فتح القدير للكمال ابن الهمام بَابُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ فَصْلٌ فِي
الِاخْتِيَارِ (وَإِذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي
يَنْوِي بِذَلِكَ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي
نَفْسَك فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي
مَجْلِسِهَا ذَلِكَ، فَإِنْ قَامَتْ مِنْهُ أَوْ أَخَذَتْ فِي
عَمَلٍ آخَرَ خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا) لِأَنَّ
الْمُخَيَّرَةَ لَهَا الْمَجْلِسُ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - أَجْمَعِينَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
[بَابُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ] [فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَارِ]
(بَابُ تَفْوِيضِ الطَّلَاقِ) (فَصْلٌ فِي الِاخْتِيَارِ)
لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ الطَّلَاقِ بِوِلَايَةِ
الْمُطَلِّقِ نَفْسِهِ شَرَعَ فِي بَيَانِهِ بِوِلَايَةٍ
مُسْتَفَادَةٍ مِنْ غَيْرِهِ، وَتَحْتَ هَذَا الصِّنْفِ
ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: التَّفْوِيضُ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ
وَبِلَفْظِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ وَبِلَفْظِ الْمَشِيئَةِ
(قَوْلُهُ: إذَا قَالَ لِامْرَأَتِهِ: اخْتَارِي يَنْوِي
بِذَلِكَ الطَّلَاقَ) يَعْنِي يَنْوِي تَخْيِيرَهَا فِيهِ
(أَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ
نَفْسَهَا مَا دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ) وَإِنْ طَالَ
يَوْمًا أَوْ أَكْثَرَ وَلَمْ يَتَبَدَّلْ بِالْأَعْمَالِ
(فَإِنْ قَامَتْ مِنْهُ أَوْ أَخَذَتْ فِي عَمَلٍ آخَرَ خَرَجَ
الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا؛ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَةَ لَهَا خِيَارُ
الْمَجْلِسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رِضْوَانُ اللَّهِ
عَلَيْهِمْ -) قَالَ ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاخْتَلَفُوا فِي
الرَّجُلِ يُخَيِّرُ زَوْجَتَهُ، فَقَالَتْ طَائِفَةٌ:
أَمْرُهَا بِيَدِهَا فَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا
خِيَارَ لَهَا، رَوَيْنَا هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عُمَرَ بْنِ
الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ وَابْنِ مَسْعُودٍ رِضْوَانُ اللَّهِ
تَعَالَى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ، وَفِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ،
وَبِهِ قَالَ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، وَقَالَ بِهِ
عَطَاءٌ وَجَابِرُ بْنُ زَيْدٍ وَمُجَاهِدٌ وَالشَّعْبِيُّ
وَالنَّخَعِيُّ وَمَالِكٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ
وَالْأَوْزَاعِيُّ وَالشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ
الرَّأْيِ، وَفِيهِ قَوْلٌ ثَانٍ وَهُوَ أَنَّ أَمْرَهَا
بِيَدِهَا فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ وَفِي غَيْرِهِ، وَهَذَا
قَوْلُ الزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ وَأَبِي عُبَيْدٍ وَابْنِ
نَصْرٍ وَبِهِ نَقُولُ، وَيَدُلُّ عَلَى صِحَّتِهِ «قَوْلُ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - لَا تَعْجَلِي حَتَّى
تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ» وَحَكَى صَاحِبُ
(4/76)
وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْفِعْلِ مِنْهَا،
وَالتَّمْلِيكَاتُ تَقْتَضِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ كَمَا
فِي الْبَيْعِ، لِأَنَّ سَاعَاتِ الْمَجْلِسِ اُعْتُبِرَتْ
سَاعَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمُغْنِي هَذَا الْقَوْلَ عَنْ عَلِيٍّ فَاعْتَرَضَ عَلَى
نَقْلِ الْإِجْمَاعِ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الرِّوَايَةَ عَنْ عَلِيٍّ لَمْ
تَسْتَقِرَّ، فَقَدْ رُوِيَ عَنْهُ كَقَوْلِ الْجَمَاعَةِ،
وَلِذَا نَصَّ فِي بَلَاغَاتِ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
أَنَّهُ قَائِلٌ بِالِاقْتِصَارِ عَلَى الْمَجْلِسِ قَالَ:
بَلَغَنَا عَنْ عُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَجَابِرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - فِي
الرَّجُلِ يُخَيِّرُ امْرَأَتَهُ أَنَّ لَهَا الْخِيَارَ مَا
دَامَتْ فِي مَجْلِسِهَا ذَلِكَ، فَإِذَا قَامَتْ مِنْ
مَجْلِسِهَا فَلَا خِيَارَ لَهَا فَيَكُونُ إجْمَاعًا
سُكُوتِيًّا مِنْ قَوْلِ الْمَذْكُورِينَ وَسُكُوتِ
غَيْرِهِمْ، وَأَيْنَ مَنْ نَقَلَ عَنْهُمْ مِنْ التَّابِعِينَ
الْقَوْلَ الْأَوَّلَ مِمَّنْ نَقَلَ عَنْهُمْ الثَّانِيَ.
وَقَوْلُهُ: فِي أَسَانِيدِهَا مَقَالٌ لَا يَضُرُّ بَعْدَ
تَلَقِّي الْأُمَّةِ بِالْقَبُولِ، مَعَ أَنَّ رِوَايَةَ
عَبْدِ الرَّزَّاقِ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ وَجَابِرِ بْنِ
عَبْدِ اللَّهِ جَيِّدَةٌ.
وَأَمَّا التَّمَسُّكُ بِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - لِعَائِشَةَ " لَا تَعْجَلِي إلَخْ " فَضَعِيفٌ؛
لِأَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - لَمْ يَكُنْ
تَخْيِيرُهُ ذَلِكَ هَذَا التَّخْيِيرَ الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ
وَهِيَ أَنْ تُوقِعَ بِنَفْسِهَا بَلْ عَلَى أَنَّهَا إنْ
اخْتَارَتْ نَفْسَهَا طَلَّقَهَا؛ أَلَا تَرَى إلَى قَوْله
تَعَالَى الْآيَةِ الَّتِي هِيَ سَبَبُ التَّخْيِيرِ مِنْهُ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - {إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ
أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلا} [الأحزاب:
28] (قَوْلُهُ: وَلِأَنَّهُ تَمْلِيكُ الْفِعْلِ مِنْهَا
وَالتَّمْلِيكَاتُ تَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ) أَوْ
رَدَّ لَوْ كَانَ تَمْلِيكًا لَمْ يَبْقَ الزَّوْجُ مَالِكًا
لِلطَّلَاقِ فِي ذَلِكَ الْمَجْلِسِ لِاسْتِحَالَةِ كَوْنِ
الشَّيْءِ مَمْلُوكًا كُلِّهِ لِأَكْثَرَ مِنْ وَاحِدٍ فِي
زَمَانٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُنْتَفٍ، فَإِنَّهُ لَوْ طَلَّقَهَا
بَعْدَ التَّخْيِيرِ وَقَعَ.
وَأَيْضًا لَوْ صَارَتْ مَالِكَةً كَانَ مَنْ قَالَ
لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك ثُمَّ حَلَفَ أَنْ لَا
يُطَلِّقَهَا فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا لَا يَحْنَثُ. وَقَدْ
نَصَّ مُحَمَّدٌ عَلَى أَنَّهُ يَحْنَثُ وَهُوَ يَقْتَضِي أَنْ
تَكُونَ نَائِبَةً عَنْهُ لَا مَالِكَةً. وَأَيْضًا يَصِحُّ
عِنْدَنَا تَوْكِيلُ الْمَدْيُونِ بِإِبْرَاءِ نَفْسِهِ،
وَهَذَا يَرُدُّ عَلَى تَعْلِيلِ كَوْنِهِ تَمْلِيكًا
بِأَنَّهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا. وَأُجِيبُ بِأَنَّ
الْمُرَادَ بِالْمَالِكِ هُنَا مَنْ يَقْدِرُ عَلَى الْفِعْلِ
لِاخْتِيَارِهِ بِحَيْثُ لَا يَلْحَقُهَا
(4/77)
وَاحِدَةً، إلَّا أَنَّ الْمَجْلِسَ
تَارَةً يَتَبَدَّلُ بِالذَّهَابِ عَنْهُ وَتَارَةً
بِالِاشْتِغَالِ بِعَمَلٍ آخَرَ، إذْ مَجْلِسُ الْأَكْلِ
غَيْرُ مَجْلِسِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
إثْمٌ عَلَى نَفْسِ الْفِعْلِ وَلَا خُلْفَ فِي عَدَمِ
فِعْلِهِ، بِخِلَافِ الْوَكِيلِ فَإِنَّهُ مُخْلِفٌ إنْ لَمْ
يَفْعَلْ وَيُتَصَوَّرُ الْمِلْكُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ مِنْ
اثْنَيْنِ فَإِنَّ تَمْلِيكَ الْفِعْلِ هَكَذَا، وَلُزُومَ
انْتِفَاءِ الْمِلْكِ بِالتَّمْلِيكِ فِي الْأَعْيَانِ لَا فِي
مِلْكِ الْأَفْعَالِ لِلْقَطْعِ بِثُبُوتِ مِلْكِ كُلٍّ مِنْ
مِائَةِ رَجُلٍ لِفِعْلٍ وَاحِدٍ كَمُلَا وَهُوَ
الِاقْتِصَاصُ، وَمَسْأَلَةُ الْيَمِينِ مَمْنُوعَةٌ،
وَالْحِنْثُ قَوْلُ مُحَمَّدٍ، وَالْمَنْعُ مَذْكُورٌ فِي
الزِّيَادَاتِ لِصَاحِبِ الْمُحِيطِ، وَأَمَّا الْمَدْيُونُ
فَوَكِيلٌ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَمَلُهُ فِي الْإِبْرَاءِ
لِرَبِّ الدَّيْنِ بِاعْتِبَارِ أَمْرِهِ، وَثَبَتَ أَثَرُ
التَّصَرُّفِ لِنَفْسِهِ فِي ضِمْنِهِ وَهُوَ فَرَاغُ
ذِمَّتِهِ، وَفِي هَذَا نَظَرٌ نَبْرِيهِ فِي تَطْلِيقِهَا
نَفْسَهَا بِأَنْ يُقَالَ: هِيَ وَكِيلَةٌ فَهِيَ فِي نَفْسِ
فِعْلِ الْإِيقَاعِ عَامِلَةٌ لَهُ، وَثُبُوتُ الْحَاصِلِ
لَهَا ضِمْنًا، وَلَوْ الْتَزَمَ كَوْنَ الْمَدْيُونِ
مُمَلَّكًا لَمْ يَصِحَّ لِانْتِفَاءِ لَازِمِهِ لِأَنَّ
لِلدَّائِنِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ الْإِبْرَاءِ وَسَنَذْكُرُ
مَا هُوَ الْأَوْجَهُ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي يَسْتَدْعِيهِ
التَّمْلِيكُ هُوَ الْقَبُولُ فِي الْمَجْلِسِ، وَالْجَوَابَ
الْمُتَكَلَّمَ فِيهِ هُوَ تَطْلِيقُهَا نَفْسَهَا وَهُوَ
بَعْدَ تَمَامِ التَّمْلِيكِ فَلَيْسَ هَذَا الْوَجْهُ
مُسْتَلْزِمًا لِلْمَطْلُوبِ، وَلِهَذَا قَالَ فِي
الذَّخِيرَةِ: إنَّ هَذَا التَّمْلِيكَ يُخَالِفُ سَائِرَ
التَّمْلِيكَاتِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَبْقَى إلَى مَا وَرَاءَ
الْمَجْلِسِ إنْ كَانَتْ غَائِبَةً، وَلَا يَتَوَقَّفُ عَلَى
الْقَبُولِ، فَظَهَرَ أَنَّ هَذَا التَّمْلِيكَ بِخُصُوصِهِ
لَا يَسْتَدْعِي الْجَوَابَ الَّذِي يُتِمُّ بِهِ
التَّمْلِيكَاتِ، وَلِكَوْنِهِ تَمْلِيكًا يَتِمُّ
بِالْمُمَلِّكِ وَحْدَهُ بِلَا قَبُولٍ لَا يَقْدِرُ عَلَى
الرُّجُوعِ لَا لِكَوْنِهِ مُتَضَمِّنًا مَعْنَى التَّعْلِيقِ
لِأَنَّهُ اعْتِبَارٌ يُمْكِنُ فِي سَائِرِ الْوَكَالَاتِ
لِتَضَمُّنِهَا مَعْنَى إنْ بِعْته فَقَدْ أَجَزْته،
وَالْوِلَايَاتُ لِتَضَمُّنِهَا إذَا حَكَمْت بَيْنَ مَنْ
شِئْت فَقَدْ أَجَزْته فَكَانَ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَصِحَّ
الرُّجُوعُ وَالْعَزْلُ فِيهِمَا فَلَا حَاجَةَ إلَيْهِ
لِهَذَا الْمَعْنَى لِابْتِنَائِهِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا،
لَكِنْ إذَا كَانَ الْمِلْكُ يَثْبُتُ فِيهِ بِالْمُمَلِّكِ
وَحْدَهُ لَمْ يَصِحَّ الْقَوْلُ بِأَنَّهُ يُخَالِفُ سَائِرَ
التَّمْلِيكَاتِ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ يَبْقَى إلَى مَا وَرَاءَ
الْمَجْلِسِ، بَلْ بَقَاؤُهُ هُوَ الْمُوَافِقُ لِسَائِرِ
التَّمْلِيكَاتِ الَّتِي يَثْبُتُ الْمِلْكُ عِنْدَهَا،
وَإِنَّمَا خَالَفَهَا بِمَا ذَكَرْنَا وَبِاعْتِبَارِ
اقْتِصَارِهِ عَلَى الْمَجْلِسِ، وَالْمُسْتَنَدُ فِيهِ
إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الِاقْتِصَارَ عَلَى الْمَجْلِسِ فِي
الْخِطَابِ الْمُطْلَقِ، أَمَّا لَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك
مَتَى شِئْت فَهُوَ لَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَغَيْرِهِ، وَإِذَا
فَوَّضَ وَهِيَ غَائِبَةٌ اُعْتُبِرَ مَجْلِسُ عِلْمِهَا،
وَلَوْ قَالَ: جَعَلْت لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا
الْيَوْمَ اُعْتُبِرَ مَجْلِسَ عِلْمِهَا فِي ذَلِكَ
الْيَوْمِ، فَلَوْ مَضَى الْيَوْمُ ثُمَّ عَلِمَتْ يَخْرُجُ
الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَكَذَا كُلُّ وَقْتٍ قُيِّدَ
التَّفْوِيضُ بِهِ وَهِيَ غَائِبَةٌ وَلَمْ تَعْلَمْ حَتَّى
انْقَضَى بَطَلَ خِيَارُهَا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَيْسَ
لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ قَبْلَ انْقِضَاءِ الْمَجْلِسِ
لِأَنَّهُ بِمَعْنَى الْيَمِينِ، إذْ هُوَ تَعْلِيقُ
الطَّلَاقِ بِتَطْلِيقِهَا نَفْسَهَا وَقَدْ عَلِمْت مَا هُوَ
التَّحْقِيقُ (قَوْلُهُ: إذْ مَجْلِسُ إلَخْ) لَوْ كَانَا
يَتَحَدَّثَانِ فَأَخَذَا
(4/78)
الْمُنَاظَرَةِ وَمَجْلِسُ الْقِتَالِ
غَيْرُهُمَا.
وَيَبْطُلُ خِيَارُهَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِأَنَّهُ
دَلِيلُ الْإِعْرَاضِ، بِخِلَافِ الصَّرْفِ وَالسَّلَمِ
لِأَنَّ الْمُفْسِدَ هُنَاكَ الِافْتِرَاقُ مِنْ غَيْرِ
قَبْضٍ، ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ فِي قَوْلِهِ:
اخْتَارِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي نَفْسِهَا
وَيَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي تَصَرُّفٍ آخَرَ غَيْرِهِ
(فَإِنْ اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فِي قَوْلِهِ اخْتَارِي كَانَتْ
وَاحِدَةً بَائِنَةً) .
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ بِهَذَا شَيْءٌ، وَإِنْ نَوَى
الزَّوْجُ الطَّلَاقَ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ
بِهَذَا اللَّفْظِ فَلَا يَمْلِكُ التَّفْوِيضَ إلَى غَيْرِهِ
إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّاهُ لِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ -، وَلِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ مِنْ أَنْ
يَسْتَدِيمَ نِكَاحَهَا أَوْ يُفَارِقَهَا فَيَمْلِكُ
إقَامَتَهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِي حَقِّ هَذَا الْحُكْمِ،
ثُمَّ الْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ لِأَنَّ اخْتِيَارَهَا
نَفْسَهَا بِثُبُوتِ اخْتِصَاصِهَا بِهَا وَذَلِكَ فِي
الْبَائِنِ (وَلَا يَكُونُ ثَلَاثًا وَإِنْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي الْأَكْلِ انْقَضَى مَجْلِسُ الْحَدِيثِ وَجَاءَ مَجْلِسُ
الْأَكْلِ، فَلَوْ انْتَقَلَا إلَى الْمُنَاظَرَةِ انْقَضَى
مَجْلِسُ الْأَكْلِ وَجَاءَ مَجْلِسُ الْمُنَاظَرَةِ، وَلَوْ
خَيَّرَهَا فَلَبِسَتْ ثَوْبًا أَوْ شَرِبَتْ لَا يَبْطُلُ
خِيَارُهَا لِأَنَّ الْعَطَشَ قَدْ يَكُونُ شَدِيدًا يَمْنَعُ
التَّأَمُّلَ، وَلِبْسُ الثَّوْبِ قَدْ يَكُونُ لِتَدْعُوَ
شُهُودًا، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَكَلَتْ مَا لَيْسَ قَلِيلًا
أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ أَقَامَهَا الزَّوْجُ قَسْرًا فَإِنَّهُ
يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا لِظُهُورِ الْإِعْرَاضِ بِهِ.
وَوَجْهٌ بِأَنَّ فِي الْإِقَامَةِ أَنَّهَا يُمْكِنُهَا
مُمَانَعَتُهُ فِي الْقِيَامِ أَوْ تُبَادِرُ الزَّوْجَ
بِاخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا فَعَدَمُ ذَلِكَ دَلِيلُ
الْإِعْرَاضِ، وَكَذَا إذَا خَاضَتْ فِي كَلَامٍ آخَرَ، قَالَ
تَعَالَى {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} [النساء:
140] أَفَادَ أَنَّهُ إعْرَاضٌ عَنْ الْأَوَّلِ (قَوْلُهُ:
ثُمَّ لَا بُدَّ مِنْ النِّيَّةِ) أَيْ نِيَّةِ الطَّلَاقِ فِي
قَوْلِهِ (اخْتَارِي لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي
نَفْسِهَا) بِالْإِقَامَةِ عَلَى النِّكَاحِ وَعَدَمِهِ
(وَيَحْتَمِلُ تَخْيِيرَهَا فِي غَيْرِهِ) مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ
كِسْوَةٍ، فَإِذَا اخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَأَنْكَرَ قَصْدَ
الطَّلَاقِ فَالْقَوْلُ لَهُ مَعَ يَمِينِهِ، أَمَّا إذَا
خَيَّرَهَا بَعْدَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَاخْتَارَتْ
نَفْسَهَا ثُمَّ قَالَ: لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ لَا يُصَدَّقُ
فِي الْقَضَاءِ، وَكَذَا إذَا كَانَا فِي غَضَبٍ أَوْ
شَتِيمَةٍ، وَإِذَا لَمْ يُصَدَّقْ فِي الْقَضَاءِ لَا يَسَعُ
الْمَرْأَةَ أَنْ تُقِيمَ مَعَهُ إلَّا بِنِكَاحٍ مُسْتَقْبَلٍ
(قَوْلُهُ وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَقَعَ بِهَا شَيْءٌ) لِأَنَّ
التَّمْلِيكَ فَرْعُ مِلْكِ الْمُمَلَّكِ وَهُوَ لَا يَمْلِكُ
الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ، لَوْ قَالَ: اخْتَرْت
نَفْسِي مِنْك أَوْ اخْتَرْتُك مِنْ نَفْسِي نَاوِيًا لَا
يَقَعُ، إلَّا أَنَّا اسْتَحْسَنَّا الْوُقُوعَ
بِاخْتِيَارِهَا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ - (قَوْلُهُ وَلِأَنَّهُ بِسَبِيلٍ إلَخْ) ظَاهِرُهُ
أَنَّهُ وَجْهٌ آخَرُ لِلِاسْتِحْسَانِ يُقَابِلُ الْقِيَاسَ
وَيَقْتَضِي الْوُقُوعَ بِخُصُوصِ هَذِهِ اللَّفْظَةِ، وَهُوَ
لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ وَإِنَّمَا يَقْتَضِي جَوَازَ
إقَامَتِهَا مَقَامَهُ فِي الْفِرَاقِ وَلَا تَلَاقِيَ
بَيْنَهُمَا، بَلْ يَقْتَضِي أَنْ لَا يَقَعَ بِهِ لِأَنَّ
إقَامَتَهَا مَقَامَ نَفْسِهِ فِيمَا يَمْلِكُهُ وَلَا
يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهَذِهِ اللَّفْظَةِ فَهُوَ وَجْهُ
الْقِيَاسِ
(قَوْلُهُ ثُمَّ الْوَاقِعُ بِهَا بَائِنٌ) رُوِيَ عَنْ زَيْدِ
بْنِ ثَابِتٍ أَنَّهُ ثَلَاثٌ، وَبِهِ أَخَذَ مَالِكٌ فِي
الْمَدْخُولِ بِهَا، وَفِي غَيْرِهَا يُقْبَلُ مِنْهُ دَعْوَى
الْوَاحِدَةِ، وَعَنْ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ
مَسْعُودٍ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ وَبِهِ أَخَذَ الشَّافِعِيُّ
وَأَحْمَدُ، وَثَبَتَ عَنْ عَلِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
أَنَّ الْوَاقِعَ بِهِ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ تَوَسُّطٌ بَيْنَ
الْغَايَتَيْنِ.
وَرَجَّحَ قَوْلَ عُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ بِأَنَّ الْكِتَابَ
دَلَّ عَلَى أَنَّ الطَّلَاقَ يُعْقِبُ الرَّجْعَةَ إلَّا أَنْ
تَكُونَ الطَّلْقَةَ الثَّالِثَةَ، وَأَنْتَ عَلِمْت أَنَّهُ
أَخْرَجَ مِنْهُ الطَّلَاقَ بِمَالٍ وَقَبْلَ الدُّخُولِ
وَلَزِمَ إخْرَاجُ الطَّلَاقِ بِمَا دَلَّ عَلَى
الْبَيْنُونَةِ مِنْ الْأَلْفَاظِ عَلَى مَا أَسْلَفْنَاهُ
وَلَفْظُ اخْتَرْت نَفْسِي، بَلْ نَفْسُ تَخْيِيرِهَا يُفِيدُ
مِلْكَهَا نَفْسَهَا إذَا اخْتَارَتْهَا لِأَنَّهُ يُنْبِئُ
عَنْ الِاسْتِخْلَاصِ وَالصَّفَاءِ مِنْ ذَلِكَ الْمِلْكِ
وَهُوَ بِالْبَيْنُونَةِ، وَإِلَّا لَمْ تَحْصُلْ فَائِدَةُ
التَّخْيِيرِ إذَا كَانَ لَهُ أَنْ يُرَاجِعَهَا شَاءَتْ أَوْ
أَبَتْ.
وَقَدْ رَوَى التِّرْمِذِيُّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ
مَسْعُودٍ وَعُمَرَ أَنَّ الْوَاقِعَ بِهَا بَائِنَةٌ كَمَا
رُوِيَ عَنْهُمَا الرَّجْعِيَّةُ، فَاخْتَلَفَتْ الرِّوَايَةُ
عَنْهُمَا. وَقَدْ تَرَجَّحَ بِمَا ذَكَرْنَا قَوْلُ عَلِيٍّ
وَعُمَرَ وَابْنِ مَسْعُودٍ، ثُمَّ هُوَ غَيْرُ مُتَنَوِّعٍ
لِأَنَّهُ إنَّمَا يُفِيدُ الْخُلُوصَ وَالصَّفَاءَ،
وَالْبَيْنُونَةُ تَثْبُتُ فِيهِ مُقْتَضًى فَلَا يَعُمُّ،
بِخِلَافِ أَنْتِ بَائِنٌ وَنَحْوِهِ فَلَا يَقَعُ الثَّلَاثُ
فِي قَوْلِهِ: اخْتَارِي وَإِنْ نَوَاهَا
(4/79)
نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ) لِأَنَّ
الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ، بِخِلَافِ الْإِبَانَةِ
لِأَنَّ الْبَيْنُونَةَ قَدْ تَتَنَوَّعُ.
قَالَ (وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي كَلَامِهِ أَوْ
فِي كَلَامِهَا، حَتَّى لَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَقَالَتْ
قَدْ: اخْتَرْت فَهُوَ بَاطِلٌ) لِأَنَّهُ عُرِفَ
بِالْإِجْمَاعِ وَهُوَ فِي الْمُفَسَّرَةِ مِنْ أَحَدِ
الْجَانِبَيْنِ، وَلِأَنَّ الْمُبْهَمَ لَا يَصْلُحُ
تَفْسِيرًا لِلْمُبْهَمِ الْآخَرِ وَلَا تَعْيِينَ مَعَ
الْإِبْهَامِ (وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي نَفْسَك
فَقَالَتْ: اخْتَرْت تَقَعُ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) لِأَنَّ
كَلَامَهُ مُفَسَّرٌ، وَكَلَامُهَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ
فَيَتَضَمَّنُ إعَادَتَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِخِلَافِ التَّفْوِيضِ بِقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك حَيْثُ
تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِيهِ لِأَنَّ الْأَمْرَ شَامِلٌ
بِعُمُومِهِ لِمَعْنَى الشَّأْنِ لِلطَّلَاقِ فَكَانَ مِنْ
أَفْرَادِهِ لَفْظًا وَالْمَصْدَرُ يَحْتَمِلُ نِيَّةَ
الْعُمُومِ.
وَقِيلَ الْفَرْقُ أَنَّ الْوُقُوعَ بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ
عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ،
وَإِجْمَاعُهُمْ انْعَقَدَ عَلَى الطَّلْقَةِ الْوَاحِدَةِ،
بِخِلَافِ تِلْكَ الْمَسَائِلِ: أَيْ بَائِنٌ وَنَحْوُهُ
لِأَنَّ الْوُقُوعَ مُقْتَضَى نَفْسِ الْأَلْفَاظِ
وَمُقْتَضَاهَا الْبَيْنُونَةُ وَهِيَ مُتَنَوِّعَةٌ، وَفِيهِ
نَظَرٌ لِانْتِفَاءِ إجْمَاعِهِمْ عَلَى الْوَاحِدَةِ لِمَا
قَدَّمْنَا مِنْ قَوْلِ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ الْوَاقِعَ
بِهِ ثَلَاثٌ قَوْلًا بِكَمَالِ الِاسْتِخْلَاصِ.
(قَوْلُهُ: وَلَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ فِي كَلَامِهِ
أَوْ كَلَامِهَا) يَعْنِي أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ
كَالِاخْتِيَارَةِ وَالتَّطْلِيقَةِ، وَكَذَا إذَا قَالَتْ:
اخْتَرْت أَبِي وَأُمِّي أَوْ الْأَزْوَاجَ أَوْ أَهْلِي
بَعْدَ قَوْلِهِ: اخْتَارِي يَقَعُ لِأَنَّهُ مُفَسَّرٌ فِي
الْأَزْوَاجِ ظَاهِرٌ، وَكَذَا أَهْلِي لِأَنَّ الْكَوْنَ
عِنْدَهُمْ وَهُوَ الْمَفْهُومُ مِنْ اخْتَرْت أَهْلِي إنَّمَا
يَكُونُ لِلْبَيْنُونَةِ وَعَدَمِ الْوَصْلَةِ مَعَ الزَّوْجِ
وَلِذَا تَطْلُقُ بِقَوْلِ الزَّوْجِ: الْحَقِي بِأَهْلِك،
بِخِلَافِ قَوْلِهَا: اخْتَرْت قَوْمِي أَوْ ذَا رَحِمٍ
مَحْرَمٍ لَا يَقَعُ، وَيَنْبَغِي أَنْ يُحْمَلَ عَلَى مَا
إذَا كَانَ لَهَا أَبٌ أَوْ أُمٌّ.
أَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ وَلَهَا أَخٌ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ
لِأَنَّهَا تَكُونُ عِنْدَهُ عَادَةً عِنْدَ الْبَيْنُونَةِ
إذَا عَدِمَتْ الْوَالِدَيْنِ، وَإِنَّمَا اكْتَفَى بِذِكْرِ
هَذِهِ الْأَشْيَاءِ فِي أَحَدِ الْكَلَامَيْنِ لِأَنَّهَا إنْ
كَانَتْ فِي كَلَامِهِ تَضَمَّنَ جَوَابُهَا إعَادَتَهُ
كَأَنَّهَا قَالَتْ: فَعَلْت ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَ فِي
كَلَامِهَا فَقَدْ وُجِدَ مَا يَخْتَصُّ بِالْبَيْنُونَةِ فِي
اللَّفْظِ الْعَامِلِ فِي الْإِيقَاعِ فَالْحَاجَةُ مَعَهُ
لَيْسَ إلَّا إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ، فَإِذَا فُرِضَ
وُجُودُهَا تَمَّتْ عِلَّةُ الْبَيْنُونَةِ فَتَثْبُتُ،
بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ تَذْكُرْ النَّفْسَ وَنَحْوَهَا فِي
شَيْءٍ مِنْ الطَّرَفَيْنِ لِأَنَّ الْمُبْهَمَ لَا يُفَسِّرُ
الْمُبْهَمَ إذْ لَفْظُهُ حِينَئِذٍ مُبْهَمٌ، وَلِذَا كَانَ
كِنَايَةً لِاحْتِمَالِ اخْتَارِي مَا شِئْت مِنْ مَالٍ أَوْ
حَالٍ أَوْ مَسْكَنٍ وَغَيْرِهِ.
