فتح القدير للكمال ابن الهمام [كِتَابُ الْحَجْرِ]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ضَرُورَةِ جَعْلِ الشَّارِعِ عَدَمَهُ عَفْوًا وَاعْتَبَرَ
الْمُرَكَّبَ مَوْجُودًا حُكْمًا وَقَدْ بُيِّنَ ذَلِكَ فِي
كُتُب الْأُصُولِ بِمَا لَا مَزِيدَ عَلَيْهِ، فَعَلَى هَذَا
يَظْهَرُ تَمَشِّي مَا فِي الْكِتَابِ عَلَى هَذَا الْمَذْهَبِ
أَيْضًا فِي حَالِ الْإِكْرَاهِ عَلَى الْإِسْلَامِ
وَالْإِكْرَاهِ عَلَى الْكُفْرِ كَمَا لَا يَخْفَى تَأَمَّلْ
تَقِفْ.
(كِتَابُ الْحَجْرِ) أَوْرَدَ الْحَجْرَ عَقِيبَ الْإِكْرَاهِ
لِأَنَّ فِي كُلٍّ مِنْهُمَا سَلْبُ وِلَايَةِ الْمُخْتَارِ
عَنْ الْجَرْيِ عَلَى مُوجِبِ الِاخْتِيَارِ، إلَّا أَنَّ
الْإِكْرَاهَ لَمَّا كَانَ أَقْوَى تَأْثِيرًا لِأَنَّ فِيهِ
سَلْبَهَا عَمَّنْ لَهُ اخْتِيَارٌ صَحِيحٌ وَوِلَايَةٌ
كَامِلَةٌ، بِخِلَافِ الْحَجْرِ كَانَ أَحَقَّ بِالتَّقْدِيمِ،
كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
وَمِنْ مَحَاسِنِ الْحَجْرِ أَنَّ فِيهِ شَفَقَةً عَلَى خَلْقِ
اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَهِيَ أَحَدُ قُطْبَيْ أَمْرِ
الدِّيَانَةِ، وَالْآخَرُ التَّعْظِيمُ لِأَمْرِ اللَّهِ
تَعَالَى، وَتَحْقِيقُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَلَقَ
الْوَرَى وَفَاوَتَ بَيْنَهُمْ فِي الْحِجْرِ، فَجَعَلَ
بَعْضَهُمْ أُولِي الرَّأْيِ وَالنُّهَى، وَمِنْهُمْ أَعْلَامُ
الْهُدَى وَمَصَابِيحُ الدُّجَى وَجَعَلَ بَعْضَهُمْ مُبْتَلًى
بِبَعْضِ أَسْبَابِ الرَّدَى فِيمَا يَرْجِعُ إلَى
مُعَامَلَاتِ الدُّنْيَا، كَالْمَجْنُونِ الَّذِي هُوَ عَدِيمُ
الْعَقْلِ، وَالْمَعْتُوهِ الَّذِي هُوَ نَاقِصُ الْعَقْلِ،
فَأَثْبَتَ الْحَجْرَ عَلَيْهِمَا عَنْ التَّصَرُّفَاتِ
نَظَرًا مِنْ الشَّرْعِ لَهُمَا، لِأَنَّ الظَّاهِرَ مِنْ
تَصَرُّفِهِمَا ضَرَرٌ يَلْزَمُهُمَا، إذْ لَيْسَ لَهُمَا
عَقْلٌ كَامِلٌ يَرْدَعُهُمَا وَتَمْيِيزٌ وَافِرٌ
يَرُدُّهُمَا، وَكَذَلِكَ حَجْرُ الصَّبِيِّ وَالرَّقِيقِ.
أُمًّا الصَّبِيُّ فَفِي أَوَّلِ أَحْوَالِهِ كَالْمَجْنُونِ
وَفِي آخِرِهَا كَالْمَعْتُوهِ، فَمَا هُوَ الْمُتَوَقَّعُ
مِنْ ضَرَرِهِمَا يُتَوَقَّعُ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ.
وَأَمَّا الرَّقِيقُ فَإِنَّهُ يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ غَيْرِهِ
لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ، وَلَا يَسْتَعْمِلُ مَنْ
يَتَصَرَّفُ فِي مَالِ الْغَيْرِ مِثْلَ اسْتِعْمَالِهِ فِي
مَالِ نَفْسِهِ عَادَةً، فَسَدَّ بَابَ التَّصَرُّفِ عَلَى
الرَّقِيقِ بِالْحَجْرِ لِرِقِّهِ نَظَرًا لِلْمَوْلَى، ثُمَّ
إنَّ الْحَجْرَ فِي اللُّغَةِ هُوَ الْمَنْعُ فَإِنَّهُ
مَصْدَرُ حَجَرَ عَلَيْهِ الْقَاضِي إذَا مَنَعَهُ. وَفِي
الشَّرِيعَةِ هُوَ الْمَنْعُ عَنْ التَّصَرُّفِ فِي حَقِّ
شَخْصٍ مَخْصُوصٍ وَهُوَ الصَّغِيرُ وَالرَّقِيقُ
وَالْمَجْنُونُ، كَذَا فِي النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ.
أَقُولُ: فِيهِ قُصُورٌ.
أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الشَّرِيعَةِ لَيْسَ
هُوَ الْمَنْعَ عَنْ
(9/253)
قَالَ (الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ
لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ: الصِّغَرُ، وَالرِّقُّ، وَالْجُنُونُ،
فَلَا يَجُوزُ تَصَرُّفُ الصَّغِيرِ إلَّا بِإِذْنِ وَلِيِّهِ،
وَلَا تَصَرُّفُ الْعَبْدِ إلَّا بِإِذْنِ سَيِّدِهِ، وَلَا
تَصَرُّفُ الْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ بِحَالٍ) . أَمَّا
الصَّغِيرُ فَلِنُقْصَانِ عَقْلِهِ، غَيْرَ أَنَّ إذْنَ
الْوَلِيِّ آيَةُ أَهْلِيَّتِهِ، وَالرِّقُّ لِرِعَايَةِ حَقِّ
الْمَوْلَى كَيْ لَا يَتَعَطَّلَ مَنَافِعُ عَبْدِهِ. وَلَا
يَمْلِكُ رَقَبَتَهُ بِتَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ
الْمَوْلَى بِالْإِذْنِ رَضِيَ بِفَوَاتِ حَقِّهِ،
وَالْجُنُونُ لَا تُجَامِعُهُ الْأَهْلِيَّةُ فَلَا يَجُوزُ
تَصَرُّفُهُ بِحَالٍ، أَمَّا الْعَبْدُ فَأَهْلٌ فِي نَفْسِهِ
وَالصَّبِيُّ تُرْتَقَبُ أَهْلِيَّتُهُ فَلِهَذَا وَقَعَ
الْفَرْقُ. قَالَ (وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا وَهُوَ
يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ،
إنْ شَاءَ أَجَازَهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِنْ
شَاءَ فَسَخَهُ) لِأَنَّ التَّوَقُّفَ فِي الْعَبْدِ لِحَقِّ
الْمَوْلَى فَيَتَخَيَّرُ فِيهِ، وَفِي الصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ نَظَرًا لَهُمَا فَيَتَحَرَّى مَصْلَحَتَهُمَا
فِيهِ، وَلَا بُدَّ أَنْ يَعْقِلَا الْبَيْعَ لِيُوجَدَ رُكْنُ
الْعَقْدِ فَيَنْعَقِدُ مَوْقُوفًا عَلَى الْإِجَازَةِ،
وَالْمَجْنُونُ قَدْ يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ وَإِنْ
كَانَ لَا يُرَجِّحُ الْمَصْلَحَةَ عَلَى الْمَفْسَدَةِ وَهُوَ
الْمَعْتُوهُ الَّذِي يَصْلُحُ وَكِيلًا عَنْ غَيْرِهِ كَمَا
بَيَّنَّا فِي الْوَكَالَةِ. فَإِنْ قِيلَ: التَّوَقُّفُ
عِنْدَكُمْ فِي الْبَيْعِ. أَمَّا الشِّرَاءُ فَالْأَصْلُ
فِيهِ النَّفَاذُ عَلَى الْمُبَاشِرِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
التَّصَرُّفِ مُطْلَقًا بَلْ هُوَ مَنْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ
قَوْلًا لَا فِعْلًا كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ مَا سَيَأْتِي فِي
الْكِتَابِ مِنْ أَنَّ هَذِهِ الْمَعَانِيَ الثَّلَاثَةَ
يَعْنِي الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْجُنُونَ تُوجِبُ الْحَجْرَ
فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ. وَأَمَّا ثَانِيًا
فَلِأَنَّ الْمَحْجُورَ عَلَيْهِ غَيْرُ مُنْحَصِرٍ فِي
الصَّغِيرِ وَالرَّقِيقِ وَالْمَجْنُونِ. بَلْ الْمُفْتِي
الْمَاجِنُ وَالْمُتَطَبِّبُ الْجَاهِلُ وَالْمُكَارِي
الْمُفْلِسُ مَحْجُورٌ عَلَيْهِمْ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، كَمَا صَرَّحُوا بِذَلِكَ
كُلِّهِ فِي عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ، وَسَيَأْتِي فِي
الْكِتَابِ شَيْئًا فَشَيْئًا، فَقَوْلُهُ فِي ذَيْلِ
التَّعْرِيفِ وَهُوَ الصَّغِيرُ وَالرَّقِيقُ وَالْمَجْنُونُ
تَفْسِيرٌ زَائِدٌ وَتَقْيِيدٌ كَاسِدٌ. وَبِالْجُمْلَةِ فِي
التَّعْرِيفِ الْمَزْبُورِ تَقْصِيرٌ مِنْ حَيْثُ إطْلَاقُ
الْمُقَيَّدِ وَتَقْيِيدُ الْمُطْلَقِ.
وَقَالَ فِي الْكَافِي: الْحَجْرُ فِي اللُّغَةِ الْمَنْعُ.
وَفِي الشَّرْعِ مَنْعٌ عَنْ التَّصَرُّفِ قَوْلًا بِصِغَرٍ
وَرِقٍّ وَجُنُونٍ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِيهِ تَدَارُكٌ لِلْمَحْذُورِ الْأَوَّلِ، وَلَكِنْ
يَبْقَى الْمَحْذُورُ الثَّانِي عَلَى حَالِهِ كَمَا لَا
يَخْفَى، فَالْأَوَّلُ مَا ذُكِرَ فِي مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ
فَإِنَّهُ قَالَ فِيهِ: ثُمَّ الْحَجْرُ لُغَةً الْمَنْعُ
مَصْدَرُ حَجَرَ عَلَيْهِ. وَشَرْعًا مَنْعٌ مَخْصُوصٌ وَهُوَ
الْمَنْعُ مِنْ التَّصَرُّفِ قَوْلًا لِشَخْصٍ مَعْرُوفٍ
مَخْصُوصٍ وَهُوَ الْمُسْتَحِقُّ لِلْحَجْرِ بِأَيِّ سَبَبٍ
كَانَ انْتَهَى تَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ الْأَسْبَابُ الْمُوجِبَةُ لِلْحَجْرِ ثَلَاثَةٌ:
الصِّغَرُ، وَالرِّقُّ، وَالْجُنُونُ) هَذِهِ الثَّلَاثَةُ
بِالِاتِّفَاقِ. وَأَلْحَقَ بِمَا اُشْتُقَّ مِنْهَا ثَلَاثَةً
أُخْرَى بِالِاتِّفَاقِ أَيْضًا وَهِيَ: الْمُفْتِي
الْمَاجِنُ، وَالْمُتَطَبِّبُ الْجَاهِلُ، وَالْمُكَارِي
الْمُفْلِسُ. وَأَمَّا حَجْرُ الْمَدْيُونِ وَالسَّفِيهِ
بَعْدَمَا بَلَغَ رَشِيدًا فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، كَذَا فِي الشُّرُوحِ.
أَقُولُ: قَدْ أَطْبَقَتْ كَلِمَةُ الْفُقَهَاءِ فِي كُتُبِ
الْفُرُوعِ عَلَى إدْرَاجِ الْعَتَهِ فِي الْجُنُونِ
(9/254)
قُلْنَا: نَعَمْ إذَا وَجَدَ نَفَاذًا
عَلَيْهِ كَمَا فِي شِرَاءِ الْفُضُولِيِّ، وَهَاهُنَا لَمْ
نَجِدْ نَفَاذًا لِعَدَمِ الْأَهْلِيَّةِ أَوْ لِضَرَرِ
الْمَوْلَى فَوَقَفْنَاهُ. قَالَ (وَهَذِهِ الْمَعَانِي
الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ
الْأَفْعَالِ) لِأَنَّهُ لَا مَرَدَّ لَهَا لِوُجُودِهَا
حِسًّا وَمُشَاهَدَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَجَعْلِ الْأَسْبَابِ الْأَصْلِيَّةِ الْمُتَّفَقِ عَلَيْهَا
ثَلَاثَةً وَهِيَ: الصِّغَرُ، وَالرِّقُّ، وَالْجُنُونُ.
وَفِي كُتُبِ الْأُصُولِ عَلَى جَعْلِ الْعَتَهِ قَسِيمًا
لِلْجُنُونِ كَسَائِرِ الْأُمُورِ الْمُعْتَرِضَةِ عَلَى
الْأَهْلِيَّةِ وَمُخَالِفًا لَهُ فِي أَكْثَرِ الْأَحْكَامِ،
فَقَدْ خَالَفَ اصْطِلَاحُهُمْ فِي الْفُرُوعِ اصْطِلَاحَهُمْ
فِي الْأُصُولِ وَهَذَا مِنْ النَّوَادِرِ (قَوْلُهُ وَهَذِهِ
الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ) الَّتِي هِيَ الصِّغَرُ وَالرِّقُّ
وَالْجُنُونُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ، حَتَّى
أَوْجَبَ التَّوَقُّفَ فِي الْأَقْوَالِ الَّتِي تُرَدَّدُ
بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ
بِطَرِيقِ الْعُمُومِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ
وَالْعَبْدِ.
وَأَوْجَبَ الْحَجْرَ مِنْ الْأَصْلِ بِالْإِعْدَامِ فِي
حُكْمِ أَقْوَالٍ تَتَمَحَّضُ ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ، وَالْمَجْنُونُ دُونَ
الْعَبْدِ فَإِنَّهُ يَمْلِكُ الطَّلَاقَ، كَذَا فِي
النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي
حَلِّ هَذَا الْمَحَلِّ: وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ:
يَعْنِي الصِّغَرَ وَالرِّقَّ وَالْجُنُونَ تُوجِبُ الْحَجْرَ
فِي الْأَقْوَالِ: يَعْنِي مَا تَرَدَّدَ مِنْهَا بَيْنَ
النَّفْعِ وَالضُّرِّ كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ: أَيْ هَذِهِ
الْمَعَانِي تُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ عَلَى
الْعُمُومِ بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ،
وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ الْإِعْدَامَ مِنْ الْأَصْلِ
فِي حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ دُونَ الْعَبْدِ،
وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ مِنْهَا نَفْعًا كَقَبُولِ الْهِبَةِ
وَالْهَدِيَّةِ وَالصَّدَقَةِ فَإِنَّهُ لَا حَجْرَ فِيهِ
عَلَى الْعُمُومِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: خَصَّصَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ الْأَقْوَالَ
الْمَذْكُورَةَ فِي مَسْأَلَةِ الْكِتَابِ بِالْأَقْوَالِ
الْمُتَرَدِّدَةِ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ حَيْثُ قَالَ:
أَعْنِي مَا تَرَدَّدَ مِنْهَا بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ
كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ، فَلَمَّا أَخْرَجَ عَنْ
الْأَقْوَالِ مَا تَمَحَّضَ نَفْعًا وَمَا تَمَحَّضَ ضَرَرًا
وَكَانَ فَائِدَةُ إخْرَاجِ الْأَوَّلِ ظَاهِرَةً لِعَدَمِ
ثُبُوتِ الْحَجْرِ فِيهَا أَصْلًا دُونَ فَائِدَةِ ثُبُوتِ
إخْرَاجِ الثَّانِي لِثُبُوتِ الْحَجْرِ فِيهِ أَيْضًا فِي
حَقِّ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ خَصَّصَ مَعْنَى إيجَابِ
الْحَجْرِ أَيْضًا حَيْثُ قَالَ: أَيْ هَذِهِ الْمَعَانِي
تُوجِبُ التَّوَقُّفَ عَلَى الْإِجَازَةِ عَلَى الْعُمُومِ
بَيْنَ الصَّغِيرِ وَالْمَجْنُونِ وَالْعَبْدِ، وَأَشَارَ
بِذَلِكَ إلَى عَدَمِ ثُبُوتِ الْحَجْرِ بِهَذَا الْمَعْنَى
الْمَخْصُوصِ فِيمَا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا مِنْ الْأَقْوَالِ.
وَنَبَّهَ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: وَأَمَّا مَا يَتَمَحَّضُ
مِنْهَا ضَرَرًا كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ فَإِنَّهُ يُوجِبُ
الْإِعْدَامَ مِنْ الْأَصْلِ فِي حَقِّ الصَّغِيرِ
وَالْمَجْنُونِ دُونَ الْعَبْدِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ
عِبَارَةَ الْكِتَابِ مَعَ عَدَمِ مُسَاعَدَتِهَا لِشَيْءٍ
مِنْ التَّخْصِيصَيْنِ الْمَذْكُورَيْنِ يَلْزَمُ إذْ ذَاكَ
مَحْذُورَانِ: أَحَدُهُمَا أَنَّهُ عَلَى ذَلِكَ الْمَعْنَى
الَّذِي ذَهَبَ إلَيْهِ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ يَصِيرُ مَآلُ
مَعْنَى هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ وَهَذِهِ
الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ
مَعْنَى الْمَسْأَلَةِ السَّابِقَةِ وَهِيَ قَوْلُهُ: وَمَنْ
بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا أَوْ اشْتَرَاهُ وَهُوَ يَعْقِلُ
الْبَيْعَ وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ
أَجَازَهُ إذَا كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ، وَإِنْ شَاءَ
(9/255)
بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ، لِأَنَّ
اعْتِبَارَهَا مَوْجُودَةً بِالشَّرْعِ وَالْقَصْدُ مِنْ
شَرْطِهِ (إلَّا إذَا كَانَ فِعْلًا يَتَعَلَّقُ بِهِ حُكْمٌ
يَنْدَرِئُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَسَخَهُ فَلَا يَكُونُ فِي إعَادَةِ الثَّانِيَةِ فَائِدَةٌ
إلَّا تَجَرُّدُ كَوْنِهَا تَوْطِئَةً لِقَوْلِهِ دُونَ
الْأَفْعَالِ. وَثَانِيهِمَا أَنَّهُ لَا يُنَاسِبُ حِينَئِذٍ
إدْرَاجَ مَا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا مِنْ الْأَقْوَالِ
كَالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ، وَالْإِقْرَارُ فِي الْمَسَائِلِ
الْمُتَفَرِّعَةِ عَلَى هَذَا الْأَصْلِ وَهُوَ قَوْلُهُ
وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةِ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي
الْأَقْوَالِ، وَقَدْ أَدْرَجَهُ فِيهَا فِي الْكِتَابِ حَيْثُ
قَالَ فِيمَا بَعْدُ: وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ
عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا
وَلَا عَتَاقُهُمَا.
وَصَرَّحَ الشَّارِحُ الْمَزْبُورُ وَغَيْرُهُ هُنَاكَ بِأَنَّ
تِلْكَ الْمَسَائِلَ ذُكِرَتْ تَفْرِيعًا عَلَى الْأَصْلِ
الْمَذْكُورِ، وَقَدْ وَقَعَ التَّصْرِيحُ بِفَاءِ
التَّفْرِيعِ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ فِي قَوْلِهِ
فَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا يَصِحُّ عُقُودُهُمَا وَلَا
إقْرَارُهُمَا، وَلَا يَقَعُ طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا
بَعْدَ قَوْلِهِ وَهَذِهِ الْمَعَانِي الثَّلَاثَةُ تُوجِبُ
الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ دُونَ الْأَفْعَالِ فَتَعَيَّنَ
التَّفْرِيعُ بِنَفْسِ عِبَارَتِهِ.
فَالْوَجْهُ عِنْدِي أَنَّ اللَّامَ فِي الْأَقْوَالِ فِي
قَوْلِهِ تُوجِبُ الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ لِلْجِنْسِ،
وَأَنَّ الْمُرَادَ بِإِيجَابِ الْحَجْرِ فِي قَوْلِهِ تُوجِبُ
الْحَجْرَ فِي الْأَقْوَالِ مَا يَعُمُّ إيجَابَ التَّوَقُّفِ
عَلَى الْإِجَازَةِ كَمَا فِي الْأَقْوَالِ الْمُتَرَدِّدَةِ
بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ، وَإِيجَابُ الْإِعْدَامِ مِنْ
الْأَصْلِ كَمَا فِي الْأَقْوَالِ الْمُتَمَحِّضَةِ لِلضَّرَرِ
فَلَا يَحْتَاجُ إلَى إخْرَاجِ هَذَا الْقِسْمِ: أَعْنِي مَا
تَمَحَّضَ ضَرَرًا عَنْ الْأَقْوَالِ الْمَذْكُورَةِ فِي
الْأَصْلِ الْمَسْفُورِ، بَلْ هَذَا الْقِسْمُ أَيْضًا دَاخِلٌ
فِي جِنْسِ الْأَقْوَالِ فَيَشْمَلُهُ ذَلِكَ الْأَصْلُ
فَيُنَاسِبُ تَفْرِيعَ الْمَسَائِلِ الْآتِيَةِ بِأَسْرِهَا
عَلَيْهِ، وَلَا يَضُرُّ عَدَمُ تَحَقُّقِ الْحَجْرِ فِي
الْأَقْوَالِ الَّتِي تَتَمَحَّضُ نَفْعًا، لِأَنَّ تَحَقُّقَ
الْحَجْرِ فِي جِنْسِ الْأَقْوَالِ لَا يَقْتَضِي تَحَقُّقَهُ
فِي جَمِيعِ أَفْرَادِهَا فَصَارَ الْأَصْلُ الْمَزْبُورُ
مُجْمَلًا وَمَا فُرِّعَ عَلَيْهِ مِنْ الْمَسَائِلِ
تَبْيِينًا لَهُ، فَمَا جُعِلَ فِي تِلْكَ الْمَسَائِلِ مِمَّا
يُحْجَرُ فَهُوَ دَاخِلٌ تَحْتَ حُكْمِ الْحَجْرِ، وَمَا لَا
فَلَا تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ بِخِلَافِ الْأَقْوَالِ
لِأَنَّ اعْتِبَارَهَا مَوْجُودَةً بِالشَّرْعِ وَالْقَصْدُ
مِنْ شَرْطِهِ) أَقُولُ: فِيهِ إشْكَالٌ، لِأَنَّ الطَّلَاقَ
وَالْعَتَاقَ وَالْعَفْوَ عَنْ الْقِصَاصِ وَالْيَمِينَ
وَالنَّذْرَ كُلَّهَا مِنْ الْأَقْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي
الشَّرْعِ مَعَ أَنَّ الْقَصْدَ لَيْسَ بِشَرْطٍ
لِاعْتِبَارِهَا فِي الشَّرْعِ، أَلَا يَرَى أَنَّ طَلَاقَ
الْعَاقِلِ الْبَالِغِ هَازِلًا، وَكَذَا عَتَاقُ الْحُرِّ
الْبَالِغِ الْعَاقِلِ هَازِلًا، وَكَذَا يَمِينُهُ هَازِلًا
وَنَذْرُهُ هَازِلًا صَحِيحٌ مُعْتَبَرٌ فِي الشَّرْعِ عَلَى
مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي مَوَاضِعِهَا سِيَّمَا فِي مَبَاحِثِ
الْهَزْلِ مِنْ كُتُبِ الْأُصُولِ، مَعَ أَنَّ الْهَزْلَ
يُنَافِي الْقَصْدَ لَا مَحَالَةَ، فَإِنَّ عَدَمَ الْقَصْدِ
وَالْإِرَادَةِ مُعْتَبَرٌ فِي نَفْسِ مَفْهُومِ الْهَزْلِ.
