فتح القدير للكمال ابن الهمام كِتَابُ الصَّيْدِ قَالَ: الصَّيْدُ
الِاصْطِيَادُ، وَيُطْلَقُ عَلَى مَا يُصَادُ، وَالْفِعْلُ
مُبَاحٌ لِغَيْرِ الْمُحْرِمِ فِي غَيْرِ الْحَرَمِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
كَانَ كَذَلِكَ لَا يُعْتَبَرُ الْمَاءُ وَإِنَّمَا يُعْتَبَرُ
الْعَصِيرُ وَهِيَ تِسْعَةُ دَوَارِقَ، فَكَذَلِكَ هَذَا، إلَى
هُنَا لَفْظُهُ (قَوْلُهُ وَفِيمَا اكْتَفَيْنَا بِهِ
كِفَايَةٌ وَهِدَايَةٌ إلَى تَخْرِيجِ غَيْرِهَا مِنْ
الْمَسَائِلِ) قُلْت: فِيهِ إيهَامٌ لَطِيفٌ لِكِتَابَيْهِ
الْمُسَمَّى أَحَدُهُمَا بِكِفَايَةِ الْمُنْتَهَى وَالْآخَرُ
بِالْهِدَايَةِ
[كِتَابُ الصَّيْدِ]
(كِتَابُ الصَّيْدِ) قَالَ صَاحِبُ غَايَةِ الْبَيَانِ:
مُنَاسَبَةُ كِتَابِ الصَّيْدِ بِكِتَابِ الْأَشْرِبَةِ مِنْ
حَيْثُ إنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالصَّيْدِ
مِنْ الْمُبَاحَاتِ الَّتِي تُورِثُ السُّرُورَ وَالنَّشَاطَ
فِي الْآدَمِيِّ، إلَّا أَنَّ السُّرُورَ فِي الْأَشْرِبَةِ
الْمُبَاحَةِ أَكْثَرُ؛ لِأَنَّهُ بِأَمْرٍ يَدْخُلُ فِي
الْبَاطِنِ، وَالسُّرُورُ فِي الصَّيْدِ بِأَمْرٍ خَارِجِيٍّ
فَكَانَ الْأَوَّلُ أَقْوَى، وَصَارَ بِالتَّقْدِيمِ أَوْلَى
انْتَهَى
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ أَمَّا أَوَّلًا فَلِأَنَّ وَضْعَ
كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ لِبَيَانِ الْأَشْرِبَةِ الْمُحَرَّمَةِ
دُونَ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ، وَإِلَّا لَذُكِرَ فِيهِ
كُلُّ أَشْرِبَةٍ مُبَاحَةٍ عَلَى التَّفْصِيلِ، مَعَ أَنَّهُ
لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ مِنْ الْأَشْرِبَةِ الْمُبَاحَةِ إلَّا
نَبْذٌ قَلِيلٌ لَهُ مُنَاسَبَةٌ مَعَ بَعْضِ الْأَشْرِبَةِ
الْمُحَرَّمَةِ فِي وَجْهٍ مَا حَتَّى وَقَعَ لِأَجْلِهِ
الْخِلَافُ مِنْ بَعْضِ الْعُلَمَاءِ فِي حِلِّهِ عَلَى
أَنَّهُمْ صَرَّحُوا فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ
بِأَنَّ الْأَشْرِبَةَ جَمْعُ شَرَابٍ
وَالشَّرَابُ عِنْدَ أَهْلِ الشَّرْعِ اسْمٌ لِمَا هُوَ
حَرَامٌ مِنْ الْمَائِعَاتِ، فَمَا مَعْنَى قَوْلِهِ إنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ مِنْ الْأَشْرِبَةِ وَالصَّيْدِ مِنْ
الْمُبَاحَاتِ الَّتِي تُورِثُ السُّرُورَ
وَأَمَّا ثَانِيًا فَلِأَنَّ مَا ذَكَرَهُ هَا هُنَا لَا
يُنَاسِبُ مَا ذَكَرَهُ فِي أَوَّلِ كِتَابِ الْأَشْرِبَةِ،
فَإِنَّهُ قَالَ هُنَاكَ: ذَكَرَ كِتَابَ الْأَشْرِبَةِ بَعْدَ
الشُّرْبِ لِمُنَاسَبَةٍ بَيْنَهُمَا فِي الِاشْتِقَاقِ،
وَلَكِنْ قَدَّمَ الشُّرْبَ؛ لِأَنَّهُ حَلَالٌ
وَالْأَشْرِبَةُ فِيهَا الْحَرَامُ كَالْخَمْرِ انْتَهَى
فَقَدْ جَعَلَ هُنَاكَ وَجْهَ تَأْخِيرِ الْأَشْرِبَةِ عَنْ
الشُّرْبِ حُرْمَتَهَا، وَجَعَلَ هَا هُنَا وَجْهَ
مُنَاسَبَتِهَا بِالصَّيْدِ إبَاحَتَهَا مَعَ إيرَاثِ
السُّرُورِ، فَبَيْنَ كَلَامَيْهِ فِي الْمَقَامَيْنِ
تَنَافُرٌ لَا يَخْفَى
فَالْوَجْهُ الظَّاهِرُ فِي مُنَاسَبَتِهِ كِتَابَ الصَّيْدِ
لِكِتَابِ الْأَشْرِبَةِ وَفِي تَقْدِيمِ الْأَشْرِبَةِ عَلَى
الصَّيْدِ مَا ذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ الْأُخَرِ فَرَاجِعْهَا
(قَوْلُهُ الصَّيْدُ هُوَ الِاصْطِيَادُ يُطْلَقُ عَلَى مَا
يُصَادُ)
(10/110)
لِقَوْلِهِ تَعَالَى {وَإِذَا حَلَلْتُمْ
فَاصْطَادُوا} [المائدة: 2]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
يَعْنِي أَنَّ الصَّيْدَ مَصْدَرٌ بِمَعْنَى الِاصْطِيَادِ
وَهُوَ أَخْذُ الصَّيْدِ، كَالِاحْتِطَابِ وَهُوَ أَخْذُ
الْحَطَبِ، ثُمَّ يُرَادُ بِهِ مَا يُصَادُ مَجَازًا إطْلَاقًا
لِاسْمِ الْمَصْدَرِ عَلَى الْمَفْعُولِ وَهُوَ الْمُمْتَنِعُ
الْمُتَوَحِّشُ عَنْ الْآدَمِيِّ بِأَصْلِ الْخِلْقَةِ
مَأْكُولًا كَانَ أَوْ غَيْرَ مَأْكُولٍ، كَذَا فِي غَايَةِ
الْبَيَانِ
وَقَالَ فِي الْخُلَاصَةِ: وَإِنَّمَا يَحِلُّ الصَّيْدُ
بِخَمْسَةَ عَشَرَ شَرْطًا
خَمْسَةٌ فِي الصَّيَّادِ: وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مِنْ أَهْلِ
الذَّكَاةِ، وَأَنْ يُوجَدَ مِنْهُ الْإِرْسَالُ، وَأَنْ لَا
يُشَارِكَهُ فِي الْإِرْسَالِ مَنْ لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ؛
وَأَنْ لَا يَتْرُكَ التَّسْمِيَةَ عَامِدًا، وَأَنْ لَا
يَشْتَغِلَ بَيْنَ الْإِرْسَالِ وَالْأَخْذِ بِعَمَلٍ
وَخَمْسَةٌ فِي الْكَلْبِ: مِنْهَا أَنْ يَكُونَ مُعَلَّمًا،
وَأَنْ يَذْهَبَ عَلَى سَنَنِ الْإِرْسَالِ، وَأَنْ لَا
يُشَارِكَهُ فِي الْأَخْذِ مَا لَا يَحِلُّ صَيْدُهُ، وَأَنْ
يَقْتُلَهُ جُرْحًا، وَأَنْ لَا يَأْكُلَ مِنْهُ
وَخَمْسَةٌ فِي الصَّيْدِ: مِنْهَا أَنْ لَا يَكُونَ
مُتَقَوِّيًا بِأَنْيَابِهِ أَوْ مِخْلَبِهِ، وَأَنْ لَا
يَكُونَ مِنْ الْحَشَرَاتِ، وَأَنْ لَا يَكُونَ مِنْ بَنَاتِ
الْمَاءِ سِوَى السَّمَكِ، وَأَنْ يَمْنَعَ نَفْسَهُ
بِجَنَاحَيْهِ أَوْ قَوَائِمِهِ، وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا
قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ انْتَهَى، وَذُكِرَتْ
هَذِهِ الشُّرُوطُ فِي النِّهَايَةِ وَغَايَةِ الْبَيَانِ
أَيْضًا نَقْلًا عَنْ الْخُلَاصَةِ
وَذَكَرَهَا صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَيْضًا، وَقَالَ: كَذَا فِي
النِّهَايَةِ مَنْسُوبًا إلَى الْخُلَاصَةِ
وَقَدَحَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي وَاحِدٍ مِنْ هَاتِيكَ
الشُّرُوطِ حَيْثُ قَالَ: قَوْلُهُ: وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا
قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ مُسْتَدْرَكٌ بَعْدَ
قَوْلِهِ وَأَنْ يَقْتُلَهُ جُرْحًا انْتَهَى
أَقُولُ: لَا اسْتِدْرَاكَ فِيهِ؛ لِأَنَّ الشَّرْطَ الَّذِي
أُرِيدَ بِقَوْلِهِ وَأَنْ يَقْتُلَهُ جُرْحًا لَيْسَ
مُجَرَّدَ قَتْلِهِ بَلْ قَتْلُهُ جُرْحًا، وَالْمَقْصُودُ
مِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَنْ قَتْلِهِ خَنْقًا، فَإِنَّهُ لَا
يَحِلُّ أَكْلُهُ حِينَئِذٍ كَمَا سَتَقِفُ عَلَيْهِ، وَكَذَا
الشَّرْطُ الَّذِي أُرِيدَ بِقَوْلِهِ: وَأَنْ يَمُوتَ بِهَذَا
قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ لَيْسَ مُجَرَّدَ مَوْتِهِ
بَلْ مَوْتُهُ قَبْلَ أَنْ يُوصَلَ إلَى ذَبْحِهِ؛ إذْ لَوْ
مَاتَ بِذَلِكَ بَعْدَ أَنْ يَصِلَ الْمُرْسِلُ إلَى ذَبْحِهِ
لَمْ يَحِلَّ أَكْلُهُ إنْ لَمْ يَذْبَحْهُ الْمُرْسِلُ كَمَا
سَتَعْرِفُهُ أَيْضًا، وَلَا شَكَّ أَنَّ اشْتِرَاطَ أَنْ
يَقْتُلَهُ الْكَلْبُ جُرْحًا لَا يُغْنِي عَنْ اشْتِرَاطِ
أَنْ يَمُوتَ الصَّيْدُ بِجُرْحِ الْكَلْبِ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ
الْمُرْسِلُ إلَى ذَبْحِهِ لِجَوَازِ أَنْ يَقْتُلَهُ
الْكَلْبُ جُرْحًا بَعْدَ أَنْ يَصِلَ الْمُرْسِلُ إلَى
ذَبْحِهِ فَحِينَئِذٍ لَا يَحِلُّ أَكْلُهُ، فَلَا بُدَّ مِنْ
بَيَانِ الشَّرْطِ الْآخَرِ أَيْضًا عَلَى الِاسْتِقْلَالِ
وَطَعَنَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ فِي جُمْلَةِ مَا نَقَلَ عَنْ
الْخُلَاصَةِ حَيْثُ قَالَ: فِيهِ تَسَامُحٌ؛ لِأَنَّ هَذَا
شَرْطُ الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ بِالْكَلْبِ لَا غَيْرَ،
عَلَى أَنَّهُ لَوْ انْتَفَى بَعْضُهُ لَمْ يَحْرُمْ كَمَا
لَوْ اشْتَغَلَ بِعَمَلٍ آخَرَ لَكِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا
فَذَبَحَهُ، وَكَذَا إذَا لَمْ يَمُتْ بِهَذَا لَكِنَّهُ
ذَبَحَهُ فَإِنَّهُ صَيْدٌ، وَهُوَ حَلَالٌ انْتَهَى
أَقُولُ: يُمْكِنُ أَنْ يَعْتَذِرَ عَمَّا ذَكَرَهُ فِي
عِلَاوَتِهِ بِأَنَّ الْكَلَامَ فِي شَرَائِطِ
(10/111)
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَحُرِّمَ
عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا} [المائدة:
96] وَلِقَوْلِهِ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
لِعَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ الطَّائِيِّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
«إذَا أَرْسَلْت كَلْبَك الْمُعَلَّمَ وَذَكَرْت اسْمَ اللَّهِ
عَلَيْهِ فَكُلْ، وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ؛
لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، وَإِنْ شَارَكَ
كَلْبَك كَلْبٌ آخَرُ فَلَا تَأْكُلْ فَإِنَّك إنَّمَا
سَمَّيْت عَلَى كَلْبِك وَلَمْ تُسَمِّ عَلَى كَلْبِ غَيْرِك»
وَعَلَى إبَاحَتِهِ انْعَقَدَ الْإِجْمَاعُ
وَلِأَنَّهُ نَوْعُ اكْتِسَابٍ وَانْتِفَاعٍ بِمَا هُوَ
مَخْلُوقٌ لِذَلِكَ، وَفِيهِ اسْتِبْقَاءُ الْمُكَلَّفِ
وَتَمْكِينُهُ مِنْ إقَامَةِ التَّكَالِيفِ فَكَانَ مُبَاحًا
بِمَنْزِلَةِ الِاحْتِطَابِ
ثُمَّ جُمْلَةُ مَا يَحْوِيهِ الْكِتَابُ فَصْلَانِ:
أَحَدُهُمَا فِي الصَّيْدِ بِالْجَوَارِحِ وَالثَّانِي فِي
الِاصْطِيَادِ بِالرَّمْيِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
حِلِّ الصَّيْدِ الْمَحْضِ وَهُوَ الَّذِي لَمْ يُدْرِكْهُ
الصَّيَّادُ حَيًّا بَلْ مَاتَ بِجُرْحِ آلَةِ الصَّيْدِ
كَالْكَلْبِ وَالْبَازِي وَالرَّمْي وَصَارَ مَذْبُوحًا
بِالذَّبْحِ الِاضْطِرَارِيِّ، وَمَا أَدْرَكَهُ حَيًّا
فَذَبَحَهُ لَا يَكُونُ صَيْدًا مَحْضًا بَلْ يَصِيرُ
مُلْحَقًا بِسَائِرِ مَا يَذْبَحُ الِاخْتِيَارِيَّ فَيَكُونُ
خَارِجًا عَنْ مَحَلِّ الِاشْتِرَاطِ
وَطَعَنَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ فِي قَوْلِ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ
فِيهِ تَسَامُحٌ
؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ بِالْكَلْبِ
حَيْثُ قَالَ: فِيهِ تَسَامُحٌ بَلْ شَرْطُ حِلِّ الصَّيْدِ،
أَقُولُ: الظَّاهِرُ أَنَّ مُرَادَ صَاحِبِ الْعِنَايَةِ
بِالِاصْطِيَادِ فِي قَوْلِهِ؛ لِأَنَّ هَذَا شَرْطُ
الِاصْطِيَادِ لِلْأَكْلِ هُوَ الِاصْطِيَادُ الشَّرْعِيُّ
وَهُوَ مَا كَانَ حَلَالًا، فَيَئُولُ مَعْنَى قَوْلِ شَرْطِ
الِاصْطِيَادِ إلَى شَرْطِ حِلِّ الصَّيْدِ، فَإِنْ عَدَّ
هَذَا تَسَامُحًا فَهُوَ مِنْ قَبِيلِ التَّسَامُحِ فِي
التَّعْبِيرِ بِنَاءً عَلَى ظُهُورِ الْمُرَادِ، وَلَا
يُبَالَى بِمِثْلِهِ بِخِلَافِ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ
الْعِنَايَةِ مِنْ التَّسَامُحِ فِي كَلَامِ صَاحِبِ
الْخُلَاصَةِ، فَإِنَّهُ رَاجِعٌ إلَى الْمَعْنَى تَدَبَّرْ
تَفْهَمْ
ثُمَّ قَصَدَ ذَلِكَ الْبَعْضُ دَفْعَ مَا ذَكَرَهُ صَاحِبُ
الْعِنَايَةِ فِي عِلَاوَتِهِ حَيْثُ قَالَ: مُرَادُ صَاحِبِ
الْخُلَاصَةِ بَيَانُ شَرَائِطِ حِلِّ صَيْدٍ قَتَلَهُ
الْكَلْبُ وَلَمْ يَكُنْ فِيهِ آلَةٌ غَيْرُهُ فَلْيُتَأَمَّلْ
انْتَهَى
أَقُولُ: لَا يَذْهَبُ عَلَيْك أَنَّ كَلَامَ صَاحِبِ
الْخُلَاصَةِ مَعَ عَدَمِ مُسَاعَدَتِهِ لِهَذَا التَّقْيِيدِ
وَعَدَمِ قِيَامِ قَرِينَةٍ عَلَيْهِ لَا يَدْفَعُ كَوْنَ
مُرَادِهِ هَذَا الْمَعْنَى التَّسَامُحَ الَّذِي حَاصِلُهُ
التَّقْصِيرُ فِي الْبَيَانِ، فَإِنَّهُ لَا وَجْهَ لِبَيَانِ
شَرَائِطِ حِلِّ نَوْعٍ مَخْصُوصٍ مِنْ أَنْوَاعِ الصَّيْدِ
وَتَرْكِ بَيَانِ شَرَائِطِ سَائِرِ أَنْوَاعِهِ بِلَا
ضَرُورَةٍ دَاعِيَةٍ إلَيْهِ (قَوْلُهُ وَقَوْلُهُ عَزَّ
وَجَلَّ {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ
حُرُمًا} [المائدة: 96] مَدَّ التَّحْرِيمَ إلَى غَايَةٍ
فَاقْتَضَى الْإِبَاحَةَ فِيمَا وَرَاءَ تِلْكَ الْغَايَةِ،
كَذَا قَالُوا
وَاعْتَرَضَ عَلَيْهِ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ حَيْثُ قَالَ:
فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ بِمَفْهُومِ الْغَايَةِ
وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ اهـ
أَقُولُ: لَا نُسَلِّمُ أَنَّ مَفْهُومَ الْغَايَةِ لَيْسَ
بِحُجَّةٍ، بَلْ هُوَ حُجَّةٌ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا نَصَّ
عَلَيْهِ الْعَلَّامَةُ التَّفْتَازَانِيُّ فِي التَّلْوِيحِ
فِي بَابِ الْمُعَارَضَةِ وَالتَّرْجِيحِ بِصَدَدِ بَيَانِ
الْمُخَلِّصِ لِدَفْعِ التَّعَارُضِ بَيْنَ قِرَاءَةِ
التَّشْدِيدِ وَقِرَاءَةِ التَّخْفِيفِ فِي قَوْله تَعَالَى
{وَلا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ} [البقرة: 222]
(10/112)
فَصْلُ الْجَوَارِحِ قَالَ (وَيَجُوزُ
الِاصْطِيَادُ بِالْكَلْبِ الْمُعَلَّمِ وَالْفَهْدِ
وَالْبَازِي وَسَائِرُ الْجَوَارِحِ الْمُعَلَّمَةِ وَفِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ: وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَّمْته مِنْ ذِي
نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَلَا
بَأْسَ بِصَيْدِهِ، وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا
أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
[فَصْلُ الْجَوَارِحِ]
(فَصْلٌ فِي الْجَوَارِحِ) قَدَّمَ فَصْلَ الْجَوَارِحِ عَلَى
فَصْلِ الرَّمْيِ؛ لِأَنَّ آلَةَ الصَّيْدِ هُنَا حَيَوَانٌ
وَفِي الرَّمْيِ جَمَادٌ، وَلِلْحَيَوَانِ فَضْلٌ عَلَى
الْجَمَادِ، وَالْفَاضِلُ يُقَدَّمُ عَلَى الْمَفْضُولِ، كَذَا
فِي الشُّرُوحِ (قَوْلُهُ وَفِي الْجَامِعِ الصَّغِيرِ:
وَكُلُّ شَيْءٍ عَلَّمْته مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ
وَذِي مِخْلَبٍ مِنْ الطَّيْرِ فَلَا بَأْسَ بِصَيْدِهِ، وَلَا
خَيْرَ فِيمَا سِوَى ذَلِكَ إلَّا أَنْ تُدْرِكَ ذَكَاتَهُ)
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: إنَّمَا أَوْرَدَ رِوَايَةَ
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِقَوْلِهِ: وَلَا خَيْرَ فِيمَا سِوَى
ذَلِكَ: أَيْ فِيمَا سِوَى الْمُعَلَّمَةِ مِنْ ذِي النَّابِ
وَالْمِخْلَبِ، فَإِنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ عَلَى
الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرَ، وَرِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ
تَدُلُّ عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ جَمِيعًا انْتَهَى
أَقُولُ: فِيهِ شَيْءٌ؛ إذْ قَدْ صَرَّحُوا فِي شُرُوحِ هَذَا
الْكِتَابِ وَغَيْرِهَا بِأَنَّ تَخْصِيصَ الشَّيْءِ
بِالذِّكْرِ فِي الرِّوَايَاتِ يَدُلُّ عَلَى نَفْيِ الْحُكْمِ
عَمَّا عَدَاهُ بِالِاتِّفَاقِ، فَرِوَايَةُ الْقُدُورِيِّ
أَيْضًا تَدُلُّ عَلَى إثْبَاتِ جَوَازِ الِاصْطِيَادِ بِمَا
ذَكَرَ، وَنَفْيِ جَوَازِهِ بِمَا سِوَى ذَلِكَ فَلَا يَتِمُّ
قَوْلُهُ: إنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ عَلَى
الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرَ، اللَّهُمَّ إلَّا أَنْ يَكُونَ
مُرَادُهُ أَنَّ رِوَايَةَ الْقُدُورِيِّ تَدُلُّ
بِمَنْطُوقِهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ لَا غَيْرَ، وَإِنْ دَلَّتْ