وَأَيْضًا الْإِجْمَاعُ إنَّمَا هُوَ فِي الْمُفَسَّرِ مِنْ
أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، وَالْإِيقَاعُ بِالِاخْتِيَارِ عَلَى
خِلَافِ الْقِيَاسِ فَيُقْتَصَرُ عَلَى مَوْرِدِ النَّصِّ
فِيهِ، وَلَوْلَا هَذَا لَأَمْكَنَ الِاكْتِفَاءُ بِتَفْسِيرِ
الْقَرِينَةِ الْحَالِيَّةِ دُونَ الْمَقَالِيَّةِ بَعْدَ أَنْ
نَوَى الزَّوْجُ وُقُوعَ الطَّلَاقِ بِهِ وَتَصَادَقَا
عَلَيْهِ لَكِنَّهُ بَاطِلٌ، وَإِلَّا لَوَقَعَ بِمُجَرَّدِ
النِّيَّةِ مَعَ لَفْظٍ لَا يَصْلُحُ لَهُ أَصْلًا كَاسْقِنِي،
وَبِهَذَا يَبْطُلُ اكْتِفَاءُ الشَّافِعِيِّ وَأَحْمَدَ
بِالنِّيَّةِ مَعَ الْقَرِينَةِ عَنْ ذِكْرِ النَّفْسِ
وَنَحْوِهِ، وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت
نَفْسِي لَا بَلْ زَوْجِي يَقَعُ، وَلَوْ قَدَّمَتْ زَوْجِي
لَا يَقَعُ.
وَالْوَجْهُ عَدَمُ صِحَّةِ الرُّجُوعِ فِي الْأَوَّلِ
وَخُرُوجِ الْأَمْرِ مِنْ يَدِهَا فِي الثَّانِي، وَلَوْ
قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي أَوْ زَوْجِي لَمْ يَقَعْ، وَلَوْ
عَطَفَتْ بِالْوَاوِ فَالِاعْتِبَارُ لِلْمُقَدَّمِ وَيَلْغُو
(4/80)
(وَكَذَا لَوْ قَالَ اخْتَارِي
اخْتِيَارَةً فَقَالَتْ: اخْتَرْت) لِأَنَّ الْهَاءَ فِي
الِاخْتِيَارَةِ تُنْبِئُ عَنْ الِاتِّحَادِ وَالِانْفِرَادِ،
وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا هُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ مَرَّةً
وَيَتَعَدَّدُ أُخْرَى فَصَارَ مُفَسَّرًا مِنْ جَانِبِهِ.
(وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي
يَقَعُ الطَّلَاقُ إذَا نَوَى الزَّوْجُ) لِأَنَّ كَلَامَهَا
مُفَسَّرٌ، وَمَا نَوَاهُ الزَّوْجُ مِنْ مُحْتَمَلَاتِ
كَلَامِهِ (وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي فَقَالَتْ: أَنَا
أَخْتَارُ نَفْسِي فَهِيَ طَالِقٌ) وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا
تَطْلُقَ لِأَنَّ هَذَا مُجَرَّدُ وَعْدٍ أَوْ يَحْتَمِلُهُ،
فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ:
أَنَا أُطَلِّقُ نَفْسِي.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَا بَعْدَهُ، وَلَوْ خَيَّرَهَا ثُمَّ جَعَلَ لَهَا أَلْفًا
عَلَى أَنْ تَخْتَارَهُ فَاخْتَارَتْهُ لَا يَقَعُ وَلَا
يَجِبُ الْمَالُ لِأَنَّهُ رِشْوَةٌ إذْ هُوَ اعْتِيَاضٌ عَنْ
تَرْكِ حَقِّ تَمَلُّكِ نَفْسِهَا فَهُوَ كَالِاعْتِيَاضِ عَنْ
تَرْكِ حَقِّ الشُّفْعَةِ (قَوْلُهُ: وَكَذَا لَوْ قَالَ:
اخْتَارِي اخْتِيَارَةً إلَخْ) يَعْنِي أَنَّ ذِكْرَهُ
الِاخْتِيَارَةَ فِي كَلَامِهِ تَفْسِيرٌ مِنْ جَانِبِهِ
كَذِكْرِهِ نَفْسَهَا، فَلَوْ لَمْ تَزِدْ هِيَ عَلَى اخْتَرْت
وَقَعَتْ بَائِنَةً.
وَوَجْهُهُ بِأَنَّ الْهَاءَ فِيهَا لِلْوَحْدَةِ
وَاخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا هُوَ الَّذِي يَتَّحِدُ مَرَّةً
بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي فَقَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي
فَإِنَّهُ إنَّمَا يَقَعُ بِهِ وَاحِدَةٌ وَيَتَعَدَّدُ
أُخْرَى بِأَنْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي
أَوْ اخْتَارِي نَفْسَك بِثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ أَوْ بِمَا
شِئْت فَقَالَتْ: اخْتَرْت يَقَعُ الثَّلَاثُ، فَلَمَّا
قَيَّدَ بِالْوَحْدَةِ ظَهَرَ أَنَّهُ أَرَادَ تَخْيِيرَهَا
فِي الطَّلَاقِ فَكَانَ مُفَسَّرًا، فَإِلْزَامُ التَّنَاقُضِ
بِأَنَّهُ أَثْبَتَ هُنَا إمْكَانَ تَعَدُّدِ الْوَاقِعِ
وَلَوْ ثَلَاثًا وَنَفَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ بِقَوْلِهِ:
لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ لَا يَتَنَوَّعُ مُنْدَفِعٌ لِأَنَّهُ
لَمْ يَلْزَمْ مِمَّا ذَكَرْنَا كَوْنُ الِاخْتِيَارِ نَفْسِهِ
يَتَنَوَّعُ كَالْبَيْنُونَةِ إلَى غَلِيظَةٍ وَخَفِيفَةٍ
حَتَّى يُصَابَ كُلُّ نَوْعٍ مِنْهُ بِالنِّيَّةِ مِنْ غَيْرِ
زِيَادَةِ لَفْظٍ آخَرَ.
فَإِنْ قِيلَ: إجْمَاعُ الصَّحَابَةِ عَلَى الْمُفَسَّرِ
بِذِكْرِ النَّفْسِ فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ بِقَوْلِهَا
اخْتَرْت اخْتِيَارَةً أَوْ أَهْلِي وَنَحْوَهُ فَإِنَّ هَذِهِ
لَمْ يُجْمَعْ عَلَيْهَا. قُلْنَا: عُرِفَ مِنْ إجْمَاعِ
الصَّحَابَةِ اعْتِبَارُ مُفَسَّرٍ لَفْظًا مِنْ جَانِبٍ
فَيُقْتَصَرُ عَلَيْهِ فَيَنْتَفِي غَيْرُ الْمُفَسَّرِ،
وَأَمَّا خُصُوصُ لَفْظِ الْمُفَسَّرِ فَمَعْلُومُ
الْإِلْغَاءِ، وَاعْتِبَارُ الْمُفَسَّرِ أَعَمَّ مِنْهُ
حَتَّى بِقَرِينَةٍ غَيْرِ لَفْظِيَّةٍ يُوجِبُ مَا ذَكَرْنَا
مِنْ الْوُقُوعِ بِلَا لَفْظٍ صَالِحٍ، وَلَوْ اخْتَارَتْ
زَوْجَهَا لَا يَقَعُ شَيْءٌ.
وَعَنْ عَلِيٍّ تَقَعُ رَجْعِيَّةً كَأَنَّهُ جَعَلَ نَفْسَ
اللَّفْظِ إيقَاعًا، لَكِنَّ قَوْلَ «عَائِشَةَ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهَا - خَيَّرَنَا رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَاخْتَرْنَاهُ وَلَمْ
يَعْدُدْهُ عَلَيْنَا شَيْئًا» رَوَاهُ السِّتَّةُ. وَفِي
لَفْظٍ فِي الصَّحِيحَيْنِ " فَلَمْ يَعْدُدْ " يُفِيدُ عَدَمَ
وُقُوعِ شَيْءٍ.
(قَوْلُهُ: فَقَالَتْ أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي) الْمَقْصُودُ
أَنَّهَا ذَكَرَتْ بِلَفْظِ الْمُضَارِعِ كَأَخْتَارُ نَفْسِي
سَوَاءٌ ذَكَرَتْ " أَنَا " أَوْ لَا، فَفِي الْقِيَاسِ لَا
يَقَعُ لِأَنَّهُ وَعْدٌ، كَمَا لَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك
فَقَالَتْ
(4/81)
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ حَدِيثُ «عَائِشَةَ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -، فَإِنَّهَا قَالَتْ لَا بَلْ
أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ» اعْتَبَرَهُ النَّبِيُّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَابًا مِنْهَا،
وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَتَجُوزُ
فِي الِاسْتِقْبَالِ كَمَا فِي كَلِمَةِ الشَّهَادَةِ،
وَأَدَاءِ الشَّاهِدِ الشَّهَادَةَ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا:
أُطَلِّقُ نَفْسِي لِأَنَّهُ تَعَذَّرَ حَمْلُهُ عَلَى
الْحَالِ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِحِكَايَةٍ عَنْ حَالَةٍ
قَائِمَةٍ، وَلَا كَذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَنَا أُطَلِّقُ حَيْثُ لَا تُطَلِّقُ، وَكَذَا لَوْ قَالَ
لِعَبْدِهِ: أَعْتِقْ رَقَبَتَك فَقَالَ: أَنَا أُعْتِقُ لَا
يُعْتَقُ.
وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ حَدِيثُ عَائِشَةَ فِي الصَّحِيحَيْنِ
عَنْهَا قَالَتْ: «لَمَّا أَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِتَخْيِيرِ أَزْوَاجِهِ بَدَأَ
بِي فَقَالَ: إنِّي ذَاكِرٌ لَكِ أَمْرًا وَلَا عَلَيْكِ أَنْ
لَا تَعْجَلِي حَتَّى تَسْتَأْمِرِي أَبَوَيْكِ، وَقَدْ عَلِمَ
أَنَّ أَبَوَيَّ لَمْ يَكُونَا يَأْمُرَانِي بِفِرَاقِهِ،
ثُمَّ قَالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ لِي {يَا أَيُّهَا
النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ
الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} [الأحزاب: 28] إلَى
قَوْلِهِ {أَجْرًا عَظِيمًا} [النساء: 40] فَقُلْتُ: فَفِي
هَذَا أَسْتَأْمِرُ أَبَوَيَّ؟ فَإِنِّي أُرِيدُ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ، ثُمَّ فَعَلَ أَزْوَاجُ
النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِثْلَ
الَّذِي فَعَلْتُ» .
وَفِي لَفْظِ مُسْلِمٍ «بَلْ أَخْتَارُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ»
وَاعْتَبَرَهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
جَوَابًا. لَا يُقَالُ: قَدْ ذَكَرَتْ أَنَّ التَّخْيِيرَ
الَّذِي كَانَ مِنْهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -
لَيْسَ هَذَا الْمُتَكَلَّمُ فِيهِ بَلْ إنَّهُنَّ لَوْ
اخْتَرْنَ أَنْفُسَهُنَّ يُطَلِّقُهُنَّ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
بِالِاسْتِدْلَالِ بِهِ اعْتِدَادُهُ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جَوَابًا يُفِيدُ قِيَامَ مَعْنَاهُ فِي
الْحَالِ، وَقَوْلُ الْمُصَنِّفِ (وَلِأَنَّ هَذِهِ الصِّيغَةَ
حَقِيقَةٌ فِي الْحَالِ وَتَجُوزُ فِي الِاسْتِقْبَالِ) هُوَ
أَحَدُ الْمَذَاهِبِ، وَقِيلَ بِالْقَلْبِ، وَقِيلَ مُشْتَرَكٌ
بَيْنَهُمَا، وَعَلَى اعْتِبَارِ جَعْلِهِ لِلْحَالِ خَاصًّا
أَوْ مُشْتَرَكًا لَفْظِيًّا يُرَجَّحُ هُنَا إرَادَةُ أَحَدِ
مَفْهُومَيْهِ: أَعْنِي الْحَالَ بِقَرِينَةٍ بِكَوْنِهِ
إخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ قَائِمٍ فِي الْحَالِ، وَذَلِكَ
يُمْكِنُ فِي الِاخْتِيَارِ لِأَنَّ مَحَلَّهُ الْقَلْبُ
فَيَصِحُّ الْإِخْبَارُ بِاللِّسَانِ عَمَّا هُوَ قَائِمٌ
بِمَحَلٍّ آخَرَ حَالَ الْإِخْبَارِ كَمَا فِي الشَّهَادَةِ،
وَكَلِمَةُ
(4/82)
قَوْلُهَا: أَنَا أَخْتَارُ نَفْسِي
لِأَنَّهُ حِكَايَةٌ عَنْ حَالَةٍ قَائِمَةٍ وَهُوَ
اخْتِيَارُهَا نَفْسَهَا، وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي
اخْتَارِي اخْتَارِي فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ
الْوُسْطَى أَوْ الْأَخِيرَةَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا فِي قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ، وَلَا
يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ (وَقَالَا: تَطْلُقُ
وَاحِدَةً) وَإِنَّمَا لَا يُحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ
لِدَلَالَةِ التَّكْرَارِ عَلَيْهِ إذْ الِاخْتِيَارُ فِي
حَقِّ الطَّلَاقِ هُوَ الَّذِي
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الشَّهَادَةِ، بِخِلَافِ قَوْلِهَا: أُطَلِّقُ نَفْسِي لَا
يُمْكِنُ جَعْلُهُ إخْبَارًا عَنْ أَمْرٍ قَائِمٍ لِأَنَّهُ
إنَّمَا يَقُومُ بِاللِّسَانِ، فَلَوْ جَازَ قَامَ بِهِ
الْأَمْرَانِ فِي زَمَنٍ وَاحِدٍ وَهُوَ مُحَالٌ، وَهَذَا
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْإِيقَاعَ لَا يَكُونُ بِنَفْسِ
أُطَلِّقُ لِأَنَّهُ لَا تَعَارُفَ فِيهِ، وَقَدَّمْنَا
أَنَّهُ لَوْ تُعُورِفَ جَازَ وَمُقْتَضَاهُ أَنْ يَقَعَ بِهِ
هُنَا إنْ تُعُورِفَ لِأَنَّهُ إنْشَاءٌ لَا إخْبَارٌ
(قَوْلُهُ: وَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّةِ الزَّوْجِ) وَلَا
إلَى ذِكْرِ نَفْسِهَا ذَكَرَهُ فِي الدِّرَايَةِ لِأَنَّ فِي
لَفْظِهِ مَا يَدُلُّ عَلَى إرَادَةِ الطَّلَاقِ وَهُوَ
التَّعَدُّدُ، وَهُوَ إنَّمَا يَتَعَلَّقُ بِالطَّلَاقِ لَا
بِاخْتِيَارِ الزَّوْجِ، وَهَذَا يُفِيدُ عَدَمَ الِاحْتِيَاجِ
إلَيْهَا فِي الْقَضَاءِ، حَتَّى لَوْ قَالَ: لَمْ أَنْوِ لَمْ
يُلْتَفَتْ إلَيْهِ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا، لَا عَدَمَ
الِاحْتِيَاجِ إلَيْهَا فِي الْوُقُوعِ فِيمَا بَيْنَهُ
وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى حَتَّى يَصِيرَ كَالصَّرِيحِ،
وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا رِوَايَةُ الزِّيَادَاتِ بِاشْتِرَاطِ
النِّيَّةِ وَإِنْ
(4/83)
يَتَكَرَّرُ لَهُمَا إنْ ذَكَرَ الْأُولَى،
وَمَا يَجْرِي مَجْرَاهُ إنْ كَانَ لَا يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ
التَّرْتِيبُ يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ الْإِفْرَادُ فَيُعْتَبَرُ
فِيمَا يُفِيدُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
كَرَّرَ.
وَمَا فِي الْجَامِعِ قَالَ اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي
بِأَلْفٍ يَنْوِي الطَّلَاقَ فَاشْتَرَطَ النِّيَّةَ مَعَ
الْمَالِ وَالتَّكْرَارِ فَضْلًا عَنْ أَحَدِهِمَا وَهَذَا
لِمَا عُرِفَ أَنَّ الْأَحْوَالَ شُرُوطٌ، لَكِنْ فِي شَرْحِ
الزِّيَادَاتِ لِقَاضِي خَانْ: لَوْ كَرَّرَ فَقَالَ: أَمْرُك
بِيَدِك أَمْرُك بِيَدِك أَوْ فَأَمْرُك بِيَدِك أَوْ
وَأَمْرُك بِيَدِك بِالْفَاءِ أَوْ بِالْوَاوِ فَقَالَتْ:
اخْتَرْت نَفْسِي وَقَالَ الزَّوْجُ: لَمْ أَنْوِ الطَّلَاقَ
كَانَ الْقَوْلُ قَوْلَهُ لِأَنَّ التَّكْرَارَ لَا يُزِيلُ
الْإِبْهَامَ، وَكَذَا لَوْ كَرَّرَ الِاخْتِيَارَ انْتَهَى
وَهُوَ الْوَجْهُ.
وَتَحَقَّقَ فِي الْمَسْأَلَةِ خِلَافٌ بَيْنَ الْمَشَايِخِ،
وَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ ذَكَرَهُ الصَّدْرُ الشَّهِيدُ
وَالْعَتَّابِيُّ وَغَيْرُهُمَا، وَشَرَطَ أَبُو مَعِينٍ
النَّسَفِيُّ النِّيَّةَ مَعَ التَّكْرَارِ كَقَاضِي خَانْ.
وَمِنْهُمْ مَنْ اسْتَشْهَدَ بِمَا اسْتَشْهَدْنَا بِهِ فِي
لُزُومِ النِّيَّةِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى
مِنْ الْمَنْقُولِ عَلَى لُزُومِ النِّيَّةِ مُطْلَقًا وَلَوْ
فِي الْقَضَاءِ، وَلَا يَخْفَى بُعْدُهُ فِي مَسْأَلَةِ
الْجَامِعِ الْكَبِيرِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْمَالِ ظَاهِرٌ فِي
إرَادَةِ الطَّلَاقِ فَكَيْفَ يُصَدِّقُهُ الْقَاضِي إذَا
أَنْكَرَ إرَادَةَ الطَّلَاقِ.
وَأَمَّا مَا فِي الزِّيَادَاتِ مِنْ اشْتِرَاطِهَا فَيُحْمَلُ
عَلَى مَا فِي نَفْسِ الْأَمْرِ: أَيْ يُشْتَرَطُ لِلْوُقُوعِ
ثُبُوتُ النِّيَّةِ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ لِأَنَّ الْأَصْلَ
أَنَّ إثْبَاتَ أَجْوِبَةِ الْمَسَائِلِ مِنْ قَوْلِنَا:
يَقَعُ لَا يَقَعُ يَجِبُ لَا يَجِبُ إنَّمَا هُوَ
بِالنِّسْبَةِ إلَى نَفْسِ الْأَمْرِ وَلَيْسَ كُلُّ مَا
يُشْتَرَطُ فِي نَفْسِ الْأَمْرِ يُشْتَرَطُ لِلْقَضَاءِ،
غَيْرَ أَنَّا مَعَ ذَلِكَ اخْتَرْنَا مَا ذَكَرَهُ الْقَاضِي
مِنْ أَنَّهُ لَوْ أَنْكَرَ الطَّلَاقَ بِقَوْلِهِ: لَمْ
أَنْوِهِ فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ: لِانْتِهَاضِ الْوَجْهِ بِهِ
لِأَنَّ تَكْرَارَ أَمْرِهِ بِالِاخْتِيَارِ لَا يُصَيِّرُهُ
ظَاهِرًا فِي الطَّلَاقِ لِجَوَازِ أَنْ يُرِيدَ اخْتَارِي فِي
الْمَالِ وَاخْتَارِي فِي الْمَسْكَنِ وَنَحْوِهِ، وَهُوَ
كَاعْتَدِّي اعْتَدِّي اعْتَدِّي حَيْثُ يُصَدِّقُهُ فِي
إنْكَارِ نِيَّةِ الطَّلَاقِ لِإِمْكَانِ إرَادَةِ اعْتَدِّي
نِعَمَ اللَّهِ وَمَعَاصِيَك وَنِعَمِي.
وَمَا فِي الْبَدَائِعِ: لَوْ قَالَ: اخْتَارِي اخْتَارِي
اخْتَارِي فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَقَالَ: نَوَيْت
بِالْأُولَى طَلَاقًا وَبِالْبَاقِيَتَيْنِ التَّأْكِيدَ لَمْ
يُصَدَّقْ لِأَنَّهُ لَمَّا نَوَى بِالْأُولَى الطَّلَاقَ
كَانَ الْحَالُ حَالَ مُذَاكَرَةِ الطَّلَاقِ فَكَانَ
الْبَاقِي طَلَاقًا ظَاهِرًا، وَمِثْلُهُ فِي الْمُحِيطِ
ظَاهِرٌ. وَقَالَ فِي الْكَافِي فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ:
قِيلَ لَا بُدَّ مِنْ ذِكْرِ النَّفْسِ، وَإِنَّمَا حُذِفَ
لِشُهْرَتِهِ لِأَنَّ غَرَضَ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
التَّفْرِيعُ دُونَ بَيَانِ صِحَّةِ الْجَوَابِ، وَعَلَى هَذَا
فَيَنْبَغِي أَنَّ حَذْفَ النِّيَّةِ فِي الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ كَذَلِكَ (قَوْلُهُ: إنْ ذَكَرَ الْأُولَى وَمَا
يَجْرِي مَجْرَاهُ إنْ كَانَ لَا يُفِيدُ مِنْ حَيْثُ
التَّرْتِيبُ) يَعْنِي هُوَ فِي نَفْسِهِ يُفِيدُ
الْفَرْدِيَّةَ وَالنِّسْبَةَ الْمَخْصُوصَةَ، فَإِنْ بَطَلَ
الثَّانِي فِي خُصُوصِ هَذَا الْمَحَلِّ لِاسْتِحَالَتِهِ فِي
الْمُجْتَمَعِ فِي الْمِلْكِ، أَعْنِي الثَّلَاثَ الَّتِي
مَلَكَتْهَا بِقَوْلِهِ اخْتَارِي ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، إذْ
حَقِيقَةُ التَّرْتِيبِ فِي أَفْعَالِ الْأَعْيَانِ كَمَا
يُقَالُ صَامَ حَجَّ
(4/84)
وَلَهُ أَنَّ هَذَا وَصْفٌ لَغْوٌ لِأَنَّ
الْمُجْتَمِعَ فِي الْمِلْكِ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ
كَالْمُجْتَمِعِ فِي الْمَكَانِ، وَالْكَلَامُ لِلتَّرْتِيبِ
وَالْإِفْرَادُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ، فَإِذَا لَغَا فِي حَقِّ
الْأَصْلِ لَغَا فِي حَقِّ الْبِنَاءِ (وَلَوْ قَالَتْ
اخْتَرْت اخْتِيَارَةً فَهِيَ ثَلَاثٌ فِي قَوْلِهِمْ
جَمِيعًا) لِأَنَّهَا لِلْمَرَّةِ فَصَارَ كَمَا إذَا
صَرَّحَتْ بِهَا وَلِأَنَّ الِاخْتِيَارَةَ لِلتَّأْكِيدِ
وَبِدُونِ التَّأْكِيدِ تَقَعُ الثَّلَاثُ فَمَعَ التَّأْكِيدِ
أَوْلَى
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لَمْ يَجُزْ إبْطَالُ الْآخَرِ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهُ
(قَوْلُهُ وَالْكَلَامُ لِلتَّرْتِيبِ) ذَكَرَ فِي
الْمَبْسُوطِ لِأَبِي حَنِيفَةَ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ
الْأُولَى نَعْتٌ لِمُؤَنَّثٍ فَاسْتَدْعَى مَذْكُورًا يُوصَفُ
بِهِ وَالْمَذْكُورُ ضِمْنًا الِاخْتِيَارَةُ، فَكَأَنَّهَا
قَالَتْ: اخْتَرْت الِاخْتِيَارَةَ أَوْ الْمَرَّةَ الْأُولَى،
وَلَوْ قَالَتْ ذَلِكَ طَلُقَتْ ثَلَاثًا.
وَالْآخَرُ أَنَّهَا أَتَتْ بِالتَّرْتِيبِ لَا فِيمَا يَلِيقُ
وَصْفُهُ بِهِ فَيَلْغُو وَيَبْقَى قَوْلُهَا اخْتَرْت
فَيَكُونُ جَوَابًا لِلْكُلِّ، وَهَذَا تَتِمُّ الْإِشَارَةُ
إلَيْهِ بِقَوْلِهِ: إنَّ هَذَا وَصْفُ لَغْوٍ إلَى قَوْلِهِ
فِي الْمَكَانِ، فَقَوْلُهُ: وَالْكَلَامُ لِلتَّرْتِيبِ
ابْتِدَاءً وَجْهٌ يَتَضَمَّنُ جَوَابَ قَوْلِهِمَا إنْ كَانَ
لَا يُفِيدُ التَّرْتِيبَ إلَخْ لَا يُطَابِقُ الْوَجْهَ
الْأَوَّلَ. وَالْمُرَادُ بِالْكَلَامِ لَفْظُ الْأُولَى،
فَإِنَّ كَثِيرًا مِنْ الْأُصُولِيِّينَ يُطْلِقُهُ عَلَى
الْمُفْرَدِ، وَبَعْضُهُمْ يَنْسُبُهُ إلَى كُلِّهِمْ، ثُمَّ
يَرِدُ عَلَيْهِ مَنْعُ أَنَّ الْإِفْرَادَ مِنْ ضَرُورَةِ
التَّرْتِيبِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى الْأُولَى، بَلْ كُلٌّ
مِنْهُمَا مَدْلُولُهُ لَيْسَ أَحَدُهُمَا تَبَعًا لِلْآخَرِ،
حَتَّى إذَا لَغَا فِي حَقِّ الْأَصْلِ لَغَا فِي حَقِّ
الْبِنَاءِ وَهُوَ الْإِفْرَادُ.
وَإِذَا لَغِيَا بَقِيَ قَوْلُهَا: اخْتَرْت وَهُوَ يَصْلُحُ
جَوَابًا لِلْكُلِّ فَيَقَعْنَ، وَلِذَا اخْتَارَ
الطَّحَاوِيُّ قَوْلَهُمَا. وَالْجَوَابُ بَعْدَ تَسْلِيمِ
أَنَّ الْفَرْدِيَّةَ مَدْلُولٌ تَضَمُّنِيٌّ فَقَدْ يَكُونُ
أَحَدُ جُزْأَيْ الْمَدْلُولِ الْمُطَابِقِيِّ هُوَ
الْمَقْصُودَ وَالْآخَرُ تَبَعًا كَمَا هُوَ الْمُرَادُ هُنَا
مِنْ قَوْلِهِ: وَالْإِفْرَادُ مِنْ ضَرُورَاتِهِ فَيَنْتَفِي
التَّبَعُ بِانْتِفَاءِ الْمَقْصُودِ وَالْوَصْفُ كَذَلِكَ؛
لِأَنَّهُ وَضْعٌ لِذَاتٍ بِاعْتِبَارِ مَعْنًى هُوَ
الْمَقْصُودُ فَلَمْ يُلَاحَظْ الْفَرْدُ فِيهِ حَقِيقِيًّا
أَوْ اعْتِبَارِيًّا كَالطَّائِفَةِ الْأُولَى وَالْجَمَاعَةِ
الْأُولَى إلَّا مِنْ حَيْثُ هُوَ مُتَّصِفٌ بِتِلْكَ
النِّسْبَةِ، فَإِذَا بَطَلَتْ بَطَلَ الْكَلَامُ. وَقَدْ
ضَعَّفَ بَعْضُهُمْ تَعْلِيلَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ - بِأَنَّ التَّرْتِيبَ ثَابِتٌ فِي اللَّفْظِ وَإِنْ
لَمْ يَكُنْ ثَابِتًا فِي الْمَعْنَى، فَصَدَقَ وَصْفُهَا
بِالْأُولَى وَالْوُسْطَى إلَى آخِرِهِ بِاعْتِبَارِ أَنَّ
قَوْلَهُ: اخْتَارِي اخْتَارِي جُمْلَةٌ بَعْدَ جُمْلَةٍ.
وَالْحَاصِلُ مِنْ هَذَا اخْتَرْت لَفْظَتَك الْأُولَى أَوْ
كَلِمَتَك الْأُولَى، وَلَا مَعْنَى لَهُ أَصْلًا بَعْدَ
فَرْضِ إهْدَارِ وَصْفِ الطَّلَاقِ بِهِ. وَأَبْعَدُ مِنْ
هَذَا مَنْ رَامَ الدَّفْعَ عَنْهُ بِأَنَّ الْمَعْنَى
اخْتَرْت الْإِيقَاعَ بِكَلِمَتِك الْأُولَى لِأَنَّ
الْإِيقَاعَ لَا يَكُونُ بِكَلِمَتِهِ قَطُّ بَلْ
بِكَلِمَتِهَا مَرِيدَةً بِهَا الطَّلَاقَ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: اخْتَارِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ: اخْتَرْت
اخْتِيَارَةً أَوْ الِاخْتِيَارَةَ أَوْ مَرَّةً أَوْ
بِمَرَّةٍ أَوْ دَفْعَةً أَوْ بِدَفْعَةٍ أَوْ بِوَاحِدَةٍ
أَوْ اخْتِيَارَةً وَاحِدَةً تَقَعُ الثَّلَاثُ اتِّفَاقًا
لِأَنَّهُ جَوَابُ الْكُلِّ، حَتَّى لَوْ كَانَ
(4/85)
(وَلَوْ قَالَتْ قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي
أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ
يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) لِأَنَّ هَذَا اللَّفْظَ يُوجِبُ
الِانْطِلَاقَ بَعْدَ انْقِضَاءِ الْعِدَّةِ فَكَأَنَّهَا
اخْتَارَتْ نَفْسَهَا بَعْدَ الْعِدَّةِ (وَإِنْ قَالَ لَهَا
أَمْرُك بِيَدِك فِي تَطْلِيقَةٍ أَوْ اخْتَارِي تَطْلِيقَةً
فَاخْتَارَتْ نَفْسَهَا فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ
الرَّجْعَةَ) لِأَنَّهُ جَعَلَ لَهَا الِاخْتِيَارَ لَكِنْ
بِتَطْلِيقَةٍ وَهِيَ مُعْقِبَةٌ لِلرَّجْعَةِ بِالنَّصِّ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِمَالٍ لَزِمَ كُلُّهُ (قَوْلُهُ: فَهِيَ وَاحِدَةٌ يَمْلِكُ
الرَّجْعَةَ) وَهُوَ سَهْوٌ بَلْ بَائِنٌ نَصَّ عَلَيْهِ
مُحَمَّدٌ فِي الزِّيَادَاتِ وَفِي الْجَامِعِ الْكَبِيرِ
وَالْمَبْسُوطِ وَالْأَوْضَحِ وَشُرُوحِ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
وَجَوَامِعِ الْفِقْهِ وَعَامَّةِ الْجَوَامِعِ سِوَى جَامِعِ
صَدْرِ الْإِسْلَامِ فَإِنَّ فِيهِ مَا فِي الْهِدَايَةِ.
