فتح القدير للكمال ابن الهمام

كِتَابُ الصَّوْمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَمَا قِيلَ مِنْ مَنْعِ سُقُوطِ الْأُضْحِيَّةِ بَلْ يَنْتَقِلُ إلَى التَّصْدِيقِ بِمَا لَيْسَ بِشَيْءٍ، إذْ لَا يَنْتَفِي بِذَلِكَ كَوْنُ نَفْسِ الْأُضْحِيَّةِ وَهُوَ إرَاقَةُ دَمٍ سِنٌّ مُقَدَّرٌ قَدْ سَقَطَ، وَهَذَا شَيْءٌ آخَرُ، وَرُبَّمَا يُؤْخَذُ سُقُوطُهَا بِبَادِئِ الرَّأْيِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ الْمُتَقَدِّمِ أَوَّلَ الْبَابِ حَدِيثُ قَالَ: «مَنْ أَدَّاهَا قَبْلَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مَقْبُولَةٌ، وَمَنْ أَدَّاهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ فَهِيَ صَدَقَةٌ مِنْ الصَّدَقَاتِ» لَكِنْ قَدْ يُدْفَعُ بِاتِّحَادِ مَرْجِعِ ضَمِيرِ أَدَّاهَا فِي الْمَرَّتَيْنِ إذْ يُفِيدُ أَنَّهَا هِيَ الْمُؤَدَّاةُ بَعْدَ الصَّلَاةِ غَيْرَ أَنَّهُ نَقَصَ الثَّوَابَ فَصَارَتْ كَغَيْرِهَا مِنْ الصَّدَقَاتِ، عَلَى أَنَّ اعْتِبَارَ ظَاهِرِهِ يُؤَدِّي إلَى سُقُوطِهَا بَعْدَ الصَّلَاةِ وَإِنْ كَانَ فِي بَاقِي الْيَوْمِ، وَلَيْسَ هَذَا قَوْلُهُ فَهُوَ مَصْرُوفٌ عَنْهُ عِنْدَهُ.
[فَرْعٌ]
اُخْتُلِفَ فِي جَوَازِ إعْطَاءِ فِطْرَةِ كُلِّ شَخْصٍ إلَى أَكْثَرَ مِنْ شَخْصٍ، فَعِنْدَ الْكَرْخِيِّ: يَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَهَا لِجَمَاعَةٍ، لَوْ عِنْدَ غَيْرِهِ لَا يُجْزِئُ أَنْ يُعْطِيَهَا إلَّا وَاحِدًا، وَيَجُوزُ أَنْ يُعْطِيَ وَاحِدًا صَدَقَةَ جَمَاعَةٍ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ.

[كِتَابُ الصَّوْمِ]
هَذَا ثَالِثُ أَرْكَانِ الْإِسْلَامِ بَعْدَ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ، شَرَعَهُ سُبْحَانَهُ لِفَوَائِدَ أَعْظَمُهَا كَوْنُهُ مُوجِبًا شَيْئَيْنِ: أَحَدَهُمَا عَنْ الْآخَرِ سُكُونَ النَّفْسِ الْأَمَّارَةِ، وَكَسْرَ سَوْرَتِهَا فِي الْفُضُولِ الْمُتَعَلِّقَةِ بِجَمِيعِ الْجَوَارِحِ مِنْ الْعَيْنِ وَاللِّسَانِ وَالْأُذُنِ وَالْفَرْجِ، فَإِنَّ بِهِ تَضْعُفُ حَرَكَتُهَا فِي مَحْسُوسَاتِهَا، وَلِذَا قِيلَ: إذَا جَاعَتْ النَّفْسُ شَبِعَتْ جَمِيعُ الْأَعْضَاءِ وَإِذَا شَبِعَتْ جَاعَتْ كُلُّهَا، وَمَا عَنْ هَذَا صَفَاءُ الْقَلْبِ مِنْ الْكَدَرِ، فَإِنَّ الْمُوجِبَ لِكُدُورَاتِهِ فُضُولُ اللِّسَانِ

(2/300)


قَالَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (الصَّوْمُ ضَرْبَانِ: وَاجِبٌ وَنَفْلٌ، وَالْوَاجِبُ ضَرْبَانِ: مِنْهُ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ بِعَيْنِهِ كَصَوْمِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُعَيَّنِ فَيَجُوزُ صَوْمُهُ بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ حَتَّى أَصْبَحَ أَجْزَأَهُ النِّيَّةُ مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ)
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا يُجْزِيهِ. اعْلَمْ أَنَّ صَوْمَ رَمَضَانَ فَرِيضَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} [البقرة: 183] وَعَلَى فَرْضِيَّتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ وَلِهَذَا يَكْفُرُ جَاحِدُهُ، وَالْمَنْذُورُ وَاجِبٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالْعَيْنِ وَبَاقِيهَا، وَبِصَفَائِهِ تُنَاطُ الْمَصَالِحُ وَالدَّرَجَاتُ، وَمِنْهَا: كَوْنُهُ مُوجِبًا لِلرَّحْمَةِ وَالْعَطْفِ عَلَى الْمَسَاكِينِ فَإِنَّهُ لَمَّا ذَاقَ أَلَمَ الْجُوعِ فِي بَعْضِ الْأَوْقَاتِ ذَكَرَ مَنْ هَذَا فِي عُمُومِ الْأَوْقَاتِ فَتُسَارِعُ إلَيْهِ الرِّقَّةُ عَلَيْهِ، وَالرَّحْمَةُ حَقِيقَتُهَا فِي حَقِّ الْإِنْسَانِ نَوْعُ أَلَمٍ بَاطِنٍ فَيُسَارِعُ لِدَفْعِهِ عَنْهُ بِالْإِحْسَانِ إلَيْهِ فَيَنَالُ مَا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى مِنْ حُسْنِ الْجَزَاءِ. وَمِنْهَا مُوَافَقَةُ الْفُقَرَاءِ بِتَحَمُّلِ مَا يَتَحَمَّلُونَ أَحْيَانًا وَفِي ذَلِكَ رَفْعُ حَالِهِ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى، كَمَا حَكَى بِشْرٌ الْحَافِيُّ أَنَّهُ دَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ فِي الشِّتَاءِ فَوَجَدَهُ جَالِسًا يَرْعُدُ وَثَوْبُهُ مُعَلَّقٌ عَلَى الْمِشْجَبِ. فَقَالَ لَهُ: فِي مِثْلِ هَذَا الْوَقْتِ يُنْزَعُ الثَّوْبُ؟ وَمَعْنَاهُ، فَقَالَ: يَا أَخِي الْفُقَرَاءُ كَثِيرٌ، وَلَيْسَ لِي طَاقَةُ مُوَاسَاتِهِمْ بِالثِّيَابِ فَأُوَاسِيهِمْ بِتَحَمُّلِ الْبَرْدِ كَمَا يَتَحَمَّلُونَ.
وَالصَّوْمُ لُغَةً: الْإِمْسَاكُ مُطْلَقًا، صَامَ عَنْ الْكَلَامِ وَغَيْرِهِ، قَالَ النَّابِغَةُ:

(2/301)


وَسَبَبُ الْأَوَّلِ الشَّهْرُ وَلِهَذَا يُضَافُ إلَيْهِ وَيَتَكَرَّرُ بِتَكَرُّرِهِ وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِوُجُوبِ صَوْمِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
خَيْلٌ صِيَامٌ وَخَيْلٌ غَيْرُ صَائِمَةٍ ... تَحْتَ الْعَجَاجِ وَأُخْرَى تَعْلُك اللُّجُمَا
وَفِي الشَّرْعِ: إمْسَاكٌ عَنْ الْجِمَاعِ، وَعَنْ إدْخَالِ شَيْءٍ بَطْنًا لَهُ حُكْمُ الْبَاطِنِ مِنْ الْفَجْرِ إلَى الْغُرُوبِ عَنْ نِيَّةٍ، وَذَكَرْنَا الْبَطْنَ وَوَصَفْنَاهُ لِأَنَّهُ لَوْ أَوْصَلَ إلَى بَاطِنِ دِمَاغِهِ شَيْئًا فَسَدَ وَإِلَى بَاطِنِ فَمِهِ وَأَنْفِهِ لَا يَفْسُدُ،
وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِي تَعْرِيفِ الْقُدُورِيِّ، وَذَلِكَ الْإِمْسَاكُ رُكْنُهُ وَسَبَبُهُ مُخْتَلِفٌ، فَفِي الْمَنْذُورِ النَّذْرُ، وَلِذَا قُلْنَا: لَوْ نَذَرَ صَوْمَ شَهْرٍ بِعَيْنِهِ كَرَجَبٍ، أَوْ يَوْمٍ بِعَيْنِهِ، فَصَامَ عَنْهُ جُمَادَى وَيَوْمًا آخَرَ أَجْزَأَ عَنْ الْمَنْذُورِ، لِأَنَّهُ تَعْجِيلٌ بَعْدَ وُجُودِ السَّبَبِ وَيَلْغُو تَعْيِينُ الْيَوْمِ لِأَنَّ صِحَّةَ النَّذْرِ وَلُزُومَهُ عَمَّا بِهِ يَكُونُ الْمَنْذُورُ عِبَادَةً إذْ لَا نَذْرَ بِغَيْرِهَا، وَالْمُتَحَقِّقُ لِذَلِكَ الصَّوْمُ لَا خُصُوصُ الزَّمَانِ وَلَا بِاعْتِبَارِهِ، وَسَبَبُ صَوْمِ الْكَفَّارَاتِ أَسْبَابُهَا مِنْ الْحِنْثِ وَالْقَتْلِ، وَسَبَبُ الْقَضَاءِ هُوَ سَبَبُ وُجُودِ الْأَدَاءِ، وَسَبَبُ رَمَضَانَ شُهُودُ جُزْءٍ مِنْ الشَّهْرِ لَيْلِهِ أَوْ نَهَارِهِ، وَكُلُّ يَوْمٍ سَبَبُ وُجُوبِ أَدَائِهِ لِأَنَّهَا عِبَادَاتٌ مُتَفَرِّقَةٌ كَتَفَرُّقِ الصَّلَوَاتِ فِي الْأَوْقَاتِ، بَلْ أَشَدُّ لِتَخَلُّلِ زَمَانٍ لَا يَصْلُحُ لِلصَّوْمِ وَهُوَ اللَّيْلُ، وَجَمَعَ الْمُصَنِّفُ بَيْنَهُمَا لِأَنَّهُ لَا مُنَافَاةَ فَشُهُودُ جُزْءٍ مِنْهُ سَبَبٌ لِكُلِّهِ ثُمَّ كُلُّ يَوْمٍ سَبَبٌ لِصَوْمِهِ، غَايَةُ الْأَمْرِ أَنَّهُ تَكَرَّرَ سَبَبُ وُجُوبِ صَوْمِ الْيَوْمِ بِاعْتِبَارِ خُصُوصِهِ وَدُخُولِهِ فِي ضِمْنِ غَيْرِهِ، وَشَرْطُ وُجُوبِهِ الْإِسْلَامُ، وَالْبُلُوغُ، وَالْعَقْلُ. وَشَرْطُ وُجُوبِ أَدَائِهِ: الصِّحَّةُ، وَالْإِقَامَةُ. وَشَرْطُ صِحَّتِهِ: الطَّهَارَةُ عَنْ الْحَيْضِ وَالنِّفَاسِ، وَالنِّيَّةُ.
وَيَنْبَغِي أَنْ يُزَادَ فِي الشُّرُوطِ: الْعِلْمُ بِالْوُجُوبِ، أَوْ الْكَوْنُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَيُرَادُ بِالْعِلْمِ الْإِدْرَاكُ، وَهَذَا لِأَنَّ الْحَرْبِيَّ إذَا أَسْلَمَ فِي دَارِ الْحَرْبِ وَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ عَلَيْهِ صَوْمَ رَمَضَانَ ثُمَّ عَلِمَ لَيْسَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى، وَإِنَّمَا يَحْصُلُ الْعِلْمُ الْمُوجِبُ بِإِخْبَارِ رَجُلَيْنِ أَوْ رَجُلٍ وَامْرَأَتَيْنِ أَوْ وَاحِدٍ عَدْلٍ