بِمَفْهُومِهَا عَلَى النَّفْيِ أَيْضًا
وَأَمَّا رِوَايَةُ الْجَامِعِ الصَّغِيرِ فَتَدُلُّ
بِمَنْطُوقِهَا عَلَى الْإِثْبَاتِ وَالنَّفْيِ مَعًا لَكِنْ
لَا يَظْهَرُ حِينَئِذٍ فِي إيرَادِ رِوَايَةِ الْجَامِعِ
الصَّغِيرِ كَبِيرُ نَفْعٍ كَمَا لَا يَخْفَى
قَالَ جَمَاعَةٌ مِنْ الشُّرَّاحِ: إنَّمَا ذَكَرَ فِي
الْجَامِعِ الصَّغِيرِ بِلَفْظِ لَا بَأْسَ مَعَ ثُبُوتِ
إبَاحَةِ الِاصْطِيَادِ بِالْكِتَابِ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] قَدْ
خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ وَهُوَ الْخِنْزِيرُ وَالْأَسَدُ
وَالدُّبُّ، وَالنَّصُّ إذَا خُصَّ مِنْهُ الْبَعْضُ يَصِيرُ
ظَنِّيًّا فَتَتَمَكَّنُ فِيهِ الشُّبْهَةُ كَمَا عُرِفَ فِي
الْأُصُولِ فَلِذَلِكَ ذَكَرَ بِلَفْظِ لَا بَأْسَ انْتَهَى
أَقُولُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ الْخِنْزِيرَ مَخْصُوصٌ مِنْ
النَّصِّ الْمَذْكُورِ بِالْعَقْلِ؛ لِأَنَّهُ نَجَسُ
الْعَيْنِ، وَالْعَقْلُ يَدُلُّ عَلَى عَدَمِ جَوَازِ
الِانْتِفَاعِ بِالنَّجَسِ، وَقَدْ عُرِفَ فِي عِلْمِ
الْأُصُولِ أَنَّ النَّصَّ الَّذِي خُصَّ مِنْهُ شَيْءٌ
بِالْعَقْلِ لَا يَصِيرُ ظَنِّيًّا بَلْ يَكُونُ قَطْعِيًّا
لِكَوْنِهِ فِي حُكْمِ الِاسْتِثْنَاءِ، وَقَدْ أَشَارَ
إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ فِيمَا بَعْدُ:
وَالْخِنْزِيرُ مُسْتَثْنًى؛ لِأَنَّهُ نَجَسُ الْعَيْنِ وَلَا
يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ
وَأَمَّا الْأَسَدُ وَالدُّبُّ فَلَيْسَا بِدَاخِلَيْنِ
رَأْسًا فِي النَّصِّ الْمَذْكُورِ؛ لِأَنَّهُمْ صَرَّحُوا
بِأَنَّ الْأَسَدَ وَالدُّبَّ لَا يَصْلُحَانِ لِلتَّعْلِيمِ؛
لِأَنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ
(10/113)
وَالْأَصْلُ فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4]
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لِلْغَيْرِ فَلَمْ يَدْخُلَا تَحْتَ قَوْله تَعَالَى
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] وَلَا
يَخْفَى أَنَّ تَخْصِيصَ شَيْءٍ مِنْ شَيْءٍ فَرْعُ
دُخُولِهِ فِيهِ أَوَّلًا، فَإِذَا لَمْ يَدْخُلَا فِي
النَّصِّ الْمَذْكُورِ لَمْ يَكُونَا مَخْصُوصَيْنِ مِنْهُ
وَلَئِنْ سُلِّمَ كَوْنُ كُلٍّ مِنْ تِلْكَ الثَّلَاثَةِ
مَخْصُوصًا مِنْ النَّصِّ الْمَذْكُورِ، وَكَوْنُ
تَخْصِيصِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهَا مِنْهُ بِالْكَلَامِ
الْمُسْتَقِلِّ دُونَ الْعَقْلِ فَلَا نُسَلِّمُ كَوْنَ
ذَلِكَ النَّصِّ بَعْدَهُ ظَنِّيًّا؛ إذْ قَدْ تَقَرَّرَ
فِي عِلْمِ الْأُصُولِ أَنَّ الْعَامَّ الَّذِي أُخْرِجَ
مِنْهُ الْبَعْضُ بِكَلَامٍ مُسْتَقِلٍّ إنَّمَا يَصِيرُ
ظَنِّيًّا إذَا كَانَ الْمُخْرِجُ مَوْصُولًا بِذَلِكَ
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَكُنْ مَوْصُولًا بِهِ فَيَكُونُ
قَطْعِيًّا فِي الْبَاقِي وَيُطْلَقُ عَلَى مِثْلِ هَذَا
الْإِخْرَاجِ فِي عُرْفِ أَهْلِ الْأُصُولِ النُّسَخُ
دُونَ التَّخْصِيصِ، وَلَا شَكَّ أَنَّ مُخْرِجَ تِلْكَ
الْجَوَارِحِ الثَّلَاثَةِ مِنْ النَّصِّ الْمَزْبُورِ
لَيْسَ بِمَوْصُولٍ بِذَلِكَ النَّصِّ فَلَا يَصِيرُ
ظَنِّيًّا لَا مَحَالَةَ تَبَصَّرْ (قَوْلُهُ وَالْأَصْلُ
فِيهِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ} [المائدة: 4] وَذَلِكَ؛
لِأَنَّهُ عَطْفٌ عَلَى: الطَّيِّبَاتُ فِي قَوْله
تَعَالَى {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة:
4] أَيْ أُحِلَّ لَكُمْ الطَّيِّبَاتُ وَصَيْدُ مَا
عَلَّمْتُمْ مِنْ الْجَوَارِحِ فَحُذِفَ الْمُضَافُ، كَذَا
فِي الْكَافِي وَالشُّرُوحِ
قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ بَعْدَ ذَلِكَ: فِيهِ نَظَرٌ؛
لِأَنَّ الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ
فِي الْحُكْمِ
وَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ إذَا لَمْ يَدُلَّ إلَّا
دَلِيلٌ عَلَى الْقِرَانِ وَهَاهُنَا قَدْ دَلَّ، فَإِنَّ
قَوْله تَعَالَى {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ}
[المائدة: 4] جَوَابٌ عَنْ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ
مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] فَإِنْ لَمْ يَكُنْ
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4]
مُقَارِنًا لَهُ لَمْ يَكُنْ ذِكْرُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي
انْتَهَى
أَقُولُ: نَظَرُهُ فَاسِدٌ، وَجَوَابُهُ كَاسِدٌ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّ اشْتِرَاكَ الْمَعْطُوفِ مَعَ
الْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ فِي الْحُكْمِ السَّابِقِ وَاجِبٌ
لَا مَحَالَةَ مُقَرَّرٌ فِي عِلْمِ النَّحْوِ بِلَا
ارْتِيَابٍ، فَيَلْزَمُ فِي الْآيَةِ الْمَذْكُورَةِ
الِاشْتِرَاكُ فِي حُكْمِ الْإِحْلَالِ ضَرُورَةً،
وَقَوْلُ الْأُصُولِيِّينَ: الْقِرَانُ فِي النَّظْمِ لَا
يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي الْحُكْمِ لَيْسَ بِإِنْكَارٍ
لِمِثْلِ هَذِهِ الْقَاعِدَةِ الْمُقَرَّرَةِ فِي عِلْمِ
النَّحْوِ، بَلْ مَعْنَاهُ أَنَّ مُجَرَّدَ الْمُقَارَنَةِ
فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْمُقَارَنَةَ فِي الْحُكْمِ
بِدُونِ أَنْ يَتَحَقَّقَ أَمْرٌ مُقْتَضًى
لِلْمُقَارَنَةِ فِي الْحُكْمِ أَيْضًا، وَفِيمَا نَحْنُ
فِيهِ قَدْ تَحَقَّقَ ذَلِكَ وَهُوَ قَضِيَّةُ الْعَطْفِ
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ:
إنَّمَا يَلْزَمُ مِنْ أَنْ لَا يَكُونَ {وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] مُقَارِنًا
لِ: {أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] أَنْ لَا
يَكُونَ ذِكْرُهُ عَلَى مَا يَنْبَغِي لَوْ كَانَ {وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] دَاخِلًا
تَحْتَ جَوَابِ قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا
أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة: 4] وَمَنْ يَقُولُ: إنَّ
الْقِرَانَ فِي النَّظْمِ لَا يُوجِبُ الْقِرَانَ فِي
الْحُكْمِ كَيْفَ يُسَلِّمُ ذَلِكَ، بَلْ يَقُولُ: يَجُوزُ
أَنْ يَكُونَ جَوَابُ ذَلِكَ {قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ
الطَّيِّبَاتُ} [المائدة: 4] فَقَطْ وَيَكُونُ مَا
بَعْدَهُ كَلَامًا مُسْتَقِلًّا مَسُوقًا لِبَيَانِ حُكْمٍ
جَدِيدٍ وَلِإِفَادَةِ فَائِدَةٍ أُخْرَى
ثُمَّ قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ
{وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4]
(10/114)
وَالْجَوَارِحُ: الْكَوَاسِبُ
قَالَ فِي تَأْوِيلِ الْمُكَلِّبِينَ: الْمُسَلَّطِينَ،
فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا
رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -
وَاسْمُ الْكَلْبِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ
سَبُعٍ حَتَّى الْأَسَدِ
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ اُسْتُثْنِيَ مِنْ ذَلِكَ
الْأَسَدُ وَالدُّبُّ؛ لِأَنَّهُمَا لَا يَعْمَلَانِ
لِغَيْرِهِمَا
الْأَسَدُ لِعُلُوِّ هِمَّتِهِ وَالدُّبُّ لِخَسَاسَتِهِ،
وَأَلْحَقَ بِهِمَا بَعْضُهُمْ الْحِدَأَةَ
لِخَسَاسَتِهَا، وَالْخِنْزِيرُ مُسْتَثْنًى؛ لِأَنَّهُ
نَجَسُ الْعَيْنِ فَلَا يَجُوزُ الِانْتِفَاعُ بِهِ ثُمَّ
لَا بُدَّ مِنْ التَّعْلِيمِ؛ لِأَنَّ مَا تَلَوْنَا مِنْ
النَّصِّ يَنْطِقُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ وَالْحَدِيثِ
بِهِ وَبِالْإِرْسَالِ، وَلِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ آلَةً
بِالتَّعْلِيمِ لِيَكُونَ عَامِلًا لَهُ فَيَتَرَسَّلُ
بِإِرْسَالِهِ وَيُمْسِكُهُ عَلَيْهِ.
قَالَ (تَعْلِيمُ الْكَلْبِ أَنْ يَتْرُكَ الْأَكْلَ
ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، وَتَعْلِيمُ الْبَازِي أَنْ يَرْجِعَ
وَيُجِيبَ دَعْوَتَهُ) وَهُوَ مَأْثُورٌ عَنْ ابْنِ
عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا -، وَلِأَنَّ بَدَنَ
الْبَازِي لَا يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ، وَبَدَنُ الْكَلْبِ
يَحْتَمِلُهُ فَيُضْرَبُ لِيَتْرُكَهُ، وَلِأَنَّ آيَةَ
التَّعْلِيمِ تَرْكُ مَا هُوَ مَأْلُوفُهُ عَادَةً،
وَالْبَازِي مُتَوَحِّشٌ مُتَنَفِّرٌ فَكَانَتْ
الْإِجَابَةُ آيَةَ تَعْلِيمِهِ
وَأَمَّا الْكَلْبُ فَهُوَ مَأْلُوفٌ يَعْتَادُ
الِانْتِهَابَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
شَرْطِيَّةً، وَجَوَابُهُ {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] وَهُوَ سَالِمٌ عَنْ
الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى
انْتَهَى
أَقُولُ: فِي تَفْرِيعِ قَوْلِهِ فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ
أَوْلَى خَلَلٌ؛ لِأَنَّ الِاعْتِرَاضَ الْمَذْكُورَ لَا
يَرِدُ عَلَى مَعْنَى الْآيَةِ بِالتَّفْسِيرِ الْأَوَّلِ،
بَلْ عَلَى الِاسْتِدْلَالِ بِهِ عَلَى مَسْأَلَتِنَا
هَذِهِ، وَلَا يَخْفَى أَنَّ تَعَيُّنَ مَعْنَى الْآيَةِ
أَوْ رُجْحَانَ أَحَدِ مُحْتَمَلَيْهَا لَا يَتَوَقَّفُ
عَلَى تَمَامِ الِاسْتِدْلَالِ بِهَا، بَلْ الْأَمْرُ
بِالْعَكْسِ، فَمَا مَعْنَى تَفْرِيعِ قَوْلِهِ
فَالْحَمْلُ عَلَيْهِ أَوْلَى عَلَى قَوْلِهِ، وَهُوَ
سَالِمٌ عَنْ الِاعْتِرَاضِ الْمَذْكُورِ (قَوْلُهُ:
وَالْجَوَارِحُ الْكَوَاسِبُ، قَالَ فِي تَأْوِيلِ:
وَالْمُكَلِّبِينَ الْمُسَلَّطِينَ، فَيَتَنَاوَلُ
الْكُلَّ بِعُمُومِهِ، دَلَّ عَلَيْهِ مَا رَوَيْنَا مِنْ
حَدِيثِ عَدِيٍّ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ:
وَاسْتَدَلَّ الْمُصَنِّفُ عَلَى صِحَّةِ التَّأْوِيلِ
بِعُمُومِ حَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ
أَقُولُ: لَا صِحَّةَ لِهَذَا الْكَلَامِ؛ إذْ لَا
يَذْهَبُ عَلَى ذِي مَسْكَةٍ أَنْ لَيْسَ مَقْصُودُ
الْمُصَنِّفِ بَيَانَ صِحَّةِ تَأْوِيلٍ دُونَ صِحَّةِ
تَأْوِيلٍ آخَرَ؛ إذْ لَا تَنَافِيَ بَيْنَ
التَّأْوِيلَيْنِ كَمَا سَيَجِيءُ فِي الْكِتَابِ،
وَأَيْضًا عُمُومُ حَدِيثِ عَدِيٍّ لَا يُنَافِي
التَّأْوِيلَ الْآخَرَ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ الْجَوَارِحُ
هِيَ الَّتِي تَجْرَحُ مِنْ الْجِرَاحَةِ بَلْ يُوَافِقُهُ
أَيْضًا، فَمَا مَعْنَى الِاسْتِدْلَالِ بِعُمُومِهِ عَلَى
صِحَّةِ تَأْوِيلٍ دُونَ آخَرَ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ
مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ: دَلَّ عَلَيْهِ مَا
رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ إنَّمَا هُوَ
الِاسْتِدْلَال عَلَى تَنَاوُلِ مَا فِي الْآيَةِ الْكُلَّ
بِحَدِيثِ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ، فَالْمَعْنَى دَلَّ عَلَى
تَنَاوُلِ الْكُلِّ مَا رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ
وَبَيَّنَهُ بِقَوْلِهِ: وَاسْمُ الْكَلْبِ فِي اللُّغَةِ
يَقَعُ عَلَى كُلِّ سَبُعٍ حَتَّى الْأَسَدِ لَكِنْ بَقِيَ
شَيْءٌ فِي كَلَامِ الْمُصَنِّفِ، وَهُوَ أَنَّ
الْمُدَّعَى جَوَازُ الِاصْطِيَادِ بِكُلِّ شَيْءٍ
عَلَّمْته مِنْ ذِي نَابٍ مِنْ السِّبَاعِ وَذِي مِخْلَبٍ
مِنْ الطَّيْرِ، فَالْمُرَادُ بِالتَّنَاوُلِ فِي قَوْلِهِ
فَيَتَنَاوَلُ الْكُلَّ بِعُمُومِهِ إنَّمَا هُوَ
التَّنَاوُلُ لِكُلِّ مَا فِي الْمُدَّعَى
وَلَا يَخْفَى أَنَّ حَدِيثَ عَدِيٍّ لَا يَدُلُّ
عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَنَاوَلُ جَوَارِحَ
الطُّيُورِ، وَإِنَّمَا يَتَنَاوَلُ جَوَارِحَ السِّبَاعِ
عَلَى تَقْدِيرِ أَنْ يُرَادَ بِالْكَلْبِ الْمَذْكُورِ
فِيهِ كُلُّ ذِي سَبُعٍ دُونَ النَّوْعِ الْمُعَيَّنِ
الْمَعْرُوفِ (قَوْلُهُ: لِأَنَّ مَا تَلَوْنَا مِنْ
النَّصِّ يَنْطِقُ بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ وَالْحَدِيثُ
بِهِ وَبِالْإِرْسَالِ) أَقُولُ: فِيهِ نَوْعُ شُبْهَةٍ؛
لِأَنَّ كَوْنَ مَا تَلَاهُ مِنْ الْآيَةِ نَاطِقًا
بِالتَّعْلِيمِ، وَمَا رَوَاهُ مِنْ الْحَدِيثِ نَاطِقًا
بِالتَّعْلِيمِ وَبِالْإِرْسَالِ مِمَّا لَا كَلَامَ فِيهِ
وَأَمَّا كَوْنُ مَا تَلَاهُ مِنْ الْآيَةِ نَاطِقًا
بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ، وَكَوْنُ مَا رَوَاهُ مِنْ
الْحَدِيثِ نَاطِقًا بِاشْتِرَاطِ التَّعْلِيمِ كَمَا هُوَ
الْمُدَّعَى هَا هُنَا وَبِاشْتِرَاطِ الْإِرْسَالِ
أَيْضًا فَلَيْسَ بِظَاهِرٍ، وَإِنَّمَا يَدُلَّانِ عَلَى
الِاشْتِرَاطِ الْمَذْكُورِ بِطَرِيقِ مَفْهُومِ
الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِحُجَّةٍ عِنْدَنَا فِي
الْأَدِلَّةِ الشَّرْعِيَّةِ كَمَا عُرِفَ.
(قَوْلُهُ: وَلِأَنَّ آيَةَ التَّعْلِيمِ تَرْكُ مَا هُوَ
مَأْلُوفُهُ عَادَةً وَالْبَازِي مُتَوَحِّشٌ مُتَنَفِّرٌ
فَكَانَتْ الْإِجَابَةُ آيَةَ تَعْلِيمِهِ، وَأَمَّا
الْكَلْبُ فَهُوَ أَلُوفٌ عَادَةً يَعْتَادُ الِانْتِهَابَ
(10/115)
فَكَانَ آيَةُ تَعْلِيمِهِ تَرْكَ
مَأْلُوفِهِ وَهُوَ الْأَكْلُ وَالِاسْتِلَابُ
ثُمَّ شُرِطَ تَرْكُ الْأَكْلِ ثَلَاثًا وَهَذَا
عِنْدَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ -؛ لِأَنَّ فِيمَا دُونَهُ مَزِيدَ
الِاحْتِمَالِ فَلَعَلَّهُ تَرَكَهُ مَرَّةً أَوْ
مَرَّتَيْنِ شِبَعًا، فَإِذَا تَرَكَهُ ثَلَاثًا دَلَّ
عَلَى أَنَّهُ صَارَ عَادَةً لَهُ، وَهَذَا؛ لِأَنَّ
الثَّلَاثَ مُدَّةٌ ضُرِبَتْ لِلِاخْتِبَارِ وَإِبْلَاءِ
الْأَعْذَارِ كَمَا فِي مُدَّةِ الْخِيَارِ
وَفِي بَعْضِ قَصَصِ الْأَخْيَارِ: وَلِأَنَّ الْكَثِيرَ
هُوَ الَّذِي يَقَعُ أَمَارَةً عَلَى الْعِلْمِ دُونَ
الْقَلِيلِ، وَالْجَمْعُ هُوَ الْكَثِيرُ وَأَدْنَاهُ
الثَّلَاثُ فَقُدِّرَ بِهَا
وَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ عَلَى مَا ذُكِرَ فِي الْأَصْلِ:
لَا يَثْبُتُ التَّعْلِيمُ مَا لَمْ يَغْلِبْ عَلَى ظَنِّ
الصَّائِدِ أَنَّهُ مُعَلَّمٌ، وَلَا يُقَدَّرُ
بِالثَّلَاثِ؛ لِأَنَّ الْمَقَادِيرَ لَا تُعْرَفُ
اجْتِهَادًا بَلْ نَصًّا وَسَمَاعًا وَلَا سَمْعَ
فَيُفَوَّضُ إلَى رَأْيِ الْمُبْتَلَى بِهِ كَمَا هُوَ
أَصْلُهُ فِي جِنْسِهَا
وَعَلَى الرِّوَايَةِ الْأُولَى عِنْدَهُ يَحِلُّ مَا
اصْطَادَهُ ثَالِثًا
وَعِنْدَهُمَا لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا يَصِيرُ
مُعَلَّمًا
بَعْدَ تَمَامِ الثَّلَاثِ وَقَبْلَ التَّعْلِيمِ غَيْرُ
مُعَلَّمٍ، فَكَانَ الثَّالِثُ صَيْدَ كَلْبٍ جَاهِلٍ
وَصَارَ كَالتَّصَرُّفِ الْمُبَاشِرِ فِي سُكُوتِ
الْمَوْلَى
وَلَهُ أَنَّهُ آيَةُ تَعْلِيمِهِ عِنْدَهُ فَكَانَ هَذَا
صَيْدَ جَارِحَةٍ مُعَلَّمَةٍ، بِخِلَافِ تِلْكَ
الْمَسْأَلَةِ؛ لِأَنَّ الْإِذْنَ إعْلَامٌ وَلَا
يَتَحَقَّقُ دُونَ عِلْمِ الْعَبْدِ وَذَلِكَ بَعْدَ
الْمُبَاشَرَةِ.