وَجْهُ الصَّحِيحِ أَنَّ الْوَاقِعَ بِالتَّخْيِيرِ بَائِنٌ
لِأَنَّ التَّخْيِيرَ تَمْلِيكُ النَّفْسِ مِنْهَا وَلَيْسَ
فِي الرَّجْعِيِّ مِلْكُهَا نَفْسَهَا وَإِيقَاعُهَا وَإِنْ
كَانَ بِلَفْظِ الصَّرِيحِ، لَكِنْ إنَّمَا يَثْبُتُ بِهِ
الْوُقُوعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي فَوَّضَ بِهِ إلَيْهَا،
وَالصَّرِيحُ لَا يُنَافِي الْبَيْنُونَةَ كَمَا فِي
تَسْمِيَةِ الْمَالِ فَيَقَعُ بِهِ لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ
إلَّا مَا مُلِّكَتْ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ أَمَرَهَا
بِالْبَائِنِ فَأَوْقَعَتْ الرَّجْعِيَّ أَوْ بِالْعَكْسِ
وَقَعَ مَا أَمَرَهَا بِهِ لَا مَا أَوْقَعَتْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: مَا الْفَرْقُ بَيْنَ اخْتَرْت وَطَلَّقْت
حَيْثُ يَصِحُّ طَلَّقْت جَوَابًا لِاخْتَارِي حَتَّى تَقَعَ
بِهِ الْبَائِنَةُ وَاخْتَرْت لَا يَصْلُحُ جَوَابَ طَلِّقِي
نَفْسَك حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ إلَّا عِنْدَ زُفَرَ.
وَسَنَذْكُرُ جَوَابَهُ فِي فَصْلِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ
(قَوْلُهُ: لَكِنْ بِتَطْلِيقَةٍ) قِيلَ عَلَيْهِ لَوْ كَانَ
كَذَلِكَ لَكَانَ هَذَا كَقَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك. وَقَدْ
ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا يَقَعُ بِاخْتَرْتُ جَوَابًا لِطَلِّقِي
نَفْسَك. أُجِيبُ بِأَنَّ آخِرَ كَلَامِهِ لَمَّا فَسَّرَ
الْأَوَّلَ كَانَ الْعَامِلُ هُوَ الْمُفَسَّرَ وَهُوَ
الْأَمْرُ بِالْيَدِ وَالتَّخْيِيرُ، وَقَوْلُهَا: اخْتَرْت
يَصْلُحُ جَوَابًا لَهُ.
(4/86)
فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
[فُرُوعٌ] قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَاخْتَارِي
فَقَالَتْ: شِئْت وَاخْتَرْت يَقَعُ ثِنْتَانِ بِالْمَشِيئَةِ
وَالِاخْتِيَارِ.
وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي اخْتَارِي اخْتَارِي بِأَلْفٍ
فَقَالَتْ: اخْتَرْت جَمِيعَ ذَلِكَ وَقَعَتْ الْأُولَيَانِ
بِلَا شَيْءٍ وَالثَّالِثَةُ بِأَلْفٍ لِأَنَّهَا
الْمَقْرُونَةُ بِالْبَدَلِ كَمَا فِي الِاسْتِثْنَاءِ
وَالشُّرُوطِ، وَكَذَا لَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي
اخْتِيَارَةً أَوْ وَاحِدَةً أَوْ بِوَاحِدَةٍ.
وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى أَوْ
الْأَخِيرَةَ تَطْلُقُ ثَلَاثًا بِأَلْفٍ عَلَى قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَعَلَى قَوْلِهِمَا وَقَعَتْ وَاحِدَةٌ بِغَيْرِ
شَيْءٍ إنْ قَالَتْ: اخْتَرْت الْأُولَى أَوْ الْوُسْطَى،
وَبِأَلْفٍ إنْ قَالَتْ: اخْتَرْت الْأَخِيرَةَ.
. وَلَوْ قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ أَوْ اخْتَرْت
نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ لِأَنَّ
التَّطْلِيقَةَ اسْمٌ لِلْوَاحِدَةِ فَلَا يَكُونُ جَوَابًا
عَنْ الْكُلِّ بَلْ الْبَعْضِ، وَبَعْدَ ذَلِكَ تُسْأَلُ
الْمَرْأَةُ عَنْ ذَلِكَ، فَإِنْ قَالَتْ: عَنَيْت الْأُولَى
أَوْ الثَّانِيَةَ وَقَعَتَا بِلَا شَيْءٍ أَوْ الثَّالِثَةَ
بَانَتْ بِأَلْفٍ.
وَلَوْ قَالَ: اخْتَارِي وَاخْتَارِي وَاخْتَارِي بِالْعَطْفِ
بِأَلْفٍ فَالْأَلْفُ مُقَابَلٌ بِالثَّلَاثِ لِلْعَطْفِ،
فَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ لَمْ يَقَعْ
شَيْءٌ لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ لَوْ وَقَعَتْ وَقَعَتْ بِثُلُثِ
الْبَدَلِ وَلَمْ يَرْضَهُ. وَلَوْ قَالَتْ: اخْتَرْت
الْأُولَى أَوْ الثَّانِيَةَ أَوْ الثَّالِثَةَ وَقَعَتْ
ثَلَاثٌ بِأَلْفٍ عِنْدَهُ، وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ
لِأَنَّهُ لَوْ وَقَعَ وَقَعَ بِثُلُثِ الْأَلْفِ. وَلَوْ
قَالَ لَهَا: اخْتَارِي مِنْ ثَلَاثِ تَطْلِيقَاتٍ مَا شِئْت
فَلَهَا اخْتِيَارُ وَاحِدَةٍ أَوْ ثِنْتَيْنِ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ لَا غَيْرُ لِأَنَّ مِنْ لِلتَّبْعِيضِ،
وَعِنْدَهُمَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا
لِأَنَّهَا لِلْبَيَانِ وَهِيَ مَعْرُوفَةٌ.
[فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ]
(فَصْلٌ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ) قَدَّمَ التَّخْيِيرَ
لِتَأَيُّدِهِ بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ، وَالْأَمْرُ
بِالْيَدِ كَالتَّخْيِيرِ فِي جَمِيعِ مَسَائِلِهِ مِنْ
اشْتِرَاطِ ذِكْرِ النَّفْسِ أَوْ مَا يَقُومُ مَقَامَهُ
وَمِنْ عَدَمِ مِلْكِ الزَّوْجِ الرُّجُوعَ وَغَيْرَ ذَلِكَ
مِمَّا قَدَّمْنَاهُ سِوَى نِيَّةِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهَا
تَصِحُّ هَاهُنَا لَا فِي التَّخْيِيرِ.
وَاعْلَمْ أَنَّ التَّفْوِيضَ بِلَفْظِ أَمْرُك بِيَدِك لَا
يُعْلَمُ فِيهِ خِلَافٌ، وَصِحَّتُهُ قِيَاسٌ وَاسْتِحْسَانٌ،
وَكَذَا صِحَّةُ التَّفْوِيضِ بِلَفْظِ اخْتَارِي نَفْسَك
لِأَنَّهُ يَمْلِكُ تَطْلِيقَهَا فَلَهُ أَنْ يُمَلِّكَهُ
بِكُلِّ لَفْظٍ يُفْهَمُ التَّفْوِيضُ مِنْهُ، وَلَفْظُ
اخْتَارِي نَفْسَك يُفِيدُهُ، فَعَلَى هَذَا إنَّمَا يَتَّجِهُ
تَقْدِيمُ التَّفْوِيضِ بِلَفْظِ اخْتَارِي لِتَأَيُّدِهِ
بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ - نَصًّا،
بِخِلَافِهِ بِلَفْظِ الْأَمْرِ بِالْيَدِ، فَإِنَّهُ وَإِنْ
لَمْ يُعْلَمْ فِيهِ خِلَافُ أَحَدٍ لَمْ يَقَعْ بِهِ ذَلِكَ
النَّقْلُ صَرِيحًا، وَإِنَّمَا افْتَرَقَ الْبَابَانِ فِي
الْقِيَاسِ وَالِاسْتِحْسَانِ فِي الْإِيقَاعِ
(4/87)
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك
يَنْوِي ثَلَاثًا فَقَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي
بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ) لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ يَصْلُحُ
جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ لِكَوْنِهِ تَمْلِيكًا
كَالتَّخْيِيرِ، وَالْوَاحِدَةُ صِفَةٌ لِلِاخْتِيَارَةِ،
فَصَارَ كَأَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي بِمَرَّةٍ
وَاحِدَةٍ وَبِذَلِكَ يَقَعُ الثَّلَاثُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِلَفْظِ الِاخْتِيَارِ، فَإِنَّ إيقَاعَهَا بِهِ إنَّمَا
يَجُوزُ اسْتِحْسَانًا بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ لَا قِيَاسًا
لِأَنَّ الزَّوْجَ لَا يَمْلِكُ الْإِيقَاعَ بِهِ فَلَا
يَمْلِكُ بِهِ الْمُمَلَّكَ إذْ لَا يَكُونُ مَا فِي مِلْكِهِ
أَوْسَعَ مِمَّا فِي مِلْكِ مُمَلِّكِهِ وَهَذَا يَتَسَاوَى
فِيهِ الْبَابَانِ، فَإِنَّ إيقَاعَهَا بِلَفْظِ اخْتَرْت
نَفْسِي يَصِحُّ فِي جَوَابِ أَمْرُك بِيَدِك كَمَا يَصِحُّ
فِي اخْتَارِي.
وَأَمَّا الْإِيقَاعُ بِلَفْظِ أَمْرِي بِيَدِي وَنَحْوِهِ
فَلَا يَصِحُّ قِيَاسًا وَلَا اسْتِحْسَانًا فَلَا تَحُمْ
حَوْلَ الْحِمَى وَتَتْرُكْ النُّزُولَ مَخَافَةً (قَوْلُهُ:
وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك يَنْوِي ثَلَاثًا) أَيْ
يَنْوِي التَّفْوِيضَ فِي ثَلَاثٍ (فَقَالَتْ: اخْتَرْت
نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ فَهِيَ ثَلَاثٌ لِأَنَّ الِاخْتِيَارَ
يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ) وَهُنَا مَقَامَانِ:
الْوُقُوعُ وَكَوْنُهُ ثَلَاثًا، وَالْوُقُوعُ مَبْنِيٌّ عَلَى
صِحَّتِهِ جَوَابًا، فَأَفَادَهُ بِقَوْلِهِ لِكَوْنِهِ أَيْ
الْأَمْرِ بِالْيَدِ تَمْلِيكًا كَالتَّخْيِيرِ فَجَوَابُهُ
جَوَابُهُ وَهُوَ مَنْقُوضٌ بِطَلِّقِي نَفْسَك فَإِنَّهُ
تَمْلِيكٌ كَالتَّخْيِيرِ، وَلَا يَصْلُحُ اخْتَرْت نَفْسِي
جَوَابًا لَهُ حَتَّى لَا يَقَعَ بِهِ شَيْءٌ إلَّا عِنْدَ
زُفَرَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -.
وَجَوَابُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ بِأَنَّ الِاخْتِيَارَ أَضْعَفُ
مِنْ لَفْظِ الطَّلَاقِ، وَلِذَا لَوْ قَالَتْ: طَلَّقْت
نَفْسِي فَأَجَازَهُ مُبْتَدَأً جَازَ، وَلَوْ قَالَتْ:
اخْتَرْت نَفْسِي لَا يَتَوَقَّفُ وَلَا يَقَعُ، وَإِنْ
أَجَازَهُ وَلَا يَمْلِكُ هُوَ الْإِيقَاعَ بِهِ فَصَلُحَ
الْأَقْوَى جَوَابًا لِلْأَضْعَفِ دُونَ الْعَكْسِ لَا
يَدْفَعُ الْوَارِدَ عَلَى الْمُصَنِّفِ، ثُمَّ كَوْنُ
الْأَقْوَى يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْأَضْعَفِ بِلَا عَكْسٍ
يَحْتَاجُ إلَى التَّوْجِيهِ.
وَيُمْكِنُ كَوْنُهُ لِأَنَّ الْجَوَابَ هُوَ الْعَامِلُ
وَالتَّفْوِيضُ شَرْطُ عَمَلِهِ فَلَا يَكُونُ دُونَهُ بَلْ
فَائِقًا أَوْ مُسَاوِيًا. وَفَرَّقَ قَاضِي خَانْ فِي شَرْحِ
الزِّيَادَاتِ بِأَنَّ قَوْلَهَا اخْتَرْت مُبْهَمٌ،
وَقَوْلَهُ: طَلِّقِي نَفْسَك مُفَسَّرٌ وَالْمُبْهَمُ لَا
يَصْلُحُ جَوَابًا لِلْمُفَسَّرِ وَهُوَ مُشْكِلٌ عَلَى مَا
تَقَدَّمَ مِنْ تَقْرِيرِ الِاكْتِفَاءِ بِالتَّفْسِيرِ فِي
أَحَدِ الْجَانِبَيْنِ، ثُمَّ أَفَادَ الثَّانِيَ بِقَوْلِهِ
(وَالْوَاحِدَةُ) أَيْ الَّتِي نَطَقَتْ بِهَا (صِفَةُ
الِاخْتِيَارَةِ فَصَارَ كَأَنَّهَا قَالَتْ: اخْتَرْت نَفْسِي
بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَبِذَلِكَ يَقَعُ الثَّلَاثُ) وَكَانَ
الظَّاهِرُ أَنْ يَقُولَ بِاخْتِيَارَةٍ وَاحِدَةٍ لِأَنَّهُ
جَعَلَهَا وَصْفًا لَهَا لَكِنَّهُ قَصَدَ التَّنْبِيهَ عَلَى
أَنَّ مُوجِبَ وُقُوعِ الثَّلَاثِ وَصَرَّحَتْ بِقَوْلِهَا
(4/88)
(وَلَوْ قَالَتْ: قَدْ طَلَّقْت نَفْسِي
بِوَاحِدَةٍ أَوْ اخْتَرْت نَفْسِي بِتَطْلِيقَةٍ فَهِيَ
وَاحِدَةٌ بَائِنَةٌ) لِأَنَّ الْوَاحِدَةَ نَعْتٌ لِمَصْدَرٍ
مَحْذُوفٍ وَهُوَ فِي الْأُولَى الِاخْتِيَارَةُ، وَفِي
الثَّانِيَةِ التَّطْلِيقَةُ إلَّا أَنَّهَا تَكُونُ بَائِنَةً
لِأَنَّ التَّفْوِيضَ فِي الْبَائِنِ ضَرُورَةُ مِلْكِهَا
أَمْرَهَا، وَكَلَامُهَا خَرَجَ جَوَابًا لَهُ فَتَصِيرُ
الصِّفَةُ الْمَذْكُورَةُ فِي التَّفْوِيضِ مَذْكُورَةً فِي
الْإِيقَاعِ وَإِنَّمَا تَصِحُّ نِيَّةُ الثَّلَاثِ فِي
قَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ
وَالْخُصُوصَ وَنِيَّةُ الثَّلَاثِ نِيَّةُ التَّعْمِيمِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
اخْتِيَارَةً وَاحِدَةً كَوْنَ الْمُرَادِ بِمَرَّةٍ
وَاحِدَةٍ، فَإِنَّ الِاخْتِيَارَةَ لَيْسَتْ إلَّا الْمَرَّةَ
مِنْ الِاخْتِيَارِ، وَإِذَا كَانَ اخْتِيَارُهَا بِمَرَّةٍ
وَاحِدَةٍ انْتَفَى الِاخْتِيَارُ بَعْدَهُ، وَكَوْنُهَا
بِحَيْثُ لَا يُتَصَوَّرُ لَهَا اخْتِيَارٌ آخَرُ هُوَ بِأَنْ
يَقَعَ الثَّلَاثُ، وَيُقَالُ فِي الْعُرْفِ تَرَكْته
بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ وَكَرِهْته بِمَرَّةٍ وَأَعْرَضْت عَنْهُ
مَرَّةً وَاحِدَةً، وَمَا لَا يُحْصَى مِنْ هَذَا لَا يُرَادُ
بِهِ إلَّا بُلُوغَ مَا قُيِّدَ بِهِ مِنْ التَّرْكِ مَثَلًا
وَالْكَرَاهَةُ وَالْإِعْرَاضُ مُنْتَهَاهُ.
وَأَوْرَدَ بَعْضُهُمْ أَنَّهُ يَنْبَغِي أَنْ يَقَعَ بِهِ
طَلْقَةٌ وَاحِدَةٌ لِأَنَّ بِوَاحِدَةٍ يَحْتَمِلُ كَوْنَهُ
صِفَةَ طَلْقَةٍ وَلَمَّا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا فِي
التَّطْلِيقِ فَقَوْلُهَا: اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ
يَحْتَمِلُ كُلًّا مِنْ كَوْنِ إرَادَةِ الْمَوْصُوفِ طَلْقَةً
(4/89)
بِخِلَافِ قَوْلِهِ: اخْتَارِي لِأَنَّهُ
لَا يَحْتَمِلُ الْعُمُومَ وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ
لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اللَّيْلُ وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي
يَوْمِهَا بَطَلَ أَمْرُ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَكَانَ الْأَمْرُ
بِيَدِهَا بَعْدَ غَدٍ) لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِذِكْرِ وَقْتَيْنِ
بَيْنَهُمَا وَقْتٌ مِنْ جِنْسِهِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ
الْأَمْرُ إذْ ذِكْرُ الْيَوْمِ بِعِبَارَةِ الْفَرْدِ لَا
يَتَنَاوَلُ اللَّيْلَ فَكَانَا أَمْرَيْنِ فَبِرَدِّ
أَحَدِهِمَا لَا يَرْتَدُّ الْآخَرُ.
وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هُمَا أَمْرٌ وَاحِدٌ
بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ
غَدٍ. قُلْنَا: الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْقِيتَ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَوْ اخْتِيَارَةً، فَإِذَا نَوَتْهَا أَوْ لَمْ تَكُنْ لَهَا
نِيَّةٌ تَقَعُ وَاحِدَةٌ.
وَالْجَوَابُ أَنَّ الِاحْتِمَالَيْنِ لَمْ يَتَسَاوَيَا،
فَإِنَّ خُصُوصَ الْعَامِلِ اللَّفْظِيِّ قَرِينَةُ خُصُوصِ
الْمُقَدَّرِ وَهُوَ هُنَا لَفْظُ اخْتَرْت فِي قَوْلِهَا:
اخْتَرْت نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ، بِخِلَافِ مَا إذَا أَجَابَتْ
بِطَلَّقْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ حَيْثُ تُقَدِّرُ الطَّلْقَةَ
وَهُوَ بِخُصُوصِ الْعَامِلِ أَيْضًا، وَبِهَذَا وَقَعَ
الْفَرْقُ بَيْنَ جَوَابِهَا بِطَلَّقْتُ نَفْسِي بِوَاحِدَةٍ
حَيْثُ يَقَعُ وَاحِدَةً بَائِنَةً وَاخْتَرْت نَفْسِي
بِوَاحِدَةٍ حَيْثُ يَقَعُ ثَلَاثًا، وَإِنَّمَا كَانَتْ
التَّطْلِيقَةُ بَائِنَةً لِأَنَّ التَّفْوِيضَ إنَّمَا
يَكُونُ فِي الْبَائِنِ لِأَنَّهَا بِهِ تَمْلِكُ أَمْرَهَا
وَإِنَّمَا تَمْلِكُهُ بِالْبَائِنِ لَا بِالرَّجْعِيِّ،
وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ مِمَّا يُرَادُ بِهِ
الثَّلَاثَ، فَإِذَا قَالَ الزَّوْجُ: نَوَيْت التَّفْوِيضَ
فِي وَاحِدَةٍ بَعْدَمَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا فِي
الْجَوَابِ يَحْلِفُ أَنَّهُ مَا أَرَادَ بِهِ الثَّلَاثَ
(قَوْلُهُ: وَقَدْ حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ) أَيْ فِي فَصْلِ
الِاخْتِيَارِ بِقَوْلِهِ الِاخْتِيَارُ لَا يَتَنَوَّعُ.
(قَوْلُهُ: وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ
وَبَعْدَ غَدٍ لَمْ يَدْخُلْ فِيهِ اللَّيْلُ إلَى آخِرِهِ)
حَاصِلُهُ أَنَّ قَوْلَهُ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ وَالْيَوْمَ
وَغَدًا يَفْتَرِقَانِ فِي حُكْمَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهَا
لَوْ اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ وَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ
يَدِهَا فِيهِ تَمْلِكُهُ بَعْدَ الْغَدِ، وَالثَّانِي عَدَمُ
مِلْكِهَا فِي اللَّيْلِ، وَفِي الْيَوْمِ وَغَدًا لَوْ
اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ لَا تَمْلِكُ طَلَاقَ
نَفْسِهَا غَدًا: أَيْ نَهَارًا وَتَمْلِكُهُ لَيْلًا.
وَالْفَرْقُ مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ وَاحِدَةٍ فِي
الْيَوْمِ وَغَدًا وَتَمْلِيكَانِ فِي الْيَوْمِ وَبَعْدَ
غَدٍ.
وَجَعَلَهُ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْكُلِّ
تَمْلِيكًا وَاحِدًا فِي الْيَوْمِ وَبَعْدَ غَدٍ، فَلَمْ
يُثْبِتْ الْخِيَارَ بَعْدَ الْغَدِ إذَا رَدَّتْهُ الْيَوْمَ
قِيَاسًا عَلَى طَلِّقِي نَفْسَك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ
حَيْثُ يَقَعُ الطَّلَاقُ وَاحِدًا فَكَذَا يَكُونُ هُنَا
أَمْرٌ وَاحِدٌ وَعَلَى أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا.
قُلْنَا: الطَّلَاقُ لَا يَحْتَمِلُ التَّأْقِيتَ، وَإِذَا
وَقَعَ تَصِيرُ بِهِ طَالِقًا فِي جَمِيعِ الْعُمُرِ فَذِكْرُ
بَعْدَ غَدٍ وَعَدَمُهُ سَوَاءٌ لَا يَقْتَضِي طَلَاقًا آخَرَ،
أَمَّا الْأَمْرُ بِالْيَدِ فَيَحْتَمِلُهُ فَيَصِحُّ ضَرْبُ
الْمُدَّةِ لَهُ غَيْرَ أَنَّ عَطْفَ زَمَنٍ عَلَى زَمَنٍ
مُمَاثِلٍ مَفْصُولٌ بَيْنَهُمَا بِزَمَنٍ مُمَاثِلٍ لَهُمَا
ظَاهِرًا فِي قَصْدِ تَقْيِيدِ الْأَمْرِ الْمَذْكُورِ
بِالْأَوَّلِ، وَتَقْيِيدُ أَمْرٍ آخَرَ بِالثَّانِي وَإِلَّا
لَمْ تَكُنْ لِهَذِهِ الطَّفْرَةِ مَعْنًى، وَإِذَا كَانَ
كَذَلِكَ يَصِيرُ لَفْظُ يَوْمٍ مُفْرَدًا غَيْرَ مَجْمُوعٍ
إلَى مَا بَعْدَهُ فِي الْحُكْمِ الْمَذْكُورِ لِأَنَّهُ صَارَ
عَطْفَ جُمْلَةٍ: أَيْ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَأَمْرُك
بِيَدِك بَعْدَ غَدٍ. وَلَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ
لَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ، بِخِلَافِ
(4/90)
وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ يَحْتَمِلُهُ،
فَيُوَقَّتُ الْأَمْرُ بِالْأَوَّلِ وَجَعَلَ الثَّانِيَ
أَمْرًا مُبْتَدَأً (وَلَوْ قَالَ أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ
وَغَدًا يَدْخُلُ اللَّيْلُ فِي ذَلِكَ، فَإِنْ رَدَّتْ
الْأَمْرَ فِي يَوْمِهَا لَا يَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا
فِي غَدٍ) لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ لِأَنَّهُ لَمْ
يَتَخَلَّلْ بَيْنَ الْوَقْتَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ وَقْتٌ
مِنْ جِنْسِهِمَا لَمْ يَتَنَاوَلْهُ الْكَلَامُ وَقَدْ
يَهْجُمُ اللَّيْلُ وَمَجْلِسُ الْمَشُورَةِ لَا يَنْقَطِعُ
فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك فِي يَوْمَيْنِ.
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهَا إذَا
رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي الْيَوْمِ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ
نَفْسَهَا غَدًا لِأَنَّهَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْأَمْرِ
كَمَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْإِيقَاعِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْيَوْمَ وَغَدًا فَإِنَّهُ لَمْ يَفْصِلْ بَيْنَهُمَا
بِيَوْمٍ آخَرَ لِتَقُومَ الدَّلَالَةُ عَلَى الْقَصْدِ
الْمَذْكُورِ فَكَانَ جَمْعًا بِحَرْفِ الْجَمْعِ فِي
التَّمْلِيكِ الْوَاحِدِ فَهُوَ كَقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك
فِي يَوْمَيْنِ، وَفِي مِثْلِهِ تَدْخُلُ اللَّيْلَةُ
الْمُتَوَسِّطَةُ اسْتِعْمَالًا لُغَوِيًّا وَعُرْفِيًّا،
عَلَى أَنَّ عَلَى مَا رَوَى ابْنُ رُسْتُمَ مِنْ أَنَّهُ إذَا
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ تَطْلُقُ
طَلَاقَيْنِ، بِخِلَافِ الْيَوْمَ وَغَدًا يَمْتَنِعُ
قِيَاسُهُ.
وَأَيْضًا فِي: طَالِقٌ الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ يَثْبُتُ
فِيهِ الْحُكْمُ فِي الْغَدِ لِأَنَّهَا طَالِقٌ فِيهِ
أَيْضًا، بِخِلَافِ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَبَعْدَ غَدٍ
فَإِنَّ الِاتِّفَاقَ عَلَى أَنْ لَا خِيَارَ لَهَا فِي
الْغَدِ فَلَمْ يَلْحَقْ بِهِ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ، وَقَوْلُ
الْمُصَنِّفِ وَقَدْ يَهْجُمُ اللَّيْلُ وَمَجْلِسُ
الْمَشُورَةِ لَمْ يَنْقَطِعْ لَا اعْتِبَارَ بِهِ تَعْلِيلًا
لِدُخُولِ اللَّيْلِ فِي التَّمْلِيكِ الْمُضَافِ إلَى
الْيَوْمِ وَغَدٍ لِأَنَّهُ يَقْتَضِي دُخُولَ اللَّيْلِ فِي
الْيَوْمِ الْمُفْرَدِ لِذَلِكَ الْمَعْنَى: أَعْنِي أَنَّهُ
قَدْ يَهْجُمُ اللَّيْلُ وَمَجْلِسُ الْمَشُورَةِ لَمْ
يَنْقَطِعْ (قَوْلُهُ: وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ فِي مَسْأَلَةِ
أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا أَنَّهَا إذَا رَدَّتْ
الْأَمْرَ فِي الْيَوْمِ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا
غَدًا) رَوَاهُ أَبُو يُوسُفَ عَنْهُ، وَوَجْهُهُ أَنَّ
الْمَرْأَةَ لَا تَمْلِكُ رَدَّ إيقَاعِ الزَّوْجِ لَوْ
نَجَّزَ، فَكَذَا لَا تَمْلِكُ رَدَّ الْأَمْرِ لِأَنَّهُ
تَمْلِيكٌ يَثْبُتُ حُكْمُهُ لَهَا مِنْ الْمِلْكِ بِلَا
قَبُولٍ كَالْإِيقَاعِ مِنْهُ وَحَاصِلُهُ أَنَّ رَدَّهَا
لَغْوٌ، فَالْحَالُ كَمَا كَانَ فَلَهَا أَنْ تَخْتَارَ
نَفْسَهَا فِي الْغَدِ، وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ لَهَا أَنْ
تَخْتَارَ نَفْسَهَا فِي الْيَوْمِ الَّذِي رَدَّتْ فِيهِ
أَيْضًا فَصَارَ كَقِيَامِهَا عَنْ الْمَجْلِسِ بَعْدَمَا
خَيَّرَهَا فِي الْيَوْمِ وَغَدًا وَاشْتِغَالِهَا بِعَمَلٍ
آخَرَ حَيْثُ لَا يَخْرُجُ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا.
وَتَحْقِيقُ وَجْهِ الظَّاهِرِ أَنَّ ثُبُوتَ هَذَا الْمِلْكِ
مُغَيًّا شَرْعًا بِأَحَدِ الْأُمُورِ مِنْ انْقِضَاءِ
مَجْلِسِ الْعِلْمِ أَوْ الْخِطَابِ بِلَا اخْتِيَارِ شَيْءٍ
أَوْ بِفِعْلِ مَا يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ أَوْ
اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا، فَإِذَا رَدَّتْ بِاخْتِيَارِهَا
زَوْجَهَا خَرَجَ مِلْكُ الْإِيقَاعِ عَنْهَا فَلَا تَمْلِكُ
اخْتِيَارَ نَفْسِهَا بَعْدَ ذَلِكَ، وَيُضَافُ تَوْقِيتُ
التَّمْلِيكِ بِهَذِهِ إلَى الْإِجْمَاعِ عَلَى خِلَافِ
الْقِيَاسِ مَعَ أَنَّ تَوْقِيتَهُ فِي الْجُمْلَةِ ثَابِتٌ
شَرْعًا كَمَا فِي الْإِجَارَةِ.
وَالْأَوْجَهُ تَشْبِيهُهُ بِالْعَارِيَّةِ لِوَجْهَيْنِ:
كَوْنُهُ بِلَا عِوَضٍ وَالْعَارِيَّةُ تَمْلِيكُ
الْمَنْفَعَةِ بِلَا عِوَضٍ.
وَالثَّانِي أَنَّ تَوْقِيتَهَا لَيْسَ بِمُدَّةٍ مُعَيَّنَةٍ
لِأَنَّ انْقِضَاءَ الْمَجْلِسِ لَيْسَ مَضْبُوطَ
الْكَمِّيَّةِ إذْ قَدْ يَمْتَدُّ يَوْمًا وَيَوْمًا أَوْ
أَكْثَرَ، وَكَذَا اخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا وَفِعْلُ مَا
يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ بِخِلَافِ الْإِجَارَةِ.