(2/302)


وَسَبَبُ الثَّانِي النَّذْرُ

وَالنِّيَّةُ مِنْ شَرْطِهِ وَسَنُبَيِّنُهُ وَتَفْسِيرُهُ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. وَجْهُ قَوْلِهِ فِي الْخِلَافِيَّةِ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ فَسَدَ الثَّانِي ضَرُورَةً أَنَّهُ لَا يَتَجَزَّأُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَعِنْدَهُمَا لَا تُشْتَرَطُ الْعَدَالَةُ وَلَا الْبُلُوغُ وَلَا الْحُرِّيَّةُ، وَلَوْ أَسْلَمَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ مَا مَضَى بَعْدَ الْإِسْلَامِ عَلِمَ بِالْوُجُوبِ أَوْ لَا، وَحُكْمُهُ سُقُوطُ الْوَاجِبِ، وَنَيْلُ ثَوَابِهِ، وَإِنْ كَانَ صَوْمًا لَازِمًا وَإِلَّا فَالثَّانِي.
وَأَقْسَامُهُ: فَرْضٌ، وَوَاجِبٌ، وَمَسْنُونٌ، وَمَنْدُوبٌ، وَنَفْلٌ، وَمَكْرُوهٌ تَنْزِيهًا وَتَحْرِيمًا. فَالْأَوَّلُ رَمَضَانُ، وَقَضَاؤُهُ، وَالْكَفَّارَاتُ لِلظِّهَارِ وَالْقَتْلِ وَالْيَمِينِ، وَجَزَاءِ الصَّيْدِ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى فِي الْإِحْرَامِ لِثُبُوتِ هَذِهِ بِالْقَاطِعِ سَنَدًا وَمَتْنًا وَالْإِجْمَاعِ عَلَيْهَا. وَالْوَاجِبُ: الْمَنْذُورُ وَالْمَسْنُونُ عَاشُورَاءَ مَعَ التَّاسِعِ، وَالْمَنْدُوبُ: صَوْمُ ثَلَاثَةٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ وَيَنْدُبُ فِيهَا كَوْنُهَا الْأَيَّامَ الْبِيضَ، وَكُلُّ صَوْمٍ ثَبَتَ بِالسُّنَّةِ طَلَبُهُ وَالْوَعْدُ عَلَيْهِ كَصَوْمِ دَاوُد - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - وَنَحْوِهِ.
وَالنَّفَلُ: مَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا لَمْ تَثْبُتْ كَرَاهَتُهُ. وَالْمَكْرُوهُ تَنْزِيهًا: عَاشُورَاءُ مُفْرَدًا عَنْ التَّاسِعِ وَنَحْوَ يَوْمِ الْمِهْرَجَانِ.
وَتَحْرِيمًا: أَيَّامُ التَّشْرِيقِ وَالْعِيدَيْنِ، وَسَنَعْقِدُ بِذَيْلِ هَذَا الْبَابِ فُرُوعًا لِتَفْصِيلِ هَذِهِ. فَإِنْ قِيلَ: لِمَ كَانَ الْمَنْذُورُ وَاجِبًا مَعَ أَنَّ ثُبُوتَهُ بِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} [الحج: 29] ؟ أُجِيبُ: بِأَنَّهُ عَامٌّ دَخَلَهُ الْخُصُوصُ فَإِنَّهُ خَصَّ النَّذْرَ بِالْمَعْصِيَةِ وَبِمَا لَيْسَ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ كَعِيَادَةِ الْمَرِيضِ، أَوْ كَانَ لَكِنَّهُ غَيْرُ مَقْصُودٍ لِنَفْسِهِ بَلْ لِغَيْرِهِ حَتَّى لَوْ نَذَرَ الْوُضُوءَ لِكُلِّ صَلَاةٍ لَمْ يَلْزَمْ فَصَارَتْ ظَنِّيَّةً كَالْآيَةِ الْمُؤَوَّلَةِ فَيُفِيدُ الْوُجُوبَ، وَقَدْ عُلِمَ مِمَّا ذَكَرْنَا شُرُوطُ لُزُومِ النَّذْرِ وَهِيَ: كَوْنُ الْمَنْذُورِ مِنْ جِنْسِهِ وَاجِبٌ لَا لِغَيْرِهِ، عَلَى هَذَا تَضَافَرَتْ كَلِمَاتُ الْأَصْحَابِ، فَقَوْلُ صَاحِبِ الْمَجْمَعِ تَبَعًا لِصَاحِبِ الْبَدَائِعِ: يُفْتَرَضُ صَوْمُ رَمَضَانَ وَصَوْمُ الْمَنْذُورِ وَالْكَفَّارَةِ عَلَى غَيْرِ مَا يَنْبَغِي عَلَى هَذَا لَكِنَّ الْأَظْهَرَ أَنَّهُ فَرْضٌ لِلْإِجْمَاعِ عَلَى لُزُومِهِ.

، وَلَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي الْكُلِّ وَالْكَلَامِ فِي وَقْتِهَا الَّذِي يُعْتَبَرُ فِيهِ فَقُلْنَا فِي رَمَضَانَ وَالْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ وَالنَّفَلِ تَجْزِيهِ النِّيَّةُ مِنْ بَعْدِ الْغُرُوبِ إلَى مَا قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ فِي صَوْمِ ذَلِكَ النَّهَارِ وَفِيمَا سِوَى ذَلِكَ مِنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَاتِ، وَالْمَنْذُورِ الْمُطْلَقِ كَنَذْرِ صَوْمِ يَوْمٍ مِنْ غَيْرِ تَعْيِينٍ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِهَا فِي اللَّيْلِ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: لَا تَجْزِي فِي غَيْرِ النَّفْلِ إلَّا مِنْ اللَّيْلِ. وَقَالَ مَالِكٌ: لَا تَجْزِي إلَّا مِنْ اللَّيْلِ فِي النَّفْلِ وَغَيْرِهِ. وَالْمُصَنِّفُ ذَكَرَ خِلَافَ الشَّافِعِيِّ. (وَقَوْلُهُ وَجْهٌ فِي الْخِلَافِيَّةِ قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَا صِيَامَ لِمَنْ إلَخْ) اسْتَدَلَّ بِالْحَدِيثِ وَالْمَعْنَى. أَمَّا الْحَدِيثُ

(2/303)


