَ الْحَوْلَ عِنْدَ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي يُوسُفَ وَأَبِي حَنِيفَةَ وَهُوَ الْأَصَحُّ لِأَنَّ الزَّكَاةَ تَدْخُلُ فِي حَدِّ التَّكْرَارِ بِدُخُولِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ، وَفِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ التَّكْرَارَ بِخُرُوجِ الثَّانِيَةِ لَا بِدُخُولِهَا لِأَنَّ شَرْطَ الْوُجُوبِ أَنْ يَتِمَّ الْحَوْلُ، فَالْأَوْلَى أَنَّ الْمُعْتَبَرَ فِي الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ نَفْسُ وَقْتِهِمَا وَوَقْتُهُمَا مَدِيدٌ فَاعْتُبِرَ نَفْسُهُ، فَقُلْنَا إنَّمَا يَسْقُطُ بِاسْتِيعَابِ الْجُنُونِ وَقْتُهُمَا، حَتَّى لَوْ كَانَ مُفِيقًا فِي جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ وَجُنَّ فِي بَاقِي أَيَّامِهِ لَزِمَهُ قَضَاءُ كُلِّهِ. وَفِي الزَّكَاةِ فِي السَّنَةِ كُلِّهَا.
وَرَوَى هِشَامُ بْنُ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ امْتِدَادَ الْجُنُونِ بِوُجُودِهِ فِي أَكْثَرِ السَّنَةِ وَنِصْفِ السَّنَةِ مُلْحَقٌ بِالْأَقَلِّ لِأَنَّ كُلَّ وَقْتِهَا الْحَوْلُ لَكِنَّهُ مَدِيدٌ جِدًّا فَقَدَّرْنَا بِهِ، وَالْأَكْثَرُ يُقَامُ مَقَامَ الْكُلِّ فَقَدَّرْنَا بِهِ تَيْسِيرًا، فَإِنَّ اعْتِبَارَ أَكْثَرِهِ أَخَفُّ

(2/159)


(وَلَيْسَ عَلَى الْمُكَاتَبِ زَكَاةٌ) لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ لِوُجُودِ الْمُنَافِي وَهُوَ الرِّقُّ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ أَنْ يُعْتِقَ عَبْدَهُ.

(وَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ يُحِيطُ بِمَالِهِ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: تَجِبُ لِتَحَقُّقِ السَّبَبِ وَهُوَ مِلْكُ نِصَابٍ تَامٍّ. وَلَنَا أَنَّهُ مَشْغُولٌ بِحَاجَتِهِ الْأَصْلِيَّةِ فَاعْتُبِرَ مَعْدُومًا كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ بِالْعَطَشِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمَهْنَةِ (وَإِنْ كَانَ مَالُهُ أَكْثَرَ مِنْ دَيْنِهِ زَكَّى الْفَاضِلَ إذَا بَلَغَ نِصَابًا) لِفَرَاغِهِ عَنْ الْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَلَى الْمُكَلَّفِ مِنْ اعْتِبَارِ الْكُلِّ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ إلَى السُّقُوطِ، وَالنِّصْفُ مُلْحَقٌ بِالْأَقَلِّ.
ثُمَّ إنَّ مُحَمَّدًا لَا يُفَرِّقُ بَيْنَ الْأَصْلِيِّ وَهُوَ الْمُتَّصِلُ بِزَمَنِ الصِّبَا بِأَنْ جُنَّ قَبْلَ الْبُلُوغِ فَبَلَغَ مَجْنُونًا، وَالْعَارِضِ بِأَنْ بَلَغَ عَاقِلًا ثُمَّ جُنَّ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الْحُكْمِ وَهُوَ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ، وَخَصَّ أَبُو يُوسُفَ الْحُكْمَ الْمَذْكُورَ بِالْعَارِضِ لِأَنَّهُ الْمُلْحَقُ بِالْعَوَارِضِ، أَمَّا الْأَصْلِيُّ فَحُكْمُهُ حُكْمُ الصِّبَا عِنْدَهُ فَيَسْقُطُ الْوُجُوبُ وَإِنْ قَلَّ، وَيَعْتَبِرُ ابْتِدَاءَ الْحَوْلِ مِنْ وَقْتِ الْإِفَاقَةِ كَمَا يَعْتَبِرُ ابْتِدَاءَهُ مِنْ وَقْتِ الْبُلُوغِ وَيَجِبُ بَعْدَ الْإِفَاقَةِ مَا بَقِيَ مِنْ الصَّوْمِ لَا مَا مَضَى مِنْ الشَّهْرِ، وَلَا يَجِبُ مَا مَضَى مِنْ الصَّلَاةِ مِمَّا هُوَ أَقَلُّ مِنْ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ بَعْدَ الْبُلُوغِ، وَقِيلَ عَلَى الْعَكْسِ.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَيْضًا كَمَا ذَكَرَ الْمُصَنِّفُ وَصَاحِبُ الْإِيضَاحِ. وَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ الْمَجْنُونَ قَبْلَ الْبُلُوغِ فِي وَقْتِ نُقْصَانِ الدِّمَاغِ لِآفَةٍ مَانِعَةٍ لَهُ عَنْ قَبُولِ الْكَمَالِ مُبْقِيَةٍ لَهُ عَلَى ضَعْفِهِ الْأَصْلِيِّ فَكَانَ أَمْرًا أَصْلِيًّا فَلَا يُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْعَدَمِ كَالصَّبِيِّ، بِخِلَافِ الْحَاصِلِ بَعْدَ الْبُلُوغِ فَإِنَّهُ مُعْتَرِضٌ عَلَى الْمَحَلِّ الْكَامِلِ بِلُحُوقِهِ آفَةً عَارِضَةً فَيُمْكِنُ إلْحَاقُهُ بِالْعَدَمِ عِنْدَ انْتِفَاءِ الْحَرَجِ كَالنَّوْمِ.
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: الْجُنُونُ مُطْلَقًا عَارِضِيٌّ لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي الْجِبِلَّةِ السَّلَامَةُ بَلْ كَانَتْ مُتَحَقِّقَةً فِي الْوُجُودِ وَفَوَاتُهَا إنَّمَا يَكُون بِعَارِضٍ وَالْجُنُونُ يُفَوِّتُهَا فَكَانَ عَارِضًا، وَالْحُكْمُ فِي الْعَارِضِ أَنَّهُ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ إذَا امْتَدَّ وَإِلَّا فَلَا.

(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِمَالِكٍ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ) أَحْسَنُ مِنْ تَعْلِيلِهِمْ بِأَنَّهُ مَصْرِفُ الزَّكَاةَ بِالنَّصِّ لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فِي الْعَقْلِ بَيْنَ إيجَابِ الصَّدَقَةِ عَلَى مَنْ جَوَّزَ لَهُ أَخْذَهَا وَلَا فِي الشَّرْعِ كَابْنِ السَّبِيلِ هَذَا. وَأَمَّا الْعَبْدُ الْمَأْذُونُ، فَإِنْ كَانَ يَمْلِكُهُ فَهُوَ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ، وَإِنْ كَانَ يَفْضُلُ عَنْ دَيْنِهِ قَدْرَ نِصَابٍ فَعَلَى الْمَوْلَى زَكَاتُهُ، وَكَذَا إنْ فَضَلَ أَقَلُّ وَعِنْدَ الْمَوْلَى مَالٌ آخَرُ ضَمَّهُ إلَيْهِ وَزَكَّى الْجَمِيعَ.

(قَوْلُهُ وَلَنَا أَنَّهُ مَشْغُولٌ) يَتَضَمَّنُ تَسْلِيمَ أَنَّهُ نِصَابٌ تَامٌّ لِأَنَّهُ مُرْجِعٌ ضَمِيرَ أَنَّهُ ثُمَّ مَنَعَ اسْتِقْلَالَهُ بِالْحُكْمِ بِإِبْدَاءِ انْتِفَاءِ جُزْءِ الْعِلَّةِ بِادِّعَاءِ أَنَّ السَّبَبَ النِّصَابُ الْفَارِغُ عَنْ الشُّغْلِ أَوْ إبْدَاءِ الْمَانِعِ عَلَى تَقْدِيرِ اسْتِقْلَالِهِ عَلَى قَوْلِ مُخَصَّصِي الْعِلَّةِ

(2/160)