وَقَالَ فِي الْعِنَايَةِ: فَإِنْ قِيلَ: الْأَقْوَالُ
مَوْجُودَةٌ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً فَمَا بَالُهَا شَرْطُ
اعْتِبَارِهَا مَوْجُودَةً شَرْطًا بِالْقَصْدِ دُونَ
الْأَفْعَالِ؟ فَالْجَوَابُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا
أَنَّ الْأَقْوَالَ الْمَوْجُودَةَ حِسًّا وَمُشَاهَدَةً
لَيْسَتْ عَيْنَ مَدْلُولَاتِهَا بَلْ هِيَ دَلَالَاتٌ
عَلَيْهَا، وَيُمْكِنُ تَخَلُّفُ الْمَدْلُولِ عَنْ دَلِيلِهِ
فَيُمْكِنُ أَنْ يُجْعَلَ الْقَوْلُ الْمَوْجُودُ بِمَنْزِلَةِ
الْمَعْدُومِ بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّ الْمَوْجُودَ
مِنْهَا عَيْنُهَا، فَبَعْدَمَا وُجِدَتْ لَا يُمْكِنُ أَنْ
تُجْعَلَ غَيْرَ مَوْجُودَةٍ. وَالثَّانِي أَنَّ الْقَوْلَ
قَدْ يَقَعُ صِدْقًا وَقَدْ يَقَعُ كَذِبًا وَقَدْ يَقَعُ
جِدًّا وَقَدْ يَقَعُ هَزْلًا
(9/256)
بِالشُّبُهَاتِ كَالْحُدُودِ وَالْقِصَاصِ)
فَيُجْعَلُ عَدَمُ الْقَصْدِ فِي ذَلِكَ شُبْهَةً فِي حَقِّ
الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ.
قَالَ (وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُمَا
وَلَا إقْرَارُهُمَا) لِمَا بَيَّنَّا (وَلَا يَقَعُ
طَلَاقُهُمَا وَلَا عَتَاقُهُمَا) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «كُلُّ طَلَاقٍ وَاقِعٌ إلَّا
طَلَاقَ الصَّبِيِّ وَالْمَعْتُوهِ» وَالْإِعْتَاقُ
يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً، وَلَا وُقُوفَ لِلصَّبِيِّ عَلَى
الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ،
وَلَا وُقُوفَ لِلْوَلِيِّ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى
اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ، فَلِهَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَلَا بُدَّ مِنْ الْقَصْدِ؛ أَلَا يُرَى أَنَّ الْقَوْلَ مِنْ
الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ إذَا وُجِدَ هَزْلًا لَمْ
يُعْتَبَرْ شَرْعًا فَكَذَا مِنْ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ،
بِخِلَافِ الْأَفْعَالِ فَإِنَّهَا حَيْثُ وَقَعَتْ وَقَعَتْ
حَقِيقَةً فَلَا يُمْكِنُ تَبْدِيلُهَا انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي كُلٍّ مِنْ وَجْهَيْ الْجَوَابِ نَظَرٌ. أَمَّا
فِي الْأَوَّلِ فَإِنَّهُ غَيْرُ مُتَمَشٍّ فِي
الْإِنْشَاءَاتِ لِأَنَّهَا إيجَادَاتٌ لَا يُمْكِنُ تَخَلُّفُ
مَدْلُولَاتِهَا عَنْهَا، وَلَا يَخْفَى أَنَّ أَكْثَرَ
الْأَقْوَالِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي الشَّرْعِ فِي إفَادَةِ
الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ مِنْ قَبِيلِ الْإِنْشَاءَاتِ
فَلَا يَتِمُّ التَّقْرِيبُ.
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَلِأَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِمَا تَسَاوَى
فِيهِ الْجَدُّ وَالْهَزْلُ مِنْ الْأَقْوَالِ كَالطَّلَاقِ
وَالْعَتَاقِ وَنَحْوِهِمَا تَدَبَّرْ تَفْهَمْ
(قَوْلُهُ وَالصَّبِيُّ وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ
عُقُودُهُمَا وَلَا إقْرَارُهُمَا إلَخْ) أَرَادَ بِعَدَمِ
الصِّحَّةِ عَدَمَ النَّفَاذِ لِمَا تَقَدَّمَ فِي قَوْلِهِ
وَمَنْ بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا فَالْوَلِيُّ
بِالْخِيَارِ، وَإِنَّمَا أَعَادَ الْمَسْأَلَةَ تَفْرِيعًا
عَلَى الْأَصْلِ الْمَذْكُورِ، وَهُوَ أَنَّ هَذِهِ
الْمَعَانِي الثَّلَاثَةَ تُوجِبُ الْحَجْرَ عَنْ الْأَقْوَالِ
لِتَنْسَاقَ الْقَوْلِيَّاتُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ، كَذَا فِي
الْعِنَايَةِ وَالنِّهَايَةِ.
قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ وَإِذَا أُرِيدَ بِالصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ الصَّبِيُّ الْغَيْرُ الْعَاقِلِ
وَالْمَجْنُونُ الْمَغْلُوبُ لَا يَحْتَاجُ إلَى تَأْوِيلِ
عَدَمِ الصِّحَّةِ بِعَدَمِ النَّفَاذِ، وَيَخْلُصُ كَلَامُ
الْمُصَنِّفِ عَنْ وَصْمَةِ التَّكْرَارِ انْتَهَى.
وَقَدْ أُخِذَ هَذَا الْمَعْنَى مِنْ آخِرِ كَلَامِ صَاحِبِ
غَايَةِ الْبَيَانِ هَاهُنَا، فَإِنَّهُ قَالَ: أَرَادَ
بِقَوْلِهِ لَا يَصِحُّ لَا يَنْفُذُ لِأَنَّ بَيْعَهُمَا
وَسَائِرَ تَصَرُّفَاتِهِمَا الَّذِي يَتَرَدَّدُ بَيْنَ
النَّفْعِ وَالضُّرِّ مَوْقُوفٌ عَلَى إجَازَةِ الْوَلِيِّ،
أَلَا يُرَى إلَى مَا قَالَ قَبْلَ هَذَا بِقَوْلِهِ وَمَنْ
بَاعَ مِنْ هَؤُلَاءِ شَيْئًا وَهُوَ يَعْقِلُ الْبَيْعَ
وَيَقْصِدُهُ فَالْوَلِيُّ بِالْخِيَارِ، إنْ شَاءَ أَجَازَهُ،
إلَّا إذَا أُرِيدَ بِقَوْلِهِ وَالصَّبِيُّ مَنْ لَا يَعْقِلُ
أَصْلًا وَبِقَوْلِهِ وَالْمَجْنُونُ الَّذِي لَا يُفِيقُ
أَصْلًا فَحِينَئِذٍ يَجْرِي قَوْلُهُ وَلَا يَصِحُّ عَلَى
ظَاهِرِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: لَا مَسَاغَ لِذَلِكَ الِاحْتِمَالِ لِأَنَّ حَمْلَ
الصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ فِي قَوْلِهِ وَالصَّبِيُّ
وَالْمَجْنُونُ لَا تَصِحُّ عُقُودُهُمَا عَلَى الصَّبِيِّ
الْغَيْرِ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ فَقَطْ
مِمَّا لَا تُسَاعِدُهُ الْقَاعِدَةُ، فَإِنَّ الْمُعَرَّفَ
فَاللَّامُ التَّعْرِيفِ إذَا لَمْ يَكُنْ هُنَاكَ مَعْهُودٌ
إنَّمَا يُحْمَلُ عَلَى الْجِنْسِ فِي قَاعِدَةِ أَهْلِ
الْعَرَبِيَّةِ، وَعَلَى الِاسْتِغْرَاقِ فِي قَاعِدَةِ أَهْلِ
الْأُصُولِ كَمَا تَقَرَّرَ كُلُّهُ فِي مَوْضِعِهِ،
فَهَاهُنَا الصَّبِيُّ الْغَيْرُ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونُ
الْمَغْلُوبُ لَمْ يُعْهَدَا بِخُصُوصِهِمَا قَطْعًا، فَلَا
بُدَّ أَنْ يُرَادَ بِالصَّبِيِّ وَالْمَجْنُونِ
الْمَذْكُورَيْنِ هَاهُنَا جِنْسُهُمَا أَوْ جَمِيعُ
أَفْرَادِهِمَا عَلَى إحْدَى الْقَاعِدَتَيْنِ لَا حِصَّةٌ
مَخْصُوصَةٌ مِنْهُمَا كَمَا تُوُهِّمَ.
وَلَئِنْ سُلِّمَ مُسَاعَدَةُ الْقَاعِدَةِ لِذَلِكَ، فَلَوْ
أُرِيدَ بِهِمَا هَاهُنَا ذَلِكَ الْقِسْمُ الْمُعَيَّنُ
مِنْهُمَا لَزِمَ أَنْ لَا تَكُونَ أَحْكَامُ عُقُودِ
الصَّبِيِّ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ الْغَيْرِ الْمَغْلُوبِ
الَّذِي هُوَ الْمَعْتُوهُ وَلَا أَحْكَامُ إقْرَارِهِمَا
وَطَلَاقِهِمَا وَعَتَاقِهِمَا مَذْكُورَةً فِي كِتَابِ
الْحَجْرِ أَصْلًا، إذْ مَوْضِعُ ذِكْرِ تِلْكَ الْأَحْكَامِ
هُنَا وَلَمْ تُذْكَرْ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ مِنْ هَذَا
الْكِتَابِ، فَيَلْزَمُ أَنْ تَكُونَ مَتْرُوكَةً سُدًى وَلَا
يَخْفَى فَسَادُهُ.
وَلَا يَخْتَلِجَنَّ فِي وَهْمِكَ أَنَّهَا تُفْهَمُ مِمَّا
ذُكِرَ دَلَالَةً، لِأَنَّ سَبَبَ الْحَجْرِ فِي الصَّبِيِّ
الْغَيْرِ الْعَاقِلِ وَالْمَجْنُونِ الْمَغْلُوبِ أَقْوَى
مِنْ سَبَبِهِ فِي غَيْرِهِمَا فَلَا يَدُلُّ عَدَمُ صِحَّةِ
تَصَرُّفٍ فِي حَقِّهِمَا عَلَى عَدَمِ صِحَّتِهِ فِي حَقِّ
غَيْرِهِمَا كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَالْإِعْتَاقُ
يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً، وَلَا وُقُوفَ لِلصَّبِيِّ عَلَى
الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ لِعَدَمِ الشَّهْوَةِ،
وَلَا وُقُوفَ لِلْوَلِيِّ عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى
اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ) قَالَ صَاحِبُ
الْعِنَايَةِ فِي شَرْحِ هَذَا الْمَقَامِ: وَالْإِعْتَاقُ
يَتَمَحَّضُ مَضَرَّةً لَا مَحَالَةَ، وَالطَّلَاقُ وَإِنْ
أَمْكَنَ أَنْ يَتَرَدَّدَ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ
بِاعْتِبَارِ مُوَافَقَةِ الْأَخْلَاقِ بَعْدَ
(9/257)
لَا يَتَوَقَّفَانِ عَلَى إجَازَتِهِ وَلَا
يَنْفُذَانِ بِمُبَاشَرَتِهِ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ.
قَالَ (وَإِنْ أَتْلَفَا شَيْئًا لَزِمَهُمَا ضَمَانُهُ)
إحْيَاءً لِحَقِّ الْمُتْلَفِ عَلَيْهِ، وَهَذَا لِأَنَّ
كَوْنَ الْإِتْلَافِ مُوجِبًا لَا يَتَوَقَّفُ عَلَى الْقَصْدِ
كَاَلَّذِي يَتْلَفُ بِانْقِلَابِ النَّائِمِ عَلَيْهِ
وَالْحَائِطِ الْمَائِلِ بَعْدَ الْإِشْهَادِ، بِخِلَافِ
الْقَوْلِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ.
قَالَ (فَأَمَّا) (الْعَبْدُ فَإِقْرَارُهُ نَافِذٌ فِي حَقِّ
نَفْسِهِ) لِقِيَامِ أَهْلِيَّتِهِ (غَيْرُ نَافِذٍ فِي حَقِّ
مَوْلَاهُ) رِعَايَةً لِجَانِبِهِ، لِأَنَّ نَفَاذَهُ لَا
يَعْرَى عَنْ تَعَلُّقِ الدَّيْنِ بِرَقَبَتِهِ أَوْ كَسْبِهِ،
وَكُلُّ ذَلِكَ إتْلَافُ مَالِهِ.
قَالَ (فَإِنْ أَقَرَّ بِمَالٍ لَزِمَهُ بَعْدَ الْحُرِّيَّةِ)
لِوُجُودِ الْأَهْلِيَّةِ وَزَوَالِ الْمَانِعِ وَلَمْ
يَلْزَمْهُ فِي الْحَالِ لِقِيَامِ الْمَانِعِ (وَإِنْ أَقَرَّ
بِحَدٍّ أَوْ قِصَاصٍ لَزِمَهُ فِي الْحَالِ) لِأَنَّهُ
مُبْقًى عَلَى أَصْلِ الْحُرِّيَّةِ فِي حَقِّ الدَّمِ حَتَّى
لَا يَصِحُّ إقْرَارُ الْمَوْلَى عَلَيْهِ بِذَلِكَ
(وَيَنْفُذُ طَلَاقُهُ) لِمَا رَوَيْنَا، وَلِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لَا يَمْلِكُ الْعَبْدُ
وَالْمُكَاتَبُ شَيْئًا إلَّا الطَّلَاقَ» وَلِأَنَّهُ عَارِفٌ
بِوَجْهِ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ فَكَانَ أَهْلًا، وَلَيْسَ فِيهِ
إبْطَالُ مِلْكِ الْمَوْلَى وَلَا تَفْوِيتُ مَنَافِعِهِ
فَيَنْفُذُ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْبُلُوغِ، لَكِنَّ الصَّبِيَّ لَا وُقُوفَ لَهُ عَلَى
الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ بِحَالٍ.
أَمَّا فِي الْحَالِ فَلِعَدَمِ الشَّهْوَةِ، وَأَمَّا فِي
الْمَآلِ فَلِأَنَّ عِلْمَ الْمَصْلَحَةِ فِيهِ يَتَوَقَّفُ
عَلَى الْعِلْمِ بِتَبَايُنِ الْأَخْلَاقِ وَتَنَافُرِ
الطِّبَاعِ عِنْدَ بُلُوغِهِ حَدَّ الشَّهْوَةِ وَلَا عِلْمَ
لَهُ بِذَلِكَ، وَالْوَلِيُّ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ
عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ لَكِنْ لَا وُقُوفَ لَهُ
عَلَى عَدَمِ التَّوَافُقِ عَلَى اعْتِبَارِ بُلُوغِهِ حَدَّ
الشَّهْوَةِ انْتَهَى كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِيهِ بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ جَعْلَهُ
الطَّلَاقَ مِمَّا يَتَرَدَّدُ بَيْنَ النَّفْعِ وَالضُّرِّ
مُخَالِفٌ لِمَا صَرَّحَ بِهِ نَفْسُهُ وَسَائِرُ الشُّرَّاحِ
فِيمَا مَرَّ مِنْ أَنَّهُ مِمَّا يَتَمَحَّضُ ضَرَرًا.
اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُهُ هَاهُنَا عَلَى
التَّنَزُّلِ وَالتَّسْلِيمِ فَتَأَمَّلْ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّهُ إنْ أَرَادَ بِالْمَصْلَحَةِ
فِي قَوْلِهِ وَالْوَلِيُّ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ عَلَى
مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ مَصْلَحَةَ الصَّبِيِّ فِي
الطَّلَاقِ كَمَا هُوَ الْمُلَائِمُ لِمَا نَحْنُ فِيهِ وَهُوَ
الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ مِنْ قَبْلُ لَكِنَّ الصَّبِيَّ لَا
وُقُوفَ لَهُ عَلَى الْمَصْلَحَةِ فِي الطَّلَاقِ يَلْزَمُ
أَنْ لَا يَتِمَّ قَوْلُهُ وَإِنْ أَمْكَنَ أَنْ يَقِفَ عَلَى
مَصْلَحَتِهِ فِي الْحَالِ، لِأَنَّ عِلَّةَ عَدَمِ الْوُقُوفِ
عَلَى مَصْلَحَتِهِ فِي الطَّلَاقِ فِي الْحَالِ عَدَمُ
شَهْوَتِهِ فِي الْحَالِ، كَمَا أَفْصَحَ عَنْهُ الْمُصَنِّفُ
وَالشَّارِحُ الْمَزْبُورُ فِي تَعْلِيلِ عَدَمِ وُقُوفِ
الصَّبِيِّ عَلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، فَعِنْدَ تَقَرُّرِ
هَاتِيكَ الْعِلَّةِ كَيْفَ يُمْكِنُ لِلْوَلِيِّ أَنْ يَقِفَ
عَلَى تِلْكَ الْمَصْلَحَةِ، وَإِنْ أَرَادَ بِالْمَصْلَحَةِ
الْمَذْكُورَةِ مَصْلَحَتَهُ فِي غَيْرِ الطَّلَاقِ يَكُونُ
ذِكْرُهَا لَغْوًا فِي إثْبَاتِ مَا نَحْنُ فِيهِ كَمَا لَا
يَخْفَى.
(9/258)
[بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ]
ِ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: لَا يُحْجَرُ
عَلَى الْحُرِّ الْبَالِغِ الْعَاقِلِ السَّفِيهِ،
وَتَصَرُّفُهُ فِي مَالِهِ جَائِزٌ وَإِنْ كَانَ مُبَذِّرًا
مُفْسِدًا يُتْلِفُ مَالَهُ فِيمَا لَا غَرَضَ لَهُ فِيهِ
وَلَا مَصْلَحَةَ. وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ
رَحِمَهُمَا اللَّهُ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: يُحْجَرُ عَلَى السَّفِيهِ وَيُمْنَعُ مِنْ
التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
(بَابُ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ) أَخَّرَ هَذَا الْبَابَ لِأَنَّ
أَسْبَابَ الْحَجْرِ فِيمَا تَقَدَّمَ عَلَيْهِ سَمَاوِيَّةٌ.
وَسَبَبُ الْحَجْرِ هَاهُنَا مُكْتَسَبٌ، وَالسَّمَاوِيُّ فِي
التَّأْثِيرِ أَقْوَى فَكَانَ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى،
وَلِأَنَّ الْحَجْرَ فِي الْأَوَّلِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَفِي
الثَّانِي مُخْتَلَفٌ فِيهِ، وَالْمُتَّفَقُ عَلَيْهِ أَحْرَى
بِالتَّقْدِيمِ.
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَالْمُرَادُ بِالْفَسَادِ هَاهُنَا
هُوَ السَّفَهُ، وَهُوَ خِفَّةٌ تَعْتَرِي الْإِنْسَانَ
فَتَحْمِلُهُ عَلَى الْعَمَلِ بِخِلَافِ مُوجَبِ الشَّرْعِ
وَالْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ، وَقَدْ غَلَبَ فِي عُرْفِ
الْفُقَهَاءِ عَلَى تَبْذِيرِ الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى
خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ انْتَهَى. أَقُولُ:
فِي تَفْسِيرِ كُلٍّ مِنْ مَعْنَى السَّفَهِ عَلَى الْوَجْهِ
الْمَذْكُورِ شَيْءٌ. أَمَّا فِي الْأَوَّلِ فَهُوَ أَنَّ
الْعَمَلَ بِخِلَافِ مُوجَبِ الْعَقْلِ مَعَ قِيَامِ الْعَقْلِ
مُشْكِلٌ، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ مُوجَبَ الشَّيْءِ لَا
يَتَخَلَّفُ عَنْهُ، وَعَنْ هَذَا قَالَ فِي الْمَبْسُوطِ
وَالْكَافِي: السَّفَهُ هُوَ الْعَمَلُ بِخِلَافِ مُوجَبِ
الشَّرْعِ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَتَرْكُ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ
الْحِجَا.
وَأَمَّا فِي الثَّانِي فَهُوَ أَنَّهُ إنْ كَانَ مَعْنَى
السَّفَهِ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ تَبْذِيرَ الْمَالِ
وَإِتْلَافَهُ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ وَالشَّرْعِ
فَكَيْفَ الْقَوْلُ مِنْ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -
بِعَدَمِ الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ، إذْ لَا مَسَاغَ
لِعَدَمِ الْمَنْعِ عَمَّا هُوَ خِلَافُ مُقْتَضَى الشَّرْعِ
عِنْدَ أَحَدِ الْفُقَهَاءِ.
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ الْمُرَادَ
بِخِلَافِ مُوجَبِ الْعَقْلِ خِلَافُ مُوجَبِ حُكْمِ الْعَقْلِ
لَا خِلَافُ مُوجَبِ نَفْسِ الْعَقْلِ، فَاللَّازِمُ عَدَمُ
التَّخَلُّفِ عَنْ حُكْمِ الْعَقْلِ لَا عَنْ نَفْسِهِ وَلَا
مَحْذُورَ فِيهِ لِإِمْكَانِ الْعَمَلِ بِخِلَافِ مَا
أَوْجَبَهُ حُكْمُ الْعَقْلِ كَمَا هُوَ حَالُ النُّفُوسِ
الْخَبِيثَةِ. وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ مَا هُوَ عَلَى
خِلَافِ مُقْتَضَى الشَّرْعِ يَجِبُ أَنْ يُنْهَى عَنْهُ
مُرْتَكِبُهُ بِاللِّسَانِ عَلَى الِاتِّفَاقِ، وَمِنْهُ
عَمَلُ السَّفِيهِ بِالسَّفَهِ. وَأَمَّا الْحَجْرُ عَنْهُ
بِمَعْنَى إبْطَالِ حُكْمِ التَّصَرُّفِ بِالْكُلِّيَّةِ
وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ التَّصَرُّفُ فِي نَفْسِ مَالِ
التَّصَرُّفِ فَهُوَ أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَ ذَلِكَ لَمْ يَقُلْ
بِهِ أَبُو حَنِيفَةَ بِنَاءً عَلَى اسْتِدْعَائِهِ ضَرَرًا
أَشَدَّ مِنْ ضَرَرِ إتْلَافِ الْمَالِ كَمَا سَيَأْتِي
بَيَانُهُ فِي الْكِتَابِ.