وَأَمَّا تَقْرِيرُهُ بِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ أَمْرَيْنِ
إنَّمَا لَهُ اخْتِيَارُ أَحَدِهِمَا فَكَمَا أَنَّهَا إذَا
اخْتَارَتْ نَفْسَهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ زَوْجَهَا
فَتَعُودُ إلَى النِّكَاحِ كَذَلِكَ إذَا اخْتَارَتْ
(4/91)
وَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهَا إذَا
اخْتَارَتْ نَفْسَهَا الْيَوْمَ لَا يَبْقَى لَهَا الْخِيَارُ
فِي الْغَدِ، فَكَذَا إذَا اخْتَارَتْ زَوْجَهَا بِرَدِّ
الْأَمْرِ لِأَنَّ الْمُخَيَّرَ بَيْنَ الشَّيْئَيْنِ لَا
يَمْلِكُ إلَّا اخْتِيَارَ أَحَدِهِمَا.
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك
الْيَوْمَ وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَنَّهُمَا أَمْرَانِ لِمَا
أَنَّهُ ذَكَرَ لِكُلِّ وَقْتٍ خَبَرًا بِخِلَافِ مَا
تَقَدَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
زَوْجَهَا لَيْسَ لَهَا أَنْ تَخْتَارَ نَفْسَهَا فَلَا
يُفْصِحُ عَنْ جَوَابِ النُّكْتَةِ الَّتِي هِيَ مَبْنَى
جَوَازِ اخْتِيَارِهَا نَفْسَهَا: أَعْنِي أَنَّ الْمِلْكَ
بَعْدَ ثُبُوتِهِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ إنَّمَا يَرْتَدُّ
شَطْرُ التَّمْلِيكِ، وَقَدْ قُلْنَا: إنَّ هَذَا التَّمْلِيكَ
يُثْبِتُ الْمِلْكَ بِلَا قَبُولٍ، وَقَدْ ظَهَرَ مِنْ وَجْهِ
الظَّاهِرِ حَمْلُ الرَّدِّ الْمَذْكُورِ فِي رِوَايَةِ أَبِي
يُوسُفَ عَلَى اخْتِيَارِهَا زَوْجَهَا، وَلَا شَكَّ أَنَّهَا
لَا تَتَعَرَّضُ لِمَا بِهِ الرَّدُّ فَيُمْكِنُ حَمْلُ
رَدِّهَا عَلَى كَوْنِهِ بِمَا يَكُونُ بِلَفْظِ الرَّدِّ
وَنَحْوِهِ بِأَنْ تَقُولَ عَقِيبَ الْمِلْكِ بِتَخْيِيرِهَا:
رَدَدْت التَّفْوِيضَ أَوْ لَا أُطَلِّقُ، وَبِكَوْنِ هَذَا
إعْطَاءً لِنَفْسِ هَذَا الْحُكْمِ وَيَكُونُ هُوَ مُسْتَنَدَ
مَا فُرِّعَ فِي الذَّخِيرَةِ حَيْثُ قَالَ: لَوْ جَعَلَ
أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ بِيَدِ أَجْنَبِيٍّ يَقَعُ لَازِمًا
فَلَا يَرْتَدُّ بِرَدِّهَا وَالْمَسْأَلَةُ مَرْوِيَّةٌ عَنْ
أَصْحَابِنَا، وَبِمَا ذَكَرْنَا تَنْدَفِعُ الْمُنَاقَضَةُ
الْمُورَدَةُ فِي الْأَمْرِ بِالْيَدِ حَيْثُ صَرَّحَ فِي
الرِّوَايَةِ أَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ، وَفِي
الْكِتَابِ أَنَّهُ يَرْتَدُّ: أَعْنِي فِي قَوْلِهِ: أَمْرُك
بِيَدِك الْيَوْمَ وَغَدًا، وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ فِي
يَوْمِهَا لَا يَبْقَى الْأَمْرُ فِي يَدِهَا، فَإِنَّ
الْمُرَادَ بِرَدِّهَا هُنَا اخْتِيَارُهَا زَوْجَهَا
الْيَوْمَ، وَحَقِيقَتُهُ انْتِهَاءُ مِلْكِهَا، وَهُنَاكَ
الْمُرَادُ أَنْ تَقُولَ: رَدَدْت فَلَمْ يَبْقَ تَدَافُعٌ،
لَكِنْ الشَّارِحُونَ قَرَّرُوا ثُبُوتَ التَّدَافُعِ فِي
ذَلِكَ حَيْثُ نَقَلُوا لِأَنَّهُ لَا يَرْتَدُّ وَنَقَلُوا
أَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ.
وَوَفَّقُوا بِأَنَّهُ يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ عِنْدَ
التَّفْوِيضِ، وَأَمَّا بَعْدَهُ فَلَا يَرْتَدُّ كَمَا إذَا
أَقَرَّ بِمَالٍ لِرَجُلٍ فَصَدَّقَهُ ثُمَّ رَدَّ إقْرَارَهُ
لَا يَصِحُّ. وَحَاصِلُهُ أَنَّهُ كَالْإِبْرَاءِ عَنْ
الدَّيْنِ ثُبُوتُهُ لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَبُولِ
وَيَرْتَدُّ بِالرَّدِّ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى الْإِسْقَاطِ
أَوْ التَّمْلِيكِ. أَمَّا الْإِسْقَاطُ فَظَاهِرٌ، وَأَمَّا
التَّمْلِيكُ فَقَالَ تَعَالَى {وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ
لَكُمْ} [البقرة: 280] سَمَّى الْإِبْرَاءَ تَصَدُّقًا.
وَمِمَّا وَقَعَ فِي هَذَا الْبَابِ مِنْ الْمُنَاقَصَةِ مَا
ذُكِرَ فِي الْفُصُولِ: لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَمْرُك
بِيَدِك ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ
يَدِهَا، وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ: لَا يَخْرُجُ وَإِنْ
كَانَ الطَّلَاقُ بَائِنًا. وَوَفَّقَ بِأَنَّ الْخُرُوجَ
فِيمَا إذَا كَانَ مُنَجَّزًا، وَعَدَمَهُ إذَا كَانَ
مُعَلَّقًا مِثْلُ أَنْ قَالَ: أكرترابزنم فَأَمْرُك بِيَدِك
ثُمَّ طَلَّقَهَا بَائِنًا أَوْ خَالَعَهَا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا
ثُمَّ وَجَدَ الشَّرْطَ يَصِيرُ الْأَمْرُ بِيَدِهَا، وَلَوْ
طَلَّقَهَا ثَلَاثًا ثُمَّ تَزَوَّجَهَا بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ
ثُمَّ ضَرَبَهَا لَا يَصِيرُ بِيَدِهَا وَمِنْ الْمُنَاقَضَةِ
تَصْرِيحُهُمْ بِصِحَّةِ إضَافَتِهِ كَمَا فِي الْمَسْأَلَةِ
الْآتِيَةِ إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ
فُلَانٌ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ فِيهَا (قَوْلُهُ وَعَنْ
أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ
وَأَمْرُك بِيَدِك غَدًا أَنَّهُمَا أَمْرَانِ) حَتَّى لَوْ
اخْتَارَتْ زَوْجَهَا الْيَوْمَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ
نَفْسَهَا غَدًا؛ لِأَنَّهُ يَثْبُتُ لَهَا فِي الْغَدِ
تَخْيِيرٌ جَدِيدٌ بَعْدَ ذَلِكَ التَّخْيِيرِ الْمُنْقَضِي
بِاخْتِيَارِهَا الزَّوْجَ.
قَالَ السَّرَخْسِيُّ: وَهُوَ صَحِيحٌ لِأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ
لِكُلِّ وَقْتٍ خَبَرًا صُرِفَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ اشْتِرَاكَ
الْوَقْتَيْنِ فِي خَبَرٍ وَاحِدٍ، وَالْأَصْلُ اسْتِقْلَالُ
كُلِّ كَلَامٍ.
وَذَكَرَ قَاضِي خَانْ هَذِهِ وَلَمْ يَذْكُرْ فِيهَا
خِلَافًا، فَلَمْ يَبْقَ تَخْصِيصُ أَبِي يُوسُفَ إلَّا
لِأَنَّهُ مَخْرَجُ الْفَرْعِ الْمَذْكُورِ. وَاعْلَمْ أَنَّهُ
يَتَفَرَّعُ عَلَى هَذَا عَدَمُ جَوَازِ اخْتِيَارِهَا
نَفْسَهَا لَيْلًا فَلَا تَغْفُلُ عَنْهُ لِأَنَّهُ أَثْبَتُ
لَهَا فِي يَوْمٍ مُفْرَدٍ وَلَا يَدْخُلُ اللَّيْلُ،
وَالثَّابِتُ فِي الْيَوْمِ الَّذِي يَلِيه بِأَمْرٍ آخَرَ
كَقَوْلِهِ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ حَيْثُ يَمْتَدُّ إلَى
الْغُرُوبِ فَقَطْ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك فِي
الْيَوْمِ إنَّمَا يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ وَهُوَ عَلَى مَا
قَدَّمْنَاهُ مِنْ الْأَصْلِ فِي أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا وَفِي
غَدٍ.
وَفِي جَامِعِ التُّمُرْتَاشِيِّ: أَمْرُك بِيَدِك الْيَوْمَ
غَدًا بَعْدَ غَدٍ فَهُوَ أَمْرٌ وَاحِدٌ فِي ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ لِأَنَّهَا أَوْقَاتٌ مُتَرَادِفَةٌ، فَصَارَ
كَقَوْلِهِ أَمْرُك بِيَدِك أَبَدًا فَيَرْتَدُّ بِرَدِّهَا
(4/92)
(وَإِنْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ
يَقْدَمُ فُلَانٌ فَقَدِمَ فُلَانٌ فَلَمْ تَعْلَمْ
بِقُدُومِهِ حَتَّى جَنَّ اللَّيْلُ فَلَا خِيَارَ لَهَا)
لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ مِمَّا يَمْتَدُّ فَيَحْمِلُ
الْيَوْمَ الْمَقْرُونَ بِهِ عَلَى بَيَاضِ النَّهَارِ وَقَدْ
حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ فَيَتَوَقَّتُ بِهِ ثُمَّ يَنْقَضِي
بِانْقِضَاءِ وَقْتِهِ
(وَإِذَا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ خَيَّرَهَا
فَمَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ فَالْأَمْرُ فِي يَدِهَا مَا
لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ) لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكُ
التَّطْلِيقِ مِنْهَا (لِأَنَّ الْمَالِكَ مَنْ يَتَصَرَّفُ
بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَهِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَالتَّمْلِيكُ
يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَقَدْ بَيَّنَّاهُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَرَّةً، وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثَةُ أُمُورٍ لِأَنَّهَا
أَوْقَاتٌ حَقِيقَةً.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا قَالَ أَمْرُك بِيَدِك يَوْمَ يَقْدَمُ
فُلَانٌ صَحَّ) وَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا يَوْمَ
يَقْدَمُ، وَهَذَا أَيْضًا مِمَّا يُفَارِقُ بِهِ سَائِرَ
التَّمْلِيكَاتِ فَإِنَّهَا لَا تَصِحُّ إضَافَتُهَا وَلَا
تَعْلِيقُهَا بِخِلَافِ هَذَا لِأَنَّهُ إنَّمَا هُوَ
تَمْلِيكُ فِعْلٍ فَلَا يَقْتَضِي لَوَازِمَ تَمْلِيكَاتِ
الْأَعْيَانِ كَمَا تَقَدَّمَ، وَقَدْ يَخْرُجُ عَلَى أَنَّهُ
فِي مَعْنَى التَّعْلِيقِ. فَإِنْ قِيلَ: يُخَالِفُهُ مَا فِي
شَرْحِ الزِّيَادَاتِ لِقَاضِي خَانْ: لَوْ قَالَ: أَمْرُك
بِيَدِك فَطَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوْ
ثَلَاثًا إذَا جَاءَ غَدٌ فَقَالَتْ فِي الْمَجْلِسِ: اخْتَرْت
نَفْسِي طَلُقَتْ ثَلَاثًا لِلْحَالِ، وَلَوْ قَامَتْ عَنْ
مَجْلِسِهَا قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا بَطَلَ لِأَنَّ
قَوْلَهُ فَطَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا تَفْسِيرٌ لِلْأَمْرِ
وَالْأَمْرُ بِالْيَدِ يَحْتَمِلُ الثَّلَاثَ، أَمَّا لَا
يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ وَالْإِضَافَةَ إلَى وَقْتِ
السُّنَّةِ لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ يَقْتَضِي
الْمَالِكِيَّةَ، وَالْأَمْرُ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ لَا
يُفِيدُ الْبَيْنُونَةَ فِي الْحَالِ فَلَا تَثْبُتُ
الْمَالِكِيَّةُ، وَلِهَذَا لَوْ قَالَ: أَمْرُك بِيَدِك
وَنَوَى السُّنَّةَ أَوْ التَّعْلِيقَ لَا يَصِحُّ، فَإِذَا
أَلْحَقَهُ بِمَا كَانَ تَفْسِيرًا يَثْبُتُ مَا يَحْتَمِلُهُ
وَهُوَ الثَّلَاثُ وَلَا يَثْبُتُ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ وَهُوَ
السُّنَّةُ وَالتَّعْلِيقُ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ مَعْنَى هَذَا الِاحْتِمَالِ احْتِمَالُ
لَفْظِ التَّنْجِيزِ لِلتَّعْلِيقِ لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ
أَفْرَادِهِ وَلَا مُتَعَلِّقًا بِهِ بَعْدَمَا ذَكَرَ أَنَّ
قَوْلَهُ: فَطَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا لِلسُّنَّةِ أَوْ إذَا
جَاءَ غَدٌ تَفْسِيرٌ لِذَلِكَ التَّفْوِيضِ فَكَانَ
التَّعْلِيقُ مُرَادًا بِلَا لَفْظٍ، ثُمَّ لَوْ لَمْ تَعْلَمْ
بِقُدُومِهِ حَتَّى انْقَضَى يَوْمُ قُدُومِهِ وَدَخَلَ
اللَّيْلُ فَلَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ الْأَمْرَ بِالْيَدِ
مِمَّا يَمْتَدُّ فَيُحْمَلُ الْيَوْمُ الْمَقْرُونُ بِهِ
عَلَى النَّهَارِ لَا عَلَى الْوَقْتِ مُطْلَقًا. وَقَدْ
حَقَّقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ: يَعْنِي فِي آخِرِ فَصْلِ إضَافَةِ
الطَّلَاقِ، وَإِنَّمَا لَمْ يُعْتَبَرْ الْقُدُومُ فَيُحْمَلُ
الْيَوْمُ عَلَى الْوَقْتِ مُطْلَقًا لِأَنَّهُ غَيْرُ
مُمْتَدٍّ لِمَا حَقَّقْنَاهُ هُنَاكَ مِنْ أَنَّ
الْمُعْتَبَرَ امْتِدَادُهُ وَعَدَمُهُ هُوَ الْمُضَافُ
لِأَنَّهُ الْمَقْصُودُ.
(قَوْلُهُ: وَإِذَا جَعَلَ أَمْرَهَا بِيَدِهَا أَوْ
خَيَّرَهَا فَمَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ فَالْأَمْرُ فِي
يَدِهَا مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ؛ لِأَنَّ هَذَا
تَمْلِيكُ التَّطْلِيقِ مِنْهَا لِأَنَّ الْمَالِكَ مَنْ
يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ وَهِيَ بِهَذِهِ الصِّفَةِ
وَالتَّمْلِيكُ يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ وَقَدْ
بَيِّنَاهُ) أَيْ فِي أَوَّلِ
(4/93)
ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْمَعُ يُعْتَبَرُ
مَجْلِسُهَا ذَلِكَ، وَإِنْ كَانَتْ لَا تَسْمَعُ فَمَجْلِسُ
عِلْمِهَا وَبُلُوغِ الْخَبَرِ إلَيْهَا لِأَنَّ هَذَا
تَمْلِيكٌ فِيهِ مَعْنَى التَّعْلِيقِ فَيَتَوَقَّفُ عَلَى مَا
وَرَاءَ الْمَجْلِسِ، وَلَا يُعْتَبَرُ مَجْلِسُهُ لِأَنَّ
التَّعْلِيقَ لَازِمٌ فِي حَقِّهِ، بِخِلَافِ الْبَيْعِ
لِأَنَّهُ تَمْلِيكٌ مَحْضٌ لَا يَشُوبُهُ التَّعْلِيقُ،
وَإِذَا اُعْتُبِرَ مَجْلِسُهَا فَالْمَجْلِسُ تَارَةً
يَتَبَدَّلُ بِالتَّحَوُّلِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَصْلِ الِاخْتِيَارِ وَاَلَّذِي ذَكَرَهُ هُنَاكَ هُوَ أَنَّ
التَّمْلِيكَ يَسْتَدْعِي جَوَابًا فِي الْمَجْلِسِ، وَلَمْ
يَسْتَدِلَّ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكٌ، وَاسْتَدَلَّ هُنَا
عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ الْمَالِكَ هُوَ الَّذِي
يَتَصَرَّفُ بِرَأْيِ نَفْسِهِ.
وَالْوَجْهُ الْمَشْهُورُ فِيهِ قَوْلُهُمْ هُوَ الَّذِي
يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ، وَإِلَّا فَالْوَكِيلُ يَتَصَرَّفُ
بِرَأْيِ نَفْسِهِ، وَكَأَنَّهُ تَرَكَهُ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ
التَّفْوِيضَ إلَى الْأَجْنَبِيِّ تَمْلِيكٌ وَهُوَ لَا
يَتَصَرَّفُ لِنَفْسِهِ، وَسَنُحَقِّقُ مَا ذُكِرَ فِي ذَلِكَ
لِيَنْدَفِعَ الْوَكِيلُ فِي الْمَشِيئَةِ إنْ شَاءَ اللَّهُ
تَعَالَى، وَقَدَّمْنَا مَا فِي قَوْلِهِ يَسْتَدْعِي جَوَابًا
فِي الْمَجْلِسِ، فَالصَّوَابُ إسْنَادُ الِاقْتِصَارِ عَلَى
الْمَجْلِسِ إلَى إجْمَاعِ الصَّحَابَةِ حَيْثُ قَالُوا لَهَا
فِي الْمَجْلِسِ (قَوْلُهُ: ثُمَّ إنْ كَانَتْ تَسْمَعُ) أَيْ
تَسْمَعُ لَفْظَهُ بِالتَّخْيِيرِ (اُعْتُبِرَ مَجْلِسُهَا
ذَلِكَ) أَيْ مَجْلِسُ سَمَاعِهَا (وَإِنْ كَانَتْ لَا
تَسْمَعُ فَمَجْلِسُ عِلْمِهَا) عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ
(لِأَنَّ هَذَا تَمْلِيكٌ يُفِيدُ مَعْنَى التَّعْلِيقِ)
أَمَّا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ فَلِمَا تَقَدَّمَ مِنْ أَنَّهَا
عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا، وَأَمَّا أَنَّ فِيهِ مَعْنَى
التَّعْلِيقِ فَلِأَنَّ الْإِيقَاعَ وَإِنْ كَانَ مِنْ غَيْرِ
الزَّوْجِ إلَّا أَنَّ الْوُقُوعَ مُضَافٌ إلَى مَعْنًى مِنْ
قِبَلِ الزَّوْجِ فَكَأَنَّهُ قَالَ: إنْ طَلَّقْت نَفْسَكِ
فَأَنْتِ طَالِقٌ فَيَثْبُتُ لِلتَّفْوِيضِ أَحْكَامٌ
تَتَرَتَّبُ عَلَى جِهَةِ التَّمْلِيكِ وَأَحْكَامٌ عَلَى
جِهَةِ التَّعْلِيقِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ كُلَّهَا مِمَّا
يُمْكِنُ تَرَتُّبُهَا عَلَى التَّمْلِيكِ، فَصِحَّةُ
التَّوْقِيتِ عَلَى أَنَّهُ تَمْلِيكُ مَنْفَعَةٍ،
وَقَدَّمْنَا أَنَّ إلْحَاقَهُ بِالْعَارِيَّةِ أَقْرَبُ.
ثُمَّ مِنْ صُوَرِ التَّوْقِيتِ مَا يُوجِبُ التَّوَقُّفَ
عَلَى مَا وَرَاءَ الْمَجْلِسِ كَأَنْ يَقُولَ: أَمْرُك
بِيَدِك شَهْرًا أَوْ جُمُعَةً فَيُعْتَبَرُ ابْتِدَاؤُهُ مِنْ
وَقْتِ التَّفْوِيضِ وَلَيْسَ هَذَا التَّوَقُّفُ سِوَى
امْتِدَادِ الْمِلْكِ الَّذِي تَحَقَّقَ فِي الْحَالِ، وَكَذَا
عَدَمُ صِحَّةِ الرَّدِّ بَعْدَ سُكُوتِهِ أَوَّلَ الْأَمْرِ
بِنَاءً عَلَيْهِ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَى ثُبُوتِ الْمِلْكِ
الثَّابِتِ بِالتَّمْلِيكِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا أَنَّهُ لَا
يَحْتَاجُ إلَى الْقَبُولِ، وَأَمَّا اقْتِصَارُهُ عَلَى
الْمَجْلِسِ فِي التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ فَتَقَدَّمَ قَوْلُ
الْمُصَنِّفِ أَنَّهُ تَمْلِيكٌ وَهُوَ يَسْتَدْعِي جَوَابًا
فِي الْمَجْلِسِ، وَتَقَدَّمَ أَنَّ الْجَوَابَ الَّذِي
يَسْتَدْعِيه التَّمْلِيكُ فِي الْمَجْلِسِ الْقَبُولُ
وَلَيْسَ الْكَلَامُ فِيهِ، بَلْ امْتِدَادُهُ فِي تَمَامِ
الْمَجْلِسِ أَثَرُ الْمِلْكِ وَارْتِفَاعُهُ بَعْدَهُ،
وَنَفْسُ اقْتِصَارِهِ عَلَيْهِ
(4/94)
وَمَرَّةً بِالْأَخْذِ فِي عَمَلٍ آخَرَ
عَلَى مَا بَيَّنَّا فِي الْخِيَارِ، وَيَخْرُجُ الْأَمْرُ
مِنْ يَدِهَا بِمُجَرَّدِ الْقِيَامِ لِأَنَّهُ دَلِيلٌ
الْإِعْرَاضِ، إذْ الْقِيَامُ يُفَرِّقُ الرَّأْيَ، بِخِلَافِ
مَا إذَا مَكَثَتْ يَوْمًا لَمْ تَقُمْ وَلَمْ تَأْخُذْ فِي
عَمَلٍ آخَرَ لِأَنَّ الْمَجْلِسَ قَدْ يَطُولُ وَقَدْ
يَقْصُرُ فَيَبْقَى إلَى أَنْ يُوجَدَ مَا يَقْطَعُهُ أَوْ مَا
يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ. وَقَوْلُهُ مَكَثَتْ يَوْمًا
لَيْسَ لِلتَّقْدِيرِ بِهِ.
وَقَوْلُهُ مَا لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ
عَمَلٌ يُعْرَفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَ فِيهِ لَا
مُطْلَقَ الْعَمَلِ (وَلَوْ كَانَتْ قَائِمَةً فَجَلَسَتْ
فَهِيَ عَلَى خِيَارِهَا) لِأَنَّهُ دَلِيلُ الْإِقْبَالِ
فَإِنَّ الْقُعُودَ أَجْمَعُ لِلرَّأْيِ (وَكَذَا إذَا كَانَتْ
قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ أَوْ مُتَّكِئَةً فَقَعَدَتْ) لِأَنَّ
هَذَا انْتِقَالٌ مِنْ جِلْسَةٍ إلَى جِلْسَةٍ فَلَا يَكُونُ
إعْرَاضًا، كَمَا إذَا كَانَتْ مُحْتَبِيَةً فَتَرَبَّعَتْ.
قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: هَذَا رِوَايَةُ الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ، وَذَكَرَ فِي غَيْرِهِ أَنَّهَا إذَا كَانَتْ
قَاعِدَةً فَاتَّكَأَتْ لَا خِيَارَ لَهَا لِأَنَّ
الِاتِّكَاءَ إظْهَارُ التَّهَاوُنِ بِالْأَمْرِ فَكَانَ
إعْرَاضًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ وَقَعَ فِي كَلَامِ بَعْضِهِمْ أَنَّ
تَطْلِيقَهَا نَفْسَهَا قَبُولٌ، قُلْنَا: لَا يَتِمُّ إذْ
هُوَ التَّصَرُّفُ الْمُتَفَرِّعُ عَلَى ثُبُوتِ مِلْكِهِ
لَهُ.
أَمَّا عَدَمُ صِحَّةِ الرُّجُوعِ مِنْ الزَّوْجِ فَيُنَاسِبُ
كُلًّا مِنْ التَّعْلِيقِ وَالتَّمْلِيكِ، لِأَنَّهُ لَوْ
ثَبَتَ يَلْزَمُ بِلَا قَضَاءٍ وَلَا رِضًا، فَقَدْ ظَهَرَ
أَنَّ جَمِيعَ الْآثَارِ يَصِحُّ تَرَتُّبُهَا عَلَى جِهَةِ
الْمِلْكِ هُنَا، وَلَا حَاجَةَ إلَى اعْتِبَارِ جِهَةِ
التَّعْلِيقِ، وَقَوْلُهُمْ كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا طَلَّقْت
نَفْسَك فَأَنْتِ طَالِقٌ يُمْكِنُ إجْرَاؤُهُ فِي
الْوَكَالَةِ كَأَنَّهُ قَالَ: إذَا بِعْت مَتَاعِي فَقَدْ
أَجَزْت بَيْعَك، وَالْوِلَايَةِ كَأَنَّ الْإِمَامَ قَالَ
لَهُ: إذَا قَضَيْت فَقَدْ أَنَفَذْت قَضَاءَك كَمَا
قَدَّمْنَا، وَالِاعْتِبَارَاتُ الَّتِي لَا أَثَرَ لَهَا
كَثِيرَةٌ فِي دَائِرَةِ الْإِمْكَانِ (قَوْلُهُ: وَقَوْلُهُ:)
أَيْ قَوْلُ مُحَمَّدٍ - رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى - (مَا
لَمْ تَأْخُذْ فِي عَمَلٍ آخَرَ يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ عَمَلٌ
يُعْرَفُ أَنَّهُ قَطْعٌ لِمَا كَانَتْ فِيهِ) فَلَوْ لَبِسَتْ
مِنْ غَيْرِ قِيَامٍ أَوْ أَكَلَتْ قَلِيلًا أَوْ شَرِبَتْ
أَوْ قَرَأَتْ قَلِيلًا أَوْ سَبَّحَتْ أَوْ قَالَتْ اُدْعُ
إلَيَّ أَبِي أَسْتَشِيرُهُ أَوْ الشُّهُودَ وَمَا أَشْبَهَهُ
مِمَّا هُوَ عَمَلُ الْفُرْقَةِ مِنْ غَيْرِ أَنْ تَقُومَ فِي
التَّفْوِيضِ الْمُطْلَقِ لَمْ يَبْطُلْ خِيَارُهَا، وَمَا
ذُكِرَ مِنْ هَذَا مِثْلُهُ فِي قَوْلِهِ: اخْتَارِي
وَطَلِّقِي نَفْسَك وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت، وَكَذَا إذْ
قَالَ لِأَجْنَبِيٍّ: أَمْرُ امْرَأَتِي بِيَدِك أَوْ
طَلِّقْهَا إذَا شِئْت أَوْ إنْ شِئْت أَوْ أَعْتِقْ عَبْدِي
إذَا شِئْت، بِخِلَافِ قَوْلِهِ: بِعْهُ إنْ شِئْت لَا
يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ لِأَنَّ الْبَيْعَ لَا
يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ.
وَلَوْ اغْتَسَلَتْ أَوْ امْتَشَطَتْ أَوْ اخْتَضَبَتْ أَوْ
جَامَعَهَا يَبْطُلُ. وَذَكَرَ الْمَرْغِينَانِيُّ إنْ لَمْ
تَجِدْ مَنْ يَدْعُو الشُّهُودَ فَقَامَتْ لِتَدْعُوَ وَلَمْ
تَنْتَقِلْ، قِيلَ لَا يَبْطُلَ خِيَارُهَا لِعَدَمِ مَا
يَدُلُّ عَلَى الْإِعْرَاضِ، وَقِيلَ يَبْطُلُ لِلتَّبَدُّلِ
وَلَا تُعْذَرُ فِيهِ كَمَا لَا تُعْذَرُ فِيمَا إذَا
أُقِيمَتْ كُرْهًا، وَقِيلَ إذَا لَمْ تَنْتَقِلْ لَمْ
يَبْطُلْ، وَإِنْ انْتَقَلَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ، وَلَوْ
نَامَتْ وَهِيَ قَاعِدَةٌ أَوْ كَانَتْ تُصَلِّي
الْمَكْتُوبَةَ أَوْ الْوِتْرَ فَأَتَمَّتْهَا أَوْ النَّفَلَ
فَأَتَمَّتْ رَكْعَتَيْنِ لَا يَبْطُلُ خِيَارُهَا، وَلَوْ
قَامَتْ إلَى الشَّفْعِ الثَّانِي بَطَلَ إلَّا فِي سُنَّةِ
الظُّهْرِ عَنْ مُحَمَّدٍ وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلَوْ قَالَ:
أَمْرُك بِيَدِك فَقَالَتْ: لِمَ لَا تُطَلِّقُنِي بِلِسَانِك
فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا طَلُقَتْ لِأَنَّ قَوْلَهَا لِمَ لَا
تُطَلِّقُنِي لَيْسَ رَدًّا فَتَمْلِكُ بَعْدَهُ الطَّلَاقَ.
قِيلَ فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ قَوْلَهَا لِمَ إلَخْ كَلَامٌ
زَائِدٌ فَيَتَبَدَّلُ بِهِ الْمَجْلِسُ
(4/95)
وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَصَحُّ.