قَالَ (وَإِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ أَوْ
بَازِيَهُ وَذَكَرَ اسْمَ اللَّهِ تَعَالَى عِنْدَ
إرْسَالِهِ فَأَخَذَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
فَكَانَ آيَةُ تَعْلِيمِهِ تَرْكَ مَأْلُوفِهِ وَهُوَ
الْأَكْلُ وَالِاسْتِلَابُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ:
وَلَكِنَّ هَذَا الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ
وَالنَّمِرِ فَإِنَّهُ مُتَوَحِّشٌ كَالْبَازِي، ثُمَّ
الْحُكْمُ فِيهِ، وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ،
فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ، كَذَا فِي الْمَبْسُوطِ
انْتَهَى
وَاقْتَفَى أَثَرَهُ صَاحِبُ الْكِفَايَةِ وَمِعْرَاجِ
الدِّرَايَةِ
وَزَعَمَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ أَنَّهُ لَيْسَ بِوَارِدٍ
حَيْثُ قَالَ قَبْلُ: فِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ هَذَا
الْفَرْقَ لَا يَتَأَتَّى فِي الْفَهْدِ وَالنَّمِرِ
فَإِنَّهُ مُتَوَحِّشٌ كَالْبَازِي، ثُمَّ الْحُكْمُ فِيهِ
وَفِي الْكَلْبِ سَوَاءٌ، فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ
الْأَوَّلُ، وَلَيْسَ بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا
ذَكَرَهُ فَرْقًا بَيْنَ الْكَلْبِ وَالْبَازِي لَا
غَيْرَ، وَذَلِكَ صَحِيحٌ، وَإِذَا أُرِيدَ الْفَرْقُ
عُمُومًا فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ، إلَى هُنَا
لَفْظُهُ
أَقُولُ: مَا قَالَهُ عُذْرٌ بَارِدٌ وَتَوْجِيهٌ كَاسِدٌ؛
لِأَنَّ اسْمَ الْكَلْبِ فِي اللُّغَةِ يَقَعُ عَلَى كُلِّ
سَبُعٍ كَمَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِيمَا مَرَّ آنِفًا،
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْكَلْبِ فِي
الْمُدَّعَى هَا هُنَا هُوَ الْمَعْنَى الْعَامُّ لِكُلِّ
سَبُعٍ لَا الْكَلْبَ الْمَخْصُوصَ، وَإِلَّا يَلْزَمُ
أَنْ يُتْرَكَ بَيَانُ حَالِ تَعْلِيمِ سَائِرِ السِّبَاعِ
بِالْكُلِّيَّةِ فَالْمُرَادُ فِي التَّعْلِيلِ أَيْضًا
هُوَ الْفَرْقُ عُمُومًا، وَاَلَّذِي يُفِيدُ الْفَرْقَ
عُمُومًا هُوَ التَّعْلِيلُ الْأَوَّلُ دُونَ الثَّانِي،
فَالْمُعْتَمَدُ هُوَ الْأَوَّلُ كَمَا ذُكِرَ فِي
عَامَّةِ الْمُعْتَبَرَاتِ حَتَّى الْمَبْسُوطِ ثُمَّ إنَّ
بَعْضَ الْفُضَلَاءِ بَعْدَ أَنْ تَنَبَّهَ لِمَا قَالَهُ
صَاحِبُ الْعِنَايَةِ مِنْ الرَّكَاكَةِ قَالَ: وَلَعَلَّ
الْأَوْلَى أَنْ يُجَابَ بِأَنَّهُ لَمَّا كَانَتْ ذَوَاتُ
النَّابِ كُلُّهَا
(10/116)
الصَّيْدَ وَجَرَحَهُ فَمَاتَ حَلَّ
أَكْلُهُ) لِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ -، وَلِأَنَّ الْكَلْبَ أَوْ الْبَازِي
آلَةٌ، وَالذَّبْحُ لَا يَحْصُلُ بِمُجَرَّدِ الْآلَةِ
إلَّا بِالِاسْتِعْمَالِ وَذَلِكَ فِيهِمَا بِالْإِرْسَالِ
فَنَزَلَ مَنْزِلَةَ الرَّمْيِ وَإِمْرَارِ السِّكِّينِ
فَلَا بُدَّ مِنْ التَّسْمِيَةِ عِنْدَهُ
وَلَوْ تَرَكَهُ نَاسِيًا حَلَّ أَيْضًا عَلَى مَا
بَيَّنَّاهُ، وَحُرْمَةُ مَتْرُوكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا
فِي الذَّبَائِحِ
وَلَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
لِيَتَحَقَّقَ الذَّكَاةُ الِاضْطِرَارِيُّ وَهُوَ
الْجُرْحُ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ فِي الْبَدَنِ
بِانْتِسَابِ مَا وُجِدَ مِنْ الْآلَةِ إلَيْهِ
بِالِاسْتِعْمَالِ
وَفِي ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ
الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] مَا يُشِيرُ إلَى اشْتِرَاطِ
الْجُرْحِ؛ إذْ هُوَ مِنْ الْجُرْحِ بِمَعْنَى
الْجِرَاحَةِ فِي تَأْوِيلٍ فَيُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ
الْكَاسِبُ بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ وَلَا تَنَافِيَ،
وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
جِنْسًا وَاحِدًا وَكَانَ أَكْثَرُ مَا يُسْتَعْمَلُ
مِنْهَا فِي الصَّيْدِ أَلُوفًا مَعَ أَنَّ فِي طَبْعِ
غَيْرِهِ الْإِلْفَ أَيْضًا عَلَى مَا تَرَاهُ فِي
الذِّئْبِ وَالْأَسَدِ وَغَيْرِهِمَا إذَا رُبِّيَ مِنْ
صِغَرِهِ فِي الْبَيْتِ، بِخِلَافِ جَوَارِحِ الطَّيْرِ
جُعِلَ الْكُلُّ فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ فِي التَّعْلِيمِ:
يَعْنِي أُدِيرَ حُكْمُ التَّعْلِيمِ عَلَى جِنْسِ
الْكَلْبِ تَيْسِيرًا كَمَا فِي نَظَائِرِهِ
فَلْيُتَأَمَّلْ اهـ
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا أَيْضًا بِسَدِيدٍ؛ إذْ بَعْدَمَا
تَقَرَّرَ أَنَّ الْفَهْدَ وَالنَّمِرَ مِمَّا لَا
يَتَأَتَّى فِيهِ الْإِلْفُ بَلْ هُمَا مُتَوَحِّشَانِ
كَالْبَازِي لَا يَكُونُ جَعْلُ أَنْوَاعِ الْكَلْبِ
كُلِّهَا فِي حُكْمٍ وَاحِدٍ، وَإِدَارَةُ حُكْمِ
التَّعْلِيلِ عَلَى جِنْسِ الْكَلْبِ مِنْ بَابِ
التَّيْسِيرِ بَلْ يَكُونُ مِنْ بَابِ التَّعْسِيرِ
وَالتَّشْدِيدِ، بَلْ يَلْزَمُ إذْ ذَاكَ أَنْ يُحْمَلَ
الْمُتَوَحِّشُ عَلَى الْأَلُوفِ، وَهُوَ غَيْرُ مُيَسَّرٍ
لَا مَحَالَةَ
ثُمَّ أَقُولُ: بَقِيَ شَيْءٌ فِي التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ
أَيْضًا، وَهُوَ أَنَّهُ قَدْ ذُكِرَ فِي عَامَّةِ
الْمُعْتَبَرَاتِ أَنَّ شَمْسَ الْأَئِمَّةِ
السَّرَخْسِيَّ قَالَ نَاقِلًا عَنْ شَيْخِهِ شَمْسِ
الْأَئِمَّةِ الْحَلْوَانِيِّ: لِلْفَهْدِ خِصَالٌ
يَنْبَغِي لِكُلِّ عَاقِلٍ أَنْ يَأْخُذَ ذَلِكَ مِنْهُ،
وَعَدَّ مِنْهَا أَنَّهُ لَا يَتَعَلَّمُ بِالضَّرْبِ،
وَلَكِنْ يُضْرَبُ الْكَلْبُ بَيْنَ يَدَيْهِ إذَا أَكَلَ
مِنْ الصَّيْدِ فَيَتَعَلَّمُ بِذَلِكَ، فَقَدْ ظَهَرَ
مِنْهُ أَنَّ تَحَمُّلَ بَدَنِ الْفَهْدِ لِلضَّرْبِ لَا
يُجْدِي شَيْئًا فِي حَقِّ تَعْلِيمِهِ، وَقَدْ كَانَ
مَدَارُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْبَازِي وَالْكَلْبِ فِي
التَّعْلِيلِ الْأَوَّلِ هُوَ أَنَّ بَدَنَ الْبَازِي لَا
يَحْتَمِلُ الضَّرْبَ وَبَدَنَ الْكَلْبِ يَحْتَمِلُهُ،
فَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ مُجَرَّدَ احْتِمَالِ بَدَنِ
الْكَلْبِ الضَّرْبَ لَا يُفِيدُ الْمُدَّعَى فِي حَقِّ
الْفَهْدِ؛ إذْ هُوَ غَيْرُ مُؤَثِّرٍ فِي حَقِّ
تَعْلِيمِهِ فَتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَفِي ظَاهِرِ قَوْله تَعَالَى {وَمَا
عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ} [المائدة: 4] مَا يُشِيرُ
إلَى اشْتِرَاطِ الْجُرْحِ؛ إذْ هُوَ مِنْ الْجُرْحِ
بِمَعْنَى الْجِرَاحَةِ فِي تَأْوِيلٍ فَيُحْمَلُ عَلَى
الْجَارِحِ الْكَاسِبِ بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ وَلَا
تَنَافِي وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْيَقِينِ) وَذَلِكَ؛ لِأَنَّ
النَّصَّ إذَا وَرَدَ فِيهِ اخْتِلَافُ الْمَعَانِي،
فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمَا تَنَافٍ يُثْبِتُ أَحَدَهُمَا
بِدَلِيلٍ يُوجِبُ
(10/117)
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ لَا
يَشْتَرِطُ رُجُوعًا إلَى التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ
وَجَوَابُهُ مَا قُلْنَا.
قَالَ (فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ
لَمْ يُؤْكَلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي أُكِلَ)
وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي دَلَالَةِ التَّعْلِيمِ
وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ -
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ
وَالشَّافِعِيِّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ فِي إبَاحَةِ مَا
أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْهُ (وَلَوْ أَنَّهُ صَادَ صُيُودًا
وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
تَرْجِيحَهُ لَا الْجَمِيعَ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ
بَيْنَهُمَا تَنَافٍ يُثْبِتُ الْجَمِيعَ أَخْذًا
بِالْمُتَيَقَّنِ كَمَا فِي قَوْله تَعَالَى {وَلا يَحِلُّ
لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] قِيلَ أُرِيدَ بِهِ
الْحَبَلُ، وَقِيلَ الْحَيْضُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُمَا
مُرَادَانِ؛ لِأَنَّهُ لَا تَنَافِيَ بَيْنَهُمَا فَكَذَا
هَا هُنَا لَا تَنَافِيَ بَيْنَ الْكَسْبِ وَالْجِرَاحَةِ،
كَذَا فِي عَامَّةِ الشُّرُوحِ
قَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ: فَأَقُولُ عَلَى مَا قَالُوا
يَلْزَمُهُ عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ فِي مَوْضِعِ
الْإِثْبَاتِ وَهُوَ فَاسِدٌ انْتَهَى اهـ
وَذَكَرَهُ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ عَلَى وَجْهِ الْبَسْطِ
وَالتَّوْسِيعِ حَيْثُ قَالَ: وَفِيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّ
الْجُرْحَ إمَّا أَنْ يَكُونَ مُشْتَرَكًا بَيْنَ
الْكَسْبِ وَالْجُرْحِ الَّذِي يَحْصُلُ بِهِ الْجِرَاحَةُ
أَوْ يَكُونَ حَقِيقَةً فِي أَحَدِهِمَا مَجَازًا فِي
الْآخَرِ، وَالْمُشْتَرَكُ لَا عُمُومَ لَهُ، وَالْجَمْعُ
بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ عِنْدَنَا لَا يَجُوزُ
بِخِلَافِ قَوْله تَعَالَى {مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي
أَرْحَامِهِنَّ} [البقرة: 228] فَإِنَّهُ لَفْظٌ عَامٌّ
يَتَنَاوَلُ الْجَمِيعَ بِالتَّوَاطُؤِ، إلَى هُنَا
كَلَامُهُ
أَقُولُ: يُمْكِنُ الْجَوَابُ عَنْهُ بِأَنَّ مُرَادَ
الْمُصَنِّفِ مِنْ قَوْلِهِ: يُحْمَلُ عَلَى الْجَارِحِ
الْكَاسِبِ بِنَابِهِ وَمِخْلَبِهِ أَنَّهُ يُجْمَعُ فِي
الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ بَيْنَ كِلَا مُحْتَمَلَيْ
النَّصِّ الْمَذْكُورِ مِنْ التَّأْوِيلَيْنِ لِعَدَمِ
التَّنَافِي بَيْنَهُمَا وَفِيهِ أَخْذٌ بِالْمُتَيَقَّنِ
إذْ يُوجَدُ فِي الْمَجْمُوعِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا،
فَأَيٌّ مِنْهُمَا يُرَادُ فِي النَّظْمِ الشَّرِيفِ كَانَ
مَأْخُوذًا فِي الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ، وَلَيْسَ
مُرَادُهُ أَنَّ كِلَا التَّأْوِيلَيْنِ يُرَادَانِ مَعًا
بِلَفْظِ النَّصِّ الْمَذْكُورِ حَتَّى يَلْزَمَ عُمُومُ
الْمُشْتَرَكِ فِي الْإِثْبَاتِ أَوْ الْجَمْعِ بَيْنَ
الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، وَصَاحِبُ الْعِنَايَةِ
لِزَعْمِهِ أَنَّ مُرَادَهُمْ هُوَ الثَّانِي قَالَ فِي
تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ فَيُحْمَلُ عَلَى
الْجَارِحِ الْكَاسِبِ: يَعْنِي يُجْمَعُ فِي مَعْنَى
الْآيَةِ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ، وَكَانَ حَقُّ
التَّفْسِيرِ أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي يُجْمَعُ فِي
الِاعْتِبَارِ وَالْعَمَلِ بَيْنَ التَّأْوِيلَيْنِ كَمَا
نَبَّهْت عَلَيْهِ آنِفًا
وَقَالَ صَاحِبُ مِعْرَاجِ الدِّرَايَةِ هَا هُنَا: فَإِنْ
قِيلَ فِيهِ جَمْعٌ بَيْنَ الْحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ أَوْ
عُمُومُ الْمُشْتَرَكِ؛ لِأَنَّ الْجَوَارِحَ إمَّا أَنْ
تَكُونَ حَقِيقَةً فِي الْكَوَاسِبِ أَوْ مَجَازًا
قُلْنَا: لَا كَذَلِكَ، بَلْ الْجَوَارِحُ أَخَصُّ مِنْ
الْكَوَاسِبِ، فَلَوْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْكَوَاسِبِ
الْجَوَارِحَ لَا يَلْزَمُ ذَلِكَ انْتَهَى
أَقُولُ: جَوَابُهُ لَيْسَ بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ كَوْنَ
الْجَوَارِحِ أَخَصَّ مِنْ الْكَوَاسِبِ لَا يَدْفَعُ
لُزُومَ الْمَحْذُورِ الْمَذْكُورِ فِي السُّؤَالِ؛ إذْ
لَا شَكَّ أَنَّ مَفْهُومَ الْأَخَصِّ يُغَايِرُ مَفْهُومَ
الْأَعَمِّ، وَإِلَّا يَلْزَمُ أَنْ يَكُونَ الشَّيْءُ
أَخَصَّ مِنْ نَفْسِهِ، وَهُوَ ظَاهِرُ الْبُطْلَانِ،
وَلَا رَيْبَ أَنَّ اللَّفْظَ الْوَاحِدَ لَا يُطْلَقُ
عَلَى الْمَعْنَيَيْنِ الْمُتَغَايِرَيْنِ سَوَاءٌ كَانَ
أَحَدُهُمَا أَخَصَّ مِنْ الْآخَرِ أَمْ لَا إلَّا
بِطَرِيقِ الِاشْتِرَاكِ أَوْ بِطَرِيقِ الْحَقِيقَةِ
وَالْمَجَازِ فَيَلْزَمُ أَحَدُ الْمَحْذُورَيْنِ
الْمَذْكُورَيْنِ فِي السُّؤَالِ قَطْعًا عَلَى تَقْدِيرِ
إرَادَتِهِمَا مَعًا مِنْ لَفْظٍ وَاحِدٍ.