وَقَالَ فِي النِّهَايَةِ: ثُمَّ اعْلَمْ أَنَّ مَسَائِلَ
هَذَا الْبَابِ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ، لَا عَلَى قَوْلِ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فَإِنَّهُ لَا يَرَى
الْحَجْرَ لِلْفَسَادِ وَالسَّفَهِ أَصْلًا انْتَهَى. أَقُولُ:
لَيْسَ هَذَا الْكَلَامُ بِسَدِيدٍ، فَإِنَّ أَكْثَرَ
مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ مِمَّا اتَّفَقَ عَلَيْهِ أَبُو
حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ كَقَوْلِهِ وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا
نَفَذَ عِتْقُهُ، وَقَوْلُهُ وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ،
وَقَوْلُهُ وَلَوْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ
ثَبَتَ نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا
وَالْجَارِيَةُ أُمَّ وَلَدِهِ، وَقَوْلُهُ وَإِنْ تَزَوَّجَ
امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا وَإِنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا جَازَ
مِنْهُ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا.
(9/259)
لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ
لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيه الْعَقْلُ فَيُحْجَرُ
عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ اعْتِبَارًا بِالصَّبِيِّ بَلْ أَوْلَى،
لِأَنَّ الثَّابِتَ فِي حَقِّ الصَّبِيِّ احْتِمَالُ
التَّبْذِيرِ وَفِي حَقِّهِ حَقِيقَتُهُ وَلِهَذَا مُنِعَ
عَنْهُ الْمَالُ، ثُمَّ هُوَ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ
لِأَنَّهُ يُتْلِفُ بِلِسَانِهِ مَا مُنِعَ مِنْ يَدِهِ.
وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّهُ مُخَاطَبٌ
عَاقِلٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اعْتِبَارًا بِالرَّشِيدِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَقَوْلُهُ وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَجَبَ لَهَا
النِّصْفُ، وَقَوْلُهُ وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ
السَّفِيهِ وَيُنْفَقُ عَلَى أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ
تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْ ذَوِي أَرْحَامِهِ، وَقَوْلُهُ فَإِنْ
أَرَادَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا، وَلَوْ
أَرَادَ عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا، وَقَوْلُهُ
فَإِنْ مَرِضَ وَأَوْصَى بِوَصَايَا فِي الْقُرَبِ وَأَبْوَابِ
الْخَيْرِ جَازَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِ مَالِهِ، وَقَوْلُهُ وَلَا
يُحْجَرُ الْفَاسِقُ عِنْدَنَا إذَا كَانَ مُصْلِحًا
لِمَالِهِ.
وَإِنَّمَا الْمَسَائِلُ الْخِلَافِيَّةُ بَيْنَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَصَاحِبَيْهِ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ
ثَلَاثٌ: ثِنْتَانِ مِنْهَا مَذْكُورَتَانِ فِي أَوَّلِ
الْبَابِ فِي الْهِدَايَةِ وَالْبِدَايَةِ: إحْدَاهُمَا
مَسْأَلَةُ أَنَّهُ لَا يُحْجَرُ السَّفِيهُ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَيُحْجَرُ عِنْدَهُمَا. وَأُخْرَاهُمَا مَسْأَلَةُ
أَنَّ الْغُلَامَ الْبَالِغَ غَيْرَ رَشِيدٍ إذَا بَلَغَ
خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ،
وَعِنْدَهُمَا لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ أَبَدًا حَتَّى
يُؤْنَسُ مِنْهُ رُشْدُهُ.
وَوَاحِدَةٌ مِنْهُمَا مَذْكُورَةٌ فِي آخِرِ الْبَابِ فِي
الْهِدَايَةِ وَحْدَهَا وَهِيَ مَسْأَلَةُ أَنْ يَحْجُرَ
الْقَاضِي بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ عِنْدهمَا، وَمَعَ ذَلِكَ
جُعِلَ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ فِي الْمَسْأَلَتَيْنِ
الْأُولَيَيْنِ أَصْلًا فِي الذِّكْرِ وَقَوْلُهُمَا تَبَعًا
لَهُ فَلَمْ يَبْقَ مِنْ مَسَائِلِ هَذَا الْبَابِ مَا هِيَ
مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا عَلَى قَوْلِهِ إلَّا
الْمَسْأَلَةَ الْأَخِيرَةَ الْمَذْكُورَةَ فِي الْهِدَايَةِ
وَحْدَهَا، فَكَيْفَ يَصِحُّ الْقَوْلُ بِأَنَّ مَسَائِلَ
هَذَا الْبَابِ كُلَّهَا مَبْنِيَّةٌ عَلَى قَوْلِ أَبِي
يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ.
ثُمَّ أَقُولُ: لَوْ قَالَ بَدَلَ ذَلِكَ الْكَلَامِ: ثُمَّ
اعْلَمْ أَنَّ تَلْقِيبَ هَذَا الْبَابِ بَابَ الْحَجْرِ
لِلْفَسَادِ مَبْنِيٌّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ
لَا عَلَى قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فَإِنَّهُ لَا يَرَى
الْحَجْرَ لِلْفَسَادِ وَالسَّفَهِ أَصْلًا لَكَانَ لَهُ
وَجْهٌ صَحِيحٌ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ لِأَنَّهُ
مُبَذِّرٌ مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي
يَقْتَضِيهِ الْعَقْلُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَظَرًا لَهُ
اعْتِبَارًا بِالصَّبِيِّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ:
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ لِأَنَّهُ مُبَذِّرٌ
مَالَهُ بِصَرْفِهِ لَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ
الْعَقْلُ، وَكُلُّ مَنْ هُوَ كَذَلِكَ يُحْجَرُ عَلَيْهِ
نَظَرًا لَهُ كَالصَّبِيِّ فَهَذَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اهـ.
أَقُولُ: تَقْرِيرُهُ غَيْرُ مُطَابِقٍ لِلْمَشْرُوحِ، إذْ لَا
يَخْفَى أَنَّ حَاصِلَ كَلَامِ الْمُصَنِّفِ هُنَا قِيَاسُ
السَّفِيهِ عَلَى الصَّبِيِّ قِيَاسًا تَقْرِيبًا فِي وُجُوبِ
الْحَجْرِ، وَيُرْشِدُ إلَيْهِ قَطْعًا قَوْلُهُ فِيمَا
سَيَأْتِي مِنْ قِبَلِ أَبِي حَنِيفَةَ، وَلَا يَصِحُّ
الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ،
وَقَدْ قَرَّرَهُ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ عَلَى الْقِيَاسِ
الْمَنْطِقِيِّ حَيْثُ قَدَّرَ الْكُبْرَى الْكُلِّيَّةَ
وَجَعَلَ قَوْلَهُ فَيُحْجَرُ عَلَيْهِ نَتِيجَةَ الْقِيَاسِ
كَمَا تَرَى.
ثُمَّ إنَّ صَاحِبَيْ النِّهَايَةِ وَالْعِنَايَةِ قَالَا:
هَذَا الدَّلِيلُ الَّذِي ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ إنَّمَا
يَصِحُّ عَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ وَمُحَمَّدٍ لَا عَلَى
قَوْلِ الشَّافِعِيِّ، لِأَنَّ حَجْرَ السَّفِيهِ عِنْدَهُ
بِطَرِيقِ الزَّجْرِ وَالْعُقُوبَةِ عَلَيْهِ لَا بِطَرِيقِ
النَّظَرِ لَهُ، وَقَالَا: وَفَائِدَةُ هَذَا الْخِلَافِ
بَيْنَهُمْ تَظْهَرُ فِيمَا إذَا كَانَ السَّفِيهُ مُفْسِدًا
فِي دِينِهِ مُصْلِحًا فِي مَالِهِ كَالْفَاسِقِ. فَعِنْدَ
الشَّافِعِيِّ يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا وَعُقُوبَةً،
وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ اهـ.
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ لِأَنَّ مَنْ كَانَ مُصْلِحًا فِي
مَالِهِ لَا يُسَمَّى سَفِيهًا فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ كَمَا
أَفْصَحَ عَنْهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِيمَا مَرَّ حَيْثُ
قَالَ: وَقَدْ غَلَبَ فِي عُرْفِ الْفُقَهَاءِ عَلَى تَبْذِيرِ
الْمَالِ وَإِتْلَافِهِ عَلَى خِلَافِ مُقْتَضَى الْعَقْلِ
وَالشَّرْعِ، وَأَمَّا كَوْنُ الْمُصْلِحِ فِي مَالِهِ إذَا
كَانَ مُفْسِدًا فِي دِينِهِ يُسَمَّى بِالسَّفِيهِ عَلَى
مَعْنَاهُ الْأَصْلِيِّ فَلَا يُجْدِي نَفْعًا هَاهُنَا، إذْ
نَحْنُ بِصَدَدِ بَيَانِ حُكْمِ السَّفِيهِ فِي عُرْفِ
الْفُقَهَاءِ بِأَنَّهُ لَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَيُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ وَالشَّافِعِيِّ، وَلَوْ كَانَ الْفَاسِقُ
دَاخِلًا فِي السَّفِيهِ فِي عُرْفِهِمْ لَمَا صَحَّ بَيَانُ
الْحُكْمِ بِالْوَجْهِ الْمَذْكُورِ، فَإِنَّ الْفَاسِقَ لَا
يُحْجَرُ عَلَيْهِ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَئِمَّتِنَا كَمَا
سَيَأْتِي فِي الْكِتَابِ (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ فَلَا يُحْجَرُ عَلَيْهِ
اعْتِبَارًا بِالرَّشِيدِ) قِيلَ: يُشْكِلُ هَذَا بِالْعَبْدِ،
فَإِنَّهُ مُخَاطَبٌ عَاقِلٌ أَيْضًا وَمَعَ ذَلِكَ يُحْجَرُ
عَلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِوَجْهَيْنِ:
(9/260)
وَهَذَا لِأَنَّ فِي سَلْبِ وِلَايَتِهِ
إهْدَارُ آدَمِيَّتِهِ وَإِلْحَاقُهُ بِالْبَهَائِمِ وَهُوَ
أَشَدُّ ضَرَرًا مِنْ التَّبْذِيرِ فَلَا يُتَحَمَّلُ
الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى، حَتَّى لَوْ كَانَ فِي
الْحَجْرِ دَفْعُ ضَرَرٍ عَامٍّ كَالْحَجْرِ عَلَى
الْمُتَطَبِّبِ الْجَاهِلِ وَالْمُفْتِي الْمَاجِنِ
وَالْمُكَارِي الْمُفْلِسِ جَازَ فِيمَا يُرْوَى عَنْهُ، إذْ
هُوَ دَفْعُ ضَرَرِ الْأَعْلَى بِالْأَدْنَى، وَلَا يَصِحُّ
الْقِيَاسُ عَلَى مَنْعِ الْمَالِ لِأَنَّ الْحَجْرَ أَبْلَغُ
مِنْهُ فِي الْعُقُوبَةِ، وَلَا عَلَى الصَّبِيِّ لِأَنَّهُ
عَاجِزٌ عَنْ النَّظَرِ لِنَفْسِهِ، وَهَذَا قَادِرٌ عَلَيْهِ
نَظَرَ لَهُ الشَّرْعُ مَرَّةً بِإِعْطَاءِ آلَةِ الْقُدْرَةِ
وَالْجَرْيُ عَلَى خِلَافِهِ لِسُوءِ اخْتِيَارِهِ، وَمَنْعُ
الْمَالِ مُفِيدٌ لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ فِي الْهِبَاتِ
وَالصَّدَقَاتِ وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْيَدِ.
قَالَ (وَإِذَا حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى
قَاضٍ آخَرَ فَأَبْطَلَ حَجْرَهُ وَأَطْلَقَ عَنْهُ جَازَ)
لِأَنَّ الْحَجْرَ مِنْهُ فَتْوَى وَلَيْسَ بِقَضَاءٍ؛ أَلَا
يَرَى أَنَّهُ لَمْ يُوجَدْ الْمَقْضِيُّ لَهُ وَالْمَقْضِيُّ
عَلَيْهِ، وَلَوْ كَانَ قَضَاءً فَنَفْسُ الْقَضَاءِ
مُخْتَلَفٌ فِيهِ فَلَا بُدَّ مِنْ الْإِمْضَاءِ، حَتَّى لَوْ
رُفِعَ تَصَرُّفُهُ بَعْدَ الْحَجْرِ إلَى الْقَاضِي
الْحَاجِرِ أَوْ إلَى غَيْرِهِ فَقَضَى بِبُطْلَانِ
تَصَرُّفِهِ ثُمَّ رُفِعَ إلَى قَاضٍ آخَرَ نَفَذَ إبْطَالُهُ
لِاتِّصَالِ الْإِمْضَاءِ بِهِ فَلَا يُقْبَلُ النَّقْضُ
بَعْدَ ذَلِكَ
(ثُمَّ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ إذَا بَلَغَ الْغُلَامُ غَيْرَ
رَشِيدٍ لَمْ يُسَلَّمْ إلَيْهِ مَالُهُ حَتَّى يَبْلُغَ
خَمْسًا وَعِشْرِينَ سَنَةً، فَإِنْ تَصَرَّفَ فِيهِ قَبْلَ
ذَلِكَ نَفَذَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
أَحَدُهُمَا أَنَّهُ ذَكَرَ الْمُخَاطَبَ مُطْلَقًا
وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ، وَالْعَبْدُ لَيْسَ
بِمُخَاطَبٍ كَامِلٍ لِسُقُوطِ الْخِطَابَاتِ الْمَالِيَّةِ
عَنْهُ كَالزَّكَاةِ وَصَدَقَةِ الْفِطْرِ وَالْأُضْحِيَّةِ
وَالْكَفَّارَاتِ الْمَالِيَّةِ، وَسُقُوطُ بَعْضِ
الْخِطَابَاتِ الْغَيْرِ الْمَالِيَّةِ كَالْحَجِّ وَصَلَاةِ
الْجُمُعَةِ وَالْعِيدَيْنِ وَالشَّهَادَاتِ وَشَطْرِ
الْحُدُودِ وَغَيْرِهِمَا.
وَالثَّانِي: أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمُخَاطَبِ فِي قَوْلِهِ
إنَّهُ مُخَاطَبٌ هُوَ الْمُخَاطَبُ بِالتَّصَرُّفَاتِ
الْمَالِيَّةِ بِدَلَالَةِ مَحَلِّ الْكَلَامِ، لِأَنَّ
الْكَلَامَ فِي الْحَجْرِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ
كَالْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ وَالْهِبَاتِ وَالصَّدَقَاتِ
فَحِينَئِذٍ لَا يَتَنَاوَلُ قَوْلُهُ إنَّهُ مُخَاطَبٌ
الْعَبْدَ لِأَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ فَلَا تَصَرُّفَ لَهُ فِي
الْمَالِ وَلَا خِطَابَ فِيهِ، هَذَا زُبْدَةُ مَا فِي
النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا.
أَقُولُ: بَقِيَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ شَيْءٌ، وَهُوَ
أَنَّ قَوْلَهُ عَاقِلٌ بَعْدَ قَوْلِهِ إنَّهُ مُخَاطَبٌ
مُسْتَدْرَكٌ لِأَنَّ الْمُخَاطَبَ لَا يَكُونُ إلَّا
عَاقِلًا، فَإِنَّ مَا لَيْسَ بِعَاقِلٍ كَالصَّبِيِّ
وَالْمَجْنُونِ
(9/261)
تَصَرُّفُهُ، فَإِذَا بَلَغَ خَمْسًا
وَعِشْرِينَ سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ
يُؤْنَسْ مِنْهُ الرُّشْدُ. وَقَالَا: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ
مَالُهُ أَبَدًا حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ، وَلَا
يَجُوزُ تَصَرُّفُهُ فِيهِ) لِأَنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ
السَّفَهُ فَيَبْقَى مَا بَقِيَ الْعِلَّةُ وَصَارَ
كَالصِّبَا. وَلِأَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - أَنَّ
مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ، وَلَا
يَتَأَدَّبُ بَعْدَ هَذَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا؛ أَلَا يَرَى
أَنَّهُ قَدْ يَصِيرُ جَدًّا فِي هَذَا السِّنِّ فَلَا
فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ، وَلِأَنَّ
الْمَنْعَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لَيْسَ بِمُخَاطَبٍ لَا مَحَالَةَ
(قَوْلُهُ وَقَالَا: لَا يُدْفَعُ إلَيْهِ مَالُهُ أَبَدًا
حَتَّى يُؤْنَسَ مِنْهُ رُشْدُهُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ:
وَتَسَامُحُ عِبَارَتِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ
وَحَتَّى ظَاهِرٌ اهـ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ تَوْجِيهُ عِبَارَتِهِ بِأَنْ يُحْمَلَ
الْأَبَدُ عَلَى الزَّمَانِ الطَّوِيلِ الْمُمْتَدِّ، كَمَا
حَمَلَ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْخُلُودَ فِي قَوْله تَعَالَى
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا} [النساء: 93] عَلَى الْمُكْثِ
الطَّوِيلِ، فَحِينَئِذٍ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْأَبَدِ
وَحَتَّى كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ وَلِأَبِي حَنِيفَةَ
أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ وَلَا
يَتَأَدَّبُ بَعْدَ هَذَا ظَاهِرًا وَغَالِبًا، أَلَا يُرَى
أَنَّهُ يَصِيرُ جَدًّا فِي هَذَا السِّنِّ فَلَا فَائِدَةَ
فِي الْمَنْعِ فَلَزِمَ الدَّفْعُ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ
وَهَذَا الدَّلِيلُ يُمْكِنُ أَنْ يُوَجَّهَ عَلَى وَجْهَيْنِ:
أَحَدُهُمَا أَنْ يُقَالَ: سَلَّمْنَا أَنْ عِلَّةَ الْمَنْعِ
السَّفَهُ، لَكِنَّ الْمَعْلُولَ هُوَ الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ
التَّأْدِيبُ وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ مَحِلًّا
لِلتَّأْدِيبِ وَلَا تَأْدِيبَ بَعْدَ هَذِهِ الْمُدَّةِ
ظَاهِرًا وَغَالِبًا، لِأَنَّ فِي هَذِهِ الْمُدَّةِ يَصِيرُ
جَدًّا بِاعْتِبَارِ أَقَلِّ مُدَّةِ الْبُلُوغِ فِي
الْإِنْزَالِ وَهُوَ اثْنَتَا عَشْرَةَ سَنَةً، وَأَقَلُّ
مُدَّةِ الْحَمْلِ وَهُوَ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وَإِذَا لَمْ
يَبْقَ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ فَلَا فَائِدَةَ فِي الْمَنْعِ
فَلَزِمَ الدَّفْعُ.
وَالثَّانِي: أَنْ يُجْعَلَ مُعَارَضَةً فَيُقَالُ: مَا
ذَكَرْتُمْ وَإِنْ دَلَّ عَلَى ثُبُوتِ الْمَدْلُولِ لَكِنْ
عِنْدَنَا مَا يَنْفِيهِ، وَهُوَ أَنَّ مَنْعَ الْمَالِ عَنْهُ
بِطَرِيقِ التَّأْدِيبِ إلَخْ اهـ كَلَامُهُ، وَقَدْ اقْتَفَى
أَثَرَهُ الشَّارِحُ الْعَيْنِيُّ.
أَقُولُ: فِي تَقْرِيرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ عَلَى مَا
ذَكَرَاهُ خَلَلٌ، إذْ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ كَوْنِ
عِلَّةِ الْمَنْعِ السَّفَهَ وَادَّعَاهُ أَنَّ الْمَعْلُولَ
هُوَ الْمَنْعُ مِنْ حَيْثُ التَّأْدِيبُ دُونَ الْمَنْعِ
الْمُطْلَقِ يَلْزَمُ أَنْ يَتَخَلَّفَ الْمَعْلُولُ عَنْ
الْعِلَّةِ بَعْدَ تِلْكَ الْمُدَّةِ لِعَدَمِ تَحَقُّقِ
الْمَنْعِ مِنْ حَيْثُ التَّأْدِيبُ بَعْدَهَا بِنَاءً عَلَى
عَدَمِ كَوْنِ الْمَحَلِّ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ مَعَ
تَحَقُّقِ السَّفَهِ بَعْدَهَا أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ
تَخَلُّفَ الْمَعْلُولِ عَنْ الْعِلَّةِ بَاطِلٌ، وَلِهَذَا
قَالَ فِي دَلِيلِ الْإِمَامَيْنِ: فَيَبْقَى مَا بَقِيَ
الْعِلَّةُ، فَاعْتِبَارُ التَّأْدِيبِ مَعَ الْمَنْعِ فِي
جَانِبِ الْمَعْلُولِ بَاطِلٌ أَيْضًا لِاسْتِلْزَامِهِ ذَلِكَ
الْبَاطِلَ الْمُحَالَ.
وَالصَّوَابُ عِنْدِي فِي تَقْرِيرِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ أَنْ
يُقَالَ: إنَّ عِلَّةَ الْمَنْعِ لَيْسَ هُوَ السَّفَهُ
وَحْدَهُ بَلْ هُوَ مَعَ قَصْدِ التَّأْدِيبِ، فَإِذَا لَمْ
يَبْقَ الْمَحِلُّ قَابِلًا لِلتَّأْدِيبِ بَعْدَ تِلْكَ
الْمُدَّةِ لَمْ يُقْصَدْ التَّأْدِيبُ بَعْدَهَا فَانْتَفَتْ
الْعِلَّةُ بِانْتِفَاءِ أَحَدِ جُزْأَيْهَا وَهُوَ قَصْدُ
التَّأْدِيبِ فَلَزِمَ انْتِفَاءُ الْمَعْلُولِ الَّذِي هُوَ
الْمَنْعُ أَيْضًا بَعْدَهَا فَوَجَبَ الدَّفْعُ، فَصَارَ
حَاصِلُ هَذَا الدَّلِيلِ عَلَى هَذَا الْوَجْهِ هُوَ
الْمَنْعُ لَا التَّسْلِيمُ كَمَا تُوُهِّمَ (قَوْلُهُ
وَلِأَنَّ الْمَنْعَ
(9/262)
بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا وَهُوَ فِي
أَوَائِلِ الْبُلُوغِ وَيَتَقَطَّعُ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ
فَلَا يَبْقَى الْمَنْعُ، وَلِهَذَا قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ:
لَوْ بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا لَا يُمْنَعُ
الْمَالُ عَنْهُ لِأَنَّهُ لَيْسَ بِأَثَرِ الصِّبَا، ثُمَّ
لَا يَتَأَتَّى التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِهِ وَإِنَّمَا
التَّفْرِيعُ عَلَى قَوْلِ مَنْ يَرَى الْحَجْرَ.