وَالْمُرَادُ بِهِ دَيْنٌ لَهُ مُطَالِبٌ مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ حَتَّى لَا يَمْنَعَ دَيْنٌ النَّذْرَ وَالْكَفَّارَةَ، وَدَيْنُ الزَّكَاةِ مَانِعٌ حَالَ بَقَاءِ النِّصَابِ لِأَنَّهُ يُنْتَقَصُ بِهِ النِّصَابُ، وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ خِلَافًا لِزُفَرَ فِيهِمَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَإِنَّمَا اعْتَبَرْنَا عَدَمَ الشُّغْلِ فِي الْمُوجِبِ لِأَنَّ مَعَهُ يَكُونُ مُسْتَحِقًّا بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَهُوَ دَفْعُ الْمُطَالَبَةِ وَالْمُلَازَمَةِ وَالْحَبْسِ فِي الْحَالِ وَالْمُؤَاخَذَةِ فِي الْمَآلِ، إذْ الدَّيْنُ حَائِلٌ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجَنَّةِ، وَأَيُّ حَاجَةٍ أَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ فَصَارَ كَالْمَاءِ الْمُسْتَحَقِّ الْعَطَشِ وَثِيَابِ الْبِذْلَةِ، وَذَلِكَ مُعْتَبَرٌ مَعْدُومًا حَتَّى جَازَ التَّيَمُّمُ مَعَ ذَلِكَ الْمَاءِ وَلَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ وَإِنْ بَلَغَتْ ثِيَابُ الْبِذْلَةِ نُصُبًا.
وَمَا فِي الْكَافِي مِنْ إثْبَاتِ الْمُنَافَاةِ الشَّرْعِيَّةِ بَيْنَ وُجُوبِ الزَّكَاةِ عَلَى الْإِنْسَانِ وَحِلِّ أَخْذِهَا لَهُ فِيهِ نَظَرٌ لِمَا بَيَّنَّا مِنْ عَدَمِهَا شَرْعًا كَمَا فِي ابْنِ السَّبِيلِ يَجِبُ عَلَيْهِ وَيَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا. وَتَقْرِيرُهُ بِأَنَّهُ إنْ كَانَ غَنِيًّا حُرِّمَ الْأَخْذُ عَلَيْهِ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ» وَإِلَّا حُرِّمَ الْأَخْذُ مِنْهُ لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صَدَقَةَ إلَّا عَنْ ظَهْرِ غِنًى» فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّا نَخْتَارُ الشِّقَّ الْأَوَّلَ وَنَمْنَعُ كَوْنَ الْغِنَى الشَّرْعِيِّ مُنْحَصِرٌ فِيمَا يُحَرِّمُ الْأَخْذَ، وَقَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ» لِغَنِيٍّ مَخْصُوصٌ بِالْإِجْمَاعِ بِابْنِ السَّبِيلِ، فَجَازَ تَخْصِيصُهُ بِالْقِيَاسِ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ مَرَّةً أُخْرَى. قَالَ الْمَشَايِخُ: وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ عُمَرَ وَعُثْمَانَ، وَكَانَ عُثْمَانُ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - يَقُولُ: هَذَا شَهْرُ زَكَاتِكُمْ، فَمَنْ كَانَ عَلَيْهِ دَيْنٌ فَلْيُؤَدِّ دَيْنَهُ حَتَّى تَخْلُصَ أَمْوَالُهُ، فَيُؤَدِّيَ مِنْهَا الزَّكَاةَ بِمَحْضَرٍ مِنْ الصَّحَابَةِ مِنْ غَيْرِ نَكِيرٍ، ثُمَّ إذَا سَقَطَ الدَّيْنُ كَأَنْ أَبْرَأَ الدَّائِنُ مَنْ عَلَيْهِ الدَّيْنُ اُعْتُبِرَ ابْتِدَاءُ الْحَوْلِ مِنْ حِينِ سُقُوطِهِ.
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: تَجِبُ الزَّكَاةُ عِنْدَ تَمَامِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ الدَّيْنَ يَمْنَعُ الْوُجُوبَ لِلْمُطَالَبَةِ، وَبِالْإِبْرَاءِ تَبَيَّنَ أَنَّهُ لَا مُطَالَبَةَ فَصَارَ كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ: الْحَوْلُ لَمْ يَنْعَقِدْ عَلَى نِصَابِ الْمَدْيُونِ فَإِنَّهُ مُسْتَحِقٌّ لِحَاجَتِهِ فَهُوَ كَالْمَعْدُومِ (قَوْلُهُ حَتَّى لَا يَمْنَعَ دَيْنَ النَّذْرِ وَالْكَفَّارَةِ) وَكَذَا دَيْنُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْحَجِّ وَهَدْيِ التَّمَتُّعِ وَالْأُضْحِيَّةِ لِعَدَمِ الْمُطَالِبِ، بِخِلَافِ الْعُشْرِ وَالْخَرَاجِ وَنَفَقَةٍ فُرِضَتْ عَلَيْهِ لِوُجُودِ الْمُطَالِبِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ الْتَقَطَ وَعَرَفَهَا سَنَةً ثُمَّ تَصَدَّقَ بِهَا حَيْثُ تَجِبُ عَلَيْهِ زَكَاةُ مَالِهِ لِأَنَّ الدَّيْنَ لَيْسَ مُتَيَقَّنًا لِاحْتِمَالِ إجَازَةِ صَاحِبِ الْمَالِ الصَّدَقَةَ (قَوْلُهُ وَدَيْنُ الزَّكَاةِ مَانِعٌ حَالَ بَقَاءِ النِّصَابِ) صُورَتُهُ: لَهُ نِصَابٌ حَالَ عَلَيْهِ حَوْلَانِ لَمْ يُزَكِّهِ فِيهِمَا لَا زَكَاةَ عَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي لِأَنَّ خَمْسَةً مِنْهُ مَشْغُولَةٌ بِدَيْنِ الْحَوْلِ الْأَوَّلِ فَلَمْ يَكُنْ الْفَاضِلُ فِي الْحَوْلِ الثَّانِي عَنْ الدَّيْنِ نِصَابًا كَامِلًا، وَلَوْ كَانَ لَهُ خَمْسٌ وَعِشْرُونَ مِنْ الْإِبِلِ لَمْ يُزَكِّهَا حَوْلَيْنِ كَانَ عَلَيْهِ فِي الْحَوْلِ الْأُولَى بِنْتُ مَخَاضٍ وَلِلْحَوْلِ الثَّانِي أَرْبَعُ شِيَاهٍ (قَوْلُهُ وَكَذَا بَعْدَ الِاسْتِهْلَاكِ) صُورَتُهُ: لَهُ نِصَابٌ حَالَ عَلَيْهِ

(2/161)


وَلِأَبِي يُوسُفَ فِي الثَّانِي عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا لِأَنَّهَا وَهُوَ الْإِمَامُ فِي السَّوَائِمِ وَنَائِبُهُ فِي أَمْوَالِ التِّجَارَةِ فَإِنَّ الْمُلَّاكَ نُوَّابُهُ.

(وَلَيْسَ فِي دُورِ السُّكْنَى وَثِيَابِ الْبَدَنِ وَأَثَاثِ الْمَنَازِلِ وَدَوَابِّ الرُّكُوبِ وَعَبِيدِ الْخِدْمَةِ وَسِلَاحِ الِاسْتِعْمَالِ زَكَاةٌ) لِأَنَّهَا مَشْغُولَةٌ بِالْحَاجَةِ الْأَصْلِيَّةِ وَلَيْسَتْ بِنَامِيَةٍ أَيْضًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْحَوْلُ فَلَمْ يُزَكِّهِ ثُمَّ اسْتَهْلَكَهُ ثُمَّ اسْتَفَادَ غَيْرَهُ وَحَالَ عَلَى النِّصَابِ الْمُسْتَفَادِ الْحَوْلُ لَا زَكَاةَ فِيهِ لِاشْتِغَالِ خَمْسَةٍ مِنْهُ بِدَيْنِ الْمُسْتَهْلِكِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ كَانَ الْأَوَّلُ لَمْ يَسْتَهْلِكْ بَلْ هَلَكَ فَإِنَّهُ يَجِبُ فِي الْمُسْتَفَادِ لِسُقُوطِ زَكَاةِ الْأَوَّلِ بِالْهَلَاكِ، وَبِخِلَافِ مَا لَوْ اسْتَهْلَكَهُ قَبْلَ الْحَوْلِ حَيْثُ لَا يَجِبُ شَيْءٌ.
وَمِنْ فُرُوعِهِ: إذَا بَاعَ نِصَابَ السَّائِمَةِ قَبْلَ الْحَوْلِ بِيَوْمٍ بِسَائِمَةٍ مِثْلِهَا أَوْ مِنْ جِنْسٍ آخَرَ أَوْ بِدَرَاهِمَ يُرِيدُ بِهِ الْفِرَارَ مِنْ الصَّدَقَةِ، أَوْ لَا يُرِيدُ لَمْ تَجِبْ الزَّكَاةُ عَلَيْهِ فِي الْبَدَلِ إلَّا بِحَوْلٍ جَدِيدٍ أَوْ يَكُونُ لَهُ مَا يَضُمُّهُ إلَيْهِ فِي صُورَةِ الدَّرَاهِمِ، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ اسْتِبْدَالَ السَّائِمَةِ بِغَيْرِهَا مُطْلَقًا اسْتِهْلَاكٌ، بِخِلَافِ غَيْرِ السَّائِمَةِ (قَوْلُهُ عَلَى مَا رُوِيَ عَنْهُ) هِيَ رِوَايَةُ أَصْحَابِ الْإِمْلَاءِ، وَلَمَّا لَمْ تَكُنْ ظَاهِرُ الرِّوَايَةِ عَنْهُ مَرَّضَهَا.
وَوَجْهُ الْفَرْقِ أَنَّ دَيْنَ الْمُسْتَهْلِكِ لَا مُطَالِبَ لَهُ مِنْ الْعِبَادِ، بِخِلَافِ دَيْنِ الْقَائِمِ فَإِنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَمُرَّ عَلَى الْعَاشِرِ فَيُطَالِبَهُ وَلَا كَذَلِكَ الْمُسْتَهْلِكُ (قَوْلُهُ لِأَنَّ لَهُ مُطَالِبًا) مِنْ جِهَةِ الْعِبَادِ لِأَنَّ الْمُلَّاكَ نُوَّابُهُ، وَذَلِكَ أَنَّ ظَاهِرَ قَوْله تَعَالَى {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً} [التوبة: 103] الْآيَةَ تُوجِبُ حَقَّ أَخْذِ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا لِلْإِمَامِ، وَعَلَى هَذَا كَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَالْخَلِيفَتَانِ بَعْدَهُ، فَلَمَّا وَلِيَ عُثْمَانُ وَظَهَرَ تَغَيُّرُ النَّاسِ كَرِهَ أَنْ تُفَتِّشَ السُّعَاةُ عَلَى النَّاسِ مَسْتُورَ أَمْوَالِهِمْ فَفَوَّضَ الدَّفْعَ إلَى الْمُلَّاكِ نِيَابَةً عَنْهُ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ الصَّحَابَةُ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ، وَهَذَا لَا يُسْقِطُ طَلَبَ الْإِمَامِ أَصْلًا، وَلِذَا لَوْ عَلِمَ أَنَّ أَهْلَ بَلْدَةٍ لَا يُؤَدُّونَ زَكَاتَهُمْ طَالَبَهُمْ بِهَا، فَلَا فَرْقَ بَيْنِ كَوْنِ الدَّيْنِ بِطَرِيقِ الْأَصَالَةِ أَوْ الْكَفَالَةِ حَتَّى لَا يَجِبَ عَلَيْهِمَا الزَّكَاةُ، بِخِلَافِ الْغَاصِبِ وَغَاصِبِ الْغَاصِبِ حَيْثُ يَجِبُ عَلَى الْغَاصِبِ فِي مَالِهِ دُونَ مَالِ غَاصِبِ الْغَاصِبِ لِأَنَّ الْغَاصِبَ إنْ ضَمِنَ يَرْجِعُ عَلَى غَاصِبِهِ بِخِلَافِ غَاصِبِهِ، وَإِنَّمَا فَارَقَ الْغَصْبُ الْكَفَالَةَ وَإِنْ كَانَ فِي الْكَفَالَةِ بِأَمْرِ الْأَصِيلِ يَرْجِعُ الْكَفِيلُ إذَا أَدَّى كَالْغَاصِبِ لِأَنَّ فِي الْغَصْبِ لَيْسَ لَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا جَمِيعًا، بَلْ إذَا اخْتَارَ تَضْمِينَ أَحَدِهِمَا يَبْرَأُ الْآخَرُ؛ أَمَّا فِي الْكَفَالَةِ فَلَهُ أَنْ يُطَالِبَهُمَا مَعًا فَكَانَ كُلٌّ مُطَالَبًا بِالدَّيْنِ؛ وَكَمَا يَمْنَعُ دَيْنٌ الزَّكَاةَ يَمْنَعُ دَيْنٌ الْعُشْرَ وَالْخَرَاجَ وَقَدْ تَقَدَّمَ لَنَا.
وَمِنْ فُرُوعِ دَيْنِ النَّذْرِ: لَوْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ فَنَذَرَ أَنْ يَتَصَدَّقَ بِمِائَةٍ مِنْهُ وَلَمْ يَتَصَدَّقْ حَتَّى حَالَ الْحَوْلُ وَجَبَ عَلَيْهِ