بِخِلَافِ النَّفْلِ لِأَنَّهُ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ. وَلَنَا «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَمَا شَهِدَ الْأَعْرَابِيُّ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ أَلَا مَنْ أَكَلَ فَلَا يَأْكُلَنَّ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَأْكُلْ فَلْيَصُمْ» وَمَا رَوَاهُ مَحْمُولٌ عَلَى نَفْيِ الْفَضِيلَةِ وَالْكَمَالِ، أَوْ مَعْنَاهُ لَمْ يَنْوِ أَنَّهُ صَوْمٌ مِنْ اللَّيْلِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَمَا ذَكَرَهُ رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ، وَاخْتَلَفُوا فِي لَفْظِهِ «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» يُجْمَعُ بِالتَّشْدِيدِ وَالتَّخْفِيفِ يُبَيِّتْ «وَلَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَفْرِضْهُ مِنْ اللَّيْلِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ. وَاخْتَلَفُوا فِي رَفْعِهِ وَوَقْفِهِ، وَلَمْ يَرْوِهِ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّإِ إلَّا مِنْ كَلَامِ ابْنِ عُمَرَ وَعَائِشَةَ وَحَفْصَةَ زَوْجَيْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، وَالْأَكْثَرُ عَلَى وَقْفِهِ، وَقَدْ رَفَعَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - عَنْ الزُّهْرِيِّ يَبْلُغُ بِهِ حَفْصَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَنْ لَمْ يَجْمَعْ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» وَوَقَفَهُ عَنْهُ عَلَى حَفْصَةَ مَعْمَرٌ وَالزُّبَيْرِيُّ وَابْنُ عُيَيْنَةَ وَيُونُسُ الْأَيْلِيُّ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ ثِقَةٌ، وَالرَّفْعُ زِيَادَةٌ وَهِيَ مِنْ الثِّقَةِ مَقْبُولَةٌ، وَلَفْظُ " يُبَيِّتْ " عِنْدَ الدَّارَقُطْنِيِّ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - عَنْهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ قَبْلَ الْفَجْرِ فَلَا صِيَامَ لَهُ» .
قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: تَفَرَّدَ بِهِ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ عَنْ الْفَضْلِ بِهَذَا الْإِسْنَادِ وَكُلُّهُمْ ثِقَاتٌ، وَأَقَرَّهُ الْبَيْهَقِيُّ عَلَيْهِ.
وَنَظَرَ فِيهِ: بِأَنَّ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّادٍ غَيْرُ مَشْهُورٍ وَيَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ لَيْسَ بِالْقَوِيِّ، وَهُوَ مِنْ رِجَالِهِ. وَقَالَ ابْنُ حِبَّانَ: عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّادٍ الْبَصْرِيُّ يُقَلِّبُ الْأَخْبَارَ. قَالَ: رَوَى عَنْهُ رَوْحُ بْنُ الْفَرَجِ نُسْخَةً مَوْضُوعَةً، وَأَمَّا الْمَعْنَى فَهُوَ قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ لَمَّا فَسَدَ الْجُزْءُ الْأَوَّلُ لِفَقْدِ النِّيَّةِ فِيهِ إذْ الْفَرْضُ اشْتِرَاطُهَا فِي صِحَّةِ الصَّوْمِ، وَلَمْ تُوجَدْ فِي الْأَجْزَاءِ الْأُوَلِ مِنْ النَّهَارِ فَسَدَ الْبَاقِي، وَإِنْ وُجِدَتْ النِّيَّةُ فِيهِ ضَرُورَةُ عَدَمِ انْقِلَابِ الْفَاسِدِ صَحِيحًا، وَعَدَمُ تَجَزِّي الصَّوْمِ صِحَّةً وَفَسَادًا، لَا يُقَالُ لِمَا لَمْ يَتَجَزَّأْ صِحَّةً وَفَسَادًا وَقَدْ صَحَّ مَا اُقْتُرِنَ بِالنِّيَّةِ صَحَّ الْكُلُّ ضَرُورَةً ذَاكَ لِأَنَّ الْمُحَرَّمَ مُقَدَّمٌ، وَهَذَا بِخِلَافِ النَّفْلِ لِأَنَّهُ مُنَجَّزٌ عِنْدِي لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى النَّشَاطِ وَقَدْ يَنْشَطُ فِي بَعْضِ الْيَوْمِ، أَوْ نَقُولُ: تَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكَاتُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ عَلَى وُجُودِ النِّيَّةِ فِي بَاقِيهِ فِي النَّفْلِ اعْتِبَارًا لَهُ أَخَفُّ حَالًا مِنْ الْفَرْضِ، حَتَّى جَازَتْ صَلَاتُهُ قَاعِدًا وَرَاكِبًا غَيْرَ مُسْتَقْبِلٍ الْقِبْلَةَ، بِخِلَافِ الْفَرْضِ، ثُمَّ يَدُلُّ عَلَى هَذَا الِاعْتِبَارِ مَا أَخْرَجَهُ مُسْلِمٌ عَنْ «عَائِشَةَ قَالَتْ: دَخَلَ عَلَيَّ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَاتَ يَوْمٍ فَقَالَ: هَلْ عِنْدَكُمْ شَيْءٌ؟ فَقُلْنَا: لَا، فَقَالَ: إنِّي إذًا صَائِمٌ، ثُمَّ أَتَى يَوْمًا آخَرَ فَقُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ أُهْدِيَ لَنَا حَيْسٌ، فَقَالَ: أَرِنِيهِ فَلَقَدْ أَصْبَحْتُ صَائِمًا فَأَكَلَ» .
(قَوْلُهُ وَلَنَا) حَاصِلُ اسْتِدْلَالِهِ بِالنَّصِّ وَالْقِيَاسِ عَلَى النَّفْلِ ثُمَّ تَأْوِيلِ مَرْوِيِّهِ بِدَلِيلٍ يُوجِبُ ذَلِكَ، أَمَّا النَّصُّ فَمَا ذَكَرَهُ وَهُوَ مُسْتَغْرَبٌ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِهِ بَلْ الْمَعْرُوفُ أَنَّهُ «شَهِدَ عِنْدَهُ بِرُؤْيَةِ الْهِلَالِ فَأَمَرَ

(2/304)


وَلِأَنَّهُ يَوْمُ صَوْمٍ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِهِ عَلَى النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ الْمُقْتَرِنَةِ بِأَكْثَرِهِ كَالنَّفْلِ، وَهَذَا لِأَنَّ الصَّوْمَ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ وَالنِّيَّةُ لِتَعْيِينِهِ لِلَّهِ تَعَالَى فَتَتَرَجَّحُ بِالْكَثْرَةِ جَنْبَةُ الْوُجُودِ بِخِلَافِ الصَّلَاةِ وَالْحَجِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَنْ يُنَادَى فِي النَّاسِ أَنْ يَصُومُوا غَدًا» رَوَاهُ الدَّارَقُطْنِيُّ بِلَفْظٍ صَرِيحٍ فِيهِ، وَمَا رَوَاهُ أَصْحَابُ السُّنَنِ الْأَرْبَعَةِ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ «جَاءَ أَعْرَابِيٌّ إلَى النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَقَالَ: إنِّي رَأَيْت الْهِلَالَ قَالَ الْحَسَنُ فِي حَدِيثِهِ يَعْنِي رَمَضَانَ فَقَالَ: أَتَشْهَدُ أَنْ لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَتَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: يَا بِلَالُ أَذِّنْ فِي النَّاسِ فَلْيَصُومُوا» مُحْتَمَلٌ لِكَوْنِهِ شَهِدَ فِي النَّهَارِ أَوْ اللَّيْلِ فَلَا يُحْتَجُّ بِهِ، وَاسْتَدَلَّ الطَّحَاوِيُّ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ «أَنَّهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَمَرَ رَجُلًا مِنْ أَسْلَمَ أَنْ أَذِّنْ فِي النَّاسِ أَنَّ مَنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ بَقِيَّةَ يَوْمِهِ، وَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَكَلَ فَلْيَصُمْ فَإِنَّ الْيَوْمَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ» .
فِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ كَانَ أَمْرَ إيجَابٍ قَبْلَ نَسْخِهِ بِرَمَضَانَ، إذْ لَا يُؤْمَرُ مَنْ أَكَلَ بِإِمْسَاكِ بَقِيَّةِ الْيَوْمِ إلَّا فِي يَوْمٍ مَفْرُوضِ الصَّوْمِ بِعَيْنِهِ ابْتِدَاءً، بِخِلَافِ قَضَاءِ رَمَضَانَ إذَا أَفْطَرَ فِيهِ فَعَلِمَ أَنَّ مَنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ صَوْمُ يَوْمٍ وَلَمْ يَنْوِهِ لَيْلًا أَنَّهُ يَجْزِيهِ نِيَّتُهُ نَهَارًا، وَهَذَا بِنَاءً عَلَى أَنَّ عَاشُورَاءَ كَانَ وَاجِبًا، وَقَدْ مَنَعَهُ ابْنُ الْجَوْزِيِّ بِمَا فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ مُعَاوِيَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَقُولُ: «هَذَا يَوْمُ عَاشُورَاءَ لَمْ يُفْرَضْ عَلَيْنَا صِيَامُهُ فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَصُومَ فَلْيَصُمْ فَإِنِّي صَائِمٌ فَصَامَ النَّاسُ» قَالَ: وَبِدَلِيلِ أَنَّهُ لَمْ يَأْمُرْ مَنْ أَكَلَ بِالْقَضَاءِ، وَيُدْفَعُ بِأَنَّ مُعَاوِيَةَ مِنْ مُسْلِمَةِ الْفَتْحِ فَإِنْ كَانَ سَمِعَ هَذَا بَعْدَ إسْلَامِهِ فَإِنَّمَا يَكُونُ سَمِعَهُ سَنَةَ تِسْعٍ أَوْ عَشْرٍ فَيَكُونُ ذَلِكَ بَعْدَ نَسْخِهِ بِإِيجَابِ رَمَضَانَ، وَيَكُونُ الْمَعْنَى لَمْ يُفْرَضْ بَعْدَ إيجَابِ رَمَضَانَ جَمْعًا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْأَدِلَّةِ الصَّرِيحَةِ فِي وُجُوبِهِ أَيْ فَرِيضَتِهِ، وَإِنْ كَانَ سَمِعَهُ قَبْلَهُ فَيَجُوزُ كَوْنُهُ قَبْلَ افْتِرَاضِهِ، وَنَسَخَ عَاشُورَاءَ رَمَضَانُ فِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ: «كَانَ يَوْمُ عَاشُورَاءَ يَوْمًا يَصُومُهُ قُرَيْشٌ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَصُومُهُ، فَلَمَّا قَدِمَ الْمَدِينَةَ صَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: مَنْ شَاءَ صَامَهُ وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ» وَكَوْنُ لَفْظِ " أَمَرَ " مُشْتَرَكًا بَيْنَ الصِّيغَةِ الطَّالِبَةِ نَدْبًا وَإِيجَابًا مَمْنُوعٌ، وَلَوْ سُلِّمَ فَقَوْلُهَا: فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانُ قَالَ: مَنْ شَاءَ إلَخْ: دَلِيلٌ أَنَّهُ مُسْتَعْمَلٌ هُنَا فِي الصِّيغَةِ الْمُوجِبَةِ لِلْقَطْعِ بِأَنَّ التَّخْيِيرَ لَيْسَ بِاعْتِبَارِ النَّدْبِ لِأَنَّهُ مَنْدُوبٌ إلَى الْآنِ بَلْ مَسْنُونٌ فَكَانَ بِاعْتِبَارِ الْوُجُوبِ، وَكَذَا مَا تَقَدَّمَ مِنْ الصَّحِيحَيْنِ مِنْ حَدِيثِ سَلَمَةَ بْنِ الْأَكْوَعِ، وَأَمْرُهُ مَنْ أَكَلَ بِالْإِمْسَاكِ فَثَبَتَ أَنَّ الِافْتِرَاضَ لَا يَمْنَعُ اعْتِبَارَ النِّيَّةِ مُجْزِئَةً مِنْ النَّهَارِ شَرْعًا.
وَيَلْزَمُهُ عَدَمُ