فَعِنْدَهُمَا لَمَّا صَحَّ الْحَجْرُ لَا يَنْفُذُ بَيْعُهُ
إذَا بَاعَ تَوْفِيرًا لِفَائِدَةِ الْحَجْرِ عَلَيْهِ، وَإِنْ
كَانَ فِيهِ مَصْلَحَةٌ أَجَازَهُ الْحَاكِمُ لِأَنَّ رُكْنَ
التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ لَهُ
وَقَدْ نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَاظِرًا لَهُ فَيَتَحَرَّى
الْمَصْلَحَةَ فِيهِ، كَمَا فِي الصَّبِيِّ الَّذِي يَعْقِلُ
الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَيَقْصِدُهُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِاعْتِبَارِ أَثَرِ الصِّبَا وَهُوَ فِي أَوَائِلِ
الْبُلُوغِ، وَيَنْقَطِعُ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ فَلَا
يَبْقَى الْمَنْعُ) فَإِنْ قِيلَ: الدَّفْعُ مُعَلَّقٌ
بِإِينَاسِ الرُّشْدِ فَمَا لَمْ يُوجَدْ لَا يَجُوزُ
الدَّفْعُ إلَيْهِ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الشَّرْطَ يُوجِبُ الْوُجُودَ عِنْدَ
الْوُجُودِ لَا الْعَدَمَ عِنْدَ الْعَدَمِ. سَلَّمْنَاهُ،
لَكِنَّهُ مُنْكَرٌ يُرَادُ بِهِ أَدْنَى مَا يَنْطَلِقُ
عَلَيْهِ، وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ إذَا وَصَلَ الْإِنْسَانُ إلَى
هَذِهِ الْحَالَةِ لِصَيْرُورَةِ فُرُوعِهِ أَصْلًا فَكَانَ
مُتَنَاهِيًا فِي الْأَصَالَةِ.
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ كَوْنَهُ مُتَنَاهِيًا فِي
الْأَصَالَةِ عِنْدَ وُصُولِهِ إلَى تِلْكَ الْمُدَّةِ لَا
يَقْتَضِي رُشْدَهُ لِحُصُولِ ذَلِكَ فِي الْمَجْنُونِ أَيْضًا
مَعَ عَدَمِ تَصَوَّرْ الرُّشْدِ فِيهِ. سَلَّمْنَاهُ
لَكِنَّهُ لَا يُطَابِقُ قَوْلَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي وَضْعِ
الْمَسْأَلَةِ مَعَ أَنَّهُ إذَا بَلَغَ خَمْسًا وَعِشْرِينَ
سَنَةً يُسَلَّمُ إلَيْهِ مَالُهُ وَإِنْ لَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ
الرُّشْدُ. اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يُرَادَ بِالرُّشْدِ هُنَاكَ
الرُّشْدُ الْكَامِلُ، لَكِنْ لَا يُسَاعِدُهُ اللَّفْظُ
وَيَأْبَاهُ دَلِيلُهُ، تَأَمَّلْ تَقِفْ (قَوْلُهُ لِأَنَّ
رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ
لَهُ وَقَدْ نَصَّبَ الْحَاكِمُ نَاظِرًا لَهُ فَيَتَحَرَّى
الْمَصْلَحَةَ فِيهِ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: اسْتَدَلَّ
عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ
التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ وَذَلِكَ يُوجِبُ الْجَوَازَ.
وَرُدَّ بِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ إذَا وُجِدَ مِنْ
أَهْلِهِ يُوجِبُ ذَلِكَ وَالسَّفِيهُ لَيْسَ بِأَهْلٍ.
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ أَهْلٌ لِأَنَّ الْأَهْلِيَّةَ
بِالْعَقْلِ وَالسَّفَهُ لَا يَنْفِيهِ.
فَإِنْ قِيلَ: فَعَلَامَ التَّوَقُّفُ؟ أَجَابَ بِقَوْلِهِ
لِلنَّظَرِ لَهُ، فَإِنَّ الْحَاكِمَ نَصَّبَ نَاظِرًا
فَيَتَحَرَّى الْمَصْلَحَةَ فِيهِ كَمَا فِي الصَّبِيِّ
الَّذِي يَعْقِلُ الْبَيْعَ وَالشِّرَاءَ وَيَقْصِدُهُ، إلَى
هُنَا لَفْظُ الْعِنَايَةِ، وَرَدَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ
قَوْلَهُ وَاسْتَدَلَّ عَلَى الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ
بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ وُجِدَ حَيْثُ قَالَ:
هَذَا إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى الْجَوَازِ فَقَطْ اهـ.
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يُحْمَلَ كَلَامُ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ
هَاهُنَا عَلَى أَنَّ الْمُصَنِّفَ اسْتَدَلَّ عَلَى
الْجَوَازِ وَالتَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ
التَّصَرُّفِ قَدْ وُجِدَ إلَخْ: أَيْ اسْتَدَلَّ عَلَى
الْجَوَازِ بِقَوْلِهِ لِأَنَّ رُكْنَ التَّصَرُّفِ قَدْ
وُجِدَ، وَاسْتَدَلَّ عَلَى التَّوَقُّفِ بِقَوْلِهِ
وَالتَّوَقُّفُ لِلنَّظَرِ إلَخْ، فَحَصَلَ
(9/263)
وَلَوْ بَاعَ قَبْلَ حَجْرِ الْقَاضِي
جَازَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ حَجْرِ
الْقَاضِي عِنْدَهُ، لِأَنَّ الْحَجْرَ دَائِرٌ بَيْنَ
الضَّرَرِ وَالنَّظَرِ وَالْحَجْرُ لِنَظَرِهِ فَلَا بُدَّ
مِنْ فِعْلِ الْقَاضِي. وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ لَا يَجُوزُ
لِأَنَّهُ يَبْلُغُ مَحْجُورًا عِنْدَهُ، إذْ الْعِلَّةُ هِيَ
السَّفَهُ بِمَنْزِلَةِ الصِّبَا، وَعَلَى هَذَا الْخِلَافُ
إذَا بَلَغَ رَشِيدًا ثُمَّ صَارَ سَفِيهًا
(وَإِنْ أَعْتَقَ عَبْدًا نَفَذَ عِتْقُهُ عِنْدَهُمَا) .
وَعِنْدَ الشَّافِعِيِّ لَا يَنْفُذُ. وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا
أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ
فِيهِ إلَخْ وَمَا لَا فَلَا، لِأَنَّ السَّفِيهَ فِي مَعْنَى
الْهَازِلِ مِنْ حَيْثُ إنَّ الْهَازِلَ يُخْرِجُ كَلَامَهُ
لَا عَلَى نَهْجِ كَلَامِ الْعُقَلَاءِ لِاتِّبَاعِ الْهَوَى
وَمُكَابَرَةِ الْعَقْلِ لَا لِنُقْصَانٍ فِي عَقْلِهِ،
فَكَذَلِكَ السَّفِيهُ وَالْعِتْقُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ
الْهَزْلُ فَيَصِحُّ مِنْهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مِنْ الْمَجْمُوعِ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْجَوَازِ
وَالتَّوَقُّفِ مَعًا وَإِنْ كَانَ الْحَاصِلُ مِنْ أَوَّلِ
قَوْلِهِ هُوَ الِاسْتِدْلَال عَلَى الْجَوَازِ فَقَطْ.
وَلَمَّا اتَّجَهَ عَلَى أَوَّلِ اسْتِدْلَالِهِ سُؤَالٌ
ظَاهِرُ الْوُرُودِ تَصَدَّى الشَّارِحُ لِذِكْرِهِ مَعَ
جَوَابِهِ فَوَقَعَ الْفَصْلُ بَيْنَ دَلِيلِ الْجَوَازِ
وَدَلِيلِ التَّوَقُّفِ فِي الْبَيَانِ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ
(قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ عِنْدَهُمَا أَنَّ كُلَّ تَصَرُّفٍ
يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْحَجْرُ وَمَا
لَا فَلَا، إلَى قَوْلِهِ: وَالْعِتْقُ مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ
فِيهِ الْهَزْلُ فَيَصِحُّ مِنْهُ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ:
وَفِيهِ بَحْثٌ مِنْ أَوْجُهٍ: الْأَوَّلُ أَنَّ السَّفِيهَ
لَوْ حَنِثَ فِي يَمِينِهِ وَأَعْتَقَ رَقَبَةً لَمْ
يُنْفِذْهُ الْقَاضِي، وَكَذَا لَوْ نَذَرَ بِهَدْيٍ أَوْ
غَيْرِهِ لَمْ يُنْفِذْهُ.
فَهَذَا مِمَّا لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ بِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «ثَلَاثٌ جَدُّهُنَّ جَدٌّ
وَهَزْلُهُنَّ جَدٌّ» وَقَدْ أَثَّرَ فِيهِ الْحَجْرُ
بِالسَّفَهِ. وَالثَّانِي أَنَّ الْهَازِلَ إذَا أَعْتَقَ
عَبْدَهُ عَتَقَ وَلَمْ تَجِبْ عَلَيْهِ سِعَايَةٌ
وَالْمَحْجُورُ بِالسَّفَهِ إذَا أَعْتَقَهُ وَجَبَ عَلَيْهِ
السِّعَايَةُ، فَالْهَزْلُ لَمْ يُؤَثِّرْ فِي وُجُوبِ
السِّعَايَةِ وَالْحَجْرُ أَثَّرَ فِيهِ. وَالثَّالِثُ أَنَّ
التَّعْلِيلَ الْمَذْكُورَ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ
السَّفِيهِ لَا فِي حَقِّ الْهَازِلِ.
وَالصَّحِيحُ فِيهِ أَنْ يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ
دُونَ مَا وُضِعَ الْكَلَامُ لَهُ لَا لِنُقْصَانٍ فِي
الْعَقْلِ. وَالْجَوَابُ عَنْ الْأَوَّلِ أَنَّ الْقَضَاءَ
بِالْحَجْرِ عَنْ التَّصَرُّفَاتِ الْمَالِيَّةِ فِيمَا
يَرْجِعُ إلَى الْإِتْلَافِ يَسْتَلْزِمُ عَدَمَ تَنْفِيذِ
الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ، لِأَنَّ فِي تَنْفِيذِهِمَا
إضَاعَةَ الْمَقْصُودِ مِنْ الْحَجْرِ لِإِمْكَانِ أَنْ
يَتَصَرَّفَ فِي جَمِيعِ مَالِهِ بِالْيَمِينِ وَالْحِنْثِ
وَالنَّذْرِ. وَعَنْ الثَّانِي مَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ.
وَعَنْ الثَّالِثِ أَنَّ قَصْدَ اللَّعِبِ بِالْكَلَامِ
وَتَرْكَ مَا وُضِعَ لَهُ مِنْ مُكَابَرَةِ الْعَقْلِ
وَاتِّبَاعِ الْهَوَى فَلَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا اهـ.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ عَنْ الْأَوَّلِ وَعَنْ الثَّانِي
عَلَى
(9/264)
وَالْأَصْلُ عِنْدَهُ أَنَّ الْحَجْرَ
بِسَبَبِ السَّفَهِ بِمَنْزِلَةِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الرِّقِّ
حَتَّى لَا يَنْفُذُ بَعْدَهُ شَيْءٌ مِنْ تَصَرُّفَاتِهِ
إلَّا الطَّلَاقَ كَالْمَرْقُوقِ، وَالْإِعْتَاقُ لَا يَصِحُّ
مِنْ الرَّقِيقِ فَكَذَا مِنْ السَّفِيهِ (وَ) إذَا صَحَّ
عِنْدَهُمَا (كَانَ عَلَى الْعَبْدِ أَنْ يَسْعَى فِي
قِيمَتِهِ) لِأَنَّ الْحَجْرَ لِمَعْنَى النَّظَرِ وَذَلِكَ
فِي رَدِّ الْعِتْقِ إلَّا أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ
رَدُّهُ بِرَدِّ الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى
الْمَرِيضِ. وَعَنْ مُحَمَّدٍ أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ
لِأَنَّهَا لَوْ وَجَبَتْ إنَّمَا تَجِبُ حَقًّا لِمُعْتِقِهِ
وَالسِّعَايَةُ مَا عُهِدَ وُجُوبُهَا فِي الشَّرْعِ إلَّا
لِحَقِّ غَيْرِ الْمُعْتِقِ (وَلَوْ دَبَّرَ عَبْدَهُ جَازَ)
لِأَنَّهُ يُوجِبُ حَقَّ الْعِتْقِ فَيُعْتَبَرُ بِحَقِيقَتِهِ
إلَّا أَنَّهُ لَا تَجِبُ السِّعَايَةُ مَا دَامَ الْمَوْلَى
حَيًّا لِأَنَّهُ بَاقٍ عَلَى مِلْكِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ بَحْثٌ أَيْضًا. أَمَّا فِي الْجَوَابِ
عَنْ الْأَوَّلِ فَلِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ الْجَوَابِ بَيَانُ
وَجْهِ عَدَمِ تَنْفِيذِ الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ
الْوَاقِعَةِ مِنْ السَّفِيهِ، وَهَذَا لَا يُجْدِي شَيْئًا
فِي دَفْعِ الْبَحْثِ الْأَوَّلِ، لِأَنَّ حَاصِلَ ذَلِكَ
الْبَحْثِ كَمَا تَرَى نَقَضَ كُلِّيَّةَ قَوْلِهِمَا إنَّ
كُلَّ تَصَرُّفٍ يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ يُؤَثِّرُ فِيهِ
الْحَجْرُ، وَمَا لَا فَلَا، بِعَدَمِ تَنْفِيذِ الْقَاضِي
تَصَرُّفَ السَّفِيهِ فِي الْكَفَّارَاتِ وَالنُّذُورِ مَعَ
عَدَمِ تَأْثِيرِ الْهَزْلِ فِي شَيْءٍ مِنْهُمَا، فَمَا
ذُكِرَ فِي الْجَوَابِ يُقَوِّي الْبَحْثَ فَضْلًا عَنْ أَنْ
يَدْفَعَهُ.
وَأَمَّا فِي الْجَوَابِ عَنْ الثَّانِي فَلِأَنَّ مَا
سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ هُوَ قَوْلُ الْمُصَنِّفِ، لِأَنَّ
الْحَجْرَ لِمَعْنَى النَّظَرِ، وَذَلِكَ فِي رَدِّ الْعِتْقِ
إلَّا أَنَّهُ مُتَعَذِّرٌ فَيَجِبُ رَدُّهُ بِرَدِّ
الْقِيمَةِ كَمَا فِي الْحَجْرِ عَلَى الْمَرِيضِ، وَلَا
يَذْهَبُ عَلَيْكَ أَنَّ هَذَا أَيْضًا لَا يَدْفَعُ نَقْضَ
الْكُلِّيَّةِ الْمُعْتَبَرَةِ فِي أَصْلِهِمَا كَمَا هُوَ
حَاصِلُ الْبَحْثِ الثَّانِي أَيْضًا، بَلْ يُقَوِّيهِ كَمَا
عَرَفْت آنِفًا.
ثُمَّ إنَّ بَعْضَ الْفُضَلَاءِ أَوْرَدَ عَلَى قَوْلِ صَاحِبِ
الْعِنَايَةِ فِي الْبَحْثِ الثَّالِثِ، وَالصَّحِيحُ فِيهِ
أَنْ يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ
الْكَلَامُ لَهُ حَيْثُ قَالَ فِيهِ بَحْثٌ، إذْ هَذَا
الْمَعْنَى لَا يُوجَدُ فِي السَّفِيهِ وَلَا بُدَّ مِنْ
الِاشْتِرَاكِ اهـ. أَقُولُ: كَأَنَّهُ غَلِطَ فِي
الِاسْتِخْرَاجِ فَتَوَهَّمَ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَجْرُورَ
فِي قَوْلِهِ وَالصَّحِيحُ فِيهِ رَاجِعٌ إلَى التَّعْلِيلِ.
فَاعْتَرَضَ أَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ تَمَامِ التَّعْلِيلِ
هَاهُنَا مِنْ الِاشْتِرَاكِ فِي الْعِلَّةِ، وَهَذَا
الْمَعْنَى يَعْنِي قَصْدَ اللَّعِبِ دُونَ مَا وُضِعَ
الْكَلَامُ لَهُ لَا يُوجَدُ فِي السَّفِيهِ، كَمَا أَنَّ
الْمَعْنَى الْمَذْكُورَ
(9/265)
وَإِذَا مَاتَ وَلَمْ يُؤْنَسْ مِنْهُ
الرُّشْدُ سَعَى فِي قِيمَتِهِ مُدَبَّرًا لِأَنَّهُ عَتَقَ
بِمَوْتِهِ وَهُوَ مُدَبَّرٌ، فَصَارَ كَمَا إذَا أَعْتَقَهُ
بَعْدَ التَّدْبِيرِ
(وَلَوْ جَاءَتْ جَارِيَتُهُ بِوَلَدٍ فَادَّعَاهُ يَثْبُتُ
نَسَبُهُ مِنْهُ وَكَانَ الْوَلَدُ حُرًّا وَالْجَارِيَةُ
أُمَّ وَلَدٍ لَهُ) لِأَنَّهُ مُحْتَاجٌ إلَى ذَلِكَ
لِإِبْقَاءِ نَسْلِهِ فَأُلْحِقَ بِالْمُصْلِحِ فِي حَقِّهِ
(وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مَعَهَا وَلَدٌ وَقَالَ هَذِهِ أُمُّ
وَلَدِي كَانَتْ بِمَنْزِلَةِ أُمِّ الْوَلَدِ لَا يَقْدِرُ
عَلَى بَيْعِهَا، وَإِنْ مَاتَ سَعَتْ فِي جَمِيعِ قِيمَتِهَا)
لِأَنَّهُ كَالْإِقْرَارِ بِالْحُرِّيَّةِ إذْ لَيْسَ لَهُ
شَهَادَةُ الْوَلَدِ، بِخِلَافِ الْفَصْلِ الْأَوَّلِ لِأَنَّ
الْوَلَدَ شَاهِدٌ لَهَا. وَنَظِيرُهُ الْمَرِيضُ إذَا ادَّعَى
وَلَدَ جَارِيَتِهِ فَهُوَ عَلَى هَذَا التَّفْصِيلِ.
قَالَ (وَإِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً جَازَ نِكَاحُهَا)
لِأَنَّهُ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ الْهَزْلُ، وَلِأَنَّهُ مِنْ
حَوَائِجِهِ الْأَصْلِيَّةِ (وَإِنْ سَمَّى لَهَا مَهْرًا
جَازَ مِنْهُ مِقْدَارُ مَهْرِ مِثْلِهَا) لِأَنَّهُ مِنْ
ضَرُورَاتِ النِّكَاحِ (وَبَطَلَ الْفَضْلُ) لِأَنَّهُ لَا
ضَرُورَةَ فِيهِ، وَهَذَا الْتِزَامٌ بِالتَّسْمِيَةِ وَلَا
نَظَرَ لَهُ فِيهِ فَلَمْ تَصِحَّ الزِّيَادَةُ وَصَارَ
كَالْمَرِيضِ مَرَضَ الْمَوْتِ (وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ
الدُّخُولِ بِهَا وَجَبَ لَهَا النِّصْفُ فِي مَالِهِ) لِأَنَّ
التَّسْمِيَةَ صَحِيحَةٌ إلَى مِقْدَارِ مَهْرِ الْمِثْلِ
(وَكَذَا إذَا تَزَوَّجَ بِأَرْبَعِ نِسْوَةٍ أَوْ كُلَّ
يَوْمٍ وَاحِدَةً) لِمَا بَيَّنَّا.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي الْكِتَابِ لَا يُوجَدُ فِي الْهَازِلِ عَلَى زَعْمِ
صَاحِبِ الْبَحْثِ الثَّالِثِ، وَلَكِنْ لَا يَخْفَى عَلَى
الْفَطِنِ أَنَّ الضَّمِيرَ الْمَزْبُورَ رَاجِعٌ إلَى حَقِّ
(9/266)
قَالَ (وَتُخْرَجُ الزَّكَاةُ مِنْ مَالِ
السَّفِيهِ) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ (وَيُنْفَقُ عَلَى
أَوْلَادِهِ وَزَوْجَتِهِ وَمَنْ تَجِبُ نَفَقَتُهُ مِنْ ذَوِي
أَرْحَامِهِ) لِأَنَّ إحْيَاءَ وَلَدِهِ وَزَوْجَتِهِ مِنْ
حَوَائِجِهِ، وَالْإِنْفَاقُ عَلَى ذِي الرَّحِمِ وَاجِبٌ
عَلَيْهِ لِقَرَابَتِهِ، وَالسَّفَهُ لَا يُبْطِلُ حُقُوقَ
النَّاسِ، إلَّا أَنَّ الْقَاضِيَ يَدْفَعُ الزَّكَاةَ إلَيْهِ
لِيَصْرِفَهَا إلَى مَصْرِفِهَا، لِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ
نِيَّتِهِ لِكَوْنِهَا عِبَادَةً، لَكِنْ يَبْعَثُ أَمِينًا
مَعَهُ كَيْ لَا يَصْرِفَهُ فِي غَيْرِ وَجْهِهِ. وَفِي
النَّفَقَةِ يَدْفَعُ إلَى أَمِينِهِ لِيَصْرِفَهُ لِأَنَّهُ
لَيْسَ بِعِبَادَةٍ فَلَا يَحْتَاجُ إلَى نِيَّتِهِ، وَهَذَا
بِخِلَافِ مَا إذَا حَلَفَ أَوْ نَذَرَ أَوْ ظَاهَرَ حَيْثُ
لَا يَلْزَمُهُ الْمَالُ بَلْ يُكَفِّرُ يَمِينَهُ وَظِهَارَهُ
بِالصَّوْمِ لِأَنَّهُ مِمَّا يَجِبُ بِفِعْلِهِ، فَلَوْ
فَتَحْنَا هَذَا الْبَابَ يُبَذِّرُ أَمْوَالَهُ بِهَذَا
الطَّرِيقِ، وَلَا كَذَلِكَ مَا يَجِبُ ابْتِدَاءً بِغَيْرِ
فِعْلِهِ.
قَالَ (فَإِنْ أَرَادَ حَجَّةَ الْإِسْلَامِ لَمْ يُمْنَعْ
مِنْهَا) لِأَنَّهَا وَاجِبَةٌ عَلَيْهِ بِإِيجَابِ اللَّهِ
تَعَالَى مِنْ غَيْرِ صَنْعَةٍ (وَلَا يُسَلِّمُ الْقَاضِي
النَّفَقَةَ إلَيْهِ وَيُسَلِّمُهَا إلَى ثِقَةٍ مِنْ
الْحَاجِّ يُنْفِقُهَا عَلَيْهِ فِي طَرِيقِ الْحَجِّ) كَيْ
لَا يُتْلِفُهَا فِي غَيْرِ هَذَا الْوَجْهِ (وَلَوْ أَرَادَ
عُمْرَةً وَاحِدَةً لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا) اسْتِحْسَانًا
لِاخْتِلَافِ الْعُلَمَاءِ فِي وُجُوبِهَا، بِخِلَافِ مَا
زَادَ عَلَى مَرَّةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ الْحَجِّ (وَلَا يُمْنَعُ
مِنْ الْقِرَانِ) لِأَنَّهُ لَا يُمْنَعُ مِنْ إفْرَادِ
السَّفَرِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا فَلَا يُمْنَعُ مِنْ
الْجَمْعِ بَيْنَهُمَا (وَلَا يُمْنَعُ مِنْ أَنْ يَسُوقَ
بَدَنَةً) تَحَرُّزًا عَنْ مَوْضِعِ الْخِلَافِ، إذْ عِنْدَ
عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - لَا
يُجْزِئُهُ غَيْرُهَا وَهِيَ جَزُورٌ أَوْ بَقَرَةٌ.