(2/162)


وَعَلَى هَذَا كُتُبُ الْعِلْمِ لِأَهْلِهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
خَمْسَةٌ لِزَكَاتِهِ ثُمَّ يُخْرِجُهُ عَنْ عُهْدَةِ نَذْرِ تِلْكَ الْمِائَةِ التَّصَدُّقُ بِسَبْعَةٍ وَتِسْعِينَ وَنِصْفٍ لِأَنَّهُ نَذَرَ التَّصَدُّقَ بِعَيْنِ دَرَاهِمَ اسْتَحَقَّ مِنْهَا دِرْهَمَانِ وَنِصْفٌ، وَلَوْ اسْتَحَقَّ عَيْنَ الْمَنْذُورِ بِهِ كُلَّهُ سَقَطَ فَكَذَا بَعْضُهُ، وَلَوْ كَانَ أَطْلَقَ النَّذْرَ فَلَمْ يُضِفْ الْمِائَةَ إلَى ذَلِكَ النِّصَابِ لَزِمَهُ بَعْدَ الْخَمْسَةِ تَمَامَ الْمِائَةِ، ثُمَّ إنْ كَانَ لِلْمَدْيُونِ نُصُبٌ يَصْرِفُ الدَّيْنَ إلَى أَيْسَرِهَا قَضَاءً فَإِذَا كَانَ لَهُ دَرَاهِمُ وَدَنَانِيرُ وَعُرُوضٌ وَدَيْنُهُ غَيْرُ مُسْتَغْرِقٍ صَرَفَ إلَى الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ أَوَّلًا، إذْ الْقَضَاءُ مِنْهُمَا أَيْسَرُ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَاجُ إلَى بَيْعِهِمَا، وَلِأَنَّهُ لَا تَتَعَلَّقُ الْمَصْلَحَةُ بِعَيْنِهِمَا وَلِأَنَّهُمَا لِقَضَاءِ الْحَوَائِجِ وَقَضَاءُ الدَّيْنِ أَهَمُّهَا، وَلِأَنَّ لِلْقَاضِي أَنْ يَقْضِيَ مِنْهُمَا جَبْرًا، وَلِلْغَرِيمِ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمَا إذَا ظَفِرَ بِهِمَا وَهُمَا مِنْ جِنْسِ حَقِّهِ، فَإِنْ فَضَلَ الدَّيْنُ عَنْهُمَا أَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مِنْهُمَا شَيْءٌ صَرَفَ لِلْعُرُوضِ لِأَنَّهَا عُرْضَةٌ لِلْبَيْعِ، بِخِلَافِ السَّوَائِمِ لِأَنَّهَا لِلَّبَنِ وَالنَّسْلِ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ عُرُوضٌ أَوْ فَضَلَ الدَّيْنُ عَنْهُمَا صَرَفَ إلَى السَّوَائِمِ، فَإِنْ كَانَتْ أَجْنَاسًا صَرَفَ إلَى أَقَلِّهَا زَكَاةً نَظَرًا لِلْفُقَرَاءِ، فَإِنْ كَانَتْ أَرْبَعِينَ شَاةً وَخَمْسًا مِنْ الْإِبِلِ، وَثَلَاثِينَ مِنْ الْبَقَرِ صَرَفَ إلَى الْإِبِلِ أَوْ الْغَنَمِ يُخَيَّرُ فِي ذَلِكَ دُونَ الْبَقَرِ، وَعُرِفَ مِنْ هَذَا أَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ الْبَقَرُ تَخَيَّرَ لِاسْتِوَائِهِمَا فِي الْوَاجِبِ، وَقِيلَ يَصْرِفُ إلَى الْغَنَمِ لِتَجِبَ الزَّكَاةُ فِي الْإِبِلِ فِي الْعَامِ الْقَابِلِ.
وَهَلْ يَمْنَعُ الدَّيْنُ الْمُؤَجَّلُ كَمَا يَمْنَعُ الْمُعَجَّلُ فِي طَرِيقَةِ الشَّهِيدِ لَا رِوَايَةَ فِيهِ، إنْ قُلْنَا لَا فَلَهُ وَجْهٌ، وَإِنْ قُلْنَا نَعَمْ فَلَهُ وَجْهٌ، وَلَوْ كَانَ عَلَيْهِ مَهْرٌ لِامْرَأَتِهِ وَهُوَ لَا يُرِيدُ أَدَاءَهُ لَا يُجْعَلُ مَانِعًا مِنْ الزَّكَاةِ ذَكَرَهُ فِي التُّحْفَةِ عَنْ بَعْضِهِمْ لِأَنَّهُ لَا يَعُدُّهُ دَيْنًا، وَذَكَرَ قَبْلَهُ مَهْرَ الْمَرْأَةِ يَمْنَعُ مُؤَجَّلًا كَانَ أَوْ مُعَجَّلًا لِأَنَّهَا مَتَى طَلَبَتْ أَخَذَتْهُ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إنْ كَانَ مُؤَجَّلًا لَا يَمْنَعُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ عَادَةً انْتَهَى. وَهَذَا يُفِيدُ أَنَّ الْمُرَادَ الْمُؤَجَّلُ عُرْفًا لَا شَرْطًا مُصَرَّحًا بِهِ، وَإِلَّا لَمْ يَصِحَّ قَوْلُهُ لِأَنَّهَا مَتَى طَلَبَتْ أَخَذَتْهُ، وَلَا بِأَنَّهُ غَيْرُ مُطَالَبٍ بِهِ عَادَةً لِأَنَّ هَذَا فِي الْمُعَجَّلِ لَا الْمُؤَجَّلِ شَرْطًا فَلَا مَعْنَى لِتَقْيِيدِ عَدَمِ الْمُطَالَبَةِ فِيهِ بِالْعَادَةِ

(قَوْلُهُ وَعَلَى هَذَا كُتُبُ الْعِلْمِ لِأَهْلِهَا) لَيْسَ بِقَيْدٍ مُعْتَبَرِ الْمَفْهُومِ، فَإِنَّهَا لَوْ كَانَتْ لِمَنْ لَيْسَ مِنْ أَهْلِهَا وَهِيَ تُسَاوِي نُصُبًا لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ إلَّا أَنْ يَكُونَ أَعَدَّهَا لِلتِّجَارَةِ، وَإِنَّمَا يَفْتَرِقُ الْحَالُ بَيْنَ الْأَهْلِ وَغَيْرِهِمْ أَنَّ الْأَهْلَ إذَا كَانُوا مُحْتَاجِينَ لِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ الْكُتُبِ لِلتَّدْرِيسِ وَالْحِفْظِ وَالتَّصْحِيحِ لَا يَخْرُجُونَ بِهَا عَنْ الْفَقْرِ، وَإِنْ سَاوَتْ نُصُبًا فَلَهُمْ أَنْ يَأْخُذُوا الزَّكَاةَ إلَّا أَنْ يَفْضُلَ عَنْ حَاجَتِهِمْ نُسَخٌ تُسَاوِي نِصَابًا كَأَنْ يَكُونَ عِنْدَهُ مِنْ كُلِّ تَصْنِيفٍ نُسْخَتَانِ، وَقِيلَ بَلْ ثَلَاثٌ، فَإِنَّ النُّسْخَتَيْنِ يُحْتَاجُ إلَيْهِمَا لِتَصْحِيحِ كُلٍّ مِنْ الْأُخْرَى.
وَالْمُخْتَارُ الْأَوَّلُ بِخِلَافِ غَيْرِ الْأَهْلِ فَإِنَّهُمْ يُحْرَمُونَ بِهَا أَخْذَ الزَّكَاةِ، إذْ الْحِرْمَانُ تَعَلَّقَ بِمِلْكِ قَدْرِ نِصَابٍ غَيْرِ مُحْتَاجٍ إلَيْهِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ نَامِيًا، وَإِنَّمَا النَّمَاءُ يُوجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةَ.