(2/305)


لِأَنَّ لَهُمَا أَرْكَانًا فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا، وَبِخِلَافِ الْقَضَاءِ لِأَنَّهُ يَتَوَقَّفُ عَلَى صَوْمِ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَهُوَ النَّفَلُ وَبِخِلَافِ مَا بَعْدَ الزَّوَالِ لِأَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ اقْتِرَانُهَا بِالْأَكْثَرِ فَتَرَجَّحَتْ جَنْبَةُ الْفَوَاتِ، ثُمَّ قَالَ فِي الْمُخْتَصَرِ: مَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الزَّوَالِ، وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ قَبْلَ نِصْفِ النَّهَارِ وَهُوَ الْأَصَحُّ، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ وُجُودِ النِّيَّةِ فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَنِصْفِهِ مِنْ وَقْتِ طُلُوعِ الْفَجْرِ إلَى وَقْتِ الضَّحْوَةِ الْكُبْرَى لَا إلَى وَقْتِ الزَّوَالِ، فَتُشْتَرَطُ النِّيَّةُ قَبْلَهَا لِتَتَحَقَّقَ فِي الْأَكْثَرِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْحُكْمِ بِفَسَادِ الْجُزْءِ الَّذِي لَمْ يَقْتَرِنْ بِهَا فِي أَوَّلِ النَّهَارِ مِنْ الشَّارِعِ، بَلْ اعْتِبَارُهُ مَوْقُوفًا إلَى أَنْ يَظْهَرَ الْحَالُ مِنْ وُجُودِهَا بَعْدَهُ أَوَّلًا فَإِذَا وُجِدَتْ ظَهَرَ اعْتِبَارُهُ عِبَادَةً لَا أَنَّهُ انْقَلَبَ صَحِيحًا بَعْدَ الْحُكْمِ بِالْفَسَادِ فَبَطَلَ ذَلِكَ الْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَهُ لِقِيَامِ مَا رَوَيْنَاهُ دَلِيلًا عَلَى عَدَمِ اعْتِبَارِهِ شَرْعًا، ثُمَّ يَجِبُ تَقْدِيمُ مَا رَوَيْنَاهُ عَلَى مَرْوِيِّهِ لِقُوَّةِ مَا فِي الصَّحِيحَيْنِ بِالنِّسْبَةِ إلَى مَا رَوَاهُ بَعْدَ نَقْلِنَا فِيهِ مِنْ الِاخْتِلَافِ فِي صِحَّةِ رَفْعِهِ فَيَلْزَمُ، إذْ قُدِّمَ كَوْنُ الْمُرَادِ بِهِ نَفْيَ الْكَمَالِ كَمَا فِي أَمْثَالِهِ مِنْ نَحْوِ: لَا وُضُوءَ لِمَنْ لَمْ يُسَمِّ وَغَيْرُهُ كَثِيرٌ، أَوْ الْمُرَادُ لَمْ يَنْوِ كَوْنَ الصَّوْمِ مِنْ اللَّيْلِ فَيَكُونُ الْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ وَهُوَ مِنْ اللَّيْلِ مُتَعَلِّقًا بِصِيَامِ الثَّانِي لَا " بيَنْوِ " أَوْ يَجْمَعُ فَحَاصِلُهُ: لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَقْصِدْ أَنَّهُ صَائِمٌ مِنْ اللَّيْلِ أَيْ مِنْ آخِرِ أَجْزَائِهِ فَيَكُونُ نَفْيًا لِصِحَّةِ الصَّوْمِ مِنْ حِينِ نَوَى مِنْ النَّهَارِ كَمَا قَالَ بِهِ الشَّافِعِيُّ.
وَلَوْ تَنَزَّلْنَا إلَى صِحَّتِهِ وَكَوْنِهِ لِنَفْيِ الصِّحَّةِ وَجَبَ أَنْ يَخُصَّ عُمُومَهُ بِمَا رَوَيْنَاهُ عِنْدَهُمْ مُطْلَقًا وَعِنْدَنَا لَوْ كَانَ قَطْعِيًّا خَصَّ بَعْضَهُ خُصِّصَ بِهِ، فَكَيْفَ وَقَدْ اجْتَمَعَ فِيهِ الظَّنِّيَّةُ وَالتَّخْصِيصُ: إذْ قَدْ خَصَّ مِنْهُ النَّفَلَ وَيَخُصُّ أَيْضًا بِالْقِيَاسِ، ثُمَّ الْكَلَامُ فِي تَعْيِينِ أَصْلِ ذَلِكَ الْقِيَاسِ فَجَعَلَهُ الْمُصَنِّفُ النَّفَلَ، وَيَرُدُّ عَلَيْهِ أَنَّهُ قِيَاسٌ مَعَ الْفَارِقِ، إذْ لَا يَلْزَمُ مِنْ التَّخْفِيفِ فِي النَّفْلِ بِذَلِكَ ثُبُوتُ مِثْلِهِ فِي الْفَرْضِ، أَلَا يَرَى إلَى جَوَازِ النَّافِلَةِ جَالِسًا بِلَا عُذْرٍ، وَعَلَى الدَّابَّةِ بِلَا عُذْرٍ مَعَ عَدَمِهِ فِي الْفَرْضِ، وَالْحَقُّ أَنَّ صِحَّتَهُ فَرْعُ ذَلِكَ النَّصِّ، فَإِنَّهُ لَمَّا ثَبَتَ جَوَازُ الصَّوْمِ فِي الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ عَلِمَ عَدَمَ اعْتِبَارِ فَرْقٍ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّفْلِ فِي هَذَا الْحُكْمِ، وَالْقِيَاسُ الَّذِي لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى ذَلِكَ قِيَاسُ النِّيَّةِ الْمُتَأَخِّرَةِ عَلَى الْمُتَقَدِّمَةِ مِنْ أَوَّلِ الْغُرُوبِ بِجَامِعِ التَّيْسِيرِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ بَيَانُهُ أَنَّ الْأَصْلَ أَنَّ النِّيَّةَ لَا تَصِحُّ إلَّا بِالْمُقَارَنَةِ أَوْ مُقَدَّمَةً مَعَ عَدَمِ اعْتِرَاضِ مَا يُنَافِي الْمَنْوِيَّ بَعْدَهَا قَبْلَ الشُّرُوعِ فِيهِ، فَإِنَّهُ يَقْطَعُ اعْتِبَارَهَا عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ فِي شُرُوطِ الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَجِبْ فِيمَا نَحْنُ فِيهِ إلَّا الْمُقَارَنَةُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، فَإِنَّهُ لَوْ نَوَى عِنْدَ الْغُرُوبِ أَجْزَأَهُ، وَلَا عَدَمُ تَخَلُّلِ الْمُنَافِي لِجَوَازِ الصَّوْمِ بِنِيَّةٍ يَتَخَلَّلُ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ الْأَكْلُ وَالشُّرْبُ وَالْجِمَاعُ مَعَ انْتِفَاءِ حُضُورِهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى انْقِضَاءِ يَوْمِ الصَّوْمِ، وَالْمَعْنَى الَّذِي لِأَجْلِهِ صَحَّتْ الْمُتَقَدِّمَةُ لِذَلِكَ التَّيْسِيرِ وَدَفْعِ الْحَرَجِ

(2/306)


وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ عِنْدَنَا، خِلَافًا لِزُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، لِأَنَّهُ لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا مِنْ الدَّلِيلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
اللَّازِمِ لَوْ أَلْزَمَ أَحَدُهُمَا.
وَهَذَا الْمَعْنَى يَقْتَضِي تَجْوِيزَهَا مِنْ النَّهَارِ لِلُزُومِ الْحَرَجِ لَوْ أُلْزِمَتْ مِنْ اللَّيْلِ فِي كَثِيرٍ مِنْ النَّاسِ كَاَلَّذِي نَسِيَهَا لَيْلًا، وَفِي حَائِضٍ طَهُرَتْ قَبْلَ الْفَجْرِ وَلَمْ تَعْلَمْ إلَّا بَعْدَهُ، وَهُوَ كَثِيرٌ جِدًّا، فَإِنَّ عَادَتَهُنَّ وَضْعُ الْكُرْسُفِ عِشَاءً ثُمَّ النَّوْمُ، ثُمَّ رَفْعُهُ بَعْدَ الْفَجْرِ، وَكَثِيرٌ مِمَّنْ يَفْعَلُ كَذَا تُصْبِحُ فَتَرَى الطُّهْرَ وَهُوَ مَحْكُومٌ بِثُبُوتِهِ قَبْلَ الْفَجْرِ، وَلِذَا تَلْزَمُهَا بِصَلَاةِ الْعِشَاءِ وَفِي صَبِيٍّ بَلَغَ بَعْدَهُ وَمُسَافِرٍ أَقَامَ وَكَافِرٍ أَسْلَمَ فَيَجِبُ الْقَوْلُ بِصِحَّتِهَا نَهَارًا، وَتَوَهَّمَ أَنَّ مُقْتَضَاهُ قَصْرُ الْجَوَازِ عَلَى هَؤُلَاءِ أَوْ أَنَّ هَؤُلَاءِ لَا يُكْثِرُونَ كَثْرَةَ غَيْرِهِمْ بَعِيدٌ عَنْ النَّظَرِ إذْ لَا يُشْتَرَطُ اتِّحَادُ كَمِّيَّةِ الْمَنَاطِ فِي الْأَصْلِ وَالْفَرْعِ، فَلَا يَلْزَمُ ثُبُوتُ الْحَرَجِ فِي الْفَرْعِ وَهُوَ الْمُتَأَخِّرَةُ بِقَدْرِ ثُبُوتِهِ فِي الْأَصْلِ، وَهُوَ الْمُتَقَدِّمَةُ بَلْ يَكْفِي ثُبُوتُهُ فِي جِنْسِ الصَّائِمِينَ، وَكَيْفَ وَالْوَاقِعُ أَنَّهُ لَمْ يَعْتَبِرْ الْمُصَحِّحُ الْحَرَجَ الزَّائِدَ وَلَا ثُبُوتَهُ فِي أَكْثَرِ الصَّائِمِينَ فِي الْأَصْلِ، فَكَذَا يَجِبُ فِي الْفَرْعِ، وَهَذَا لِأَنَّ أَكْثَرَ الصَّائِمِينَ يَكُونُونَ مُفِيقِينَ قَرِيبِ الْفَجْرِ فَقَوْمٌ لِتَهَجُّدِهِمْ وَقَوْمٌ لِسُحُورِهِمْ، فَلَوْ أُلْزِمَتْ النِّيَّةُ قَبْلَ الْفَجْرِ عَلَى وَجْهٍ لَا يَتَخَلَّلُ الْمُنَافِي بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ لَمْ يَلْزَمْ بِذَلِكَ حَرَجٌ فِي كُلِّ الصَّائِمِينَ وَلَا فِي أَكْثَرِهِمْ، بَلْ فِيمَنْ لَا يُفِيقُ إلَّا بَعْدَ الْفَجْرِ وَهُمْ قَلِيلٌ بِالنِّسْبَةِ إلَى غَيْرِهِمْ بِخِلَافِ الْبَاقِينَ قَبْلَهُ إذْ يُمْكِنُهُمْ تَأْخِيرُ النِّيَّةِ إلَى مَا بَعْدَ اسْتِيفَاءِ الْحَاجَةِ مِنْ الْأَكْلِ وَالْجِمَاعِ فَتَحْصُلُ بِذَلِكَ نِيَّةٌ سَابِقَةٌ لَمْ يَتَخَلَّلْ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الشُّرُوعِ مَا يُنَافِي الصَّوْمَ مِنْ غَيْرِ حَرَجٍ بِهِمْ، فَلَمَّا لَمْ يَجِبْ عُلِمَ أَنَّ الْمَقْصُودَ التَّيْسِيرُ بِدَفْعِ الْحَرَجِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ وَعَنْ كُلِّ صَائِمٍ وَيَلْزَمُ الْمَطْلُوبُ مِنْ شَرْعِيَّتِهِ الْمُتَأَخِّرَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ هَذَا لَا يَخُصُّ الْمُعَيَّنَ، بَلْ يَجْرِي فِي كُلِّ صَوْمٍ لَكِنَّ الْقِيَاسَ إنَّمَا يَصْلُحُ مُخَصِّصًا لِلْخَبَرِ لَا نَاسِخًا، وَلَوْ جَرَيْنَا عَلَى تَمَامِ لَازِمِ هَذَا الْقِيَاسِ كَانَ نَاسِخًا لَهُ إذْ لَمْ يَبْقَ تَحْتَهُ شَيْءٌ حِينَئِذٍ فَوَجَبَ أَنْ يُحَاذِيَ بِهِ مَوْرِدَ النَّصِّ، وَهُوَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ مِنْ رَمَضَانَ وَنَظِيرُهُ مِنْ النَّذْرِ الْمُعَيَّنِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يُلْغِيَ قَيْدَ التَّعْيِينِ فِي مَوْرِدِ النَّصِّ الَّذِي رَوَيْنَاهُ فَإِنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ إبْطَالًا لِحُكْمِ لَفْظٍ بِلَا لَفْظٍ يَنُصُّ فِيهِ فَلْيُتَأَمَّلْ وَانْتَظَمَ مَا ذَكَرْنَاهُ جَوَابُ مَالِكٍ أَيْضًا. فَإِنْ قِيلَ: فَمِنْ أَيْنَ اخْتَصَّ اعْتِبَارُهَا بِوُجُودِهَا فِي أَكْثَرِ النَّهَارِ وَمَا رَوَيْتُمْ لَا يُوجِبُهُ؟ قُلْنَا: لَمَّا كَانَ مَا رَوَيْنَاهُ وَاقِعَةَ حَالٍ لَا عُمُومَ لَهَا فِي جَمِيعِ أَجْزَاءِ النَّهَارِ احْتَمَلَ كَوْنَ إجَازَةِ الصَّوْمِ فِي تِلْكَ الْوَاقِعَةِ لِوُجُودِ النِّيَّةِ فِيهَا فِي أَكْثَرِهِ بِأَنْ يَكُونَ أَمَرَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - الْأَسْلَمِيُّ بِالنِّدَاءِ كَانَ الْبَاقِي مِنْ النَّهَارِ أَكْثَرَهُ، وَاحْتَمَلَ كَوْنُهَا لِلتَّجْوِيزِ مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا فِي الْوَاجِبِ، فَقُلْنَا بِالِاحْتِمَالِ الْأَوَّلِ لِأَنَّهُ أَحْوَطُ خُصُوصًا، وَمَعْنَاهُ نَصٌّ يَمْنَعُهَا مِنْ النَّهَارِ مُطْلَقًا وَعَضَّدَهُ الْمَعْنَى، وَهُوَ أَنَّ لِلْأَكْثَرِ مِنْ الشَّيْءِ الْوَاحِدِ حُكْمَ الْكُلِّ فِي كَثِيرٍ مِنْ مَوَارِدِ الْفِقْهِ، فَعَلَى اعْتِبَارِ هَذَا يَلْزَمُ اعْتِبَارُ كُلِّ النَّهَارِ بِلَا نِيَّةٍ لَوْ اكْتَفَى بِهَا فِي أَقَلِّهِ، فَوَجَبَ الِاعْتِبَارُ الْآخَرُ، وَإِنَّمَا اخْتَصَّ بِالصَّوْمِ فَلَمْ يَجُزْ مِثْلُهُ فِي الْحَجِّ وَالصَّلَاةِ لِأَنَّهُ رُكْنٌ وَاحِدٌ مُمْتَدٌّ فَبِالْوُجُودِ فِي أَكْثَرِهِ يُعْتَبَرُ قِيَامُهَا فِي كُلِّهِ بِخِلَافِهِمَا، فَإِنَّهُمَا أَرْكَانٌ فَيُشْتَرَطُ قِرَانُهَا بِالْعَقْدِ عَلَى أَدَائِهِمَا.
وَإِلَّا خَلَتْ بَعْضُ الْأَرْكَانِ عَنْهَا فَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الرُّكْنُ عِبَادَةً، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا حَوْلَ وَلَا قُوَّةَ إلَّا بِاَللَّهِ.
(قَوْلُهُ خِلَافًا لِزُفَرِ) فَإِنَّهُ يَقُولُ: لَا يَجُوزُ رَمَضَانُ مِنْ الْمُسَافِرِ وَالْمَرِيضِ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ لِأَنَّهُ فِي حَقِّهِمَا كَالْقَضَاءِ

(2/307)


وَهَذَا الضَّرْبُ مِنْ الصَّوْمِ يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: فِي نِيَّةِ النَّفْلِ عَابِثٌ، وَفِي مُطْلَقِهَا لَهُ قَوْلَانِ: لِأَنَّهُ بِنِيَّةِ النَّفْلِ مُعْرِضٌ عَنْ الْفَرْضِ فَلَا يَكُونُ لَهُ الْفَرْضُ. وَلَنَا أَنَّ الْفَرْضَ مُتَعَيَّنٌ فِيهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِعَدَمِ تَعَيُّنِهِ عَلَيْهِمَا. قُلْنَا لَا تَفْصِيلَ فِيمَا ذَكَرْنَا فِي الْوَاجِبِ الْمُعَيَّنِ، ثُمَّ هُمَا إنَّمَا خُولِفَ بِهِمَا الْغَيْرُ شَرْعًا فِي التَّخْفِيفِ لَا التَّغْلِيظِ، وَصَوْمُ رَمَضَانَ مُتَعَيِّنٌ بِنَفْسِهِ عَلَى الْكُلِّ غَيْرَ أَنَّهُ جَازَ لَهُمَا تَأْخِيرُهُ تَخْفِيفًا لِلرُّخْصَةِ، فَإِذَا صَامَا وَتَرَكَا التَّرْخِيصَ الْتَحَقَا بِالْمُقِيمِ.
(قَوْلُهُ وَهَذَا الضَّرْبُ) أَيْ مَا يَتَعَلَّقُ بِزَمَانٍ مِنْ الْوَاجِبِ (يَتَأَدَّى بِمُطْلَقِ النِّيَّةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ وَبِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ) وَهَذَا الْإِطْلَاقُ لَا يَتِمُّ فِي الْمَنْذُورِ الْمُعَيَّنِ، فَإِنَّهُ يَتَأَدَّى بِالنِّيَّةِ الْمُطْلَقَةِ وَبِنِيَّةِ النَّفْلِ، أَمَّا لَوْ نَوَى وَاجِبًا آخَرَ كَكَفَّارَةٍ يَقَعُ عَمَّا نَوَى، وَعَلَّلَ بِأَنَّ تَعْيِينَ النَّاذِرِ الْيَوْمَ يُعْتَبَرُ فِي إبْطَالِ مَحَلِّيَّتِهِ لِحَقٍّ لَهُ وَهُوَ النَّفَلُ لَا مَحَلِّيَّتِهِ فِي حَقٍّ حُقَّ عَلَيْهِ لِأَنَّ وِلَايَتَهُ لَا تَتَجَاوَزُ حَقَّهُ، وَأَوْرَدَ عَلَيْهِ: بِأَنَّ التَّعْيِينَ بِإِذْنِ صَاحِبِ الْحَقِّ وَهُوَ الشَّارِعُ فَيَنْبَغِي أَنْ يَتَعَدَّى إلَى حَقِّهِ لِإِذْنِهِ بِإِلْزَامِهِ عَلَى نَفْسِهِ، وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَذِنَ مُقْتَصِرًا عَلَى أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي حَقِّ نَفْسِهِ أَعْنِي الْعَبْدَ، وَأَوْرَدَ لَمَّا لَمْ يَتَعَدَّ إلَى حَقِّ صَاحِبِ الشَّرْعِ بَقِيَ مُحْتَمِلًا لِصَوْمِ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَشْتَرِطَ التَّعْيِينَ، وَلَا يَتَأَدَّى بِإِطْلَاقِ النِّيَّةِ كَالظُّهْرِ عِنْدَ ضِيقِ الْوَقْتِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ صَوْمَ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ الْوَقْتِ، وَأَصْلُ الْمَشْرُوعِ فِيهِ النَّفَلُ الَّذِي صَارَ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ، وَهُوَ وَاحِدٌ فَيَنْصَرِفُ الْمُطْلَقُ إلَيْهِ، وَكَذَا نِيَّةُ النَّفْلِ بِخِلَافِ الظُّهْرِ الْمَضِيقِ فَإِنَّ تَعْيِينَ الْوَقْتِ يُعَارِضُ التَّقْصِيرَ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ فَلَا يَتَعَيَّنُ الْوَقْتُ بَعْدَهُ لَهُ بَعْدَمَا كَانَ غَيْرَ مُتَعَيَّنٍ لَهُ