(قَوْلُهُ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِمَا رَوَيْنَا مِنْ حَدِيثِ
عَدِيٍّ) أَقُولُ: فِي كَلَامِهِ هَذَا رَكَاكَةٌ؛ لِأَنَّ
ضَمِيرَ هُوَ فِي قَوْلِهِ وَهُوَ مُؤَيَّدٌ إنْ كَانَ
رَاجِعًا إلَى الْفَرْقِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ مِنْ
أُسْلُوبِ تَحْرِيرِهِ، يَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّ حَدِيثَ
عَدِيٍّ لَا يُفِيدُ الْفَرْقَ الْمَذْكُورَ أَصْلًا،
فَإِنَّهُ إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ لَا يُؤْكَلَ مَا
أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى أَنْ
يُؤْكَلَ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي، وَإِفَادَةُ
الْفَرْقِ إنَّمَا تَكُونُ بِالدَّلَالَةِ عَلَيْهِمَا
مَعًا وَإِنْ كَانَ رَاجِعًا إلَى مَضْمُونِ قَوْلِهِ
فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ لَمْ
يُؤْكَلْ كَانَ حَقُّ قَوْلِهِ: وَهُوَ مُؤَيَّدٌ بِمَا
رَوَيْنَاهُ مِنْ حَدِيثِ عَدِيٍّ أَنْ يَذْكُرَ عَقِيبَ
قَوْلِهِ فَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ أَوْ الْفَهْدُ
لَمْ يُؤْكَلْ، وَلَمَّا وَسَّطَ بَيْنَهُمَا قَوْلَهُ
وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْبَازِي أُكِلَ
وَقَوْلُهُ: وَالْفَرْقُ مَا بَيَّنَّاهُ فِي دَلَالَةِ
التَّعْلِيمِ كَانَ الْكَلَامُ قَلِقًا كَمَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ وَالشَّافِعِيِّ
فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ فِي إبَاحَةِ مَا أَكَلَ
الْكَلْبُ مِنْهُ) فَإِنْ قِيلَ: رَوَى أَبُو ثَعْلَبَةَ
الْخُشَنِيُّ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - «أَنَّهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - قَالَ لَهُ فِي صَيْدِ
الْكَلْبِ: كُلْ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ» وَذَلِكَ دَلِيلٌ
(10/118)
ثُمَّ أَكَلَ مِنْ صَيْدٍ لَا يُؤْكَلُ
هَذَا الصَّيْدُ) ؛ لِأَنَّهُ عَلَامَةُ الْجَهْلِ، وَلَا
مَا يَصِيدُهُ بَعْدَهُ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا عَلَى
اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِي
الِابْتِدَاءِ
وَأَمَّا الصُّيُودُ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ قَبْلُ فَمَا
أَكَلَ مِنْهَا لَا تَظْهَرُ الْحُرْمَةُ فِيهِ
لِانْعِدَامِ الْمَحَلِّيَّةِ وَمَا لَيْسَ بِمُحْرَزٍ
بِأَنْ كَانَ فِي الْمَفَازَةِ بِأَنْ لَمْ يَظْفَرْ
صَاحِبُهُ بَعْدَ تَثَبُّتِ الْحُرْمَةِ فِيهِ
بِالِاتِّفَاقِ، وَمَا هُوَ مُحْرَزٌ فِي بَيْتِهِ
يَحْرُمُ عِنْدَهُ خِلَافًا لَهُمَا
هُمَا يَقُولَانِ: إنَّ الْأَكْلَ لَيْسَ يَدُلُّ عَلَى
الْجَهْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَاضِحٌ لَهُمَا
أُجِيبَ بِأَنَّهُ خَبَرُ وَاحِدٍ لَا يُعَارِضُ قَوْله
تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}
[المائدة: 4] فَإِنَّ الْإِمْسَاكَ عَلَيْهِمْ أَنْ لَا
يَأْكُلَ مِنْهُ، وَحِينَ أَكَلَ مِنْهُ دَلَّ أَنَّهُ
أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ، يُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ «فَإِنْ
أَكَلَ مِنْهُ فَلَا تَأْكُلْ؛ لِأَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَ
عَلَى نَفْسِهِ» كَذَا فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ
النِّهَايَةِ
أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى هَذَا الْجَوَابِ أَنَّ قَوْله
تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ}
[المائدة: 4] إنَّمَا يَدُلُّ عَلَى إبَاحَةِ أَكْلِ مَا
لَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَلَا يَدُلُّ عَلَى
عَدَمِ إبَاحَةِ أَكْلِ مَا أَكَلَ مِنْهُ إلَّا بِطَرِيقِ
مَفْهُومِ الْمُخَالَفَةِ، وَهُوَ لَيْسَ بِمُعْتَبَرٍ
عِنْدَنَا كَالْعُرْفِ فِي عِلْمِ الْأُصُولِ، فَلَمْ
يَتَحَقَّقْ التَّعَارُضُ بَيْنَ ذَلِكَ الْحَدِيثِ
وَبَيْنَ قَوْله تَعَالَى {فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ
عَلَيْكُمْ} [المائدة: 4] حَتَّى يَلْزَمَ أَنْ يُتْرَكَ
الْعَمَلُ بِالْحَدِيثِ لِكَوْنِهِ خَبَرَ وَاحِدٍ
لَا يُقَالُ: يَحْصُلُ بِهَذَا الْجَوَابِ إلْزَامُ
الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّ مَفْهُومَ الْمُخَالَفَةِ حُجَّةٌ
عِنْدَهُ، وَهَذَا الْقَدْرُ كَافٍ فِي صِحَّةِ
الْجَوَابِ؛ لِأَنَّا نَقُولُ: لَا يَحْصُلُ إلْزَامُهُ
أَيْضًا؛ لِأَنَّ مَنْ يَقُولُ يَكُونُ الْمَفْهُومُ
حُجَّةً لَا يُنْكِرُ أَنَّ الْمَنْطُوقَ أَقْوَى مِنْهُ
فَلَا يَتَحَقَّقُ حُكْمُ التَّعَارُضِ عِنْدَهُ أَيْضًا
وَالْحَقُّ عِنْدِي فِي الْجَوَابِ عَنْ أَصْلِ السُّؤَالِ
أَنْ يُقَالَ: حَدِيثُ أَبِي ثَعْلَبَةَ مُعَارَضٌ
بِحَدِيثِ عَدِيٍّ، وَحَدِيثُ عَدِيٍّ مُرَجَّحٌ عَلَى
حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ؛ لِأَنَّ حَدِيثَهُ يُحِلُّ مَا
أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، وَحَدِيثُ عَدِيٍّ يُحَرِّمُهُ،
وَقَدْ عُرِفَ فِي أُصُولِ الْفِقْهِ أَنَّ الْمُحَرَّمَ
يُرَجَّحُ عَلَى الْمُحَلَّلِ عِنْدَ التَّعَارُضِ
فَيُجْعَل نَاسِخًا لَهُ فَوَجَبَ الْعَمَلُ بِحَدِيثِ
عَدِيٍّ دُونَ حَدِيثِ أَبِي ثَعْلَبَةَ (قَوْلُهُ وَلَا
مَا يَصِيدُهُ بَعْدَهُ حَتَّى يَصِيرَ مُعَلَّمًا عَلَى
اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِي
الِابْتِدَاءِ) قَالَ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: أَرَادَ مَا
ذَكَرَ أَنَّهُ يَحِلُّ عِنْدَهُ مَا اصْطَادَهُ ثَالِثًا
إلَخْ
أَقُولُ: تَفْسِيرُ مُرَادِ الْمُصَنِّف بِمَا ذَكَرَهُ
هَذَا الشَّارِحُ لَيْسَ بِصَحِيحٍ؛ لِأَنَّ فِيمَا
ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: يَحِلُّ عِنْدَهُ مَا
اصْطَادَهُ ثَالِثًا إلَخْ رِوَايَتَيْنِ لَا غَيْرَ:
رِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ وَهِيَ حِلُّ مَا
اصْطَادَهُ ثَالِثًا، وَرِوَايَةٌ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ
وَمُحَمَّدٍ وَهِيَ عَدَمُ حِلِّ ذَلِكَ
وَقَدْ قَالَ الْمُصَنِّفُ هَا هُنَا عَلَى اخْتِلَافِ
الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا بِصِيغَةِ الْجَمْعِ،
فَكَيْفَ يُتَصَوَّرُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُهُ مَا ذَهَبَ
إلَيْهِ الشَّارِحُ الْمَذْكُورُ؟ فَالصَّوَابُ أَنَّ
مُرَادَ الْمُصَنِّفِ بِقَوْلِهِ هَا هُنَا عَلَى
اخْتِلَافِ الرِّوَايَاتِ كَمَا بَيَّنَّاهَا فِي
الِابْتِدَاءِ وَهُوَ الْإِشَارَةُ إلَى مَا ذَكَرَهُ
فِيمَا مَرَّ بِقَوْلِهِ ثُمَّ شَرَطَ تَرْكَ الْأَكْلِ
ثَلَاثًا وَهَذَا عِنْدَهُمَا وَهُوَ رِوَايَةٌ عَنْ أَبِي
حَنِيفَةَ إلَى آخِرِ مَا ذَكَرَهُ فِي تِلْكَ
الْمَسْأَلَةِ، فَحِينَئِذٍ تَتَحَقَّقُ الرِّوَايَاتُ
وَتَنْتَظِمُ صِيغَةُ الْجَمْعِ كَمَا لَا يَخْفَى
(قَوْلُهُ هُمَا يَقُولَانِ إنَّ الْأَكْلَ لَيْسَ يَدُلُّ
عَلَى الْجَهْلِ فِيمَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّ الْحِرْفَةَ
(10/119)
قَدْ تُنْسَى، وَلِأَنَّ فِيمَا أَحْرَزَهُ
قَدْ أَمْضَى الْحُكْمَ فِيهِ الِاجْتِهَادُ فَلَا
يُنْقَضُ بِاجْتِهَادٍ مِثْلِهِ؛ لِأَنَّ الْمَقْصُودَ
قَدْ حَصَلَ بِالْأَوَّلِ، بِخِلَافِ غَيْرِ الْمُحْرَزِ؛
لِأَنَّهُ مَا حَصَلَ الْمَقْصُودُ مِنْ كُلِّ وَجْهٍ
لِبَقَائِهِ صَيْدًا مِنْ وَجْهٍ لِعَدَمِ الْإِحْرَازِ
فَحَرَّمْنَاهُ احْتِيَاطًا
وَلَهُ أَنَّهُ آيَةُ جَهْلِهِ مِنْ الِابْتِدَاءِ؛
لِأَنَّ الْحِرْفَةَ لَا يُنْسَى أَصْلُهَا، فَإِذَا
أَكَلَ تَبَيَّنَ أَنَّهُ كَانَ تَرَكَ الْأَكْلَ
لِلشِّبَعِ لَا لِلْعِلْمِ، وَتَبَدَّلَ الِاجْتِهَادُ
قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ؛ لِأَنَّهُ بِالْأَكْلِ
فَصَارَ كَتَبَدُّلِ اجْتِهَادِ الْقَاضِي قَبْلَ
الْقَضَاءِ
(وَلَوْ أَنَّ صَقْرًا فَرَّ مِنْ صَاحِبِهِ فَمَكَثَ
حِينًا ثُمَّ صَادَ لَا يُؤْكَلُ صَيْدُهُ) ؛ لِأَنَّهُ
تَرَكَ مَا صَارَ بِهِ عَالِمًا فَيُحْكَمُ بِجَهْلِهِ
كَالْكَلْبِ إذَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ
(وَلَوْ شَرِبَ الْكَلْبُ مِنْ دَمِ الصَّيْدِ وَلَمْ
يَأْكُلْ مِنْهُ أُكِلَ) ؛ لِأَنَّهُ مُمْسِكٌ لِلصَّيْدِ
عَلَيْهِ، وَهَذَا مِنْ غَايَةِ عِلْمِهِ حَيْثُ شَرِبَ
مَا لَا يَصْلُحُ لِصَاحِبِهِ وَأَمْسَكَ عَلَيْهِ مَا
يَصْلُحُ لَهُ
(وَلَوْ أَخَذَ الصَّيْدَ مِنْ الْمُعَلَّمِ ثُمَّ قَطَعَ
مِنْهُ قِطْعَةً وَأَلْقَاهَا إلَيْهِ فَأَكَلَهَا
يُؤْكَلُ مَا بَقِيَ) ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا
فَصَارَ كَمَا إذَا أَلْقَى إلَيْهِ طَعَامًا غَيْرَهُ،
وَكَذَا إذَا وَثَبَ الْكَلْبُ فَأَخَذَهُ مِنْهُ وَأَكَلَ
مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ، وَالشَّرْطُ
تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ الصَّيْدِ فَصَارَ كَمَا إذَا
افْتَرَسَ شَاتَهُ، بِخِلَافِ مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ
قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَتْ
فِيهِ جِهَةُ الصَّيْدِيَّةِ
(وَلَوْ نَهَسَ الصَّيْدَ فَقَطَعَ مِنْهُ بِضْعَةً
فَأَكَلَهَا ثُمَّ أَدْرَكَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ وَلَمْ
يَأْكُلْ مِنْهُ لَمْ يُؤْكَلْ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدُ كَلْبٍ
جَاهِلٍ حَيْثُ أَكَلَ مِنْ الصَّيْدَ
(وَلَوْ أَلْقَى مَا نَهَسَهُ وَاتَّبَعَ الصَّيْدَ
فَقَتَلَهُ وَلَمْ يَأْكُلْ مِنْهُ وَأَخَذَهُ صَاحِبُهُ
ثُمَّ مَرَّ بِتِلْكَ الْبِضْعَةِ فَأَكَلَهَا يُؤْكَلُ
الصَّيْدُ) ؛ لِأَنَّهُ لَوْ أَكَلَ مِنْ نَفْسِ الصَّيْدِ
فِي هَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَضُرَّهُ، فَإِذَا أَكَلَ مَا
بَانَ مِنْهُ وَهُوَ لَا يَحِلُّ لِصَاحِبِهِ أَوْلَى،
بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ أَكَلَ فِي
حَالَةِ الِاصْطِيَادِ فَكَانَ جَاهِلًا مُمْسِكًا
لِنَفْسِهِ، وَلِأَنَّ نَهْسَ الْبِضْعَةِ قَدْ يَكُونُ
لِيَأْكُلَهَا وَقَدْ يَكُونُ حِيلَةً فِي الِاصْطِيَادِ
لِيَضْعُفَ بِقَطْعِ الْقِطْعَةِ مِنْهُ فَيُدْرِكَهُ،
فَالْأَكْلُ قَبْلَ الْأَخْذِ يَدُلُّ عَلَى الْوَجْهِ
الْأَوَّلِ، وَبَعْدَهُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَلَا
يَدُلُّ عَلَى جَهْلِهِ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَدْ تُنْسَى) أَقُولُ: الظَّاهِرُ مِمَّا ذَكَرَهُ بَعْدَ
هَذَا بِقَوْلِهِ وَلِأَنَّ فِيمَا أَحْرَزَهُ إلَخْ أَنْ
يَكُونَ الْمَذْكُورُ هَا هُنَا دَلِيلًا تَامًّا لَهُمَا،
فَيَرِدُ عَلَيْهِ أَنَّهُ لَوْ تَمَّ لَدَلَّ عَلَى أَنْ
لَا تَثْبُتَ الْحُرْمَةُ عِنْدَهُمَا فِيمَا كَانَ غَيْرَ
مُحْرَزٍ فِي الْمَفَازَةِ أَيْضًا لِجَرَيَانِ هَذَا
الدَّلِيلِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا مَعَ أَنَّهُ تَثْبُتُ
الْحُرْمَةُ فِيهِ بِالِاتِّفَاقِ كَمَا صَرَّحَ بِهِ
الْمُصَنِّفُ مِنْ قَبْلُ فَتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَكَذَا إذَا وَثَبَ الْكَلْبُ فَأَخَذَهُ
مِنْهُ وَأَكَلَ مِنْهُ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ،
وَالشَّرْطُ تَرْكُ الْأَكْلِ مِنْ الصَّيْدِ فَصَارَ
كَمَا إذَا افْتَرَسَ شَاتَهُ) قَالَ صَاحِبُ
الْعِنَايَةِ: وَطُولِبَ بِالْفَرْقِ بَيْنَ مَا وَثَبَ
فَأَخَذَ مِنْ صَاحِبِهِ وَأَكَلَ وَبَيْنَ مَا أَكَلَ
بَعْدَمَا قَتَلَ، فَإِنَّ الصَّيْدَ كَمَا خَرَجَ عَنْ
الصَّيْدِيَّةِ بِأَخْذِ صَاحِبِهِ جَازَ أَنْ يَخْرُجَ
أَيْضًا بِقَتْلِهِ
وَأُجِيبَ بِأَنَّهُ إذَا لَمْ يَتَعَرَّضْ بِالْأَكْلِ
حَتَّى أَخَذَهُ صَاحِبُهُ دَلَّ أَنَّهُ كَانَ مُمْسِكًا
عَلَى صَاحِبِهِ، وَانْتِهَاسُهُ مِنْهُ
وَمِنْ لَحْمٍ آخَرَ فِي مِخْلَاةِ صَاحِبِهِ سَوَاءٌ
وَأَمَّا إذَا أَكَلَ قَبْلَ الْأَخْذِ كَانَ مُمْسِكًا
عَلَى نَفْسِهِ انْتَهَى كَلَامُهُ
أَقُولُ: هَذَا الْجَوَابُ لَا يَدْفَعُ الْمُطَالَبَةَ
الْمَذْكُورَةَ؛ لِأَنَّ حَاصِلَهَا نَقْضُ مَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ مَسْأَلَةِ الْوَثْبَةِ مِنْ
أَنَّهُ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ بِمَا إذَا أَكَلَ
بَعْدَمَا قَتَلَ، فَإِنَّ ذَلِكَ التَّعْلِيلَ مُتَمَشٍّ
فِي صُورَةِ الْقَتْلِ أَيْضًا؛ إذْ الصَّيْدُ كَمَا
يَخْرُجُ عَنْ الصَّيْدِيَّةِ بِأَخْذِ صَاحِبِهِ يَخْرُجُ
أَيْضًا بِقَتْلِهِ، فَلَمْ يَتَحَقَّقْ الْأَكْلُ مِنْ
الصَّيْدِ فِي الصُّورَتَيْنِ مَعًا مَعَ أَنَّهُمَا
مُفْتَرِقَانِ فِي الْحُكْمِ
وَحَاصِلُ الْجَوَابِ الْمَذْكُورِ بَيَانُ فَرْقٍ
بَيْنَهُمَا مِنْ جِهَةٍ أُخْرَى غَيْرِ مَا ذَكَرَهُ
الْمُصَنِّفُ فِي التَّعْلِيلِ، وَلَا يَذْهَبُ عَلَيْك
أَنَّ
(10/120)
قَالَ (وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ
الصَّيْدَ حَيًّا وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّيَهُ،
وَإِنْ تَرَكَ تَذْكِيَتَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ،
وَكَذَا الْبَازِي وَالسَّهْمُ) ؛ لِأَنَّهُ قَدَرَ عَلَى
الْأَصْلِ قَبْلَ حُصُولِ الْمَقْصُودِ بِالْبَدَلِ، إذْ
الْمَقْصُودُ هُوَ الْإِبَاحَةُ وَلَمْ تَثْبُتْ قَبْلَ
مَوْتِهِ فَبَطَلَ حُكْمُ الْبَدَلِ، وَهَذَا إذَا
تَمَكَّنَ مِنْ ذَبْحِهِ
أَمَّا إذَا وَقَعَ فِي يَدِهِ وَلَمْ يَتَمَكَّنْ مِنْ
ذَبْحِهِ وَفِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا يَكُونُ فِي
الْمَذْبُوحِ لَمْ يُؤْكَلْ فِي ظَاهِرِ الرِّوَايَةِ
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ وَأَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ يَحِلُّ
وَهُوَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَقْدِرْ
عَلَى الْأَصْلِ فَصَارَ كَمَا إذَا رَأَى الْمَاءَ وَلَمْ
يَقْدِرْ عَلَى الِاسْتِعْمَالِ
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّهُ قَدَرَ اعْتِبَارًا؛
لِأَنَّهُ ثَبَّتَ يَدَهُ عَلَى الْمَذْبَحِ وَهُوَ
قَائِمٌ مَكَانَ التَّمَكُّنِ مِنْ الذَّبْحِ إذْ لَا
يُمْكِنُ اعْتِبَارُهُ لِأَنَّهُ لَا بُدَّ لَهُ مِنْ
مُدَّةٍ وَالنَّاسُ يَتَفَاوَتُونَ فِيهَا عَلَى حَسَبِ
تَفَاوُتِهِمْ فِي الْكِيَاسَةِ وَالْهِدَايَةِ فِي أَمْرِ
الذَّبْحِ فَأُدِيرَ الْحُكْمُ عَلَى مَا ذَكَرْنَا،
بِخِلَافِ مَا إذَا بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ مِثْلُ
مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا،
أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ وَهُوَ
بِهَذِهِ الْحَالَةِ لَمْ يَحْرُمْ كَمَا إذَا وَقَعَ
وَهُوَ مَيِّتٌ وَالْمَيِّتُ لَيْسَ بِمُذْبَحٍ
وَفَصَّلَ بَعْضُهُمْ فِيهَا تَفْصِيلًا وَهُوَ أَنَّهُ
إنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ لِفَقْدِ الْآلَةِ لَمْ يُؤْكَلْ،
وَإِنْ لَمْ يَتَمَكَّنْ بِضِيقِ الْوَقْتِ لَمْ يُؤْكَلْ
عِنْدَنَا خِلَافًا لِلشَّافِعِيِّ؛ لِأَنَّهُ إذَا وَقَعَ
فِي يَدِهِ لَمْ يَبْقَ صَيْدًا فَبَطَلَ حُكْمُ ذَكَاةِ
الِاضْطِرَارِ،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
ذَلِكَ لَا يَدْفَعُ وُرُودَ الْمُطَالَبَةِ
الْمَذْكُورَةِ عَلَى مَا ذَكَرَهُ الْمُصَنِّفُ فِي
التَّعْلِيلِ
وَلَقَدْ أَحْسَنَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ هَا هُنَا فِي
التَّقْرِيرِ حَيْثُ قَالَ: فَوَجْهُ الْفَرْقِ بَيْنَ
هَذَا وَبَيْنَ مَا إذَا أَكَلَ الْكَلْبُ مِنْ الصَّيْدِ
بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَ الصَّائِدُ
حَيْثُ لَا يُؤْكَلُ، وَفِي هَذِهِ الصُّورَةِ وَهِيَ مَا
أَكَلَ مِنْهُ بِالْوَثْبَةِ بَعْدَ أَخْذِ الصَّائِدِ
يُؤْكَلُ، وَتَعْلِيلُ الْكِتَابِ هَا هُنَا بِقَوْلِهِ؛
لِأَنَّ مَا أَكَلَ مِنْ الصَّيْدِ شَامِلٌ
لِلصُّورَتَيْنِ وَمَعَ ذَلِكَ افْتَرَقَتَا فِي الْحُكْمِ
وَالْأَوْجُهُ فِيهِ هُوَ أَنَّ الْفَرْقَ إنَّمَا
يَنْشَأُ بَيْنَهُمَا مِنْ حَيْثُ وُجُودُ الْإِمْسَاكِ
لِصَاحِبِهِ وَعَدَمُ الْإِمْسَاكِ لَهُ، فَهَاهُنَا أَيْ
فِي مَسْأَلَةِ الْوَثْبَةِ لَمَّا لَمْ يَأْكُلْ مِنْ
الصَّيْدِ إلَى أَنْ أَخَذَهُ صَاحِبُهُ قَدْ تَمَّ
إمْسَاكُهُ عَلَى صَاحِبِهِ، وَهُنَاكَ لَمَّا أَكَلَ مِنْ
الصَّيْدِ بَعْدَ قَتْلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ
صَاحِبُهُ عُلِمَ أَنَّهُ إنَّمَا أَمْسَكَهُ لِنَفْسِهِ
لَا لِصَاحِبِهِ فَخَرَجَ بِهِ مِنْ أَنْ يَكُونَ
مُعَلَّمًا انْتَهَى
فَإِنَّهُ طَعَنَ فِي التَّعْلِيلِ الْمَذْكُورِ فِي
الْكِتَابِ بِشُمُولِهِ لِلصُّورَتَيْنِ مَعَ
افْتِرَاقِهِمَا فِي الْحُكْمِ، وَبَيَّنَ وَجْهًا آخَرَ
فَارِقًا بَيْنَهُمَا وَعَدَّهُ أَوْجَهَ لِكَوْنِهِ
سَالِمًا عَنْ وُرُودِ الْمُطَالَبَةِ بِالْفَرْقِ
بَيْنَهُمَا
ثُمَّ أَقُولُ: التَّحْقِيقُ أَنَّ الْمُطَالَبَةَ
بِالْفَرْقِ بَيْنَ تَيْنِكِ الْمَسْأَلَتَيْنِ سَاقِطَةٌ
عَمَّا ذُكِرَ فِي الْكِتَابِ أَيْضًا؛ لِأَنَّ
الْمُصَنِّفَ تَدَارَكَ دَفْعَهَا بِقَوْلِهِ: بِخِلَافِ
مَا إذَا فَعَلَ ذَلِكَ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ
الْمَالِكُ؛ لِأَنَّهُ بَقِيَتْ فِيهِ جِهَةُ
الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ عَلَى مَا صَرَّحَ بِهِ الشُّرَّاحُ
هُوَ أَنَّ الصَّيْدَ اسْمٌ لِمُتَوَحِّشٍ غَيْرِ مُحْرَزٍ
فَقَدْ زَالَ التَّوَحُّشُ بِالْقَتْلِ وَبَقِيَ عَدَمُ
الْإِحْرَازِ قَبْلَ أَنْ يُحْرِزَهُ الْمَالِكُ، فَمَا
بَقِيَ شَيْءٌ مِنْ آثَارِ الصَّيْدِ وَلَوَازِمِهِ
يَبْقَى حُكْمُ الصَّيْدِيَّةِ فِيهِ، فَظَهَرَ الْفَرْقُ
بَيْنَ مَسْأَلَةِ الْوَثْبَةِ وَبَيْنَ مَا إذَا أَكَلَهُ
بَعْدَ أَنْ قَتَلَهُ قَبْلَ أَنْ يَأْخُذَهُ الصَّائِدُ،
تَأَمَّلْ تَرْشُدْ
(قَوْلُهُ وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ الصَّيْدَ حَيًّا
وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يُذَكِّيَهُ، وَإِنْ تَرَكَ
تَذْكِيَتَهُ حَتَّى مَاتَ لَمْ يُؤْكَلْ، وَكَذَا
الْبَازِي وَالسَّهْمُ) اعْلَمْ أَنَّ قَوْلَهُ وَإِنْ
أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ إلَى قَوْلِهِ حَتَّى مَاتَ لَمْ
يُؤْكَلْ عِبَارَةُ الْقُدُورِيِّ فِي مُخْتَصَرِهِ،
وَقَوْلُهُ وَكَذَا الْبَازِي
(10/121)
وَهَذَا إذَا كَانَ يُتَوَهَّمُ بَقَاؤُهُ،
أَمَّا إذَا شَقَّ بَطْنَهُ وَأَخْرَجَ مَا فِيهِ ثُمَّ
وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ حَلَّ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ
اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ كَمَا إذَا
وَقَعَتْ شَاةٌ فِي الْمَاءِ بَعْدَمَا ذُبِحَتْ
وَقِيلَ هَذَا قَوْلُهُمَا، أَمَّا عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ
فَلَا يُؤْكَلُ أَيْضًا؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ فِي يَدِهِ
حَيًّا فَلَا يَحِلُّ إلَّا بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ رُدَّ
إلَى الْمُتَرَدِّيَةِ عَلَى مَا نَذْكُرُهُ إنْ شَاءَ
اللَّهُ تَعَالَى هَذَا الَّذِي ذَكَرْنَا إذَا تَرَكَ
التَّذْكِيَةَ، فَلَوْ أَنَّهُ ذَكَّاهُ حَلَّ أَكْلُهُ
عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ، وَكَذَا الْمُتَرَدِّيَةُ
وَالنَّطِيحَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ، وَاَلَّذِي يَبْقُرُ
الذِّئْبُ بَطْنَهُ وَفِيهِ حَيَاةٌ خَفِيَّةٌ أَوْ
بَيِّنَةٌ، وَعَلَيْهِ الْفَتْوَى لِقَوْلِهِ تَعَالَى
{إِلا مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] اسْتَثْنَاهُ
مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ فَصْلٍ
وَعِنْدَ أَبِي يُوسُفَ إذَا كَانَ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ
مِثْلُهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مَوْتُهُ
بِالذَّبْحِ
وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ
الْمَذْبُوحُ يَحِلُّ وَإِلَّا فَلَا؛ لِأَنَّهُ لَا
مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَالسَّهْمُ زِيَادَةٌ مِنْ الْمُصَنِّفِ
فَأَقُولُ: هَذِهِ الزِّيَادَةُ مِنْ الْمُصَنِّفِ هَا
هُنَا أَمْرٌ زَائِدٌ مُسْتَغْنًى عَنْهُ جِدًّا عِنْدِي
أَمَّا قَوْلُهُ وَكَذَا الْبَازِي فَظَاهِرٌ لِأَنَّ
قَوْلَ الْقُدُورِيِّ وَإِنْ أَدْرَكَ الْمُرْسِلُ
الصَّيْدَ حَيًّا يَتَنَاوَلُ صَيْدَ الْكَلْبِ وَصَيْدَ
الْبَازِي، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ يَقْتَضِي اخْتِصَاصَهُ
بِالْأَوَّلِ فَلَا حَاجَةَ إلَى ذِكْرِ قَوْلِهِ وَكَذَا
الْبَازِي بَلْ لَا وَجْهَ لَهُ
وَأَمَّا قَوْلُهُ وَالسَّهْمُ فَلِأَنَّ حُكْمَ
مَسْأَلَةِ السَّهْمِ سَيَجِيءُ فِي بَابِ الرَّمْيِ
مُفَصَّلًا؛ أَلَا يَرَى إلَى قَوْلِهِ هُنَاكَ: وَإِذَا
سَمَّى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّمْيِ أَكَلَ مَا أَصَابَ
إذَا خَرَجَ السَّهْمُ فَمَاتَ، وَإِنْ أَدْرَكَهُ حَيًّا
ذَكَّاهُ انْتَهَى، فَلَا حَاجَةَ إلَى بَيَانِهِ هَا
هُنَا (قَوْلُهُ وَقَالَ مُحَمَّدٌ: إنْ كَانَ يَعِيشُ
فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ يَحِلُّ، وَإِلَّا فَلَا؛
لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِهَذِهِ الْحَيَاةِ عَلَى مَا
قَرَّرْنَاهُ) قَالَ صَاحِبُ النِّهَايَةِ وَالْكِفَايَةِ:
أَرَادَ بِقَوْلِهِ مَا قَرَّرْنَاهُ قَوْلَهُ: لِأَنَّ
مَا بَقِيَ اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ
وَقَالَ صَاحِبُ الْغَايَةِ وَالْعِنَايَةِ: أَشَارَ
بِذَلِكَ إلَى قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا
أَقُولُ: الْحَقُّ مَا قَالَهُ الشَّارِحَانِ
الْأَخِيرَانِ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ؛ لِأَنَّ مَا بَقِيَ
اضْطِرَابُ الْمَذْبُوحِ فَلَا يُعْتَبَرُ تَعْلِيلٌ
لِحُكْمِ أَكْلِ مَا شُقَّ بَطْنُهُ وَأُخْرِجَ مَا فِيهِ
ثُمَّ وَقَعَ فِي يَدِ صَاحِبِهِ، وَلَمْ يُفَرِّقْ أَحَدٌ
فِي تِلْكَ الصُّورَةِ بَيْنَ مَا يَعِيشُ فَوْقَ مَا
يَعِيشُ
(10/122)
(وَلَوْ أَدْرَكَهُ وَلَمْ يَأْخُذْهُ،
فَإِنْ كَانَ فِي وَقْتٍ لَوْ أَخَذَهُ أَمْكَنَهُ
ذَبْحُهُ لَمْ يُؤْكَلْ) ؛ لِأَنَّهُ صَارَ فِي حُكْمِ
الْمَقْدُورِ عَلَيْهِ (وَإِنْ كَانَ لَا يُمْكِنُهُ
ذَبْحُهُ أُكِلَ) ؛ لِأَنَّ الْيَدَ لَمْ تَثْبُتْ بِهِ،
وَالتَّمَكُّنُ مِنْ الذَّبْحِ لَمْ يُوجَدْ (وَإِنْ
أَدْرَكَهُ فَذَكَّاهُ حَلَّ لَهُ) ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ
فِيهِ حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ فَالذَّكَاةُ وَقَعَتْ
مَوْقِعَهَا بِالْإِجْمَاعِ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ
حَيَاةٌ مُسْتَقِرَّةٌ؛ فَعِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ -
رَحِمَهُ اللَّهُ - ذَكَاتُهُ الذَّبْحُ عَلَى مَا
ذَكَرْنَاهُ وَقَدْ وُجِدَ، وَعِنْدَهُمَا لَا يُحْتَاجُ
إلَى الذَّبْحِ
(وَإِذَا أَرْسَلَ كَلْبَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ
وَأَخَذَ غَيْرَهُ حَلَّ) وَقَالَ مَالِكٌ: لَا يَحِلُّ؛
لِأَنَّهُ أَخَذَهُ بِغَيْرِ إرْسَالٍ؛ إذْ الْإِرْسَالُ
مُخْتَصٌّ بِالْمُشَارِ إلَيْهِ
وَلَنَا أَنَّهُ شَرْطٌ غَيْرُ مُفِيدٍ؛ لِأَنَّ
مَقْصُودَهُ حُصُولُ الصَّيْدِ إذْ لَا يَقْدِرُ عَلَى
الْوَفَاءِ بِهِ؛ إذْ لَا يُمْكِنُهُ تَعْلِيمُهُ عَلَى
وَجْهٍ يَأْخُذُ مَا عَيَّنَهُ فَسَقَطَ اعْتِبَارُهُ
(وَلَوْ أَرْسَلَهُ عَلَى صَيْدٍ كَثِيرٍ وَسَمَّى مَرَّةً
وَاحِدَةً حَالَةَ الْإِرْسَالِ، فَلَوْ قَتَلَ الْكُلَّ
يَحِلُّ بِهَذِهِ التَّسْمِيَةِ الْوَاحِدَةِ) ؛ لِأَنَّ
الذَّبْحَ يَقَعُ بِالْإِرْسَالِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ،
وَلِهَذَا تُشْتَرَطُ التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ وَالْفِعْلُ
وَاحِدٌ فَيَكْفِيهِ تَسْمِيَةٌ وَاحِدَةٌ، بِخِلَافِ
ذَبْحِ الشَّاتَيْنِ بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ؛ لِأَنَّ
الثَّانِيَةَ تَصِيرُ مَذْبُوحَةً بِفِعْلٍ غَيْرِ
الْأَوَّلِ فَلَا بُدَّ مِنْ تَسْمِيَةٍ أُخْرَى، حَتَّى
لَوْ أَضْجَعَ إحْدَاهُمَا فَوْقَ الْأُخْرَى،
وَذَبَحَهُمَا بِمَرَّةٍ وَاحِدَةٍ تَحِلَّانِ
بِتَسْمِيَةٍ وَاحِدَةٍ
(وَمَنْ أَرْسَلَ فَهْدًا فَكَمَنَ حَتَّى يَسْتَمْكِنَ
ثُمَّ أَخَذَ الصَّيْدَ فَقَتَلَهُ يُؤْكَلُ) ؛ لِأَنَّ
مُكْثَهُ ذَلِكَ حِيلَةٌ مِنْهُ لِلصَّيْدِ لَا
اسْتِرَاحَةٌ فَلَا يَقْطَعُ الْإِرْسَالَ (وَكَذَا
الْكَلْبُ إذَا اعْتَادَ عَادَتَهُ)
(وَلَوْ أَخَذَ الْكَلْبُ صَيْدًا فَقَتَلَهُ ثُمَّ أَخَذَ
آخَرَ فَقَتَلَهُ وَقَدْ أَرْسَلَهُ صَاحِبُهُ أُكِلَا
جَمِيعًا) ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ قَائِمٌ لَمْ
يَنْقَطِعْ، وَهُوَ بِمَنْزِلَةِ مَا لَوْ رَمَى سَهْمًا
إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَهُ وَأَصَابَ آخَرَ (وَلَوْ قَتَلَ
الْأَوَّلَ فَجَثَمَ عَلَيْهِ طَوِيلًا مِنْ النَّهَارِ
ثُمَّ مَرَّ بِهِ صَيْدٌ آخَرُ فَقَتَلَهُ لَا يُؤْكَلُ
الثَّانِي) لِانْقِطَاعِ الْإِرْسَالِ بِمُكْثِهِ
إذْ لَمْ يَكُنْ ذَلِكَ حِيلَةً مِنْهُ لِلْأَخْذِ
وَإِنَّمَا كَانَ اسْتِرَاحَةً، بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ
(وَلَوْ أَرْسَلَ بَازِيَهُ الْمُعَلَّمَ عَلَى صَيْدٍ
فَوَقَعَ عَلَى شَيْءٍ ثُمَّ اتَّبَعَ الصَّيْدَ
فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ فَإِنَّهُ يُؤْكَلُ) وَهَذَا إذَا
لَمْ يَمْكُثْ زَمَانًا طَوِيلًا لِلِاسْتِرَاحَةِ،
وَإِنَّمَا مَكَثَ سَاعَةً لِلتَّمْكِينِ لِمَا
بَيَّنَّاهُ فِي الْكَلْبِ
(وَلَوْ أَنَّ بَازِيًا مُعَلَّمًا أَخَذَ صَيْدًا
فَقَتَلَهُ وَلَا يُدْرَى أَرْسَلَهُ إنْسَانٌ أَمْ لَا
لَا يُؤْكَلُ) لِوُقُوعِ الشَّكِّ فِي الْإِرْسَالِ، وَلَا
تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ بِدُونِهِ.
قَالَ (وَإِنْ خَنَقَهُ الْكَلْبُ وَلَمْ يَجْرَحْهُ لَمْ
يُؤْكَلْ) ؛ لِأَنَّ الْجُرْحَ شَرْطُ عَلَى ظَاهِرِ
الرِّوَايَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَاهُ، وَهَذَا يَدُلُّك
عَلَى أَنَّهُ لَا يَحِلُّ بِالْكَسْرِ
وَعَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهُ إذَا كَسَرَ عُضْوًا
فَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّهُ جِرَاحَةٌ
بَاطِنَةٌ فَهِيَ كَالْجِرَاحَةِ الظَّاهِرَةِ
وَجْهُ الْأَوَّلِ أَنَّ الْمُعْتَبَرَ جُرْحٌ يَنْتَهِضُ
سَبَبًا لِإِنْهَارِ الدَّمِ وَلَا يَحْصُلُ ذَلِكَ
بِالْكَسْرِ فَأَشْبَهَ التَّخْنِيقَ
قَالَ (وَإِنْ شَارَكَهُ كَلْبٌ غَيْرُ مُعَلَّمٍ أَوْ
كَلْبُ مَجُوسِيٍّ أَوْ كَلْبٌ لَمْ يَذْكُرْ اسْمَ
اللَّهِ عَلَيْهِ يُرِيدُ بِهِ عَمْدًا لَمْ يُؤْكَلْ)
لِمَا رَوَيْنَا فِي حَدِيثِ عَدِيٍّ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ -، وَلِأَنَّهُ اجْتَمَعَ الْمُبِيحُ وَالْمُحْرِمُ
فَيَغْلِبُ جِهَةُ الْحُرْمَةِ نَصًّا أَوْ احْتِيَاطًا
(وَلَوْ رَدَّهُ عَلَيْهِ الْكَلْبُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمَذْبُوحُ وَبَيْنَ مَا لَا يَعِيشُ فَوْقَ ذَلِكَ،
بَلْ جَعَلُوا كَلْبَهُمَا مِمَّا بَقِيَ فِيهِ اضْطِرَابُ
الْمَذْبُوحِ، وَفِيمَا نَحْنُ فِيهِ فَرَّقَ مُحَمَّدٌ
بَيْنَهُمَا، وَقَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ
بِهَذِهِ الْحَيَاةِ تَعْلِيلٌ لِحُكْمِ أَحَدِهِمَا
وَهُوَ مَا لَا يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ الْمَذْبُوحُ،
فَكَيْفَ يَتِمُّ أَنْ يُرِيدَ بِقَوْلِهِ فِي ذَيْلِ
هَذَا التَّعْلِيلِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ مَا
يَعُمُّهُمَا مَعًا
بِخِلَافِ قَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ مَيِّتٌ حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ
تَعْلِيلٌ لِحِلِّ أَكْلِ مَا بَقِيَ فِيهِ مِنْ
الْحَيَاةِ مِثْلَ مَا بَقِيَ فِي الْمَذْبُوحِ
(10/123)
الثَّانِي وَلَمْ يَجْرَحْهُ مَعَهُ
وَمَاتَ بِجُرْحِ الْأَوَّلِ يُكْرَهُ أَكْلُهُ) لِوُجُودِ
الْمُشَارَكَةِ فِي الْأَخْذِ وَفَقْدِهَا فِي الْجُرْحِ،
وَهَذَا بِخِلَافِ مَا إذَا رَدَّهُ الْمَجُوسِيُّ
بِنَفْسِهِ حَيْثُ لَا يُكْرَهُ؛ لِأَنَّ فِعْلَ
الْمَجُوسِيِّ لَيْسَ مِنْ جِنْسِ فِعْلِ الْكَلْبِ فَلَا
تَتَحَقَّقُ الْمُشَارَكَةُ وَتَتَحَقَّقُ بَيْنَ فِعْلَيْ
الْكَلْبَيْنِ لِوُجُودِ الْمُجَانَسَةِ (وَلَوْ لَمْ
يَرُدَّهُ الْكَلْبُ الثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ لَكِنَّهُ
أَشَدَّ عَلَى الْأَوَّلِ حَتَّى اشْتَدَّ عَلَى الصَّيْدِ
فَأَخَذَهُ وَقَتَلَهُ لَا بَأْسَ بِأَكْلِهِ) ؛ لِأَنَّ
فِعْلَ الثَّانِي أَثَرٌ فِي الْكَلْبِ الْمُرْسَلِ دُونَ
الصَّيْدِ حَيْثُ ازْدَادَ بِهِ طَلَبًا فَكَانَ تَبَعًا
لِفِعْلِهِ؛ لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ
الْأَخْذُ إلَى التَّبَعِ، بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ
رَدَّهُ عَلَيْهِ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يَصِرْ تَبَعًا
فَيُضَافُ إلَيْهِمَا.