(2/163)


وَآلَاتُ الْمُحْتَرَفِينَ لِمَا قُلْنَا.

(وَمَنْ لَهُ عَلَى آخَرَ دَيْنٌ فَجَحَدَهُ سِنِينَ ثُمَّ قَامَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ لَمْ يُزَكِّهِ لِمَا مَضَى) مَعْنَاهُ: صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ بِأَنْ أَقَرَّ عِنْدَ النَّاسِ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَالِ الضِّمَارِ، وَفِيهِ خِلَافُ زُفَرَ وَالشَّافِعِيِّ، وَمِنْ جُمْلَتِهِ: الْمَالُ الْمَفْقُودُ، وَالْآبِقُ، وَالضَّالُّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ثُمَّ الْمُرَادُ كُتُبُ الْفِقْهِ وَالْحَدِيثِ وَالتَّفْسِيرِ، أَمَّا كُتُبُ الطِّبِّ وَالنَّحْوِ وَالنُّجُومِ فَمُعْتَبَرَةٌ فِي الْمَنْعِ مُطْلَقًا. وَفِي الْخُلَاصَةِ فِي الْكُتُبِ: إنْ كَانَ مِمَّا يَحْتَاجُ إلَيْهَا فِي الْحِفْظِ وَالدِّرَاسَةِ وَالتَّصْحِيحِ لَا يَكُونُ نِصَابًا وَحَلَّ لَهُ أَخْذُ الصَّدَقَةِ فِقْهًا كَانَ أَوْ حَدِيثًا أَوْ أَدَبًا كَثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَالْمُصْحَفِ، عَلَى هَذَا ذَكَرَهُ فِي الْفَصْلِ السَّابِعِ مِنْ كِتَابِ الزَّكَاةِ. وَقَالَ فِي بَابِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ: لَوْ كَانَ لَهُ كُتُبٌ إنْ كَانَتْ كُتُبَ النُّجُومِ وَالْأَدَبِ وَالطِّبِّ وَالتَّعْبِيرِ تُعْتَبَرُ، وَأَمَّا كُتُبُ التَّفْسِيرِ وَالْفِقْهِ وَالْمُصْحَفُ الْوَاحِدُ فَلَا يُعْتَبَرُ نِصَابًا. فَهَذَا تَنَاقُضٌ فِي كُتُبِ الْأَدَبِ. وَاَلَّذِي يَقْتَضِيهِ النَّظَرُ أَنَّ نُسْخَةً مِنْ النَّحْوِ أَوْ نُسْخَتَيْنِ عَلَى الْخِلَافِ لَا تُعْتَبَرُ مِنْ النِّصَابِ، وَكَذَا مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ وَالْكَلَامِ غَيْرِ الْمَخْلُوطِ بِالْآرَاءِ بَلْ مَقْصُورٌ عَلَى تَحْقِيقِ الْحَقِّ مِنْ مَذْهَبِ أَهْلِ السُّنَّةِ إلَّا أَنْ لَا يُوجَدَ غَيْرُ الْمَخْلُوطِ لِأَنَّ هَذِهِ مِنْ الْحَوَائِجِ الْأَصْلِيَّةِ (قَوْلُهُ وَآلَاتُ الْمُحْتَرِفِينَ) الْمُرَادُ بِهَا مَا لَا يُسْتَهْلَكُ عَيْنُهُ فِي الِانْتِفَاعِ كَالْقَدُومِ وَالْمِبْرَدِ، فَمَتَى تَفْنَى عَيْنُهُمَا أَوْ مَا يُسْتَهْلَكُ وَلَا يَبْقَى أَثَرُ عَيْنِهِ، فَلَوْ اشْتَرَى الْغَسَّالُ صَابُونًا لِغَسْلِ الثِّيَابِ أَوْ حُرْضًا يُسَاوِي نِصَابًا وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ لَا تَجِبُ فِيهِ، فَإِنَّ مَا يَأْخُذُهُ مِنْ الْأُجْرَةِ بِمُقَابَلَةِ الْعَمَلِ. وَلَوْ اشْتَرَى الصَّبَّاغُ عُصْفُرًا أَوْ زَعْفَرَانًا يُسَاوِي نُصُبًا لِلصَّبْغِ أَوْ الدَّبَّاغُ دُهْنًا أَوْ عَفْصًا لِلدِّبَاغَةِ وَحَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ تَجِبُ فِيهِ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ بِمُقَابَلَةِ الْعَيْنِ. وَقَوَارِيرُ الْعَطَّارِينَ وَلُجُمُ الْخَيْلِ وَالْحَمِيرِ الْمُشْتَرَاةِ لِلتِّجَارَةِ وَمَقَاوِدُهَا وَجِلَالُهَا إنْ كَانَ مِنْ غَرَضِ الْمُشْتَرِي بَيْعُهَا بِهِ فَفِيهَا الزَّكَاةُ وَإِلَّا فَلَا

(قَوْلُهُ مَعْنَاهُ صَارَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ) يُفِيدُ أَنَّهُ لَمْ تَكُنْ لَهُ بَيِّنَةٌ فِي الْأَصْلِ احْتِرَازٌ عَمَّا لَوْ كَانَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ فَإِنَّهُ سَيَذْكُرُ أَنَّ فِيهِ الزَّكَاةَ (قَوَّمَهُ وَهِيَ مَسْأَلَةُ مَالِ الضِّمَارِ) قِيلَ هُوَ الْغَائِبُ الَّذِي لَا يُرْجَى، فَإِنْ رُجِيَ فَلَيْسَ بِهِ وَأَصْلُهُ مِنْ الْإِضْمَارِ، قَالَ: طَلَبْنَ مَزَارَهُ فَأَصَبْنَ مِنْهُ عَطَاءً لَمْ يَكُنْ عِدَّةً ضِمَارًا وَقِيلَ هُوَ غَيْرُ الْمُنْتَفَعِ بِهِ، بِخِلَافِ الدَّيْنِ الْمُؤَجَّلِ فَإِنَّهُ أَخَّرَ الِانْتِفَاعَ بِهِ وَصَارَ كَمَالٍ غَائِبٍ (قَوْلُهُ وَمِنْ جُمْلَتِهِ إلَخْ)

(2/164)