(2/308)


فَيُصَابُ بِأَصْلِ النِّيَّةِ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يُصَابُ بِاسْمِ جِنْسِهِ، وَإِذَا نَوَى النَّفَلَ أَوْ وَاجِبًا آخَرَ فَقَدْ نَوَى أَصْلَ الصَّوْمِ وَزِيَادَةَ جِهَةٍ، وَقَدْ لَغَتْ الْجِهَةُ فَبَقِيَ الْأَصْلُ وَهُوَ كَافٍ.

وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لِأَنَّ الرُّخْصَةَ كَيْ لَا تَلْزَمَ الْمَعْذُورَ مَشَقَّةٌ فَإِذَا تَحَمَّلَهَا اُلْتُحِقَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَوْلُهُ كَالْمُتَوَحِّدِ فِي الدَّارِ يَنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ) عُلِمَ مِنْ وَجْهِ قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي اشْتِرَاطِ تَعْيِينِ النِّيَّةِ أَنَّ الثَّابِتَ عَنْ الشَّارِعِ تَعْيِينُ الْمَحَلِّ وَهُوَ الزَّمَانُ لِقَبُولِ الْمَشْرُوعِ الْمُعَيَّنِ، وَلَازِمُهُ نَفْيُ صِحَّةِ غَيْرِهِ، وَهَذَا لَا يَسْتَلْزِمُ نَفْيَ لُزُومِ التَّعْيِينِ عَنْ الْمُكَلَّفِ، لِأَنَّ إلْزَامَ التَّعْيِينِ لَيْسَ لِتَعْيِينِ الْمَشْرُوعِ لِلْمَحَلِّ بَلْ لِيَثْبُتَ الْوَاجِبُ عَنْ اخْتِيَارٍ مِنْهُ فِي أَدَائِهِ لَا جَبْرًا.
وَتَعَيُّنُ الْمَحَلِّ شَرْعًا لَيْسَ عِلَّةً لِاخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ وَنِيَّةُ مُطْلَقِ الصَّوْمِ كَذَلِكَ قَوْلُكُمْ، الْمُتَوَحِّدُ يَنَالُ بِاسْمِ جِنْسِهِ كَزَيْدٍ يُنَادَى بِيَا حَيَوَانُ وَيَا رَجُلُ، قُلْنَا: إنْ أَرَادَ بِقَوْلِهِ: يَا حَيَوَانُ زَيْدًا مَثَلًا فَهُوَ صَحِيحٌ، وَلَيْسَ نَظَرُهُ إلَّا أَنْ يُرِيدَ بِمُطْلَقِ الصَّوْمِ الَّذِي هُوَ مُتَعَلِّقُ النِّيَّةِ صَوْمَ رَمَضَانَ، وَحِينَئِذٍ لَيْسَ هُوَ مَحَلُّ النِّزَاعِ لِأَنَّهُ قَصَدَ صَوْمَ رَمَضَانَ بِذَلِكَ، وَإِنْ لَمْ يُرِدْهُ بِعَيْنِهِ بِهِ بَلْ أَرَادَ فَرْدًا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ لَمْ يَخْطِرْ بِخَاطِرِهِ سِوَى ذَلِكَ، كَمَا هُوَ حَقِيقَةُ إرَادَةِ الْمُطْلَقِ مِثْلَ قَوْلِ الْأَعْمَى: يَا رَجُلًا خُذْ بِيَدِي، فَلَيْسَ هُوَ إرَادَةُ ذَلِكَ الْمُتَعَيَّنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ، بَلْ مَا يُطْلَقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ سَوَاءٌ كَانَ ذَلِكَ أَوْ غَيْرُهُ، فَلُزُومُ ثُبُوتِ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ يَكُونُ لَا عَنْ قَصْدٍ إلَيْهِ إذْ الْفَرْضُ أَنَّهُ لَمْ يُقْصَدْ بِعَيْنِهِ فَيَكُونُ حِينَئِذٍ جَبْرًا.
لَكِنْ لَا بُدَّ فِي أَدَاءِ الْفَرْضِ مِنْ الِاخْتِيَارِ، وَاخْتِيَارُ الْأَعَمِّ لَيْسَ اخْتِيَارُ الْأَخَصِّ بِخُصُوصِهِ، وَإِذَا بَطَلَ فِي الْمُطْلَقِ بَطَلَ فِي إرَادَةِ النَّفْلِ وَوَاجِبٍ آخَرَ، لِأَنَّ الصِّحَّةَ بِهِمَا إنَّمَا هِيَ بِاعْتِبَارِ الصِّحَّةِ بِالْمُطْلَقِ بِنَاءً عَلَى لَغْوِ الزَّائِدِ عَلَيْهِ فَيَبْقَى هُوَ بِهِ يَتَأَدَّى، بَلْ الْبُطْلَانُ هُنَا أَوْلَى لِأَنَّهُ يُمْكِنُ اعْتِبَارُ قَصْدِ الْمُتَعَيَّنِ بِقَصْدِ الْأَعَمِّ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ قَصَدَ مَا يَنْطَلِقُ عَلَيْهِ الِاسْمُ، وَهُوَ مِنْهَا بِخِلَافِ هَذَا إذَا لَمْ يَتَعَلَّقْ بِهِ قَصْدُ تَعْيِينِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ، ثُمَّ اعْتِبَارُ ذَلِكَ الْمُطْلَقِ الَّذِي فِي ضِمْنِهِ بَعْدَمَا لَغَا مُصَابًا بِهِ ذَلِكَ الْمُعَيَّنِ مَعَ تَصْرِيحِهِ بِأَنِّي لَمْ أُرِدْ الْمُطْلَقَ بَلْ الْكَائِنَ بِقَيْدِ كَذَا جُبِرَ عَلَى إيقَاعِهِ، وَهُوَ النَّافِي لِلصِّحَّةِ، فَكَيْفَ يُسْقِطُ صَوْمَ رَمَضَانَ وَهُوَ يُنَادِي وَيَقُولُ: لَمْ أُرِدْهُ بَلْ صَوْمُ كَذَا وَأَرَدْت عَدَمَهُ، فَإِنَّهُ مَعَ إرَادَةِ عَدَمِهِ إذَا أَرَادَ صَوْمًا آخَرَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ عِنْدَكُمْ.

(قَوْلُهُ وَلَا فَرْقَ بَيْنَ الْمُسَافِرِ وَالْمُقِيمِ وَالصَّحِيحِ وَالسَّقِيمِ) أَيْ أَنَّهُ يَتَأَدَّى رَمَضَانُ

(2/309)