قَالَ (فَإِنْ مَرِضَ وَأَوْصَى بِوَصَايَا فِي الْقُرَبِ
وَأَبْوَابِ الْخَيْرِ جَازَ ذَلِكَ فِي ثُلُثِهِ) لِأَنَّ
نَظَرَهُ فِيهِ إذْ هِيَ حَالَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْهَازِلِ فِي قَوْلِهِ لَا فِي حَقِّ الْهَازِلِ.
فَالْمَعْنَى وَاَلَّذِي يَصِحُّ فِي حَقِّ الْهَازِلِ أَنْ
يُقَالَ لِقَصْدِهِ اللَّعِبَ بِهِ دُونَ مَا وُضِعَ
الْكَلَامُ لَهُ لَا مَا ذُكِرَ
(9/267)
انْقِطَاعِهِ عَنْ أَمْوَالِهِ
وَالْوَصِيَّةُ تَخْلُفُ ثَنَاءً أَوْ ثَوَابًا، وَقَدْ
ذَكَرْنَا مِنْ التَّفْرِيعَاتِ أَكْثَرَ مِنْ هَذَا فِي
كِفَايَةِ الْمُنْتَهَى.
قَالَ (وَلَا يُحْجَرُ عَلَى الْفَاسِقِ إذَا كَانَ مُصْلِحًا
لِمَالِهِ عِنْدَنَا وَالْفِسْقُ الْأَصْلِيُّ وَالطَّارِئُ
سَوَاءٌ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: يُحْجَرُ عَلَيْهِ زَجْرًا
لَهُ وَعُقُوبَةً عَلَيْهِ كَمَا فِي السَّفِيهِ وَلِهَذَا
لَمْ يُجْعَلْ أَهْلًا لِلْوِلَايَةِ وَالشَّهَادَةِ عِنْدَهُ.
وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا
فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6] الْآيَةَ.
وَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ فَتَتَنَاوَلُهُ
النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ، وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ
الْوِلَايَةِ عِنْدَنَا لِإِسْلَامِهِ فَيَكُونُ وَالِيًا
لِلتَّصَرُّفِ، وَقَدْ قَرَّرْنَاهُ فِيمَا تَقَدَّمَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فِي الْكِتَابِ، فَإِنَّهُ إنَّمَا يَصِحُّ فِي حَقِّ
السَّفِيهِ فَقَطْ، فَحِينَئِذٍ لَا يَكُونُ لِبَحْثِ ذَلِكَ
الْقَائِلِ وَجْهٌ كَمَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْله تَعَالَى {فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ
رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ} [النساء: 6]
الْآيَةَ وَقَدْ أُونِسَ مِنْهُ نَوْعُ رُشْدٍ فَتَتَنَاوَلُهُ
النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ) قَالَ فِي النِّهَايَةِ وَفِي
الْمَبْسُوطِ: فَقَوْلُهُ تَعَالَى رُشْدًا مُنْكَرٌ فِي
مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ، وَالنَّكِرَةُ فِي مَوْضِعِ
الْإِثْبَاتِ تَخُصُّ وَلَا تَعُمُّ، فَإِذَا أُوجِدَ رُشْدٌ
مَا فُقِدَ وُجِدَ الشَّرْطُ فَيَجِبُ دَفْعُ الْمَالِ إلَيْهِ
انْتَهَى.
أَقُولُ: تَقْرِيرُ دَلِيلِ أَئِمَّتِنَا فِي هَذِهِ
الْمَسْأَلَةِ عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْكِتَابِ،
وَفِي الْمَبْسُوطِ: يَنْتَقِضُ بِقَوْلِ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ رَحِمَهُمَا اللَّهُ فِي السَّفِيهِ الْمُصْلِحِ
فِي دِينِهِ دُونَ مَالِهِ فَإِنَّهُ يُحْجَرُ عَلَيْهِ
عِنْدَهُمَا كَمَا مَرَّ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ أُونِسَ مِنْهُ
نَوْعُ رُشْدٍ وَهُوَ الرُّشْدُ فِي دِينِهِ، فَتَتَنَاوَلُهُ
النَّكِرَةُ الْمُطْلَقَةُ فَيَجِبُ أَنْ يُدْفَعَ إلَيْهِ
أَيْضًا مَالُهُ.
وَالْأَظْهَرُ فِي تَقْرِيرِ اسْتِدْلَالِ أَئِمَّتِنَا
بِالْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ
بَعْدَ ذِكْرِ مَا فِي الْكِتَابِ وَشَرْحُهُ عَلَى وَفْقِ مَا
فِي الْمَبْسُوطِ حَيْثُ قَالَ: وَلِأَنَّ الرُّشْدَ فِي
الْمَالِ مُرَادٌ بِالْإِجْمَاعِ، فَلَا يَكُونُ الرُّشْدُ فِي
الدِّينِ مُرَادًا كَيْ لَا تَعُمَّ النَّكِرَةُ
الْمُطْلَقَةُ، أَوْ لِأَنَّ الدَّفْعَ مُعَلَّقٌ بِإِينَاسِ
رُشْدٍ وَاحِدٍ لِأَنَّهُ نَكِرَةٌ فِي مَوْضِعِ الْإِثْبَاتِ،
فَلَا يَكُونُ الرُّشْدُ فِي الدِّينِ مُرَادًا لِأَنَّهُ
حِينَئِذٍ يَكُونُ مُعَلَّقًا بِرُشْدَيْنِ انْتَهَى
فَتَدَبَّرْ (قَوْلُهُ وَلِأَنَّ الْفَاسِقَ مِنْ أَهْلِ
الْوِلَايَةِ عِنْدَنَا لِإِسْلَامِهِ فَيَكُونُ وَالِيًا
لِلتَّصَرُّفِ) أَقُولُ: يَرِدُ النَّقْضُ بِالسَّفِيهِ
الْمُصْلِحِ فِي دِينِهِ دُونَ مَالِهِ عَلَى قَوْلِهِمَا لَا
مَحَالَةَ، لِأَنَّ الْإِسْلَامَ فِيهِ أَيْضًا مُتَحَقِّقٌ
بَلْ فِيهِ أَقْوَى، فَلَزِمَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ
الْوِلَايَةِ فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ وَالِيًا لِلتَّصَرُّفِ
أَيْضًا غَيْرَ
(9/268)
وَيَحْجُرُ الْقَاضِي عِنْدَهُمَا أَيْضًا
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ الْغَفْلَةِ وَهُوَ أَنْ
يُغْبَنَ فِي التِّجَارَاتِ وَلَا يَصْبِرُ عَنْهَا
لِسَلَامَةِ قَلْبِهِ لِمَا فِي الْحَجْرِ مِنْ النَّظَرِ
لَهُ.
(فَصْلٌ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَحْجُورٍ عَلَيْهِ كَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - (قَوْلُهُ وَيَحْجُرُ الْقَاضِي
عِنْدَهُمَا أَيْضًا؛ وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ بِسَبَبِ
الْغَفْلَةِ، وَهُوَ أَنْ يُغْبَنَ فِي التِّجَارَاتِ إلَخْ) .
وَاعْتُرِضَ بِأَنَّهُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -، فَإِنَّهُ مَا حَجَرَ
عَلَى حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ وَكَانَ يُغْبَنُ فِي
التِّجَارَاتِ، بَلْ قَالَ لَهُ «قُلْ لَا خِلَابَةَ لِي
الْخِيَارُ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ» فَأَثْبَتَ لَهُ الْبَيْعَ
بِشَرْطِ الْخِيَارِ وَمَا حَجَرَ. وَأُجِيبَ بِأَنَّ
الْحَجْرَ عَلَى الْمُغَفَّلِ ثَبَتَ بِدَلَالَةِ قَوْله
تَعَالَى {وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ} [النساء:
5] لِمَا أَنَّهُ يُتْلِفُ الْأَمْوَالَ كَالسَّفِيهِ فَلَا
يُعَارِضُهُ خَبَرُ الْوَاحِدِ، كَذَا ذَكَرَهُ تَاجُ
الشَّرِيعَةِ. قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذِكْرِ
الِاعْتِرَاضِ وَالْجَوَابِ. وَرُدَّ بِأَنَّ ذَلِكَ الْمَنْعَ
الْمَالُ وَلَيْسَ النِّزَاعُ فِيهِ، وَإِنَّمَا النِّزَاعُ
فِي الْحَجْرِ انْتَهَى.
وَقَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ:
يُفْهَمُ مِنْهُ الْحَجْرُ أَيْضًا بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ
وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْمَنْعَ كَمَا سَبَقَ مِنْ دَلِيلِهِمَا
اهـ.
أَقُولُ: وَيَجُوزُ أَنْ يُرَدَّ هَذَا أَيْضًا بِأَنَّ
الْحَجْرَ أَبْلَغُ مِنْ مَنْعِ الْمَالِ فِي الْعُقُوبَةِ
كَمَا مَرَّ فِي دَلِيلِ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى عَدَمِ
الْحَجْرِ عَلَى السَّفِيهِ، فَأَنَّى يُفْهَمُ مِنْ مَنْعِ
الْمَالِ الْحَجْرُ بِطَرِيقِ الدَّلَالَةِ وَأَنَّ مَنْعَ
الْمَالِ مُفِيدٌ لِأَنَّ غَالِبَ السَّفَهِ فِي الْهِبَاتِ
وَالصَّدَقَاتِ، وَذَلِكَ يَقِفُ عَلَى الْيَدِ كَمَا مَرَّ
هَذَا أَيْضًا فِي دَلِيلِهِ جَوَابًا عَنْ قَوْلِهِمَا
الْمَنْعُ لَا يُفِيدُ بِدُونِ الْحَجْرِ فَيَسْقُطُ قَوْلُ
ذَلِكَ الْقَائِلِ هَاهُنَا وَإِنْ لَمْ يُفِدْ الْمَنْعَ
كَمَا سَبَقَ مِنْ دَلِيلِهِمَا. وَقَالَ الشَّارِحُ
الْعَيْنِيُّ بَعْدَ نَقْلِ مَا ذَكَرَهُ تَاجُ الشَّرِيعَةِ
وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ قُلْت: فِيهِ نَظَرٌ، لِأَنَّ فِي
حَدِيثِ حِبَّانَ بْنِ مُنْقِذٍ نَوْعَ حَجْرٍ، لِأَنَّهُ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - أَطْلَقَ لَهُ الْبُيُوعَ
كُلَّهَا بِالْخِيَارِ فَصَارَ كَالْمَحْجُورِ فِي الْبُيُوعِ
الْمُطْلَقَةِ فَافْهَمْ اهـ.
أَقُولُ: لَيْسَ مَا قَالَهُ بِشَيْءٍ، إذْ لَا شَكَّ أَنَّهُ
لَا حَجْرَ فِي الْحَدِيثِ الْمَزْبُورِ عَلَى حِبَّانَ فِي
شَيْءٍ، بَلْ فِيهِ إرْشَادُهُ إلَى مَا يَلِيقُ بِحَالِهِ
مِنْ شَرْطِ الْخِيَارِ فِي الْبَيْعِ، وَقَوْلُ الشَّارِحِ
الْمَذْكُورُ فَصَارَ كَالْمَحْجُورِ فِي الْبُيُوعِ
الْمُطْلَقَةِ يُشْعِرُ بِاعْتِرَافِهِ أَيْضًا بِأَنَّهُ لَمْ
يَصِرْ مَحْجُورًا عَلَيْهِ حَقِيقَةً فِي شَيْءٍ فَلَا
يُجْدِي مَا قَالَهُ شَيْئًا هَاهُنَا، وَلَوْ سُلِّمَ
دَلَالَةُ الْحَدِيثِ عَلَى كَوْنِهِ مَحْجُورًا عَلَيْهِ فِي
الْبُيُوعِ الْمُطْلَقَةِ: أَيْ فِي الْبُيُوعِ الَّتِي لَمْ
يُشْتَرَطْ فِيهَا الْخِيَارُ فَلَا نَفْعَ لَهَا فِي دَفْعِ
مَادَّةِ الِاعْتِرَاضِ هَاهُنَا فَإِنَّ مَذْهَبَ
الْإِمَامَيْنِ وَالشَّافِعِيِّ أَنْ يَحْجُرَ الْقَاضِي عَلَى
الْمُغَفَّلِ فِي بُيُوعِهِ مُطْلَقًا: أَيْ سَوَاءٌ شَرَطَ
فِيهَا الْخِيَارَ أَمْ لَا، فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ
الْحَجْرَ عَلَى الْمُغَفَّلِ فِي بُيُوعِهِ الَّتِي شُرِطَ
فِيهَا الْخِيَارُ خِلَافُ مَا ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ -
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فِي حَدِيثِ حِبَّانَ
بْنِ مُنْقِذٍ.
[فَصْلٌ فِي حَدِّ الْبُلُوغِ]
الْبُلُوغُ فِي اللُّغَةِ الْوُصُولُ، وَفِي الِاصْطِلَاحِ:
انْتِهَاءُ الصِّغَرِ.
وَلَمَّا كَانَ الصِّغَرُ أَحَدَ أَسْبَابِ الْحَجْرِ لَمْ
يَكُنْ بُدٌّ مِنْ بَيَانِ
(9/269)
قَالَ (بُلُوغُ الْغُلَامِ بِالِاحْتِلَامِ
وَالْإِحْبَالِ وَالْإِنْزَالِ إذَا وَطِئَ، فَإِنْ لَمْ
يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ لَهُ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ
سَنَةً، وَبُلُوغُ الْجَارِيَةِ بِالْحَيْضِ وَالِاحْتِلَامِ
وَالْحَبَلِ، فَإِنْ لَمْ يُوجَدْ ذَلِكَ فَحَتَّى يَتِمَّ
لَهَا سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً) ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي
حَنِيفَةَ وَقَالَا: إذَا تَمَّ الْغُلَامُ وَالْجَارِيَةُ
خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً فَقَدْ بَلَغَا، وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ
أَبِي حَنِيفَةَ، وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ، وَعَنْهُ فِي
الْغُلَامِ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً. وَقِيلَ الْمُرَادُ أَنْ
يَطْعَنَ فِي التَّاسِعِ عَشْرَةَ سَنَةً وَيَتِمُّ لَهُ
ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً فَلَا اخْتِلَافَ. وَقِيلَ فِيهِ
اخْتِلَافُ الرِّوَايَةِ لِأَنَّهُ ذَكَرَ فِي بَعْضِ
النُّسَخِ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ تِسْعَ عَشْرَةَ سَنَةً، أَمَّا
الْعَلَامَةُ فَلِأَنَّ الْبُلُوغَ بِالْإِنْزَالِ حَقِيقَةً
وَالْحَبَلُ وَالْإِحْبَالُ لَا يَكُونُ إلَّا مَعَ
الْإِنْزَالِ، وَكَذَا الْحَيْضُ فِي أَوَانِ الْحَبَلِ،
فَجُعِلَ كُلُّ ذَلِكَ عَلَامَةَ الْبُلُوغِ، وَأَدْنَى
الْمُدَّةِ لِذَلِكَ فِي حَقِّ الْغُلَامِ اثْنَتَا عَشْرَةَ
سَنَةً، وَفِي حَقِّ الْجَارِيَةِ تِسْعُ سِنِينَ. وَأَمَّا
السِّنُّ فَلَهُمْ الْعَادَةُ الْفَاشِيَّةُ أَنَّ الْبُلُوغَ
لَا يَتَأَخَّرُ فِيهِمَا عَنْ هَذِهِ الْمُدَّةِ. وَلَهُ
قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]
وَأَشُدُّ الصَّبِيِّ ثَمَانِيَ عَشْرَةَ سَنَةً، هَكَذَا
قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَابَعَهُ الْقُتَيْبِيُّ، وَهَذَا
أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ
لِلتَّيَقُّنِ بِهِ، غَيْرَ أَنَّ الْإِنَاثَ نُشُوءُهُنَّ
وَإِدْرَاكُهُنَّ أَسْرَعُ فَنَقَصْنَا فِي حَقِّهِنَّ سَنَةً
لِاشْتِمَالِهَا عَلَى الْفُصُولِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي
يُوَافِقُ وَاحِدٌ مِنْهَا الْمِزَاجَ لَا مَحَالَةَ.
قَالَ (وَإِذَا رَاهَقَ الْغُلَامُ أَوْ الْجَارِيَةُ
الْحُلُمَ وَأَشْكَلَ أَمْرُهُ فِي الْبُلُوغِ فَقَالَ قَدْ
بَلَغْتُ، فَالْقَوْلُ قَوْلُهُ وَأَحْكَامُهُ أَحْكَامُ
الْبَالِغِينَ) لِأَنَّهُ مَعْنًى لَا يُعْرَفُ إلَّا مِنْ
جِهَتِهِمَا ظَاهِرًا، فَإِذَا أَخْبَرَا بِهِ وَلَمْ
يُكَذِّبْهُمَا الظَّاهِرُ قُبِلَ قَوْلُهُمَا فِيهِ، كَمَا
يُقْبَلُ قَوْلُ الْمَرْأَةِ فِي الْحَيْضِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
انْتِهَائِهِ، وَهَذَا الْفَصْلُ لِبَيَانِ ذَلِكَ (قَوْلُهُ
وَهَذَا أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، فَيَنْبَنِي الْحُكْمُ
عَلَيْهِ لِلتَّيَقُّنِ بِهِ) أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى قَوْلِهِ
لِلتَّيَقُّنِ بِهِ اعْتِرَاضٌ قَوِيٌّ، وَهُوَ أَنَّهُ لَا
شَكَّ أَنَّ الْمُتَيَقَّنَ بِهِ فِي بُلُوغِ الصَّبِيِّ
رُشْدَهُ إنَّمَا هُوَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ فِي أَشُدِّهِ مِنْ
الْمَدَدِ دُونَ أَقَلِّ مَا قِيلَ فِيهِ مِنْهَا، لِأَنَّهُ
إذَا بَلَغَ الْأَكْثَرَ مِنْهَا فَقَدْ بَلَغَ الْأَقَلَّ
مِنْهَا دُونَ الْعَكْسِ.
نَعَمْ وُجُودُ الْأَقَلِّ فِي نَفْسِهِ لَا يَسْتَلْزِمُ
وُجُودَ الْأَكْثَرِ، بِخِلَافِ الْعَكْسِ، لَكِنْ لَيْسَ
الْكَلَامُ هَاهُنَا فِي وُجُودِ مُدَّةٍ فِي نَفْسِهَا بَلْ
فِي كَوْنِ تِلْكَ الْمُدَّةِ أَشُدَّ الصَّبِيِّ،
وَالْمُتَيَقَّنُ بِهِ فِيهِ إنَّمَا هُوَ أَكْثَرُ مَا قِيلَ
فِي أَشُدِّهِ بِلَا رَيْبٍ، ثُمَّ إنِّي لَمْ أَرَ أَحَدًا
مِنْ الشُّرَّاحِ حَامَ حَوْلَ هَذَا الْإِشْكَالِ سِوَى تَاجِ
الشَّرِيعَةِ وَصَاحِبِ الْكِفَايَةِ، فَإِنَّهُمَا قَالَا:
فَإِنْ قِيلَ: يَنْبَغِي أَنْ يُقَالَ بِالْأَكْثَرِ لِأَنَّهُ
الْمُتَيَقَّنُ، إذْ الْأَدْنَى يَكُونُ فِي الْأَكْثَرِ دُونَ
الْعَكْسِ.
قُلْنَا: أَوَّلُ الْآيَةِ {وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ}
[الأنعام: 152] إلَى قَوْلِهِ {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ}
[الأنعام: 152] وَاَللَّهُ تَعَالَى مَدَّ الْحُكْمَ إلَى
غَايَةِ الْأَشُدِّ، وَأَقَلُّ مَا قِيلَ فِي تَفْسِيرِهِ
ثَمَانِيَ عَشَرَةَ وَهُوَ الْمُتَيَقَّنُ، إذْ لَوْ مَدَّ
إلَى أَقْصَاهُ لَا بُدَّ أَنْ يَمُدَّ إلَى ثَمَانِيَ
عَشَرَةَ، وَلَوْ مَدَّ إلَيْهَا لَا يَكُونُ مُمْتَدًّا إلَى
أَقْصَاهُ فَكَانَتْ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ مُتَيَقَّنًا فِي
كَوْنِ الْحُكْمِ
(9/270)
[بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ]
ِ (قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا أَحْجُرُ فِي الدَّيْنِ،
وَإِذَا وَجَبَتْ دُيُونٌ عَلَى رَجُلٍ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ
حَبْسَهُ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ)
لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ
لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مُمْتَدًّا إلَيْهَا فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ انْتَهَى.
أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ نَظَرٌ، لِأَنَّ الْأَشُدَّ فِي
الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ الْمَذْكُورَةِ مُنْتَهَى الْحُكْمِ
السَّابِقِ، وَغَايَتُهُ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَطْعًا
قَوْله تَعَالَى {حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ} [الأنعام: 152]
فَمُجَرَّدُ دُخُولِ مَدِّ الْحُكْمِ السَّابِقِ إلَى
ثَمَانِيَ عَشَرَةَ فِي مَدِّهِ إلَى أَقْصَى مَا قِيلَ فِي
تَفْسِيرِ الْأَشُدِّ لَا يَلْزَمُ كَوْنُ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ
مُنْتَهَى الْحُكْمِ السَّابِقِ وَغَايَتَهُ حَتَّى يَلْزَمَ
كَوْنُهَا أَشُدَّهُ فِيمَا إذَا مَدَّ الْحُكْمَ إلَى
أَقْصَاهُ أَيْضًا، وَإِنَّمَا يَلْزَمُ وُجُودُهَا فِي
نَفْسِهَا فِي ضِمْنِ وُجُودِ مُدَّةٍ أَكْثَرَ مِنْهَا فَلَمْ
يَكُنْ مُتَيَقَّنًا بِهَا مِنْ حَيْثُ كَوْنُهَا الْأَشُدَّ
بَلْ مِنْ حَيْثُ وُجُودُهَا فِي نَفْسِهَا، وَالْمَطْلُوبُ
هَاهُنَا هُوَ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي، فَلَا يَتِمُّ
التَّقْرِيبُ.