وَالْمَغْصُوبُ إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَالْمَالُ السَّاقِطُ فِي الْبَحْرِ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْمَفَازَةِ إذَا نَسِيَ مَكَانَهُ، وَاَلَّذِي أَخَذَهُ السُّلْطَانُ مُصَادَرَةً. وَوُجُوبُ صَدَقَةِ الْفِطْرِ بِسَبَبِ الْآبِقِ وَالضَّالِّ وَالْمَغْصُوبِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَمِنْ جُمْلَتِهِ أَيْضًا الَّذِي ذَهَبَ بِهِ الْعَدُوُّ إلَى دَارِ الْحَرْبِ وَالْمُودَعُ عِنْدَ مَنْ لَا يَعْرِفُهُ إذَا نَسِيَ شَخْصَهُ سِنِينَ ثُمَّ تَذَكَّرَهُ.
فَإِنْ كَانَ عِنْدَ بَعْضِ مَعَارِفِهِ فَنَسِيَ ثُمَّ تَذَكَّرَ الْإِيدَاعَ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى، وَيُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مِنْهُ الْأَلْفُ الَّتِي دَفَعَهَا إلَى الْمَرْأَةِ مَهْرًا وَحَالَ الْحَوْلُ وَهِيَ عِنْدَهَا، ثُمَّ عَلِمَ أَنَّهَا أَمَةٌ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْن مَوْلَاهَا وَرُدَّتْ الْأَلْفُ عَلَيْهِ، وَدِيَةٌ قَضَى بِهَا فِي حَلْقِ لِحْيَةِ إنْسَانٍ وَدُفِعَتْ إلَيْهِ فَحَالَ الْحَوْلُ عَلَيْهَا عِنْدَهُ ثُمَّ نَبَتَتْ وَرُدَّتْ الدِّيَةُ، وَمَا أَقَرَّ بِهِ لِشَخْصٍ وَدَفَعَهُ إلَيْهِ فَحَالَ عَلَيْهِ عِنْدَهُ ثُمَّ تَصَادَقَا عَلَى أَنْ لَا دَيْنَ فَرَدَّ، وَمَا وَهَبَ وَسَلَّمَ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ بَعْدَ الْحَوْلِ لَا زَكَاةَ فِي هَذِهِ الصُّوَرِ عَلَى أَحَدٍ لِأَنَّهُ كَانَ غَائِبًا غَيْرَ مَرْجُوِّ الْقُدْرَةِ عَلَى الِانْتِفَاعِ بِهِ. وَأَمَّا زَكَاةُ الْأُجْرَةِ الْمُعَجَّلَةِ عَنْ سِنِينَ فِي الْإِجَارَةِ الطَّوِيلَةِ الَّتِي يَفْعَلُهَا بَعْضُ النَّاسِ عُقُودًا وَيَشْتَرِطُونَ الْخِيَارَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ فِي رَأْسِ كُلِّ شَهْرٍ فَتَجِبُ عَلَى الْآجِرِ لِأَنَّهُ مَلَكَهَا بِالْقَبْضِ وَعِنْدَ الِانْفِسَاخِ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ رَدُّ عَيْنِ الْمَقْبُوضِ بَلْ قَدْرُهُ فَكَانَ كَدَيْنٍ لَحِقَهُ بَعْدَ الْحَوْلِ. وَقَالَ الشَّيْخُ الْإِمَامُ الزَّاهِدُ عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْبَزْدَوِيُّ وَمَجْدُ الْأَئِمَّةِ السُّرْخَكَتِيُّ: يَجِبُ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَيْضًا لِأَنَّ النَّاسَ يَعُدُّونَ مَالَ هَذِهِ الْإِجَارَةِ دَيْنًا عَلَى الْآجِرِ، وَفِي بَيْعِ الْوَفَاءِ يَجِبُ زَكَاةُ الثَّمَنِ عَلَى الْبَائِعِ، وَعَلَى قَوْلِ الزَّاهِدِ وَالسُّرْخَكَتِيِّ يَجِبُ عَلَى الْمُشْتَرِي أَيْضًا، وَصَرَّحَ السَّيِّدُ أَبُو شُجَاعٍ بِعَدَمِ الْوُجُوبِ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ.
وَفِي الْخُلَاصَةِ قَالَ: الِاحْتِيَاطُ أَنْ يُزَكِّيَ كُلٌّ مِنْهُمَا.
وَفِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ اسْتَشْكَلَ قَوْلُ السُّرْخَكَتِيِّ بِأَنَّهُ لَوْ اُعْتُبِرَ دَيْنًا عِنْدَ النَّاسِ وَهُوَ اعْتِبَارٌ مُعْتَبَرٌ شَرْعًا يَنْبَغِي أَنْ لَا تَجِبَ. عَلَى الْآجِرِ وَالْبَائِعِ لِأَنَّهُ مَشْغُولٌ بِالدَّيْنِ، وَلَا عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُشْتَرِي أَيْضًا لِأَنَّهُ وَإِنْ اُعْتُبِرَ دَيْنًا لَهُمَا فَلَيْسَ بِمُنْتَفَعٍ بِهِ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُهُ الْمُطَالَبَةُ قَبْلَ الْفَسْخِ وَلَا يَمْلِكُهُ حَقِيقَةً فَكَانَ بِمَنْزِلَةِ الدَّيْنِ عَلَى الْجَاحِدِ، وَثُمَّ لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ انْتَهَى: يَعْنِي فَيَكُونُ فِي مَعْنَى الضِّمَارِ.
وَفِي الْكَافِي: لَوْ اسْتَأْجَرَ دَارًا عَشْرَ سِنِينَ بِأَلْفٍ وَعَجَّلَهَا إلَى الْمُؤَجِّرِ ثُمَّ لَمْ يَقْبِضْهَا حَتَّى انْقَضَتْ الْعَشْرُ سِنِينَ وَلَا مَالَ لَهُمَا سِوَى الْأَلْفِ كَانَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى زَكَاةُ تِسْعِمِائَةٍ لِظُهُورِ الدَّيْنِ بِمِائَةٍ بِسَبَبِ انْفِسَاخِ الْإِجَارَةِ فِي حَقِّ تِلْكَ السَّنَةِ، وَفِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ فِي ثَمَانِمِائَةٍ إلَّا قَدْرَ مَا وَجَبَ مِنْ الزَّكَاةِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى وَهُوَ اثْنَانِ وَعِشْرُونَ وَنِصْفٌ، وَهَكَذَا فِي كُلِّ سَنَةٍ تَنْقُصُ عَنْهُ زَكَاةُ مِائَةٍ وَقَدْرُ مَا وَجَبَ إلَى أَنْ يَصِيرَ الْبَاقِي خَالِصًا مِنْ دَيْنِ الِانْفِسَاخِ أَقَلَّ مِنْ مِائَتَيْنِ.
وَأَمَّا الْمُسْتَأْجِرُ فَإِنَّمَا تَجِبُ عَلَيْهِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ زَكَاةُ ثَلَاثِمِائَةٍ لِأَنَّهُ مَلَكَ دَيْنًا عَلَى الْمُؤَجِّرِ فِي السَّنَةِ الْأُولَى مِائَةً، وَفِي الثَّانِيَةِ مِائَتَيْنِ لَمْ يَحُلْ حَوْلُهَا، وَفِي الثَّالِثَةِ حَالَ حَوْلُ الْمِائَتَيْنِ، وَاسْتَفَادَ مِائَةً فِي آخِرِ الْحَوْلِ فَيَضُمُّهَا إلَى النِّصَابِ، ثُمَّ تَزِيدُ زَكَاتُهُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةً لِلِانْفِسَاخِ إذْ بِهِ يَمْلِكُ مِائَةً دَيْنًا فَعَلَيْهِ فِي الرَّابِعَةِ زَكَاةُ أَرْبَعِمِائَةٍ وَهَلُمَّ جَرًّا إلَى الْعَاشِرَةِ فَعَلَيْهِ زَكَاةُ الْأَلْفِ فِيهَا.
وَلَوْ كَانَتْ الْأُجْرَةُ أَمَةً لِلتِّجَارَةِ فَحِينَ عَجَّلَهَا لِلْمُؤَجِّرِ نَوَى فِيهَا التِّجَارَةَ وَالْبَاقِي بِحَالِهِ لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُؤَجِّرِ لِشَيْءٍ فِيهَا لِاسْتِحْقَاقِ تَمَامِ عَيْنِ الْأُجْرَةِ، بِخِلَافِ الْأُولَى لِأَنَّ الْمُسْتَحَقَّ بِالِانْفِسَاخِ مِائَةٌ دَيْنًا فِي الذِّمَّةِ لَا يَتَعَيَّنُ فِي الْمَقْبُوضِ، وَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ زَكَاةُ ثَلَاثَةِ أَعْشَارِهَا تَزِيدُ كُلُّ سَنَةٍ عَشْرًا وَلَا يَخْفَى وَجْهُهُ.
وَلَوْ كَانَ الْمَسْأَلَةُ عَلَى الْقَلْبِ: أَعْنِي قَبَضَ الْمُسْتَأْجِرُ الدَّارَ وَلَمْ يُعَجِّلْ الْأُجْرَةَ فَالْمُؤَجِّرُ هُنَا كَالْمُسْتَأْجِرِ وَالْمُسْتَأْجِرُ كَالْمُؤَجِّرِ فَعَلَى الْمُسْتَأْجِرِ أَنْ يُزَكِّيَ لِلسَّنَةِ الْأُولَى تِسْعَمِائَةٍ وَلِلثَّانِيَةِ بِثَمَانِمِائَةٍ فَتَنْقُصُ فِي كُلِّ سَنَةٍ مِائَةٌ إلَّا زَكَاةَ مَا مَضَى لِأَنَّ الْمِلْكَ فِي الْأُجْرَةِ يَثْبُتُ سَاعَةً فَسَاعَةً، وَالْمُؤَجِّرُ يُزَكِّي فِي السَّنَةِ الثَّالِثَةِ

(2/165)


عَلَى هَذَا الْخِلَافِ. لَهُمَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ وَفَوَاتُ الْيَدِ غَيْرُ مُخِلٍّ بِالْوُجُوبِ كَمَالِ ابْنِ السَّبِيلِ، وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا زَكَاةَ فِي الْمَالِ الضِّمَارِ وَلِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي وَلَا نَمَاءَ إلَّا بِالْقُدْرَةِ عَلَى التَّصَرُّفِ وَلَا قُدْرَةَ عَلَيْهِ. وَابْنُ السَّبِيلِ يَقْدِرُ بِنَائِبِهِ، وَالْمَدْفُونُ فِي الْبَيْتِ نِصَابٌ لِتَيَسُّرِ الْوُصُولِ إلَيْهِ، وَفِي الْمَدْفُونِ فِي أَرْضٍ أَوْ كَرْمٍ اخْتِلَافُ الْمَشَايِخِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ثَلَاثَمِائَةٍ وَالرَّابِعَةِ أَرْبَعَمِائَةٍ إلَّا قَدْرَ زَكَاةِ مَا مَضَى، وَلَوْ كَانَا تَقَابَضَا فِي الْأُجْرَةِ وَالدَّارِ فَظَاهِرٌ أَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَى الْمُسْتَأْجِرِ لِزَوَالِ مِلْكِهِ بِالتَّعْجِيلِ وَلَمْ تُعَدَّ لِعَدَمِ الِانْفِسَاخِ (قَوْلُهُ عَلَى هَذَا الِاخْتِلَافُ) عِنْدَنَا لَا فِطْرَةَ عَلَيْهِ، وَعِنْدَهُ عَلَيْهِ (قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: لَا زَكَاةَ فِي مَالِ الضِّمَارِ) هَكَذَا ذَكَرَهُ مَشَايِخُنَا عَنْهُ.
وَرَوَى أَبُو عُبَيْدٍ الْقَاسِمُ بْنُ سَلَّامٍ فِي كِتَابِ الْأَمْوَالِ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، حَدَّثَنَا هِشَامُ بْنُ حَسَّانَ الْحَسَنُ عَنْ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ قَالَ: إذَا حَضَرَ الْوَقْتُ الَّذِي يُؤَدِّي فِيهِ الرَّجُلُ زَكَاتَهُ أَدَّى عَنْ كُلِّ مَالٍ وَعَنْ كُلِّ دَيْنٍ إلَّا مَا كَانَ ضِمَارًا لَا يَرْجُوهُ.
وَرَوَى ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ سُلَيْمَانَ عَنْ عَمْرِو بْنِ مَيْمُونٍ قَالَ: أَخَذَ الْوَلِيدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ مَالَ رَجُلٍ مِنْ أَهْلِ الرَّقَّةِ يُقَالُ لَهُ أَبُو عَائِشَةَ عِشْرِينَ أَلْفًا فَأَلْقَاهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ، فَلَمَّا وَلِيَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَتَاهُ وَلَدُهُ فَرَفَعُوا مَظْلَمَتَهُمْ إلَيْهِ، فَكَتَبَ إلَى مَيْمُونٍ أَنْ ادْفَعُوا إلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَخُذُوا زَكَاةَ عَامِهِمْ هَذَا، فَإِنَّهُ لَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مَالًا ضِمَارًا أَخَذْنَا مِنْهُ زَكَاةَ مَا مَضَى.
أَخْبَرَنَا أَبُو أُسَامَةَ عَنْ هِشَامٍ عَنْ الْحَسَنِ قَالَ: عَلَيْهِ زَكَاةُ ذَلِكَ الْعَامِ انْتَهَى.
وَرَوَى مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ عَنْ أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ عَبْدِ الْعَزِيزِ كَتَبَ فِي مَالٍ قَبَضَهُ بَعْضُ الْوُلَاةِ ظُلْمًا فَأَمَرَ بِرَدِّهِ إلَى أَهْلِهِ، وَيُؤْخَذُ زَكَاتُهُ لِمَا مَضَى مِنْ السِّنِينَ، ثُمَّ عَقَّبَ بَعْدَ ذَلِكَ بِكِتَابٍ أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُ إلَّا زَكَاةٌ وَاحِدَةٌ فَإِنَّهُ كَانَ ضِمَارًا. وَفِيهِ انْقِطَاعٌ بَيْنَ أَيُّوبَ وَعُمَرَ. وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَنْتَهِضُ عَلَى الشَّافِعِيِّ لِأَنَّ قَوْلَ الصَّحَابِيِّ عِنْدَهُ لَيْسَ حُجَّةً فَكَيْفَ بِمَنْ دُونَهُ.
فَهَذَا لِلْإِثْبَاتِ الْمَذْهَبِيِّ، وَالْمَعْنَى الْمَذْكُورُ بَعْدُ لِلْإِلْزَامِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلِأَنَّ السَّبَبَ إلَخْ، فَفِيهِ مَنَعَ قَوْلَهُمَا أَنَّ السَّبَبَ قَدْ تَحَقَّقَ فَقَالَ لَا نُسَلِّمُ لِأَنَّ السَّبَبَ هُوَ الْمَالُ النَّامِي تَحْقِيقًا أَوْ تَقْدِيرًا بِالِاتِّفَاقِ، لِلِاتِّفَاقِ عَلَى أَنَّ مَنْ مَلَكَ مِنْ الْجَوَاهِرِ النَّفِيسَةِ مَا تُسَاوِي آلَافًا مِنْ الدَّنَانِيرِ وَلَمْ يَنْوِ فِيهَا التِّجَارَةَ لَا تَجِبُ فِيهَا الزَّكَاةُ، وَوِلَايَةُ إثْبَاتِ حَقِيقَةِ التِّجَارَةِ بِالْيَدِ، فَإِذَا فَاتَتْ انْتَفَى تَصَوُّرُ الِاسْتِنْمَاءِ تَحْقِيقًا فَانْتَفَى تَقْدِيرًا فَانْتَفَى النَّمَاءُ تَقْدِيرًا لِأَنَّ الشَّيْءَ إنَّمَا يُقَدَّرُ تَقْدِيرًا إذَا تُصَوَّرُ تَحْقِيقًا، وَعَنْ هَذَا انْتَفَى فِي النَّقْدَيْنِ أَيْضًا لِانْتِفَاءِ نَمَائِهِمَا التَّقْدِيرِيِّ بِانْتِفَاءِ تَصَوُّرِ التَّحْقِيقِيِّ بِانْتِفَاءِ الْيَدِ فَصَارَ بِانْتِفَائِهَا