قَالَ (وَإِذَا أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ فَزَجَرَهُ
مَجُوسِيٌّ فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ فَلَا بَأْسَ
بِصَيْدِهِ) وَالْمُرَادُ بِالزَّجْرِ الْإِغْرَاءُ
بِالصِّيَاحِ عَلَيْهِ، وَبِالِانْزِجَارِ إظْهَارُ
زِيَادَةِ الطَّلَبِ
وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفِعْلَ يُرْفَعُ بِمَا هُوَ فَوْقَهُ
أَوْ مِثْلُهُ كَمَا فِي نَسْخِ الْآيِ، وَالزَّجْرُ دُونَ
الْإِرْسَالِ لِكَوْنِهِ بِنَاءً عَلَيْهِ
قَالَ (وَلَوْ أَرْسَلَهُ مَجُوسِيٌّ فَزَجَرَهُ مُسْلِمٌ
فَانْزَجَرَ بِزَجْرِهِ لَمْ يُؤْكَلْ) ؛ لِأَنَّ
الزَّجْرَ دُونَ الْإِرْسَالِ وَلِهَذَا لَمْ تَثْبُتْ
بِهِ شُبْهَةُ الْحُرْمَةِ فَأَوْلَى أَنْ لَا يَثْبُتَ
بِهِ الْحِلُّ، وَكُلُّ مَنْ لَا تَجُوزُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
لَا فَوْقَ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ وَمَا لَا
يَبْقَى فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ فَوْقَ مَا يَبْقَى فِي
الْمَذْبُوحِ مِمَّا لَا يَعِيشُ فَوْقَ مَا يَعِيشُ
الْمَذْبُوحُ فَتَنْتَظِمُ الْإِشَارَةُ إلَيْهِ هَا هُنَا
بِقَوْلِهِ عَلَى مَا قَرَّرْنَاهُ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ
(قَوْلُهُ وَوَجْهُهُ أَنَّ الْفِعْلَ يُرْفَعُ بِمَا هُوَ
فَوْقَهُ أَوْ مِثْلُهُ كَمَا فِي نَسْخِ الْآيِ
وَالزَّجْرُ دُونَ الْإِرْسَالِ لِكَوْنِهِ بِنَاءً
عَلَيْهِ) قَالَ بَعْضُ الْفُضَلَاءِ: لَك أَنْ تَقُولَ:
لَا تَمَسُّ الْحَاجَةُ إلَى الرَّفْعِ بَلْ تَكْفِي
الْمُشَارَكَةُ فِي إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ أَوْ شَبَهِهَا
انْتَهَى
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِوَارِدٍ؛ لِأَنَّ الْإِرْسَالَ
أَصْلٌ وَالزَّجْرَ تَبَعٌ، وَالتَّبَعُ لَا يُعَدُّ
مُشَارِكًا لِلْأَصْلِ فِي تَرَتُّبِ الْحُكْمِ، وَقَدْ
أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ
السَّابِقَةِ حَيْثُ قَالَ: لِأَنَّ فِعْلَ الثَّانِي
أَثَّرَ فِي الْكَلْبِ الْمُرْسَلِ دُونَ الصَّيْدِ حَيْثُ
ازْدَادَ بِهِ طَلَبًا فَكَانَ تَبَعًا لِفِعْلِهِ؛
لِأَنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَلَا يُضَافُ الْأَخْذُ إلَى
التَّبَعِ انْتَهَى
وَلَئِنْ سُلِّمَ مُشَارَكَةُ الزَّجْرِ لِلْإِرْسَالِ
فَلَا نُسَلِّمُ كِفَايَةَ مُجَرَّدِ الْمُشَارَكَةِ فِي
إثْبَاتِ الْحُرْمَةِ أَوْ شَبَهِهَا بَلْ لَا بُدَّ مِنْ
أَنْ يَكُونَ اللَّاحِقُ وَهُوَ الزَّجْرُ هَا هُنَا
أَقْوَى مِنْ السَّابِقِ أَوْ مُسَاوِيًا لَهُ حَتَّى
يُرْفَعَ بِهِ السَّابِقُ
وَأَمَّا إذَا كَانَ أَدْنَى مِنْهُ فَلَا تَأْثِيرَ لَهُ
فِي الْحُكْمِ وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ الْمُصَنِّفُ فِي
تَعْلِيلِ الْمَسْأَلَةِ اللَّاحِقَةِ حَيْثُ قَالَ:
لِأَنَّ الزَّجْرَ دُونَ الْإِرْسَالِ وَلِهَذَا لَمْ
تَثْبُتْ بِهِ شُبْهَةُ الْحُرْمَةِ، فَأَوْلَى أَنْ لَا
يَثْبُتَ بِهِ الْحِلُّ انْتَهَى
قَالَ فِي الْعِنَايَةِ: وَنُوقِضَ بِالْمُحْرِمِ إذَا
زَجَرَ كَلْبًا حَلَالًا فَإِنَّهُ يَجِبُ عَلَيْهِ
الْجَزَاءُ
وَأُجِيبَ بِأَنَّ الْجَزَاءَ فِي الْمُحْرِمِ بِدَلَالَةِ
النَّصِّ فَإِنَّهُ أَوْجَبَ عَلَيْهِ الْجَزَاءَ بِمَا
هُوَ دُونَهُ وَهُوَ الدَّلَالَةُ فَوَجَبَ بِالزَّجْرِ
بِطَرِيقِ الْأَوْلَى انْتَهَى
أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: هَذَا الْجَوَابُ لَا
يَدْفَعُ النَّقْضَ الْمَذْكُورَ بَلْ يُقَوِّيهِ،
فَإِنَّهُ إذَا ثَبَتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ وُجُوبُ
الْجَزَاءِ عَلَى الْمُحْرِمِ إذَا زَجَرَ كَلْبًا
حَلَالًا عِنْدَ إرْسَالِهِ تَقَرَّرَ أَنْ يُنْتَقَضَ
بِهِ الْأَصْلُ الَّذِي ذَكَرُوهُ مِنْ عَدَمِ اعْتِبَارِ
الزَّجْرِ عِنْدَ الْإِرْسَالِ لِكَوْنِ الزَّجْرِ دُونَ
الْإِرْسَالِ
(10/124)
ذَكَاتُهُ كَالْمُرْتَدِّ وَالْمُحْرِمِ
وَتَارِكِ التَّسْمِيَةِ عَامِدًا فِي هَذَا بِمَنْزِلَةِ
الْمَجُوسِيِّ (وَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ فَزَجَرَهُ
مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ فَأَخَذَ الصَّيْدَ فَلَا بَأْسَ
بِأَكْلِهِ) ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ؛
لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دُونَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ بِنَاءٌ
عَلَيْهِ فَهُوَ فَوْقَهُ مِنْ حَيْثُ إنَّهُ فِعْلُ
الْمُكَلَّفِ فَاسْتَوَيَا فَصَلَحَ نَاسِخًا (وَلَوْ
أَرْسَلَ الْمُسْلِمُ كَلْبَهُ عَلَى صَيْدٍ وَسَمَّى
فَأَدْرَكَهُ فَضَرَبَهُ وَوَقَذَهُ ثُمَّ ضَرَبَهُ
فَقَتَلَهُ أُكِلَ، وَكَذَا إذَا أَرْسَلَ كَلْبَيْنِ
فَوَقَذَهُ أَحَدُهُمَا ثُمَّ قَتَلَهُ الْآخَرُ أُكِلَ) ؛
لِأَنَّ الِامْتِنَاعَ عَنْ الْجُرْحِ بَعْدَ الْجُرْحِ
لَا يَدْخُلُ تَحْتَ التَّعْلِيمِ فَجُعِلَ عَفْوًا
(وَلَوْ أَرْسَلَ رَجُلَانِ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا
كَلْبًا فَوَقَذَهُ أَحَدُهُمَا وَقَتَلَهُ الْآخَرُ
أُكِلَ) لِمَا بَيَّنَّا (وَالْمِلْكُ لِلْأَوَّلِ) ؛
لِأَنَّ الْأَوَّلَ أَخْرَجَهُ عَنْ حَدِّ الصَّيْدِيَّةِ
إلَّا أَنَّ الْإِرْسَالَ حَصَلَ مِنْ الصَّيْدِ،
وَالْمُعْتَبَرُ فِي الْإِبَاحَةِ وَالْحُرْمَةِ حَالَةُ
الْإِرْسَالِ فَلَمْ يَحْرُمْ بِخِلَافِ مَا إذَا كَانَ
الْإِرْسَالُ مِنْ الثَّانِي بَعْدَ الْخُرُوجِ عَنْ
الصَّيْدِيَّةِ بِجُرْحِ الْكَلْبِ الْأَوَّلِ.
فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ (وَمَنْ سَمِعَ حِسًّا ظَنَّهُ حِسَّ
صَيْدٍ فَرَمَاهُ أَوْ أَرْسَلَ كَلْبًا أَوْ بَازِيًا
عَلَيْهِ فَأَصَابَ صَيْدًا،
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
وَيُمْكِنُ أَنْ يُقَالَ: الْمُرَادُ مِنْ الْجَوَابِ
الْمَذْكُورِ أَنَّ الْأَصْلَ الَّذِي ذَكَرُوهُ إنَّمَا
هُوَ عَلَى مُوجِبِ الْقِيَاسِ، وَوُجُوبُ الْجَزَاءِ
عَلَى الْمُحْرِمَ فِي الصُّورَةِ الْمَذْكُورَةِ إنَّمَا
ثَبَتَ بِدَلَالَةِ النَّصِّ عَلَى خِلَافِ الْقِيَاسِ
بِنَاءً عَلَى أَنَّ الْقِيَاسَ يُتْرَكُ بِالنَّصِّ،
وَهَذَا لَا يَقْدَحُ فِي كُلِّيَّةِ الْأَصْلِ
الْمَذْكُورِ الْمَبْنِيِّ عَلَى الْقِيَاسِ تَفَكَّرْ
(قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يُرْسِلْهُ أَحَدٌ فَزَجَرَهُ
مُسْلِمٌ فَانْزَجَرَ وَأَخَذَ الصَّيْدَ فَلَا بَأْسَ
بِأَكْلِهِ؛ لِأَنَّ الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ)
قَالَ جُمْهُورُ الشُّرَّاحِ: يَعْنِي مِنْ حَيْثُ إنَّ
كُلَّ وَاحِدٍ غَيْرُ مَشْرُوطٍ فِي حِلِّ الصَّيْدِ،
بِخِلَافِ الْإِرْسَالِ انْتَهَى
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا الشَّرْحُ بِسَدِيدٍ عِنْدِي؛ إذْ
لَمْ يَكُنْ الْكَلَامُ فِيمَا سَبَقَ فِي كَوْنِ فِعْلِ
الْغَيْرِ الْمَشْرُوطِ فِي حِلِّ الصَّيْدِ مَرْفُوعًا
بِمَا هُوَ مَشْرُوطٌ فِي حِلِّهِ أَوْ بِمَا هُوَ
مِثْلُهُ، بَلْ كَانَ الْكَلَامُ فِي كَوْنِ الْفِعْلِ
مَرْفُوعًا بِمَا هُوَ فَوْقَهُ فِي الْقُوَّةِ أَوْ بِمَا
هُوَ مِثْلُهُ فِيهَا كَمَا فِي نَسْخِ الْآيِ،
فَالْوَجْهُ هَا هُنَا أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي أَنَّ
الزَّجْرَ مِثْلُ الِانْفِلَاتِ فِي الْقُوَّةِ
وَالضَّعْفِ، وَتَعْلِيلُ الْمُصَنِّفِ إيَّاهُ
بِقَوْلِهِ؛ لِأَنَّهُ إنْ كَانَ دُونَهُ مِنْ حَيْثُ
إنَّهُ بِنَاءٌ عَلَيْهِ فَهُوَ فَوْقَهُ مِنْ حَيْثُ
إنَّهُ فِعْلُ الْمُكَلَّفِ فَاسْتَوَيَا فَصَلَحَ
نَاسِخًا بِمَنْزِلَةِ الصَّرِيحِ فِيمَا قُلْنَاهُ
تَبَصَّرْ
[فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ]
(فَصْلٌ فِي الرَّمْيِ) لَمَّا فَرَغَ مِنْ بَيَانِ حُكْمِ
الْآلَةِ الْحَيَوَانِيَّةِ شَرَعَ فِي بَيَانِ حُكْمِ
الْآلَةِ الْجَمَادِيَّةِ، وَقَدْ مَرَّ وَجْهُ تَقْدِيمِ
الْأَوَّلِ،
(10/125)
ثُمَّ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ صَيْدٍ
حَلَّ الْمُصَابُ) أَيَّ صَيْدٍ كَانَ؛ لِأَنَّهُ قَصَدَ
الِاصْطِيَادَ
وَعَنْ أَبِي يُوسُفَ أَنَّهُ خَصَّ مِنْ ذَلِكَ
الْخِنْزِيرَ لِتَغْلِيظِ التَّحْرِيمِ؛ أَلَا تَرَى
أَنَّهُ لَا تَثْبُتُ الْإِبَاحَةُ فِي شَيْءٍ مِنْهُ
بِخِلَافِ السِّبَاعِ؛ لِأَنَّهُ يُؤْثَرُ فِي جِلْدِهَا
وَزُفَرُ خَصَّ مِنْهَا مَا لَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ؛
لِأَنَّ الْإِرْسَالَ فِيهِ لَيْسَ لِلْإِبَاحَةِ
وَوَجْهُ الظَّاهِرِ أَنَّ اسْمَ الِاصْطِيَادِ لَا
يَخْتَصُّ بِالْمَأْكُولِ فَوَقَعَ الْفِعْلُ اصْطِيَادًا
وَهُوَ فِعْلٌ مُبَاحٌ فِي نَفْسِهِ، وَإِبَاحَةُ
التَّنَاوُلِ تَرْجِعُ إلَى الْمَحَلِّ فَتَثْبُتُ
بِقَدْرِ مَا يَقْبَلُهُ لَحْمًا وَجِلْدًا، وَقَدْ لَا
تَثْبُتُ إذَا لَمْ يَقْبَلْهُ، وَإِذَا وَقَعَ
اصْطِيَادًا صَارَ كَأَنَّهُ رَمَى إلَى صَيْدٍ فَأَصَابَ
غَيْرَهُ (وَإِنْ تَبَيَّنَ أَنَّهُ حِسُّ آدَمِيٍّ أَوْ
حَيَوَانٍ أَهْلِيٍّ لَا يَحِلُّ الْمُصَابُ) ؛ لِأَنَّ
الْفِعْلَ لَيْسَ بِاصْطِيَادٍ (وَالطَّيْرُ الدَّاجِنُ
الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ أَهْلِيٌّ وَالظَّبْيُ
الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ) لِمَا بَيَّنَّا (لَوْ رَمَى
إلَى طَائِرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَمَرَّ الطَّائِرُ وَلَا
يَدْرِي وَحْشِيٌّ هُوَ أَوْ غَيْرُ وَحْشِيٍّ حَلَّ
الصَّيْدُ) ؛ لِأَنَّ الظَّاهِرَ فِيهِ التَّوَحُّشُ
(وَلَوْ رَمَى إلَى بَعِيرٍ فَأَصَابَ صَيْدًا وَلَا
يَدْرِي نَادٌّ هُوَ أَمَّ لَا لَا يَحِلُّ الصَّيْدُ) ؛
لِأَنَّ الْأَصْلَ فِيهِ الِاسْتِئْنَاسُ (وَلَوْ رَمَى
إلَى سَمَكَةٍ أَوْ جَرَادَةٍ فَأَصَابَ صَيْدًا يَحِلُّ
فِي رِوَايَةِ أَبِي يُوسُفَ) ؛ لِأَنَّهُ صَيْدٌ، وَفِي
أُخْرَى عَنْهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ لَا ذَكَاةَ
فِيهِمَا (وَلَوْ رَمَى فَأَصَابَ الْمَسْمُوعَ حِسُّهُ
وَقَدْ ظَنَّهُ آدَمِيًّا فَإِذَا هُوَ صَيْدٌ يَحِلُّ) ؛
لِأَنَّهُ لَا مُعْتَبَرَ بِظَنِّهِ مَعَ تَعَيُّنِهِ
(فَإِذَا سَمَّى الرَّجُلُ عِنْدَ الرَّمْيِ أُكِلَ مَا
أَصَابَ إذَا جَرَحَهُ السَّهْمُ فَمَاتَ) ؛ لِأَنَّهُ
ذَابِحٌ بِالرَّمْيِ لِكَوْنِ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَوْلُهُ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ) قَالَ
أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ مِنْهُمْ صَاحِبُ الْعِنَايَةِ: أَيْ
بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّ
أَقُولُ: هَذَا التَّفْسِيرُ لَيْسَ بِجَيِّدٍ؛ إذْ
الظَّاهِرُ أَنَّ الظَّبْيَ الْمُوَثَّقَ بِمَنْزِلَةِ
الْحَيَوَانِ الْأَهْلِيِّ دُونَ الْآدَمِيِّ؛ إذْ لَا
مُنَاسَبَةَ بَيْنَ الْإِنْسَانِ وَالْحَيَوَانِ،
بِخِلَافِ الْحَيَوَانَيْنِ
فَإِنْ قُلْت: الْمُرَادُ بِكَوْنِ الظَّبْيِ الْمُوَثَّقِ
بِمَنْزِلَةِ الْآدَمِيِّ مُجَرَّدُ كَوْنِهِ غَيْرَ
صَيْدٍ كَالْآدَمِيِّ لَا الِاشْتِرَاكُ فِي جَمِيعِ
الْأَوْصَافِ فَلَا مَحْذُورَ فِي جَعْلِهِ بِمَنْزِلَةِ
الْآدَمِيِّ
قُلْت: لَوْ كَانَ مُرَادُ الْمُصَنِّفِ هَذَا الْمَعْنَى
لَقَالَ: وَالطَّيْرُ الدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي
الْبُيُوتَ وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ؛ إذْ
لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا فِي مُجَرَّدِ كَوْنِهِمَا غَيْرَ
صَيْدٍ
وَلَمَّا فَصَلَ بَيْنَهُمَا فَقَالَ: وَالطَّيْرُ
الدَّاجِنُ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ أَهْلِيٌّ،
وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ عُلِمَ أَنَّ
الْمُرَادَ لَيْسَ مُجَرَّدَ أَنْ لَا يَكُونَ صَيْدًا
بَلْ الِاشْتِرَاكُ فِي بَعْضِ الْأَحْوَالِ أَيْضًا
فَالْوَجْهُ فِي تَفْسِيرِ قَوْلِ الْمُصَنِّفِ
وَالظَّبْيُ الْمُوَثَّقُ بِمَنْزِلَتِهِ مَا ذَكَرَهُ
صَاحِبُ الْغَايَةِ حَيْثُ
(10/126)
السَّهْمِ آلَةً لَهُ فَتُشْتَرَطُ
التَّسْمِيَةُ عِنْدَهُ، وَجَمِيعُ الْبَدَنِ مَحَلٌّ
لِهَذَا النَّوْعِ مِنْ الذَّكَاةِ، وَلَا بُدَّ مِنْ
الْجُرْحِ لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ عَلَى مَا
بَيَّنَّاهُ
قَالَ (وَإِذَا أَدْرَكَهُ حَيًّا ذَكَّاهُ) وَقَدْ
بَيَّنَّاهَا بِوُجُوهِهَا، وَالِاخْتِلَافِ فِيهَا فِي
الْفَصْلِ الْأَوَّلِ فَلَا نُعِيدُهُ.
قَالَ (وَإِذَا وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ فَتَحَامَلَ
حَتَّى غَابَ عَنْهُ وَلَمْ يَزَلْ فِي طَلَبِهِ حَتَّى
أَصَابَهُ مَيِّتًا أُكِلَ، وَإِنْ قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ)
ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ، لِمَا رُوِيَ
عَنْ النَّبِيِّ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«أَنَّهُ كَرِهَ أَكْلَ الصَّيْدِ إذَا غَابَ عَنْ
الرَّامِي وَقَالَ: لَعَلَّ هَوَامَّ الْأَرْضِ
قَتَلَتْهُ» وَلِأَنَّ احْتِمَالَ الْمَوْتِ بِسَبَبٍ
آخَرَ قَائِمٌ فَمَا يَنْبَغِي أَنْ يَحِلَّ أَكْلُهُ؛
لِأَنَّ الْمَوْهُومَ فِي هَذَا كَالْمُتَحَقِّقِ لِمَا
رَوَيْنَا، إلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَا اعْتِبَارَهُ مَا
دَامَ فِي طَلَبِهِ ضَرُورَةَ أَنْ لَا يَعْرَى
الِاصْطِيَادُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
قَالَ: أَيْ الظَّبْيُ الْمُقَيَّدُ بِمَنْزِلَةِ
الطَّيْرِ الدَّاجِنِ الَّذِي يَأْوِي الْبُيُوتَ انْتَهَى
(قَوْلُهُ: وَإِذَا وَقَعَ السَّهْمُ بِالصَّيْدِ
فَتَحَامَلَ حَتَّى غَابَ عَنْهُ، وَلَمْ يَزَلْ فِي
طَلَبِهِ حَتَّى أَصَابَهُ مَيِّتًا أُكِلَ، وَإِنْ قَعَدَ
عَنْ طَلَبِهِ ثُمَّ أَصَابَهُ مَيِّتًا لَمْ يُؤْكَلْ)
قَالَ الزَّيْلَعِيُّ فِي شَرْحِ الْكَنْزِ: وَجَعَلَ
قَاضِي خَانْ فِي فَتَاوَاهُ
(10/127)
عَنْهُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا إذَا
قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ
تَوَارٍ يَكُونُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ، وَاَلَّذِي
رَوَيْنَاهُ حُجَّةٌ عَلَى مَالِكٍ فِي قَوْلِهِ إنَّ مَا
تَوَارَى عَنْهُ إذَا لَمْ يَبِتْ يَحِلُّ فَإِذَا بَاتَ
لَيْلَةً لَمْ يَحِلَّ (وَلَوْ وُجِدَ بِهِ جِرَاحَةٌ
سِوَى جِرَاحَةِ سَهْمِهِ لَا يَحِلُّ) ؛ لِأَنَّهُ
مَوْهُومٌ يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ فَاعْتُبِرَ
مُحَرَّمًا، بِخِلَافِ وَهْمِ الْهَوَامِّ
وَالْجَوَابُ فِي إرْسَالِ الْكَلْبِ فِي هَذَا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مِنْ شَرْطِ حِلِّ الصَّيْدِ أَنْ لَا يَتَوَارَى عَنْ
بَصَرِهِ فَقَالَ: لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ
رُبَّمَا يَكُونُ مَوْتُ الصَّيْدِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا
يَحِلُّ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -: كُلْ مَا أَصَمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت،
وَالْإِصْمَاءُ: مَا رَأَيْته، وَالْإِنْمَاءُ: مَا
تَوَارَى عَنْك
وَهَذَا نَصٌّ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ يَحْرُمُ
بِالتَّوَارِي، وَإِنْ لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ
انْتَهَى
أَقُولُ: لَيْسَ الْأَمْرُ كَمَا زَعَمَهُ الزَّيْلَعِيُّ،
فَإِنَّ الْإِمَامَ قَاضِي خَانْ لَمْ يَجْعَلْ فِي
فَتَاوَاهُ مِنْ شَرْطِ حِلِّ الصَّيْدِ عَدَمَ
التَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ بِخُصُوصِهِ، بَلْ جَعَلَ مِنْ
شَرْطِ ذَلِكَ أَحَدَ الْأَمْرَيْنِ: عَدَمُ التَّوَارِي
عَنْ بَصَرِهِ، وَعَدَمُ الْقُعُودِ عَنْ طَلَبِهِ حَيْثُ
قَالَ:
وَالسَّابِعُ يَعْنِي الشَّرْطَ السَّابِعَ أَنْ لَا
يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ أَوْ لَا يَقْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ
فَيَكُونَ فِي طَلَبِهِ، وَلَا يَشْتَغِلَ بِعَمَلٍ آخَرَ
حَتَّى يَجِدَهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ
رُبَّمَا يَكُونُ مَوْتُ الصَّيْدِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا
يَحِلُّ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ - رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمَا -: كُلْ مَا أَصَمَيْت وَدَعْ مَا أَنْمَيْت
وَالْإِصْمَاءُ: مَا رَأَيْته، وَالْإِنْمَاءُ: مَا
تَوَارَى عَنْك انْتَهَى
وَلَا شَكَّ أَنَّ قَوْلَهُ: وَالسَّابِعُ أَنْ لَا
يَتَوَارَى عَنْ بَصَرِهِ أَوْ لَا يَقْعُدَ عَنْ طَلَبِهِ
نَصٌّ عَلَى أَنَّ الصَّيْدَ لَا يَحْرُمُ بِمُجَرَّدِ
التَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ إذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ
طَلَبِهِ،
(10/128)
كَالْجَوَابِ فِي الرَّمْيِ فِي جَمِيعِ
مَا ذَكَرْنَاهُ.