وَالْحَقُّ فِي أَصْلِ التَّعْلِيلِ أَنْ يُقَالَ: وَهَذَا
أَقَلُّ مَا قِيلَ فِيهِ، فَيُبْنَى الْحُكْمُ عَلَيْهِ
لِلِاحْتِيَاطِ كَمَا وَقَعَ فِي الْكَافِي وَالتَّبْيِينِ،
إلَّا أَنَّهُ قَالَ فِي الْكَافِي بَعْدَ قَوْلِهِ
لِلِاحْتِيَاطِ: وَلِأَنَّهُ مُتَيَقَّنٌ بِهِ، وَأَمَّا فِي
التَّبْيِينِ فَقَدْ اكْتَفَى بِقَوْلِهِ لِلِاحْتِيَاطِ
وَهُوَ الْأَصْوَبُ.
(بَابُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ) تَلْقِيبُ هَذَا
الْبَابِ بِالْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ وَمَا قَبْلَهُ
بِالْحَجْرِ لِلْفَسَادِ إمَّا عَلَى قَوْلِهِمَا فَقَطْ كَمَا
قَالُوا فِي فَصْلِ تَكْبِيرَاتِ التَّشْرِيقِ مِنْ كِتَابِ
الصَّلَاةِ وَفِي بَابِ مُقَاسَمَةِ الْجَدِّ مِنْ عِلْمِ
الْفَرَائِضِ.
لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ لَا يَرَى شَيْئًا مِنْهَا، وَإِمَّا
عَلَى قَوْلِهِمْ جَمِيعًا بِنَاءً عَلَى تَعَلُّقِ نَظَرِ
كُلِّهِمْ بِذَلِكَ إثْبَاتًا مِنْهُمَا وَنَفْيًا مِنْهُ.
ثُمَّ إنَّ الْحَجْرَ بِسَبَبِ الدَّيْنِ لَمَّا كَانَ
مَشْرُوطًا بِطَلَبِ الْغُرَمَاءِ كَانَ فِيهِ وَصْفٌ زَائِدٌ،
فَصَارَ بِالنَّظَرِ إلَى مَا قَبْلَهُ بِمَنْزِلَةِ
الْمُرَكَّبِ مِنْ الْمُفْرَدِ فَلَا جَرْمَ آثَرَ تَأْخِيرَهُ
عَنْهُ (قَوْلُهُ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
لَا أَحْجُرُ فِي الدَّيْنِ، وَإِذَا وَجَبَ دُيُونٌ عَلَى
رَجُلٍ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَالْحَجْرَ عَلَيْهِ
لَمْ أَحْجُرْ عَلَيْهِ، لِأَنَّ فِي الْحَجْرِ عَلَيْهِ
إهْدَارَ أَهْلِيَّتِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ)
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي هَذَا الْمَقَامِ: وَأَبُو
حَنِيفَةَ لَا يُجَوِّزُهُ لِأَنَّ فِيهِ إهْدَارَ
أَهْلِيَّتِهِ، وَذَلِكَ ضَرَرٌ فَوْقَ ضَرَرِ الْمَالِ فَلَا
يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى انْتَهَى.
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ قَوْلَهُ فَلَا يُتْرَكُ
الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى لَا يُنَاسِبُ مَا قَبْلَهُ مِنْ
الْمُقَدِّمَتَيْنِ بَلْ يُنَافِيهِ فِي الظَّاهِرِ، فَكَانَ
حَقُّ الْعِبَارَةِ أَنْ يُقَالَ: فَلَا يُتَحَمَّلُ
الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى كَمَا قَالَهُ الْمُصَنِّفُ
فِي أَوَائِلِ بَابِ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ، وَأَشَارَ إلَيْهِ
هَاهُنَا بِقَوْلِهِ فَلَا يَجُوزُ لِدَفْعِ ضَرَرٍ خَاصٍّ،
وَعَنْ هَذَا قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: وَلَعَلَّ
الْعِبَارَةَ فَلَا يُرْتَكَبُ، وَقَوْلُهُ فَلَا يُتْرَكُ
(9/271)
(فَإِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ
فِيهِ الْحَاكِمُ) لِأَنَّهُ نَوْعُ حَجْرٍ، وَلِأَنَّهُ
تِجَارَةٌ لَا عَنْ تَرَاضٍ فَيَكُونُ بَاطِلًا بِالنَّصِّ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
سَهْوٌ مِنْ النَّاسِخِ انْتَهَى.
ثُمَّ أَقُولُ: يُمْكِنُ تَوْجِيهُ مَا عَلَيْهِ النُّسَخُ
الْآنَ بِوُجُوهٍ: الْأَوَّلُ أَنْ يُحْمَلَ الْمُرَادُ
بِالْأَعْلَى فِي قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى
لِلْأَدْنَى عَلَى أَهْلِيَّةِ الْمَدْيُونِ لَا إهْدَارِ
أَهْلِيَّتِهِ، وَبِالْأَدْنَى عَلَى الْمَالِ نَفْسِهِ لَا
عَلَى ضَرَرِهِ، يُرْشِدُ إلَيْهِ أَنَّهُ قَالَ لِلْأَدْنَى
وَلَمْ يَقُلْ لِدَفْعِ الْأَدْنَى كَمَا قَالَهُ
الْمُصَنِّفُ، وَلَا شَكَّ أَنَّ كَوْنَ إهْدَارِ
أَهْلِيَّتِهِ ضَرَرًا فَوْقَ ضَرَرِ الْمَالِ إنَّمَا هُوَ
بِسَبَبِ كَوْنِ أَهْلِيَّتِهِ أَعْلَى: أَيْ أَشْرَفَ،
وَكَوْنِ الْمَالِ أَدْنَى: أَيْ أَخَسَّ، فَإِنَّ ضَرَرَ
فَوْتِ الْأَشْرَفِ فَوْقَ ضَرَرِ فَوْتِ الْأَخَسِّ لَا
مَحَالَةَ. فَإِنْ قُلْت: الْمُطَابِقُ لِقَوْلِهِ فِي
السُّؤَالِ الْآتِي وَإِنَّمَا يَكُونُ الْأَوَّلُ أَعْلَى
أَنْ لَوْ كَانَا فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ
بِالْأَعْلَى إهْدَارَ الْأَهْلِيَّةِ وَبِالْأَدْنَى ضَرَرًا
يُقَابِلُهُ.
قُلْت: تَطْبِيقُ مَا فِي الْمَوْضِعَيْنِ فِي حَيِّزِ
الْمُرَادِ غَيْرُ لَازِمٍ، فَإِنَّ عُلُوَّ نَفْسِ
الْأَهْلِيَّةِ شَرَفًا وَعُلُوَّ إهْدَارِهَا ضَرَرًا
مُتَلَازِمَانِ، وَكَذَا دَنَاءَةُ نَفْسِ الْمَالِ
وَدَنَاءَةُ ضَرَرِهِ، فَجَازَ أَنْ يُرَادَ بِالْأَعْلَى
وَالْأَدْنَى فِي مَوْضِعٍ نَفْسُ الْأَهْلِيَّةِ وَنَفْسُ
الْمَالِ وَفِي مَوْضِعٍ آخَرَ ضَرَرُهُمَا، وَيَحْصُلُ
بِهَذَا الْقَدْرِ مَا هُوَ الْمَقْصُودُ فِي كُلٍّ مِنْ
الْمَوْضِعَيْنِ كَمَا لَا يَخْفَى عَلَى الْمُتَأَمِّلِ.
وَالثَّانِي أَنْ يُحْمَلَ التَّرْكُ الْمَنْفِيُّ فِي
قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ عَلَى مَعْنَى الْإِبْقَاءِ فَيَكُونُ
مَعْنَى قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ الْأَعْلَى لِلْأَدْنَى فَلَا
يُبْقَى الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِأَجْلِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى:
أَيْ لِأَجْلِ دَفْعِهِ، وَمَجِيءُ التَّرْكِ بِمَعْنَى
الْإِبْقَاءِ وَاقِعٌ فِي التَّنْزِيلِ كَقَوْلِهِ جَلَّ
اسْمُهُ {وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخِرِينَ} [الصافات: 78]
أَيْ أَبْقَيْنَا، نَصَّ عَلَيْهِ فِي الْقَامُوسِ وَشَائِعٌ
فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِينَ حَيْثُ يَقُولُونَ: تُرِكَ عَلَى
حَالِهِ، وَوَقَعَ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ أَيْضًا فِي هَذَا
الْبَابِ حَيْثُ قَالَ: وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ مِنْ
ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي. فَإِنْ قُلْت: مَعْنَى
الْإِبْقَاءِ لَا يُنَاسِبُ هَذَا الْمَحَلَّ، لِأَنَّ
الْمُتَبَادِرَ مِنْ نَفْيِ إبْقَاءِ إهْدَارِ الْأَهْلِيَّةِ
تَحَقُّقُ إهْدَارِهَا أَوَّلًا، إذْ الْبَقَاءُ فَرْعُ
التَّحَقُّقِ.
وَمَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ أَنْ لَا يَجُوزَ إهْدَارُ
أَهْلِيَّةِ الْإِنْسَانِ رَأْسًا لِأَنَّ فِيهِ إلْحَاقَهُ
بِالْبَهَائِمِ. قُلْت: لَا نُسَلِّمُ تَبَادُرَ ذَلِكَ فِي
صُورَةِ النَّفْيِ، وَكَوْنُ الْبَقَاءِ فَرْعَ التَّحَقُّقِ
إنَّمَا هُوَ فِي الثُّبُوتِ، وَلَئِنْ سُلِّمَ ذَلِكَ
فَيُمْكِنُ أَنْ يَلْتَزِمَ الْحَمْلَ عَلَى خِلَافِ
الْمُتَبَادِرِ مِنْ ظَاهِرِ اللَّفْظِ بِقَرِينَةِ
الْمَقَامِ. وَالثَّالِثُ أَنْ تُحْمَلَ كَلِمَةُ لَا فِي
قَوْلِهِ فَلَا يُتْرَكُ عَلَى الزَّائِدَةِ كَمَا فِي قَوْله
تَعَالَى {لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ} [الحديد: 29]
وَفِي قَوْله تَعَالَى {لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ}
[البلد: 1] وَغَيْرِهِمَا مِنْ الْأَمْثِلَةِ.
فَإِنْ قُلْت: قَدْ عُيِّنَتْ مَوَاقِعُ زِيَادَةِ لَا فِي
أَكْثَرِ كُتُبِ النَّحْوِ: أَحَدُهُمَا مَعَ الْوَاوِ بَعْدَ
النَّفْيِ. وَثَانِيهِمَا بَعْدَ " أَنْ " الْمَصْدَرِيَّةِ.
وَثَالِثُهَا قَبْلَ الْقَسَمِ عَلَى قِلَّةٍ. وَرَابِعُهَا
مَعَ الْمُضَافِ عَلَى الشُّذُوذِ، وَمَا نَحْنُ فِيهِ لَيْسَ
مِنْهَا فِي شَيْءٍ. قُلْت: ذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ فِي مُغْنِي
اللَّبِيبِ وُقُوعَ لَا الزَّائِدَةِ فِي مَوَاضِعَ مِنْ
التَّنْزِيلِ، وَعَدَّ مِنْهَا قَوْله تَعَالَى {وَمَا
يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ}
[الأنعام: 109] فِيمَنْ فَتَحَ الْهَمْزَةَ.
وَقَالَ: فَقَالَ قَوْمٌ مِنْهُمْ الْخَلِيلُ وَالْفَارِسِيُّ
لَا زَائِدَةٌ، وَإِلَّا لَكَانَ عُذْرًا لِلْكُفَّارِ،
وَعَدَّ مِنْهَا أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {وَحَرَامٌ عَلَى
قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} [الأنبياء:
95] وَقَالَ فَقِيلَ لَا زَائِدَةٌ، وَالْمَعْنَى مُمْتَنِعٌ
عَلَى أَهْلِ قَرْيَةٍ قَدَّرْنَا إهْلَاكَهُمْ لِكُفْرِهِمْ
أَنَّهُمْ يَرْجِعُونَ عَنْ الْكُفْرِ إلَى قِيَامِ السَّاعَةِ
اهـ. وَلَا يَخْفَى أَنَّ هَذَيْنِ الْمَوْضِعَيْنِ لَيْسَا
مِنْ الْمَوَاقِعِ الْأَرْبَعَةِ الْمُعَيَّنَةِ
وَمُوَافِقَيْنِ لِمَا نَحْنُ فِيهِ، فَكَفَى بِهِمَا حُجَّةً
لِهَذَا الْوَجْهِ مِنْ التَّوْجِيهِ.
فَإِنْ قُلْت: لَا يَنْتَظِمُ حِينَئِذٍ آخِرُ الْكَلَامِ
وَهُوَ قَوْلُهُ لِلْأَدْنَى، إذْ لَا مَعْنَى لَأَنْ يُقَالَ:
يُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِلضَّرَرِ الْأَدْنَى، فَإِنَّ
تَرْكَ الضَّرَرِ الْأَعْلَى لَيْسَ لِلضَّرَرِ الْأَدْنَى
بَلْ لِكَوْنِهِ أَشَدَّ وَأَقْبَحَ مِنْهُ. ثُمَّ إنَّ هَذَا
إذَا لَمْ يَكُنْ مَعْنَى قَوْلِهِ لِلْأَدْنَى لِدَفْعِ
الْأَدْنَى، وَأَمَّا إذَا كَانَ مَعْنَاهُ ذَاكَ كَمَا هُوَ
الظَّاهِرُ فَفَسَادُ الْمَعْنَى أَظْهَرُ، إذْ يَصِيرُ
الْمَعْنَى إذْ ذَاكَ فَيُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى
لِدَفْعِ الضَّرَرِ الْأَدْنَى فَيَلْزَمُ أَنْ لَا
يُتَحَمَّلَ شَيْءٌ مِنْ الضَّرَرَيْنِ، وَلَيْسَ كَذَلِكَ
قَطْعًا.
قُلْت: يُمْكِنُ نَظْمُ ذَلِكَ بِأَنْ يُحْمَلَ اللَّامُ فِي
قَوْلِهِ لِلْأَدْنَى عَلَى مَعْنَى عِنْدَ، فَيَكُونُ مَعْنَى
الْكَلَامِ فَيُتْرَكُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى عِنْدَ تَيَسُّرِ
الضَّرَرِ الْأَدْنَى لِوُجُوبِ اخْتِيَارِ أَهْوَنِ
الشَّرَّيْنِ، وَهَذَا مَعْنًى مُسْتَقِيمٌ كَمَا تَرَى،
وَمَجِيءُ اللَّامِ بِمَعْنَى عِنْدَ قَدْ ذَكَرَهُ ابْنُ
هِشَامٍ فِي مُغْنِي اللَّبِيبِ وَمَثَّلَهُ بِقَوْلِهِمْ
كَتَبْتُهُ لِخَمْسٍ خَلَوْنَ، وَقَالَ: وَجَعَلَ مِنْهُ ابْنُ
جِنِّي قِرَاءَةَ قَوْله تَعَالَى
(9/272)
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . .
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
{بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ} [ق: 5] بِكَسْرِ
اللَّامِ وَتَخْفِيفِ الْمِيمِ اهـ.
وَالْإِنْصَافُ أَنَّ هَذَا الْوَجْهَ أَبْعَدُ الْوُجُوهِ
الَّتِي ذَكَرْنَا لِتَوْجِيهِ كَلَامِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ
هَاهُنَا لَكِنَّ مَقْصُودَنَا بَيَانُ جُمْلَةِ مَا لُوحِظَ
مِنْ الِاحْتِمَالَاتِ فِي تَوْجِيهِ كَلَامِهِ بِحَسَبِ
الْإِمْكَانِ عَلَى الْقَوَاعِدِ الْعَقْلِيَّةِ
وَالنَّقْلِيَّةِ. ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: فَإِنْ
قِيلَ: إهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ
وَتَرْكُ الْحَجْرِ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الدَّائِنَ، وَإِنَّمَا
يَكُونُ الْأَوَّلُ أَعْلَى لَوْ كَانَ فِي شَخْصٍ وَاحِدٍ.
فَالْجَوَابُ أَنَّ ضَرَرَ الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ
لَا مَحَالَةَ، وَالْحَبْسُ ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ
مُجَازَاةً شَرْعًا، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ
بِهِ ضَرَرُ الدَّائِنِ وَإِهْدَارُ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى
مِنْ الْحَبْسِ فَيَكُونُ أَعْلَى مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ اهـ
كَلَامُهُ. أَقُولُ: حَاصِلُ السُّؤَالِ مَنْعُ كَوْنِ
إهْدَارِ أَهْلِيَّةِ الْمَدْيُونِ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ
ضَرَرِ الدَّائِنِ مُسْتَنِدًا بِكَوْنِهِمَا فِي شَخْصَيْنِ
دُونَ شَخْصٍ وَاحِدٍ. وَحَاصِلُ الْجَوَابِ إثْبَاتُ
الْمُقَدِّمَةِ الْمَمْنُوعَةِ بِطَرِيقِ قِيَاسِ
الْمُسَاوَاةِ بِحَيْثُ يَظْهَرُ مِنْهُ بُطْلَانُ السَّنَدِ
أَيْضًا. تَقْرِيرُهُ أَنَّ إهْدَارَ الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى
ضَرَرًا مِنْ الْحَبْسِ، وَالْحَبْسُ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ
ضَرَرِ الدَّائِنِ يَنْتِجُ أَنَّ إهْدَارَ الْأَهْلِيَّةِ
أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ بِمُلَاحَظَةِ
مُقَدِّمَةٍ مُقَرَّرَةٍ، وَهِيَ أَنَّ الْأَعْلَى مِنْ
الْأَعْلَى مِنْ الشَّيْءِ أَعْلَى مِنْ ذَلِكَ الشَّيْءِ،
وَلَا شَكَّ أَنَّ هَذَا الْقِيَاسَ يَقْتَضِي كَوْنَ إهْدَارِ
الْأَهْلِيَّةِ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ وَإِنْ
كَانَ فِي شَخْصَيْنِ فَسَقَطَ الْمَنْعُ وَبَطَلَ السَّنَدُ،
وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ فِي الْمُقَدِّمَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ
الْقِيَاسِ الْمَزْبُورِ وَهِيَ قَوْلُنَا وَالْحَبْسُ أَعْلَى
ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ نَوْعُ خَفَاءٍ بَيَّنَهَا
الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ أَوَّلًا بِمَا حَاصِلُهُ أَنَّ
ضَرَرَ الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ
الْحَبْسُ أَعْلَى ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ لَمَّا
انْدَفَعَ هَذَا بِذَاكَ.
ثُمَّ ذَكَرَ الْمُقَدِّمَةَ الْأُولَى وَالنَّتِيجَةَ
لِظُهُورِهِمَا بِلَا بَيَانٍ. ثُمَّ أَقُولُ: فِي الْجَوَابِ
بَحْثٌ. أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ قَوْلَهُ إنَّ ضَرَرَ
الدَّائِنِ يَنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ لَا مَحَالَةَ فِي حَيِّزِ
الْمَنْعِ لِجَوَازِ أَنْ يَخْتَارَ الْمَدْيُونُ الْحَبْسَ
أَبَدًا وَلَا يُوفِي حَقَّ الدَّائِنِ فَلَا يَنْدَفِعُ
حِينَئِذٍ ضَرَرُ الدَّائِنِ.
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ الْحَبْسَ لَوْ كَانَ أَعْلَى
ضَرَرًا مِنْ ضَرَرِ الدَّائِنِ لَمَّا جَازَ الْحَبْسُ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - بِنَاءً عَلَى مُقْتَضَى
قَوْلِهِ لَا يُتَحَمَّلُ الضَّرَرُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ
الضَّرَرِ الْأَدْنَى كَمَا هُوَ الْأَسَاسُ فِي إثْبَاتِ
مَذْهَبِهِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ، مَعَ أَنَّ الْحَبْسَ
جَائِزٌ بِالْإِجْمَاعِ وَمُتَعَيِّنٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ.
وَيُمْكِنُ أَنْ يُجَابَ عَنْ الْأَوَّلِ بِأَنَّ اخْتِيَارَ
الْمَدْيُونِ الْحَبْسَ الْأَبَدِيَّ مَعَ قُدْرَتِهِ عَلَى
أَدَاءِ الدَّيْنِ بَعِيدٌ جِدًّا غَيْرُ وَاقِعٍ فِي
الْعَادَةِ إلَّا بِغَايَةِ النُّدْرَةِ، وَمَبْنَى
الْأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ عَلَى الْغَالِبِ الْأَكْثَرِ.
وَعَنْ الثَّانِي بِأَنَّ الْحَبْسَ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ
ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ، بَلْ هُوَ مَعَ ذَلِكَ
جَزَاءٌ لِظُلْمِ الْمَدْيُونِ الدَّائِنَ بِالْمُمَاطَلَةِ،
وَقَدْ صَرَّحَ الْمُصَنِّفُ فِي فَصْلِ الْحَبْسِ مِنْ
قَضَاءِ الْقَضَاءِ بِكَوْنِ الْحَبْسِ مِنْ جَزَاءِ
الْمُمَاطَلَةِ حَيْثُ قَالَ: وَإِذَا ثَبَتَ الْحَقُّ عِنْدَ
الْقَاضِي وَطَلَبَ صَاحِبُ الْحَقِّ حَبْسَ غَرِيمِهِ لَمْ
يُعَجِّلْ بِحَبْسِهِ وَأَمَرَهُ بِدَفْعِ مَا عَلَيْهِ،
لِأَنَّ الْحَبْسَ جَزَاءُ الْمُمَاطَلَةِ فَلَا بُدَّ مِنْ
ظُهُورِهَا وَأَشَارَ إلَيْهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ فِي
أَثْنَاءِ الْجَوَابِ الْمَزْبُورِ بِقَوْلِهِ: وَالْحَبْسُ
ضَرَرٌ يَلْحَقُ الْمَدْيُونَ مُجَازَاةً شَرْعًا، وَلَعَلَّ
قَصْدَهُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ كَانَ بَاعِثًا عَلَى ذِكْرِهِ
هَذِهِ الْمُقَدِّمَةَ أَثْنَاءَ الْجَوَابِ، وَإِلَّا فَلَا
مَدْخَلَ لَهُ أَصْلًا فِي إثْبَاتِ الْمُقَدِّمَةِ
الْمَمْنُوعَةِ فِي السُّؤَالِ كَمَا ظَهَرَ مِنْ تَقْرِيرِنَا
السَّابِقِ، فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَاخْتِيَارُ الْحَبْسِ
لِلْمُجَازَاةِ الشَّرْعِيَّةِ مَعَ انْدِفَاعِ ضَرَرِ
الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ بِهِ أَيْضًا لَا لِمُجَرَّدِ دَفْعِ
هَذَا الضَّرَرِ الَّذِي هُوَ أَدْنَى مِنْ ضَرَرِ الْحَبْسِ
حَتَّى يَنْتَقِضَ بِهِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ لَا
يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى.
فَإِنْ قُلْت: هَبْ أَنَّ الْحَبْسَ لَيْسَ لِمُجَرَّدِ دَفْعِ
ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ بَلْ لَهُ وَلِجَزَاءِ ظُلْمِ
الْمُمَاطَلَةِ مَعًا لَكِنْ يَنْدَفِعُ بِهِ ظُلْمُ
الْمُمَاطَلَةِ أَيْضًا كَمَا يُفْصِحُ عَنْهُ قَوْلُ
الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ، وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا
حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ إيفَاءً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ
وَدَفْعًا لِظُلْمِهِ اهـ.