(2/166)


وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ أَوْ مُعْسِرٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ لِإِمْكَانِ الْوُصُولِ إلَيْهِ ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ، وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلِمَ بِهِ الْقَاضِي لِمَا قُلْنَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
كَالتَّأَوِّي، فَلِذَا لَمْ تَجِبْ صَدَقَةُ الْفِطْرِ عَنْ الْآبِقِ وَإِنَّمَا جَازَ عِتْقُهُ عَنْ الْكَفَّارَةِ لِأَنَّ الْكَفَّارَةَ تَعْتَمِدُ مُجَرَّدَ الْمِلْكِ، وَبِالْإِبَاقِ وَالْكِتَابَةِ لَا يَنْقُصُ الْمِلْكُ أَصْلًا، بِخِلَافِ مَالِ ابْنِ السَّبِيلِ لِثُبُوتِ التَّقْدِيرِيِّ فِيهِ لِإِمْكَانِ التَّحْقِيقِيِّ إذَا وَجَدَ نَائِبًا

(قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ أَوْ مُعْسِرٍ تَجِبُ الزَّكَاةُ) وَكَذَا قَوْلُهُ بَعْدَهُ فَهُوَ: أَيْ الدَّيْنُ نِصَابٌ بَعْدَ تَحَقُّقِ الْوُجُوبِ حَالَ كَوْنِ مُسَمَّى الدَّيْنِ فَيَسْتَلْزِمُ أَنَّهُ إذَا قُبِضَ زَكَاةً لِمَا مَضَى وَهُوَ غَيْرُ جَارٍ عَلَى إطْلَاقِهِ بَلْ ذَلِكَ فِي بَعْضِ أَنْوَاعِ الدَّيْنِ.
وَلْنُوضِحْ ذَلِكَ إذْ لَمْ يَتَعَرَّضْ لَهُ الْمُصَنِّفُ فَنَقُولُ: قَسَّمَ أَبُو حَنِيفَةَ الدَّيْنَ إلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: قَوِيٌّ وَهُوَ بَدَلُ الْقَرْضِ وَمَالِ التِّجَارَةِ، وَمُتَوَسِّطٌ وَهُوَ بَدَلُ مَالٍ لَيْسَ لِلتِّجَارَةِ كَثَمَنِ ثِيَابِ الْبِذْلَةِ وَعَبْدِ الْخِدْمَةِ وَدَارِ السُّكْنَى، وَضَعِيفٌ وَهُوَ بَدَلُ مَا لَيْسَ بِمَالٍ كَالْمَهْرِ وَالْوَصِيَّةِ وَبَدَلِ الْخُلْعِ وَالصُّلْحِ عَنْ دَمِ الْعَمْدِ وَالدِّيَةِ وَبَدَلِ الْكِتَابَةِ وَالسِّعَايَةِ.
فَفِي الْقَوِيُّ تَجِبُ الزَّكَاةُ إذَا حَالَ الْحَوْلُ وَيَتَرَاخَى الْأَدَاءُ إلَى أَنْ يَقْبِضَ أَرْبَعِينَ دِرْهَمًا فَفِيهَا دِرْهَمٌ وَكَذَا فِيمَا زَادَ فَبِحِسَابِهِ، وَفِي الْمُتَوَسِّطِ لَا تَجِبُ مَا لَمْ يَقْبِضْ نِصَابًا وَتُعْتَبَرُ لِمَا مَضَى مِنْ الْحَوْلِ فِي صَحِيحِ الرِّوَايَةِ، وَفِي الضَّعِيفِ لَا تَجِبُ مَا لَمْ يَقْبِضْ نِصَابًا وَيَحُولُ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ عَلَيْهِ، وَثَمَنُ السَّائِمَةِ كَثَمَنِ عَبْدِ الْخِدْمَةِ.
وَلَوْ وَرِثَ دَيْنًا عَلَى رَجُلٍ فَهُوَ كَالدَّيْنِ الْوَسَطِ، وَيُرْوَى عَنْهُ أَنَّهُ كَالضَّعِيفِ. وَعِنْدَهُمَا الدُّيُونُ كُلُّهَا سَوَاءٌ تَجِبُ الزَّكَاةُ قَبْلَ الْقَبْضِ، وَكُلَّمَا قَبَضَ شَيْئًا زَكَّاهُ قَلَّ أَوْ كَثُرَ إلَّا دَيْنَ الْكِتَابَةِ وَالسِّعَايَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ أَخْرَجَا الدِّيَةَ أَيْضًا قَبْلَ الْحُكْمِ بِهَا وَأَرْشَ الْجِرَاحَةِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِدَيْنٍ عَلَى الْحَقِيقَةِ فَلِذَا لَا تَصِحُّ الْكَفَالَةُ بِبَدَلِ الْكِتَابَةِ، وَلَا تُؤْخَذُ مِنْ تَرِكَةِ مَنْ مَاتَ مِنْ الْعَاقِلَةِ الدِّيَةُ لِأَنَّ وُجُوبَهَا بِطَرِيقِ الصِّلَةِ إلَّا أَنَّهُ يَقُولُ: الْأَصْلُ أَنَّ الْمُسَبَّبَاتِ تَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْأَسْبَابِ. وَلَوْ أَجَرَ عَبْدَهُ أَوْ دَارِهِ بِنِصَابٍ إنْ لَمْ يَكُونَا لِلتِّجَارَةِ لَا يَجِبُ مَا لَمْ يَحُلْ الْحَوْلُ بَعْدَ الْقَبْضِ فِي قَوْلِهِ وَإِنْ كَانَا لِلتِّجَارَةِ كَانَ حُكْمُهُ كَالْقَوِيِّ لِأَنَّ أُجْرَةَ مَالِ التِّجَارَةِ كَثَمَنِ مَالِ التِّجَارَةِ فِي صَحِيحِ الرِّوَايَةِ (قَوْلُهُ ابْتِدَاءً أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ) لَفٌّ وَنَشْرٌ مُرَتَّبٌ، ابْتِدَاءٌ يَتَّصِلُ بِمَلِيءٍ وَبِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ بِالْمُعْسِرِ.
وَعَنْ الْحَسَنِ بْنِ زِيَادٍ أَنَّ مَا عَلَى الْمُعْسِرِ لَيْسَ نِصَابًا لِأَنَّهُ لَا يَنْتَفِعُ بِهِ، فَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ أَوْ بِوَاسِطَةِ التَّحْصِيلِ دَفْعٌ لَهُ (قَوْلُهُ وَكَذَا لَوْ كَانَ عَلَى جَاحِدٍ وَعَلَيْهِ بَيِّنَةٌ أَوْ عَلِمَ الْقَاضِي بِهِ) يَعْنِي يَكُونُ نِصَابًا.
وَرَوَى هِشَامٌ عَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّ مَعَ عِلْمِ الْقَاضِي يَكُونُ نِصَابًا، وَفِيمَا إذَا كَانَتْ لَهُ بَيِّنَةٌ عَادِلَةٌ وَلَمْ يُقِمْهَا حَتَّى مَضَتْ سُنُونَ لَا يَكُونُ نِصَابًا، وَأَكْثَرُ الْمَشَايِخِ عَلَى خِلَافِهِ. وَفِي الْأَصْلِ لَمْ يَجْعَلْ الدَّيْنَ نِصَابًا وَلَمْ يُفَصِّلْ. قَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ: الصَّحِيحُ جَوَابُ الْكِتَابِ، إذْ لَيْسَ كُلُّ قَاضٍ يَعْدِلُ وَلَا كُلُّ بَيِّنَةٍ تَعْدِلُ، وَفِي الْجُثُوِّ بَيْنَ يَدَيْ الْقُضَاةِ ذُلٌّ وَكُلُّ أَحَدٍ لَا يَخْتَارُ ذَلِكَ فَصَارَ فِي هَذَيْنِ الْبَيِّنَةُ، وَعِلْمُ الْقَاضِي شُمُولُ الْعَدَمِ وَشُمُولُ الْوُجُوبِ وَالتَّفْصِيلِ، وَإِنْ كَانَ