قَالَ (وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَوَقَعَ فِي الْمَاءِ أَوْ
وَقَعَ عَلَى سَطْحٍ أَوْ جَبَلٍ ثُمَّ تَرَدَّى مِنْهُ
إلَى الْأَرْضِ لَمْ يُؤْكَلْ) ؛ لِأَنَّهُ
الْمُتَرَدِّيَةُ وَهِيَ حَرَامٌ بِالنَّصِّ، وَلِأَنَّهُ
احْتَمَلَ الْمَوْتَ بِغَيْرِ الرَّمْيِ؛ إذْ الْمَاءُ
مُهْلِكٌ
وَكَذَا السُّقُوطُ مِنْ عَالٍ، يُؤَيِّدُ ذَلِكَ قَوْلُهُ
- عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - لِعَدِيٍّ - رَضِيَ
اللَّهُ عَنْهُ - «وَإِنْ وَقَعَتْ رَمِيَّتُك فِي
الْمَاءِ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنَّك لَا تَدْرِي أَنَّ
الْمَاءَ قَتَلَهُ أَوْ سَهْمُك» (وَإِنْ وَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ ابْتِدَاءً أُكِلَ) ؛ لِأَنَّهُ لَا يُمْكِنُ
الِاحْتِرَازُ عَنْهُ، وَفِي اعْتِبَارِهِ سَدَّ بَابِ
الِاصْطِيَادِ بِخِلَافِ مَا تَقَدَّمَ؛ لِأَنَّهُ
يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، فَصَارَ الْأَصْلُ أَنَّ
سَبَبَ الْحُرْمَةِ وَالْحِلِّ إذَا اجْتَمَعَا وَأَمْكَنَ
التَّحَرُّزُ عَمَّا هُوَ سَبَبُ الْحُرْمَةِ تُرَجَّحُ
جِهَةُ الْحُرْمَةِ احْتِيَاطًا، وَإِنْ كَانَ مِمَّا لَا
يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ جَرَى وُجُودُهُ مَجْرَى
عَدَمِهِ؛ لِأَنَّ التَّكْلِيفَ بِحَسَبِ الْوُسْعِ،
فَمِمَّا يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ إذَا وَقَعَ عَلَى
شَجَرٍ أَوْ حَائِطٍ أَوْ آجُرَّةٍ ثُمَّ وَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ أَوْ رَمَاهُ، وَهُوَ عَلَى جَبَلٍ فَتَرَدَّى
مِنْ مَوْضِعٍ إلَى مَوْضِعٍ حَتَّى تَرَدَّى إلَى
الْأَرْضِ، أَوْ رَمَاهُ فَوَقَعَ عَلَى رُمْحٍ مَنْصُوبٍ
أَوْ عَلَى قَصَبَةٍ قَائِمَةٍ أَوْ عَلَى حَرْفِ آجُرَّةٍ
لِاحْتِمَالِ أَنَّ حَدَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءِ قَتَلَهُ،
وَمِمَّا لَا يُمْكِنُ الِاحْتِرَازُ عَنْهُ إذَا وَقَعَ
عَلَى الْأَرْضِ كَمَا ذَكَرْنَاهُ، أَوْ عَلَى مَا هُوَ
مَعْنَاهُ كَجَبَلٍ أَوْ ظَهْرِ بَيْتٍ أَوْ لَبِنَةٍ
مَوْضُوعَةٍ أَوْ صَخْرَةٍ فَاسْتَقَرَّ عَلَيْهَا؛
لِأَنَّ وُقُوعَهُ عَلَيْهِ وَعَلَى الْأَرْضِ سَوَاءٌ
وَذُكِرَ فِي الْمُنْتَفَى: لَوْ وَقَعَ عَلَى صَخْرَةٍ
فَانْشَقَّ بَطْنُهُ لَمْ يُؤْكَلْ لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ
بِسَبَبٍ آخَرَ
وَصَحَّحَهُ الْحَاكِمُ الشَّهِيدُ وَحُمِلَ مُطْلَقُ
الْمَرْوِيِّ فِي الْأَصْلِ عَلَى غَيْرِ حَالَةِ
الِانْشِقَاقِ، وَحَمَلَهُ شَمْسُ الْأَئِمَّةِ
السَّرَخْسِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ - عَلَى مَا أَصَابَهُ
حَدُّ الصَّخْرَةِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ بِذَلِكَ، وَحَمَلَ
الْمَرْوِيَّ فِي الْأَصْلِ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يُصِبْهُ
مِنْ الْآجُرَّةِ إلَّا مَا يُصِيبُهُ مِنْ الْأَرْضِ لَوْ
وَقَعَ عَلَيْهَا وَذَلِكَ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
بَلْ إنَّمَا يَحْرُمُ بِالتَّوَارِي عَنْ بَصَرِهِ
وَالْقُعُودِ عَنْ طَلَبِهِ مَعًا
وَأَمَّا قَوْلُهُ؛ لِأَنَّهُ إذَا غَابَ عَنْ بَصَرِهِ
رُبَّمَا يَكُونُ مَوْتُ الصَّيْدِ بِسَبَبٍ آخَرَ فَلَا
يَحِلُّ، فَالظَّاهِرُ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ أَنَّهُ إذَا
غَابَ عَنْ بَصَرِهِ وَقَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ بِقَرِينَةِ
سِيَاقِ كَلَامِهِ
وَأَمَّا إذَا لَمْ يَقْعُدْ عَنْ طَلَبِهِ فَيُعْذَرُ
فِيهِ لِلضَّرُورَةِ لِعَدَمِ إمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ
تَوَارِي الصَّيْدِ عَنْ بَصَرِ الرَّامِي، فَكَانَ فِي
اعْتِبَارِ عَدَمِ التَّوَارِي مُطْلَقًا حَرَجٌ عَظِيمٌ،
وَالْحَرَجُ مَدْفُوعٌ بِالنَّصِّ، وَقَدْ أَشَارَ إلَيْهِ
الْمُصَنِّفُ بِقَوْلِهِ: إلَّا أَنَّا أَسْقَطْنَا
اعْتِبَارَهُ مَا دَامَ فِي طَلَبِهِ ضَرُورَةُ أَنْ لَا
يَعْرَى الِاصْطِيَادُ عَنْهُ، وَلَا ضَرُورَةَ فِيمَا
إذَا قَعَدَ عَنْ طَلَبِهِ لِإِمْكَانِ التَّحَرُّزِ عَنْ
تَوَارٍ يَكُونُ بِسَبَبِ عَمَلِهِ
وَذُكِرَ فِي الشُّرُوحِ وَالْكَافِي «أَنَّهُ - صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مَرَّ بِالرَّوْحَاءِ عَلَى
حِمَارِ وَحْشٍ عَقِيرٍ فَتَبَادَرَ أَصْحَابُهُ إلَيْهِ،
فَقَالَ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -: دَعُوهُ
فَسَيَأْتِي صَاحِبُهُ، فَجَاءَ رَجُلٌ فَقَالَ: هَذِهِ
رَمْيَتِي، وَأَنَا فِي طَلَبِهَا وَقَدْ جَعَلْتهَا لَك،
فَأَمَرَ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - أَبَا بَكْرٍ فَقَسَّمَهَا بَيْنَ الرِّفَاقِ»
انْتَهَى.
(قَوْلُهُ وَإِنْ وَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ابْتِدَاءً
أُكِلَ) قَالَ فِي الْعِنَايَةِ أَخْذًا مِنْ
النِّهَايَةِ: يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى الْأَرْضِ
مَا يَقْتُلُهُ كَحَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ
الْمَنْصُوبَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ انْتَهَى
أَقُولُ: هَذَا التَّقْيِيدُ مُسْتَغْنًى عَنْهُ
بِالْكُلِّيَّةِ هَا هُنَا؛ إذْ الظَّاهِرُ أَنَّ
الْوُقُوعَ عَلَى نَحْوِ حَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ
الْمَنْصُوبَةِ لَيْسَ بِوُقُوعٍ عَلَى الْأَرْضِ،
وَلِهَذَا جَعَلَ الْمُصَنِّفُ الْأَوَّلَ قَسِيمًا
لِلثَّانِي فِيمَا سَيَجِيءُ، وَعَدَّ الْأَوَّلَ مِمَّا
يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ، وَالثَّانِيَ مِمَّا لَا
يُمْكِنُ التَّحَرُّزُ عَنْهُ فَلَا يُحْتَمَلُ أَنْ
يَتَنَاوَلَ قَوْلُهُ هَا هُنَا وَإِنْ وَقَعَ عَلَى
الْأَرْضِ ابْتِدَاءً مَا وَقَعَ عَلَى نَحْوِ حَدِّ
الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ الْمَنْصُوبَةِ حَتَّى يُحْتَاجَ
إلَى أَنْ يُقَالَ: يَعْنِي إذَا لَمْ يَكُنْ عَلَى
الْأَرْضِ مَا يَقْتُلُهُ كَحَدِّ الرُّمْحِ وَالْقَصَبَةِ
الْمَنْصُوبَةِ عَلَى مَا سَيَجِيءُ
(10/129)
عَفْوٌ وَهَذَا أَصَحُّ
وَإِنْ كَانَ الطَّيْرُ مَائِيًّا، فَإِنْ كَانَتْ
الْجِرَاحَةُ لَا تَنْغَمِسُ فِي الْمَاءِ أُكِلَ، وَإِنْ
انْغَمَسَتْ لَا يُؤْكَلُ كَمَا إذَا وَقَعَ فِي الْمَاءِ
قَالَ (وَمَا أَصَابَهُ الْمِعْرَاضُ بِعَرْضِهِ لَمْ
يُؤْكَلْ، وَإِنْ جَرَحَهُ يُؤْكَلُ) لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - فِيهِ «مَا أَصَابَ
بِحَدِّهِ فَكُلْ، وَمَا أَصَابَ بِعَرْضِهِ فَلَا
تَأْكُلْ» وَلِأَنَّهُ لَا بُدَّ مِنْ الْجُرْحِ
لِيَتَحَقَّقَ مَعْنَى الذَّكَاةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ.
قَالَ (وَلَا يُؤْكَلُ مَا أَصَابَتْهُ الْبُنْدُقَةُ
فَمَاتَ بِهَا) ؛ لِأَنَّهَا تَدُقُّ وَتَكْسِرُ وَلَا
تَجْرَحُ فَصَارَ كَالْمِعْرَاضِ إذَا لَمْ يَخْزِقُ،
وَكَذَلِكَ إنْ رَمَاهُ بِحَجَرٍ، وَكَذَا إنْ جَرَحَهُ
قَالُوا: تَأْوِيلُهُ إذَا كَانَ ثَقِيلًا وَبِهِ حِدَةٌ
لِاحْتِمَالِ أَنَّهُ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ، وَإِنْ كَانَ
الْحَجَرُ خَفِيفًا وَبِهِ حِدَةٌ يَحِلُّ لِتَعَيُّنِ
الْمَوْتِ بِالْجُرْحِ، وَلَوْ كَانَ الْحَجَرُ خَفِيفًا،
وَجَعَلَهُ طَوِيلًا كَالسَّهْمِ وَبِهِ حِدَةٌ فَإِنَّهُ
يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ يَقْتُلُهُ بِجُرْحِهِ، وَلَوْ رَمَاهُ
بِمَرْوَةِ حَدِيدَةٍ وَلَمْ تُبْضِعْ بِضْعًا لَا
يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَقًّا، وَكَذَا إذَا رَمَاهُ
بِهَا فَأَبَانَ رَأْسَهُ أَوْ قَطَعَ أَوْدَاجَهُ؛
لِأَنَّ الْعُرُوقَ تَنْقَطِعُ بِثِقَلِ الْحَجَرِ كَمَا
تَنْقَطِعُ بِالْقَطْعِ فَوْقَ الشَّكِّ أَوْ لَعَلَّهُ
مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ، وَلَوْ رَمَاهُ بِعَصًا
أَوْ بِعُودٍ حَتَّى قَتَلَهُ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ
يَقْتُلُهُ ثِقَلًا لَا جُرْحًا، اللَّهُمَّ إلَّا إذَا
كَانَ لَهُ حِدَةٌ يُبْضِعُ بِضْعًا فَحِينَئِذٍ لَا
بَأْسَ بِهِ؛ لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ السَّيْفِ
وَالرُّمْحِ
وَالْأَصْلُ فِي هَذِهِ الْمَسَائِلِ أَنَّ الْمَوْتَ إذَا
كَانَ مُضَافًا إلَى الْجُرْحِ بِيَقِينٍ كَانَ الصَّيْدُ
حَلَالًا، وَإِذَا كَانَ مُضَافًا إلَى الثِّقَلِ
بِيَقِينٍ كَانَ حَرَامًا، وَإِنْ وَقَعَ الشَّكُّ وَلَا
يَدْرِي مَاتَ بِالْجُرْحِ أَوْ بِالثِّقَلِ كَانَ
حَرَامًا احْتِيَاطًا، وَإِنْ رَمَاهُ بِسَيْفٍ أَوْ
بِسِكِّينٍ فَأَصَابَهُ بِحَدِّهِ فَجَرَحَهُ حَلَّ،
وَإِنْ أَصَابَهُ بِقَفَا السِّكِّينِ أَوْ بِمِقْبَضِ
السَّيْفِ لَا يَحِلُّ؛ لِأَنَّهُ قَتَلَهُ دَقًّا،
وَالْحَدِيدُ وَغَيْرُهُ فِيهِ سَوَاءٌ
وَلَوْ رَمَاهُ فَجَرَحَهُ وَمَاتَ بِالْجُرْحِ، إنْ كَانَ
الْجُرْحُ مُدْمِيًا يَحِلُّ بِالِاتِّفَاقِ، وَإِنْ لَمْ
يَكُنْ مُدْمِيًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ بَعْضِ
الْمُتَأَخِّرِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ صَغِيرَةً
أَوْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ يَحْتَبِسُ بِضِيقِ
الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَاءُ لِقَوْلِهِ -
عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «مَا أَنْهَرَ الدَّمَ
وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» شَرَطَ الْإِنْهَارَ،
وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ إنْ كَانَتْ كَبِيرَةً
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
(قَوْلُهُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مُدْمِيًا فَكَذَلِكَ عِنْدَ
بَعْضِ الْمُتَأَخِّرِينَ سَوَاءٌ كَانَتْ الْجِرَاحَةُ
صَغِيرَةً أَوْ كَبِيرَةً؛ لِأَنَّ الدَّمَ قَدْ
يَحْتَبِسُ لِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ غِلَظِ الدَّمِ)
أَقُولُ: يَرِدُ عَلَى ظَاهِرِ هَذَا التَّعْلِيلِ أَنَّهُ
قَدْ تَقَرَّرَ فِي كِتَابِ الذَّبَائِحِ أَنَّ
الْمَقْصُودَ بِالذَّبْحِ هُوَ إخْرَاجُ الدَّمِ
النَّجِسِ، وَأَنَّ الْجُرْحَ فِي أَيِّ مَوْضِعٍ كَانَ
مِنْ الْبَدَنِ ذَبْحٌ اضْطِرَارِيٌّ يُصَارُ إلَيْهِ
عِنْدَ الْعَجْزِ عَنْ الذَّبْحِ الِاخْتِيَارِيِّ وَهُوَ
الْجُرْحُ
فِيمَا بَيْنَ اللِّبَةِ وَاللَّحْيَيْنِ، وَأَنَّ فِي
كُلٍّ مِنْ الذَّبْحَيْنِ إخْرَاجَ الدَّمِ إلَّا أَنَّ
الِاخْتِيَارِيَّ أَعْمَلُ فِيهِ مِنْ الِاضْطِرَارِيِّ
فَكَوْنُ الدَّمِ مُحْتَبِسًا لِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ
غِلَظِ الدَّمِ لَا يَقْتَضِي حِلَّ أَكْلِ الْمَجْرُوحِ
بِالرَّمْيِ بِدُونِ الْإِدْمَاءِ، بَلْ يَقْتَضِي
حُرْمَتَهُ بِنَاءً عَلَى عَدَمِ حُصُولِ الْمَقْصُودِ
بِالذَّبْحِ
وَيُمْكِنُ الْجَوَابُ بِأَنَّ مَعْنَى هَذَا التَّعْلِيلِ
أَنَّ الدَّمَ قَدْ يَحْتَبِسُ لِضِيقِ الْمَنْفَذِ أَوْ
غِلَظِ الدَّمِ فَلَا يُمْكِنُ إخْرَاجُهُ فَفِي
اعْتِبَارِ الْإِدْمَاءِ حَرَجٌ، فَاكْتَفَى بِمَا هُوَ
سَبَبُهُ فِي الْغَالِبِ وَهُوَ الْجُرْحُ فَتَأَمَّلْ
(قَوْلُهُ وَعِنْدَ بَعْضِهِمْ يُشْتَرَطُ الْإِدْمَاءُ
لِقَوْلِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - «مَا
أَنْهَرَ الدَّمَ وَأَفْرَى الْأَوْدَاجَ فَكُلْ» شَرَطَ
الْإِنْهَارَ) أَقُولُ: لِمَانِعٍ أَنْ يَمْنَعَ دَلَالَةَ
الْحَدِيثِ الْمَذْكُورِ عَلَى شَرْطِ الْإِنْهَارِ
بِنَاءً عَلَى عَدَمِ الْقَوْلِ بِمَفْهُومِ
(10/130)
حَلَّ بِدُونِ الْإِدْمَاءِ، وَلَوْ ذَبَحَ
شَاةً وَلَمْ يَسِلْ مِنْهُ الدَّمُ قِيلَ لَا تَحِلُّ
وَقِيلَ تَحِلُّ
وَوَجْهُ الْقَوْلَيْنِ دَخَلَ فِيمَا ذَكَرْنَاهُ
وَإِذَا أَصَابَ السَّهْمُ ظِلْفَ الصَّيْدِ أَوْ
قَرْنَهُ، فَإِنْ أَدْمَاهُ حَلَّ وَإِلَّا فَلَا، وَهَذَا
يُؤَيِّدُ بَعْضَ مَا ذَكَرْنَاهُ
قَالَ (وَإِذَا رَمَى صَيْدًا فَقَطَعَ عُضْوًا مِنْهُ
أُكِلَ الصَّيْدُ) لِمَا بَيَّنَّاهُ (وَلَا يُؤْكَلُ
الْعُضْوُ) وَقَالَ الشَّافِعِيُّ - رَحِمَهُ اللَّهُ -:
أُكِلَ إنْ مَاتَ الصَّيْدُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ مُبَانٌ
بِذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ فَيَحِلُّ الْمُبَانُ
وَالْمُبَانُ مِنْهُ كَمَا إذَا أُبِينَ الرَّأْسُ
بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ بِخِلَافِ مَا إذَا لَمْ يَمُتْ؛
لِأَنَّهُ مَا أُبِينَ بِالذَّكَاةِ
وَلَنَا قَوْلُهُ - عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ -
«مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ» ذِكْرُ
الْحَيِّ مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَيِّ حَقِيقَةً
وَحُكْمًا، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ؛
لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ حَقِيقَةً لِقِيَامِ
الْحَيَاةِ فِيهِ، وَكَذَا حُكْمًا؛ لِأَنَّهُ تُتَوَهَّمُ
سَلَامَتُهُ بَعْدَ هَذِهِ الْجِرَاحَةِ وَلِهَذَا
اعْتَبَرَهُ الشَّرْعُ حَيًّا، حَتَّى لَوْ وَقَعَ فِي
الْمَاءِ وَفِيهِ حَيَاةٌ بِهَذِهِ الصِّفَةِ يَحْرُمُ
وَقَوْلُهُ أُبِينَ بِالذَّكَاةِ قُلْنَا حَالَ وُقُوعِهِ
لَمْ يَقَعْ ذَكَاةً لِبَقَاءِ الرُّوحِ فِي الْبَاقِي،
وَعِنْدَ زَوَالِهِ لَا يَظْهَرُ فِي الْمُبَانِ لِعَدَمِ
الْحَيَاةِ فِيهِ، وَلَا تَبَعِيَّةَ لِزَوَالِهَا
بِالِانْفِصَالِ فَصَارَ هَذَا الْحَرْفُ هُوَ الْأَصْلَ؛
لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْ الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا لَا
يَحِلُّ، وَالْمُبَانُ مِنْ الْحَيِّ صُورَةً لَا حُكْمًا
يَحِلُّ وَذَلِكَ بِأَنْ يَبْقَى فِي الْمُبَانِ مِنْهُ
حَيَاةٌ بِقَدْرِ مَا يَكُونُ
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمُخَالِفَةِ تَدَبَّرْ تَفْهَمْ
وَطَعَنَ فِيهِ صَاحِبُ الْغَايَةِ بِوَجْهٍ آخَرَ حَيْثُ
قَالَ: وَهَذَا ضَعِيفٌ عِنْدِي؛ لِأَنَّهُ كَمَا شَرَطَ
الْإِنْهَارَ شَرَطَ فَرْيَ الْأَوْدَاجِ أَيْضًا
وَفِي ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ لَا يُشْتَرَطُ فَرْيُ
الْأَوْدَاجِ، فَكَذَا لَا يُشْتَرَطُ الْإِنْهَارُ
انْتَهَى
أَقُولُ: لَيْسَ هَذَا بِسَدِيدٍ؛ لِأَنَّ عَدَمَ
اشْتِرَاطِ فَرْيِ الْأَوْدَاجِ فِي ذَكَاةِ الِاضْطِرَارِ
لِلْعَجْزِ عَنْهُ وَلُزُومِ الْحَرَجِ فِي اشْتِرَاطِهِ،
وَهَذَا غَيْرُ مُتَحَقِّقٌ فِي الْإِنْهَارِ؛ إذْ لَا
عَجْزَ عَنْ الْجُرْحِ بِلَا رَيْبٍ، ثُمَّ إنَّ الْجُرْحَ
لَا يَنْفَكُّ عَنْ الْإِنْهَارِ فِي الْغَالِبِ فَلَا
حَرَجَ فِي اشْتِرَاطِ الْإِنْهَارِ عَلَى رَأْيِ ذَلِكَ
الْبَعْضِ فَافْتَرَقَا
(قَوْلُهُ وَلَنَا قَوْلُهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ - «مَا أُبِينَ مِنْ الْحَيِّ فَهُوَ مَيِّتٌ»
ذَكَرَ الْحَيَّ مُطْلَقًا فَيَنْصَرِفُ إلَى الْحَيِّ
حَقِيقَةً وَحُكْمًا، وَالْعُضْوُ الْمُبَانُ بِهَذِهِ
الصِّفَةِ) قَالَ الشُّرَّاحُ: يَعْنِي أَنَّهُ ذَكَرَ
الْحَيَّ مُطْلَقًا وَالْمُطْلَقُ يَنْصَرِفُ إلَى
الْكَامِلِ، وَالْكَامِلُ هُوَ الْحَيُّ حَقِيقَةً
وَحُكْمًا وَالْعُضْوُ
(10/131)
فِي الْمَذْبُوحِ فَإِنَّهُ حَيَاةٌ
صُورَةً لَا حُكْمًا، وَلِهَذَا لَوْ وَقَعَ فِي الْمَاءِ
وَبِهِ هَذَا الْقَدْرُ مِنْ الْحَيَاةِ أَوْ تَرَدَّى
مِنْ جَبَلٍ أَوْ سَطْحٍ لَا يَحْرُمُ فَتُخَرَّجُ
عَلَيْهِ الْمَسَائِلُ، فَنَقُولُ: إذَا قَطَعَ يَدًا أَوْ
رِجْلًا أَوْ فَخِذًا أَوْ ثُلُثَهُ مِمَّا يَلِي
الْقَوَائِمَ أَوْ أَقَلَّ مِنْ نِصْفِ الرَّأْسِ يَحْرُمُ
الْمُبَانُ وَيَحِلُّ الْمُبَانُ مِنْهُ؛ لِأَنَّهُ
يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ الْحَيَاةِ فِي الْبَاقِي (وَلَوْ
قَدَّهُ بِنِصْفَيْنِ أَوْ قَطَّعَهُ أَثْلَاثًا
وَالْأَكْثَرُ مِمَّا يَلِي الْعَجُزَ أَوْ قَطَعَ نِصْفَ
رَأْسِهِ أَوْ أَكْثَرَ مِنْهُ يَحِلُّ الْمُبَانُ
وَالْمُبَانُ مِنْهُ) ؛ لِأَنَّ الْمُبَانَ مِنْهُ حَيٌّ
صُورَةً لَا حُكْمًا؛ إذْ لَا يُتَوَهَّمُ بَقَاءُ
الْحَيَاةِ بَعْدَ هَذَا الْجُرْحِ، وَالْحَدِيثُ وَإِنْ
تَنَاوَلَ السَّمَكَ وَمَا أُبِينَ مِنْهُ فَهُوَ مَيِّتٌ،
إلَّا أَنَّ مَيْتَتَهُ حَلَالٌ بِالْحَدِيثِ الَّذِي
رَوَيْنَاهُ
(وَلَوْ ضَرَبَ عُنُقَ شَاةٍ فَأَبَانَ رَأْسَهَا يَحِلُّ
لِقَطْعِ الْأَوْدَاجِ) وَيُكْرَهُ هَذَا الصَّنِيعُ
لِإِبْلَاغِهِ النُّخَاعَ، وَإِنْ ضَرَبَهُ مِنْ قِبَلِ
الْقَفَا، إنْ مَاتَ قَبْلَ قَطْعِ الْأَوْدَاجِ لَا
يَحِلُّ، وَإِنْ لَمْ يَمُتْ حَتَّى قَطَعَ الْأَوْدَاجَ
حَلَّ
(وَلَوْ ضَرَبَ صَيْدًا فَقَطَعَ يَدًا أَوْ رِجْلًا
وَلَمْ يُبِنْهُ؛ إنْ كَانَ يُتَوَهَّمُ الِالْتِئَامُ
وَالِانْدِمَالُ فَإِذَا مَاتَ حَلَّ أَكْلُهُ) ؛
لِأَنَّهُ بِمَنْزِلَةِ سَائِرِ أَجْزَائِهِ، وَإِنْ كَانَ
لَا يُتَوَهَّمُ بِأَنْ بَقِيَ مُتَعَلِّقًا بِجِلْدِهِ
حَلَّ مَا سِوَاهُ لِوُجُودِ الْإِبَانَةِ مَعْنًى
وَالْعِبْرَةُ لِلْمَعَانِي.
قَالَ (وَلَا يُؤْكَلُ صَيْدُ الْمَجُوسِيِّ
وَالْمُرْتَدِّ وَالْوَثَنِيِّ) ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا
مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ عَلَى مَا بَيَّنَّاهُ فِي
الذَّبَائِحِ، وَلَا بُدَّ مِنْهَا فِي إبَاحَةِ الصَّيْدِ
بِخِلَافِ النَّصْرَانِيِّ وَالْيَهُودِيِّ؛ لِأَنَّهُمَا
مِنْ أَهْلِ الذَّكَاةِ اخْتِيَارًا فَكَذَا اضْطِرَارًا.
قَالَ (وَمَنْ رَمَى صَيْدًا فَأَصَابَهُ وَلَمْ
يُثْخِنْهُ وَلَمْ يُخْرِجْهُ عَنْ حَيِّزِ الِامْتِنَاعِ
فَرَمَاهُ آخَرُ فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلثَّانِي وَيُؤْكَلُ)
؛ لِأَنَّهُ هُوَ الْآخِذُ، وَقَدْ قَالَ - عَلَيْهِ
الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ - «الصَّيْدُ لِمَنْ أَخَذَ»
(وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ فَرَمَاهُ الثَّانِي
فَقَتَلَهُ فَهُوَ لِلْأَوَّلِ وَلَمْ يُؤْكَلْ)
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
الْمُبَانُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ: أَيْ أُبِينَ مِنْ
الْحَيِّ حَقِيقَةً وَحُكْمًا
أَقُولُ: الْمُقَدَّمَةُ الْقَائِلَةُ: إنَّ الْمُطْلَقَ
يَنْصَرِفُ إلَى الْكَامِلِ شَائِعَةٌ فِي أَلْسِنَةِ
الْفُقَهَاءِ وَكُتُبِ أَصْحَابِنَا لَكِنَّهَا
مُخَالِفَةٌ فِي الظَّاهِرِ لِمَا تَقَرَّرَ فِي أُصُولِ
أَئِمَّتِنَا مِنْ أَنَّ حُكْمَ الْمُطْلَقِ أَنْ يَجْرِيَ
عَلَى إطْلَاقِهِ، كَمَا أَنَّ الْمُقَيَّدَ يَجْرِي
(10/132)
لِاحْتِمَالِ الْمَوْتِ بِالثَّانِي،
وَهُوَ لَيْسَ بِذَكَاةٍ لِلْقُدْرَةِ عَلَى ذَكَاةِ
الِاخْتِيَارِ، بِخِلَافِ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَهَذَا
إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ
الصَّيْدُ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَكُونُ الْمَوْتُ
مُضَافًا إلَى الرَّمْيِ الثَّانِي
وَأَمَّا إذَا كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ
مِنْهُ الصَّيْدُ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ
الْحَيَاةِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ،
كَمَا إذَا أَبَانَ رَأْسَهُ يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الْمَوْتَ
لَا يُضَافُ إلَى الرَّمْيِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ وُجُودَهُ
وَعَدَمَهُ بِمَنْزِلَةٍ، وَإِنْ كَانَ الرَّمْيُ
الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَعِيشُ مِنْهُ الصَّيْدُ إلَّا
أَنَّهُ بَقِيَ فِيهِ مِنْ الْحَيَاةِ أَكْثَرُ مِمَّا
يَكُونُ بَعْدَ الذَّبْحِ بِأَنْ كَانَ يَعِيشُ يَوْمًا
أَوْ دُونَهُ؛ فَعَلَى قَوْلِ أَبِي يُوسُفَ لَا يَحْرُمُ
بِالرَّمْيِ الثَّانِي؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ مِنْ
الْحَيَاةِ لَا عِبْرَةَ بِهَا عِنْدَهُ
وَعِنْدَ مُحَمَّدٍ يَحْرُمُ؛ لِأَنَّ هَذَا الْقَدْرَ
مِنْ الْحَيَاةِ مُعْتَبَرٌ عِنْدَهُ عَلَى مَا عُرِفَ
مِنْ مَذْهَبِهِ
فَصَارَ الْجَوَابُ فِيهِ وَالْجَوَابُ فِيمَا إذَا كَانَ
الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ سَوَاءً
فَلَا يَحِلُّ
قَالَ (وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ
غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ) ؛ لِأَنَّهُ
بِالرَّمْيِ أَتْلَفَ صَيْدًا مَمْلُوكًا لَهُ؛ لِأَنَّهُ
مَلَكَهُ بِالرَّمْيِ الْمُثْخِنِ وَهُوَ مَنْقُوصٌ
بِجِرَاحَتِهِ، وَقِيمَةُ الْمُتْلَفِ تُعْتَبَرُ يَوْمَ
الْإِتْلَافِ
قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَأْوِيلُهُ إذَا عُلِمَ
أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِالثَّانِي بِأَنْ كَانَ
الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الصَّيْدُ
مِنْهُ وَالثَّانِي بِحَالٍ لَا يَسْلَمُ الصَّيْدُ مِنْهُ
لِيَكُونَ الْقَتْلُ كُلُّهُ مُضَافًا إلَى الثَّانِيَ
وَقَدْ قَتَلَ حَيَوَانًا مَمْلُوكًا لِلْأَوَّلِ
مَنْقُوصًا بِالْجِرَاحَةِ فَلَا يَضْمَنُهُ كَامِلًا،
كَمَا إذَا قَتَلَ عَبْدًا مَرِيضًا
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
عَلَى تَقْيِيدِهِ فَتَأَمَّلْ فِي التَّوْفِيقِ
(قَوْلُهُ قَالَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ -: تَأْوِيلُهُ
إذَا عَلِمَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ بِالثَّانِي بِأَنْ
كَانَ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَجُوزُ أَنْ يَسْلَمَ الصَّيْدُ
مِنْهُ إلَخْ) أَقُولُ: لِقَائِلٍ أَنْ يَقُولَ: تَأْوِيلُ
الْمَسْأَلَةِ هَا هُنَا بِمَا ذَكَرَهُ بَعْدَ أَنْ
أَوَّلَهَا مَرَّةً فِيمَا قَبْلُ بِقَوْلِهِ: وَهَذَا
إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ
الصَّيْدُ يُرَى مُسْتَدْرِكًا؛ لِأَنَّ مَجْمُوعَ
التَّأْوِيلَيْنِ مُتَعَلِّقٌ بِمَسْأَلَةٍ وَاحِدَةٍ
مَذْكُورَةٍ فِي مُخْتَصَرِ الْقُدُورِيِّ وَهِيَ
قَوْلُهُ: وَإِنْ كَانَ الْأَوَّلُ أَثْخَنَهُ فَرَمَاهُ
الثَّانِي فَقَتَلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ، وَالثَّانِي ضَامِنٌ
لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ
جِرَاحَتُهُ انْتَهَى
فَلَمَّا أَوَّلَ الْمُصَنِّفُ قَوْلَهُ لَمْ يُؤْكَلْ
بِمَا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو
مِنْهُ الصَّيْدُ تَعَيَّنَ أَنْ يَكُونَ أَيْضًا
قَوْلُهُ: وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ لِلْأَوَّلِ
غَيْرَ مَا نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ فِيمَا إذَا كَانَ
الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ؛
لِأَنَّ قَوْلَهُ: وَالثَّانِي ضَامِنٌ لِقِيمَتِهِ
لِلْأَوَّلِ فَرْعُ قَوْلِهِ لَمْ يُؤْكَلْ، فَمَا هُوَ
شَرْطٌ فِي الْأَصْلِ شَرْطٌ فِي الْفَرْعِ أَيْضًا
وَإِذَا عُلِمَ أَنَّ الرَّمْيَ الْأَوَّلَ كَانَ بِحَالٍ
يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ عُلِمَ أَنَّ الْقَتْلَ حَصَلَ
بِالرَّمْيِ الثَّانِي فَلَا حَاجَةَ إلَى التَّأْوِيلِ
الثَّانِي
ثُمَّ أَقُولُ فِي الْجَوَابِ: إنَّ كَوْنَ الرَّمْيِ
الْأَوَّلِ بِحَالٍ يَنْجُو مِنْهُ الصَّيْدُ إنَّمَا
يَقْتَضِي أَنْ لَا يَحْصُلَ الْقَتْلُ بِالرَّمْيِ
الْأَوَّلِ فَقَطْ، وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يَحْصُلَ
الْقَتْلُ بِالرَّمْيِ الثَّانِي وَحْدَهُ لِجَوَازِ أَنْ
يَحْصُلَ مِنْ اجْتِمَاعِ الرَّمْيَيْنِ؛ إذْ قَدْ يَكُونُ
فِي حَالَةِ الِاجْتِمَاعِ
(10/133)
وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ يَحْصُلُ
مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي
قَالَ فِي الزِّيَادَاتِ: يَضْمَنُ الثَّانِي مَا
نَقَصَتْهُ جِرَاحَتُهُ ثُمَّ يُضَمِّنُهُ نِصْفَ
قِيمَتِهِ مَجْرُوحًا بِجِرَاحَتَيْنِ ثُمَّ يَضْمَنُ
نِصْفَ قِيمَةِ لَحْمِهِ
أَمَّا الْأَوَّلُ فَلِأَنَّهُ جَرَحَ حَيَوَانًا
مَمْلُوكًا لِلْغَيْرِ وَقَدْ نَقَصَهُ فَيَضْمَنُ مَا
نَقَصَهُ أَوَّلًا
وَأَمَّا الثَّانِي فَلِأَنَّ الْمَوْتَ حَصَلَ
بِالْجِرَاحَتَيْنِ فَيَكُونُ هُوَ مُتْلِفًا نِصْفَهُ
وَهُوَ مَمْلُوكٌ لِغَيْرِهِ فَيَضْمَنُ نِصْفَ قِيمَتِهِ
مَجْرُوحًا بِالْجِرَاحَتَيْنِ؛ لِأَنَّ الْأُولَى مَا
كَانَتْ بِصُنْعِهِ، وَالثَّانِيَةُ ضَمِنَهَا مَرَّةً
فَلَا يَضْمَنُهَا ثَانِيًا
وَأَمَّا الثَّالِثُ فَلِأَنَّ بِالرَّمْيِ الْأَوَّلِ
صَارَ بِحَالٍ يَحِلُّ بِذَكَاةِ الِاخْتِيَارِ لَوْلَا
رَمْيُ الثَّانِي، فَهَذَا بِالرَّمْيِ الثَّانِي أَفْسَدَ
عَلَيْهِ نِصْفَ اللَّحْمِ فَيَضْمَنُهُ، وَلَا يَضْمَنُ
النِّصْفَ الْآخَرَ؛ لِأَنَّهُ ضَمِنَهُ مَرَّةً فَدَخَلَ
ضَمَانُ اللَّحْمِ فِيهِ، وَإِنْ كَانَ رَمَاهُ الْأَوَّلُ
ثَانِيًا فَالْجَوَابُ فِي حُكْمِ الْإِبَاحَةِ
كَالْجَوَابِ فِيمَا إذَا كَانَ الرَّامِي غَيْرَهُ،
وَيَصِيرُ كَمَا إذَا رَمَى صَيْدًا عَلَى قِمَّةِ جَبَلٍ
فَأَثْخَنَهُ ثُمَّ رَمَاهُ ثَانِيًا فَأَنْزَلَهُ لَا
يَحِلُّ؛ لِأَنَّ الثَّانِيَ مُحَرَّمٌ، كَذَا هَذَا.
قَالَ (وَيَجُوزُ اصْطِيَادُ مَا يُؤْكَلُ لَحْمُهُ مِنْ
الْحَيَوَانِ وَمَا لَا يُؤْكَلُ) لِإِطْلَاقِ مَا
تَلُونَا
وَالصَّيْدُ لَا يَخْتَصُّ بِمَأْكُولِ اللَّحْمِ
قَالَ قَائِلُهُمْ:
صَيْدُ الْمُلُوكِ أَرَانِب وَثَعَالِب ... وَإِذَا
رَكِبْتُ فَصَيْدِي الْأَبْطَالُ
وَلِأَنَّ صَيْدَهُ سَبَبٌ لِلِانْتِفَاعِ بِجِلْدِهِ أَوْ
شَعْرِهِ أَوْ رِيشَةِ أَوْ لِاسْتِدْفَاعِ شَرِّهِ
وَكُلُّ ذَلِكَ مَشْرُوعٌ.
ـــــــــــــــــــــــــــــ
[فتح القدير]
مَا لَا يَكُونُ فِي حَالَةِ الِانْفِرَادِ، وَمُرَادُ
الْمُصَنِّفِ بِالتَّأْوِيلِ الثَّانِي التَّقْيِيدُ بِمَا
عُلِمَ كَوْنُ الْقَتْلِ حَاصِلًا بِالرَّمْيِ الثَّانِي
وَحْدَهُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ الِاحْتِرَازُ عَمَّا
ذَكَرَهُ بِقَوْلِهِ: وَإِنْ عَلِمَ أَنَّ الْمَوْتَ
حَصَلَ مِنْ الْجِرَاحَتَيْنِ أَوْ لَا يَدْرِي، وَلَا
يُفِيدُ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ هَذَا التَّقْيِيدَ؛
لِأَنَّ الْقَيْدَ الَّذِي ذَكَرَهُ أَوَّلًا أَعَمُّ
تَحَقُّقًا مِنْ الْقَيْدِ الَّذِي ذَكَرَهُ ثَانِيًا
لِتَنَاوُلِهِ صُورَةَ أَنْ يَحْصُلَ الْقَتْلُ مِنْ
مَجْمُوعِ الرَّمْيَيْنِ كَمَا يَتَنَاوَلُ صُورَةَ أَنْ
يَحْصُلَ بِالرَّمْيِ الثَّانِي وَحْدَهُ، وَإِنَّمَا
الْمَقْصُودُ مِنْ التَّأْوِيلِ الْأَوَّلِ الِاحْتِرَازُ
عَمَّا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا
يَسْلَمُ مِنْهُ الصَّيْدُ بِأَنْ لَا يَبْقَى فِيهِ مِنْ
الْحَيَاةِ إلَّا بِقَدْرِ مَا يَبْقَى فِي الْمَذْبُوحِ،
وَعَمَّا إذَا كَانَ الرَّمْيُ الْأَوَّلُ بِحَالٍ لَا
يَعِيشُ مِنْهُ الصَّيْدُ إلَّا أَنَّهُ يَبْقَى فِيهِ
مِنْ الْحَيَاةِ أَكْثَرُ مِمَّا يَكُونُ بَعْدَ الذَّبْحِ
كَمَا فَصَّلَهُ مِنْ قَبْلُ، فَلَا اسْتِدْرَاكَ أَصْلًا
بَلْ أَصَابَ كُلٌّ مِنْ التَّأْوِيلَيْنِ مَجْرَاهُ
(10/134)
|