بِغَيْرِ الْمَعْذُورِ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ بِنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ يَقَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ شَغَلَ الْوَقْتَ بِالْأَهَمِّ لِتَحَتُّمِهِ لِلْحَالِ وَتَخَيُّرِهِ فِي صَوْمِ رَمَضَانَ إلَى إدْرَاكِ الْعِدَّةِ. وَعَنْهُ فِي نِيَّةِ التَّطَوُّعِ رِوَايَتَانِ، وَالْفَرْقُ عَلَى إحْدَاهُمَا أَنَّهُ مَا صَرَفَ الْوَقْتَ إلَى الْأَهَمِّ. قَالَ (وَالضَّرْبُ الثَّانِي مَا يَثْبُتُ فِي الذِّمَّةِ كَقَضَاءِ رَمَضَانَ وَالنَّذْرِ الْمُطْلَقِ وَصَوْمِ الْكَفَّارَةِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مِنْهُمَا بِالْمُطْلَقَةِ وَنِيَّةِ وَاجِبٍ آخَرَ وَالنَّفَلِ عِنْدَهُمَا، وَالْوَجْهُ ظَاهِرٌ مِنْ الْكِتَابِ. (قَوْلُهُ وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا صَامَ الْمَرِيضُ وَالْمُسَافِرُ) جَمَعَ بَيْنَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْهُ. وَالْحَاصِلُ أَنَّ إخْرَاجَ أَبِي حَنِيفَةَ الْمُسَافِرَ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ بِلَا اخْتِلَافٍ فِي الرِّوَايَةِ. وَلَهُ فِيهِ طَرِيقَانِ أَحَدُهُمَا أَنَّ نَفْسَ الْوُجُوبِ وَإِنْ كَانَ ثَابِتًا فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ لِوُجُودِ سَبَبِهِ إلَّا أَنَّ الشَّارِعَ أَثْبَتَ لَهُ التَّرْخِيصَ بِتَرْكِ الصَّوْمِ تَخْفِيفًا عَلَيْهِ لِلْمَشَقَّةِ، وَمَعْنَى التَّرْخِيصِ أَنْ يَدَعَ مَشْرُوعَ الْوَقْتِ بِالْمَيْلِ إلَى الْأَخَفِّ، فَإِذَا اشْتَغَلَ بِوَاجِبٍ آخَرَ كَانَ مُتَرَخِّصًا لِأَنَّ إسْقَاطَهُ مِنْ ذِمَّتِهِ أَهَمُّ مِنْ إسْقَاطِ فَرْضِ الْوَقْتِ لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يُدْرِكَ عِدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ لَمْ يُؤَاخَذْ بِفَرْضِ الْوَقْتِ، وَيُؤَاخَذُ بِوَاجِبٍ آخَرَ، وَهَذَا يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَنْ رَمَضَانَ، وَهُوَ رِوَايَةُ ابْنِ سِمَاعَةَ عَنْهُ، إذْ لَا يُمْكِنُ إثْبَاتُ مَعْنَى التَّرَخُّصِ بِهَذِهِ النِّيَّةِ، لِأَنَّ الْفَائِدَةَ فِي النَّفْلِ لَيْسَ إلَّا الثَّوَابُ، وَهُوَ فِي الْفَرْضِ أَكْثَرُ، فَكَانَ هَذَا مَيْلًا إلَى الْأَثْقَلِ فَيَلْغُو وَصْفُ النَّفْلِيَّةِ وَيَبْقَى مُطْلَقُ الصَّوْمِ فَيَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ انْتِفَاءَ شَرْعِيَّةِ الصِّيَامَاتِ لَيْسَ مِنْ حُكْمِ الْوُجُوبِ، فَإِنَّ الْوُجُوبَ مَوْجُودٌ فِي الْوَاجِبِ الْمُوَسَّعِ بَلْ هُوَ مِنْ حُكْمِ تَعْيِينِ هَذَا الزَّمَانِ لِأَدَاءِ الْفَرْضِ، وَلَا تَعَيُّنَ فِي حَقِّ الْمُسَافِرِ، لِأَنَّهُ مُخَيَّرٌ بَيْنَ الْأَدَاءِ وَالتَّأْخِيرِ فَصَارَ هَذَا الْوَقْتُ فِي حَقِّهِ كَشَعْبَانَ فَيَصِحُّ مِنْهُ أَدَاءُ وَاجِبٍ آخَرَ كَمَا فِي شَعْبَانَ. وَهَذَا الطَّرِيقُ يُوجِبُ أَنَّهُ إذَا نَوَى النَّفَلَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى، وَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَهَاتَانِ الرِّوَايَتَانِ اللَّتَانِ حَكَاهُمَا الْمُصَنِّفُ. وَأَمَّا إخْرَاجُ الْمَرِيضِ إذَا نَوَى وَاجِبًا آخَرَ وَجَعْلُهُ كَالْمُسَافِرِ، فَهُوَ رِوَايَةُ الْحَسَنِ عَنْهُ، وَهُوَ اخْتِيَارُ صَاحِبِ الْهِدَايَةِ وَأَكْثَرِ مَشَايِخِ بُخَارَى

(2/310)


فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ) لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيِّنٍ فَلَا بُدَّ مِنْ التَّعْيِينِ مِنْ الِابْتِدَاءِ (وَالنَّفَلُ كُلُّهُ يَجُوزُ بِنِيَّةٍ قَبْلَ الزَّوَالِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ لَا بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ، فَكَانَ كَالْمُسَافِرِ فِي تَعَلُّقِ الرُّخْصَةِ فِي حَقَّةِ بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ، وَذَكَرَ فَخْرُ الْإِسْلَامِ وَشَمْسُ الْأَئِمَّةِ أَنَّهُ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِأَنَّ رُخْصَتَهُ مُتَعَلِّقَةٌ بِحَقِيقَةِ الْعَجْزِ. قِيلَ: مَا قَالَاهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ.
وَقَالَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ: وَكَشَفَ هَذَا أَنَّ الرُّخْصَةَ لَا تَتَعَلَّقُ بِنَفْسِ الْمَرَضِ بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّهُ يَتَنَوَّعُ إلَى مَا يَضُرُّ بِهِ الصَّوْمُ نَحْوَ الْحُمَّيَاتِ وَوَجَعِ الرَّأْسِ وَالْعَيْنِ وَغَيْرِهَا، وَمَا لَا يَضُرُّ بِهِ كَالْأَمْرَاضِ الرُّطُوبِيَّةِ وَفَسَادِ الْهَضْمِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالتَّرَخُّصُ إنَّمَا يَثْبُتُ لِلْحَاجَةِ إلَى دَفْعِ الْمَشَقَّةِ فَيَتَعَلَّقُ فِي النَّوْعِ الْأَوَّلِ بِخَوْفِ ازْدِيَادِ الْمَرَضِ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ فِيهِ الْعَجْزَ الْحَقِيقِيَّ دَفْعًا لِلْحَرَجِ، وَفِي الثَّانِي بِحَقِيقَتِهِ فَإِذَا صَامَ هَذَا الْمَرِيضُ عَنْ وَاجِبٍ آخَرَ أَوْ النَّفَلَ وَلَمْ يَهْلَك ظَهَرَ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ عَاجِزًا فَلَمْ يَثْبُتْ لَهُ التَّرَخُّصُ فَيَقَعُ عَنْ فَرْضِ الْوَقْتِ، وَإِذَا صَامَ ذَلِكَ الْمَرِيضُ كَذَلِكَ يَقَعُ عَمَّا نَوَى لِتَعَلُّقِهَا بِعَجْزٍ مُقَدَّرٍ، وَهُوَ ازْدِيَادُ الْمَرَضِ كَالْمُسَافِرِ، فَيَسْتَقِيمُ جَوَابُ الْفَرِيقَيْنِ، وَإِلَى هَذَا أَشَارَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ حَيْثُ قَالَ: وَذَكَرَ أَبُو الْحَسَنِ الْكَرْخِيُّ: أَنَّ الْجَوَابَ فِي الْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ سَوَاءٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -، وَهَذَا سَهْوٌ أَوْ مُؤَوَّلٌ وَمُرَادُهُ مَرِيضٌ يُطِيقُ الصَّوْمَ وَيَخَافُ مِنْهُ ازْدِيَادَ الْمَرَضِ، فَهَذَا يَدُلُّك عَلَى صِحَّةِ مَا ذَكَرْنَا.
(قَوْلُهُ فَلَا يَجُوزُ إلَّا بِنِيَّةٍ مِنْ اللَّيْلِ) لَيْسَ بِلَازِمٍ، بَلْ إنْ نَوَى مَعَ طُلُوعِ الْفَجْرِ جَازَ لِأَنَّ الْوَاجِبَ قِرَانُ النِّيَّةِ بِالصَّوْمِ لَا تَقْدِيمُهَا، كَذَا فِي فَتَاوَى قَاضِي خَانْ (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُتَعَيَّنٍ) وَقَدْ قَدَّمْنَا أَنَّ ثُبُوتَ التَّوَقُّفِ إنَّمَا كَانَ بِالنَّصِّ وَمَوْرِدُهُ كَانَ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ فَعَقَلَ أَنَّ ثُبُوتَ التَّوَقُّفِ بِوَاسِطَةِ التَّعَيُّنِ مَعَ لُزُومِ النِّيَّةِ وَاشْتِرَاطِهَا فِي أَدَاءِ الْعِبَادَةِ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يُخَلِّي الزَّمَنَ الَّذِي وَجَبَتْ فِيهِ الْعِبَادَةُ عَنْ النِّيَّةِ وَكَانَ هَذَا رِفْقًا بِالْمُكَلَّفِ كَيْ لَا يَتَضَرَّرَ فِي دِينِهِ وَدَفْعًا لِلْحَرَجِ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَا مِنْ تَقْرِيرِهِ، وَغَيْرُ الْمُعَيَّنِ لَمْ يَلْزَمْ مِنْ اعْتِبَارِ خُلُوِّهِ عَنْ النِّيَّةِ لِلْخُلُوِّ الْخَالِي عَنْهَا وَهُوَ الْأَصْلُ أَعْنِي اعْتِبَارَ الْخُلُوِّ لِلْخُلُوِّ الْخَالِي ضَرَرٌ دِينِيٌّ عَلَيْهِ لِأَنَّهُ عَلَى التَّرَاخِي فَلَا يَأْثَمُ بِعَدَمِ صِحَّتِهِ لِعَدَمِ النِّيَّةِ فِيهِ فَلَا مُوجِبَ لِلتَّوَقُّفِ، لَا يُقَالُ تَوَقَّفَ فِي النَّفْلِ، وَلَيْسَ فِيهِ الْمُوجِبُ الَّذِي ذَكَرْت بَلْ مُجَرَّدُ طَلَبِ الثَّوَابِ وَهُوَ مَعَ إسْقَاطِ الْفَرْضِ ثَابِتٌ فِي كُلِّ يَوْمٍ فِي حَقِّ هَذِهِ الصِّيَامَاتِ فَيَجِبُ التَّوَقُّفُ فِيهَا بِالنِّسْبَةِ إلَيْهَا بَلْ أَوْلَى؛ لِأَنَّا نَقُولُ: يَمْنَعُ مِنْهُ لُزُومُ كَوْنِ الْمَعْنَى نَاسِخًا بِالنَّصِّ، أَعْنِي قَوْلَهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يُبَيِّتْ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» إذْ قَدْ خَرَجَ مِنْهُ الْوَاجِبُ الْمُعَيَّنُ بِالنَّصِّ مُقَارِنًا لِلْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنَاهُ، وَهُوَ لَا يَتَعَدَّاهُ فَلَوْ أَخْرَجَ غَيْرَ الْمُعَيَّنِ أَيْضًا مَعَ أَنَّ النَّفَلَ قَدْ خَرَجَ أَيْضًا بِالنَّصِّ بِمَا ذَكَرْت مِمَّا عَقَلْت فِي إخْرَاجِ النَّفْلِ لَمْ يَبْقَ تَحْتَ الْعَامِّ شَيْءٌ بِالْمَعْنَى الَّذِي عَيَّنْته وَهُوَ مَمْنُوعٌ، وَلَازِمُهُ كَوْنِ مَا عَيَّنْته فِي النَّفْلِ لَيْسَ مَقْصُودَ الشَّارِعِ مِنْ شَرْعِيَّةِ الصِّحَّةِ فِي النَّفْلِ بَلْ مَقْصُودُهُ زِيَادَةُ تَخْفِيفِ النَّفْلِ عَلَى تَخْفِيفِ الْوَاجِبِ حَيْثُ اُعْتُبِرَ التَّوَقُّفُ فِيهِ لِمُجَرَّدِ تَحْصِيلِ الثَّوَابِ كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ فِي الصَّلَاةِ حَيْثُ جَازَتْ نَافِلَتُهَا عَلَى الدَّابَّةِ وَجَالِسًا بِلَا عُذْرٍ، بِخِلَافِ فَرِيضَتِهَا لِلْمَعْنَى الَّذِي قُلْنَا. لَا يُقَالُ مَا عَلَّلْتُمْ بِهِ فِي الْمُعَيَّنِ قَاصِرٌ، وَأَنْتُمْ تَمْنَعُونَ التَّعْلِيلَ بِالْقَاصِرَةِ.
لِأَنَّا نَقُولُ ذَلِكَ لِلْقِيَاسِ لَا مُجَرَّدِ إبْدَاءِ مَعْنًى هُوَ حِكْمَةُ الْمَنْصُوصِ لِأَنَّهُ إجْمَاعٌ، وَالنِّزَاعُ فِي الْمَسْأَلَةِ لَفْظِيٌّ مَبْنِيٌّ عَلَى تَفْسِيرِ التَّعْلِيلِ بِمَا يُسَاوِي الْقِيَاسَ أَوْ أَعَمَّ مِنْهُ لَا يُشَكُّ فِي هَذَا، وَقَدْ أَوْضَحْنَاهُ فِيمَا كَتَبْنَاهُ [عَلَى الْبَدِيعِ] وَمِنْ فُرُوعِ لُزُومِ التَّبْيِيتِ فِي غَيْرِ الْمُعَيَّنِ: لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ مِنْ النَّهَارِ فَلَمْ يَصِحَّ هَلْ يَقَعُ عَنْ النَّفْلِ: فِي فَتَاوَى النَّسَفِيِّ نَعَمْ، وَلَوْ أَفْطَرَ يَلْزَمُهُ الْقَضَاءُ؟ قِيلَ: هَذَا إذَا عَلِمَ أَنَّ صَوْمَهُ عَنْ الْقَضَاءِ لَمْ يَصِحَّ بِنِيَّةٍ مِنْ النَّهَارِ أَمَّا إذَا لَمْ يَعْلَمْ فَلَا يَلْزَمُ بِالشُّرُوعِ كَمَا فِي