(2/167)


وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُفْلِسٍ فَهُوَ نِصَابٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِأَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي لَا يَصِحُّ عِنْدَهُ. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا تَجِبُ لِتَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ عِنْدَهُ بِالتَّفْلِيسِ. وَأَبُو يُوسُفَ مَعَ مُحَمَّدٍ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ، وَمَعَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي حُكْمِ الزَّكَاةِ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْفُقَرَاءِ.

(وَمَنْ اشْتَرَى جَارِيَةً لِلتِّجَارَةِ وَنَوَاهَا لِلْخِدْمَةِ بَطَلَتْ عَنْهَا الزَّكَاةُ) لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ وَهُوَ تَرْكُ التِّجَارَةِ (وَإِنْ نَوَاهَا لِلتِّجَارَةِ بَعْدَ ذَلِكَ لَمْ تَكُنْ لِلتِّجَارَةِ حَتَّى يَبِيعَهَا فَيَكُونَ فِي ثَمَنِهَا زَكَاةٌ) لِأَنَّ النِّيَّةَ لَمْ تَتَّصِلْ بِالْعَمَلِ إذْ هُوَ لَمْ يَتَّجِرْ فَلَمْ تُعْتَبَرْ، وَلِهَذَا يَصِيرُ الْمُسَافِرُ مُقِيمًا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَلَا يَصِيرُ الْمُقِيمُ مُسَافِرًا إلَّا بِالسَّفَرِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمَدْيُونُ يُقِرُّ فِي السِّرِّ وَيَجْحَدُ فِي الْعَلَانِيَةِ لَمْ يَكُنْ نِصَابًا، وَلَوْ كَانَ مُقِرًّا فَلَمَّا قَدَّمَهُ إلَى الْقَاضِي جَحَدَ وَقَامَتْ عَلَيْهِ بَيِّنَةٌ وَمَضَى زَمَانٌ فِي تَعْدِيلِ الشُّهُودِ سَقَطَتْ الزَّكَاةُ مِنْ يَوْمِ جَحَدَ إلَى أَنْ عَدَلُوا لِأَنَّهُ كَانَ جَاحِدًا وَتَلْزَمُهُ الزَّكَاةُ فِيمَا كَانَ مُقِرًّا قَبْلَ الْخُصُومَةِ، وَهَذَا إنَّمَا يَتَفَرَّعُ عَلَى اخْتِيَارِ الْإِطْلَاقِ فِي الْمَجْحُودِ.
(قَوْلُهُ لِأَنَّ تَفْلِيسَ الْقَاضِي إلَخْ) يُفِيدُ أَنَّ لَفْظَ مُفَلِّسٍ بِالتَّشْدِيدِ فِي قَوْلِهِ وَلَوْ كَانَ عَلَى مُقِرٍّ مُفَلِّسٍ لِأَنَّهُ تَعْلِيلُهُ، وَلِأَنَّهُ ذَكَرَ الْمُفْلِسَ بِالتَّخْفِيفِ وَأَعْطَى حُكْمَهُ مِنْ غَيْرِ خِلَافٍ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ وَهُوَ قَوْلُهُ وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ عَلَى مُقِرٍّ مَلِيءٍ أَوْ مُعْسِرٍ إذْ الْمُعْسِرُ هُوَ الْمُفْلِسُ، وَالْخِلَافُ إنَّمَا هُوَ فِيمَنْ فَلَّسَهُ الْقَاضِي.
وَصَرَّحَ بَعْضُهُمْ بِأَنَّ مَا عَلَى الْمُقِرِّ الْمُفْلِسِ بِالتَّخْفِيفِ لَيْسَ بَيْنَهُمْ خِلَافٌ فِي أَنَّهُ نِصَابٌ، وَلَمْ يَشْرُطْ الطَّحَاوِيُّ التَّفْلِيسَ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَقَوْلِ الْمَحْبُوبِيِّ: لَوْ كَانَ الْمَدْيُونُ مُقِرًّا مُفْلِسًا فَعَلَى صَاحِبِ الدَّيْنِ زَكَاةُ مَا مَضَى إذَا قَبَضَهُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ إنْ كَانَ الْحَاكِمُ فَلَّسَهُ فَلَا زَكَاةَ عَلَيْهِ لِمَا مَضَى بِنَاءً عَلَى مَذْهَبِهِ أَنَّ التَّفْلِيسَ يَتَحَقَّقُ فَيَصِيرُ الدَّيْنُ تَاوِيًا بِهِ، وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ لَا لِأَنَّ الْمَالَ غَادٍ وَرَائِحٌ فَهُوَ فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ مِثْلُهُ فِي الْمَلِيءِ يُوَافِقُ نَافِيَ الْخِلَافِ (قَوْلُهُ وَأَبُو يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ إلَخْ) وَقِيلَ قَوْلُ أَبِي يُوسُفَ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِهِ الْأَوَّلِ، وَذَكَرَ صَدْرُ الْإِسْلَامِ قَوْلَ أَبِي يُوسُفَ مَعَ قَوْلِ مُحَمَّدٍ فِي عَدَمِ وُجُوبِ الزَّكَاةِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ اخْتِلَافِ الرِّوَايَةِ عَنْهُ بِنَاءً عَلَى اخْتِلَافِهِمْ فِي تَحَقُّقِ الْإِفْلَاسِ (قَوْلُهُ رِعَايَةً لِجَانِبِ الْفُقَرَاءِ) هَذَا مِنْ الْقَضَايَا الْمُسَلَّمَةِ الْمَسْكُوتِ عَنْ النَّظَرِ فِيهَا مَعَ أَنَّهَا لَا تَصْلُحُ لِلْوَجْهِ أَصْلًا، إذْ بِمُجَرَّدِ رِعَايَةِ الْفُقَرَاءِ لَا يَصْلُحُ دَلِيلًا لِلْحُكْمِ بِإِيجَابِ اللَّهِ تَعَالَى الْمَالَ، فَكُلُّ مَوْضِعٍ يَتَأَتَّى فِيهِ رِعَايَتُهُمْ، وَكَمْ مِنْ مَوْضِعٍ لَا تَجِبُ فِيهِ فَلَا يَثْبُتُ إيجَابٌ عَلَيْهِ إلَّا بِدَلِيلِهِ.
فَالْأَوْلَى مَا قِيلَ إنَّ التَّفْلِيسَ وَإِنْ تَحَقَّقَ لَكِنَّ مَحَلَّ الدَّيْنِ الذِّمَّةُ وَهِيَ وَالْمَطَالِبُ بَاقِيَانِ حَتَّى كَانَ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ حَقُّ الْمُلَازَمَةِ فَبَقَاءُ الْمُلَازَمَةِ دَلِيلُ بَقَاءِ الدَّيْنِ عَلَى حَالِهِ، فَإِذَا قَبَضَهُ زَكَّاهُ لِمَا مَضَى

(قَوْلُهُ لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ) حَاصِلُ هَذَا الْفَصْلِ أَنَّ مَا كَانَ مِنْ أَعْمَالِ الْجَوَارِحِ فَلَا يَتَحَقَّقُ بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ، وَمَا كَانَ مِنْ التُّرُوكِ كَفَى فِيهِ مُجَرَّدُهَا فَالتِّجَارَةُ مِنْ الْأَوَّلِ فَلَا يَكْفِي مُجَرَّدُ النِّيَّةِ بِخِلَافِ تَرْكِهَا، وَنَظِيرُهُ السَّفَرُ وَالْفِطْرُ وَالْإِسْلَامُ وَالْإِسَامَةُ لَا يَثْبُتُ وَاحِدٌ مِنْهَا إلَّا بِالْعَمَلِ، وَتَثْبُتُ أَضْدَادُهَا بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ فَلَا يَصِيرُ مُسَافِرًا وَلَا مُفْطِرًا وَلَا مُسْلِمًا وَلَا الدَّابَّةُ سَائِمَةً بِمُجَرَّدِ النِّيَّةِ بَلْ بِالْعَمَلِ، وَيَصِيرُ

(2/168)


(وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ لِاتِّصَالِ النِّيَّةِ بِالْعَمَلِ، بِخِلَافِ مَا إذَا وَرِثَ وَنَوَى التِّجَارَةَ) لِأَنَّهُ لَا عَمَلَ مِنْهُ، وَلَوْ مَلَكَهُ بِالْهِبَةِ أَوْ بِالْوَصِيَّةِ أَوْ النِّكَاحِ أَوْ الْخُلْعِ أَوْ الصُّلْحِ عَنْ الْقَوَدِ وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - لِاقْتِرَانِهَا بِالْعَمَلِ، وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَصِيرُ لِلتِّجَارَةِ لِأَنَّهَا لَمْ تُقَارِنْ عَمَلَ التِّجَارَةِ، وَقِيلَ الِاخْتِلَافُ عَلَى عَكْسِهِ.