وَلَوْ كَانَتْ قَاعِدَةً فَاضْطَجَعَتْ فَفِيهِ رِوَايَتَانِ
عَنْ أَبِي يُوسُفَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَلَوْ قَالَتْ
اُدْعُ أَبِي أَسْتَشِرْهُ أَوْ شُهُودًا أُشْهِدْهُمْ فَهِيَ
عَلَى خِيَارِهَا) لِأَنَّ الِاسْتِشَارَةَ لِتَحَرِّي
الصَّوَابِ، وَالْإِشْهَادَ لِلتَّحَرُّزِ عَنْ الْإِنْكَارِ
فَلَا يَكُونُ دَلِيلَ الْإِعْرَاضِ (وَإِنْ كَانَتْ تَسِيرُ
عَلَى دَابَّةٍ أَوْ فِي مَحْمَلٍ فَوَقَفَتْ فَهِيَ عَلَى
خِيَارِهَا، وَإِنْ سَارَتْ بَطَلَ خِيَارُهَا) لِأَنَّ سَيْرَ
الدَّابَّةِ وَوُقُوفَهَا مُضَافٌ إلَيْهَا (وَالسَّفِينَةُ
بِمَنْزِلَةِ الْبَيْتِ) لِأَنَّ سَيْرَهَا غَيْرُ مُضَافٍ
إلَى رَاكِبِهَا، أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَا يَقْدِرُ عَلَى
إيقَافِهَا وَرَاكِبُ الدَّابَّةِ يَقْدِرُ. .
فَصْلٌ فِي الْمَشِيئَةِ (وَمَنْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ:
طَلِّقِي نَفْسَك وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَوْ نَوَى وَاحِدَةً
فَقَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي فَهِيَ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَفِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ الْكَلَامَ الْمُبْدِلِ لِلْمَجْلِسِ
مَا يَكُونُ قَطْعًا لِلْكَلَامِ الْأَوْلِ وَإِفَاضَتِهِ فِي
غَيْرِهِ، وَلَيْسَ هَذَا كَذَلِكَ بَلْ الْكُلُّ مُتَعَلِّقٌ
بِمَعْنَى وَاحِدٍ وَهُوَ الطَّلَاقُ (قَوْلُهُ وَالْأَوَّلُ
أَصَحُّ) أَيْ مَا ذَكَرَ فِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ أَصَحُّ
مِمَّا ذَكَرَ فِي غَيْرِهِ وَهُوَ الْأَصْلُ، لِأَنَّ مَنْ
حَزَبَهُ أَمْرٌ قَدْ يَسْتَنِدُ لِأَجْلِ التَّفَكُّرِ
لِأَنَّ الِاسْتِنَادِ وَالِاتِّكَاءَ سَبَبٌ لِلرَّاحَةِ
كَالْقُعُودِ فِي حَقِّ الْقَائِمِ وَلِأَنَّهُ نَوْعٌ
جِلْسَةٍ فَلَا يَتَغَيَّرُ بِهِ الثَّابِتُ لِلْجَالِسِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ سَارَتْ بَطُلَ) قِيلَ لَوْ اخْتَارَتْ
نَفْسَهَا مَعَ سُكُوتِهِ، وَالدَّابَّةُ تَسِيرُ طَلُقَتْ
لِأَنَّهَا لَا يُمْكِنُهَا الْجَوَابُ بِأَسْرَعَ مِنْ ذَلِكَ
فَلَا يَتَبَدَّلُ حُكْمًا، وَهَذَا لِأَنَّ اتِّحَادَ
الْمَجْلِسِ إنَّمَا يُعْتَبَرُ لِيَصِيرَ الْجَوَابُ
مُتَّصِلًا بِالْخِطَابِ وَقَدْ وُجِدَ إذَا كَانَ مِنْ غَيْرِ
فَصْلٍ، وَلَا فَرْقَ بَيْنَ كَوْنِ الزَّوْجِ مَعَهَا عَلَى
الدَّابَّةَ أَوْ الْمَحْمَلِ أَوْ لَا، وَلَوْ كَانَتْ
رَاكِبَةً فَنَزَلَتْ أَوْ تَحَوَّلَتْ إلَى دَابَّةٍ أُخْرَى
أَوْ كَانَتْ نَازِلَةً فَرَكَبَتْ بَطُلَ خِيَارُهَا، وَفِي
الْمَحْمَلِ يَقُودُهُ الْجَمَّالُ وَهُمَا فِيهِ لَا يَبْطُلُ
ذِكْرُهُ فِي الْغَايَةِ لِأَنَّهُ وَالْحَالَةُ هَذِهِ
كَالسَّفِينَةِ (قَوْلُهُ وَالسَّفِينَةُ كَالْبَيْتِ لِأَنَّ
سَيْرَهَا غَيْرَ مُضَافٍ إلَى رَاكِبِهَا) بَلْ إلَى غَيْرِهِ
مِنْ الرِّيحِ وَدَفْعِ الْمَاءِ فِيمَا لَهُ جِرْيَةٍ
كَالنِّيلِ فَلَا يَبْطُلُ الْخِيَارُ بِسَيْرِهَا بَلْ
يَتَبَدَّلُ الْمَجْلِسُ. وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّ
السَّفِينَةَ إذَا كَانَتْ وَاقِفَةً فَسَارَتْ بَطُلَ
خِيَارُهَا.
[فَصْلٌ فِي الْمَشِيئَةِ]
(فَصْلٌ فِي الْمَشِيئَةِ) (قَوْلُهُ وَمَنْ قَالَ
لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك وَلَا نِيَّةَ لَهُ أَوْ
نَوَى وَاحِدَةً فَقَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي فَهِيَ وَاحِدَةٌ
رَجْعِيَّةٌ
(4/96)
وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا
وَقَدْ أَرَادَ الزَّوْجُ ذَلِكَ وَقَعْنَ عَلَيْهَا) وَهَذَا
لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي مَعْنَاهُ افْعَلِي فِعْلَ
التَّطْلِيقِ، وَهُوَ اسْمُ جِنْسٍ فَيَقَعُ عَلَى الْأَدْنَى
مَعَ احْتِمَالِ الْكُلِّ كَسَائِرِ أَسْمَاءِ الْأَجْنَاسِ،
فَلِهَذَا تَعْمَلُ فِيهِ نِيَّةُ الثَّلَاثِ، وَيَنْصَرِفُ
إلَى وَاحِدَةٍ عِنْدَ عَدَمِهَا وَتَكُونُ الْوَاحِدَةُ
رَجْعِيَّةً لِأَنَّ الْمُفَوَّضَ إلَيْهَا صَرِيحُ
الطَّلَاقِ، وَلَوْ نَوَى الثِّنْتَيْنِ لَا تَصِحُّ لِأَنَّهُ
نِيَّةُ الْعَدَدِ إلَّا إذَا كَانَتْ الْمَنْكُوحَةُ أَمَةً
لِأَنَّهُ جِنْسٌ فِي حَقِّهَا.
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك قَالَتْ: أَبَنْت
نَفْسِي طَلَقْت) وَلَوْ قَالَتْ: قَدْ اخْتَرْت نَفْسِي لَمْ
تَطْلُقْ لِأَنَّ الْإِبَانَةَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ،
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ: أَبَنْتُك
يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَتْ: أَبَنْت نَفْسِي
فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ أَجَزْت ذَلِكَ بَانَتْ فَكَانَتْ
مُوَافِقَةً لِلتَّفْوِيضِ فِي الْأَصْلِ إلَّا أَنَّهَا
زَادَتْ فِيهِ وَصْفًا وَهُوَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَإِنْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا وَقَدْ أَرَادَ الزَّوْجُ
ذَلِكَ وَقَعْنَ عَلَيْهَا) سَوَاءٌ أَوْقَعَتْهَا بِلَفْظٍ
وَاحِدٍ أَوْ مُتَفَرِّقًا وَإِنَّمَا صَحَّ إرَادَةُ
الثَّلَاثِ (لِأَنَّ قَوْلَهُ طَلِّقِي نَفْسَك مَعْنَاهُ
افْعَلِي فِعْلَ التَّطْلِيقِ) فَهُوَ مَذْكُورٌ لُغَةً
لِأَنَّهُ جُزْءُ مَعْنَى اللَّفْظِ فَصَحَّ نِيَّةُ
الْعُمُومِ غَيْرَ أَنَّ الْعُمُومَ فِي حَقِّ الْأَمَةِ
ثِنْتَانِ وَفِي حَقِّ الْحُرَّةِ ثَلَاثٌ وَقَدْ تَقَدَّمَ
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَقَالَتْ:
أَبَنْت نَفْسِي طَلُقَتْ) أَيْ رَجْعِيًّا، وَلَوْ قَالَتْ:
اخْتَرْت نَفْسِي لَمْ تَطْلُقْ. وَحَاصِلُ الْفَرْقِ بَيْنَ
صِحَّةِ الْجَوَابِ بِأَبَنْتُ وَعَدَمِهِ بِاخْتَرْت أَنَّ
الْمُفَوَّضَ الطَّلَاقُ، وَالْإِبَانَةُ مِنْ أَلْفَاظِهِ
الَّتِي تُسْتَعْمَلُ فِي إيقَاعِهِ كِنَايَةً فَقَدْ
أَجَابَتْ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا، بِخِلَافِ الِاخْتِيَارِ
لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ لَا صَرِيحًا
وَلَا كِنَايَةً، وَلِهَذَا لَوْ قَالَتْ: أَبَنْت نَفْسِي
تَوَقَّفَ عَلَى إجَازَتِهِ، وَلَوْ قَالَتْ اخْتَرْت نَفْسِي
فَهُوَ بَاطِلٌ وَلَا تَلْحَقُهُ إجَازَةٌ، وَإِنَّمَا صَارَ
كِنَايَةً بِإِجْمَاعِ الصَّحَابَةِ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
- فِيمَا إذَا جُعِلَ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ، غَيْرَ أَنَّهَا
زَادَتْ وَصْفَ تَعْجِيلِ الْبَيْنُونَةِ فِيهِ فَيَلْغُو
الْوَصْفُ وَيَثْبُتُ الْأَصْلُ. لَا يُقَالُ: قَدْ صَحَّ
جَوَابًا لِلْأَمْرِ بِالْيَدِ. لِأَنَّا نَقُولُ: الْأَمْرُ
بِالْيَدِ هُوَ التَّخْيِيرُ مَعْنًى فَيَثْبُتُ جَوَابًا لَهُ
بِدَلَالَةِ نَصِّ إجْمَاعِهِمْ عَلَى التَّخْيِيرِ. وَهَذَا
لِأَنَّ قَوْلَهُ أَمْرُك بِيَدِك لَيْسَ مَعْنَاهُ إلَّا
أَنَّك مُخَيَّرَةٌ فِي أَمْرِك الَّذِي هُوَ الطَّلَاقُ
بَيْنَ إيقَاعِهِ وَعَدَمِهِ، فَحَيْثُ جُعِلَ جَوَابًا
لِلتَّخْيِيرِ بِلَفْظِ التَّخْيِيرِ كَانَ جَوَابًا
لِلتَّخْيِيرِ بِمُرَادِفِهِ لِلْعِلْمِ بِأَنَّ خُصُوصَ
اللَّفْظِ مُلْغًى، بِخِلَافِ طَلِّقِي لِأَنَّهُ وَضْعًا
طَلَبُ الطَّلَاقِ لَا التَّخْيِيرُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ
عَدَمِهِ، ثُمَّ إذَا أَجَابَتْ بِاخْتَرْت نَفْسِي خَرَجَ
الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا بِاشْتِغَالِهَا بِمَا لَا يَعْنِيهَا
فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ لَا
يَقَعُ بِجَوَابِهَا بِأَبَنْتُ نَفْسِي لِأَنَّهَا أَتَتْ
بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا، لِأَنَّ الْإِبَانَةَ
تُغَايِرُ الطَّلَاقَ
(4/97)
تَعْجِيلُ الْإِبَانَةِ فَيَلْغُو
الْوَصْفُ الزَّائِدُ وَيَثْبُتُ الْأَصْلُ، كَمَا إذَا
قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي تَطْلِيقَةً بَائِنَةً، وَيَنْبَغِي
أَنْ تَقَعَ تَطْلِيقَةٌ رَجْعِيَّةٌ. بِخِلَافِ الِاخْتِيَارِ
لِأَنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَلْفَاظِ الطَّلَاقِ؛ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لَوْ قَالَ لِامْرَأَتِهِ اخْتَرْتُك أَوْ اخْتَارِي
يَنْوِي الطَّلَاقَ لَمْ يَقَعْ، لَوْ قَالَتْ ابْتِدَاءً:
اخْتَرْت نَفْسِي فَقَالَ الزَّوْجُ: قَدْ أَجَزْت لَا يَقَعُ
شَيْءٌ إلَّا أَنَّهُ عُرِفَ طَلَاقًا بِالْإِجْمَاعِ إذَا
حَصَلَ جَوَابًا لِلتَّخْيِيرِ، وَقَوْلُهُ طَلِّقِي نَفْسَك
لَيْسَ بِتَنْجِيزٍ فَيَلْغُو. وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ
لَا يَقَعُ شَيْءٌ بِقَوْلِهَا أَبَنْت نَفْسِي لِأَنَّهَا
أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا إذْ الْإِبَانَةُ
تَغَايُرُ الطَّلَاقَ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك فَلَيْسَ لَهُ أَنْ
يَرْجِعَ عَنْهُ) لِأَنَّ فِيهِ مَعْنَى الْيَمِينِ لِأَنَّهُ
تَعْلِيقُ الطَّلَاقِ بِتَطْلِيقِهَا وَالْيَمِينُ تَصَرُّفٌ
لَازِمٌ، وَلَوْ قَامَتْ عَنْ مَجْلِسِهَا بَطَلَ لِأَنَّهُ
تَمْلِيكٌ، بِخِلَافِ مَا إذَا قَالَ لَهَا: طَلِّقِي ضَرَّتَك
لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَإِنَابَةٌ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى
الْمَجْلِسِ وَيَقْبَلُ الرُّجُوعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِحُصُولِ كُلٍّ مِنْهُمَا دُونَ الْآخَرِ، وَيَخْرُجُ
الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا كَمَا يَخْرُجُ بِقَوْلِهَا اخْتَرْت،
وَصَارَ كَمَا لَوْ قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك نِصْفَ
تَطْلِيقَةٍ فَطَلَّقَتْ تَطْلِيقَةً أَوْ قَالَ: ثَلَاثًا
فَطَلَّقَتْ أَلْفًا لَا يَقَعُ شَيْءٌ. الْجَوَابُ أَنَّهَا
خَالَفَتْهُ فِيهِمَا فِي الْأَصْلِ، فِي الْأُولَى ظَاهِرٌ
وَكَذَا فِي الثَّانِيَةِ، لِأَنَّ الْإِيقَاعَ بِالْعَدَدِ
عِنْدَ ذِكْرِهِ لَا بِالْوَصْفِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ
فَيَكُونُ خِلَافًا مُعْتَبَرًا، بِخِلَافِ مَا نَحْنُ فِيهِ
لِأَنَّهَا خَالَفَتْ فِي الْوَصْفِ بَعْدَ مُوَافَقَتِهَا فِي
الْأَصْلِ فَلَا يُعَدُّ خِلَافًا إذْ الْوَصْفُ تَابِعٌ.
وَاعْلَمْ أَنَّ الْمَسْأَلَتَيْنِ ذَكَرَهُمَا
التُّمُرْتَاشِيُّ، وَالْخِلَافُ فِيهِمَا فِي الْأَصْلِ
إنَّمَا هُوَ بِاعْتِبَارِ صُورَةِ اللَّفْظِ لَيْسَ غَيْرَهُ،
إذْ لَوْ أَوْقَعَتْ عَلَى الْمُرَافَقَةِ: أَعْنِي الثَّلَاثَ
وَالنِّصْفَ كَانَ الْوَاقِعُ هُوَ الْوَاقِعَ
بِالتَّطْلِيقَةِ وَالْأَلْفِ، وَالْخِلَافُ فِي مَسْأَلَةِ
الْكِتَابِ بِاعْتِبَارِ الْمَعْنَى، فَإِنَّ الْوَاقِعَ
بِمُجَرَّدِ الصَّرِيحِ لَيْسَ هُوَ الْوَاقِعَ بِالْبَائِنِ،
وَقَدْ اُعْتُبِرَ الْخِلَافُ لِمُجَرَّدِ اللَّفْظِ بِلَا
مُخَالَفَةٍ فِي الْمَعْنَى خِلَافًا نَظَرًا إلَى أَنَّهُ
الْأَصْلُ فِي الْإِيقَاعِ، وَالْخِلَافُ فِي الْمَعْنَى
غَيْرُ خِلَافٍ وَفِيهِ مَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك لَيْسَ لَهُ
أَنْ يَرْجِعَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ مَعْنَى التَّعْلِيقِ،
وَلَوْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا بَطَلَ خِيَارُهَا لِأَنَّهُ
تَمْلِيكُ الطَّلَاقِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ طَلِّقِي ضَرَّتَك
لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ فَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ
وَيَقْبَلُ الرُّجُوعَ) وَكَذَا قَوْلُهُ لِأَجْنَبِيٍّ
طَلِّقْهَا أَوْ قَوْلُ
(4/98)
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك
مَتَى شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ
وَبَعْدَهُ) لِأَنَّ كَلِمَةَ مَتَى عَامَّةٌ فِي الْأَوْقَاتِ
كُلِّهَا فَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت.
(وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: طَلِّقْ امْرَأَتِي فَلَهُ أَنْ
يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ) وَلَهُ أَنْ
يَرْجِعَ عَنْهُ لِأَنَّهُ تَوْكِيلٌ وَأَنَّهُ اسْتِعَانَةٌ،
فَلَا يَلْزَمُ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ
قَوْلِهِ لِامْرَأَتِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك لِأَنَّهَا
عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا فَكَانَ تَمْلِيكًا لَا تَوْكِيلًا
(وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: طَلِّقْهَا إنْ شِئْت فَلَهُ أَنْ
يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ خَاصَّةً) وَلَيْسَ لِلزَّوْجِ
أَنْ يَرْجِعَ. وَقَالَ زُفَرُ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: هَذَا
وَالْأَوَّلُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَجْنَبِيٍّ لَهَا طَلِّقِي فُلَانَةَ لِأَنَّهَا عَامِلَةٌ
فِيهِ لِغَيْرِهَا، وَكَذَا الْمَدْيُونُ فِي إبْرَاءِ
ذِمَّتِهِ بِقَوْلِ الدَّائِنِ لَهُ أَبْرِئْ ذِمَّتَك عَامِلٌ
لِغَيْرِهِ بِالذَّاتِ وَلِنَفْسِهِ ضِمْنًا عَلَى مَا
قَدَّمْنَا، وَالتَّوْكِيلُ اسْتِعَانَةٌ، فَلَوْ لَزِمَ
فَلَمْ يَمْلِكْ الرُّجُوعَ عَادَ عَلَى مَوْضُوعِهِ
بِالنَّقْضِ، وَقَدَّمْنَا عَدَمَ ظُهُورِ الْفَرْقِ بَيْنَ
طَلِّقِي وَأَبْرِئْ ذِمَّتَك إذْ كُلُّ مَا يُمْكِنُ
اعْتِبَارُهُ فِي أَحَدِهِمَا يُمْكِنُ فِي الْآخَرِ، وَإِنَّ
عَدَمَ الرُّجُوعِ أَيْضًا يَتَفَرَّعُ عَلَى مَعْنَى
الْمِلْكِ الثَّابِتِ بِالتَّمْلِيكِ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ
يَثْبُتُ بِلَا تَوَقُّفٍ عَلَى الْقَبُولِ شَرْعًا عَلَى مَا
صَرَّحَ بِهِ فِي الذَّخِيرَةِ، وَأَنَّهُ لَا حَاجَةَ إلَى
تَرَتُّبِهِ عَلَى مَعْنَى التَّعْلِيقِ الْمُسْتَخْرَجِ
لِأَنَّهُ يُمْكِنُ مِثْلُهُ فِي الْوَكَالَاتِ
وَالْوِلَايَاتِ، فَلَوْ صَحَّ لَزِمَ أَنْ لَا يَصِحَّ
الرُّجُوعُ عَنْ تَوْكِيلٍ وَوِلَايَةٍ. وَأَمَّا
الِاقْتِصَارُ عَلَى الْمَجْلِسِ فَبِالْإِجْمَاعِ عَلَى
خِلَافِ الْقِيَاسِ.
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك مَتَى شِئْت
فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ)
وَكَذَا إذَا شِئْت وَإِذَا مَا شِئْت لِمَا ذَكَرْنَا مِنْ
الْعُمُومِ. وَيَرِدُ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي " إذْ
" أَنَّهَا عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ " إنْ " فَلَا تَقْتَضِي
بَقَاءَ الْأَمْرِ فِي يَدِهَا، وَفِيهِ جَوَابُ الْمُصَنِّفِ
بِأَنَّهَا يُمْكِنُ أَنْ تَعْمَلَ شَرْطًا وَأَنْ تَعْمَلَ
ظَرْفًا وَالْأَمْرُ صَارَ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ
بِالشَّكِّ، وَصَارَ كَمَا إذَا قَالَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت،
وَلِأَنَّهَا إنَّمَا تَمْلِكُ مَا مَلَكَتْ، وَإِنَّمَا
مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ وَقْتَ الْمَشِيئَةِ فَلَا تَمْلِكُهُ
دُونَهَا، وَبِهَذَا يَتَّضِحُ أَنَّ هَذَا إضَافَةٌ
لِلتَّمْلِيكِ لَا تَنْجِيزٌ.
وَمِنْ فُرُوعِ ذَلِكَ أَنَّهَا إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا
بِلَا قَصْدٍ غَلَطًا لَا يَقَعُ إذَا ذَكَرَ الْمَشِيئَةَ
وَيَقَعُ إذَا لَمْ يَذْكُرْهَا، وَقَدْ قَدَّمْنَا فِي
أَوَّلِ بَابِ إيقَاعِ الطَّلَاقِ مَا يُوجِبُ حَمْلَ مَا
أُطْلِقَ مِنْ كَلَامِهِمْ مِنْ الْوُقُوعِ بِلَفْظِ
الطَّلَاقِ غَلَطًا عَلَى الْوُقُوعِ فِي الْقَضَاءِ لَا
فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ تَعَالَى.
(قَوْلُهُ وَإِذَا قَالَ لِرَجُلٍ: طَلِّقْ امْرَأَتِي فَلَهُ
أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ وَبَعْدَهُ وَلَهُ) أَيْ
لِلْقَائِلِ (أَنْ يَرْجِعَ لِأَنَّ هَذَا تَوْكِيلٌ
وَالتَّوْكِيلُ اسْتِعَانَةٌ فَلَا يَلْزَمُ) وَلَهُ أَنْ
يَرْجِعَ وَلَا يَقْتَصِرَ، وَلِلْوَكِيلِ أَنْ يَفْعَلَهُ
بَعْدَ الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ لَهَا: طَلِّقِي
نَفْسَك لِأَنَّهَا عَامِلَةٌ لِنَفْسِهَا فَكَانَ تَمْلِيكًا
لَا تَوْكِيلًا (وَلَوْ قَالَ لِرَجُلٍ: طَلِّقْهَا إنْ شِئْت
فَلَهُ أَنْ يُطَلِّقَهَا فِي الْمَجْلِسِ خَاصَّةً وَلَيْسَ
لِلزَّوْجِ أَنْ يَرْجِعَ. وَقَالَ زُفَرُ: هَذَا
وَالْأَوَّلُ) وَهُوَ قَوْلُهُ لِلرَّجُلِ طَلِّقْ امْرَأَتِي
بِلَا
(4/99)
سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ
بِالْمَشِيئَةِ كَعَدَمِهِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ عَنْ
مَشِيئَتِهِ فَصَارَ كَالْوَكِيلِ بِالْبَيْعِ إذَا قِيلَ
لَهُ: بِعْهُ إنْ شِئْت. وَلَنَا أَنَّهُ تَمْلِيكٌ لِأَنَّهُ
عَلَّقَهُ بِالْمَشِيئَةِ وَالْمَالِكُ هُوَ الَّذِي
يَتَصَرَّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ذِكْرِ مَشِيئَةٍ (سَوَاءٌ لِأَنَّ التَّصْرِيحَ
بِالْمَشِيئَةِ كَعَدَمِهِ لِأَنَّهُ) وَكِيلًا كَانَ أَوْ
مَالِكًا (يَتَصَرَّفُ عَنْ مَشِيئَتِهِ) فَصَارَ كَمَا إذَا
قَالَ لَهُ: بِعْ عَبْدِي هَذَا إنْ شِئْت لَا يَقْتَصِرُ
وَلَهُ الرُّجُوعُ.
أُجِيبَ بِأَنْ لَيْسَ الْكَلَامُ فِي هَذِهِ الْمَشِيئَةِ
الَّتِي بِمَعْنَى عَدَمِ الْجَبْرِ بَلْ فِي أَنَّهُ إذَا
أَثْبَتَ لَهُ الْمَشِيئَةَ لَفْظًا صَارَ مُوجِبُ اللَّفْظِ
التَّمْلِيكَ لَا التَّوْكِيلَ، لِأَنَّ تَصَرُّفَ الْوَكِيلِ
لِغَيْرِهِ إنَّمَا هُوَ عَنْ مَشِيئَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ
وَإِنْ كَانَ امْتِثَالُهُ بِمَشِيئَةِ نَفْسِهِ، بِخِلَافِ
الْمَالِكِ فَإِنَّهُ الْمُتَصَرِّفُ بِمَشِيئَةِ نَفْسِهِ
ابْتِدَاءً غَيْرَ مُعْتَبِرٍ ذَلِكَ امْتِثَالًا، فَإِذَا
صَرَّحَ لَهُ الْمَالِكُ بِتَعْلِيقِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهِ
كَانَ ذَلِكَ تَمْلِيكًا فَيَسْتَلْزِمُ حُكْمَ التَّمْلِيكِ،
بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ
فَيَلْغُو وَصْفُ التَّمْلِيكِ وَيَبْقَى الْإِذْنُ
وَالتَّصَرُّفُ بِمُقْتَضَى مُجَرَّدِ الْإِذْنِ لَا
يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ.
قِيلَ: فِيهِ إشْكَالٌ لِأَنَّ الْبَيْعَ فِيهِ لَيْسَ
بِمُعَلَّقٍ بِالْمَشِيئَةِ بَلْ الْمُعَلَّقُ فِيهِ
الْوَكَالَةُ بِالْبَيْعِ وَهِيَ تَقْبَلُ التَّعْلِيقَ،
وَكَأَنَّهُ اعْتَبَرَ التَّوْكِيلَ بِالْبَيْعِ بِنَفْسِ
الْبَيْعِ وَهَذَا غَلَطٌ يَظْهَرُ بِأَدْنَى تَأَمُّلٍ.
وَذَلِكَ لِأَنَّ التَّوْكِيلَ هُوَ قَوْلُهُ بِعْ فَكَيْفَ
يُتَصَوَّرُ كَوْنُ نَفْسِ قَوْلِهِ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَةِ
غَيْرِهِ بَلْ وَقَدْ تَحَقَّقَ وَفَرَغَ مِنْهُ قَبْلَ
مَشِيئَةِ ذَلِكَ الْغَيْرِ وَلَمْ يَبْقَ لِذَلِكَ الْغَيْرِ
سِوَى فِعْلِ مُتَعَلَّقِ التَّوْكِيلِ أَوْ عَدَمِ الْقَبُولِ
وَالرَّدِّ. وَإِلَى هُنَا تَمَّ مِنْ الْمُصَنِّفِ إنَاطَةُ
وَصْفِ التَّمْلِيكِ مَرَّةً بِأَنَّهُ يَعْمَلُ بِرَأْيِ
نَفْسِهِ بِخِلَافِ الْوَكِيلِ، وَمَرَّةً بِأَنَّهُ عَامِلٌ
لِنَفْسِهِ بِخِلَافِهِ، وَمَرَّةً بِأَنَّهُ يَعْمَلُ
بِمَشِيئَةِ نَفْسِهِ وَلَيْسَ الرَّأْيُ وَالْمَشِيئَةُ
وَاحِدًا، فَإِنَّ الْعَمَلَ بِالرَّأْيِ الْعَمَلُ بِمَا
يَرَاهُ أَصْوَبَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤْخَذَ فِي مَفْهُومِهِ
كَوْنُهُ لِنَفْسِهِ وَلَا لِغَيْرِهِ وَالْعَمَلُ لِنَفْسِهِ
بِخِلَافِهِ لِغَيْرِهِ وَبِمَشِيئَتِهِ أَيْ بِاخْتِيَارِهِ
ابْتِدَاءً بِلَا اعْتِبَارِهِ عَلَى مُطَابَقَةِ أَمْرِ آمِرٍ
مِنْ غَيْرِ اعْتِبَارِ مَعْنَى الْأَصْوَبِيَّةِ فِي
مُتَعَلِّقِهَا بَلْ هِيَ وَالْإِرَادَةُ يُخَصَّصَانِ
الشَّيْءَ بِوَقْتِ وُجُودِهِ، وَالْأَوَّلُ نَقَضْنَاهُ
بِالْوَكَالَةِ، وَهُوَ مُنْدَفِعٌ بِأَنَّ الْعَامِلَ
بِرَأْيِهِ هُوَ الَّذِي لَا يَغْلِبُهُ عَلَى رَأْيِهِ مَا
يُقَيِّدُهُ فِي فِعْلٍ وَلَا تَرْكٍ، وَالْوَكِيلُ وَإِنْ
كَانَ بِوَكَالَةٍ عَامَّةٍ مُطْلَقَةٍ مَعَهُ مَا يَغْلِبُهُ
فِي جَانِبِ التَّرْكِ وَهُوَ لُزُومُ خُلْفِ الْوَعْدِ
الثَّابِتِ ضِمْنَ رِضَاهُ بِالتَّوْكِيلِ إذَا لَمْ يَفْعَلْ
فَإِنَّهُ إذَا وَكَّلَهُ فَرَضِيَ كَانَ وَاعِدًا بِفِعْلِ
مَا اسْتَعَانَ بِهِ فِيهِ، فَإِذَا لَمْ يَفْعَلْ أَخْلَفَ
الْوَعْدَ بِخِلَافِ الزَّوْجَةِ فَإِنَّهَا لَا تُعَدُّ
مُخْلِفَةً بِتَرْكِ الطَّلَاقِ إذَا لَمْ يَقْسِرْهَا
عَلَيْهِ قَاسِرٌ شَرْعِيٌّ، فَظَهَرَ أَنَّ الْوَكِيلَ لَيْسَ
عَامِلًا بِرَأْيِ نَفْسِهِ
(4/100)
وَالطَّلَاقُ يَحْتَمِلُ التَّعْلِيقَ
بِخِلَافِ الْبَيْعِ لِأَنَّهُ لَا يَحْتَمِلُهُ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا فَطَلَّقَتْ
وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّهَا مَلَكَتْ إيقَاعَ
الثَّلَاثِ فَتَمْلِكُ إيقَاعَ الْوَاحِدَةِ ضَرُورَةً (وَلَوْ
قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ
نَفْسَهَا ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ، وَقَالَا: تَقَعُ وَاحِدَةٌ) لِأَنَّهَا أَتَتْ
بِمَا مَلَكَتْهُ وَزِيَادَةٍ فَصَارَ كَمَا إذَا طَلَّقَهَا
الزَّوْجُ أَلْفًا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَتَتْ
بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَكَانَتْ مُبْتَدِئَةً،
وَهَذَا لِأَنَّ الزَّوْجَ مَلَّكَهَا الْوَاحِدَةَ
وَالثَّلَاثُ غَيْرُ الْوَاحِدَةِ لِأَنَّ الثَّلَاثَ اسْمٌ
لِعَدَدٍ مُرَكَّبٍ مُجْتَمِعٍ وَالْوَاحِدَةُ فَرْدٌ لَا
تَرْكِيبَ فِيهِ فَكَانَتْ بَيْنَهُمَا مُغَايِرَةٌ عَلَى
سَبِيلِ الْمُضَادَّةِ، بِخِلَافِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مُطْلَقًا، وَالثَّانِي بِأَمْرِ الْمَدْيُونِ بِإِبْرَاءِ
نَفْسِهِ، وَقَدَّمْنَا مَا فِي جَوَابِهِ مِنْ النَّظَرِ،
وَلَوْ تَمَّ انْتَقَضَ بِالتَّفْوِيضِ إلَى الْأَجْنَبِيِّ
فَإِنَّهُ قَطْعًا لَيْسَ بِتَطْلِيقِ زَوْجَةِ غَيْرِهِ
عَامِلًا لِنَفْسِهِ، وَالثَّالِثُ أَقْرَبُ وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ فَالْمُعَوَّلُ عَلَيْهِمَا.