فَبِقِيَاسِ الْمُقَدِّمَةِ الْمَذْكُورَةِ فِي الْجَوَابِ
الْقَائِلَةِ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ بِهِ
ضَرَرُ الدَّائِنِ، يُقَالُ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ الْحَبْسُ
أَعْلَى مِنْ ظُلْمِ الْمُمَاطَلَةِ لَمَا انْدَفَعَ بِهِ
ذَلِكَ الظُّلْمُ، فَيَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الْحَبْسُ أَعْلَى
مِنْ ظُلْمِ الْمُمَاطَلَةِ أَيْضًا فَيَعُودُ انْتِقَاضُ
قَوْلِهِ لَا يُتَحَمَّلُ الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى
بِالْحَبْسِ.
قُلْت: الْمُنْدَفِعُ بِالْحَبْسِ ظُلْمُهُ الْآتِي وَهُوَ
الْمُرَادُ بِقَوْلِ الْمُصَنِّفِ فِيمَا بَعْدُ دَفْعًا
لِظُلْمِهِ لَا ظُلْمُهُ الْمَاضِي، إذْ لَا مَجَالَ لِدَفْعِ
مَا تَحَقَّقَ فِيمَا مَضَى مِنْ الْمُمَاطَلَةِ لِأَنَّهُ
عَرَضٌ لَا يَبْقَى، وَاَلَّذِي جُعِلَ الْحَبْسُ جَزَاءً لَهُ
إنَّمَا هُوَ ظُلْمُهُ الْمَاضِي وَاخْتِيَارُ الْحَبْسِ
لِمُجَازَاةِ ظُلْمِهِ الْمَاضِي مَعَ دَفْعِ ظُلْمِهِ الْآتِي
وَدَفْعِ ضَرَرِ الْمَالِ عَنْ الدَّائِنِ أَيْضًا فَلَا
يَتَمَشَّى النَّقْضُ بِالنَّظَرِ إلَى مُجَازَاةِ ظُلْمِهِ
الْمَاضِي كَمَا لَا يَخْفَى. وَلَئِنْ سُلِّمَ
(9/273)
(وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى
يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ) إيفَاءً لِحَقِّ الْغُرَمَاءِ
وَدَفْعًا لِظُلْمِهِ (وَقَالَا: إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ
الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
كَوْنُ الْحَبْسِ أَعْلَى مِنْ ظُلْمِهِ مُطْلَقًا وَمِنْ
ضَرَرِ الدَّائِنِ فَنَقُولُ: إنَّ قَوْلَهُ لَا يُتَحَمَّلُ
الْأَعْلَى لِدَفْعِ الْأَدْنَى قَوْلٌ عَلَى مُوجَبِ
الْقِيَاسِ، وَالْحَبْسُ قَدْ ثَبَتَ بِالنَّصِّ مِنْ كِتَابٍ
وَسُنَّةٍ عَلَى مَا صَرَّحُوا بِهِ فِي فَصْلِهِ وَفَصَّلُوهُ
فَيُتْرَكُ بِهِ الْقِيَاسُ، بِخِلَافِ الْحَجْرِ بِسَبَبِ
الدَّيْنِ فَإِنَّهُ لَمْ يَثْبُتْ بِنَصٍّ فَيَجْرِي فِيهِ
الْقِيَاسُ وَيَسْقُطُ النَّقْضُ بِالْحَبْسِ قَطْعًا.
لَا يُقَالُ: الْحَجْرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ أَيْضًا ثَبَتَ
بِالنَّصِّ وَهُوَ مَا رُوِيَ «أَنَّ مُعَاذًا رَكِبَتْهُ
دُيُونٌ فَبَاعَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - مَالَهُ وَقَسَمَ ثَمَنَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ
بِالْحِصَصِ» كَمَا ذُكِرَ فِي الْبَدَائِعِ وَالتَّبْيِينِ
وَبَعْضِ شُرُوحِ هَذَا الْكِتَابِ دَلِيلًا عَلَى قَوْلِ
الْإِمَامَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ. لِأَنَّا نَقُولُ:
أَجَابُوا عَنْهُ فِي تِلْكَ الْكُتُبِ أَيْضًا عَنْ قِيلِ
أَبِي حَنِيفَةَ بِأَنَّ بَيْعَ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَالَ مُعَاذٍ كَانَ بِإِذْنِهِ،
اسْتَعَانَ بِالنَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ
-، وَقَالُوا: وَالدَّلِيلُ عَلَيْهِ أَنَّ بَيْعَ مَالِهِ لَا
يَجُوزُ حَتَّى يَأْمُرَهُ وَيَأْبَى، وَلَا يُظَنُّ بِمُعَاذٍ
- رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنْ يُخَالِفَ أَمْرَ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -. وَقَالَ فِي
الْبَدَائِعِ: مَعَ مَا رُوِيَ «أَنَّهُ طَلَبَ مِنْ رَسُولِ
اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَنْ يَبِيعَ
مَالَهُ لِيَنَالَ بَرَكَتَهُ فَيَصِيرَ دَيْنُهُ مَقْضِيًّا
بِبَرَكَتِهِ» اهـ.
فَظَهَرَ أَنَّهُ لَا نَصَّ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ الْحَجْرِ
بِسَبَبِ الدَّيْنِ، فَتَعَيَّنَ أَنَّ الْمَدَارَ فِيهِ هُوَ
الْقِيَاسُ. وَتَحْقِيقُ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى هَذَا
الْمِنْوَالِ مِنْ الْأَسْرَارِ الَّتِي وُفِّقْت لَهَا
بِتَوْفِيقِ اللَّهِ تَعَالَى. ثُمَّ إنَّ مِنْ الْعَجَائِبِ
هَاهُنَا أَنِّي قَدْ اُبْتُلِيت فِي زَمَانٍ مِنْ
الْأَزْمَانِ بِأَنْ أُمْتَحَنَ مَعَ بَعْضِ مَنْ عُدَّ مِنْ
الْأَهَالِي وَالْأَعْيَانِ لِأَجْلِ بَعْضٍ مِنْ الْمَدَارِسِ
فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مِنْ كُتُبٍ ثَلَاثَةٍ: الْهِدَايَةُ،
وَشَرْحُ الْمَوَاقِفِ، وَشَرْحُ الْمِفْتَاحِ، فَاتَّفَقَ
أَنْ يَقَعَ الْبَحْثُ مِنْ هَذَا الْكِتَابِ مِنْ أَوَّلِ
هَذَا الْبَابِ، فَكَانَ اسْتِخْرَاجُ بَعْضٍ مِنْ أَصْحَابِ
الِامْتِحَانِ فِي هَذَا الْمَقَامِ عَلَى أَنْ تَكُونَ
كَلِمَةُ لَوْ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ فِي
الْجَوَابِ: وَلَوْ لَمْ يَكُنْ أَعْلَى مَا انْدَفَعَ بِهِ
ضَرَرُ الدَّائِنِ وَصْلِيَّةً، فَجَعَلَ كَلِمَةَ أَعْلَى
مُضَافَةً إلَى كَلِمَةِ مَا، وَجَعَلَ كَلِمَةَ مَا
مَوْصُولَةً، فَبَنَى عَلَى هَذَا الِاسْتِخْرَاجِ خُرَافَاتٍ
مِنْ الْأَوْهَامِ، فَلَمَّا عَرَضَ ذَلِكَ عَلَى
الصَّدْرَيْنِ اللَّذَيْنِ كَانَا حَكَمَيْنِ فِي ذَلِكَ
الِامْتِحَانِ بَيَّنَّا بُطْلَانَهُ وَشَنَّعَا عَلَيْهِ
جِدًّا، وَمَعَ ذَلِكَ لَمْ يَرْجِعْ عَنْ رَأْيِهِ الْبَاطِلِ
بَلْ أَصَرَّ عَلَيْهِ، وَرَاجَعَ بَعْضَ الْوُزَرَاءِ
وَاسْتَعَانَ بِشَهَادَةِ بَعْضٍ مِنْ جَهَلَةِ
الْمُدَرِّسِينَ بِالْمَدَارِسِ الْعَالِيَةِ فَوَقَعَ
النِّزَاعُ وَشَاعَ الْأَمْرُ حَتَّى كَادَ تَقَعُ فِتْنَةٌ
عَظِيمَةٌ، وَلِلَّهِ دَرُّ مَنْ قَالَ: رَحِمَ اللَّهُ
امْرَأً عَرَفَ قَدْرَهُ فَلَمْ يَتَعَدَّ طَوْرَهُ (قَوْلُهُ
وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا حَتَّى يَبِيعَهُ فِي دَيْنِهِ)
أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ عِبَارَةِ الْمُصَنِّفِ
هَاهُنَا مَا أَوْرَدَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى
نَظِيرِهَا فِي أَوَائِلِ بَابِ الْحَجْرِ لِلْفَسَادِ بِأَنْ
قَالَ: تَسَامُحُ عِبَارَتِهِ فِي الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ
وَحَتَّى ظَاهِرٌ.
وَيُمْكِنُ تَوْجِيهُ عِبَارَتِهِ هَاهُنَا أَيْضًا بِمَا
وَجَّهْنَا بِهِ عِبَارَتَهُ هُنَاكَ مِنْ حَمْلِ الْأَبَدِ
عَلَى الزَّمَانِ الطَّوِيلِ الْمُمْتَدِّ.
وَيُمْكِنُ هَاهُنَا تَوْجِيهٌ آخَرُ وَهُوَ أَنْ تَكُونَ
كَلِمَةُ حَتَّى هَاهُنَا بِمَعْنَى كَيْ دُونَ إلَى،
فَيَصِيرُ مَعْنَى الْكَلَامِ: وَلَكِنْ يَحْبِسُهُ أَبَدًا
لِيَكُونَ سَبَبًا لِبَيْعِهِ، فَلَا مُسَامَحَةَ فِي
الْجَمْعِ أَصْلًا إذْ الْمُسَامَحَةُ إنَّمَا هِيَ فِي
الْجَمْعِ بَيْنَ الْأَبَدِ وَحَتَّى بِمَعْنَى الِانْتِهَاءِ
دُونَ السَّبَبِيَّةِ كَمَا لَا يَخْفَى، نَعَمْ لَا يُقْصَدُ
بِالْأَبَدِ مَعْنَى الدَّوَامِ أَلْبَتَّةَ، وَلَكِنَّهُ
أَمْرٌ آخَرُ وَرَاءَ الْمُسَامَحَةِ فِي الْجَمْعِ تَأَمَّلْ
تَقِفْ (قَوْلُهُ وَقَالَا: إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ
الْحَجْرَ عَلَيْهِ حَجَرَ الْقَاضِي عَلَيْهِ) أَقُولُ:
لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: لَا يَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْمَحْجُورُ
عَلَيْهِ مُفْلِسًا، بَلْ يَجُوزُ الْحَجْرُ عَلَى الْغَنِيِّ
أَيْضًا عِنْدَهُمَا
نَظَرًا لِغُرَمَائِهِ
، بَلْ الْحَجْرُ بِسَبَبِ الدَّيْنِ إنَّمَا يُفِيدُ
فَائِدَتَهُ فِي حَقِّ الْغَنِيِّ دُونَ الْمُفْلِسِ كَمَا لَا
يَخْفَى عَلَى الْفَطِنِ، فَذِكْرُ الْمُفْلِسِ فِي وَضْعِ
الْمَسْأَلَةِ يُخِلُّ بِحَقٍّ.
لَا يُقَالُ: قَدْ ذُكِرَ فِي النِّهَايَةِ وَغَيْرِهَا
نَقْلًا عَنْ الذَّخِيرَةِ أَنَّ مِنْ مَشَايِخِنَا مَنْ
قَالَ: مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ بِنَاءً عَلَى
مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ حَتَّى لَوْ حُجِرَ
عَلَيْهِ ابْتِدَاءً مِنْ غَيْرِ أَنْ يُقْضَى عَلَيْهِ
بِالْإِفْلَاسِ لَا يَصِحُّ حَجْرُهُ بِلَا خِلَافٍ،
وَالْإِفْلَاسُ عِنْدَهُمَا يَتَحَقَّقُ فِي حَالَةِ
الْحَيَاةِ فَيُمْكِنُ لِلْقَاضِي الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ
وَبِالْحَجْرِ بِنَاءً عَلَيْهِ.
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ -: الْإِفْلَاسُ
فِي حَالِ الْحَيَاةِ لَا يَتَحَقَّقُ، فَلَا يُمْكِنُهُ
الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ أَوَّلًا وَبِالْحَجْرِ بِنَاءً
عَلَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ الْمَسْأَلَةَ
مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ الْمَانِعُ
مِنْ الْحَجْرِ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ كَوْنُ الْحَجْرِ
مُتَضَمِّنًا إلْحَاقَ الضَّرَرِ بِالْمَحْجُورِ وَلَا
تَعَلُّقَ لَهُ بِالْقَضَاءِ
(9/274)
وَمَنَعَهُ مِنْ الْبَيْعِ وَالتَّصَرُّفِ
وَالْإِقْرَارِ حَتَّى لَا يُضِرَّ بِالْغُرَمَاءِ) لِأَنَّ
الْحَجْرَ عَلَى السَّفِيهِ إنَّمَا جَوَّزَاهُ نَظَرًا لَهُ،
وَفِي هَذَا الْحَجْرِ نَظَرٌ لِلْغُرَمَاءِ لِأَنَّهُ عَسَاهُ
يُلْجِئُ مَالَهُ فَيَفُوتُ حَقُّهُمْ، وَمَعْنَى قَوْلِهِمَا
وَمَنَعَهُ مِنْ الْبَيْعِ أَنْ يَكُونَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِ
الْمِثْلِ، أَمَّا الْبَيْعُ بِثَمَنِ الْمِثْلِ لَا يُبْطِلُ
حَقَّ الْغُرَمَاءِ وَالْمَنْعُ لِحَقِّهِمْ فَلَا يُمْنَعُ
مِنْهُ. قَالَ (وَبَاعَ مَالَهُ إنْ امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ
مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ
عِنْدَهُمَا) لِأَنَّ الْبَيْعَ مُسْتَحَقٌّ عَلَيْهِ
لِإِيفَاءِ دَيْنِهِ حَتَّى يُحْبَسَ لِأَجْلِهِ، فَإِذَا
امْتَنَعَ نَابَ الْقَاضِي مَنَابَهُ كَمَا فِي الْجَبِّ
وَالْعُنَّةِ. قُلْنَا: التَّلْجِئَةُ مَوْهُومَةٌ،
وَالْمُسْتَحَقُّ قَضَاءُ الدَّيْنِ، وَالْبَيْعُ لَيْسَ
بِطَرِيقٍ مُتَعَيِّنٍ لِذَلِكَ، بِخِلَافِ الْجَبِّ
وَالْعُنَّةِ وَالْحَبْسُ لِقَضَاءِ الدَّيْنِ بِمَا
يَخْتَارُهُ مِنْ الطَّرِيقِ، كَيْفَ وَلَوْ صَحَّ الْبَيْعُ
كَانَ الْحَبْسُ إضْرَارًا بِهِمَا بِتَأْخِيرِ حَقِّ
الدَّائِنِ وَتَعْذِيبِ الْمَدْيُونِ فَلَا يَكُونُ
مَشْرُوعًا. قَالَ (وَإِنْ كَانَ دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَلَهُ
دَرَاهِمُ قَضَى الْقَاضِي بِغَيْرِ أَمْرِهِ) وَهَذَا
بِالْإِجْمَاعِ، لِأَنَّ لِلدَّائِنِ حَقَّ الْأَخْذِ مِنْ
غَيْرِ رِضَاهُ فَلِلْقَاضِي أَنْ يُعِينَهُ (وَإِنْ كَانَ
دَيْنُهُ دَرَاهِمَ وَلَهُ دَنَانِيرُ أَوْ عَلَى ضِدِّ ذَلِكَ
بَاعَهَا الْقَاضِي فِي دَيْنِهِ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِالْإِفْلَاسِ اهـ.
فَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذِكْرُ الْمُفْلِسِ فِي وَضْعِ
الْمَسْأَلَةِ فِي الْكِتَابِ بِنَاءٌ عَلَى اخْتِيَارِ قَوْلِ
مَنْ قَالَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ بِسَبَبِ الدَّيْنِ بِنَاءً
عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ.
لِأَنَّا نَقُولُ: مَا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ فِي تَضَاعِيفِ
بَيَانِ الْمَذْهَبَيْنِ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَتَقْرِيرِ
دَلِيلِهِمَا كَقَوْلِهِ فِي مَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ: وَإِنْ
كَانَ لَهُ مَالٌ لَمْ يَتَصَرَّفْ فِيهِ الْحَاكِمُ لِأَنَّهُ
نَوْعُ حَجْرٍ، وَقَوْلُهُ فِي مَذْهَبِهِمَا لِأَنَّهُ
عَسَاهُ يُلْجِئُ مَالَهُ فَيَفُوتُ حَقُّهُمْ، وَقَوْلُهُ
فِيهِ أَيْضًا: وَبَاعَ مَالَهُ إنْ امْتَنَعَ الْمُفْلِسُ
مِنْ بَيْعِهِ وَقَسَمَهُ بَيْنَ غُرَمَائِهِ بِالْحِصَصِ
يَدُلُّ قَطْعًا عَلَى أَنْ لَيْسَ مَدَارُ مَا فِي الْكِتَابِ
عَلَى اخْتِيَارِ قَوْلِ مَنْ قَالَ مَسْأَلَةُ الْحَجْرِ
بِنَاءٌ عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ، إذْ
الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ لَا يُتَصَوَّرُ فِيمَا إذَا ظَهَرَ
مَالُهُ، وَتِلْكَ الْأَقْوَالُ الْمَذْكُورَةُ فِي الْكِتَابِ
صَرِيحَةٌ فِي ظُهُورِ مَالِهِ، بَلْ مَدَارُ مَا فِي
الْكِتَابِ عَلَى اخْتِيَارِ قَوْلِ مَنْ جَعَلَ هَذِهِ
الْمَسْأَلَةَ مَسْأَلَةً مُبْتَدَأَةً غَيْرَ مَبْنِيَّةٍ
عَلَى مَسْأَلَةِ الْقَضَاءِ بِالْإِفْلَاسِ كَمَا لَا
يَخْفَى.
فَالْجَوَابُ أَنْ يُقَالَ: لَيْسَ الْمُرَادُ بِالْمُفْلِسِ
فِي قَوْلِهِ إذَا طَلَبَ غُرَمَاءُ الْمُفْلِسِ الْحَجْرَ
عَلَيْهِ مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيَّ، بَلْ الْمُرَادُ بِهِ
أَمَّا مَنْ يَدَّعِي الْإِفْلَاسَ فَيَتَنَاوَلُ الْغَنِيَّ
أَيْضًا، إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ الْمَدْيُونَ الَّذِي لَا
يُؤَدِّي دَيْنَهُ يَدَّعِي الْإِفْلَاسَ وَإِنْ كَانَ
غَنِيًّا فِي نَفْسِهِ، وَأَمَّا مَنْ حَالُهُ حَالُ
الْمُفْلِسِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ الْغَنِيَّ الَّذِي لَا
يُؤَدِّي دَيْنَهُ حَالُهُ فِي عَدَمِ أَدَاءِ الدَّيْنِ حَالُ
الْمُفْلِسِ فَلَا يَلْزَمُ تَخْصِيصُ الْمَسْأَلَةِ بِمَا
هُوَ مُفْلِسٌ حَقِيقَةً (قَوْلُهُ يَمْنَعُهُ مِنْ الْبَيْعِ
وَالتَّصَرُّفِ وَالْإِقْرَارِ حَتَّى لَا يُضِرَّ
بِالْغُرَمَاءِ) أَقُولُ: وَجْهُ ذِكْرِ التَّصَرُّفِ
الْمُطْلَقِ بَيْنَ الْبَيْعِ وَالْإِقْرَارِ مَعَ أَنَّهُمَا
مِنْ جِنْسِ التَّصَرُّفِ أَيْضًا غَيْرُ وَاضِحٍ،
وَالْعُهْدَةُ فِي ذَلِكَ عَلَى الْقُدُورِيِّ، لِأَنَّ هَذِهِ
الْعِبَارَةَ عِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ وَالْمُصَنِّفُ
مُعَبِّرٌ عَنْهُ، وَلَكِنَّهُ لَوْ أَصْلَحَهَا
(9/275)
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
اسْتِحْسَانٌ. وَالْقِيَاسُ أَنْ لَا يَبِيعَهُ كَمَا فِي
الْعُرُوضِ، وَلِهَذَا لَمْ يَكُنْ لِصَاحِبِ الدَّيْنِ أَنْ
يَأْخُذَهُ جَبْرًا. وَجْهُ الِاسْتِحْسَانِ أَنَّهُمَا
مُتَّحِدَانِ فِي الثَّمَنِيَّةِ وَالْمَالِيَّةِ
مُخْتَلِفَانِ فِي الصُّورَةِ، فَبِالنَّظَرِ إلَى
الِاتِّحَادِ يَثْبُتُ لِلْقَاضِي وِلَايَةُ التَّصَرُّفِ،
وَبِالنَّظَرِ إلَى الِاخْتِلَافِ يُسْلَبُ عَنْ الدَّائِنِ
وِلَايَةُ الْأَخْذِ عَمَلًا بِالشَّبَهَيْنِ، بِخِلَافِ
الْعُرُوضِ لِأَنَّ الْغَرَضَ يَتَعَلَّقُ بِصُوَرِهَا
وَأَعْيَانِهَا، أَمَّا النُّقُوذُ فَوَسَائِلُ فَافْتَرَقَا
(وَيُبَاعُ فِي الدَّيْنِ النُّقُودُ ثُمَّ الْعُرُوض ثُمَّ
الْعَقَارُ يُبْدَأُ بِالْأَيْسَرِ فَالْأَيْسَرِ) لِمَا فِيهِ
مِنْ الْمُسَارَعَةِ إلَى قَضَاءِ الدَّيْنِ مَعَ مُرَاعَاةِ
جَانِبِ الْمَدْيُونِ (وَيُتْرَكُ عَلَيْهِ دَسْتُ مِنْ
ثِيَابِ بَدَنِهِ وَيُبَاعُ الْبَاقِي) لِأَنَّ بِهِ كِفَايَةً
وَقِيلَ دَسْتَانِ وَهُوَ اخْتِيَارُ شَمْسِ الْأَئِمَّةِ
الْحَلْوَانِيِّ، لِأَنَّهُ إذَا غَسَلَ ثِيَابَهُ لَا بُدَّ
لَهُ مِنْ مَلْبَسٍ.