(وَلَا يَجُوزُ أَدَاءُ الزَّكَاةِ إلَّا بِنِيَّةٍ مُقَارِنَةٍ لِلْأَدَاءِ، أَوْ مُقَارِنَةٍ لِعَزْلِ مِقْدَارِ الْوَاجِبِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمُسَافِرُ مُقِيمًا وَالْمُفْطِرُ صَائِمًا وَالْمُسْلِمُ كَافِرًا وَالدَّابَّةُ عَلُوفَةً بِمُجَرَّدِ نِيَّةِ هَذِهِ الْأُمُورِ، وَالْمُرَادُ بِالْمُفْطِرِ الَّذِي لَمْ يَنْوِ صَوْمًا يُعَدُّ فِي وَقْتٍ تَصِحُّ فِيهِ النِّيَّةُ (قَوْلُهُ وَإِنْ اشْتَرَى شَيْئًا إلَخْ) الْمُرَادُ مَا تَصِحُّ فِيهِ نِيَّةُ التِّجَارَةِ لَا عُمُومُ شَيْءٍ، فَإِنَّهُ لَوْ اشْتَرَى أَرْضًا خَرَاجِيَّةً أَوْ عُشْرِيَّةً لِيَتَّجِرَ فِيهَا لَا تَجِبُ فِيهَا زَكَاةُ التِّجَارَةِ، وَإِلَّا اجْتَمَعَ فِيهَا الْحَقَّانِ بِسَبَبٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الْأَرْضُ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ فِي أَرْضِ الْعُشْرِ اشْتَرَاهَا لِلتِّجَارَةِ تَجِبُ الزَّكَاةُ مَعَ الْعُشْرِ، وَإِذَا لَمْ يَصِحَّ بَقِيَتْ الْأَرْضُ عَلَى وَظِيفَتِهَا الَّتِي كَانَتْ، وَكَذَا لَوْ اشْتَرَى بَذْرًا لِلتِّجَارَةِ وَزَرَعَهُ فِي عُشْرِيَّةٍ اسْتَأْجَرَهَا كَانَ فِيهَا الْعُشْرُ لَا غَيْرُ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ مَا إذَا وَرِثَ) الْحَاصِلُ أَنَّ نِيَّةَ التِّجَارَةِ فِيمَا يَشْتَرِيهِ تَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ وَفِيمَا يَرِثُهُ لَا تَصِحُّ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ لَا صُنْعَ لَهُ فِيهِ أَصْلًا وَفِيمَا تَمَلَّكَهُ بِقَبُولِ عَقْدٍ مِمَّا ذُكِرَ خِلَافٌ. وَجْهُ الِاعْتِبَارِ أَنَّ مُقْتَضَى الدَّلِيلِ اعْتِبَارُ النِّيَّاتِ مُطْلَقًا وَإِنْ تَجَرَّدَتْ عَنْ الْأَعْمَالِ، قَالَ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «نِيَّةُ الْمُؤْمِنِ خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ» إلَّا أَنَّهَا لَمْ تُعْتَبَرْ لِخَفَائِهَا حَتَّى تَتَّصِلَ بِالْعَمَلِ الظَّاهِرِ وَقَدْ اتَّصَلَتْ فِي هَذِهِ. وَجْهُ الْآخَرِ أَنَّ اعْتِبَارَهَا إذَا طَابَقَتْ الْمَنْوِيَّ وَهُوَ التِّجَارَةُ وَهِيَ مُبَادَلَةُ الْمَالِ بِالْمَالِ وَذَلِكَ مُنْتَفٍ بِالْهِبَةِ وَمَا مَعَهَا وَاَلَّذِي فِي نَفْسِي تَرْجِيحُ الْأَوَّلِ. وَيَلْحَقُ بِالْبَيْعِ بَدَلُ الْمُؤَجَّرِ، فَلَوْ آجَرَهُ وَلَدُهُ بِعَبْدٍ وَنَوَاهُ لِلتِّجَارَةِ كَانَ لِلتِّجَارَةِ، وَبِالْمِيرَاثِ مَا دَخَلَ لَهُ مِنْ حُبُوبِ أَرْضِهِ فَنَوَى إمْسَاكَهَا لِلتِّجَارَةِ فَلَا تَجِبُ لَوْ بَاعَهَا بَعْدَ حَوْلٍ

(قَوْلُهُ وَلَا يَجُوزُ إلَخْ) حَصَرَ الْجَوَازَ فِي الْأَمْرَيْنِ، فَأَفَادَ أَنَّهُ لَوْ نَوَى الزَّكَاةَ وَجَعَلَ يَتَصَدَّقُ وَلَوْ إلَى آخِرِ السَّنَةِ وَلَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ لَا يَسْقُطُ عَنْهُ شَيْءٌ إلَّا زَكَاةَ مَا تَصَدَّقَ بِهِ عَلَى قَوْلِ مُحَمَّدٍ، وَلَوْ دَفَعَهَا لِلْوَكِيلِ فَالْعِبْرَةُ لِنِيَّةِ

(2/169)


لِأَنَّ الزَّكَاةَ عِبَادَةٌ فَكَانَ مِنْ شَرْطِهَا النِّيَّةُ وَالْأَصْلُ فِيهَا الِاقْتِرَانُ، إلَّا أَنَّ الدَّفْعَ يَتَفَرَّقُ فَاكْتُفِيَ بِوُجُودِهَا حَالَةَ الْعَزْلِ تَيْسِيرًا كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ فِي الصَّوْمِ.

(وَمَنْ تَصَدَّقَ بِجَمِيعِ مَالِهِ لَا يَنْوِي الزَّكَاةَ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ اسْتِحْسَانًا) لِأَنَّ الْوَاجِبَ جُزْءٌ مِنْهُ فَكَانَ مُتَعَيِّنًا فِيهِ فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّعْيِينِ (وَلَوْ أَدَّى بَعْضَ النِّصَابِ سَقَطَ زَكَاةُ الْمُؤَدَّى عِنْدَ مُحَمَّدٍ) لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ، وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لَا تَسْقُطُ لِأَنَّ الْبَعْضَ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ لِكَوْنِ الْبَاقِي مَحَلًّا لِلْوَاجِبِ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمَالِكِ، وَفِيهِ بَحْثٌ لِبَعْضِهِمْ لَمْ يُعَرِّجْ عَلَيْهِ فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ. قَالَ: أَعْطَى رَجُلًا دَرَاهِمَ لِيَتَصَدَّقَ بِهَا تَطَوُّعًا فَلَمْ يَتَصَدَّقْ حَتَّى نَوَى الْآمِرُ مِنْ زَكَاةِ مَالِهِ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَتَلَفَّظَ بِهِ ثُمَّ تَصَدَّقَ الْمَأْمُورُ جَازَتْ عَنْ الزَّكَاةِ انْتَهَى. وَكَذَا لَوْ قَالَ عَنْ كَفَّارَتِي ثُمَّ نَوَى الزَّكَاةَ قَبْلَ دَفْعِهِ (قَوْلُهُ كَتَقْدِيمِ النِّيَّةِ إلَخْ) حَاصِلُهُ إلْحَاقُ الزَّكَاةِ بِالصَّوْمِ فِي جَوَازِ تَقْدِيمِ النِّيَّةِ عَلَى الشُّرُوعِ بِجَامِعِ لُحُوقِ لُزُومِ الْحَرَجِ فِي إلْزَامِ الْمُقَارَنَةِ، وَسَبَبُهُ فِي الزَّكَاةِ تَفَرُّقُ الدَّفْعِ لِلْكَثِيرِينَ

(قَوْلُهُ سَقَطَ فَرْضُهَا عَنْهُ) بِشَرْطِ أَنْ لَا يَنْوِيَ بِهَا وَاجِبًا آخَرَ مِنْ نَذْرٍ وَغَيْرِهِ سَوَاءٌ نَوَى النَّفَلَ أَوْ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ، بِخِلَافِ رَمَضَانَ لَا بُدَّ فِيهِ مِنْ نِيَّةِ الْقُرْبَةِ. وَالْفَرْقُ أَنَّ دَفْعَ الْمَالِ لِلْفَقِيرِ بِنَفْسِهِ قُرْبَةٌ كَيْفَ كَانَ، بِخِلَافِ الْإِمْسَاكِ انْقَسَمَ إلَى عَادَةٍ وَعِبَادَةٍ فَاحْتَاجَ إلَى تَمْيِيزٍ بِالْقَصْدِ، وَإِذَا وَقَعَ أَدَاءُ الْكُلِّ قُرْبَةً فِيمَا نَحْنُ فِيهِ لَمْ يَحْتَجْ إلَى تَعْيِينِ الْفَرْضِ لِأَنَّ الْفَرْضَ أَنَّهُ دَفْعُ الْكُلِّ وَالْحَاجَةُ إلَى تَعْيِينِ الْفَرْضِ لِلْمُزَاحَمَةِ بَيْنَ الْجُزْءِ الْمُؤَدَّى وَسَائِرِ الْأَجْزَاءِ، وَبِأَدَاءِ الْكُلِّ لِلَّهِ تَعَالَى تَحَقَّقَ أَدَاءُ الْجُزْءِ الْوَاجِبِ (قَوْلُهُ لِأَنَّ الْوَاجِبَ شَائِعٌ فِي الْكُلِّ) فَصَارَ كَهَلَاكِ الْبَعْضِ فَسَقَطَ زَكَاتُهُ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْأَوَّلِ)

(2/170)