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا
فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا لَمَّا
مَلَكَتْ إيقَاعَ الثَّلَاثِ كَانَ لَهَا أَنْ تُوقِعَ مِنْهَا
مَا شَاءَتْ) كَالزَّوْجِ نَفْسِهِ (وَلَوْ قَالَ لَهَا:
طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ
شَيْءٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -،
وَقَالَا: تَقَعُ وَاحِدَةٌ لِأَنَّهَا أَتَتْ بِمَا
مَلَكَتْهُ وَزِيَادَةً فَصَارَ كَمَا إذَا طَلَّقَهَا
الزَّوْجُ أَلْفًا) وَكَقَوْلِهَا طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً
وَوَاحِدَةً وَوَاحِدَةً فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَبَنْت
نَفْسِي فِي جَوَابِ طَلِّقِي نَفْسَك وَطَلَّقْت نَفْسِي
وَضَرَّتِي، وَقَوْلُ الْعَبْدِ فِي جَوَابِ اعْتِقْ نَفْسَك
أَعْتَقْت نَفْسِي وَفُلَانًا حَيْثُ يَقَعُ ثَلَاثٌ فِي
الْأُولَى وَرَجْعِيٌّ فِي الثَّانِيَةِ وَالثَّالِثَةِ
وَتَطْلُقُ هِيَ وَيَعْتِقُ هُوَ دُونَ مَنْ قَرَنَاهُ
(وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا أَتَتْ بِغَيْرِ مَا فَوَّضَ
إلَيْهَا مُبْتَدِئَةً) فَيَتَوَقَّفُ عَلَى إجَازَةِ
الزَّوْجِ، وَبِهَذَا يَخْرُجُ الْجَوَابُ عَمَّا بَعْدَ
الْأُولَى مِنْ الصُّوَرِ لِامْتِثَالِهَا بَدْءًا، ثُمَّ
الْمُخَالَفَةُ بِمَا بَعْدَهُ فَلَا تُعْتَبَرُ.
وَوَجْهُهَا فِي أَبَنْت نَفْسِي أَنَّ مَعْنَاهُ طَلَّقْت
نَفْسِي بَائِنًا وَالْبَاقِي ظَاهِرٌ. وَقَوْلُهُ بِخِلَافِ
الزَّوْجِ جَوَابٌ عَنْ الْأَوَّلِ: أَيْ أَنَّ الزَّوْجَ
يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ مِلْكِهِ الثَّلَاثَ، وَكَمَا إذَا
صَرَّحَ بِمَا الثَّلَاثُ فِي ضِمْنِهِ فَيَثْبُتُ الْقَدْرُ
الَّذِي يَمْلِكُهُ وَيَلْغُو مَا سِوَاهُ، وَكَذَا هِيَ فِي
الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى وَهِيَ قَوْلُهُ لَهَا طَلِّقِي
نَفْسَك ثَلَاثًا
(4/101)
الزَّوْجِ لِأَنَّهُ يَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ
الْمِلْكِ، وَكَذَا هِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى
لِأَنَّهَا مَلَكَتْ الثَّلَاثَ، أَمَّا هَاهُنَا لَمْ
تَمْلِكْ الثَّلَاثَ وَمَا أَتَتْ بِمَا فُوِّضَ إلَيْهَا
فَلَغَتْ.
(وَإِنْ أَمَرَهَا بِطَلَاقٍ يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَطَلَّقَتْ
بَائِنَةً، أَوْ أَمَرَهَا بِالْبَائِنِ فَطَلَّقَتْ
رَجْعِيَّةً وَقَعَ مَا أَمَرَ بِهِ الزَّوْجُ) فَمَعْنَى
الْأَوَّلِ أَنْ يَقُولَ لَهَا الزَّوْجُ: طَلِّقِي نَفْسَك
وَاحِدَةً أَمْلِكُ الرَّجْعَةَ فَتَقُولُ: طَلَّقْت نَفْسِي
وَاحِدَةً بَائِنَةً فَتَقَعُ رَجْعِيَّةً لِأَنَّهَا أَتَتْ
بِالْأَصْلِ وَزِيَادَةِ وَصْفٍ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَلْغُو
الْوَصْفُ وَيَبْقَى الْأَصْلُ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنْ
يَقُولَ لَهَا طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً بَائِنَةً فَتَقُولُ
طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً فَتَقَعُ بَائِنَةً
لِأَنَّ قَوْلَهَا وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً لَغْوٌ مِنْهَا
لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا عَيَّنَ صِفَةَ الْمُفَوَّضِ
إلَيْهَا فَحَاجَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ إلَى إيقَاعِ الْأَصْلِ
دُونَ تَعْيِينِ الْوَصْفِ فَصَارَ كَأَنَّهَا اقْتَصَرَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَلَّكْتُهَا بِجَمِيعِ أَجْزَائِهَا (أَمَّا هُنَا فَلَمْ
تَمْلِكْ الثَّلَاثَ) لِأَنَّهُ إنَّمَا مَلَّكَهَا
الْوَاحِدَةَ وَلَمْ تَأْتِ بِمَا فَوَّضَ إلَيْهَا فَلَمْ
تَصِرْ بِاعْتِبَارِهَا مَالِكَةً وَلَا بِاعْتِبَارِهَا
مُتَصَرِّفَةً عَنْ الْآمِرِ لِعَدَمِ الْمُوَافَقَةِ،
وَحَقِيقَةُ الْفَرْقِ أَنَّهَا مَلَكَتْ الْوَاحِدَةَ وَهِيَ
شَيْءٌ بِقَيْدِ الْوَحْدَةِ، بِخِلَافِ الْوَاحِدَةِ الَّتِي
فِي ضِمْنِ الثَّلَاثِ فَإِنَّهَا بِقَيْدِ ضِدِّهِ، وَهَذَا
مَعْنَى قَوْلِهِ الثَّلَاثُ اسْمٌ لِعَدَدٍ مُرَكَّبٍ
مُجْتَمَعُ الْوُحْدَانِ وَالْوَاحِدُ لَا تَرْتِيبَ فِيهِ
فَكَانَ بَيْنَهُمَا تَضَادٌّ، بِخِلَافِ الزَّوْجِ
وَبِخِلَافِهَا فِي الْمَسْأَلَةِ الْأُولَى لِأَنَّهَا
مَلَكَتْ الثَّلَاثَ.
أَمَّا هُنَا فَلَمْ تَمْلِكْ الثَّلَاثَ لِمَا ذَكَرْنَا،
وَهَذَا التَّقْرِيرُ لَا يَسْتَعْقِبُ إيرَادًا. وَوَقَعَ فِي
لَفْظِ الْمُصَنِّفِ قَوْلُهُ وَالثَّلَاثُ غَيْرُ
الْوَاحِدَةِ: يَعْنِي فَلَمْ تَكُنْ بِإِيقَاعِهَا
مُوَافَقَةً لِمَا مَلَّكَهَا. فَاعْتَرَضَ بِأَنَّ مَذْهَبَ
أَهْلِ السُّنَّةِ أَنَّ الْجُزْءَ مِنْ الْعَشَرَةِ لَيْسَ
عَنْهَا وَلَا غَيْرِهَا.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ فِي الْأُمُورِ الْمَوْجُودَةِ
بِخِلَافِ نَحْوِ الطَّلَاقِ، وَأَنْتَ تَعْلَمُ أَنَّ هَذَا
مُجَرَّدُ اصْطِلَاحٍ لِلْمُتَكَلِّمِينَ كَمَا أَنَّ
اصْطِلَاحَ الْفَلَاسِفَةِ أَنَّ مَا لَيْسَ عَيْنًا فَهُوَ
غَيْرٌ، وَلَوْ فُرِضَ عَدَمُ وَضْعِ الِاصْطِلَاحِ أَصْلًا
بَلْ عَدَمُ وَضْعِ لَفْظَةِ غَيْرٍ لُغَةً لَمْ يَتَوَقَّفْ
إثْبَاتُ الْمَطْلُوبِ عَلَيْهِ، إذْ يَكْفِي فِيهِ أَنْ
يُقَالَ فَوَّضَ إلَيْهَا الثَّلَاثَ وَالْوَاحِدَةُ لَيْسَتْ
إيَّاهَا فَلَا تَكُونُ مُفَوَّضَةً إلَيْهَا فَإِيرَادُ
مِثْلِهِ إلْزَامٌ بِمُجَرَّدِ الِاصْطِلَاحِ، وَغَايَةُ مَا
يَلْزَمُ بَعْدَ الْتِزَامِهِ أَنَّ الْمُصَنِّفَ عَبَّرَ
عَمَّا لَيْسَ إيَّاهُ بِلَفْظِ غَيْرٍ مَجَازًا.
(قَوْلُهُ وَلَوْ أَمَرَهَا بِطَلَاقٍ يَمْلِكُ رَجْعَتَهَا
فَطَلَّقَتْ بَائِنًا أَوْ أَمَرَهَا بِالْبَائِنِ فَطَلَّقْت
رَجْعِيًّا وَقَعَ مَا أَمَرَ بِهِ، وَمَعْنَى الْأَوَّلِ أَنْ
يَقُولَ: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً أَمْلِكُ الرَّجْعَةَ
فِيهَا فَتَقُولُ: طَلَّقْت نَفْسِي وَاحِدَةً بَائِنَةً
تَقَعُ رَجْعِيَّةً لِأَنَّهَا أَتَتْ بِالْأَصْلِ وَزِيَادَةِ
وَصْفٍ كَمَا ذَكَرْنَا فَيَلْغُو الْوَصْفُ وَيَبْقَى
الْأَصْلُ، وَمَعْنَى الثَّانِي أَنْ يَقُولَ: طَلِّقِي
نَفْسَك وَاحِدَةً بَائِنَةً فَتَقُولُ طَلَّقْت نَفْسِي
وَاحِدَةً رَجْعِيَّةً تَقَعُ بَائِنَةً لِأَنَّ قَوْلَهَا
رَجْعِيَّةً لَغْوٌ لِأَنَّ الزَّوْجَ لَمَّا عَيَّنَ صِفَةَ
الْمُفَوَّضِ إلَيْهَا فِي الصُّورَتَيْنِ فَحَاجَتُهَا بَعْدَ
ذَلِكَ إلَى أَصْلِ الْإِيقَاعِ) لَا إلَى ذِكْرِ وَصْفِهِ،
فَذِكْرُهَا إيَّاهُ مُوَافِقًا أَوْ مُخَالِفًا لَا عِبْرَةَ
بِهِ لِأَنَّ الْوُقُوعَ بِإِيقَاعِهَا لَيْسَ إلَّا بِنَاءً
عَلَى التَّفْوِيضِ، فَذِكْرُهَا كَسُكُوتِهَا عَنْهُ،
وَعِنْدَ سُكُوتِهَا يَقَعُ عَلَى الْوَصْفِ
(4/102)
عَلَى الْأَصْلِ فَيَقَعُ بِالصِّفَةِ
الَّتِي عَيَّنَهَا الزَّوْجُ بَائِنًا أَوْ رَجْعِيًّا
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا إنْ شِئْت
فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّ
مَعْنَاهُ إنْ شِئْت الثَّلَاثَ وَهِيَ بِإِيقَاعِ
الْوَاحِدَةِ مَا شَاءَتْ الثَّلَاثَ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَاحِدَةً إنْ شِئْت
فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ)
لِأَنَّ مَشِيئَةَ الثَّلَاثِ لَيْسَتْ بِمَشِيئَةٍ
لِلْوَاحِدَةِ كَإِيقَاعِهَا (وَقَالَا: تَقَعُ وَاحِدَةٌ)
لِأَنَّ مَشِيئَةَ الثَّلَاثِ مَشِيئَةٌ لِلْوَاحِدَةِ، كَمَا
أَنَّ إيقَاعَهَا إيقَاعٌ لِلْوَاحِدَةِ فَوُجِدَ الشَّرْطُ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْتِ فَقَالَتْ:
شِئْتُ إنْ شِئْتَ فَقَالَ الزَّوْجُ: شِئْتُ يَنْوِي
الطَّلَاقَ بَطَلَ الْأَمْرُ) لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا
بِالْمَشِيئَةِ الْمُرْسَلَةِ وَهِيَ أَتَتْ بِالْمُعَلَّقَةِ
فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ وَهُوَ اشْتِغَالٌ بِمَا لَا
يَعْنِيهَا فَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَلَا يَقَعُ
الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ شِئْت وَإِنْ نَوَى الطَّلَاقَ
لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الْمَرْأَةِ ذِكْرُ الطَّلَاقِ
لِيَصِيرَ الزَّوْجُ شَائِيًا طَلَاقَهَا، وَالنِّيَّةُ لَا
تَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمُفَوَّضِ.
وَحَاصِلُ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْمُخَالَفَةَ إنْ كَانَتْ فِي
الْوَصْفِ لَا يَبْطُلُ الْجَوَابُ، بَلْ يَبْطُلُ الْوَصْفُ
الَّذِي بِهِ الْمُخَالَفَةُ وَيَقَعُ عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
فَوَّضَ بِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَتْ فِي الْأَصْلِ
حَيْثُ يَبْطُلُ، كَمَا إذَا فَوَّضَ وَاحِدَةً طَلُقَتْ
ثَلَاثًا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ، أَوْ فَوَّضَ ثَلَاثًا
فَطَلَّقَتْ أَلْفًا، وَتَقَدَّمَ تَخْرِيجُ أَبَنْت عَلَى
مُخَالَفَةِ الْوَصْفِ فِي قَوْلِهِ طَلِّقِي نَفْسَك
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا
إلَخْ) تَقَدَّمَ أَنَّهُ إذَا قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك
ثَلَاثًا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً
وَثِنْتَيْنِ وَثَلَاثًا، فَلَوْ أَنَّهُ زَادَ قَوْلَهُ إنْ
شِئْت فَطَلَّقَتْ وَاحِدَةً لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ لِأَنَّ
مَعْنَاهُ إنْ شِئْت الثَّلَاثَ فَكَانَ تَفْوِيضُ الثَّلَاثِ
مُعَلَّقًا بِشَرْطٍ هُوَ مَشِيئَتُهَا إيَّاهَا وَلَمْ
يُوجَدْ الشَّرْطُ لِأَنَّهَا لَمْ تَشَأْ إلَّا وَاحِدَةً،
وَتَقَدَّمَ أَنَّهَا لَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك
وَاحِدَةً فَطَلَّقَتْ ثَلَاثًا لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَتَقَعُ وَاحِدَةٌ عِنْدَهُمَا، فَلَوْ
زَادَ قَوْلَهُ إنْ شِئْت فَالْخِلَافُ عَلَى مَا هُوَ
عَلَيْهِ، فَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ: مَشِيئَةُ الثَّلَاثِ
لَيْسَتْ مَشِيئَةَ الْوَاحِدَةِ فَلَمْ يُوجَدْ الشَّرْطُ،
وَهُمَا يَقُولَانِ: مَشِيئَةُ الثَّلَاثِ مَشِيئَةُ
الْوَاحِدَةِ كَمَا أَنَّ إيقَاعَهَا إيقَاعُ الْوَاحِدَةِ،
وَقَدْ سَبَقَ الْكَلَامُ فِي تَحْقِيقِ ذَلِكَ
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت
فَقَالَتْ: شِئْتُ إنْ شِئْتَ فَقَالَ: شِئْتُ يَنْوِي
الطَّلَاقَ بَطَلَ الْأَمْرُ لِأَنَّهُ عَلَّقَ طَلَاقَهَا
بِالْمَشِيئَةِ الْمُرْسَلَةِ) مِنْهَا (وَهِيَ قَدْ أَتَتْ
بِالْمُعَلَّقَةِ فَمَا وُجِدَ الشَّرْطُ ثُمَّ هُوَ
اشْتِغَالٌ بِمَا لَا يَعْنِيهَا فَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ
يَدِهَا، وَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ بِقَوْلِهِ شِئْت وَإِنْ
نَوَى لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي كَلَامِ الرَّجُلِ ذِكْرُ
الطَّلَاقِ وَلَا فِي كَلَامِهَا) لِأَنَّهَا لَمْ تَقُلْ
شِئْت طَلَاقِي إنْ شِئْتَ لِيَكُونَ الزَّوْجُ بِقَوْلِهِ
شِئْتُ شَائِيًا طَلَاقَهَا لَفْظًا بَلْ بِمُجَرَّدِ
النِّيَّةِ وَالنِّيَّةُ لَا تَعْمَلُ فِي غَيْرِ الْمَذْكُورِ
الصَّالِحِ لِلْإِيقَاعِ وَلَا فِي الْمَذْكُورِ
(4/103)
حَتَّى لَوْ قَالَ: شِئْت طَلَاقَك يَقَعُ
إذَا نَوَى لِأَنَّهُ إيقَاعٌ مُبْتَدَأٌ إذْ الْمَشِيئَةُ
تُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ أَرَدْت
طَلَاقَك لِأَنَّهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الَّذِي لَيْسَ بِصَالِحٍ لِلْإِيقَاعِ بِهِ نَحْوُ اسْقِنِي.
(حَتَّى لَوْ قَالَ: شِئْت طَلَاقَك يَنْوِيهِ وَقَعَ لِأَنَّ
الْمَشِيئَةَ تُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ) لِأَنَّهَا مِنْ
الشَّيْءِ وَهُوَ الْمَوْجُودُ (بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ:
أَرَدْت طَلَاقَك لِأَنَّهُ لَا يُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ)
بَلْ هِيَ طَلَبٌ لِنَفْسِ الْوُجُودِ عَنْ مَيْلٍ، وَغَايَةُ
الْأَمْرِ أَنَّ الْمَشِيئَةَ وَالْإِرَادَةَ فِي صِفَةِ
الْعِبَادِ مُخْتَلِفَانِ، وَفِي صِفَةِ اللَّهِ تَعَالَى
مُتَرَادِفَانِ كَمَا هُوَ اللُّغَةُ فِيهِمَا مُطْلَقًا فَلَا
يَدْخُلُهُمَا وُجُودٌ: أَيْ لَا يَكُونُ الْوُجُودُ جُزْءَ
مَفْهُومِ أَحَدِهِمَا غَيْرَ أَنَّ مَا شَاءَ اللَّهُ كَانَ
وَكَذَا مَا أَرَادَهُ، لِأَنَّ تَخَلُّفَ الْمُرَادِ إنَّمَا
يَكُونُ لِعَجْزِ الْمُرِيدِ لَا لِذَاتِ الْإِرَادَةِ
لِأَنَّهَا لَيْسَتْ الْمُؤَثِّرَةَ لِلْوُجُودِ لِأَنَّ
ذَلِكَ خَاصِّيَّةُ الْقُدْرَةِ، بَلْ بِمَعْنَى أَنَّهَا
الْمُخَصِّصَةُ لِلْمَقْدُورِ الْمَعْلُومِ وُجُودُهُ
بِالْوَقْتِ وَالْكَيْفِيَّةِ، ثُمَّ الْقُدْرَةُ تُؤَثِّرُ
عَلَى وَفْقِ الْإِرَادَةِ، غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَتَخَلَّفُ
شَيْءٌ عَنْ مُرَادِهِ تَعَالَى لِمَا قُلْنَا فِي
الْمَشِيئَةِ بِخِلَافِ الْعِبَادِ، وَعَنْ هَذَا لَوْ قَالَ
أَرَادَ اللَّهُ طَلَاقَك يَنْوِيهِ يَقَعُ كَمَا لَوْ قَالَ
شَاءَ اللَّهُ، بِخِلَافِ أَحَبَّ اللَّهُ طَلَاقَك أَوْ
رَضِيَهُ لَا يَقَعُ لِأَنَّهُمَا لَا يَسْتَلْزِمَانِ مِنْهُ
تَعَالَى الْوُجُودَ.
وَلَوْ قِيلَ: التَّخْصِيصُ بِالْوَقْتِ الْإِرَادَةُ يَكُونُ
عَنْ طَلَبِهِ وَيَسْتَلْزِمُ عَدَمَ الْفَرْقِ بَيْنَ صِفَةِ
الْإِرَادَةِ وَالْكَلَامِ. نَعَمْ فَرَّقَ بَيْنَ
الطَّلَبَيْنِ أَنَّهُ فِي الْكَلَامِ طَلَبٌ تَكْلِيفِيٌّ
وَهَذَا بِخِلَافِهِ، وَلَكِنَّهُ لَيْسَ يَلْزَمُ كَوْنُ
الطَّلَبِ الْكَلَامِيِّ تَكْلِيفًا دَائِمًا كَمَا فِي
الطَّلَبِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِكُنْ.
وَلَوْ أُجِيبَ بِأَنَّ ذَلِكَ الطَّلَبَ خَارِجٌ عَنْهَا
لَزِمَ كَوْنُهَا مِنْ صِفَاتِ الْأَفْعَالِ، وَإِذْ قَدْ
ظَهَرَ الْفَرْقُ بَيْنَ الْإِرَادَتَيْنِ لَا يَكُونُ فَرْقُ
أَبِي حَنِيفَةَ بَيْنَ الْمَشِيئَةِ وَالْإِرَادَةِ فِي حَقِّ
الْعِبَادِ رِوَايَةً عَنْهُ فِي الْفَرْقِ بَيْنَهُمَا فِي
صِفَةِ اللَّهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى. بَقِيَ الشَّأْنُ فِي
كَوْنِ الْمَشِيئَةِ تُنْبِئُ عَنْ الْوُجُودِ فِي حَقِّ
الْعِبَادِ لِلِاشْتِقَاقِ مِنْ الشَّيْءِ وَهُوَ الْمَوْجُودُ
فِيهِ نَظَرٌ، فَإِنَّ الشَّيْءَ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى غَيْرِ
الْأَعْيَانِ إلَّا أَنَّ كَوْنَهُ فِي مَفْهُومِهِ الْوُجُودَ
اصْطِلَاحٌ طَارِئٌ عَلَى اللُّغَةِ، فَإِنَّهُ لُغَةً يُقَالُ
لِلْمَعْدُومِ وَالْمَوْجُودِ، وَكَوْنُ الْإِرَادَةِ نُسِبَتْ
إلَى مَا لَا يَعْقِلُ بِخِلَافِ الْمَشِيئَةِ، كَمَا ذَكَرَ
شَمْسُ الْأَئِمَّةِ لَا أَثَرَ لَهُ إلَّا
(4/104)
(وَكَذَا إذَا قَالَتْ شِئْتُ إنْ شَاءَ
أَبِي أَوْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِأَمْرٍ لَمْ يَجِئْ
بَعْدُ) لِمَا ذَكَرْنَا أَنَّ الْمَأْتِيَّ بِهِ مَشِيئَةٌ
مُعَلَّقَةٌ فَلَا يَقَعُ الطَّلَاقُ وَبَطَلَ الْأَمْرُ
(وَإِنْ قَالَتْ: قَدْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِأَمْرٍ قَدْ
مَضَى طَلُقَتْ) لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِشَرْطٍ كَائِنٍ
تَنْجِيزٌ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَوْ إذَا مَا
شِئْت أَوْ مَتَى شِئْت أَوْ مَتَى مَا شِئْت فَرَدَّتْ
الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى
الْمَجْلِسِ) أَمَّا كَلِمَةُ مَتَى وَمَتَى مَا
فَلِأَنَّهُمَا لِلْوَقْتِ وَهِيَ عَامَّةٌ فِي الْأَوْقَاتِ
كُلِّهَا، كَأَنَّهُ قَالَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت فَلَا
يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ بِالْإِجْمَاعِ، وَلَوْ رَدَّتْ
الْأَمْرَ لَمْ يَكُنْ رَدًّا لِأَنَّهُ مَلَّكَهَا الطَّلَاقَ
فِي الْوَقْتِ الَّذِي شَاءَتْ فَلَمْ يَكُنْ تَمْلِيكًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لَوْ لَمْ يَكُنْ مَجَازًا عَقْلِيًّا أَوْ مَجَازًا
لُغَوِيًّا فِي لَفْظِ الْإِرَادَةِ، عَلَى أَنَّهُ سُمِعَ
نِسْبَةُ الْمَشِيئَةِ أَيْضًا إلَى ذَلِكَ.
أَنْشَدَ ابْنُ السِّكِّيتِ فِي إصْلَاحِ الْمَنْطِقِ:
يَا مَرْحَبَاهُ بِحِمَارٍ عَقْرَا ... إذَا أَتَى قَرَّبْتُهُ
لِمَا يَشَا
مِنْ الشَّعِيرِ وَالْحَشِيشِ وَالْمَا
وَهُوَ مِنْ شَوَاهِدِ قَصْرِ الْمَمْدُودِ، فَتَوْجِيهُهُ
أَنْ يُعْتَبَرَ الْعُرْفُ فِيهِ: يَعْنِي بِكَوْنِ الْعُرْفِ
الْعَامِّ أَنَّهُ الشَّيْءُ الْمَوْجُودُ وَالْمَشِيئَةُ
مِنْهُ بِأَنْ يُرَادَ بِهِ بَعْضُ مَا يَصْدُقُ عَلَيْهِ
وَهُوَ الشَّيْءُ الْكَائِنُ مَصْدَرًا لِشَاءَ، فَإِنَّهُ
يُقَالُ: شَاءَ شَيْئًا عَلَى إرَادَةِ الْحَاصِلِ
بِالْمَصْدَرِ ثُمَّ يُشْتَقُّ مِنْهُ.
وَلِمَا كَانَ الْوُجُودُ عَلَى هَذَا مُحْتَمِلَ اللَّفْظِ
لَا مُوجِبَهُ احْتَاجَ إلَى النِّيَّةِ فَلَزِمَ الْوُجُودُ
فِيهَا، فَإِذَا قَالَ: شِئْت كَذَا فِي التَّخَاطُبِ
الْعُرْفِيِّ فَمَعْنَاهُ أَوْجَدْتُهُ عَنْ اخْتِيَارٍ،
بِخِلَافِ أَرَدْت كَذَا مُجَرَّدًا يُفِيدُ عُرْفًا عَدَمَ
الْوُجُودِ، وَأَحْبَبْت طَلَاقَك وَرَضِيتُهُ مِثْلُ
أَرَدْتُهُ، وَلَوْ قَالَ: شَائِي طَلَاقَك نَاوِيًا
لِلطَّلَاقِ فَقَالَتْ: شِئْت وَقَعَ، وَلَوْ قَالَ أَرِيدِيهِ
أَوْ اهْوَيْهِ أَوْ أَحِبِّيهِ أَوْ ارْضَيْهِ يَنْوِي
الطَّلَاقَ فَقَالَتْ: أَرَدْتُهُ أَحْبَبْتُهُ هَوَيْتُهُ
رَضِيتُهُ لَا يَقَعُ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ: إنْ أَرَدْت
أَوْ أَحْبَبْت إلَى آخِرِهَا فَقَالَتْ: أَرَدْت أَوْ
أَحْبَبْت إلَى آخِرِهَا فَإِنَّهُ يَقَعُ وَإِنْ لَمْ يَنْوِ
لِأَنَّهُ تَعْلِيقٌ لَا يَفْتَقِرُ إلَى النِّيَّةِ، وَهُوَ
كَقَوْلِهِ إنْ كُنْت تُحِبِّينِي يَتَعَلَّقُ بِإِخْبَارِهَا
فَإِذَا قَالَتْ: أَحْبَبْت وَقَعَ (قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَتْ:
قَدْ شِئْت إنْ كَانَ كَذَا لِأَمْرٍ قَدْ مَضَى) كَشِئْت إنْ
كَانَ فُلَانٌ قَدْ جَاءَ وَقَدْ جَاءَ، أَوْ لِأَمْرٍ كَائِنٍ
كَشِئْت إنْ كَانَ أَبِي فِي الدَّارِ وَهُوَ فِيهَا طَلُقَتْ
لِأَنَّ التَّعْلِيقَ بِأَمْرٍ كَائِنٍ تَنْجِيزٌ.
قِيلَ: يَلْزَمُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ قَالَ: هُوَ كَافِرٌ
إنْ كُنْت فَعَلْت كَذَا وَهُوَ يَعْلَمُ أَنَّهُ قَدْ
فَعَلَهُ أَنْ يَكْفُرَ وَهُوَ مُنْتَفٍ. أُجِيبَ بِأَنَّ مِنْ
الْمَشَايِخِ مَنْ قَالَ بِكُفْرِهِ فَاللَّازِمُ حَقٌّ،
وَعَلَى الْمُخْتَارِ وَهُوَ عَدَمُ كُفْرِهِ وَهُوَ مَرْوِيٌّ
عَنْ أَبِي يُوسُفَ يُفَرَّقُ بِأَنَّ هَذِهِ الْأَلْفَاظَ
جُعِلَتْ كِنَايَةً عَنْ الْيَمِينِ بِاَللَّهِ تَعَالَى إذَا
جَعَلَ تَعْلِيقَ كُفْرِهِ بِأَمْرٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ،
فَكَذَا إذَا جَعَلَهُ بِمَاضٍ تَحَامِيًا عَنْ تَكْفِيرِ
الْمُسْلِمِ. وَالْأَوْجَهُ أَنَّ الْكُفْرَ بِتَبَدُّلِ
الِاعْتِقَادِ وَتَبَدُّلُهُ غَيْرُ وَاقِعٍ مَعَ ذَلِكَ
الْفِعْلِ.