(2/311)


خِلَافًا لِمَالِكٍ، فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا. وَلَنَا «قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بَعْدَمَا كَانَ يُصْبِحُ غَيْرَ صَائِمٍ إنِّي إذًا لَصَائِمٌ» وَلِأَنَّ الْمَشْرُوعَ خَارِجَ رَمَضَانَ هُوَ النَّفَلُ فَيَتَوَقَّفُ الْإِمْسَاكُ فِي أَوَّلِ الْيَوْمِ عَلَى صَيْرُورَتِهِ صَوْمًا بِالنِّيَّةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا، وَلَوْ نَوَى بَعْدَ الزَّوَالِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يَجُوزُ وَيَصِيرُ صَائِمًا مِنْ حِينِ نَوَى إذْ هُوَ مُتَجَزِّئٌ عِنْدَهُ لِكَوْنِهِ مَبْنِيًّا عَلَى النَّشَاطِ، وَلَعَلَّهُ يَنْشَطُ بَعْدَ الزَّوَالِ إلَّا أَنَّ مِنْ شَرْطِهِ الْإِمْسَاكَ فِي أَوَّلِ النَّهَارِ، وَعِنْدَنَا يَصِيرُ صَائِمًا مِنْ أَوَّلِ النَّهَارِ لِأَنَّهُ عِبَادَةُ قَهْرِ النَّفْسِ، وَهِيَ إنَّمَا تَتَحَقَّقُ بِإِمْسَاكٍ مُقَدَّرٍ فَيُعْتَبَرُ قِرَانُ النِّيَّةِ بِأَكْثَرِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمَظْنُونِ (قَوْلُهُ فَإِنَّهُ يَتَمَسَّكُ بِإِطْلَاقِ مَا رَوَيْنَا) وَهُوَ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا صِيَامَ لِمَنْ لَمْ يَنْوِ الصِّيَامَ مِنْ اللَّيْلِ» وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ فِيهِ فَارْجِعْ إلَيْهِ. وَمِنْ فُرُوعِ النِّيَّةِ أَنَّ الْأَفْضَلَ النِّيَّةُ مِنْ اللَّيْلِ فِي الْكُلِّ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمَيْنِ مِنْ رَمَضَانَ وَاحِدٍ الْأَوْلَى أَنْ يَنْوِيَ أَوَّلَ يَوْمٍ وَجَبَ عَلَيَّ قَضَاؤُهُ مِنْ هَذَا الرَّمَضَانِ، وَإِنْ لَمْ يَتَعَيَّنْ الْأَوَّلُ جَازَ وَكَذَا لَوْ كَانَا مِنْ رَمَضَانَيْنِ عَلَى الْمُخْتَارِ، حَتَّى لَوْ نَوَى الْقَضَاءَ لَا غَيْرُ جَازَ، وَلَوْ وَجَبَتْ عَلَيْهِ كَفَّارَةُ فِطْرٍ فَصَامَ أَحَدًا وَسِتِّينَ يَوْمًا عَنْ الْقَضَاءِ وَالْكَفَّارَةِ، وَلَمْ يَتَعَيَّنْ يَوْمُ الْقَضَاءِ جَازَ، وَهَلْ يَجُوزُ تَقْدِيمُ الْكَفَّارَةِ عَلَى الْقَضَاءِ؟ قِيلَ: يَجُوزُ وَهُوَ ظَاهِرٌ، وَلَوْ وَجَبَ عَلَيْهِ قَضَاءُ رَمَضَانَ سَنَةَ كَذَا فَصَامَ شَهْرًا يَنْوِي الْقَضَاءَ عَنْ الشَّهْرِ الَّذِي عَلَيْهِ، غَيْرَ أَنَّهُ نَوَى أَنَّهُ رَمَضَانُ سَنَةَ كَذَا لِغَيْرِهِ.
قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: يَجْزِيهِ. وَلَوْ صَامَ شَهْرًا يَنْوِي الْقَضَاءَ عَنْ سَنَةِ كَذَا عَلَى الْخَطَإِ وَهُوَ يَظُنُّ أَنَّهُ أَفْطَرَ ذَلِكَ قَالَ: لَا يَجْزِيهِ، وَلَوْ نَوَى بِاللَّيْلِ أَنْ يَصُومَ غَدًا ثُمَّ بَدَا لَهُ فِي اللَّيْلِ وَعَزَمَ عَلَى الْفِطْرِ لَمْ يُصْبِحْ صَائِمًا فَلَوْ أَفْطَرَ لَا شَيْءَ عَلَيْهِ إنْ لَمْ يَكُنْ رَمَضَانُ، وَلَوْ مَضَى عَلَيْهِ لَا يَجْزِيهِ لِأَنَّ تِلْكَ النِّيَّةَ انْتَقَضَتْ بِالرُّجُوعِ، وَلَوْ قَالَ: نَوَيْت صَوْمَ غَدٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى، فَعَنْ الْحَلْوَانِيِّ: يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا لِأَنَّ الْمَشِيئَةَ إنَّمَا تُبْطِلُ اللَّفْظَ، وَالنِّيَّةُ فِعْلُ الْقَلْبِ، وَلَوْ جَمَعَ فِي نِيَّةٍ وَاحِدَةٍ بَيْنَ صَوْمَيْنِ نَذْكُرُهُ عَنْ قَرِيبٍ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى.
وَإِذَا اشْتَبَهَ عَلَى الْأَسِيرِ الْمُسْلِمِ فِي دَارِ الْحَرْبِ رَمَضَانُ تَحَرَّى وَصَامَ، فَإِنْ ظَهَرَ صَوْمُهُ قَبْلَهُ لَمْ يُجْزِهِ لِأَنَّ صِحَّةَ الْإِسْقَاطِ لَا تَسْبِقُ الْوُجُوبَ، وَإِنْ ظَهَرَ بَعْدَهُ جَازَ فَإِنْ ظَهَرَ أَنَّهُ كَانَ شَوَّالًا فَعَلَيْهِ قَضَاءُ يَوْمٍ، فَلَوْ كَانَ نَاقِصًا فَقَضَاءُ يَوْمَيْنِ، أَوْ ذَا الْحِجَّةِ قَضَى أَرْبَعَةً لِمَكَانِ أَيَّامِ النَّحْرِ وَالتَّشْرِيقِ فَإِنْ اتَّفَقَ كَوْنُهُ نَاقِصًا عَنْ ذَلِكَ الرَّمَضَانِ قَضَى خَمْسَةً ثُمَّ قَالَ طَائِفَةٌ مِنْ الْمَشَايِخِ: هَذَا إذَا نَوَى أَنْ يَصُومَ مَا عَلَيْهِ مِنْ رَمَضَانَ، أَمَّا إذَا نَوَى صَوْمَ أَدَاءً لِصِيَامِ رَمَضَانَ فَلَا يَصِحُّ إلَّا أَنْ يُوَافِقَ رَمَضَانَ، وَمِنْهُمْ مَنْ أَطْلَقَ الْجَوَازَ وَهُوَ حَسَنٌ.

(2/312)