قَالَ (فَإِنْ أَقَرَّ فِي حَالِ الْحَجْرِ بِإِقْرَارٍ
لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ) ، لِأَنَّهُ
تَعَلَّقَ بِهَذَا الْمَالِ حَقُّ الْأَوَّلِينَ فَلَا
يَتَمَكَّنُ مِنْ إبْطَالِ حَقِّهِمْ بِالْإِقْرَارِ
لِغَيْرِهِمْ، بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ لِأَنَّهُ مُشَاهَدٌ
لَا مَرَدَّ لَهُ (وَلَوْ اسْتَفَادَ مَالًا آخَرَ بَعْدَ
الْحَجْرِ نَفَذَ إقْرَارُهُ فِيهِ) لِأَنَّ حَقَّهُمْ لَمْ
يَتَعَلَّقْ بِهِ لِعَدَمِهِ وَقْتَ الْحَجْرِ.
قَالَ (وَيُنْفَقُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ وَعَلَى
زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ وَذَوِي أَرْحَامِهِ مِمَّنْ
يَجِبُ نَفَقَتُهُ عَلَيْهِ) لِأَنَّ حَاجَتَهُ الْأَصْلِيَّةَ
مُقَدَّمَةٌ عَلَى حَقِّ الْغُرَمَاءِ، وَلِأَنَّهُ حَقٌّ
ثَابِتٌ لِغَيْرِهِ فَلَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بِتَصَرُّفٍ لَكَانَ أَصْلَحَ كَمَا لَا يَخْفَى (قَوْلُهُ
وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ اسْتِحْسَانًا) قَالَ كَثِيرٌ
مِنْ الشُّرَّاحِ: إنَّمَا خَصَّ أَبَا حَنِيفَةَ بِالذِّكْرِ
وَإِنْ كَانَ هَذَا بِالْإِجْمَاعِ لِأَنَّ الشُّبْهَةَ تَرِدُ
عَلَى قَوْلِهِ لِأَنَّهُ كَانَ لَا يُجَوِّزُ بَيْعَ
الْقَاضِي عَلَى الْمَدْيُونِ فِي الْعُرُوضِ، وَكَانَ
يَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ فِي النَّقْدَيْنِ أَيْضًا
لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنْ الْبَيْعِ وَهُوَ بَيْعُ الصَّرْفِ
اهـ.
أَقُولُ: مَا ذَكَرُوهُ إنَّمَا يَتِمُّ أَنْ لَوْ كَانَ
عِبَارَةُ الْمُصَنِّفِ، وَهَذَا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
بِدُونِ ذِكْرِ قَوْلِهِ اسْتِحْسَانًا، وَأَمَّا عِنْدَ
ذِكْرِ قَيْدِ الِاسْتِحْسَانِ كَمَا هُوَ الْوَاقِعُ فِي
كَلَامِ الْمُصَنِّفِ فَقَدْ كَانَ ذَلِكَ مَخْصُوصًا بِأَبِي
حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ اللَّهُ - فِي الْحَقِيقَةِ، فَإِنَّ
كَوْنَ جَوَازِ بَيْعِ النَّقْدَيْنِ بِطَرِيقِ
الِاسْتِحْسَانِ دُونَ الْقِيَاسِ إنَّمَا هُوَ قَوْلُ أَبِي
حَنِيفَةَ فَقَطْ، وَأَمَّا عِنْدَهُمَا فَيَجُوزُ بَيْعُ
النَّقْدَيْنِ بِطَرِيقِ الْقِيَاسِ فَلَا احْتِيَاجَ إلَى
الِاعْتِذَارِ تَدَبَّرْ
(قَوْلُهُ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ) قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ
الشُّرَّاحِ: قَوْلُهُ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ مُتَعَلِّقٌ
بِقَوْلِهِ لَزِمَهُ ذَلِكَ بَعْدَ قَضَاءِ الدُّيُونِ:
يَعْنِي أَنَّهُ إذَا اسْتَهْلَكَ مَالَ الْغَيْرِ فِي حَالَةِ
الْحَجْرِ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ قَبْلَ قَضَاءِ الدُّيُونِ
فَكَانَ التَّلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ
اهـ كَلَامُهُ.
أَقُولُ: فِي تَفْسِيرِهِمْ نَوْعُ خَلَلٍ، إذْ فِي صُورَةِ
اسْتِهْلَاكِ مَالِ الْغَيْرِ لَيْسَتْ الْمُؤَاخَذَةُ
بِضَمَانِهِ مُتَقَدِّمَةً عَلَى قَضَاءِ الدُّيُونِ كَمَا
يُوهِمُهُ قَوْلُهُمْ يُؤَاخَذُ بِضَمَانِهِ قَبْلَ قَضَاءِ
الدُّيُونِ، بَلْ الْمُؤَاخَذَةُ بِذَلِكَ مَعَ قَضَاءِ
الدُّيُونِ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ. نَعَمْ قَوْلُهُمْ فَكَانَ
التَّلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ الْغُرَمَاءِ صَرِيحٌ
فِي كَوْنِ الْمَجْمُوعِ بِمَرْتَبَةٍ وَاحِدَةٍ، لَكِنَّ
الْكَلَامَ فِي اسْتِدْرَاكِ أَوَّلِ كَلَامِهِمْ بَلْ
اخْتِلَالِهِ، فَالْأَظْهَرُ الْأَخْصَرُ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ
مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ حَيْثُ قَالَ فِي شَرْحِ قَوْلِ
الْمُصَنِّفِ بِخِلَافِ الِاسْتِهْلَاكِ حَيْثُ يَصِيرُ
الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ بِلَا خِلَافٍ
اهـ.
وَمَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ حَيْثُ قَالَ فِي
شَرْحِ ذَلِكَ: حَيْثُ يَلْزَمُهُ ضَمَانُهُ فِي الْحَالِ
وَيَكُونُ الْمُتْلَفُ عَلَيْهِ أُسْوَةً لِسَائِرِ
الْغُرَمَاءِ اهـ
(قَوْلُهُ وَيُنْفَقُ عَلَى الْمُفْلِسِ مِنْ مَالِهِ وَعَلَى
زَوْجَتِهِ وَوَلَدِهِ الصِّغَارِ) أَقُولُ: لَيْسَ
الْمُفْلِسُ هَاهُنَا عَلَى مَعْنَاهُ الْحَقِيقِيِّ كَمَا
مَرَّ نَظِيرُهُ، بَلْ عَدَمُ إرَادَةِ الْحَقِيقَةِ هَاهُنَا
أَظْهَرُ
(9/276)
يُبْطِلُهُ الْحَجْرُ، وَلِهَذَا لَوْ
تَزَوَّجَ امْرَأَةً كَانَتْ فِي مِقْدَارِ مَهْرِ مِثْلِهَا
أُسْوَةً لِلْغُرَمَاءِ.
قَالَ (فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ
غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ
الْحَاكِمُ فِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ
وَالْكَفَالَةِ) وَقَدْ ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ بِوُجُوهِهِ
فِي كِتَابِ أَدَبِ الْقَاضِي مِنْ هَذَا الْكِتَابِ فَلَا
نُعِيدُهَا.
إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ
لَا مَالَ لَهُ: يَعْنِي خَلَّى سَبِيلَهُ لِوُجُوبِ
النَّظِرَةِ إلَى الْمَيْسَرَةِ، وَلَوْ مَرِضَ فِي الْحَبْسِ
يَبْقَى فِيهِ إنْ كَانَ لَهُ خَادِمٌ يَقُومُ
بِمُعَالَجَتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَخْرَجَهُ تَحَرُّزًا
عَنْ هَلَاكِهِ، وَالْمُحْتَرِفُ فِيهِ لَا يُمَكَّنُ مِنْ
الِاشْتِغَالِ بِعَمَلِهِ هُوَ الصَّحِيحُ لِيَضْجَرَ قَلْبُهُ
فَيَنْبَعِثَ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، بِخِلَافِ مَا إذَا
كَانَتْ لَهُ جَارِيَةٌ وَفِيهِ مَوْضِعٌ يُمْكِنُهُ فِيهِ
وَطْؤُهَا لَا يُمْنَعُ عَنْهُ لِأَنَّهُ قَضَاءُ إحْدَى
الشَّهْوَتَيْنِ فَيُعْتَبَرُ بِقَضَاءِ الْأُخْرَى. قَالَ
(وَلَا يَحُولُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ غُرَمَائِهِ بَعْدَ
خُرُوجِهِ مِنْ الْحَبْسِ يُلَازِمُونَهُ وَلَا يَمْنَعُونَهُ
مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ) لِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «لِصَاحِبِ الْحَقِّ يَدٌ
وَلِسَانٌ» أَرَادَ بِالْيَدِ الْمُلَازَمَةَ وَبِاللِّسَانِ
التَّقَاضِيَ. قَالَ (وَيَأْخُذُونَ فَضْلَ كَسْبِهِ يُقْسَمُ
بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ) لِاسْتِوَاءِ حُقُوقِهِمْ فِي
الْقُوَّةِ (وَقَالَا: إذَا فَلَّسَهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِأَنَّ قَوْلَهُ مِنْ مَالِهِ يَأْبَى إرَادَتَهَا قَطْعًا،
وَعَنْ هَذَا وَقَعَ فِي الْكَافِي وَغَيْرِهِ بَدَلُ
الْمُفْلِسِ الْمَدْيُونُ، فَالْمُرَادُ بِلَفْظِ الْمُفْلِسِ
فِي عِبَارَةِ الْكِتَابِ الْمَعْنَى الْمَجَازِيُّ عَلَى
أَحَدِ التَّوَجُّهَيْنِ اللَّذَيْنِ ذَكَرْتُهُمَا فِيمَا
مَرَّ مِنْ قَبْلُ فَتَذَكَّرْ
لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ
حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي (قَوْلُهُ قَالَ فَإِنْ
لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ
حَبْسَهُ وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ
فِي كُلِّ دَيْنٍ الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ
وَالْكَفَالَةِ) أَقُولُ: كَانَ لَفْظُ مُخْتَصَرِ
الْقُدُورِيِّ وَالْبِدَايَةِ هَاهُنَا هَكَذَا: وَإِنْ لَمْ
يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ وَطَلَبَ غُرَمَاؤُهُ حَبْسَهُ
وَهُوَ يَقُولُ لَا مَالَ لِي حَبَسَهُ الْحَاكِمُ فِي كُلِّ
دَيْنٍ لَزِمَهُ بَدَلًا عَنْ مَالٍ حَصَلَ فِي يَدِهِ
كَثَمَنِ الْمَبِيعِ وَبَدَلِ الْقَرْضِ وَفِي كُلِّ دَيْنٍ
الْتَزَمَهُ بِعَقْدٍ كَالْمَهْرِ وَالْكَفَالَةِ اهـ.
وَقَدْ تَرَكَ الْمُصَنِّفُ فِي النَّقْلِ بَعْضَ ذَلِكَ مِنْ
الْبَيْنِ كَمَا تَرَى، وَلَمْ يَظْهَرْ لِي وَجْهٌ لِذَلِكَ
سِوَى الْحَمْلِ عَلَى النِّسْيَانِ مِنْ الْمُصَنِّفِ عِنْدَ
كَتْبِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي الْهِدَايَةِ لِأَمْرٍ
يَعْتَرِي الْإِنْسَانَ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ عَلَى
مُقْتَضَى الْبَشَرِيَّةِ
(قَوْلُهُ إلَى أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ
الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ) قَوْلُهُ إلَى أَنْ
قَالَ مُتَعَلِّقٌ بِقَوْلِهِ قَالَ، فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ
لِلْمُفْلِسِ مَالٌ: يَعْنِي قَالَ الْقُدُورِيُّ فِي
مُخْتَصَرِهِ: فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ، إلَى
أَنْ قَالَ: وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا
مَالَ لَهُ.
وَقَوْلُهُ يَعْنِي خَلَّى سَبِيلَهُ تَفْسِيرٌ مِنْ
الْمُصَنِّفِ لِمُرَادِ الْقُدُورِيِّ بِقَوْلِهِ وَكَذَلِكَ
إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ. وَقَوْلُهُ
لِوُجُوبِ النَّظِرَةِ إلَى الْمَيْسَرَةِ تَعْلِيلٌ لِذَلِكَ.
وَأَقُولُ: كَانَ الْأَوْلَى وَالْأَظْهَرُ أَنْ يُقَدِّمَ
الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ إلَى أَنْ قَالَ عَلَى قَوْلِهِ وَقَدْ
ذَكَرْنَا هَذَا الْفَصْلَ بِوُجُوهِهِ فِي كِتَابِ أَدَبِ
الْقَاضِي لِئَلَّا يَعْتَرِضَ كَلَامُ نَفْسِهِ أَثْنَاءَ
نَقْلِ كَلَامِ الْقُدُورِيِّ فَيُوَرِّثُ التَّشْوِيشَ
لِلنَّاظِرِ فِي تَعَلُّقِ قَوْلِهِ إلَى أَنْ قَالَ
بِقَوْلِهِ قَالَ فَإِنْ لَمْ يُعْرَفْ لِلْمُفْلِسِ مَالٌ
أَوْ أَنْ يَتْرُكَ قَوْلَهُ إلَى أَنْ قَالَ وَيَقُولُ قَالَ
وَكَذَلِكَ إنْ أَقَامَ الْبَيِّنَةَ أَنَّهُ لَا مَالَ لَهُ
كَمَا هُوَ عَادَتُهُ فِي سَائِرِ الْمَوَاضِعِ حَتَّى يَكُونَ
كَلَامًا مُسْتَقِلًّا كَنَظَائِرِهِ وَلَا يَكُونُ قَلِقًا
كَمَا ذَكَرَهُ تَبَصَّرْ تَفْهَمْ (قَوْلُهُ وَيَأْخُذُونَ
فَضْلَ كَسْبِهِ يُقْسَمُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لِاسْتِوَاءِ
حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ:
هَذَا
(9/277)
الْحَاكِمُ حَالَ بَيْنَ الْغُرَمَاءِ
وَبَيْنَهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ أَنَّ لَهُ
مَالًا) لِأَنَّ الْقَضَاءَ بِالْإِفْلَاسِ عِنْدَهُمَا
يَصِحُّ فَتَثْبُتُ الْعُسْرَةُ وَيَسْتَحِقُّ النَّظِرَةَ
إلَى الْمَيْسَرَةِ. وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: لَا يَتَحَقَّقُ الْقَضَاءُ بِالْإِفْلَاسِ،
لِأَنَّ مَالَ اللَّهِ تَعَالَى غَادٍ وَرَائِحٌ، وَلِأَنَّ
وُقُوفَ الشُّهُودِ عَلَى عَدَمِ الْمَالِ لَا يَتَحَقَّقُ
إلَّا ظَاهِرًا فَيَصْلُحُ لِلدَّفْعِ لَا لِإِبْطَالِ حَقِّ
الْمُلَازَمَةِ. وَقَوْلُهُ إلَّا أَنْ يُقِيمُوا الْبَيِّنَةَ
إشَارَةٌ إلَى أَنَّ بَيِّنَةَ الْيَسَارِ تَتَرَجَّحُ عَلَى
بَيِّنَةِ الْإِعْسَارِ لِأَنَّهَا أَكْثَرُ إثْبَاتًا، إذْ
الْأَصْلُ هُوَ الْعُسْرَةُ. وَقَوْلُهُ فِي الْمُلَازَمَةِ
لَا يَمْنَعُونَهُ مِنْ التَّصَرُّفِ وَالسَّفَرِ دَلِيلٌ
عَلَى أَنَّهُ يَدُورُ مَعَهُ أَيْنَمَا دَارَ وَلَا
يُجْلِسُهُ فِي مَوْضِعٍ لِأَنَّهُ حَبْسٌ (وَلَوْ دَخَلَ
دَارِهِ لِحَاجَتِهِ لَا يَتْبَعُهُ بَلْ يَجْلِسُ عَلَى بَابِ
دَارِهِ إلَى أَنْ يَخْرُجَ) لِأَنَّ الْإِنْسَانَ لَا بُدَّ
أَنْ يَكُونَ لَهُ مَوْضِعُ خَلْوَةٍ، وَلَوْ اخْتَارَ
الْمَطْلُوبُ الْحَبْسَ وَالطَّالِبُ الْمُلَازَمَةَ
فَالْخِيَارُ إلَى الطَّالِبِ لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي حُصُولِ
الْمَقْصُودِ لِاخْتِيَارِهِ الْأَضْيَقَ عَلَيْهِ، إلَّا إذَا
عَلِمَ الْقَاضِي أَنْ يَدْخُلَ عَلَيْهِ بِالْمُلَازَمَةِ
ضَرَرٌ بَيِّنٌ بِأَنْ لَا يُمَكِّنَهُ مِنْ دُخُولِهِ دَارِهِ
فَحِينَئِذٍ يَحْبِسُهُ دَفْعًا لِلضَّرَرِ عَنْهُ
(وَلَوْ كَانَ الدَّيْنُ لِلرَّجُلِ عَلَى الْمَرْأَةِ لَا
يُلَازِمُهَا) لِمَا فِيهَا مِنْ الْخَلْوَةِ
بِالْأَجْنَبِيَّةِ وَلَكِنْ يَبْعَثُ امْرَأَةً أَمِينَةً
تُلَازِمُهَا.
قَالَ (وَمَنْ أَفْلَسَ وَعِنْدَهُ مَتَاعٌ لِرَجُلٍ
بِعَيْنِهِ ابْتَاعَهُ مِنْهُ فَصَاحِبُ الْمَتَاعِ أُسْوَةٌ
لِلْغُرَمَاءِ فِيهِ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ
اللَّهُ -: يَحْجُرُ الْقَاضِي عَلَى الْمُشْتَرِي بِطَلَبِهِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
التَّعْلِيلُ قَاصِرٌ عَنْ إفَادَةِ تَمَامِ الْمُدَّعَى،
لِأَنَّ اسْتِوَاءَ حُقُوقِهِمْ فِي الْقُوَّةِ إنَّمَا
يُفِيدُ عَدَمَ جَوَازِ تَقْدِيمِ بَعْضِهِمْ عَلَى الْبَعْضِ
الْآخَرِ فَيَسْتَدْعِي وُجُوبَ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ وَلَا
يُفِيدُ أَنْ تَكُونَ الْقِسْمَةُ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ:
أَيْ بِقَدْرِ حِصَّةِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ مِنْ الدَّيْنِ،
بَلْ يُوهِمُ لُزُومَ
(9/278)
ثُمَّ لِلْبَائِعِ خِيَارُ الْفَسْخِ
لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ
فَيُوجِبُ ذَلِكَ حَقَّ الْفَسْخِ كَعَجْزِ الْبَائِعِ عَنْ
تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ،
وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ وَصَارَ كَالسَّلَمِ.
وَلَنَا أَنَّ الْإِفْلَاسَ يُوجِبُ الْعَجْزَ عَنْ تَسْلِيمِ
الْعَيْنِ وَهُوَ غَيْرُ مُسْتَحَقٍّ بِالْعَقْدِ فَلَا
يَثْبُتُ حَقُّ الْفَسْخِ بِاعْتِبَارِهِ وَإِنَّمَا
الْمُسْتَحَقُّ وَصْفٌ فِي الذِّمَّةِ: أَعْنِي الدَّيْنَ،
وَبِقَبْضِ الْعَيْنِ تَتَحَقَّقُ بَيْنَهُمَا مُبَادَلَةٌ،
هَذَا هُوَ الْحَقِيقَةُ فَيَجِبُ اعْتِبَارُهَا، إلَّا فِي
مَوْضِعِ التَّعَذُّرِ كَالسَّلَمِ لِأَنَّ الِاسْتِبْدَالَ
مُمْتَنِعٌ فَأَعْطَى لِلْعَيْنِ حُكْمَ الدَّيْنِ، وَاَللَّهُ
أَعْلَمُ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الِاسْتِوَاءِ فِيمَا أَخَذُوهُ، وَتَمَامُ الْمُدَّعَى
هَاهُنَا وُجُوبُ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ بِالْحِصَصِ لَا
مُجَرَّدُ وُجُوبِ الْقِسْمَةِ بَيْنَهُمْ فَلْيُتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ
الثَّمَنِ فَيُوجِبُ ذَلِكَ حَقَّ الْفَسْخِ كَعَجْزِ
الْبَائِعِ عَنْ تَسْلِيمِ الْمَبِيعِ، وَهَذَا لِأَنَّهُ
عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ)
(9/279)
كِتَابُ الْمَأْذُونِ الْإِذْنُ: الْإِعْلَامُ لُغَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي تَقْرِيرِ هَذَا الْمَحَلِّ:
لِأَنَّهُ عَجَزَ الْمُشْتَرِي عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ،
وَالْعَجْزُ عَنْ إيفَاءِ الثَّمَنِ يُوجِبُ حَقَّ الْفَسْخِ
قِيَاسًا عَلَى الْعَجْزِ عَنْ إيفَاءِ الْمَبِيعِ،
وَالْجَامِعُ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، وَمِنْ
قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ اهـ.
وَرَدَّ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ قَوْلَهُ: وَالْجَامِعُ
بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ، حَيْثُ قَالَ: فِيهِ
بَحْثٌ، بَلْ الْعِلَّةُ الْجَامِعَةُ هِيَ الْعَجْزُ عَنْ
التَّسْلِيمِ، وَقَوْلُهُ: وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ
مُعَاوَضَةٍ. . . إلَخْ
لِبَيَانِ صِحَّةِ الْقِيَاسِ، فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ. أَقُولُ:
لَيْسَ ذَاكَ بِسَدِيدٍ، لِأَنَّ مُجَرَّدَ الْعَجْزِ عَنْ
التَّسْلِيمِ لَا يَكَادُ أَنْ يَكُونَ عِلَّةً جَامِعَةً فِي
صِحَّةِ جَامِعَةً فِي صِحَّةِ الْقِيَاسِ هَا هُنَا بِدُونِ
مُلَاحَظَةِ كَوْنِ الْعَقْدِ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ، وَإِلَّا
لَزِمَ أَنْ يُوجِبَ الْعَجْزُ عَنْ التَّسْلِيمِ حَقَّ
الْفَسْخِ فِي غَيْرِ عَقْدِ الْمُعَاوَضَةِ أَيْضَا، وَلَمْ
يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ، فَالْمَدَارُ فِي تَحَقُّقِ الْعِلَّةِ
الْجَامِعَةِ هَا هُنَا كَوْنُ الْبَيْعِ عَقْدَ مُعَاوَضَةٍ،
وَهُوَ الْوَجْهُ لِبَيَانِ الْمُصَنِّفِ صِحَّةَ الْقِيَاسِ
هَا هُنَا بِقَوْلِهِ: وَهَذَا لِأَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ.
وَمِنْ قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاةُ وَالْقَوْلُ بِأَنَّ
الْجَامِعَ بَيْنَهُمَا أَنَّهُ عَقْدُ مُعَاوَضَةٍ وَمِنْ
قَضِيَّتِهِ الْمُسَاوَاة لَيْسَ مِمَّا تَفَرَّدَ بِهِ
صَاحِبُ الْعِنَايَةِ، بَلْ أَطْبَقَتْ عَلَى التَّصْرِيحِ
بِهِ كَلِمَةُ الثِّقَاتِ هَا هُنَا كَصَاحِبِ الْكَافِي
وَصَاحِبِ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ وَالْإِمَامِ الزَّيْلَعِيُّ
وَغَيْرِهِمْ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. |