فَإِنْ قِيلَ: لَوْ قَالَ هُوَ كَافِرٌ بِاَللَّهِ وَلَمْ
يَتَبَدَّلْ اعْتِقَادُهُ يَجِبُ أَنْ يَكْفُرَ فَلْيَكْفُرْ
هُنَا بِلَفْظِ هُوَ كَافِرٌ وَإِنْ لَمْ يَتَبَدَّلْ
اعْتِقَادُهُ. قُلْنَا: النَّازِلُ عِنْدَ وُجُودِ الشَّرْطِ
حُكْمُ اللَّفْظِ لَا عَيْنُهُ فَلَيْسَ هُوَ بَعْدَ وُجُودِ
الشَّرْطِ مُتَكَلِّمًا بِقَوْلِهِ هُوَ كَافِرٌ حَقِيقَةً.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْتِ أَوْ إذَا
مَا شِئْتِ أَوْ مَتَى شِئْتِ أَوْ مَتَى مَا شِئْت فَرَدَّتْ)
بِأَنْ قَالَتْ: لَا أَشَاءُ لَا يَكُونُ رَدًّا وَلَهَا أَنْ
تَشَاءَ بَعْدَ ذَلِكَ وَلَا يَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ،
أَمَّا كَلِمَةُ مَتَى فَإِنَّهَا لِعُمُومِ الْأَوْقَاتِ
كَأَنَّهُ قَالَ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت، وَإِنَّمَا
(4/105)
قَبْلَ الْمَشِيئَةِ حَتَّى يَرْتَدَّ
بِالرَّدِّ، وَلَا تُطَلِّقُ نَفْسَهَا إلَّا وَاحِدَةً
لِأَنَّهَا تَعُمُّ الْأَزْمَانَ دُونَ الْأَفْعَالِ
فَتَمْلِكُ التَّطْلِيقَ فِي كُلِّ زَمَانٍ وَلَا تَمْلِكُ
تَطْلِيقًا بَعْدَ تَطْلِيقٍ، وَأُمًّا كَلِمَةُ إذَا وَإِذَا
مَا فَهُمَا وَمَتَى سَوَاءٌ عِنْدَهُمَا. وَعِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ رَحْمَةُ اللَّهِ تَعَالَى عَلَيْهِ وَإِنْ كَانَ
يُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ كَمَا يُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ
لَكِنَّ الْأَمْرَ صَارَ بِيَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ
وَقَدْ مَرَّ مِنْ قَبْلُ.
(وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كُلَّمَا شِئْت فَلَهَا
أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً بَعْدَ وَاحِدَةٍ حَتَّى
تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا) لِأَنَّ كَلِمَةَ كُلَّمَا
تُوجِبُ تَكْرَارَ الْأَفْعَالِ إلَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ
يَنْصَرِفُ إلَى الْمِلْكِ الْقَائِمِ (حَتَّى لَوْ عَادَتْ
إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ فَطَلَّقَتْ نَفْسَهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لَمْ يَرْتَدَّ بِرَدِّهَا لِأَنَّهُ لَمْ يُمَلِّكْهَا فِي
الْحَالِ شَيْئًا بَلْ أَضَافَهُ إلَى وَقْتِ مَشِيئَتِهَا
فَلَا يَكُونُ تَمْلِيكًا قَبْلَهُ فَلَا يَرْتَدُّ
بِالرَّدِّ.
وَقَدْ يُقَالُ: لَيْسَ هَذَا تَمْلِيكًا فِي حَالٍ أَصْلًا
لِأَنَّهُ صَرَّحَ بِطَلَاقِهَا مُعَلَّقًا بِشَرْطِ
مَشِيئَتِهَا، فَإِذَا وُجِدَتْ مَشِيئَتُهَا وَقَعَ
طَلَاقُهُ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ مَا ذَكَرَ فِي لَفْظِ طَلِّقِي
نَفْسَك إذَا شِئْت لِأَنَّهَا تَتَصَرَّفُ بِحُكْمِ
الْمِلْكِ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَتْ: طَلَّقْت نَفْسِي فِي
هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَإِنَّهُ وَإِنْ وَقَعَ الطَّلَاقُ
لَكِنْ الْوَاقِعُ طَلَاقُهُ الْمُعَلَّقُ وَقَوْلُهَا
طَلَّقْت إيجَادٌ لِلشَّرْطِ الَّذِي هُوَ مَشِيئَةُ
الطَّلَاقِ عَلَى تَقْدِيرِ أَنَّ الْمَشِيئَةَ تُقَارِنُ
الْإِيجَادَ، ثُمَّ لَا تَمْلِكُ طَلَاقَ نَفْسِهَا إلَّا
مَرَّةً وَاحِدَةً لِأَنَّهَا تَعُمُّ الْأَزْمَانَ لَا
الْأَفْعَالَ بِخِلَافِ كُلَّمَا (قَوْلُهُ وَأَمَّا كَلِمَةُ
إذَا وَإِذَا مَا فَهِيَ كَمَتَى عِنْدَهُمَا) فَمَا كَانَ
حُكْمًا لِمَتَى يَكُونُ حُكْمًا لِإِذَا (وَعِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - وَإِنْ كَانَتْ إذَا
تُسْتَعْمَلُ لِلشَّرْطِ) الْمُجَرَّدِ عَنْ مَعْنَى
الزَّمَانِ كَمَا تَقَدَّمَ (لَكِنَّهَا تُسْتَعْمَلُ
لِلْوَقْتِ) أَيْضًا مُجَرَّدًا عَنْ مَعْنَى الشَّرْطِ
وَمَقْرُونًا بِهِ، وَكُلُّ مَوْضِعٍ تَحَقَّقَ فِيهِ ثُبُوتُ
حُكْمٍ لَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ بِالشَّكِّ، فَفِي قَوْلِهِ
أَنْتِ طَالِقٌ إذَا لَمْ أُطَلِّقْك الْحُكْمُ الثَّابِتُ
عَدَمُ الطَّلَاقِ فَلَا يُحْكَمُ بِزَوَالِهِ بِوُقُوعِ
الطَّلَاقِ إلَّا بِيَقِينٍ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِهَا
الزَّمَانُ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ اسْتِعْمَالِهَا فَلَا
تَطْلُقُ إلَّا بِالْمَوْتِ، وَفِي أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت
صَارَ الْأَمْرُ فِي يَدِهَا فَلَا يَخْرُجُ بِانْقِضَاءِ
الْمَجْلِسِ إلَّا بِيَقِينٍ وَهُوَ أَنْ يُرَادَ بِهَا
الشَّرْطُ الْمُجَرَّدُ وَهُوَ غَيْرُ لَازِمٍ مِنْ
اسْتِعْمَالِهَا.
نَعَمْ لَوْ صَرَّحَ فَقَالَ: أَرَدْت مُجَرَّدَ الشَّرْطِ
لَنَا أَنْ نَقُولَ يَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ كَمَا إذَا
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت فَإِنَّهُ يَتَقَيَّدُ
بِالْمَجْلِسِ وَيَحْلِفُ لِنَفْيِ التُّهْمَةِ عَلَى نَحْوِ
مَا تَقَدَّمَ أَنَّهُ أَرَادَهُ وَقَوْلُهُ وَقَدْ مَرَّ:
يَعْنِي فِي فَصْلِ إضَافَةِ الطَّلَاقِ. هَذَا وَالْوَجْهُ
فِي تَقْرِيرِهِ غَيْرُ هَذَا وَهُوَ أَنَّ قَوْلَهُ إذَا
شِئْت يَحْتَمِلُ أَنَّهُ تَعْلِيقُ طَلَاقِهِمَا بِشَرْطٍ
هُوَ مَشِيئَتُهَا وَأَنَّهُ أَضَافَهُ إلَى زَمَانِهِ،
وَعَلَى كُلٍّ مِنْ التَّقْدِيرَيْنِ لَا يَرْتَدُّ بِالرَّدِّ
حَتَّى إذَا تَحَقَّقَتْ مَشِيئَتُهَا بَعْدَ ذَلِكَ بِأَنْ
قَالَتْ: شِئْت ذَلِكَ الطَّلَاقَ أَوْ قَالَتْ: طَلَّقْت
نَفْسِي وَقَعَ مُعَلَّقًا كَانَ أَوْ مُضَافًا لَا مَا قَالَ
الْمُصَنِّفُ مِنْ أَنَّ الْأَمْرَ دَخَلَ فِي يَدِهَا فَلَا
يَخْرُجُ بِالشَّكِّ لِأَنَّ مَعْنَاهُ أَنَّهُ ثَبَتَ
مِلْكُهَا بِالتَّمْلِيكِ فَلَا يَخْرُجُ بِالشَّكِّ فِي
الْمُرَادِ بِإِذَا أَنَّهُ مَحْضُ الشَّرْطِ فَيَخْرُجُ مِنْ
يَدِهَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ أَوْ الزَّمَانِ فَلَا يَخْرُجُ
كَمَتَى، وَقَدْ صَرَّحَ آنِفًا فِي مَتَى بِعَدَمِ ثُبُوتِ
التَّمْلِيكِ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ لِأَنَّهُ إنَّمَا
مَلَّكَهَا فِي الْوَقْتِ الَّذِي شَاءَتْ فِيهِ فَلَمْ يَكُنْ
تَمْلِيكًا قَبْلَهُ حَتَّى يَرْتَدَّ بِالرَّدِّ.
وَعَلَى مَا ذَكَرْنَا فَاَلَّذِي دَخَلَ فِي مِلْكِهَا
تَحْقِيقُ الشَّرْطِ أَوْ الْمُضَافِ إلَيْهِ الزَّمَانُ
وَهُوَ مَشِيئَتُهَا الطَّلَاقَ لِيَقَعَ طَلَاقُهُ.
وَعَلَى هَذَا فَقَوْلُهُمْ فِي قَوْلِهِ (أَنْتِ طَالِقٌ
كُلَّمَا شِئْت لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً
بَعْدَ وَاحِدَةٍ) مَعْنَاهُ تُطَلِّقُ بِمُبَاشَرَةِ
الشَّرْطِ تَجُوزُ بِالتَّطْلِيقِ عَنْهُ بِأَنْ تَقُولَ:
شِئْت طَلَاقِي أَوْ طَلَّقْت نَفْسِي فَيَقَعُ طَلَاقُهُ
عِنْدَ تَحَقُّقِ الشَّرْطِ، وَإِنَّمَا يَصِحُّ كَلَامُهُمْ
فِي قَوْلِهِ: طَلِّقِي نَفْسَك كُلَّمَا شِئْت (قَوْلُهُ
إلَّا أَنَّ التَّعْلِيقَ إلَخْ) جَوَابٌ عَنْ مُقَدَّرٍ هُوَ
أَنَّ مُوجِبَ كُلَّمَا تَكْرَارُ الْأَفْعَالِ أَبَدًا،
وَمُقْتَضَاهُ أَنَّهَا إذَا طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا
وَعَادَتْ إلَيْهِ بَعْدَ زَوْجٍ آخَرَ أَنْ تَمْلِكَ
طَلَاقَهَا أَيْضًا وَلَيْسَ لَهَا ذَلِكَ. أَجَابَ بِأَنَّهَا
وَإِنْ كَانَتْ كَذَلِكَ
(4/106)
لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ) لِأَنَّهُ مِلْكٌ
مُسْتَحْدَثٌ (وَلَيْسَ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا
ثَلَاثًا بِكَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ) لِأَنَّهَا تُوجِبُ عُمُومَ
الِانْفِرَادِ لَا عُمُومَ الِاجْتِمَاعِ فَلَا تَمْلِكُ
الْإِيقَاعَ جُمْلَةً وَجَمْعًا (وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ
طَالِقٌ حَيْثُ شِئْت أَوْ أَيْنَ شِئْت لَمْ تَطْلُقْ حَتَّى
تَشَاءَ، وَإِنْ قَامَتْ مِنْ مَجْلِسِهَا فَلَا مَشِيئَةَ
لَهَا) لِأَنَّ كَلِمَةَ حَيْثُ وَأَيْنَ مِنْ أَسْمَاءِ
الْمَكَانِ وَالطَّلَاقُ لَا تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَكَانِ
فَيَلْغُو وَيَبْقَى ذِكْرُ مُطْلَقِ الْمَشِيئَةِ
فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ، بِخِلَافِ الزَّمَانِ لِأَنَّ
لَهُ تَعَلُّقًا بِهِ حَتَّى يَقَعَ فِي زَمَانٍ دُونَ زَمَانٍ
فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ عُمُومًا وَخُصُوصًا.
(وَإِنْ قَالَ لَهَا أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت طَلُقَتْ
تَطْلِيقَةً يَمْلِكُ الرَّجْعَةَ) وَمَعْنَاهُ قَبْلَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لَكِنْ التَّفْوِيضُ إنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى الْمِلْكِ
الْقَائِمِ لَا إلَى عَدَمِ الْمِلْكِ الَّذِي هُوَ مَعْنَى
الْمِلْكِ الْمَعْدُومِ، فَلَوْ انْصَرَفَ إلَيْهِ انْصَرَفَ
إلَى عَدَمِ الْمِلْكِ، فَإِذَا فُرِضَ أَنَّ الْمَمْلُوكَ
قَدْرٌ مُعَيَّنٌ لَزِمَ أَنَّ بِاسْتِغْرَاقِهِ تَكْرَارًا
يَنْتَهِي بِهِ التَّفْوِيضُ، وَذَلِكَ الْقَدْرُ هُوَ
الثَّلَاثُ، فَلَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً وَانْقَضَتْ
عِدَّتُهَا فَتَزَوَّجَتْ بِآخَرَ وَعَادَتْ إلَى الْأَوَّلِ
مَلَكَتْ ثَلَاثَ تَطْلِيقَاتٍ أَيْضًا خِلَافًا لِمُحَمَّدٍ
فَإِنَّ عِنْدَهُ إنَّمَا تَمْلِكُ ثِنْتَيْنِ لِمَا عُرِفَ
فِي مَسْأَلَةِ الْهَدْمِ (قَوْلُهُ وَلَيْسَ لَهَا أَنْ
تُطَلِّقَ نَفْسَهَا ثَلَاثًا) بِالِاتِّفَاقِ لِأَنَّهَا
لِعُمُومِ الِانْفِرَادِ لَا عُمُومِ الِاجْتِمَاعِ فَلَا
تَمْلِكُ الْإِيقَاعَ جَمْعًا، وَعَلَى هَذَا لَا تُطَلِّقُ
نَفْسَهَا ثِنْتَيْنِ، فَلَوْ طَلَّقَتْ ثَلَاثًا أَوْ
ثِنْتَيْنِ وَقَعَ عِنْدَهُمَا وَاحِدَةً.
وَعِنْدَهُ لَا يَقَعُ شَيْءٌ بِنَاءً عَلَى مَا تَقَدَّمَ
مِنْ أَنَّ إيقَاعَ الثَّلَاثِ إيقَاعُ الْوَاحِدَةِ
عِنْدَهُمَا خِلَافًا لَهُ (قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ
طَالِقٌ حَيْثُ شِئْتِ أَوْ أَيْنَ شِئْتِ لَمْ تَطْلُقْ
حَتَّى تَشَاءَ وَيَتَقَيَّدُ بِالْمَجْلِسِ، وَلَوْ قَامَتْ
مِنْهُ قَبْلَ الْمَشِيئَةِ فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا لِأَنَّ
كَلِمَةَ حَيْثُ وَأَيْنَ لِلْمَكَانِ وَالطَّلَاقُ لَا
تَعَلُّقَ لَهُ بِالْمَكَانِ فَيَلْغُو وَيَبْقَى ذِكْرُ
مُطْلَقِ الْمَشِيئَةِ فَيَقْتَصِرُ عَلَى الْمَجْلِسِ)
أَوْرَدَ عَلَيْهِ أَنَّهُ إذَا لَغَا الْمَكَانُ صَارَ أَنْتِ
طَالِقٌ شِئْت، وَبِهِ يَقَعُ لِلْحَالِ كَقَوْلِهِ أَنْتِ
طَالِقٌ إنْ دَخَلْت الدَّارَ أُجِيبَ بِأَنَّهُ يُجْعَلُ
الظَّرْفُ مَجَازًا عَنْ الشَّرْطِ لِأَنَّ كُلًّا مِنْهُمَا
يُفِيدُ ضَرْبًا مِنْ التَّأْخِيرِ وَهُوَ خَيْرٌ مِنْ
إلْغَائِهِ بِالْكُلِّيَّةِ فَأَوْرَدَ عَلَيْهِ فَلَمْ
يَبْطُلْ بِالْقِيَامِ وَفِي أَدَوَاتِهِ مَا لَا يَبْطُلُ
بِهِ كَمَتَى، وَإِذَا أُجِيبَ بِأَنَّ الْحَمْلَ عَلَى إنْ
أَوْلَى لِأَنَّهَا أُمُّ الْبَابِ وَصَرْفٌ لِشَرْطٍ وَفِيهِ
يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ. وَاعْتَرَضَ فِي بَعْضِ شُرُوحِ
الْمَنَارِ بِأَنَّهُ لَمَّا جُعِلَ مَجَازًا عَنْ الشَّرْطِ
فَالشَّرْطُ الَّذِي فِيهِ مَعْنَى الْحَقِيقَةِ أَوْلَى
انْتَهَى.
فَإِنْ أَرَادَ بِالْمَعْنَى الْحَقِيقِيِّ الزَّمَانَ كَمَتَى
حَتَّى لَا يَخْرُجَ مِنْ يَدِهَا بَعْدَ الْمَجْلِسِ فَلَيْسَ
مَعْنًى لِحَيْثُ وَأَيْنَ بَلْ مَعْنَاهُمَا الْمَكَانُ،
وَإِنْ أَرَادَ مَعْنَى الظَّرْفِيَّةِ مُطْلَقًا فَلَيْسَ
مَعْنَاهُمَا أَصْلًا، بَلْ اسْمُ الظَّرْفِ اصْطِلَاحٌ
مَبْنِيٌّ عَلَى تَشْبِيهٍ الزَّمَانِ وَالْمَكَانِ
بِالْأَوْعِيَةِ لِلْأَمْتِعَةِ وَهِيَ الظُّرُوفُ لُغَةً
(قَوْلُهُ فَوَجَبَ اعْتِبَارُهُ عُمُومًا) كَمَا فِي أَنْتِ
طَالِقٌ فِي أَيِّ وَقْتٍ شِئْت (وَخُصُوصًا) فِي أَنْتِ
طَالِقٌ غَدًا.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَيْفَ شِئْت
طَلُقَتْ) إنْ كَانَتْ غَيْرَ
(4/107)
الْمَشِيئَةِ، فَإِنْ قَالَتْ: قَدْ شِئْت
وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا وَقَالَ الزَّوْجُ ذَلِكَ
نَوَيْت فَهُوَ كَمَا قَالَ، لِأَنَّ عِنْدَ ذَلِكَ تَثْبُتُ
الْمُطَابَقَةُ بَيْنَ مَشِيئَتِهَا وَإِرَادَتِهِ، أَمَّا
إذَا أَرَادَتْ ثَلَاثًا وَالزَّوْجُ وَاحِدَةً بَائِنَةً أَوْ
عَلَى الْقَلْبِ تَقَعُ وَاحِدَةٌ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّهُ لَغَا
تَصَرُّفَهَا لِعَدَمِ الْمُوَافَقَةِ فَبَقِيَ إيقَاعُ
الزَّوْجِ وَإِنْ لَمْ تَحْضُرْهُ النِّيَّةُ تُعْتَبَرُ
مَشِيئَتُهَا فِيمَا قَالُوا جَرْيًا عَلَى مُوجِبِ
التَّخْيِيرِ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَدْخُولٍ بِهَا طَلْقَةً بَائِنَةً، وَخَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ
يَدِهَا لِفَوَاتِ مَحَلِّيَّتِهَا بِعَدَمِ الْعِدَّةِ،
وَإِنْ كَانَتْ مَدْخُولًا بِهَا طَلُقَتْ طَلْقَةً
رَجْعِيَّةً بِمُجَرَّدِ قَوْلِهِ ذَلِكَ شَاءَتْ أَوْ لَا،
ثُمَّ إنْ قَالَتْ: شِئْت بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا وَقَدْ
نَوَى الزَّوْجُ ذَلِكَ تَصِيرُ كَذَلِكَ لِلْمُطَابَقَةِ،
وَإِنْ اخْتَلَفَا بِأَنْ شَاءَتْ بَائِنَةً وَالزَّوْجُ
ثَلَاثًا أَوْ عَلَى الْقَلْبِ فَهِيَ رَجْعِيَّةٌ لِأَنَّهُ
لَغَتْ مَشِيئَتُهَا لِعَدَمِ الْمُوَافَقَةِ فَبَقِيَ إيقَاعُ
الزَّوْجِ بِالصَّرِيحِ وَنِيَّتُهُ لَا تَعْمَلُ فِي جَعْلِهِ
بَائِنًا وَلَا ثَلَاثًا، وَلَوْ لَمْ تَحْضُرْ الزَّوْجَ
نِيَّةٌ لَمْ يَذْكُرْهُ فِي الْأَصْلِ وَيَجِبُ أَنْ
تُعْتَبَرَ مَشِيئَتُهَا، حَتَّى لَوْ شَاءَتْ ثَلَاثًا أَوْ
بَائِنَةً وَلَمْ يَنْوِ الزَّوْجُ يَقَعُ مَا أَوْقَعَتْ
بِالِاتِّفَاقِ عَلَى اخْتِلَافِ الْأَصْلَيْنِ.
أَمَّا عَلَى أَصْلِهِ فَلِأَنَّهُ أَقَامَهَا مَقَامَ
نَفْسِهِ فِي إثْبَاتِ الْوَصْفِ لِأَنَّ كَيْفَ لِلْحَالِ،
وَالزَّوْجُ لَوْ أَوْقَعَ رَجْعِيًّا يَمْلِكُ جَعْلَهُ
بَائِنًا وَثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، فَكَذَا
الْمَرْأَةُ عِنْدَ هَذَا التَّفْوِيضِ تَمْلِكُ جَعْلَ مَا
وَقَعَ كَذَلِكَ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَكَذَلِكَ تَمْلِكُ
إيقَاعَ الْبَائِنِ وَالثَّلَاثِ لِأَنَّهُ تَفْوِيضُ أَصْلِ
الطَّلَاقِ إلَيْهَا عَلَى أَيِّ وَصْفٍ شَاءَتْ، كَذَا فِي
الْكَافِي وَهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا مِنْ وُقُوعِ
الرَّجْعِيَّةِ قَبْلَ مَشِيئَتِهَا قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ،
أَمَّا عِنْدَهُمَا فَمَا لَمْ تَشَأْ لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ
(4/108)
وَقَالَ فِي الْأَصْلِ هَذَا قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - (وَعِنْدَهُمَا لَا يَقَعُ مَا
لَمْ تُوقِعْ الْمَرْأَةُ فَتَشَاءُ رَجْعِيَّةً أَوْ
بَائِنَةً أَوْ ثَلَاثًا) وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ الْعَتَاقُ
لَهُمَا أَنَّهُ فَوَّضَ التَّطْلِيقَ إلَيْهَا عَلَى أَيِّ
صِفَةٍ شَاءَتْ فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِ أَصْلِ الطَّلَاقِ
بِمَشِيئَتِهَا لِتَكُونَ لَهَا الْمَشِيئَةُ فِي جَمِيعِ
الْأَحْوَالِ: أَعْنِي قَبْلَ الدُّخُولِ وَبَعْدَهُ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ كَلِمَةَ
كَيْفَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَعَلَى هَذَا الْخِلَافِ أَنْتَ حُرٌّ كَيْفَ شِئْت) يَقَعُ
لِلْحَالِ عِنْدَهُ وَعِنْدَهُمَا يَتَوَقَّفُ عَلَى
الْمَشِيئَةِ.
وَالْحَاصِلُ أَنَّ أَصْلَ الطَّلَاقِ لَا يَتَعَلَّقُ
بِمَشِيئَتِهَا عِنْدَهُ بَلْ بِصِفَتِهِ وَعِنْدَهُمَا
يَتَعَلَّقَانِ مَعًا بِمَشِيئَتِهَا. وَمَا قِيلَ: إنَّ
الْعِتْقَ لَا كَيْفِيَّةَ لَهُ لِيَتَعَلَّقَ فَيَقَعُ
أَلْبَتَّةَ يُوهِمُ عَدَمَ الْخِلَافِ أَوْ تَرْجِيحَ
الْعِتْقِ بِذَلِكَ لَكِنَّ الثَّابِتَ مَا سَمِعْت مِنْ
الْخِلَافِ وَعَدَمُ كَيْفِيَّةٍ زَائِدَةٍ عَلَى أَصْلِ
الْعِتْقِ مَمْنُوعٌ بَلْ لَهُ كَيْفِيَّةٌ زَائِدَةٌ عَلَى
ذَلِكَ مِنْ كَوْنِهِ مُعَلَّقًا وَمُنَجَّزًا عَلَى مَالٍ
وَبِدُونِهِ عَلَى وَجْهِ التَّدْبِيرِ وَغَيْرِهِ مُطْلَقًا
عَمَّا يَأْتِي مِنْ الزَّمَانِ وَمُقَيَّدًا بِهِ (قَوْلُهُ
فَلَا بُدَّ مِنْ تَعْلِيقِ أَصْلِ الطَّلَاقِ بِمَشِيئَتِهَا)
لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَتَعَلَّقْ أَصْلُهُ بِمَشِيئَتِهَا
حَتَّى وَقَعَ دُونَهَا وَقَعَ مَوْصُوفًا أَلْبَتَّةَ
ضَرُورَةَ عَدَمِ انْفِكَاكِ الذَّاتِ عَنْ الْوَصْفِ فَقَدْ
ثَبَتَ وَصْفٌ لَا بِمَشِيئَتِهَا، وَقَدْ كَانَ كُلُّ وَصْفٍ
بِمَشِيئَتِهَا هَذَا خُلْفًا، وَأَبُو حَنِيفَةَ يَقُولُ:
حَقِيقَةُ قَوْلِهِ أَنْتِ طَالِقٌ تَنْجِيزٌ لِأَصْلِ
الطَّلَاقِ جَاعِلًا صِفَتَهُ عَلَى مَشِيئَتِهَا، وَمِنْ
ضَرُورَةِ إثْبَاتِ أَصْلِهِ وَصْفُ الرَّجْعَةِ فَكَانَ فِي
نَفْسِ كَلَامِهِ هَذَا مُخَصِّصًا بَعْضَ الْأَوْصَافِ مِنْ
عُمُومِهَا. بَقِيَ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ أَوْلَى؟ تَخْصِيصُ
الْعَامِ لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى حَقِيقَةِ اللَّفْظِ الَّتِي
هِيَ تَنْجِيزُ أَصْلِ الطَّلَاقِ أَوْ اعْتِبَارُ أَصْلِهِ
مُعَلَّقًا لِلْمُحَافَظَةِ عَلَى حَقِيقَةِ الْعُمُومِ؟
وَالنَّظَرُ فِي تَرْجِيحِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ تَخْصِيصَ
الْعَامِّ أَغْلِبُ مِنْ اعْتِبَارِ الْمُنَجَّزِ مُعَلَّقًا
لِأَنَّهُ لَا يَكَادُ يَثْبُتُ.
وَأَمَّا مَا رَجَّحَ بِهِ فِي الْكَافِي مِنْ أَنَّ
بِتَقْدِيرِ قَوْلِهِمَا يَبْطُلُ الِاسْتِيصَافُ وَالْكَلَامُ
يُحْمَلُ عَلَى التَّخْصِيصِ دُونَ التَّعْطِيلِ فَإِنَّمَا
يَتِمُّ لَوْ كَانَ كَيْفَ فِي التَّرْكِيبِ لِلِاسْتِيصَافِ،
وَلَا يَخْفَى أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِخْبَارِ هُنَا غَيْرُ
مُرَادٍ أَصْلًا، بَلْ تَرْكِيبُ كَيْفَ شِئْت مَجَازٌ عَنْ
كُلِّ كَيْفِيَّةٍ شِئْتِهَا كَقَوْلِهِ تَعَالَى {أَفَلا
يَنْظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ} [الغاشية: 17]
أَيْ يَنْظُرُونَ إلَى كَيْفِيَّةِ خَلْقِهَا. فَإِنْ قُلْت:
فَلَوْ لَمْ يَعْتَبِرْ كَيْفَ شَرْطًا وَهُوَ أَحَدُ
اسْتِعْمَالَيْهَا فَيَتَرَجَّحُ قَوْلُهُمَا لِأَنَّ
تَعْلِيقَ أَصْلِ الطَّلَاقِ حِينَئِذٍ حَقِيقَةُ اللَّفْظِ.
فَالْجَوَابُ لَا يَجُوزُ لِأَنَّ شَرْطَ شَرْطِيَّتِهَا
اتِّفَاقُ فِعْلَيْ الشَّرْطِ وَالْجَزَاءِ لَفْظًا وَمَعْنَى
نَحْوُ كَيْفَ تَصْنَعْ أَصْنَعْ. وَمَا قِيلَ فِي تَوْجِيهِ
قَوْلِهِمَا أَنَّ غَيْرَ الْمَحْسُوسِ حَالُهُ وَأَصْلُهُ
سَوَاءٌ بِنَاءً عَلَى امْتِنَاعِ قِيَامِ الْعَرْضِ
بِالْعَرْضِ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا قَائِمًا بِالْآخَرِ بَلْ
كُلٌّ مِنْهُمَا يَقُومُ بِالْجِسْمِ فَلَزِمَ مِنْهُ كَوْنُ
الطَّلَاقِ لَيْسَ مَوْجُودًا بِدُونِ الْكَيْفِيَّةِ بَلْ
كُلٌّ مِنْ الطَّلَاقِ وَكَيْفِيَّتِهِ سَوَاءٌ فِي
الْأَصْلِيَّةِ وَالْفَرْعِيَّةِ،
(4/109)
لِلِاسْتِيصَافِ، يُقَالُ كَيْفَ أَصْبَحْت
وَالتَّفْوِيضُ فِي وَصْفِهِ يَسْتَدْعِي وُجُودَ أَصْلِهِ
وَوُجُودَ الطَّلَاقِ بِوُقُوعِهِ.
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ مَا
شِئْت طَلَّقَتْ نَفْسَهَا مَا شَاءَتْ) لِأَنَّهُمَا
يُسْتَعْمَلَانِ لِلْعَدَدِ فَقَدْ فَوَّضَ إلَيْهَا أَيَّ
عَدَدٍ شَاءَتْ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَإِذَا تَعَلَّقَ أَحَدُهُمَا بِمَشِيئَتِهَا تَعَلَّقَ
الْآخَرُ، فَحَاصِلُهُ ذِكْرٌ مَبْنًى آخَرَ غَيْرِ مَا
تَقَدَّمَ مِنْ ضَرُورِيَّةِ تَعَلُّقِ الْأَصْلِ عَلَى مَا
ذَكَرْنَا وَهُوَ ضَعِيفٌ إذْ الْمَبْنَى لَيْسَ إلَّا
التَّلَازُمُ فَمَا يَثْبُتُ لِأَحَدِهِمَا يَثْبُتُ
لِلْآخَرِ، وَلَا دَخْلَ لِامْتِنَاعِ قِيَامِ الْعَرْضِ
بِالْعَرْضِ فِي ذَلِكَ فَالتَّقْرِيرُ مَا قَرَّرْنَاهُ.
(قَوْلُهُ وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ كَمْ شِئْت أَوْ
مَا شِئْت طَلَّقَتْ نَفْسَهَا مَا شَاءَتْ) وَاحِدَةً أَوْ
ثِنْتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا، وَيَتَعَلَّقُ أَصْلُ الطَّلَاقِ
بِمَشِيئَتِهَا بِالِاتِّفَاقِ، بِخِلَافِ مَسْأَلَةِ كَيْفَ
شِئْت عَلَى قَوْلِهِ، وَهَذَا لِأَنَّ كَمْ اسْمٌ لِلْعَدَدِ
فَكَانَ التَّفْوِيضُ فِي نَفْسِ الْعَدَدِ وَالْوَاقِعُ
لَيْسَ إلَّا الْعَدَدَ إذْ ذُكِرَ فَصَارَ التَّفْوِيضُ فِي
نَفْسِ الْوَاقِعِ فَلَا يَقَعُ شَيْءٌ مَا لَمْ تَشَأْ.
وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يُبَاحُ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا
ثَلَاثًا كَمَا لَا يُبَاحُ لِلزَّوْجِ لَكِنْ رَوَى الْحَسَنُ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ يُبَاحُ لَهَا فِي التَّخْيِيرِ.
وَوَجْهُهُ مَا ذَكَرَهُ فِي الْفَوَائِدِ الظَّهِيرِيَّةِ فِي
الْمَسْأَلَةِ الْآتِيَةِ.
قَالَ: لَوْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا ثَلَاثًا عَلَى قَوْلِهِمَا
أَوْ ثِنْتَيْنِ عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ لَا يُكْرَهُ
لِأَنَّهَا مُضْطَرَّةٌ إلَى ذَلِكَ لِأَنَّهَا لَوْ فَرَّقَتْ
خَرَجَ الْأَمْرُ مِنْ يَدهَا، بِخِلَافِ مَا لَوْ أَوْقَعَ
الزَّوْجُ ذَلِكَ، وَعَلَى هَذَا فَمَا فِي أَصْلِ رِوَايَةِ
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ مِنْ قَوْلِهِ
إنْ شَاءَتْ طَلَّقَتْ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ
أَوْ ثَلَاثًا مَا لَمْ تَقُمْ مِنْ مَجْلِسِهَا لَا يَحْتَاجُ
إلَى حَمْلِهِ عَلَى مَشِيئَةِ الْقُدْرَةِ لَا مَشِيئَةِ
الْإِبَاحَةِ، ثُمَّ الْوَاحِدُ عَدَدٌ عَلَى اصْطِلَاحِ
الْفُقَهَاءِ لِمَا تَكَرَّرَ مِنْ إطْلَاقِ الْعَدَدِ
وَإِرَادَتِهِ وَمَا شِئْت تَعْمِيمُ الْعَدَدِ فَتَقْرِيرُهُ
تَقْرِيرُهُ. وَأَوْرَدَ أَنَّ كَلِمَةَ مَا كَمَا
تُسْتَعْمَلُ لِلْعَدَدِ تُسْتَعْمَلُ لِلْوَقْتِ نَحْوُ مَا
دَامَ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي تَفْوِيضِ الْعَدَدِ فَلَا
يَثْبُتُ.
أُجِيبَ بِأَنَّهُ مُعَارَضٌ بِالْمِثْلِ بِأَنْ يُقَالَ لَوْ
أَعْمَلْنَاهَا بِمَعْنَى لِوَقْتٍ لَا يَبْطُلُ بِالْقِيَامِ
عَنْ الْمَجْلِسِ، وَلَوْ أَعْمَلْنَاهَا بِمَعْنَى الْعَدَدِ
يَبْطُلُ فَوَقَعَ الشَّكُّ فِي ثُبُوتِهِ فِيمَا وَرَاءَ
الْمَجْلِسِ، فَلَا يَثْبُتُ فِيهِ بِالشَّكِّ فَتَعَارَضَا،
وَتَرَجَّحَ اعْتِبَارُهَا لِلْعَدَدِ بِأَنَّ التَّفْوِيضَ
تَمْلِيكٌ مُقْتَصِرٌ عَلَى الْمَجْلِسِ مَا لَمْ يَكُنْ
مُوَقَّتًا، وَإِنَّمَا يَكُونُ لَوْ كَانَتْ مُعْتَبَرَةً
بِمَعْنَى الْعَدَدِ وَلِأَنَّهُ الْمُتَبَادِرُ مِنْ ذَلِكَ،
بِخِلَافِ الزَّمَانِ فَإِنَّهُ إنَّمَا يَتَبَادَرُ حَالَةَ
وَصْلِهَا بِدَامَ
(4/110)
(فَإِنْ قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ بَطَلَ،
وَإِنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ كَانَ رَدًّا) لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ
وَاحِدٌ وَهُوَ خِطَابٌ فِي الْحَالِ فَيَقْتَضِي الْجَوَابَ
فِي الْحَالِ.
(وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك مِنْ ثَلَاثٍ مَا شِئْت
فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً أَوْ ثِنْتَيْنِ
وَلَا تُطَلِّقَ ثَلَاثًا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -، وَقَالَا: تُطَلِّقُ ثَلَاثًا إنْ شَاءَتْ) لِأَنَّ
كَلِمَةَ مَا مُحْكَمَةٌ فِي التَّعْمِيمِ وَكَلِمَةَ مَنْ
قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِتَمْيِيزٍ فَحُمِلَ عَلَى تَمْيِيزِ
الْجِنْسِ، كَمَا إذَا قَالَ: كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا شِئْت
أَوْ طَلِّقْ مِنْ نِسَائِي مَنْ شَاءَتْ. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّ كَلِمَةَ مِنْ حَقِيقَةٌ لِلتَّبْعِيضِ وَمَا
لِلتَّعْمِيمِ فَعُمِلَ بِهِمَا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ثُمَّ (إنْ رَدَّتْ الْأَمْرَ) بِأَنْ قَالَتْ: لَا أُطَلِّقُ
(كَانَ رَدًّا) لِأَنَّ هَذَا أَمْرٌ وَاحِدٌ بِخِلَافِهِ
بِكُلَّمَا.
وَقَوْلُهُ (خِطَابٌ فِي الْحَالِ) احْتِرَازٌ عَنْ إذَا
وَمَتَى: يَعْنِي هَذَا تَمْلِيكٌ مُنَجَّزٌ غَيْرُ مُضَافٍ
إلَى وَقْتٍ فِي الْمُسْتَقْبَلِ فَاقْتَضَى جَوَابًا فِي
الْحَالِ
(قَوْلُهُ وَإِنْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك مِنْ ثَلَاثٍ
مَا شِئْت فَلَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً
وَثِنْتَيْنِ) بِالِاتِّفَاقِ. وَاخْتَلَفُوا فِي الثَّلَاثِ
فَلَا تَطْلُقُ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ ثَلَاثًا، وَبِهِ قَالَ
الشَّافِعِيُّ وَأَحْمَدُ. وَتَطْلُقُ عِنْدَهُمَا إنْ شَاءَتْ
(لِأَنَّ كَلِمَةَ مَا مُحْكَمَةٌ فِي الْعُمُومِ وَكَلِمَةُ
مِنْ قَدْ تُسْتَعْمَلُ لِلتَّمْيِيزِ) أَيْ لِلْبَيَانِ كَمَا
فِي قَوْله تَعَالَى {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الأَوْثَانِ} [الحج: 30] وَغَيْرُهُ صِلَةٌ {لِيَغْفِرَ لَكُمْ
مِنْ ذُنُوبِكُمْ} [إبراهيم: 10] وَتَبْعِيضًا نَحْوُ أَكَلْت
مِنْ الرَّغِيفِ (فَيُحْمَلُ عَلَى تَمْيِيزِ الْجِنْسِ)
مُحَافَظَةً عَلَى عُمُومِ مَا: أَيْ بَيَانُ الْجِنْسِ؛
بِخِلَافِ مَا لَوْ حُمِلَتْ عَلَى التَّبْعِيضِ: يَعْنِي
فَيَكُونُ بَيَانُ أَنَّ الْمُرَادَ الثَّلَاثُ مِنْ
الطَّلَاقِ دُونَ سَائِرِ الْأَعْدَادِ مِنْهُ وَإِنْ كَانَ
لَا يُتَصَوَّرُ فِي الطَّلَاقِ عَدَدٌ إلَّا الثَّلَاثُ
فَذَاكَ شَرْعًا، أَمَّا فِي الْإِمْكَانِ فَيُمْكِنُ أَنْ
تَطْلُقَ عِشْرِينَ وَمِائَةً وَغَيْرَهُمَا وَإِنْ كَانَ
حُكْمُهُ فِي الشَّرْعِ الْمَنْعَ، فَالْمَعْنَى طَلِّقِي
نَفْسَك الْعَدَدَ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ دُونَ سَائِرِ
الْأَعْدَادِ.
وَعَلَى قَوْلِهِمَا يَكُونُ التَّفْوِيضُ فِي الثَّلَاثِ
خَاصَّةً فَصِحَّةُ تَطْلِيقِهَا وَاحِدَةً بِاعْتِبَارِ
مِلْكِهَا مَا دَخَلَتْ فِيهِ كَمَا تَقَدَّمَ فِي طَلِّقِي
نَفْسَك ثَلَاثًا (كَمَا لَوْ قَالَ: كُلْ مِنْ طَعَامِي مَا
شِئْت) لَهُ أَكْلُ الْكُلِّ (وَطَلِّقْ مِنْ نِسَائِي مَنْ
شَاءَتْ) فَشِئْنَ كُلُّهُنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَهُنَّ،
بِخِلَافِ مَا إذَا حَمَلْنَاهَا عَلَى التَّبْعِيضِ فَإِنَّهُ
حِينَئِذٍ يَبْطُلُ عُمُومُ مَا (وَلِأَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ
كَلِمَةَ مِنْ حَقِيقَةٌ فِي التَّبْعِيضِ) إذَا دَخَلَ عَلَى
ذِي أَبْعَاضٍ وَالطَّلَاقُ مِنْهُ (وَمَا لِلتَّعْمِيمِ
فَيُعْمَلُ بِهِمَا) بِمِنْ فِي مَعْنَاهَا فِي مِثْلِهِ
وَبِمَا فِي عُمُومٍ مَخْصُوصٍ ضَرُورَةُ إعْمَالِ مِنْ فِي
مَعْنَاهَا فِي مِثْلِهِ، بِخِلَافِ حَمْلِ مِنْ عَلَى
الْبَيَانِ فَإِنَّ ضَابِطَهُ صِحَّةُ وَضْعِ الَّذِي
مَكَانَهَا وَوَصْلُهُ بِمَدْخُولِهَا مَعَ ضَمِيرٍ
مُنْفَصِلٍ، مِثَالُهُ {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ
الأَوْثَانِ} [الحج: 30] : أَيْ الرِّجْسَ الَّذِي هُوَ
الْأَوْثَانُ، وَلَا يَحْسُنُ هُنَا طَلِّقِي نَفْسَك
(4/111)
وَفِيمَا اسْتَشْهَدَا بِهِ تَرْكُ
التَّبْعِيضِ بِدَلَالَةِ إظْهَارِ السَّمَاحَةِ أَوْ
لِعُمُومِ الصِّفَةِ وَهِيَ الْمَشِيئَةُ، حَتَّى لَوْ قَالَ:
مَنْ شِئْت كَانَ عَلَى هَذَا الْخِلَافِ، وَاَللَّهُ تَعَالَى
أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَا شِئْت الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ، فَإِنَّ مَا مَوْصُولُ
مَعْرِفَةٍ فَلَا بُدَّ مِنْ كَوْنِ مَوْصُوفِهَا مَعْرِفَةً
وَهُوَ هُنَا الْعَدَدُ فَانْحَلَّ إلَى طَلِّقِي نَفْسَك
الْعَدَدَ الَّذِي شِئْتِهِ الَّذِي هُوَ الثَّلَاثُ
وَيَسْتَلْزِمُ سَبْقَ الْعَهْدِ بِالْعَدَدِ الَّذِي
شَاءَتْهُ أَوْ تَشَاؤُهُ وَأَنَّهُ هُوَ الثَّلَاثُ فَيَكُونُ
التَّفْوِيضُ ابْتِدَاءً إنَّمَا هُوَ فِي الثَّلَاثِ،
وَإِنَّمَا تَمْلِكُ أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا وَاحِدَةً
لِأَنَّهَا جُزْءُ مَا مَلَكْتَهُ بِالتَّفْوِيضِ كَقَوْلِهِ
طَلِّقِي نَفْسَك ثَلَاثًا لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ وَاحِدَةً،
وَلَيْسَ الْمَعْنَى عَلَى هَذَا بِخِلَافِ التَّبْعِيضِ
حَيْثُ لَا يَسْتَلْزِمُ نَبْوَةً إذْ الْمَعْنَى طَلِّقِي
نَفْسَك عَدَدًا شِئْتِهِ، عَلَى أَنَّ مَا نَكِرَةٌ
مَوْصُوفَةٌ، فَالْجُمْلَةُ وَالْجَارُّ وَالْمَجْرُورُ فِي
مَوْضِعِ الْحَالِ مِنْ الضَّمِيرِ الرَّابِطِ الْمَحْذُوفِ
قَيْدٌ فِي الْعَدَدِ مُزِيلٌ مِنْ إبْهَامِهِ.
[فُرُوعٌ]
قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا إلَّا أَنْ تَشَائِي وَاحِدَةً
فَشَاءَتْ وَاحِدَةً طَلُقَتْ وَاحِدَةً. وَقَالَ مُحَمَّدٌ:
لَا يَقَعُ شَيْءٌ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إنْ لَمْ تَشَائِي
وَاحِدَةً فَأَنْتِ طَالِقٌ ثَلَاثًا، فَإِذَا شَاءَتْ
وَاحِدَةً لَا يَقَعُ شَيْءٌ. وَلِأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ
أَثْبَتَ لَهَا مَشِيئَةَ الْوَاحِدَةِ فَإِذَا شَاءَتْهَا
تَقَعُ. وَلَوْ قَالَ: طَلِّقْهَا إنْ شَاءَ اللَّهُ وَشِئْت
وَأَنْتِ طَالِقٌ إنْ شَاءَ اللَّهُ وَفُلَانٌ أَوْ مَا شَاءَ
اللَّهُ وَفُلَانٌ لَا يَقَعُ بِالْمَشِيئَةِ مِنْ فُلَانٍ
شَيْءٌ لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى بَاطِلٍ فَيَبْطُلُ، وَلَوْ
قَالَ حِينَ شِئْت فَهُوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ طَلِّقْهَا
إذَا أَوْ مَتَى شِئْت لِأَنَّ حِينَ لِلْوَقْتِ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت أَوْ
مَتَى شِئْت فَلَهَا مَشِيئَتَانِ مَشِيئَةٌ فِي الْحَالِ
وَمَشِيئَةٌ فِي عُمُومِ الْأَحْوَالِ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ
بِمَشِيئَتِهَا فِي الْحَالِ طَلَاقًا مُعَلَّقًا
بِمَشِيئَتِهَا فِي أَيِّ وَقْتٍ شَاءَتْ، فَإِذَا شَاءَتْ فِي
الْمَجْلِسِ صَارَ كَأَنَّهُ قَالَ أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت
لِأَنَّ الْمُعَلَّقَ كَالْمُرْسَلِ عِنْدَ الشَّرْطِ.
وَلَوْ قَالَ لِامْرَأَتَيْهِ: إذَا شِئْتُمَا فَأَنْتُمَا
طَالِقَانِ فَشَاءَتْ إحْدَاهُمَا أَوْ شَاءَتَا طَلَاقَ
إحْدَاهُمَا لَا يَقَعُ لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهُمَا
طَلَاقَهُمَا وَلَمْ يُوجَدْ.
وَلَوْ قَالَ لِاثْنَيْنِ إنْ شِئْتُمَا فَهِيَ طَالِقٌ
ثَلَاثًا فَشَاءَ أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً وَالْآخِرُ ثِنْتَيْنِ
لَمْ يَقَعْ شَيْءٌ، لِأَنَّ الشَّرْطَ مَشِيئَتُهُمَا
الثَّلَاثَ، بِخِلَافِ مَا لَوْ قَالَ لَهُمَا طَلِّقَاهَا
ثَلَاثًا فَطَلَّقَهَا أَحَدُهُمَا وَاحِدَةً وَالْآخَرُ
ثِنْتَيْنِ وَقَعَ الثَّلَاثُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ
يَنْفَرِدُ بِإِيقَاعِ الثَّلَاثِ فَيَصِحُّ إيقَاعُهُ
لِبَعْضِهَا.
وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ ثُمَّ قَالَ
لِأُخْرَى طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ وَقَعَ عَلَيْهِمَا
بِمَشِيئَةِ الْأُولَى إنْ نَوَى الزَّوْجُ وَإِلَّا فَلَا،
لِأَنَّهُ يَحْتَمِلُ طَلَاقُك مَعَ طَلَاقِ هَذِهِ فِي
الْوُقُوعِ وَيَحْتَمِلُ فِي الْمِلْكِ: أَيْ كِلَاهُمَا
مَمْلُوكَانِ لِي فَأَيُّهُمَا نَوَى صَدَقَ.
وَلَوْ قَالَ: طَالِقٌ إنْ شِئْت وَأَبَيْت أَوْ إنْ شِئْت
وَلَمْ تَشَائِي لَمْ تَطْلُقْ أَبَدًا لِأَنَّهُ جَعَلَ
الْمَشِيئَةَ وَالْإِبَاءَ شَرْطًا وَاحِدًا وَلَا يُمْكِنُ
اجْتِمَاعُهُمَا. وَلَوْ قَالَ: إنْ شِئْت وَإِنْ لَمْ
تَشَائِي فَشَاءَتْ فِي الْمَجْلِسِ طَلُقَتْ، وَلَوْ قَامَتْ
بِلَا مَشِيئَةٍ تَطْلُقُ أَيْضًا كَمَا لَوْ قَالَ: إنْ
دَخَلَتْ أَوْ لَمْ تَدْخُلِي. أَمَّا لَوْ أَخَّرَ الطَّلَاقَ
فَقَالَ إنْ شِئْت وَإِنْ لَمْ تَشَائِي فَأَنْتَ طَالِقٌ لَا
تَطْلُقُ أَبَدًا.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَإِنْ أَبَيْت،
فَإِنْ شَاءَتْ يَقَعُ وَإِنْ أَبَتْ يَقَعُ، وَإِنْ سَكَتَتْ
حَتَّى قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ لَا يَقَعُ. وَكَذَا إنْ
شِئْت أَوْ أَبَيْت. وَفِي طَالِقٍ إنْ أَبَيْت أَوْ كَرِهْت
طَلَاقَك فَقَالَتْ: أَبَيْت تَطْلُقُ.
وَلَوْ قَالَ: إنْ لَمْ تَشَائِي طَلَاقَك فَأَنْتِ طَالِقٌ
فَقَالَتْ: لَا أَشَاءُ لَا تَطْلُقُ لِأَنَّ لَفْظَ أَبَيْت
لِإِيجَادِ الْفِعْلِ الَّذِي هُوَ الْإِبَاءُ وَقَدْ وُجِدَ،
وَأَمَّا لَفْظُ لَمْ تَشَائِي فَلِلْعَدَمِ لَا لِلْإِيجَادِ
وَعَدَمُ الْمَشِيئَةِ لَا يَتَحَقَّقُ بِقَوْلِهَا لَا
أَشَاءُ لِأَنَّ لَهَا أَنْ تَشَاءَ مِنْ بَعْدُ وَإِنَّمَا
يَتَحَقَّقُ بِالْمَوْتِ وَفِي أَنْتِ طَالِقٌ وَاحِدَةً إنْ
شِئْت فَقَالَتْ: شِئْت نِصْفَ وَاحِدَةٍ لَمْ تَطْلُقْ عِنْدَ
أَبِي يُوسُفَ.
وَلَوْ قَالَ لَهَا: طَلِّقِي نَفْسَك وَقَالَ لَهَا آخَرُ
أَعْتِقِي عَبْدَك فَبَدَأَتْ بِعِتْقِ الْعَبْدِ خَرَجَ
الْأَمْرُ مِنْ يَدِهَا، وَلَوْ كَانَ الْآمِرُ بِالْعِتْقِ
زَوْجَهَا فَبَدَأَتْ بِالْعِتْقِ لَا يَبْطُلُ
(4/112)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
خِيَارُهَا فِي الطَّلَاقِ. وَعَنْهُ لَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ
طَالِقٌ إنْ شِئْت لِلسُّنَّةِ وَاحِدَةً فَلَهَا الْمَشِيئَةُ
السَّاعَةَ لَا عِنْدَ الطُّهْرِ، فَإِنْ شَاءَتْ السَّاعَةَ
وَقَعَتْ عِنْدَ الطُّهْرِ. وَعَلَى قِيَاسِ قَوْلِ أَبِي
حَنِيفَةَ إنْ كَانَتْ حَائِضًا فَلَهَا الْمَشِيئَةُ حِينَ
تَطْهُرُ عَلَى إحْدَى الرِّوَايَتَيْنِ عَنْهُ فَإِنَّهُ
ذَكَرَ فِي بَابِ الْمَشِيئَةِ مِنْ طَلَاقِ الْأَصْلِ
لَوْ قَالَ: إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا فَالْمَشِيئَةُ
إلَيْهَا لِلْحَالِ، بِخِلَافِ أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إنْ شِئْت
فَإِنَّ الْمَشِيئَةَ إلَيْهَا فِي الْغَدِ، وَهَذَا عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَمُحَمَّدٍ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ:
الْمَشِيئَةُ إلَيْهَا فِي الْغَدِ فِي الْفَصْلَيْنِ. وَقَالَ
زُفَرُ: الْمَشِيئَةُ لِلْحَالِ فِيهِمَا. وَذَكَرَ فِي
الْأَمَالِي الْخِلَافَ بَيْنَ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي
يُوسُفَ عَلَى الْعَكْسِ. وَفِي الْمُنْتَقَى بِرِوَايَةِ
بِشْرٍ عَنْ أَبِي يُوسُفَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا قَالَ:
أَنْتِ طَالِقٌ غَدًا إنْ شِئْت أَوْ أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت
غَدًا لَهَا الْمَشِيئَةُ غَدًا وَقَالَا: إنْ قَدَّمَ
الْمَشِيئَةَ عَلَى الْغَدِ فَلَهَا الْمَشِيئَةُ لِلْحَالِ،
وَإِنْ أَخَّرَهَا فَلَهَا الْمَشِيئَةُ غَدًا. وَفَرَّعَ
عَلَى هَذَا لَوْ قَالَ: اخْتَارِي غَدًا إنْ شِئْت أَوْ
اخْتَارِي إنْ شِئْت غَدًا، أَوْ أَمْرُك بِيَدِك غَدًا إنْ
شِئْت أَوْ أَمْرُك بِيَدِك إنْ شِئْت غَدًا فَالْمَشِيئَةُ
فِي الْغَدِ فِي الْحَالَيْنِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا
إذَا قَالَ: طَلِّقِي نَفْسَك غَدًا إنْ شِئْت أَوْ طَلِّقِي
نَفْسَك إنْ شِئْت غَدًا أَوْ إنْ شِئْت فَطَلِّقِي نَفْسَك
غَدًا لَمْ يَكُنْ لَهَا أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا إلَّا فِي
الْغَدِ عِنْدَهُ، وَقَالَا: إنْ قَدَّمَ الْمَشِيئَةَ فَلَهَا
أَنْ تُطَلِّقَ نَفْسَهَا فَتَقُولَ فِي الْحَالِ طَلَّقْت
نَفْسِي غَدًا. وَالْمَذْكُورُ فِي الْكَافِي وَشَرْحِ
الصَّدْرِ الشَّهِيدِ أَنْتِ غَدًا طَالِقٌ إنْ شِئْت
فَقَالَتْ: السَّاعَةَ شِئْت كَانَ بَاطِلًا، إنَّمَا لَهَا
الْمَشِيئَةُ فِي الْغَدِ، بِخِلَافِ قَوْلِهِ إنْ شِئْت
فَأَنْتِ طَالِقٌ غَدًا فَإِنَّ لَهَا الْمَشِيئَةَ فِي
مَجْلِسِهَا لِأَنَّ فِي الثَّانِي عَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ
طَلَاقًا مُضَافًا إلَى غَدٍ.
وَلَوْ عَلَّقَ بِالْمَشِيئَةِ طَلَاقًا مُنَجَّزًا تُعْتَبَرُ
الْمَشِيئَةُ حَالًا حَتَّى لَوْ قَامَتْ بَطَلَتْ
مَشِيئَتُهَا، فَكَذَا إذَا عَلَّقَ بِهَا طَلَاقًا مُضَافًا.
وَفِي الْأَوَّلِ بَدَأَ بِإِضَافَةِ الطَّلَاقِ إلَى الْغَدِ
ثُمَّ جَعَلَ ذَلِكَ مُعَلَّقًا بِمَشِيئَتِهَا فَتُرَاعَى
الْمَشِيئَةُ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ. وَرَوَى أَبُو يُوسُفَ
عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّ فِي الْفَصْلَيْنِ تُرَاعَى
الْمَشِيئَةُ فِي غَدٍ وَعِنْدَ زُفَرَ تُعْتَبَرُ
الْمَشِيئَةُ فِيهِمَا حَالًا
وَلَوْ قَالَ لَهَا: أَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت إنْ شِئْت أَوْ
أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت إذَا شِئْت فَهُمَا سَوَاءٌ
تُطَلِّقُ نَفْسَهَا مَتَى شَاءَتْ. وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
إنْ أَخَّرَ قَوْلَهُ إنْ شِئْت فَكَذَلِكَ وَإِنْ قَدَّمَهُ
تُعْتَبَرُ الْمَشِيئَةُ فِي الْحَالِ، فَإِنْ شَاءَتْ فِي
الْمَجْلِسِ تُطَلِّقُ نَفْسَهَا بَعْدَ ذَلِكَ إذَا شَاءَتْ.
وَلَوْ قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ قَبْلَ أَنْ تَقُولَ شَيْئًا
بَطَلَ. وَقَالَ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ فِيمَا قَدَّمْنَا مِنْ
أَنَّ إنْ شِئْت فَأَنْتِ طَالِقٌ إذَا شِئْت هُنَا
مَشِيئَتَانِ الْأُولَى عَلَى الْمَجْلِسِ وَالْأُخْرَى
مُطَلَّقَةٌ إلَيْهَا مُعَلَّقَةٌ بِالْمُؤَقَّتَةِ، فَمَتَى
شَاءَتْ بَعْدَ هَذَا طَلُقَتْ، قَالَ: وَإِنْ لَمْ تَقُلْ
شِئْت حَتَّى قَامَتْ مِنْ الْمَجْلِسِ فَلَا مَشِيئَةَ لَهَا،
وَلَا فَرْقَ بَيْنَ أَنْ يَقُولَ: إنْ شِئْت السَّاعَةَ أَوْ
لَمْ يَذْكُرْ السَّاعَةَ.
وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ وَطَالِقٌ وَطَالِقٌ إنْ شَاءَ
زَيْدٌ فَقَالَ زَيْدٌ: شِئْت وَاحِدَةً لَا يَقَعُ شَيْءٌ
لِأَنَّهُ مَا شَاءَ الثَّلَاثَ، وَكَذَا لَوْ قَالَ: شِئْت
أَرْبَعًا. وَلَوْ قَالَ: أَنْتِ طَالِقٌ إنْ شِئْت وَاحِدَةً
وَإِنْ شِئْت اثْنَتَيْنِ فَقَالَتْ: شِئْت وَقَعَ الثَّلَاثُ.
وَلَوْ قَالَ: اُخْرُجِي إنْ شِئْت يَنْوِي بِهِ الطَّلَاقَ
فَشَاءَتْ وَلَمْ تَخْرُجْ وَقَعَ نَظِيرُهُ قَالَتْ
لِزَوْجِهَا: طَلِّقْنِي وَطَلِّقْنِي وَطَلِّقْنِي فَقَالَ
الزَّوْجُ: طَلَّقْت فَهِيَ ثَلَاثٌ. وَلَوْ قَالَتْ:
طَلِّقْنِي طَلِّقْنِي طَلِّقْنِي بِلَا وَاوٍ فَطَلَّقَ،
فَإِنْ نَوَى وَاحِدَةً فَهِيَ وَاحِدَةٌ وَإِنْ نَوَى
ثَلَاثًا فَثَلَاثٌ. .
وَلَوْ قَالَتْ لِزَوْجِهَا: أُرِيدُ أَنْ أُطَلِّقَ نَفْسِي؟
فَقَالَ الزَّوْجُ: نَعَمْ فَقَالَتْ: طَلَّقْت يُنْظَرُ إنْ
نَوَى الزَّوْجُ التَّفْوِيضَ وَقَعَ وَإِنْ نَوَى الرَّدَّ:
يَعْنِي طَلِّقِي إنْ اسْتَطَعْت لَا يَقَعُ.
(4/113)
|